المقدمة :
ان حقل ادارة المعرفة وهو العلم والتخصص اليافع لا يزال ينتظر منا مزيداً من الدراسات الفكرية والاكاديمية والتطبيقية في جميع ميادينه وروافد نهره الممتد من سجالات الفلسفة ونظريات التعلم الى نماذج الادارة الحديثة ونظم وادوات تكنولوجيا الذكاء الصناعي وتقنيات المعرفة .
وتعبر هذه الحاجة عن نفسها بصورة اشكالية تاريخية في وطننا العربي العزيز والكبير الممتد من الماء في الشرق الى الماء في الغرب ذلك لأننا نفتقد الى دراسات في ميدان ادارة المعرفة مكتوبة بلغتنا وفي ظل ثقافتنا التي تسئلنا عن الجديد الذي يكون جديداً بحق وليس الجديد الذي يأتي تنويعاً على القديم ، قديم فكرنا وتراثنا او الجديد الذي يأتي ترديداً لنماذج ومداخل ونظريات الآخر من دون اي جهد للتبيئة ومن دون اي قدر من المزاوجة الولودة المبدعة بين ما هو اصيل في فكرنا وما هو حديث وجديد في عصرنا .
تأسيساً على ما تقدم تحاول هذه الدراسة تحليل مفهوم ادارة المعرفة من منظور عربي ومناقشة اهم التحديات التي تواجه عملية تطبيق برامج ادارة المعرفة في البيئة العربية .
اولاً: فهم المعرفة وادارة المعرفة :
يمكن القول ان المعرفة هي مزيج المفاهيم والافكار والقواعد والاجراءات التي تهدي الافعال والقرارت. اي ان المعرفة عبارة عن معلومات ممتزجة بالتجربة والحقائق والاحكام والقيم التي تعمل مع بعضها كتركيب فريد يسمح للأفراد والمنظمات من خلق اوضاع جديدة وادارة التغيير(1). والمعرفة ايضاً هي الفهم المكتسب من خلال التجربة او الدراسة والتي تطوي في كيانها المعرفة بالكيف ، اي المعرفة بكل ما يؤدي الى تمكين المرء من انجاز عمله وتنفيذ مهام متخصصة للوصول الى الاهداف المنشودة. وبالنتيجة تصبح المعرفة نتاجاً نوعياً متراكماً من الحقائق ، المعلومات، القواعد الاجرائيـة ، والافكار والخبرات الجديدة المستكشفة(2) .
بكلمات اخرى، يمكن النظر الى المعرفة على انها كينونة وصيرورة في الوقت نفسه ، ومثلما تتشكل المعلومات من البيانات تتشكل المعرفة من المعلومات الممتزجة بالخبرات وتجارب التعلم والمهارات النوعية المكتسبة وكل العناصر الاخرى التي تشكل المحتوى العضوي للمعرفة .
وفي كل الاحوال فان المعرفة التي نقصدها ونحاول تقديم نظرة منهجية لمداخل تنظيمها وادارتها هي كل معرفة (تنظيمية وغير تنظيمية) مفيدة للتقدم الانسانـي في مختلف مجالات الحياة، علماً ان كل معرفة مفيدة تحتاج الى ادارة واستثمار رأس مال المعرفة (او رأس المال الفكري) في المنظمات والمجتمعات.
باختصار، ان المعرفة تكوين متغير ومتنوع الابعاد متباين الاوجه ، متعدد المصادر والطبيعة بما تضمّه من معلومات وخبرات واحكام وادراك وبما تضيفه عملية التعلم المستمر من حقائق تُولّدْ حقائق جديدة من خلال تلاقح الحقائق مع الواقع وما يعتمر به من حركيات ومشكلات وتناقضات تسأل اصحابها باستمرار عن الحلول العملية الشاملة.
من ناحية اخرى تسعى ادارة المعرفة الى تقديم حلول لقضايا ومشكلات استقطاب المعرفة ، وانتاج المعرفة والمشاركة بالمعرفة بين الافراد والجماعات والمنظمات وفي داخل المنظمات ايضاً . بمعنى آخر، تهتم ادارة المعرفة باستثمار الموارد المعرفية وبناء ذاكرة للمنظمة ترتكز على تبادل المعرفة والمشاركة فيها من خلال عملية منهجية مستمرة (3) . ان جوهر ادارة المعرفة يتمثل بتنظيم وتوجيه الانشطة الاجتماعية في بيئة العمل لتمكين الافراد والجماعات من عملية المشاركة ونقل المعرفة وعملية تكوين المعرفة التي تتم بطريقة حلزونية تتحرك من المعرفة الضمنية الى المعرفة الصريحة المدونة وتعود الى المعرفة الضمنية (4) . ولهذا السبب يميل كثير من الباحثين الى تعريف ادارة المعرفة من خلال تحليل مضمون العمليات والانشطة الوظيفية التي تقوم بتنفيذها كما نجد في محاولة Hampel لتعريف ادارة المعرفة بأنها حزمة من انشطة استقطاب امتلاك وتكوين وابتكار المعرفة واستخدامها لتحسين انشطة الاعمال الاساسية من خلال الافراد فرق العمل وعبر المجالات الوظيفية والتنظيمية (5).
ويبدو هذا المدخل اكثر وضوحاً واشمل نطاقاً من المداخل الاخرى التي تحاول تحليل مفهوم ادارة المعرفة وذلك لأنه يعتمد على التقاط الفكرة المحورية لادارة المعرفة والتي تتلخص بعمليات استقطاب المعرفة، تكوين المعرفة، المشاركة بالمعرفة، تخزين وتوزيع المعرفة ، وادارة التعاضد الاستراتيجي بين رأس المال الفكري وتكنولوجيا المعلومات بهدف تحقيق الميزة التنافسية المؤكدة، بمعنى آخر ، تهتم ادارة المعرفة باستثمار اصول المعرفة Knowledge Assets او رأس المال المعرفة Knowledge Capital (ويطلق عليه احياناً رأس المال الفكري Intellectual Capital) واكتشاف القيم المخفية Hidden Value وغير الملموسة Intangible للأصول المعرفية والانسانية الموجودة في المنظمة والمجتمع (6).
ثانياً: تحديات تطبيق برامج ادارة المعرفة في البيئة العربية:
قبل مناقشة اهم التحديات التي تواجه برامج ومبادرات ومشروعات ادارة المعرفة في البيئة العربية لا بد من القول ان البنيان النظري العلمي والتكنولوجي والتجارب والخبرة الانسانية المرافقة لهذا البنيان قد كان نتاج الجهود الفردية الجماعية والمؤسساتية في الغرب المتقدم. ولا يختلف حال ادارة المعرفة عن حقول العلوم والتكنلوجيا الاخرى من حيث العقل الذي انتجها والارض التي ولدت فيها والبيئة التي احتضنتها والثقافة التي اردفتها بشآبيب الفكر اللماح الى كل ما هو جديد ومبتكر . ولذلك، فإن الحاجة التي تلح علينا بعد نقل هذه الافكار والعلوم هو تكييفها وتطبيعها والنظر في فرص نجاح استزراعها وبالتالي استنباتها في ارضنا.
ان ما تحتاجه ادارة المعرفة هو معرفة بوسائل تبيئة حقول (المعرفة) بشتى الوانها في ارضنا وتحت سمائنا وبدون ذلك ستبقى نماذج جاهزة وتكنولوجيا مستوردة ونظم وهياكل صماء لا روح فيها ولا حياة.
ان برامج ومشروعات ادارة المعرفة يجب ان تجيب عن اسئلة الواقع العربي، واقع إداراته، اقتصادياته، منظماته، وقبل ذلك هموم انسانه. ان الاسئلة الصحيحة التي تستنطق الواقع تتطلب اجابات صحيحة غير جاهزة ذلك لأن اخطر ما يواجه عمليات ادارة المعرفة هو جاهزية الحلول واستيراد النماذج من دون تحليل ومقاربة . ويمكن اجمال اهم تحديات ادارة المعرفة في بيئتنا العربية بما يلي :
التحديات الثقافية والاجتماعية :
1- التشكل الكاذب للوعي :
يشير افلاطون في تراثه العظيم الذي تركه لنا ان بعض الناس يميلون الى تصور الواقع الموضوعي لا طبقاً لحقيقته وانما وفقاً لما يصور لهم وهم بذلك لا يقرئون واقعهم كما يجب قرائته بل يتلبّسون واقعاً آخر بل قل وهماً آخر .
وبنظر فيلسوفنا افلاطون فان بعض الناس وكانهم يعيشون في قعر غار ملتفتين الى جدرانه قهراً فلا يرون سوى الاشباح المتحركة عليه دون ان يفكروا ان هذه الاشباح ليس الا الاشخاص يأتون ويذهبون وراء ظهورهم، وان ناراً اوقدت بين باب الغار واولئك الاشخاص هي التي تلقي ظلهم في صورة اشباح متحركة على الجدران ودون ان يشعروا خاصة وان الحقيقة ليست في تلك الصورة الوهمية ولا في النار التي تصورها لأبصارهم المسحورة بل هي خارج الغار في ضوء النهار وتحت الشمس الساطعة (7).
اذن المشكلة في توهم الواقع ومقابلة المعرفة الجاهزة بالواقع الذي نتخلية وليس الواقع الذي نعيش فيه ونريد تقديم اجابات لأسئلته التي تلح علينا باستمرار ، وطالما هناك انقطاع ما بين الواقع الغريب عن المعرفة التي جائتنا من بعيد فان الحل الوحيد لهذه الاشكالية المعضلة يكون فقط من خلال تجديد التفكير في المعرفة كخطوة اولية لا بد منها لتبيئة واستزراع واستنبات هذه المعرفة في بيئتنا.
2- الخروج من دائرة البطل الملهم:
ان الخروج من دائرة البطل الملهم يعني بصورة او باخرى الخروج من القداسة المزيفة للمعرفة المشخصنة للأنا العليا التي يمثلها المدير في الادارة العربية ، الحاكم في السياسة العربية، والولي وصاحب الكرامات في المثيولوجيا الشعبية.
وفي كل هذه الاحوال والصور تبقى الأنا العاجزة للأنسان، العامل، الموظف، المثقف والخبير في حالة تلقي من الأنا العليا وتصل الى مستوى تنفي عن هذه الأنا للعليا ما قد يكون فيها من نقائص لأنها تريد ان يكون كل ما تؤده من قدرات ومزايا موجوداً في بطلها (8).
ان المعرفة التي يجسدها البطل، صانع القرار الملهم هي الكمال ومطلق القدرة في تحقيق الاماني والاحلام المكبوتة والمتوارثة وهي بالتالي تعبر عن الحقيقة الملهمة من ناحية كما تمثل بالنسبة للأنا العربية العاجزة او التي تتوهم العجز الاشباع الكامل والمطلق للرغبات المكبوتة في اللاوعي من ناحية اخرى . ولهذا نحن نعتقد ان الوقت قد أزفَ نخرج من دائرة الحلم المستسلم لهمسات العجز انتظاراً للمخلص، المنقذ، للبطل الملهم صاحب المعرفة والحقيقة؟
3- الدخول في دائرة الحداثة:
ان العقل العربي المعاصر لم يساهم في بلورة الحداثة في القرنين التاسع عشر والعشرين وبالتالي فان كل الفتوحات العلمية والانجازات الحضارية والتكنولوجية قد تحققت من دون اي مشاركة فعلية للعقل العربي . نعم كانت مساهمات اجدادنا اصلية وحاسمة ومهمة في بناء وتطوير النهضة الاوروبية والغربية. كان هذا دورهم في الماضي، اما نحن فقد مضى وقت طويل ونحن لم نبذل اي جهد لتشكيل معرفة تاريخية كاملة بل نحن لم نمر حتى بمرحلة الحداثة الكلاسيكية ، ولذلك نحن مضطرين كما يقول محمد أركون الى تأسيس مركز بحث علمي يشبه بيت الحكمة الذي أسسه المامون في القرن الثالث الهجري لنقل الفكر الاوروبي والمعرفة الغربية. ويرى اركون انه لا بد للعرب من المرور بهذه المرحلة من اجل ممارسة العقل المستقل لأول مرة في تاريخهم ، ينبغي ان يخرج العربي من السجن الذاتي للذات ، ينبغي ان ينتهي العصر الايدولوجي العربي يوماً لكي يحل محله العصر الابستيمولوجي المعرفي العميق . لقد مللنا من الضحيج والعجيج الايدولوجي (9).
نعم نحن بحاجة لكي نخرج من السجن الايديولوجي الى فضاء المعرفة لكي نمارس ونستفيد من استقلالية العقل العربي (المتحرر كما قلنا آنفاً من اوهام الواقع واستلاب النماذج الايديولوجية الجاهزة). وعندما يتحرر العقل العربي من عقاله عندئذ يمكن ان يمارس حرية التفكير في انتاج المعرفة ، تحصيل واستقطاب المعرفة ، وتحقيق التراكم التاريخي المطلوب للتحول الى الحداثة بمعانيها العميقة غير المادية.
4- النقد الذاتي للعقل العربي :
لا يكفي مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي ومشروع محمد اركون في نقد العقل الاسلامي من نقل ثقافة النهضة، ثقافة المعرفة بالذات والاخر الى مستوى الفعالية التاريخية المطلوبة للدخول في الحداثة من موقع المشاركة والشراكة الايجابية، فاعمال الجابري واركون وبرهان غليون وهشام شرابي وغيرهم هي ومضات رائعة ولكنها غير كافية لإحداث التغيير بل ما نحتاجه هو العمل العقلي الجماعي و المؤسساتي الذي يتولى اعادة التفكير بقديم وجديد فكرنا ومعارفنا وثقافتنا. ان العقل العربي تحكمه النظرة المعيارية للأشياء ذلك لأنه يتجه في التفكير بالاشياء الموجودة حوله من خلال مقاربتها بنظام القيم فكل شيء يُحاكَم من خلال هذا النظام وبالمقابل توجد النظرة الموضوعية التي تبحث عن الاشياء ومكوناتها في الواقع (10).
وبالاضافة الى النزعة الاختزالية للعقل العربي في تعامله مع الاشياء ومعطيات الفكر وحقول المعرفة فانه لا يتعامل في كثير من الاحيان الا مع الالفاظ ويمضي ورائها اكثر من تعامله مع المفاهيم . كما ان آلية العقل العربي في تحصيل المعرفة هي المقاربة (القياس البياني) والمماثلة (القياس العرفاني ) (11) . ان منهج المقاربة يفيد لفئة العلوم النظرية ولكنه يعجز عن مجاراة اسئلة العلوم التجريبية والطبيعية. اما المماثلة فتقع خارج حقول العلم وبالتالي لا تحكمها قضايا العقل. وطالما بقي العقل العربي خاضعاً لسلطة اللفظ دون المفهوم ، الشكل دون المضمون فانه سيبقى عاجزاً في بناء الخطاب المعرفي النهضوي لأنه خطاب تقوده العاطفة لا العقل والانفعال تارة والتضخيم وبالاخص تضخيم الذات المستلبة تارة اخرى.
ان عمل ادارة المعرفة لا بد ان يستند على وعي اصيل للعقل العربي في رؤيته للحاضر وفي تجاوبه مع الواقع التاريخي المعاش ومع التجربة الفردية لأمتنا ، فنحن لدينا طاقات كبيرة كامنة واصلية، وفي ثقافتنا العربية والاسلامية نزوع انساني قوي نحو المشاركة بالمعرفة من خلال الحوار والانفتاح .
5- الانتقال الى المعرفة والثقافة المدّونة :
ان المكانة المركزية للمعرفة الضمنية غير الصريحة وغير المرمزة لا يعادل قيمتها في تاريخنا سوى اهمية دور المخيال الجماعي للعرب والمسلمين وما يتضمنه من رموز اثرت ولا تزال تمارس تأثيراً عميقاً في الوجدان الديني والقومي. ان مخيالنا الجمعي من رموز امتنا بعد سيد المرسلين والعالمين نبينا ومعلمنا محمد صلى الله عليه وسلم من امثال علي بن ابي طالب، والحسين، وعمر بن الخطاب، وعمار بن ياسر ، وابو ذر الغفاري وغيرهم سيظل يمثل القوة الكامنة والطاقة الروحية التي يمكن استثارتها في ميادين العمل والجهاد. غير ان المعرفة الضمنية والثقافة الشفهية التي تستدعي عند الحاجة هذا المخيال الجماعي لم تعد ملائمة لتلبيةحاجات عصرنا ومشكلات استقطاب المعرفة في جميع ميادينها وحقولها. ان الميل النفسي الشديد نحو المعرفة المضنية والإستقواء بالذاكرة قد أفقد امتنا جزءاً كبيراً من تراثها الفكري والثقافي والعلمي وقد كانت الخسارة فادحة وتاريخية حتى يمكن القول ان عدم الاهتمام بتسجيل وتوقيق المعرفة العربية قد كان احد اسباب تدهور حضارة الامة وانحطاطها. اما اليوم فان مسألة توثيق وترميز المعرفة الضمنية وتحويلها الى معرفة صريحة مدونة قد اصبحت مسالة هوية لأن العقل الشفوي لا يمكن ان يملي مقولاته ولا ييستطيع في هذا العالم المعقد ان يثّبت هويته ويفرض مقولاته على الاخرين. ان الانتقال من المعرفة الضمنية الى الصرحية، اي بمعنى الاهتمام بتوثيق وترميز المعرفة الضمنية يعني ايضاً الانتقال من تأمل الذات التي تستعيد نفسها وتجتر ذكرياتها الى الذات التي تفهم ذاتها وتتامل العالم والطبيعة لارتيادها واستكشافها (12). باختصار، يجب ان تكون الاولوية للكتابة على القول ، وللقراءة على الحكاية، والفهم بدلاً من سرديات اللفظ. ان المعرفة النصية المكتوبة باعتبارها الشرط الموضوعي لضمان التراكم المعرفي هي مقدمة التغيير . فالتغيير في عالم اليوم لا يتم بالكلام وانما من خلال الفهم وممارسة الفعل الانساني الهادف.
6- مغادرة خطاب الهيمنة الى خطاب المعرفة:
الخطاب الايديولوجي الذي يفيض بين ظهرانينا لا يخلو من ارهاب الفكر الاحادي المنغلق الذي يسعى باستمرار الى مصادرة الوعي واستلاب الذات وتثبيت الهيمنة على الآخر. الخطاب الايديولوجي الاحادي لا يثير كعادته الاسئلة وانما يقدم الاجوبة الجاهزة التي يريدها رداً على التساؤلات المسموح بها ولا ينتظر من الآخرين سوى هز الرؤوس بالموافقة او الركون الى الصمت. ويعتمد هذا الخطاب على الكلمة المحكية ، وتوصيف ما يجب أن يكون والتبشير بما يجب ان يكون من دون الافصاح عن وسائل تحقيق المستقبل. هذا الخطاب الاحادي التقليدي والابوي يجب ان يغادر مسرح حياتنا ليحل محله خطاب المعرفة العقلاني الذي يطلب المعرفة للتنوير والمشاركة وليس من أجل تثبيت الهيمنة ، هيمنة المدير او الحاكم او السياسي .
خطاب المعرفة لا يقوم على الموافقة وانما على المخالفة وا ستشارة الرأي الاخر والتساؤل المستمر للتزود بالصدق واليقين وبالتالي لا يفيد هذا الخطاب الا في تعميق ثقافة الحوار وتعزيز عملية المشاركة بالمعرفة بينما يعزز الخطاب الايديولوجي آليات ممارسة السلطة وبناء علاقات التبعية.
7- الانعتاق من النظام البطريركي:
في النظام البطريركي الهرمي لا توجد مشاركة في المعرفة وانما إستلام وقبول بما يقوله البطريك الاب، الشيخ ، المدير ، المعلم أو الحاكم، ويوجد في هذا النظام – البنية نوع من القهر اللاقسري كما يقول غرامشي عندما تنهض ثقافة البطريك لكي تكون ثقافة بالتبعية للاخرين (مثلما تقوم ثقافة المُستعمَرْ على ثقافة المُستَعمِر بالتبني اللاقسري) (13).
هذا النظام كان موجوداً في الماضي بالقبلية وبقي هذا النوع القديم للتشكل الابوي في العائلة والمجتمع العربي وكل التشكليلات الاجتماعية المنبثقة عنه التي اطلق عليها هشام شرابي المجتمع الابوي الحديث. نعم في هذا المجتمع تظهر بوضوح علامات السلطة والهيمنة والتبعية وبالتالي يتّجه الولاء الفردي للعائلة او العشرية او الطائفة ومن هنا تبدأ جذور العصبية بالنمو حين يدعو الرجل الى نصرة عصبيته ومؤازرتهم ظالمين كانوا ام مظلومين ، ويبدو أن هذا الشعور الجمعي الكامن والمتوارث لا يموت حتى وان غاب في لحظة لأن غيابه في الوعي لا يعني عدم وجوده في العقل الباطن او اللاوعي، وبخاصة عندما يتم تغذيته باستمرار بقيم النظام الاجتماعي الابوي الذي لا يسمح بفرص التبادل الحر للمعلومات والمشاركة الايجابية في انشطة تكوين المعرفة ، استقطاب المعرفة، نقل المعرفة ، والمشاركة بالمعرفة .
8- نقد العقل الاخلاقي للمدير العربي :
العقل الاخلاقي للمدير العربي هو تجلي العقل الاخلاقي العربي (15) في الممارسة الادارية وفي العمل الاداري بغض النظر عن طبيعة المنظمة ونوع النشاط الذي تقوم بتنفيذه او البيئة المحلية التي توجد فيها .
ان مرجعية العقل الاخلاقي للمدير العربي هي النظم الاخلاقية الثلاثة :
أ- نظام القيم الاسلامية (او العقل الاسلامي الخالص) وذلك باعتبار ان الاسلام نظام قيم يوجه سلوك الافراد والجماعات روحياً وعملياً.
ب-الموروث العربي بمرجعيته البدوية والريفية ويتمثل بقيم البداوة والريف والتي انتقلت الى ثقافة المدير العربي واسلوبه في الادارة والعمل.
ت-واخيراً قيم الحداثة التي تلتقي في احيان مع النظم القيمية السابقة ولكنها تدخل في صراع مع النظم في بعض الاحيان .
وفي كل الاحوال يقع العقل الاخلاقي للمدير العربي تحت ضغط ازمة الضمير الديني وتحت وطاة الضغوط العائلية والعشائرية والقبلية والطائفية وحتى المناطقية والتي تقوم بمجملها على عنصر القرابة والدم وتاثير اللاشعور الجمعي الطائفي او العرقي.
هذا يعني ان للعقل الاخلاقي العربي قوى دافعية تتصارع السيادة في التأثير المباشر على السلوك. ومن بين هذه القوى قوة الضمير الديني واللاشعور الجمعي ومنه اللاشعور الطائفي الذي يستند على الذكريات ذات القيمة الروحية والوجدانية المشحونة بالحزن والالم. وكان من نتائج تصارع هذه القيم والمنظومات الاخلاقية في العقل العربي تشكل ظاهرة الازدواجية الاخلاقية والسلوكية للمدير العربي الذي يتمظّهرْ بسلوك خارجي يقتضيه العمل وعلاقات السلطة وبين حقيقة السلوك الداخلي والمشاعر والافكار الذاتية التي لا تتنفس غالباً الا في الخفاء وبالتالي فثمة اخلاقية للعلن واخلاقية اخرى للخفاء (16).
ان البنى التقليدية (القبلية، العشائرية، العائلية) تمارس تأثيراً كبيراً على المدير العربي وهي تلعب دوراً قمعياً في علاقتها معه، إنها تمارس القهر اللاقسري في الوقت الذي تحميه عند الضرورة ، بل وتنظر العشيرة والطائفة الى الوظيفة التي يمارسها المدير العربي بأنها امتداد لنفوذها وسطوتها من خلال هذه الوظيفة، وبالمقابل تُظلِّلْ القبيلة والطائفة الفرد بنوع من الحماية ليس كفرد مستقل له حقوق وانما كخلية فيها(17) .
9- التوظيف الايديولوجي للخطاب الاداري لسد النقص المعرفي:
ان المشكلة الجوهرية التي يواجهها المدير العربي بصفة دائمة تتصل بنقص المعرفة بالذات ، نقص المعرفة بالآخر ونقص المعرفة بالواقع. جوانب النقص المعرفي تؤدي الى الكسل الفكري والميل الى تبني الافكار الادارية والنماذج التنظيمية الجاهزة كما تقود الى تغطيةهذا النقص بخطاب اداري يستعرض الانجازات دون الاخفاقات، المزايا دون العيوب، والتهويل من نقاط القوة دون اي ذكر لعناصر الضعف البنيوية والوظيفية في المنظمة العربية .
10- تقديس اللامقدّس:
تقديس الانسان (اللامقدس) لصفته الوظيفية والسلطوية هي محاولة لإضفاء صفات مطلقة ليست من خصائص البشر ومثال ذلك المماثلة بين مدح المدير ومدح الامير وبخاصة عندما نرفع من قدر المدير والمسؤول الى مستوى لا يستحقه. وتعود جذور هذه المماثلة بين المقدّس والمدنس الى الحضارات الشرقية القديمة (السومرية، البابلية، الآشورية والمصرية) كما نجدها بصورة واضحة ومبالغاً فيها في الحضارة الفارسية القديمة، وهذه الحالة تدفع المدير الى الاستبداد حتى تبدو الصورة قريبة جداً من تلك الصورة التي يسميها هيجل او مونتسكيو المستبد الشرقي (18) .
بالاضافة الى ما تقدم، تواجه الادارة العربية تحديات اقتصادية وعلمية وتكنولوجية تتعلق معظمها بالبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ، وبفشل مشروعات التنمية الاقتصادية القطرية، وضعف نظم التعليم العربي ، و اخيراً الفجوة الرقيمة العربية على مستوى ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وبالاخص في حلقاتها المتقدمة المندمجة بنظم ادارة المعرفة التي تستند على تكنولوجيا الذكاء الصناعي. نقول ان قطار هذه الثورة يمضي سريعاً وبدون توقف في محطات انتظار العاجزين و المترددين عن قرار اللحاق بالركب الهادر لهذه الثورة التي لا تبقي ولا تذر من شيء في عالمنا الا وغيرته وضمته الى كنفها. واذا كان الحديث عن موقع العرب في الخارطة العالمية لثورة المعرفة وتكنولويجا المعلومات يطول ولا تكفي هذه الصفات للدلالة فإن من الممكن عرض بعض المؤشرات التي حاول البعض التغطية عليها في الخطاب الاداري العربي كما اوضحنا آنفاً.
ان حصة العرب اقل بكثير من 0.6% بالنسبة للتجارة الالكترونية العالمية (Business- 2 -Business) واقل بكثير من 0.9% بالنسبة للتجارة الالكترونية العالمية (Business -2 -Customer) لأن هذه الارقام تمثل مساهمة العرب ودول الشرق الاوسط غير العربية الاخرى. وفي حقيقة الامر فان التجارة الالكترونية (وهي مؤشر مهم للتحول نحو اقتصاد المعرفة ) هي من حصة دول الخليج العربي بينما لا تزال بقية الاقطار العربية الاخرى بعيدة امام هدف الوصول الى تطوير وتنمية هذا القطاع المهم (19) .
المسألة الخطيرة الاخرى هي الفجوة المعرفية والرقمية العربية التي تأخذ ثلاثة ابعاد: الفجوة العربية – العربية ، الفجوة العربية – المحلية (في داخل كل بلد عربي) ، والفجوة الرقمية العربية – الغربية .
ولفهم الفجوة الرقمية العربية – الغربية نشير الى دراسة البنك الدولي لتحليل جاهزية دول العالم لاقتصاد لمعرفة حيث ظهر ان الوطن العربي يقع في اسفل الفئة الثالثة (من مقياس خماسي) من حيث الجاهزية لاقتصاد المعرفة. ولكن اذا قارنا الدول العربية في ضوء مؤشرات اقتصاد المعرفة سنجد ان الدول العربية تتوزع على ثلاثة مجاميع: الاردن والكويت هي فوق متوسط الوطن العربي وتمثل المجموعة الاولى. المجموعة الثانية متجانسة اكثر وتضم تونس ، المغرب، مصر ، المملكة العربية السعودية، الجزائر ، والتي تقع في درجة اقل من متوسط اقليم الوطن العربي ولكن في وضع افضل من افريقيا وجنوب آسيا . اما سوريا واليمن فتقعان في المستوى المنخفض جداً في مقياس الجاهزية لاقتصاد المعرفة .
على مستوى البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات فان معظم الدول العربية تقع في المتوسط العالمي الى جانب امريكا اللاتينية باستثناء الكويت التي تقع في فئة افضل بينما نجد ان الدول العربية التي تقع دون المتوسط العالمي هي سوريا، تونس، مصر، الاردن، والجزائر. اما الدول الموجودة في الفئة رقم ج (اي افضل من 20% بالنسبة للعالم) فهي المغرب ثم ياتي بعدها اليمن حيث يقع في ادنى فئة من المقياس العالمي (20) .
هذه مجرد لقطة خاطفة وموجزة لوضع العرب في خارطة اقتصاد المعرفة ولمحة لحال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الوطن العربي والكلام يطول في هذا المجال، وبالتالي يمكن القول ان التحديات العلمية والتكنولوجية ذات العلاقة بالبنية التحتية الرقمية والمعلوماتية وما يرتبط بها من بنيان فوقي وبالاخص في ميدان نظم التعليم العربي هي في مقدمة التحديات التي تواجه عملية تطبيق برامج ومشروعات ادارة المعرفة في البيئة العربية.
وبعد ، الا يحق لنا بعد هذه الاطلالة على ادارة المعرفة وتحديات تطبيقها في البيئة العربية ان نستذكر من جديد بعض الاسئلة المصيرية المقلقة التي قدمها لنا ادونيس حول اشكالية المعرفة العربية (21) :
- هل هناك ما يمكن تسميته بالمعرفة العربية ؟
- هل توجد ادارة لمعرفة عربية لها مشاركتها الخاصة والمتميزة في إستكناه العالم وصياغة اسئلته ؟
والجواب نتركه للقارئ بطبيعة الحال. أما الحل عندنا اذا كان لنا عندْ (كما يقول الجاحظ) لكل هذه الاشكاليات المركبة والمعقدة فهو مشروع نهضوي عربي يقوم على إلتحام المعرفة العربية الاسلامية العقلانية الناقدة مع الكتلة التاريخية (حسب تعبير محمد عابد الجابري) فبدون ان تتشكل هذه الكتلة التاريخية وتبدأ في حراك معرفي وفكري عميق ستبقى امتنا خارج المسيرة الحضارية والانسانية لعالمنا. اي سنكون مثل هوامل ابو حيان التوحيدي (الهوامل هي النياق الشاردة بلا راع) ولن تفيد شوامل ابن مسكويه ايضاً لأننا سوف لن نستطيع الاختفاء في شمل الامم المتقدمة الاخرى التي تصارعنا على البقاء وتطلب بصورة او باخرى وجودنا وهويتنا .
ونحن بحاجة الى هذا المشروع كما نحن بحاجة الى دراسات نقدية في ميدان ادارة المعرفة مكتوبة بلغتنا ، وفي ظل ثقافتنا التي تسئلنا عن الجديد الذي يأتي جديداً بحق وليس الجديد الذي يأتي ترديداً لنماذج ونظريات الآخر من دون اي جهد للتكييف والتطوير ومن دون اي قدر من المزاوجة الولودة المبدعة بين ما هو أصيل في فكرنا وما هو حديث في عصرنا.
ويجب ان يكون اختيارنا هو توظيف المعرفة لخدمة مشروعنا النهضوي وغايتنا في هذا الاختيار هو السعي نحو تعميق الوعي بادارة المعرفة ليس من حيث كونها مفاهيم ونظريات وثقافة وانما لأنها نظم ومشروعات وبرامج .
ان المعرفة قوة، بل هي دالة القوة وادارة المعرفة هي البنية التي تجسد فاعلية ادارة المعرفة في منظماتنا ومؤسساتنا . ولا نعتقد انّ امامنا اي خيار في عالم اقتصاد المعرفة الجديد سوى النظر في كل حقول المعرفة ليتسنى لنا دراستها وتحليلها وبالتالي ترتيب وتغيير اوضاعنا مع احتياجات وتحديات هذا العصر.
د. سعد غالب ياسين رئيس قسم نظم المعلومات الادارية كلية الاقتصاد والعلوم الادارية - جامعة الزيتونة الاردنيةعمان – الاردن
المراجع:
1. ياسين ، سعد غالب (2000) ، المعلوماتية وادارة المعرفة: رؤية استراتيجية عربية ، بيروت: المستقبل العربي 260، مركز دراسات الوحدة العربية ، ص 1263 – 124 .
2. Awad Elias M. and Ghaziri Hassan M. (2004) . Knowledge Management, New Jersey: pearson Education, Inc., International Edition, p. 33.
3. Malhotra Yogesh (1999) . Knowledge Management for Organization wite-waters: An ecological Framework, Knowledge management, UK, March, P. 18 – 21.
4. Nonaka, L. and Takeuchi H. (1995) . The knowledge Creating Company, New York: Oxford Press, U.S.A.
5. http: //www.eluminati.com.
6. Malhotra Yogesh (2000) . Knowledge Assets in the Global Economy: Assessment of National Intellectual Capital Journal of Global Information Management, July- Sep 8 (3), p. 5-15.
7. بن نبي، مالك (2000) . مشكلات الحضارة : الصراع الفكري في البلدان المستعمرة، بيروت: دار الفكر المعاصر ، ص 97.
8. زيعور ، علي (1984) . الكرامة الصوفية والاسطورة و الحلم: القطاع اللاواعي في الذات العربية ، بيروت: دار الاندلس ، ص 98.
9. أركون، محمد (1998). قضايا في نقد العقل الديني : كيف نفهم الاسلام اليوم، ترجمة وتعليق هاشم صالح، بيروت: دار الطليعة ، ط1 ، ص 322.
10.الجابري ، محمد عابد (1992) . تكوين العقل العربي ، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، ص 31.
11.الجابري، محمد عابد (1994) . بنية العقل العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، ص 364.
12.ادونيس ، علي احمد سعيد (1982) . الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والابداع عند العرب، تأصيل الاصول، بيروت: دار العودة ، ط3، ص264.
13.شرابي ، هشام (1993) . النظام الابوي واشكالية تخلف المجتمع العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، ط2 ، ص 96.
14.الجابري، محمد عابد (1994). فكر ابن خلدون: العصبية والدولة ، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الاسلامي، ط 6 ، ص 167 – 168 .
15.الجابري، محمد عابد (2001) . العقل الاخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية ، نقد العقل العربي (4) ، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، ط1 ، ص 26 – 27.
16.الانصاري ، محمد جابر (2001) . مساءلة الهزيمة: جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الالفية ، ثقافة المراجعة بوجه التراجع، ط1 ، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ص 146 .
17.بشارة عزمي (1998) . المجتمع المدني ، دراسة نقدية مع اشارة اللمجتمع المدني العربي، بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية، ص274 .
18.العلام، عز الدين (2006) . الاداب السلطانية: دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي ، الكويت: عالم المعرفة 324 ، ص 122.
19. ESCWA (2003). Development of E-commerce Sectors in the Arab Rejon, Beirut: Western Asia Preparatory Conference for the world Summit on the information Society, 14 – 16 February, p.3.
20. World Bank Institute, 2003: 12 – 23.
21.ادونيس ، علي احمد سعيد (1990) ، الاسلام والحداثة ، ندوة ومواقف ، لندن: دار الساقي ، ص 11 .
ان حقل ادارة المعرفة وهو العلم والتخصص اليافع لا يزال ينتظر منا مزيداً من الدراسات الفكرية والاكاديمية والتطبيقية في جميع ميادينه وروافد نهره الممتد من سجالات الفلسفة ونظريات التعلم الى نماذج الادارة الحديثة ونظم وادوات تكنولوجيا الذكاء الصناعي وتقنيات المعرفة .
وتعبر هذه الحاجة عن نفسها بصورة اشكالية تاريخية في وطننا العربي العزيز والكبير الممتد من الماء في الشرق الى الماء في الغرب ذلك لأننا نفتقد الى دراسات في ميدان ادارة المعرفة مكتوبة بلغتنا وفي ظل ثقافتنا التي تسئلنا عن الجديد الذي يكون جديداً بحق وليس الجديد الذي يأتي تنويعاً على القديم ، قديم فكرنا وتراثنا او الجديد الذي يأتي ترديداً لنماذج ومداخل ونظريات الآخر من دون اي جهد للتبيئة ومن دون اي قدر من المزاوجة الولودة المبدعة بين ما هو اصيل في فكرنا وما هو حديث وجديد في عصرنا .
تأسيساً على ما تقدم تحاول هذه الدراسة تحليل مفهوم ادارة المعرفة من منظور عربي ومناقشة اهم التحديات التي تواجه عملية تطبيق برامج ادارة المعرفة في البيئة العربية .
اولاً: فهم المعرفة وادارة المعرفة :
يمكن القول ان المعرفة هي مزيج المفاهيم والافكار والقواعد والاجراءات التي تهدي الافعال والقرارت. اي ان المعرفة عبارة عن معلومات ممتزجة بالتجربة والحقائق والاحكام والقيم التي تعمل مع بعضها كتركيب فريد يسمح للأفراد والمنظمات من خلق اوضاع جديدة وادارة التغيير(1). والمعرفة ايضاً هي الفهم المكتسب من خلال التجربة او الدراسة والتي تطوي في كيانها المعرفة بالكيف ، اي المعرفة بكل ما يؤدي الى تمكين المرء من انجاز عمله وتنفيذ مهام متخصصة للوصول الى الاهداف المنشودة. وبالنتيجة تصبح المعرفة نتاجاً نوعياً متراكماً من الحقائق ، المعلومات، القواعد الاجرائيـة ، والافكار والخبرات الجديدة المستكشفة(2) .
بكلمات اخرى، يمكن النظر الى المعرفة على انها كينونة وصيرورة في الوقت نفسه ، ومثلما تتشكل المعلومات من البيانات تتشكل المعرفة من المعلومات الممتزجة بالخبرات وتجارب التعلم والمهارات النوعية المكتسبة وكل العناصر الاخرى التي تشكل المحتوى العضوي للمعرفة .
وفي كل الاحوال فان المعرفة التي نقصدها ونحاول تقديم نظرة منهجية لمداخل تنظيمها وادارتها هي كل معرفة (تنظيمية وغير تنظيمية) مفيدة للتقدم الانسانـي في مختلف مجالات الحياة، علماً ان كل معرفة مفيدة تحتاج الى ادارة واستثمار رأس مال المعرفة (او رأس المال الفكري) في المنظمات والمجتمعات.
باختصار، ان المعرفة تكوين متغير ومتنوع الابعاد متباين الاوجه ، متعدد المصادر والطبيعة بما تضمّه من معلومات وخبرات واحكام وادراك وبما تضيفه عملية التعلم المستمر من حقائق تُولّدْ حقائق جديدة من خلال تلاقح الحقائق مع الواقع وما يعتمر به من حركيات ومشكلات وتناقضات تسأل اصحابها باستمرار عن الحلول العملية الشاملة.
من ناحية اخرى تسعى ادارة المعرفة الى تقديم حلول لقضايا ومشكلات استقطاب المعرفة ، وانتاج المعرفة والمشاركة بالمعرفة بين الافراد والجماعات والمنظمات وفي داخل المنظمات ايضاً . بمعنى آخر، تهتم ادارة المعرفة باستثمار الموارد المعرفية وبناء ذاكرة للمنظمة ترتكز على تبادل المعرفة والمشاركة فيها من خلال عملية منهجية مستمرة (3) . ان جوهر ادارة المعرفة يتمثل بتنظيم وتوجيه الانشطة الاجتماعية في بيئة العمل لتمكين الافراد والجماعات من عملية المشاركة ونقل المعرفة وعملية تكوين المعرفة التي تتم بطريقة حلزونية تتحرك من المعرفة الضمنية الى المعرفة الصريحة المدونة وتعود الى المعرفة الضمنية (4) . ولهذا السبب يميل كثير من الباحثين الى تعريف ادارة المعرفة من خلال تحليل مضمون العمليات والانشطة الوظيفية التي تقوم بتنفيذها كما نجد في محاولة Hampel لتعريف ادارة المعرفة بأنها حزمة من انشطة استقطاب امتلاك وتكوين وابتكار المعرفة واستخدامها لتحسين انشطة الاعمال الاساسية من خلال الافراد فرق العمل وعبر المجالات الوظيفية والتنظيمية (5).
ويبدو هذا المدخل اكثر وضوحاً واشمل نطاقاً من المداخل الاخرى التي تحاول تحليل مفهوم ادارة المعرفة وذلك لأنه يعتمد على التقاط الفكرة المحورية لادارة المعرفة والتي تتلخص بعمليات استقطاب المعرفة، تكوين المعرفة، المشاركة بالمعرفة، تخزين وتوزيع المعرفة ، وادارة التعاضد الاستراتيجي بين رأس المال الفكري وتكنولوجيا المعلومات بهدف تحقيق الميزة التنافسية المؤكدة، بمعنى آخر ، تهتم ادارة المعرفة باستثمار اصول المعرفة Knowledge Assets او رأس المال المعرفة Knowledge Capital (ويطلق عليه احياناً رأس المال الفكري Intellectual Capital) واكتشاف القيم المخفية Hidden Value وغير الملموسة Intangible للأصول المعرفية والانسانية الموجودة في المنظمة والمجتمع (6).
ثانياً: تحديات تطبيق برامج ادارة المعرفة في البيئة العربية:
قبل مناقشة اهم التحديات التي تواجه برامج ومبادرات ومشروعات ادارة المعرفة في البيئة العربية لا بد من القول ان البنيان النظري العلمي والتكنولوجي والتجارب والخبرة الانسانية المرافقة لهذا البنيان قد كان نتاج الجهود الفردية الجماعية والمؤسساتية في الغرب المتقدم. ولا يختلف حال ادارة المعرفة عن حقول العلوم والتكنلوجيا الاخرى من حيث العقل الذي انتجها والارض التي ولدت فيها والبيئة التي احتضنتها والثقافة التي اردفتها بشآبيب الفكر اللماح الى كل ما هو جديد ومبتكر . ولذلك، فإن الحاجة التي تلح علينا بعد نقل هذه الافكار والعلوم هو تكييفها وتطبيعها والنظر في فرص نجاح استزراعها وبالتالي استنباتها في ارضنا.
ان ما تحتاجه ادارة المعرفة هو معرفة بوسائل تبيئة حقول (المعرفة) بشتى الوانها في ارضنا وتحت سمائنا وبدون ذلك ستبقى نماذج جاهزة وتكنولوجيا مستوردة ونظم وهياكل صماء لا روح فيها ولا حياة.
ان برامج ومشروعات ادارة المعرفة يجب ان تجيب عن اسئلة الواقع العربي، واقع إداراته، اقتصادياته، منظماته، وقبل ذلك هموم انسانه. ان الاسئلة الصحيحة التي تستنطق الواقع تتطلب اجابات صحيحة غير جاهزة ذلك لأن اخطر ما يواجه عمليات ادارة المعرفة هو جاهزية الحلول واستيراد النماذج من دون تحليل ومقاربة . ويمكن اجمال اهم تحديات ادارة المعرفة في بيئتنا العربية بما يلي :
التحديات الثقافية والاجتماعية :
1- التشكل الكاذب للوعي :
يشير افلاطون في تراثه العظيم الذي تركه لنا ان بعض الناس يميلون الى تصور الواقع الموضوعي لا طبقاً لحقيقته وانما وفقاً لما يصور لهم وهم بذلك لا يقرئون واقعهم كما يجب قرائته بل يتلبّسون واقعاً آخر بل قل وهماً آخر .
وبنظر فيلسوفنا افلاطون فان بعض الناس وكانهم يعيشون في قعر غار ملتفتين الى جدرانه قهراً فلا يرون سوى الاشباح المتحركة عليه دون ان يفكروا ان هذه الاشباح ليس الا الاشخاص يأتون ويذهبون وراء ظهورهم، وان ناراً اوقدت بين باب الغار واولئك الاشخاص هي التي تلقي ظلهم في صورة اشباح متحركة على الجدران ودون ان يشعروا خاصة وان الحقيقة ليست في تلك الصورة الوهمية ولا في النار التي تصورها لأبصارهم المسحورة بل هي خارج الغار في ضوء النهار وتحت الشمس الساطعة (7).
اذن المشكلة في توهم الواقع ومقابلة المعرفة الجاهزة بالواقع الذي نتخلية وليس الواقع الذي نعيش فيه ونريد تقديم اجابات لأسئلته التي تلح علينا باستمرار ، وطالما هناك انقطاع ما بين الواقع الغريب عن المعرفة التي جائتنا من بعيد فان الحل الوحيد لهذه الاشكالية المعضلة يكون فقط من خلال تجديد التفكير في المعرفة كخطوة اولية لا بد منها لتبيئة واستزراع واستنبات هذه المعرفة في بيئتنا.
2- الخروج من دائرة البطل الملهم:
ان الخروج من دائرة البطل الملهم يعني بصورة او باخرى الخروج من القداسة المزيفة للمعرفة المشخصنة للأنا العليا التي يمثلها المدير في الادارة العربية ، الحاكم في السياسة العربية، والولي وصاحب الكرامات في المثيولوجيا الشعبية.
وفي كل هذه الاحوال والصور تبقى الأنا العاجزة للأنسان، العامل، الموظف، المثقف والخبير في حالة تلقي من الأنا العليا وتصل الى مستوى تنفي عن هذه الأنا للعليا ما قد يكون فيها من نقائص لأنها تريد ان يكون كل ما تؤده من قدرات ومزايا موجوداً في بطلها (8).
ان المعرفة التي يجسدها البطل، صانع القرار الملهم هي الكمال ومطلق القدرة في تحقيق الاماني والاحلام المكبوتة والمتوارثة وهي بالتالي تعبر عن الحقيقة الملهمة من ناحية كما تمثل بالنسبة للأنا العربية العاجزة او التي تتوهم العجز الاشباع الكامل والمطلق للرغبات المكبوتة في اللاوعي من ناحية اخرى . ولهذا نحن نعتقد ان الوقت قد أزفَ نخرج من دائرة الحلم المستسلم لهمسات العجز انتظاراً للمخلص، المنقذ، للبطل الملهم صاحب المعرفة والحقيقة؟
3- الدخول في دائرة الحداثة:
ان العقل العربي المعاصر لم يساهم في بلورة الحداثة في القرنين التاسع عشر والعشرين وبالتالي فان كل الفتوحات العلمية والانجازات الحضارية والتكنولوجية قد تحققت من دون اي مشاركة فعلية للعقل العربي . نعم كانت مساهمات اجدادنا اصلية وحاسمة ومهمة في بناء وتطوير النهضة الاوروبية والغربية. كان هذا دورهم في الماضي، اما نحن فقد مضى وقت طويل ونحن لم نبذل اي جهد لتشكيل معرفة تاريخية كاملة بل نحن لم نمر حتى بمرحلة الحداثة الكلاسيكية ، ولذلك نحن مضطرين كما يقول محمد أركون الى تأسيس مركز بحث علمي يشبه بيت الحكمة الذي أسسه المامون في القرن الثالث الهجري لنقل الفكر الاوروبي والمعرفة الغربية. ويرى اركون انه لا بد للعرب من المرور بهذه المرحلة من اجل ممارسة العقل المستقل لأول مرة في تاريخهم ، ينبغي ان يخرج العربي من السجن الذاتي للذات ، ينبغي ان ينتهي العصر الايدولوجي العربي يوماً لكي يحل محله العصر الابستيمولوجي المعرفي العميق . لقد مللنا من الضحيج والعجيج الايدولوجي (9).
نعم نحن بحاجة لكي نخرج من السجن الايديولوجي الى فضاء المعرفة لكي نمارس ونستفيد من استقلالية العقل العربي (المتحرر كما قلنا آنفاً من اوهام الواقع واستلاب النماذج الايديولوجية الجاهزة). وعندما يتحرر العقل العربي من عقاله عندئذ يمكن ان يمارس حرية التفكير في انتاج المعرفة ، تحصيل واستقطاب المعرفة ، وتحقيق التراكم التاريخي المطلوب للتحول الى الحداثة بمعانيها العميقة غير المادية.
4- النقد الذاتي للعقل العربي :
لا يكفي مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي ومشروع محمد اركون في نقد العقل الاسلامي من نقل ثقافة النهضة، ثقافة المعرفة بالذات والاخر الى مستوى الفعالية التاريخية المطلوبة للدخول في الحداثة من موقع المشاركة والشراكة الايجابية، فاعمال الجابري واركون وبرهان غليون وهشام شرابي وغيرهم هي ومضات رائعة ولكنها غير كافية لإحداث التغيير بل ما نحتاجه هو العمل العقلي الجماعي و المؤسساتي الذي يتولى اعادة التفكير بقديم وجديد فكرنا ومعارفنا وثقافتنا. ان العقل العربي تحكمه النظرة المعيارية للأشياء ذلك لأنه يتجه في التفكير بالاشياء الموجودة حوله من خلال مقاربتها بنظام القيم فكل شيء يُحاكَم من خلال هذا النظام وبالمقابل توجد النظرة الموضوعية التي تبحث عن الاشياء ومكوناتها في الواقع (10).
وبالاضافة الى النزعة الاختزالية للعقل العربي في تعامله مع الاشياء ومعطيات الفكر وحقول المعرفة فانه لا يتعامل في كثير من الاحيان الا مع الالفاظ ويمضي ورائها اكثر من تعامله مع المفاهيم . كما ان آلية العقل العربي في تحصيل المعرفة هي المقاربة (القياس البياني) والمماثلة (القياس العرفاني ) (11) . ان منهج المقاربة يفيد لفئة العلوم النظرية ولكنه يعجز عن مجاراة اسئلة العلوم التجريبية والطبيعية. اما المماثلة فتقع خارج حقول العلم وبالتالي لا تحكمها قضايا العقل. وطالما بقي العقل العربي خاضعاً لسلطة اللفظ دون المفهوم ، الشكل دون المضمون فانه سيبقى عاجزاً في بناء الخطاب المعرفي النهضوي لأنه خطاب تقوده العاطفة لا العقل والانفعال تارة والتضخيم وبالاخص تضخيم الذات المستلبة تارة اخرى.
ان عمل ادارة المعرفة لا بد ان يستند على وعي اصيل للعقل العربي في رؤيته للحاضر وفي تجاوبه مع الواقع التاريخي المعاش ومع التجربة الفردية لأمتنا ، فنحن لدينا طاقات كبيرة كامنة واصلية، وفي ثقافتنا العربية والاسلامية نزوع انساني قوي نحو المشاركة بالمعرفة من خلال الحوار والانفتاح .
5- الانتقال الى المعرفة والثقافة المدّونة :
ان المكانة المركزية للمعرفة الضمنية غير الصريحة وغير المرمزة لا يعادل قيمتها في تاريخنا سوى اهمية دور المخيال الجماعي للعرب والمسلمين وما يتضمنه من رموز اثرت ولا تزال تمارس تأثيراً عميقاً في الوجدان الديني والقومي. ان مخيالنا الجمعي من رموز امتنا بعد سيد المرسلين والعالمين نبينا ومعلمنا محمد صلى الله عليه وسلم من امثال علي بن ابي طالب، والحسين، وعمر بن الخطاب، وعمار بن ياسر ، وابو ذر الغفاري وغيرهم سيظل يمثل القوة الكامنة والطاقة الروحية التي يمكن استثارتها في ميادين العمل والجهاد. غير ان المعرفة الضمنية والثقافة الشفهية التي تستدعي عند الحاجة هذا المخيال الجماعي لم تعد ملائمة لتلبيةحاجات عصرنا ومشكلات استقطاب المعرفة في جميع ميادينها وحقولها. ان الميل النفسي الشديد نحو المعرفة المضنية والإستقواء بالذاكرة قد أفقد امتنا جزءاً كبيراً من تراثها الفكري والثقافي والعلمي وقد كانت الخسارة فادحة وتاريخية حتى يمكن القول ان عدم الاهتمام بتسجيل وتوقيق المعرفة العربية قد كان احد اسباب تدهور حضارة الامة وانحطاطها. اما اليوم فان مسألة توثيق وترميز المعرفة الضمنية وتحويلها الى معرفة صريحة مدونة قد اصبحت مسالة هوية لأن العقل الشفوي لا يمكن ان يملي مقولاته ولا ييستطيع في هذا العالم المعقد ان يثّبت هويته ويفرض مقولاته على الاخرين. ان الانتقال من المعرفة الضمنية الى الصرحية، اي بمعنى الاهتمام بتوثيق وترميز المعرفة الضمنية يعني ايضاً الانتقال من تأمل الذات التي تستعيد نفسها وتجتر ذكرياتها الى الذات التي تفهم ذاتها وتتامل العالم والطبيعة لارتيادها واستكشافها (12). باختصار، يجب ان تكون الاولوية للكتابة على القول ، وللقراءة على الحكاية، والفهم بدلاً من سرديات اللفظ. ان المعرفة النصية المكتوبة باعتبارها الشرط الموضوعي لضمان التراكم المعرفي هي مقدمة التغيير . فالتغيير في عالم اليوم لا يتم بالكلام وانما من خلال الفهم وممارسة الفعل الانساني الهادف.
6- مغادرة خطاب الهيمنة الى خطاب المعرفة:
الخطاب الايديولوجي الذي يفيض بين ظهرانينا لا يخلو من ارهاب الفكر الاحادي المنغلق الذي يسعى باستمرار الى مصادرة الوعي واستلاب الذات وتثبيت الهيمنة على الآخر. الخطاب الايديولوجي الاحادي لا يثير كعادته الاسئلة وانما يقدم الاجوبة الجاهزة التي يريدها رداً على التساؤلات المسموح بها ولا ينتظر من الآخرين سوى هز الرؤوس بالموافقة او الركون الى الصمت. ويعتمد هذا الخطاب على الكلمة المحكية ، وتوصيف ما يجب أن يكون والتبشير بما يجب ان يكون من دون الافصاح عن وسائل تحقيق المستقبل. هذا الخطاب الاحادي التقليدي والابوي يجب ان يغادر مسرح حياتنا ليحل محله خطاب المعرفة العقلاني الذي يطلب المعرفة للتنوير والمشاركة وليس من أجل تثبيت الهيمنة ، هيمنة المدير او الحاكم او السياسي .
خطاب المعرفة لا يقوم على الموافقة وانما على المخالفة وا ستشارة الرأي الاخر والتساؤل المستمر للتزود بالصدق واليقين وبالتالي لا يفيد هذا الخطاب الا في تعميق ثقافة الحوار وتعزيز عملية المشاركة بالمعرفة بينما يعزز الخطاب الايديولوجي آليات ممارسة السلطة وبناء علاقات التبعية.
7- الانعتاق من النظام البطريركي:
في النظام البطريركي الهرمي لا توجد مشاركة في المعرفة وانما إستلام وقبول بما يقوله البطريك الاب، الشيخ ، المدير ، المعلم أو الحاكم، ويوجد في هذا النظام – البنية نوع من القهر اللاقسري كما يقول غرامشي عندما تنهض ثقافة البطريك لكي تكون ثقافة بالتبعية للاخرين (مثلما تقوم ثقافة المُستعمَرْ على ثقافة المُستَعمِر بالتبني اللاقسري) (13).
هذا النظام كان موجوداً في الماضي بالقبلية وبقي هذا النوع القديم للتشكل الابوي في العائلة والمجتمع العربي وكل التشكليلات الاجتماعية المنبثقة عنه التي اطلق عليها هشام شرابي المجتمع الابوي الحديث. نعم في هذا المجتمع تظهر بوضوح علامات السلطة والهيمنة والتبعية وبالتالي يتّجه الولاء الفردي للعائلة او العشرية او الطائفة ومن هنا تبدأ جذور العصبية بالنمو حين يدعو الرجل الى نصرة عصبيته ومؤازرتهم ظالمين كانوا ام مظلومين ، ويبدو أن هذا الشعور الجمعي الكامن والمتوارث لا يموت حتى وان غاب في لحظة لأن غيابه في الوعي لا يعني عدم وجوده في العقل الباطن او اللاوعي، وبخاصة عندما يتم تغذيته باستمرار بقيم النظام الاجتماعي الابوي الذي لا يسمح بفرص التبادل الحر للمعلومات والمشاركة الايجابية في انشطة تكوين المعرفة ، استقطاب المعرفة، نقل المعرفة ، والمشاركة بالمعرفة .
8- نقد العقل الاخلاقي للمدير العربي :
العقل الاخلاقي للمدير العربي هو تجلي العقل الاخلاقي العربي (15) في الممارسة الادارية وفي العمل الاداري بغض النظر عن طبيعة المنظمة ونوع النشاط الذي تقوم بتنفيذه او البيئة المحلية التي توجد فيها .
ان مرجعية العقل الاخلاقي للمدير العربي هي النظم الاخلاقية الثلاثة :
أ- نظام القيم الاسلامية (او العقل الاسلامي الخالص) وذلك باعتبار ان الاسلام نظام قيم يوجه سلوك الافراد والجماعات روحياً وعملياً.
ب-الموروث العربي بمرجعيته البدوية والريفية ويتمثل بقيم البداوة والريف والتي انتقلت الى ثقافة المدير العربي واسلوبه في الادارة والعمل.
ت-واخيراً قيم الحداثة التي تلتقي في احيان مع النظم القيمية السابقة ولكنها تدخل في صراع مع النظم في بعض الاحيان .
وفي كل الاحوال يقع العقل الاخلاقي للمدير العربي تحت ضغط ازمة الضمير الديني وتحت وطاة الضغوط العائلية والعشائرية والقبلية والطائفية وحتى المناطقية والتي تقوم بمجملها على عنصر القرابة والدم وتاثير اللاشعور الجمعي الطائفي او العرقي.
هذا يعني ان للعقل الاخلاقي العربي قوى دافعية تتصارع السيادة في التأثير المباشر على السلوك. ومن بين هذه القوى قوة الضمير الديني واللاشعور الجمعي ومنه اللاشعور الطائفي الذي يستند على الذكريات ذات القيمة الروحية والوجدانية المشحونة بالحزن والالم. وكان من نتائج تصارع هذه القيم والمنظومات الاخلاقية في العقل العربي تشكل ظاهرة الازدواجية الاخلاقية والسلوكية للمدير العربي الذي يتمظّهرْ بسلوك خارجي يقتضيه العمل وعلاقات السلطة وبين حقيقة السلوك الداخلي والمشاعر والافكار الذاتية التي لا تتنفس غالباً الا في الخفاء وبالتالي فثمة اخلاقية للعلن واخلاقية اخرى للخفاء (16).
ان البنى التقليدية (القبلية، العشائرية، العائلية) تمارس تأثيراً كبيراً على المدير العربي وهي تلعب دوراً قمعياً في علاقتها معه، إنها تمارس القهر اللاقسري في الوقت الذي تحميه عند الضرورة ، بل وتنظر العشيرة والطائفة الى الوظيفة التي يمارسها المدير العربي بأنها امتداد لنفوذها وسطوتها من خلال هذه الوظيفة، وبالمقابل تُظلِّلْ القبيلة والطائفة الفرد بنوع من الحماية ليس كفرد مستقل له حقوق وانما كخلية فيها(17) .
9- التوظيف الايديولوجي للخطاب الاداري لسد النقص المعرفي:
ان المشكلة الجوهرية التي يواجهها المدير العربي بصفة دائمة تتصل بنقص المعرفة بالذات ، نقص المعرفة بالآخر ونقص المعرفة بالواقع. جوانب النقص المعرفي تؤدي الى الكسل الفكري والميل الى تبني الافكار الادارية والنماذج التنظيمية الجاهزة كما تقود الى تغطيةهذا النقص بخطاب اداري يستعرض الانجازات دون الاخفاقات، المزايا دون العيوب، والتهويل من نقاط القوة دون اي ذكر لعناصر الضعف البنيوية والوظيفية في المنظمة العربية .
10- تقديس اللامقدّس:
تقديس الانسان (اللامقدس) لصفته الوظيفية والسلطوية هي محاولة لإضفاء صفات مطلقة ليست من خصائص البشر ومثال ذلك المماثلة بين مدح المدير ومدح الامير وبخاصة عندما نرفع من قدر المدير والمسؤول الى مستوى لا يستحقه. وتعود جذور هذه المماثلة بين المقدّس والمدنس الى الحضارات الشرقية القديمة (السومرية، البابلية، الآشورية والمصرية) كما نجدها بصورة واضحة ومبالغاً فيها في الحضارة الفارسية القديمة، وهذه الحالة تدفع المدير الى الاستبداد حتى تبدو الصورة قريبة جداً من تلك الصورة التي يسميها هيجل او مونتسكيو المستبد الشرقي (18) .
بالاضافة الى ما تقدم، تواجه الادارة العربية تحديات اقتصادية وعلمية وتكنولوجية تتعلق معظمها بالبنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ، وبفشل مشروعات التنمية الاقتصادية القطرية، وضعف نظم التعليم العربي ، و اخيراً الفجوة الرقيمة العربية على مستوى ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وبالاخص في حلقاتها المتقدمة المندمجة بنظم ادارة المعرفة التي تستند على تكنولوجيا الذكاء الصناعي. نقول ان قطار هذه الثورة يمضي سريعاً وبدون توقف في محطات انتظار العاجزين و المترددين عن قرار اللحاق بالركب الهادر لهذه الثورة التي لا تبقي ولا تذر من شيء في عالمنا الا وغيرته وضمته الى كنفها. واذا كان الحديث عن موقع العرب في الخارطة العالمية لثورة المعرفة وتكنولويجا المعلومات يطول ولا تكفي هذه الصفات للدلالة فإن من الممكن عرض بعض المؤشرات التي حاول البعض التغطية عليها في الخطاب الاداري العربي كما اوضحنا آنفاً.
ان حصة العرب اقل بكثير من 0.6% بالنسبة للتجارة الالكترونية العالمية (Business- 2 -Business) واقل بكثير من 0.9% بالنسبة للتجارة الالكترونية العالمية (Business -2 -Customer) لأن هذه الارقام تمثل مساهمة العرب ودول الشرق الاوسط غير العربية الاخرى. وفي حقيقة الامر فان التجارة الالكترونية (وهي مؤشر مهم للتحول نحو اقتصاد المعرفة ) هي من حصة دول الخليج العربي بينما لا تزال بقية الاقطار العربية الاخرى بعيدة امام هدف الوصول الى تطوير وتنمية هذا القطاع المهم (19) .
المسألة الخطيرة الاخرى هي الفجوة المعرفية والرقمية العربية التي تأخذ ثلاثة ابعاد: الفجوة العربية – العربية ، الفجوة العربية – المحلية (في داخل كل بلد عربي) ، والفجوة الرقمية العربية – الغربية .
ولفهم الفجوة الرقمية العربية – الغربية نشير الى دراسة البنك الدولي لتحليل جاهزية دول العالم لاقتصاد لمعرفة حيث ظهر ان الوطن العربي يقع في اسفل الفئة الثالثة (من مقياس خماسي) من حيث الجاهزية لاقتصاد المعرفة. ولكن اذا قارنا الدول العربية في ضوء مؤشرات اقتصاد المعرفة سنجد ان الدول العربية تتوزع على ثلاثة مجاميع: الاردن والكويت هي فوق متوسط الوطن العربي وتمثل المجموعة الاولى. المجموعة الثانية متجانسة اكثر وتضم تونس ، المغرب، مصر ، المملكة العربية السعودية، الجزائر ، والتي تقع في درجة اقل من متوسط اقليم الوطن العربي ولكن في وضع افضل من افريقيا وجنوب آسيا . اما سوريا واليمن فتقعان في المستوى المنخفض جداً في مقياس الجاهزية لاقتصاد المعرفة .
على مستوى البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات فان معظم الدول العربية تقع في المتوسط العالمي الى جانب امريكا اللاتينية باستثناء الكويت التي تقع في فئة افضل بينما نجد ان الدول العربية التي تقع دون المتوسط العالمي هي سوريا، تونس، مصر، الاردن، والجزائر. اما الدول الموجودة في الفئة رقم ج (اي افضل من 20% بالنسبة للعالم) فهي المغرب ثم ياتي بعدها اليمن حيث يقع في ادنى فئة من المقياس العالمي (20) .
هذه مجرد لقطة خاطفة وموجزة لوضع العرب في خارطة اقتصاد المعرفة ولمحة لحال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الوطن العربي والكلام يطول في هذا المجال، وبالتالي يمكن القول ان التحديات العلمية والتكنولوجية ذات العلاقة بالبنية التحتية الرقمية والمعلوماتية وما يرتبط بها من بنيان فوقي وبالاخص في ميدان نظم التعليم العربي هي في مقدمة التحديات التي تواجه عملية تطبيق برامج ومشروعات ادارة المعرفة في البيئة العربية.
وبعد ، الا يحق لنا بعد هذه الاطلالة على ادارة المعرفة وتحديات تطبيقها في البيئة العربية ان نستذكر من جديد بعض الاسئلة المصيرية المقلقة التي قدمها لنا ادونيس حول اشكالية المعرفة العربية (21) :
- هل هناك ما يمكن تسميته بالمعرفة العربية ؟
- هل توجد ادارة لمعرفة عربية لها مشاركتها الخاصة والمتميزة في إستكناه العالم وصياغة اسئلته ؟
والجواب نتركه للقارئ بطبيعة الحال. أما الحل عندنا اذا كان لنا عندْ (كما يقول الجاحظ) لكل هذه الاشكاليات المركبة والمعقدة فهو مشروع نهضوي عربي يقوم على إلتحام المعرفة العربية الاسلامية العقلانية الناقدة مع الكتلة التاريخية (حسب تعبير محمد عابد الجابري) فبدون ان تتشكل هذه الكتلة التاريخية وتبدأ في حراك معرفي وفكري عميق ستبقى امتنا خارج المسيرة الحضارية والانسانية لعالمنا. اي سنكون مثل هوامل ابو حيان التوحيدي (الهوامل هي النياق الشاردة بلا راع) ولن تفيد شوامل ابن مسكويه ايضاً لأننا سوف لن نستطيع الاختفاء في شمل الامم المتقدمة الاخرى التي تصارعنا على البقاء وتطلب بصورة او باخرى وجودنا وهويتنا .
ونحن بحاجة الى هذا المشروع كما نحن بحاجة الى دراسات نقدية في ميدان ادارة المعرفة مكتوبة بلغتنا ، وفي ظل ثقافتنا التي تسئلنا عن الجديد الذي يأتي جديداً بحق وليس الجديد الذي يأتي ترديداً لنماذج ونظريات الآخر من دون اي جهد للتكييف والتطوير ومن دون اي قدر من المزاوجة الولودة المبدعة بين ما هو أصيل في فكرنا وما هو حديث في عصرنا.
ويجب ان يكون اختيارنا هو توظيف المعرفة لخدمة مشروعنا النهضوي وغايتنا في هذا الاختيار هو السعي نحو تعميق الوعي بادارة المعرفة ليس من حيث كونها مفاهيم ونظريات وثقافة وانما لأنها نظم ومشروعات وبرامج .
ان المعرفة قوة، بل هي دالة القوة وادارة المعرفة هي البنية التي تجسد فاعلية ادارة المعرفة في منظماتنا ومؤسساتنا . ولا نعتقد انّ امامنا اي خيار في عالم اقتصاد المعرفة الجديد سوى النظر في كل حقول المعرفة ليتسنى لنا دراستها وتحليلها وبالتالي ترتيب وتغيير اوضاعنا مع احتياجات وتحديات هذا العصر.
د. سعد غالب ياسين رئيس قسم نظم المعلومات الادارية كلية الاقتصاد والعلوم الادارية - جامعة الزيتونة الاردنيةعمان – الاردن
المراجع:
1. ياسين ، سعد غالب (2000) ، المعلوماتية وادارة المعرفة: رؤية استراتيجية عربية ، بيروت: المستقبل العربي 260، مركز دراسات الوحدة العربية ، ص 1263 – 124 .
2. Awad Elias M. and Ghaziri Hassan M. (2004) . Knowledge Management, New Jersey: pearson Education, Inc., International Edition, p. 33.
3. Malhotra Yogesh (1999) . Knowledge Management for Organization wite-waters: An ecological Framework, Knowledge management, UK, March, P. 18 – 21.
4. Nonaka, L. and Takeuchi H. (1995) . The knowledge Creating Company, New York: Oxford Press, U.S.A.
5. http: //www.eluminati.com.
6. Malhotra Yogesh (2000) . Knowledge Assets in the Global Economy: Assessment of National Intellectual Capital Journal of Global Information Management, July- Sep 8 (3), p. 5-15.
7. بن نبي، مالك (2000) . مشكلات الحضارة : الصراع الفكري في البلدان المستعمرة، بيروت: دار الفكر المعاصر ، ص 97.
8. زيعور ، علي (1984) . الكرامة الصوفية والاسطورة و الحلم: القطاع اللاواعي في الذات العربية ، بيروت: دار الاندلس ، ص 98.
9. أركون، محمد (1998). قضايا في نقد العقل الديني : كيف نفهم الاسلام اليوم، ترجمة وتعليق هاشم صالح، بيروت: دار الطليعة ، ط1 ، ص 322.
10.الجابري ، محمد عابد (1992) . تكوين العقل العربي ، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، ص 31.
11.الجابري، محمد عابد (1994) . بنية العقل العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، ص 364.
12.ادونيس ، علي احمد سعيد (1982) . الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والابداع عند العرب، تأصيل الاصول، بيروت: دار العودة ، ط3، ص264.
13.شرابي ، هشام (1993) . النظام الابوي واشكالية تخلف المجتمع العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، ط2 ، ص 96.
14.الجابري، محمد عابد (1994). فكر ابن خلدون: العصبية والدولة ، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الاسلامي، ط 6 ، ص 167 – 168 .
15.الجابري، محمد عابد (2001) . العقل الاخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية ، نقد العقل العربي (4) ، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، ط1 ، ص 26 – 27.
16.الانصاري ، محمد جابر (2001) . مساءلة الهزيمة: جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الالفية ، ثقافة المراجعة بوجه التراجع، ط1 ، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ص 146 .
17.بشارة عزمي (1998) . المجتمع المدني ، دراسة نقدية مع اشارة اللمجتمع المدني العربي، بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية، ص274 .
18.العلام، عز الدين (2006) . الاداب السلطانية: دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي ، الكويت: عالم المعرفة 324 ، ص 122.
19. ESCWA (2003). Development of E-commerce Sectors in the Arab Rejon, Beirut: Western Asia Preparatory Conference for the world Summit on the information Society, 14 – 16 February, p.3.
20. World Bank Institute, 2003: 12 – 23.
21.ادونيس ، علي احمد سعيد (1990) ، الاسلام والحداثة ، ندوة ومواقف ، لندن: دار الساقي ، ص 11 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق