الأربعاء، 16 أبريل 2008

دراسات في الحقبة الناصرية (7)

مقومات التنمية فى المشروع الناصرى

إذا جاز لنا أن نلخص المشروع الناصرى فى كلمتين فلن نجد خيراً من أن نصفه بأنه " مشروع تنموى عربى "، فالتنمية كانت هى الهاجس الأساسى الذى حرك عبد الناصر ورفاقه لأن يتصدوا لتغيير معالم القطر المصرى، وإعادة رسم الخريطة العربية فى فترة شهدت تصاعد شأن الوطن العربى ذاته، وارتفاع عدد دوله المستقلة من سبع دول أقامت فيما بينها نظاماً إقليمياً تعاونياً يستهدف تحقيق " الازدهار" لشعوبها، إلى ثلاثة أضعاف هذا العدد من المجتمعات العربية التى حكم عليها الاستعمار بالتخلف والتبعية، فتركزت آمالها فى الاستقلال والتنمية. وإذا كانت الفترة التالية للحرب العالمية الثانية قد شهدت مداً تحررياً أجهز على ما تبقى من حطام الاستعمار القديم، فإنها شهدت أيضا دعاوى قوية لتنميةٍ تنهض بشئون المناطق المحررة، وتحرر اقتصاداتها من قيود أقامها الاستعمار. وهكذا اقترنت حركات التحرر السياسى بالتحرر الاقتصادى، وأولت الأدبيات العالمية اهتمامها إلى قضايا التنمية، وهو ما دفع هيئة الأمم المتحدة فى بداية عهدها لأن تكرس دراسات متعمقة لها، وإلى إنشاء برنامج خاص للإنماء يسعى إلى تقديم العون للدول حديثة العهد بالتنمية. ولم يكن غريباً لفكر جرى صكه فى رحاب الدول الاستعمارية ذاتها، أن يعطى الغلبة لنموذج تنموى منبثق من الرأسمالية التى تدين بها، ويفضى فى نهاية المطاف إلى إعادة ربط المستعمرات السابقة بمستعمريها من خلال استعمار جديد.
وكان من الطبيعى أن يتأثر فكر رجال الثورة بهذا الرأى السائد، والذى صادف هوى لدى من استعانوا بهم من أهل الرأى والخبرة، غير أن الثورة تميزت بأنها أدركت منذ البداية أن التحرر والتنمية لا يقتصر أمرهما على ركيزتين؛ إحداهما سياسية والأخرى اقتصادية، بل إن جوهرهما اجتماعى يتطلب إحداث تغيير جوهرى فى تنظيم المجتمع وفى قواعده الثقافية، وفى البداية كان التغيير بقدر ما اتضح من توافق بين المعركة السياسية، والكفاح من أجل بناء حكم وطنى يستمد جذوره من فئات الشعب الذى تحالفت قوى الاستعمار والاستبداد على حرمانه من حقوقه. وشيئاً فشيئاً بدأت معالم التغيير الاجتماعى تتضح، وظهرت ضرورة سد المنافذ التى سعت تلك القوى إلى ولوجها لتعيد السيطرة بأساليب صاغها الاستعمار الجديد، فكانت ضرورة استكمال التحول الاجتماعى، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة على نحو يمكنها من تحقيق التنمية المنشودة. ولم يكن التحول الاجتماعى ليستمر فى وجهته السليمة ما لم يكن هناك وضوح فى مقومات التنمية لدى عبد الناصر ورفاقه، فإذا تتبعنا المراحل التى مرت بالتجربة التنموية للثورة اتضح لنا جوانب الثبات فى الأسس والمقومات، والتغير فى الممارسات مع التغير فى الظروف المحلية والبيئة الدولية والأدبيات العالمية، ومدى تأثرها بها وتأثيرها فيها. وهكذا جاءت البداية متفقة مع متطلبات التخلص من الإطار الذى تميز به المجتمع المصرى قبيل الثورة، ومستجيبة لما دعا إليه المختصون فى الداخل والخارج، ليتضح أن استمرار المسيرة رهن بمقدار التغير فى المجتمع والأسس التى يبنى عليها نظامه، مع استمرار التمسك بالمعالم الأساسية للنموذج التنموى الأصيل، وسوف نتتبع مراحل التطور هذه لكى نستخلص من متابعتها المقومات الأساسية التى ظلت راسخة فى قواعد نموذج سرعان ما اتضحت أصالته العلمية والعملية.
أولاً: أوضاع مصر عشية الثورة:
كانت مصر تمثل حالة خاصة من المستعمرات التى نهبها الاستعمار البريطانى، والتى غلب عليها تسخير ظروفها الطبيعية لجعلها موطناً لإنتاج خامات تقوم عليها صناعات عالية القيمة المضافة فى دول المركز، وفى الوقت نفسه تحويلها إلى أسواق لمنتجاتها المصنعة من تلك الخامات، وكان هذا يفرض على المستعمرات نمطاً من الإنتاج قوامه التخصص فى القطاعات الأولية، يدعمه تنظيم اجتماعى وسياسى يعوق ملاحقة التطورات التى تحققت فى مجالات المعرفة الإنتاجية، ويكفل ارتباط التبادل التجارى بالمستعمر على هذا النحو الذى يغيب عنه التكافؤ.
ورغم أن الاستعمار البريطانى اكتفى بوضع مصر تحت الوصاية من خلال الانتداب، مما سمح بوجود أسرة توارثت الحكم فى إطار الخلافة العثمانية، فإنه ما لم يكن ليستمر فى إحكام قبضته دون أن ينشئ له آلية استعمارية مركبة لعبت فيها تلك الأسرة دوراً مهماً، ساندتها فيه تركيبة اجتماعية اهتمت بتوثيق الصلة بالقوى الرأسمالية الخارجية، تاركة للشعب ثالوث " الفقر والجهل والمرض "، وهو ما حرمه من المشاركة فى شئونه السياسية، وفى التمتع بثمار ناتجه الاقتصادى، وباعد بينه وبين المستوى الذى حققته جاليات أجنبية فى ظل امتيازات منحتها إياها الإمبراطورية العثمانية. وهكذا شاركت مصر العديد من الدول حديثة الاستقلال الحاجة إلى تصويب الهيكل المشوه للعلاقات الدولية، ودعم التحرر السياسى بتحرر اقتصادى يفك الروابط الاستعمارية التى فرضت تخلفاً اقتصادياً وتبعية خارجية، يستحيل إحراز تقدم اقتصادها بدون إزالتها. وكان المعنى الواضح لهذا المنحى الفكرى أن الشرط اللازم والكافى لتحقيق التنمية هو الاستقلال السياسى، وأن التركيبة الاجتماعية الداخلية القائمة على سيطرة الإقطاع ورأس المال لم يكن لها شأن بالتخلف أو التنمية.غير أن المشكلة التى تميزت بها مصر هى ذلك الفساد فى التركيبة الاجتماعية، الذى جعل المجتمع عاجزاً عن إقامة قاعدة إنتاجية صلبة تفى بالاحتياجات الأساسية للمواطنين، وغير قادر على إفراز نخبة سياسية تدرك حقيقة عملية التحرر، وما تتطلبه من إزالة الأواصر الاجتماعية بالمستعمر؛ لأنها كانت أساساً وليدة تلك الأواصر. وفى الدراسة الموسوعية التى أجراها فى نهاية السبعينات الاقتصادى العربى المعروف يوسف صايغ حول اقتصاديات العالم العربى - التنمية منذ العام 1945 "، أشار فى الفصل المتعلق بمصر إلى أنها كانت ترزح تحت وطأة ثلاثة أعداء: الفقر والجهل والمرض، هم أقسى وأكثر تجذراً من الاحتلال البريطانى، الذى انتهى فى عام 1955، وأنها أدركت مثل كثير من البلدان النامية فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أن إزاحة المستعمر والتحرر من كابوسه أسهل بكثير من التخلص من الأمراض الاجتماعية/الثقافية والاقتصادية، وأن الحصول على التحرر السياسى أبسط بكثير من تحقيق التحرر من القيود الاجتماعية/الثقافية والاقتصادية.
أما فى حالة مصر الخاصة فقد تحالف الحكام، والمستعمرون، والمصالح الاجتماعية التى كان يحرسها ويدافع عنها جاليات بريطانية وأوروبية أخرى ومشرقية؛ تحالفت جميعاً وشكلت شبكة متماسكة من العلاقات مع عدد من السياسيين المصريين النافذين، وبعض المجموعات ذات الامتياز، بشكل جدير بالتحليل الماركسى، وما يتضمنه من إدانة قاسية للاستغلال ". وأوضح أن هذا التحالف - قديم العهد - ظل متصلاً منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر على الأقل، وامتدت خيوط شباكه حتى شملت كل القطاعات تقريباً، بما فى ذلك ملكية الأرض، والعمليات فيها، واستصلاحها، وتنميتها، ثم الأعمال الفندقية، والتجارة والأعمال المصرفية، وتمويل محصول القطن وحلجه وتصديره، ثم المرافق العامة، وحتى الصحافة. ثم خلص من ذلك إلى أنه " وبالتأكيد ليس هناك فى المشرق العربى ولا فى أى مكان من العالم العربى، تمكن مثل هذا التحالف أن يصل إلى مثل هذه القوة وهذا النفوذ، بحيث كان يحظى بمساندة بعض المواطنين الذين يحتلون مراكز عالية ".
وللتدليل على هذا التحالف قام يوسف صايغ بما سبقه إليه الاقتصادى شارل عيساوى من مراجعة لأسماء أعضاء مجالس الشركات فى كتاب " دليل الشركات " لسنة 1945 و 1946، فاكتشف أن الأسماء العربية المصرية الصرف لم تتجاوز 15 % من المجموع، وكان الرأسماليون الوطنيون فى الغالب شركاءً صغاراً فى المشاريع الكبيرة، واستنتج من ذلك أن مثل هذه الظاهرة ما كانت لتستمر لعدة أجيال لولا حماية النظام السياسى، وهو لم يكن يقوم بذلك لولا النصيب الذى كان يتلقاه من هذه الاستغلالات المربحة.
وأثار هذا مقاومة طبقة وطنية جديدة، حصلت لنفسها على نصيب من الغنيمة، وسارع القصر إلى إفسادها بمنح الألقاب والأراضى والأموال، بحيث ندر وجود سياسى قوى لا يحمل ثروة كبيرة. وكان التباين الشديد فى توزيع ملكية الأرض من أبرز ظواهر الخلل الاجتماعى، حيث تركزت الملكية فى أيد قليلة، بينما كانت الغالبية فى الريف من المعدمين أو من أصحاب الملكيات متناهية الصغر. وبسبب ضعف القاعدة الصناعية لم تتكون فى الحضر طبقة عمالية كبيرة، وحدث تكالب على الوظائف الحكومية زهيدة الأجر، بحيث كان الجميع حريص على وظيفته، لا يستطيع أن يشكل أداة للضغط من أجل الإصلاح. ووجد أصحاب النفوذ فى هذا فرصة لإقامة ديمقراطية مظهرية، تعود بهم إلى كراسى الحكم، ليواصلوا تشكيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية على نحو يكفل استمرار هيمنتهم. ورغم اعتراف يوسف صايغ بأن مصر لم تكن منفردة بهذه الظواهر، إلا أنه لاحظ أنها ظهرت فيها بشكل مضخم، اتخذ شكل حلقة مستديرة شريرة لم يكن بالإمكان كسرها بواسطة إصلاحات متواضعة من داخل النظام، بل كان لا بد من ثورة تغير وجه النظام بالكامل.
ثانياً: الفكر السائد بالنسبة للتنمية:
حينما واجه المجتمع الدولى ممثلاً فى الأمم المتحدة مشكلة التنمية، قاربها من وجهة نظر القضاء على البطالة، ونقص التشغيل والسعى إلى تحقيق التوظيف الكامل، فكان أن جرى إعداد تقريرين أحدهما فى 1949 بالنسبة للدول المتقدمة، والثانى فى 1951 بعنوان " إجراءات التنمية الاقتصادية للبلدان المتخلفة "، أعده أربعة من كبار أساتذة الاقتصاد من شيلى، والهند، ومانشستر، وشيكاجو، كان من بينهم الاقتصادى الشهير آرثر لويس صاحب إحدى المدارس الرائدة فى التنمية، ورأس الفريق جورج حكيم ممثل لبنان لدى المنظمة الدولية. وكان أول ما أثاره هذا الفريق فى تقريره صعوبة تعريف المقصود " بالدول المتخلفة "، وهنا نجد أنهم لم يأخذوا بالتعاريف التى بدأت تجد طريقها إلى أدبيات الدول النامية، بل لجئوا إلى حل اجتهادى اعترفوا بقصوره؛ وهو أن البلدان المتخلفة هى تلك التى ينخفض فيها الدخل الحقيقى للفرد بالقياس بمتوسط الدول المتقدمة فى أستراليا، وأوروبا الغربية، وكندا، والولايات المتحدة؛ أى أنها فى الواقع " بلدان فقيرة ".
وقد أوضح التقرير أن قضية التوظيف فى هذه البلدان تقتضى تحقيق تنمية اقتصادية، ومن ثم كان الاهتمام بالإجراءات التى تحقق مثل هذه التنمية، وضرورة تحقيق الشروط الأولية للتنمية، باعتبارها نبتاً لا يزدهر إلا فى بيئة صالحة، فإذا توفرت هذه البيئة أمكن بلوغ التنمية عن طريق عدد من الإجراءات الإدارية التى تتيح استخدام التكنولوجيا الحديثة، واستثمار رؤوس الأموال بما يتيح رفع الدخل القومى، شريطة الحد من الآثار السلبية للنمو السريع للسكان على نصيب الفرد منه. ونظراً لأن هذه الأمور لا تحدث بصورة تلقائية، فإن التقرير دعا الدول المتخلفة إلى القيام بتخطيط فعال ومن ثم تعرض التقرير لقضايا التخطيط وأساليبه، ونظراً لما يحتاجه الرفع الملموس للدخل من موارد قد تعجز الدول النامية عن تدبيرها؛ دعا التقرير الدول المتقدمة إلى تعزيز تلك الموارد عن طريق القروض، والمنح، والمعونة الفنية، إضافة إلى العمل على تصحيح شروط التبادل التجارى.وهكذا بقيت قضية كنه التخلف ومسبباته مستبعدة من صلب الحوار فى الأدبيات الصادرة عن الفكر الغربى الذى كانت له السيطرة على المجتمع الدولى، وذلك فى محاولة لتبرئة الدول الاستعمارية مما اتهمها به مفكرون من العالم الثالث، ولا سيما أمريكا اللاتينية، من مسئوليتها الفعلية عما أصاب مستعمراتها – السابقة - من تخلف، بسبب ما فرضته على اقتصاداتها من تبعية. ولعل خير تعبير عن هذا الرأى هو ما جاء على لسان الأستاذ / وهيب مسيحة - رئيس قسم الاقتصاد فى كلية التجارة بجامعة القاهرة - فى محاضرة بعنوان " التنمية الاقتصادية فى ظل الرأسمالية "، ألقاها فى مايو 1957 ضمن البرنامج الثقافى للجنة التخطيط القومى، والتى نشرت كوثيقة رقم (14) من " رسائل فى التخطيط القومى ".
فقد شرح عوامل ضعف اقتصادات المستعمرات، وأرجعها إلى تبعية هذه الاقتصادات للدول الرأسمالية المستعمرة التى فرضت عليها التخصص فى المواد الأولية والغذائية، ومن ثم طبقت عليها احتكاراً مزدوجاً: فهى تحتكر إنتاج السلع الصناعية وتصديرها إليها، وهى تحتكر شراء منتجاتها الأولية، ومن ثم إضعاف دخلها، وفى أواخر حديثه أشار إلى أنه سوف يتجاوز ما التزم به من وصف البلدان المعنية بالتنمية بأنها بلاد تابعة أو بلاد ذات اقتصاد أوَّلى، لمجرد التمشى مع العرف الحديث الذى يصفها بأنها بلاد متخلفة.
وهكذا نفى أن يكون التخلف وليد عوامل داخلية عرقلت نمو تلك الاقتصادات، وأكد أن هذا التخلف لم يكن إلا النتيجة المحتومة للتبعية، ولم يكن إلا وليداً شرعياً لذلك الطابع من الاقتصاد، الذى لم يخرج عن إطار الإنتاج الأوَّلى، إنتاج الخامات والمواد الأولية على اختلاف ألوانها وأشكالها، ومن ثم باتت التنمية تتوقف على توفير الكفاءات العاملة فى قطاع الإدارة العامة، وفى الأجهزة العاملة فى نطاق السوق الحرة، وتخليصها مما فرض عليها من قيود خارجية، ليتجه الإنتاج وجهة سليمة تحقق التقدم والازدهار.وحينما حصلت المناطق المتخلفة على استقلالها أصبحت الرسالة الأساسية لأنظمة الحكم الوطنية هى تحقيق التقدم والتنمية، مما جعل لمصطلح التنمية موقعاً متميزاً فى البرامج الوطنية، بينما انشغلت الدول المتقدمة بتحقيق نمو لاقتصادياتها يعوضها عما فقدته بسبب الحرب العالمية الطاحنة، ومرة أخرى عادت دول المركز لتبسط ظلالها على ساحة الفكر التنموى، فإذا القضية تتحول إلى توفير موارد للاستثمار فى مشروعات إنتاجية تخلق فرص عمل جديدة، وتوفر إنتاجاً يرفع من مستويات الشعوب.
وهكذا روج الفكر الرأسمالى السائد والذى سلم به الأستاذ مسيحة فى تحليله سالف الذكر، لنمط يحيل التنمية إلى عملية تطوير اقتصادى على النحو التالى:
- الاستعمار أضر باقتصادات المستعمرات، فالاستقلال السياسى يمكنها من تحرير تلك الاقتصادات من التبعية، ومن ثم يمكنها من النهوض باقتصاداتها لصالح مواطنيها، فهو الشرط اللازم والكافى للتنمية.- التخصص فى المواد الأولية المترتب على ذلك أدى إلى انخفاض الدخل، من ثم فالتصنيع هو السبيل لرفع الدخل، وكسر احتكار الدول الصناعية، فالتقدم هو أن تضارع الدول الساعية إليه سابقاتها إلى التصنيع.
- انخفاض الدخل والسياسات الفاسدة تنقص المدخرات، باعتبارها الأداة التى تمكن من التوسع فى النشاط. إذ هناك حاجة لتجميع المدخرات؛ وتلعب الحكومة دوراً محفزاً، ولكن ليس بديلاً للاستثمار الخاص.
- وبسبب محدودية المدخرات، وندرة رجال الأعمال (المنظمين) يجوز للحكومة أن تسهم فى النشاط الاقتصادى، ولكن بعيداً عن الروتين الحكومى، وعلى أن تتخلص منه فى أقرب فرصة لتعيده إلى مكانه الأصيل وهو القطاع الخاص.
- ونظراً لأن البدء من دخل منخفض يجعل المدخرات المحلية متواضعة، فهناك ضرورة للاعتماد على رأس المال الأجنبى، خاصة وأنه أيسر السبل إلى تحصيل المعرفة الفنية الغائبة.
ثالثاً: تصويب التنظيم المجتمعى كأساس للتنمية:وإذا كان ما تقدم هو النموذج التنموى المطروح على الساحة، فإن موقف ثورة يوليو 1952 منه كان عدم التسليم بأن الثورة تقف عند حد تحقيق الاستقلال وإزالة الاستعمار الأجنبى الخارجى، بل كان من الضرورى أيضاً أن يتم القضاء على الخلل السياسى والفساد الاجتماعى فى الداخل، مما اقتضى أن تكـون الثورة ثورتين متلازمتين.
يقول عبد الناصر فى " فلسفة الثورة ":
"أن لكل شعب من شعوب الأرض ثورتان: ثورة سياسية يسترد بها حقه فى حكم نفسه بنفسه من يد طاغية فرض عليه، أو من جيش معتد أقام فى أرضه دون رضاه، وثورة اجتماعية تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد". ومن هنا تقاسمت مبادئ الثورة الستة أوجه الثورتين؛ فعلى الجانب السياسى كانت المبادئ الثلاثة: تحطيم الاستعمار وعملائه من الخونة المصريين، وبناء جيش قوى، وتأسيس نظام ديمقراطى سليم. وعلى الجانب الاجتماعى كانت المبادئ الثلاثة: القضاء على الإقطاع، ووضع حد للاحتكار وسيطرة رأس المال على الدولة، وتأسيس العدالة الاجتماعية. وقد أخذ يوسف صايغ على هذه المبادئ غياب النص على الالتزام بالدفع نحو التنمية الاقتصادية، غير أن ما غاب عنه هو أن حديث التخلف والتنمية كان حديث العهد فى تلك الحقبة، بل كان يمثل بدعة حديثة كما يستشف من الاقتباس سالف الذكر من مقال الأستاذ / وهيب مسيحة.
والواقع أن الفكر التنموى الحديث يأخذ على التنمية منحاها الاقتصادى التجريدى، ويضع فى قاعدة العمل التنموى عملية التنظيم المجتمعى القادر على إزالة رواسب التخلف وتحمل أعباء التنمية، فلم تتوقف قضية التخلف عند حدود ما خلفه تقسيم العمل الدولى من تبادل غير متكافئ أورث الدول المتخلفة فقراً رغم ما قد تكون غنية به من موارد طبيعية وإمكانات تنموية، يكفى للتخلص منه حشد كل الإمكانات الذاتية والدولية لرفع مستوى الدخل، بل لا بد من بناء مجتمع سليم يقوم ببلورة أهداف التنمية، ويدفع الجهاز الحاكم إلى تبنى ما يلزمها من أدوات وسياسات وإجراءات، فلم تكن مسئولية التخلف قاصرة على الجانب الخارجى متمثلاً فى التبعية التى فرضها المستعمر، بل امتدت إلى التحالف غير المقدس بين ذلك الجانب والقوى الداخلية التى شوهت البناء المجتمعى، وقهرت الإرادة الشعبية لصالح المستعمر. فتحقيق مصر نوعاً من الاستقلال السياسى من خلال " معاهدة الشرف والكرامة " عام 1936 لم يقد إلى ما وعد به النظام الحاكم من ازدهار ورفاهية لأبناء الشعب، بل إنه حينما تعرض أهم الصروح الوطنية التى أنشئت فى ظل الاستعمار، وهو بنك مصر، للإفلاس فى 1941؛ تخلى عنه البنك الأهلى الذى كان يقوم بدور البنك المركزى، وحينما تقدمت الدولة لإنقاذه، اشترطت بالمقابل فرض شخصيات ممالئة للاستعمار على مجلس إدارته.كان من الواضح أن اقتلاع المستعمر لا يكفى بمفرده للانطلاق نحو التنمية، وأنه لا بد من تغيير الأسس التى تقوم عليها الدولة لتصبح جديرة بأن تعتبر دولة وطنية، كان لا بد أولاً من إزالة القوى التى استبدت بمصير عامة الشعب، والتى كانت مصالحها تقتضى استمرار علاقات التبعية الاقتصادية والثقافية بالمركز الاستعمارى، وكان لا بد أن يسود هذا التنظيم الاجتماعى عدالة اجتماعية توازن بين الحقوق والواجبات، وهو ما تطلب العمل على تذويب الفوارق بين الطبقات، حتى يستقر الأمر للثورة الاجتماعية على نحو سليم. ومن هنا كان ما تفرزه هذه الثــورة من صــراع يقتضى فى تقديــر عبد الناصر العمل على تحقيق الوحدة الوطنية، حتى يتحقق النظام الذى يبدد الفوضى، والاتحاد الذى يقضى على الخلاف، والعمل الذى يزيل الخنوع والتكاسل، ومن هنا كان الشعار الذى اختارته الثورة لنفسها " الاتحاد والنظام والعمل ". وكان عليها أن تبادر إلى إصلاح آثار الماضى ورواسبه، وإزالة العقبات أمام التقدم. فلما جاء الكلام عن المستقبل كان الرأى عند قيادة الثورة أنها لا تملك هذا وحدها، وكان أن اتجهت إلى أهل الرأى والخبرة مطالبة إياهم بالمساهمة فى وضع دستور يصون مقدسات الوطن، وفى رسم الحياة الاقتصادية فى المستقبل على أساس تنظيم رخاء البلد، وضمان لقمة العيش لكل فرد فيه. وهكذا اجتمعت الأركان الثلاثة للتنمية من حيث كونها عملية حضارية شاملة: تنظيم مجتمعى سليم، نظام دستورى قويم، وبناء اقتصادى يكفل الرخاء لجميع أبناء الوطن.
وبعبارة أخرى فإن الثورة أخذت بمفهوم شامل للتنمية، يربط بين عملية التحرر وإعادة بناء المجتمع والدولة والفرد، وبين عملية التنمية. فالقضية لا تقف عند حد تحقيق الاستقلال، وما ينطوى عليه من ضرورة فك روابط التبعية للقوى الرأسمالية المهيمنة، ولا تقتصر على مجرد رفع لمستوى الدخل القومى بما يتيحه ذلك من خلق فرص عمل للجميع، ومستوى معيشة لائق، استحال بلوغه بفعل هيمنة السلطات الاستعمارية، والقوى الممالئة لها، بل كان لا بد من منظور نهضوى حضارى شامل للتنمية. فى 23/2/1953 عبر عبد الناصر عن هذا المنظور بقوله (فى افتتاح مركز هيئة التحرير فى شبين الكوم): " إننا لا نبغى فقط نهضة عمرانية أو صناعية أو عسكرية، ولكننا نبغى نهضة بشرية ". إن استخدامـه مصطلــح " نهضة " بالغ الدلالة، كما أن تركيزه على البعد البشرى سبق ما وصل إليه المجتمع الدولى فى التسعينات من اعتبار أن التنمية هى فى الأساس تنمية بشرية، فالتخلف لا ينطوى فقط على تبعية خارجية، ولا يعنى فقط تدنى المستـــوى الاقتصــادى ســواء فـى البنية التحتية (العمران) أو البنية الفوقية (الصناعة)، بل إن جوهره هو فساد الكيان الاجتماعى ذاته، الأمر الذى يستدعى النهوض بالبشر. ومن هنا فإن مبادئ الثورة لم تقنع بحديث عن تنمية اقتصادية، بل اعتمدت تحقيق المقومات الأساسية لهذه التنمية، وهو ما اقتضى تحطيم الأسس التى قام عليها التنظيم الاجتماعى السابق، وإنشاء تنظيم يقوم على حل الصراع الاجتماعى على أساس من العدالة الاجتماعية التى تكفل تحقيق نهضة بشرية شاملة. ولم يكن من السهل القضاء على الصرح الذى بنته الثورة من هذا المنطلق، إلا عن طريق إحداث خلل اجتماعى تعهدته ثورة الردة ودعاوى الانفتاح خلال عقد السبعينات، أفضى بمصر إلى أن تصبح من بين الدول محدودة التنمية البشرية.
ثالثاً: تطور التجربة التنموية الناصرية:
تشير متابعة التطور الذى تعرضت له التجربة إلى أن الثورة خاضت فى واقع الأمر معركتين: إحداهما معركة التنمية ذاتها، والأخرى معركة صياغة النموذج التنموى الذى تواجه به الفكر السائد عالمياً ومحلياً، ولم يكن من السهل عليها أن تنجح فى المعركتين دون وضوح فى المنطلقات التى اعتمدتها للتنمية، والتى كان لها الفضل فى تطوير النموذج التنموى الذى تعرض للتغير فى الفكر الذى بدأ ينضج فى العالم الثالث، ويؤثر فى النظام العالمى.
وقد تحددت أبعاد التطور فى النموذج التنموى بعاملين رئيسيين: أحدهما مقتضيات استمرار التحول الاجتماعى، وما يتطلبه من توافق فى البنيان المجتمعى ينسجم مع مفهوم النهضة البشرية الذى انطلق منه المشروع الناصرى. والثانى هو التحول فى آليات الاستعمار من الصورة المباشرة إلى الصورة غير المباشرة، التى تستغل فيها الروابط الاقتصادية المادية والمالية، لضمان احتفاظ دول المركز بتفوقها وتمكينها من تعظيم العائد منه على حساب الدول الأقل قدرة والأكثر حاجة. وإذا كانت الثورة وجهت جهودها منذ اليوم الأول نحو تنمية تقوم وفق النموذج السائد فى تلك الفترة، فإن عام 1955 يشكل نقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة متميزة، بينما شهد النصف الأول للستينات تحولاً انتقل بالتجربة إلى الإطار الاشتراكى، لتعقب ذلك فترة مراجعة تدخلت فيها آثار حرب 1967، لتختبر مدى صلابة البنيان الذى استغرق تشييده خمسة عشر عاماً. وسوف نستعرض ملامح هذه المراحل الأربعة بإيجاز فيما يلى:1- مرحلة التخطيط الجزئى 1952 - 1954:تحددت مهام المرحلة الأولى بمهمتين رئيسيتين:
الأولى هى إعادة تنظيم المجتمع وفق الشعارات التى تبنتها الثورة: الاتحاد والنظام والعمل، والتى اقتضت تجميع قوى الشعب فى إطار " جبهة التحرير"، وكان من أهم معالم هذه المهمة إعادة توزيع الثروة العقارية، التى أدى تركز امتلاكها إلى نتيجتين وخيمتين: الأولى سيطرة القلة العاطلة بالوراثة على الغالبية العاملة والمنتجة. والثانية هى أن الملكية العقارية كانت تبتلع المدخرات المحدودة وتحول دون توجهها نحو الاستثمار المنتج. وكان المجتمع المصرى من النماذج الصارخة التى يسوقها الكتاب العالميون على مدى إضرار المضاربة العقارية بمسيرة التنمية. أما المهمة الثانية فهى خلق المناخ الصالح للنهوض باقتصاد البلاد مع كفالة العدالة الاجتماعية، وهذه بدورها انطوت على عمليتين رئيسيتين: الأولى هى تخليص أمور إدارة شئون المجتمع من سيطرة رأس المال،
والثانية هى فتح مجالات الاستثمار أمام المواطنين، وتحدد دور الدولة فى هذا الإطار فى توسيع قاعدة كل من الخدمات والإنتاج، وتدبير ما كان القطاع الخاص عاجزاً عن تدبيره من أساسيات للحياة ودعامات للاقتصاد، مع تهيئة المناخ اللازم لتوليه النشاط الاقتصادى فى غير احتكار، أو سيطرة تتنافى مع متطلبات الحياة الاجتماعية.وتعبر الوثائق التى أعلنتها الثورة منذ قيامها عن أن هدفها الاقتصادى يتركز فى السعى إلى تحقيق حد أدنى لمستوى المعيشة يكفل لأفراد الشعب حياة كريمة، كخطوة أساسية لنظام تسوده العدالة الاجتماعية، ويتاح فيه لكل فرد فرصة متكافئة مع غيره لتنمية شخصيته، ومواهبه، وتحسين مستواه المادى والمعنوى، واقتضى هذا زيادة الطاقة الإنتاجية للبلاد، وإحسان استغلالها، والعمل على تنمية الإنتاج منها، مما يتيح فرص العمل والعيش الكريم لجميع الأفراد.
وفى ضوء هذا الهدف، تعين على العهد الجديد أن ينتهج سياسة للتنمية الاقتصادية تقوم على استغلال كل مصادر الثروة الطبيعية والبشرية فى البلاد، فى شكل خطة شاملة تستند إلى حصر لموارد البلاد وتقييم صحيح لها، بحيث تكون واضحة فى معالمها وأهدافها ووسائل تحقيقها، وتكفل عدم الارتجال أو التعارض بين أجزائها، وتضمن تركز الجهود وتوفير الوقت والمال. وكما أشار عبد الناصر تم الالتجاء إلى أهل الخبرة فى الشئون الاقتصادية، وكان من رأى هؤلاء أنه بينما يجب تجنيب هذه الشئون أعباء البيروقراطية الإدارية، فإن هناك حاجة لأنواع محددة من التدخل والإشراف من جانب الدولة، الأمر الذى يتطلب تعزيز قدرات الأجهزة الإدارية على توفير الخبرات الرفيعة التى تسهم فى صياغة السياسات الاقتصادية على نحو سليم. وكان هذا يتفق والنموذج الذى رشحته هيئة الأمم المتحدة، والذى تبناه عدد من الاقتصاديين المصريين - كما أوضحنا من قبل - واتخذ ذلك تحركاً على عدة جبهات:تشجيع الاستثمار الخاص والأجنبى: جرى فى البداية إصدار عدد من القرارات التى استهدفت القضاء على الإقطاع والاحتكار، كان فى مقدمتها قانون الإصلاح الزراعى، وتنظيم الإيجارات التى أنهت تسلط الملاك على المنتجين والمستأجرين فى الريف والمدينة، وحدَّت بالتالى من المبالغة فى التكالب على الملكية العقارية، وما يترتب على ذلك من عزوف المدخرات الخاصة عن الدخول فى مجالات الإنتاج المثمر، وبخاصة الصناعى، وتحمل مخاطره. وكان من أوائل القرارات التى اتخذت - ولما يمض أسبوع على قيام الثورة - الاستجابة إلى الآراء التى انتقدت قانون الشركات المساهمة (رقم 138 لسنة 1947) وقصوره عن تشجيع المستثمرين الأجانب لحرمانه إياهم من المساهمة بغالبية الملكية، حيث نصت المادة السادسة منه على ألا تزيد نسبة رأس المال الأجنبى فى الشركات المساهمة عن 49 %.
فأصدرت الثورة فى 30 يوليو 1952 المرسوم بقانون رقم 130 لسنة 1952، بتعديل تلك المادة فأصبحت تنص على أنه " يجب تخصيص 49 % على الأقل من أسهم الشركات المساهمة للمصريين عند التأسيس أو زيادة رأس المال، ويجوز زيادة النسبة بقرار من وزير التجارة والصناعة بالنسبة للشركات ذات الصبغة القومية، وإذا لم تُستوفَ النسبة فى مدة لا تقل عن شهر فى حالة الاكتتاب العام جاز تأسيس الشركة دون استيفاء النسبة ". وكان الهدف من هذا التعديل اجتذاب رأس المال الأجنبى للمساهمة فى التنمية الإنتاجية فى الميادين التى تتكلف الكثير، وتتطلب الخبرة وتنطوى على عنصر المخاطرة، كما هو الشأن مثلاً فى حالة الثروة المعدنية، وذلك مع المحافظة على سيادة الدولة والمصلحة القومية العليا.على أن أهم خطوة فى هذا الشأن كانت إصدار القانون رقم 156 فى 2/4/1953، الذى حدد أسلوب معاملة رأس المال الأجنبى، حيث عيّن القنوات الشرعية التى يرد من خلالها (سواء نقداً، أو عيناً، أو فى شكل حقوق معنوية)، وحدد شروط تحويل الأرباح بما لا يتجاوز 10 % بالعملة الأصلية، وأجاز تجاوز هذه النسبة فى حدود ما يحققه الاستثمار من عملة أجنبية. وأجاز إعادة تحويل رأس المال الأجنبى بعد خمس سنوات بما لا يتجاوز خُمس القيمة المسجل بها. وحددت المادة الثانية شرط الانتفاع بهذا القانون أن يوجه رأس المال الأجنبى إلى الاستثمار فى مشروعات للتنمية الاقتصادية؛ (الصناعة- الزراعة - التعدين - القوى المحركة - النقل - السياحة)، وذلك بعد العرض على لجنة خاصة تشكل فى وزارة التجارة والصناعة، ويُمَثل فيها وزارة المالية والاقتصاد، والمجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى، والبنك المركزى، على أن تبُت فى الطلب المقدم لها خلال ثلاثة أشهر من تاريخ تقديمه، ويَعتمد وزير التجارة والصناعة قراراتها، وكان فى هذا علاجاً لما استنكره الكتاب الاقتصاديون من أن الإجراءات الحكومية من تشريعية وإدارية قد بلغت من الكثرة والتعقيد الحد الذى يكاد يَحُول دون نجاح أية صناعة؛ فالاختصاصات متنافرة بين المصالح والإدارات بحيث أنه من أجل الحصول على رخصة للتعدين كان يتعين أن يمر الموضوع بنحو عشر مراحل، بل إن طلبات قدِّمت عام 1947 - أى قبل خمس سنوات من قيام الثورة - لم يفصل فيها حتى صدور هذا القانون، ولم تنل إحدى الشركات الصناعية الكبرى التصريح بإقامة مصانعها، إلا بعد انقضاء ربع قرن على ابتدائها فى العمل والإنتاج.من ناحية أخرى وجهت الثورة عنايتها إلى مجال الإصلاح الضريبى حيث لوحظ أن المبالغة فى الضرائب غير المباشرة، لا سيما الرسوم الجمركية، لها آثار سلبية على النمو الاقتصادى، ولذلك صدر القانون رقم 325 لسنة 1952 بتنظيم رد الرسوم الجمركية بأنواعها ورسوم الإنتاج، والاستهلاك، والعوائد الإضافية بأجمعها على المواد الأجنبية التى استخدمت فى صناعة السلع المصدرة إلى الخارج، نظراً لأن كثيراً من المصنوعات المحلية كانت تستخدم فى إنتاجها مواد أولية مستوردة تستحق عليها رسوم جمركية.
ومبالغة فى التسهيل صدر القانون رقم 324 لسنة 1953، بإعفاء المواد الأولية التى يُعيِّنها وزير المالية والاقتصاد، وبعد موافقة مجلس الوزراء، من الرسوم الجمركية بأنواعها ومن رسوم الاستهلاك ومن عوائد الرصيف والبلدية، وكذا إعفاء الأصناف المستوردة لأجل إصلاحها أو تكملة صنعها، ثم إعادة تصديرها. من جهة أخرى تقرر فى فبراير 1954، زيادة الرسوم الجمركية على السلع التى لها مثيل من إنتاج الصناعة المحلية، بهدف الحد من استيراد هذه السلع، وكفالة الحماية اللازمة للصناعة المحلية بالقدر الذى لا يضر بمصالح المستهلكين. وهكذا حرصت الثورة على إعطاء القطاع الخاص أسباب الحماية المناسبة، وما يلزم لتشجيعه على الاشتغال بالإنتاج الصناعى من أجل التصدير.وامتد استخدام الأداة الضريبية إلى الضرائب المباشرة، فصدر القانون رقم 430 فى 3/9/1953 الذى تنطق مذكرته الإيضاحية بالفكر الكامـن خلفه: " عندما أصدر المشرع المصرى القانون رقم 14 لسنة 1939 - عقب إلغاء الامتيازات الأجنبية فى 1937- بفرض ضريبة على رؤوس الأموال المنقولة وعلى الأرباح التجارية والصناعية وعلى كسب العمل؛ هدف إلى تحقيق غرضين: أولهما تحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين والمستوطنين، وثانيهما تدبير موارد جديدة لتمكين البلاد من القيام بأعبائها وبما تقتضيه ضرورة التوسع فى الإنفاق على ترقية الشئون العمرانية، وإصلاح المرافق الاقتصادية والاجتماعية.
ونظراً لأنه خليق بمصر الناهضة، وفى مقدمة أهدافها رفع مستوى الإنتاج القومى، ألا تغفل أمر مشروعات التنمية الاقتصادية بعد أن أصبح غير كاف الاعتماد على الخزانة العامة وحدها فى تمويل وتنفيذ هذه المشروعات الحيوية، وتقضى الحكمة فى هذا الشأن ضرورة الاعتماد على الانتفاع برؤوس الأموال المصرية والأجنبية، والعمل على اجتذابها، وتوظيف الأموال الفائضة والمدخرة واستثمارها فى مشروعات التنمية الاقتصادية لخلق صناعات جديدة، والنهوض بالصناعات القائمة، ورفع مستواها، وزيادة إنتاجها، وبذلك يتحقق مقصد البلاد الأسمى؛ وهو زيادة الدخل القومى وتنميته. ولا يخفى أن زيادة الإنتاج من جميع نواحيه هى السبيل الذى يتيح للحكومة زيادة دخلها وبالتالى زيادة قدرتها على الإنفاق، الأمر الذى يؤدى إلى رفع مستوى معيشة الشعب ".وهكذا تضمن القانون المذكور إعفاءات من أداء الضريبة أملاً فى زيادة الإنتاج ودعم الاقتصاد القومى، فأعفى شركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم التى يكون غرضها لازماً للتنمية، سواء عن طريق الصناعة، أو التعدين، أو القوى المحركة، أو الفنادق، أو استصلاح الأراضى البور، حيث يسرى الإعفاء من الضريبة على الأرباح التجارية والصناعية والضريبة على القيم المنقولة لمدة سبع سنوات، سواء عند إنشاء هذه الشركات، ولمدة خمس سنوات بعد سنتين من زيادة رأسمالها باكتتاب نقدى، فى حدود نسبة الزيادة، أما الشركات القائمة فتعفَى من نصف ضريبة الأرباح على أرباحها السنوية غير الموزعة ابتداءً من أول سنة مالية تختتم بعد صدور القانون (تشجيعاً لها على الادخار بغرض التوسع). وتتقرر هذه الإعفاءات بقرار من وزير المالية والاقتصاد بناء على دراسة من لجنة فى الوزارة تمثل فيها؛ وزارة التجارة، والصناعة، والمجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى.ثم اتجهت الثورة إلى تنظيم الشركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم؛ لتدارك نواحى النقص التى لوحظت فى قانون التجارة، واستحداث نوع جديد من الشركات كان من عوامل نمو الاستثمار فى الدول الغربية، هو الشركات ذات المسئولية المحدودة، وذلك بإصدار قانون الشركات العام فى 16/1/1954، وهو القانون رقم 26 لسنة 1954 (المعدل بالقانون رقم 155 فى مارس 1955 لتلافى بعض الثغرات التى ظهرت خلال التطبيق).
واستهدف هذا القانون تحقيق توازن عادل بين مبدأ التيسير على المتعاملين والحرية الاقتصادية، ومبدأ حماية حقوق المدخرين لحثهم على الإقبال على الاستثمار. فمن ناحية جرى تبسيط إجراءات تأسيس الشركات، ومن ناحية أخرى تضمّن القانون أحكاماً تكفل جدية نهج الإدارة، واستقامة أساليبها دون الحد من حرية القائمين عليها فى حدود حرصهم على مصلحة الشركات ذاتها، كما تضمَّن نصوصاً تتعلق بالتفتيش على الشركات، وأخرى تقرر عقوبات توقع عندما يجاوز الانحراف الحد المألوف ويبلغ حد الجريمة، وعملاً على دعم ديمقراطية رأس المال و " توسيع قاعدة الملكية " خُفِّض الحد الأدنى لقيمة السهم فى الشركات المساهمة إلى جنيهين بدلاً من أربعة جنيهات، كما وضعت حدود لحصص التأسيس ولتقييم الحصص العينية، تفادياً لإساءة استغلالها. وتقرر أيضاً تجنيب 5 % على الأقل من صافى الربح كاحتياطى. ونظم القانون عملية الاقتراض حيث نص على عدم إصدار سندات بأكثر من رأس المال المدفوع، بشرط سداد رأس المال كله (باستثناءات معينة). وتنطبق قواعد مماثلة على شركات التوصية بالأسهم، مع النص على قواعد خاصة للإدارة، وعلى إنشاء مجلس للمراقبة. ثم خَصص القانون فصله الثانى لتنظيم الشركات ذات المسئولية المحدودة، مع حظر اشتغالها بأعمال البنوك أو الادخار أو تلقى الودائع أو استثمار الأموال لحساب الغير، واشترط وجود مجلس مراقبة إذا زاد عدد الشركاء على عشرة.
ولم يكن السعى إلى تشجيع الاستثمار وتنظيمه يعنى الاستسلام لسيطرة الرأسماليين؛ لذلك حظر القانون الجمع بين عضوية مجلس إدارة أى بنك وأى شركة أخرى – بنكاً أو خلافه – من شركات الائتمان، كما حدد العدد الأقصى لعضوية الشركات بست شركات، واشترط ألا يزيد سن أعضاء مجلس الإدارة على 60 سنة إلا بشروط خاصة بالنسبة للأعضاء المنتدبين، وجعل الحد الأعلى لما يحصِّله أعضاء مجلس الإدارة من مكافآت 10 % من الربح النهائى، بعد توزيع 5 % على المساهمين، إلا إذا كانت المكافأة فى شكل راتب مقطوع بشرط ألا يتجاوز 600 جنيه فى السنة.على أن تعبئة المدخرات الوطنية وتوجيهها نحو الاستثمارات المنتجة ظل محدوداً؛ بسبب ضعف سوق الأوراق المالية التى طغت عليها الاضطرابات فى النظام النقدى، وما شهدته الأربعينات من تضخم مستمر، وبدأ المواطنون خلال فترة الحرب العالمية، ثم حرب فلسطين فى اقتناء أوراق مالية، ولكن الغالبية ظلت فى يد عناصر أجنبية. كما أن المضاربات فى سوق القطن كانت تجتذب معظم المعاملات، حتى أن النشاط الذى شهدته سوق الأوراق المالية أثناء الإغلاق المؤقت لسوق القطن تراجع سريعاً فى عامى 1950 و1951، فانخفض رقم البنك الأهلى القياسى لأسعار الأسهم ووصل فى يوليو 1952 إلى 39.2 % من قيمته فى ديسمبر 1946، وساهم فى ذلك اتجاه الاستثمارات أيضاً إلى المضاربة فى الاستيراد، والخوف من المنافسة الأجنبية، دون أن تحرك حكومات تلك الفترة ساكناً لمعالجة الموقف، وافتقد السوق التنظيم الذى يصون حقوق المستثمرين؛ حيث كانت بعض الصفقات تتم بين الأشخاص بعقد عرفى أو بتظهير فاتورة الشراء، فأصدرت الثورة القانون رقم 329 لسنة 1953 بعدم جواز التعامل فى الأوراق المالية، سواء كانت مقيدة بجدول الأسعار الرسمى أو خارجه، إلا عن طريق السماسرة المقيدين بالبورصة، ويكون السمسار الذى تتم عن طريقه الصفقة ضامناً لسلامة البيع، واستمر الاهتمام بتنظيم هذه السوق فى المرحلة التالية، كما سنرى فيما بعد.
مجلس الإنتاج: دفعت الحاجة لمعالجة الاختلالات العديدة التى تعرض لها الاقتصاد؛ بسبب تراكمات الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من تطورات عالمية إلى إنشاء مجلس استشارى اقتصادى أعلى فى 18/12/1950، بغرض المساهمة فى رسم سياسات اقتصادية كلية، غير أن الثورة سرعان ما تبينت أن الأمر يتجاوز صياغة التوصيات بسياسات تحفز النشاط الاقتصادى إلى بحث ودراسة المشروعات الاقتصادية التى يكون من شأنها تنمية الإنتاج القومى فى مختلف نواحيه، فألغت ذلك المجلس وأنشأت بدلاً منه " المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى " فى أكتوبر 1952 بموجب القانون رقم 213 لسنة 1952 (المعدَّل بالمرسومين بقانون رقم 230/1952 و345/1952، والقانون رقم 437/1955) كهيئة مستقلة لها شخصية اعتبارية، ويلحق برئاسة مجلس الوزراء، ورئيسه الأعلى رئيس مجلس الوزراء، ويتألف من مجموعة من الوزراء ذوى الاتصال المباشر بمشروعات التنمية، وكذلك بعض الفنيين ورجال الأعمال غير المدفوعين بمصالح خاصة، وأوكلت للمجلس مهمة القيام بالدراسات اللازمة بما ينتهى خلال ما لا يتجاوز عاماً واحداً إلى وضع " برنامج اقتصادى للتنمية " يُتوخى فيه تقديم المشروعات الأكثر إنتاجاً، والأيسر تنفيذاً، والأقل كلفة، مع مراعاة أهميتها للاقتصاد القومى، ومع ملاحظة إمكان تنفيذها على مراحل سنوية أقصاها ثلاث سنوات، ويقوم بصفة مستعجلة بدراسة مسائل توفير البترول، والسكر، والمنتجات الحيوانية، والأسمدة إضافة إلى القمح، ويشرف المجلس على تنفيذ المشروعات والبرامج التى يقدمها بعد أن يقرها مجلس الوزراء، وحُررت إجراءاته من القواعد الروتينية، وسُمح له بالتصرف وفقاً لقواعد تقرها الدولة، وتتعدد الصور التى يتم بها التنفيذ:- فقد تتولى التنفيذ جهات حكومية، فتخصص للمشروع ميزانية خاصة تعتمد بقانون، وللمجلس حق الاتصال المباشر بالموظفين القائمين بالتنفيذ ليطمئن على حسن سير العمل.- وللمجلس أن يقوم بالتنفيذ مباشرة، وله أن يحصل على الأموال اللازمة للتنفيذ عن طريق اعتمادات تمنحها له الحكومة، كما يجوز له عقد قروض محلية، أو أجنبية، أو دولية، وإصدار سندات فى مصر أو الخارج بضمان من الحكومة.
- وله أن يدعو لإقامة شركات لتنفيذ المشروعات التى ينشئها بواسطة الغير، وأن يكتتب فى أسهمها، ويجوز طلب ضمان الحكومة لحد أدنى لريع الأسهم، أو تقديم مساعدات أخرى للشركات، كإعفاءات من الجمارك وبعض الضرائب.
- وله أن ينشئ المصانع التجريبية وغيرها، وإدارتها منفرداً أو بالاشتراك مع شركات، أو هيئات، أو أفراد.
- كما يقوم بتقديم مساعدات فنية للشركات والأفراد، وتزويدهم بالمعلومات المستخلصة من البحوث التى يجريها، تشجيعاً لهم على القيام بمشروعات اقتصادية نافعة.وقد قام المجلس بدور هام فى مختلف مشروعات التنمية الاقتصادية التى تمت خلال السنوات الخمس الأولى للثورة فى مجالات الرى، والتوسع الزراعى، وتكرير البترول، وأنابيب البترول، وتنمية الثروة المعدنية، والمواصلات. وكان من أهم المشروعات التى درسها المجلس مشروع السد العالى، ويرجع إليه الفضل فى وضع مشروعات الحديد والصلب، والشركة المصرية المساهمة لمهمات السكك الحديدية، ومصنع السماد (شركة الصناعات الكيمائية المصرية)، وكهربة خزان أسوان، وتشجيع إنشاء شركات لصناعة الأسمنت من جلخ الحديد (الشركة القومية لإنتاج الأسمنت)، والكابلات (شركة الكابلات الكهربائية المصرية)، والورق، وثلاث شركات للبطاريات، والإطارات، والجوت، ومنتجات الخزف والصينى (الشركة العامة لمنتجات الخزف والصينى) وغيرها. واستحدثت حكومة الثورة مبدأ جديداً هو تخصيص نسبة مئوية من نفقات المشروعات للأبحاث والدراسات، وقد تمكن المجلس من استخدام هذه الموارد فى إجراء عدد من الدراسات الهامة، شملت:
مشروع حصر وتقويم الاحتياجات والموارد الصناعية
- أبحاث الهيئة الدائمة لاستصلاح الأراضى
- صناعة السيارات
- صوامع الغلال
- المقننات المائية
- الصرف والمياه الجوفية
- المواصفات الهندسية
- زيوت التشحيم واستخراج الكحول
- الحوض الجاف، وصوامع الغلال، والترسانة البحرية، وصناعة الورق. كما أعد المجلس مشروعاً لكهربة القطر المصرى على مدى عشرين عاماً، ولم تكن مشروعات المجلس، التى غلب عليها الطابع المختلط الذى يجمع بين مساهمة الحكومة ومساهمات الأفراد؛ هى المشروعات الوحيدة التى تبنتها الثورة، فقد حدث توسع كبير فى " المصانع الحربية " المملوكة بالكامل للدولة، والتى دخلت فيما بعد ميادين الإنتاج المدنى إلى جانب الإنتاج الحربى، لتفتح الطريق أمام الدخول فى الصناعات المعدنية والهندسية المتطورة، وكانت تلك المصانع مدرسة هامة للكادر الفنى، أسهمت فى تدريب عدد كبير نسبياً من المصريين على المسئوليات الفنية والإدارية العليا فى مختلف مجالات الإنتاج.تشكيل الأداة اللازمة للتخطيط والتنسيق: بالإضافة إلى إقامة مجلس الإنتاج ليعنى بأمور كانت تعتبر خارج نطاق الاهتمام التقليدى للدولة، أنشئت مجالس ولجان مشتركة لمعالجة التداخل القائم بين المشروعات المتعددة الجوانب، غير أنه سرعان ما كثر عددها وتضاربت اختصاصاتها دون أن تعالج المسألة علاجاً حاسماً، كما أن امتداد فترات تنفيذ المشروعات لفترات طويلة عرَّضها إلى تعديلات مرتجلة خلال محاولات تحقيق التوازن السنوى للميزانية العامة، الأمر الذى دعا إلى تكليف الأجهزة المختلفة بوضع برامج خمسية للأنشطة التى تشرف عليها، وحتى لا تأتى المشروعات مرتجلة ولا متعارضة تقرر تشكيل أداة للتخطيط والتنسيق؛ لتفادى الإسراف فى الإنفاق، وتوفير الجهد والمال ولتعظيم العائد. لذلك أصدر مجلس الوزراء فى 31/12/1952 قراراً يستهدف إنشاء الأداة المشار إليها، أشير فيه إلى أن " نظام التخطيط والتنسيق تأخذ به الآن كل الدول المتقدمة على اختلاف مذاهبها السياسية، وأحوالها الاجتماعية والاقتصادية بعد أن ثبت لها أن النظام الاعتباطى فى أمور الدولة قد أفسد شئونها، وأضعف اقتصاداتها، وأوجد فيها الكثير من المشاكل والمفاسد ". وحددت مهام هذه الأداة بدراسة المشروعات التى تقدم إليها وتدقيق بياناتها، واقتراح مشروعات جديدة، ووضع خطط لتنفيذها، والتنسيق فيما بينها، ومتابعة تنفيذ المشروعات، واقتراح ما يلزم لها من تعديلات.
وتكونت هذه الأداة من عدد من الأجهزة المترابطة:
- بالنسبة للوزارات الاقتصادية: المالية، والأشغال، والزراعة، والتجارة والصناعة، يجرى التنسيق من خلال إقامة علاقة مع مجلس الإنتاج، حتى تأتى مشروعاتها متناسقة مع باقى المشروعات.
- بالنسبة لوزارات الخدمات العامة: الصحة، والمعارف، والشئون الاجتماعية، والمواصلات، والشئون البلدية والقروية، والتموين، تنشأ بكل منها لجنة للتخطيط والتنسيق برئاسة الوزير وعضوية عشرة أفراد، وتلحق بها سكرتارية فنية من الوزارة، وتقوم باستعراض مختلف أوجه نشاط الوزارة من حيث؛ المشروعات، والخدمات القائمة، وخطوات تنفيذها، واقتراح وسائل الإصلاح لما قد يظهر من عيوب، وتقوم بالتنسيق مع باقى اللجان من خلال الهيئة العليا للتنسيق، وتضع اللجنة برنامج السنوات الخمس للوزارة وتتابع تنفيذه.
- وبالنسبة لوزارات الأمن والسيادة وهى: الداخلية، والخارجية، والعدل، والحربية، وفى ظل ما يلزم لضمان ما تنطوى عليه أعمالها من سرية، تنشأ لجنتان للقضاء والأمن الداخلى، ويعين بالهيئة العليا للتنسيق ممثلون لوزارات الخارجية، والحربية، والبحرية، والإرشاد القومى.- ويتولى تنسيق مشروعات الميزانية السنوية وبرامج السنوات الخمس للوزارات المختلفة الهيئة العليا للتخطيط والتنسيق التى تنشأ برئاسة رئيس مجلس الوزراء، وعضوية وزير المالية، ومقررى اللجان سالفة الذكر، وممثلى الوزارات السيادية، وثلاثة أعضاء يمثلون المجلس الدائم للإنتاج.
- ويلحق بالهيئة مكتب فنى دائم يتولى التحضير لأعمال الهيئة فى مجالات الميزانية والمالية العامة، والإدارة العامة، وشئون التخطيط، كما يقوم بشئون التعبئة العلمية بالتعاون مع مجلس فؤاد الأهلى للبحث العلمى.وتقوم سكرتاريات اللجان، ومجلس الإنتاج، والمكتب الفنى بإجراء الدراسات وجمع المعلومات، ثم تتولى اللجان ومجلس الإنتاج تخطيط المشروعات، وتنسيقها، وتحديد أولوياتها، وعرضها على الهيئة العليا التى تقوم باستصدار القرارات من الوزارات ومجلس الوزراء.
وكان من الواضح أن هذا التنظيم كان ينصب على المشروعات التى تتولاها أجهزة الدولة، وهو ما كان يقصر عن التخطيط الشامل، ولذا كان الحديث يجرى عن برامج انطلقت من نطاق الموازنات السنوية المتفرقة فى أهدافها إلى برامج خمسية يجرى التنسيق بينها. وفى 10/2/1953 صدر إعلان دستورى نص على تأليف مؤتمر مشترك لضباط قيادة الثورة والوزراء، ينظر فى السياسة العامة للدولة وما يتصل بها من موضوعات، وقد أصدر هذا المجلس فى 3/8/1953 قراراً بتشكيل لجنة تحضيرية من أعضائه، برئاسة جمال عبد الناصر، وسكرتارية د. إبراهيم حلمى عبد الرحمن، تتولى إعداد السياسة العامة للدولة فى الشئون الاجتماعية والاقتصادية، وإبداء الرأى فيما يحال إليها من مسائل عاجلة فى هذه المجالات، ووضع خطة عامة للنهوض الاجتماعى والاقتصادى ذات أجل محدود ومعالم واضحة تبين فيها الوسائل اللازمة لتنفيذها، على أن يتم وضع الخطة فى مدة سنة واحدة.إنشاء المجلس الدائم للخدمات العامة: وفى 17/10/1953، صدر القانون رقم 493 لسنة 1953، الذى أشارت مذكرته الإيضاحية إلى أن الغاية النهائية من زيادة الثروة المادية، وتنفيذ برامج التنمية الاقتصادية، هى الإفادة من هذه الإمكانيات كوسيلة لتحقيق الرفاهية للمواطنين ورفع مستوى المعيشة، وذلك بتوفير الأمن والطمأنينة فى الداخل والخارج، وإقامة العدل بين الناس، وتحسين الصحة والثقافة، وتمكين أسباب التكافل الاجتماعى، والتعاون فى الخير والإصلاح، وتطوير قدرات البشر العقلية والجسدية، ورفع مستوى حياة السكان. وبناءاً عليه أنشئ المجلس كهيئة مستقلة تلحق برئاسة مجلس الوزراء ليرعى ويشرف على النهوض الاجتماعى فى اتجاهاته المختلفة ويـربــط بينها - باعتبارها وسيلة وغاية - وبين برامج التنمية الاقتصادية، وتقرر أن يتولى بحث السياسة العامة، ووضع الخطط الرئيسية للتعليم، والصحة، والعمران والشئون الاجتماعية، مع مراعاة التنسيق بينها وربطها معاً بما يحقق النهوض الاجتماعى. واعتبر المجلس هيئة استشارية لا تكتسب قراراته صفة تنفيذية إلا بموافقة مجلس الوزراء، ويتابع تنفيذ المشروعات بتلقى تقارير دورية، أو تكليف لجان (حيث اعتبرت لجان التخطيط والتنسيق لجاناً تابعة له)، أو أشخاص بإجراء دراسات وبحوث معينة، ثم يقوم بتقدير القيمة الحقيقية للخدمات التى تقدمها الدولة إلى المواطنين فى المجالات المشار إليها، ويبين الوسائل التى تؤدى إلى الوصول بتلك الخدمات إلى الحد الأعلى من الكفاءة والنجاح عن طريق رفع مستوى الإعداد الفنى للمشتغلين بها، أو تنظيم الإدارات المختصة والهيئات الأهلية فى الجهود التى تبذل لرفع المستوى الاجتماعى عامة. ويتشكل المجلس من الوزراء المسئولين عن الخدمات، ومندوب عن وزارة الداخلية (للأمن)، والزراعة (للإرشاد الزراعى)، وسبعة أعضاء خارجيين، أربعة منهم - على الأقل - متفرغون، منهم الرئيس والسكرتير العام.
وعُدل قانون المجلس بإضافة مندوب عن إدارة التعبئة بوزارة الحربية للعناية بشئون القوى البشرية، وعدم تحديد الأعضاء الخارجيين بسبعة، وذلك بالقانون رقم 311 فى 26/5/1954، ويلاحظ أنه كان لإدارة التعبئة ممثل فى مجلس الإنتاج أيضاً.وقد وجد المجلس أن هناك نقصاً خطيراً فى نواحى الخدمات، وأن المشروعات التى أنجزت فى العهود السابقة يشوبها عدم التنسيق، وعدم مراعاة العدالة بين المناطق المختلفة، وعدم مطابقتها لمتطلبات الجهات القائمة بأداء الخدمات، مما جعلها لا تفى بالأغراض المستهدفة لها، فضلاً عن قصورها عن تغطية نواحى هامة؛ كمكافحة الدرن والأمراض المتوطنة، وتوفير مياه الشرب فى الريف، وبناء المساكن والمستشفيات فى مناطق تركز العمال. وكان من أهم أدوات التنسيق إنشاء الوحدات المجمعة، التى راعت تكامل الخدمات فى التجمعات السكانية فى الريف، فضلاً عن حفزها الشباب للعمل فى الريف.1- التوجه نحو التخطيط الشامل خلال النصف الثانى من الخمسينات:رأينا كيف أن الثورة اتجهت مباشرة إلى تحميل الدولة مسئولية النهوض الاجتماعى والاقتصادى، وتحقيق ما يلزم لذلك من إعادة تنظيم للمجتمع، وإنشاء الآليات اللازمة لتخطيط نشاطها؛ سواء فى مجالات الإنتاج أو الخدمات، واتباع السياسات اللازمة لحفز الاستثمار المحلى والأجنبى على التوجه نحو دعم قدرات الاقتصاد القومى، فضلاً عن إيجاد جهاز قادر على صياغة سياسة عامة، اجتماعية واقتصادية، للدولة حرصاً على تحقيق أكبر قدر من التناسق، وتفادى السلبيات التى تترتب على الإجراءات الاعتباطية والمتضاربة. وشهد عام 1955 وما تلاه قدراً كبيراً من الإجراءات والتحولات التى مهدت للانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل النهضة الوطنية.
إنشاء لجنة التخطيط القومى: مع تبلور التوجه نحو التخطيط الشامل، صدر فى 9/3/1955 القانون رقم 141 لسنة 1955 بإنشاء لجنة التخطيط القومى، كلجنة تابعة لمجلس الوزراء، لا تتمتع بشخصية معنوية تجعلها مؤسسة عامة ذات ذمة مالية مستقلة، ويرأسها رئيس مجلس الوزراء، ويختار أعضاؤها من بين الوزراء ونوابهم، وتتولى وضع خطة قومية شاملة للنهوض الاقتصادى والاجتماعى تنفذ فى أمد محدود، تتضمن أهدافاً رئيسية وتوجه نحو الوصول إليها جميع الجهود القومية، حكومية وغير حكومية، وذلك فى برامج ومشروعات منسقة مدروسة، وتحدد الأهداف الرئيسية للخطة القومية، والمدة اللازمة للوصول إليها على أساس الطاقة المالية، والخبرة الفنية، واليد العاملة، وإمكانية التنفيذ والنجاح، وذلك مع مراعاة مقتضيات أمن الدولة وسلامتها فى الداخل والخارج، وبما يتفق والقواعد الاقتصادية، والاجتماعية، والتقاليد القومية.وهكذا بدأت مرحلة جديدة تتميز بالتخطيط القومى الشامل واعتباره عملية مستمرة تبدأ بتحديد الأهداف، ثم وضع إطار عام للخطة، فدراسة المشروعات فى مختلف القطاعات دراسة تفصيلية، والتأكد من اتساق آثارها وتمشيها مع إطار الخطة بما يضمن تحقيق الأهداف الرئيسية، والاستفادة الكاملة من مجمل موارد الدولة فى القطاعين الحكومى العام والقطاع الخاص، بما فى ذلك الموارد المالية الداخلية والخارجية، لتلبية حاجة أنماط الاستهلاك السائدة أو التى يراد تحقيقها، ويتطلب ذلك تدبير احتياجات الخطة من اليد العاملة فى كل مجالات النشاط، وتوفير الخبرة العلمية والمواهب الابتكارية، بما يلزم معه التنسيق بين المشروعات الخدمية واتجاهات التعمير والإنشاء، بما يرفع الكفاءة الإنتاجية للأفراد، وتجرى المفاضلة بين المشروعات على أساس الصلاحية الجماعية لا الفردية، وتعد اللجنة التشريعات والإجراءات، وكذلك السياسات الاقتصادية اللازمة لبلوغ الخطة أهدافها.
تأكيد استقلالية السياسة الخارجية: نجحت الثورة فى إنهاء الاحتلال البريطانى فى عام 1954 الذى شهد أيضاً وقفة حازمة تجاه محاولات الالتفاف عن طريق نظام الأحلاف، حيث تصدت الثورة لمحاولات إعادة بسط السيطرة عن طريق " حلف بغداد "، وحاولت فى الوقت نفسه دعم قدرتها العسكرية لتحقيق هدفها فى بناء جيش وطنى قوى، والوقوف فى وجه العدوان الإسرائيلى، إلا أنها ووجهت برفض من جانب القوى الغربية الساعية إلى إعادة صياغة قواعد عمل الاستعمار، وأدى هذا إلى أن عام 1955 شهد إعادة بناء العلاقات السياسية الخارجية بصورة كانت ذات مغزى بعيد بالنسبة لمسار التنمية ومفاهيمها. فقد قام عبد الناصر مع رفاقه من زعماء دول العالم الثالث فى أفريقيا وآسيا وجنوب أوروبا بإرساء معالم مجموعة عدم الانحياز، التى قررت أن تتخلص مما انطوى عليه محاولات القوى الكبرى احتوائها فى دائرة صراع لا ناقة لها فيه ولا جمل.
وبدأ التجمع الجديد يتجه نحو تخليص العلاقات الاقتصادية الدولية من هيمنة تلك القوى، وتوجيهها بما يخدم قضايا التنمية التى بدت مشتركة بين هذه الدول، وقويت بذلك دعاوى فك الارتباط بالقوى الاستعمارية، وإرساء قواعد الاعتماد على النفس، والدعوة إلى التكامل الاقتصادى الإقليمى كبديل للاندماج المفروض فى الاقتصاد العالمى، الذى تسيطر عليه القوى الكبرى. وجاءت صفقة السلاح التى عقدتها الثورة مع تشيكوسلوفاكيا فى أواخر 1955 لتؤكد سلامة نهج عدم الانحياز، وتجلى إحساس المعسكر الرأسمالى بخطورة هذه الخطوة فى دفع البنك الأهلى العامل تحت سيطرة أجنبية، إلى رفض إقراض الحكومة بدعوى خطر التضخم، رغم أن هذا كان واجبه باعتباره قائماً بدور البنك المركزى. وردت حكومة الثورة بإصدار مجموعة قوانين فى ربيع 1955، نص أحدها على أن يضع البنك تحت تصرف الحكومة ما فى حوزته من عملات أجنبية، وأدخلت تعديلات على قانون الشركات كان من أهمها حظر الجمع بين عضوية مجلس إدارة بنكين، وتحديد عدد الشركات التى يمكن للفرد الواحد الجمع بين عضويتها، وتحديد سن الستين لتقاعد أعضاء مجالس الإدارة؛ حتى يمكن تغذيتها بعناصر جديدة من الرأسمالية الوطنية المعادية للاستعمار.
وحدَّت الحكومة من سيطرة الرأسمالى أحمد عبود؛ بفرض الحراسة على شركتى السكر والتقطير نظير الضرائب المتأخرة عليهما، وأعيد تنظيم الشركتين فى شركة واحدة تملك الحكومة 50 % من رأسمالها. من جهة أخرى تأسست " شركة مصر للتجارة الخارجية " و" الشركة العامة للتجارة الداخلية " بمساهمات من هيئات حكومية ومن بنك مصر، الذى أظهرت إدارته الجديدة استعدادها للتعاون مع الحكومة.وبلغت الأمور الذروة بسحب الولايات المتحدة عرضها السابق بتقديم معونة لتمويل المرحلة الأولى من السد العالى تبلغ 25 مليون جنيه (70 مليون دولار)، ثم تبعها البنك الدولى الذى تخلى عن وعده بتقديم قرض بمبلغ 200 مليون دولار. فى الوقت نفسه ظل رأس المال الأجنبى محجماً عن الاستفادة من جميع التيسيرات التى منحت له، والتى ذكرناها من قبل، أما البنوك الأجنبية فإنها إلى جانب عدم سعيها إلى تشجيع تمويل الصناعة؛ كانت تميز الأجانب على المصريين، وهو ما أدى إلى استمرار الخلل الذى شهده عصر ما قبل الثورة، بل إنها بتوجيهات من مراكزها الخارجية قبضت يدها عن تمويل محصول القطن الذى بدأ عقب تأميم القناة فى يوليو 1956، وجاء الرد فى شكل تأميم قناة السويس، وقد تزامن مع تأميم القناة انعقاد اللجان المكلفة بصياغة اتفاقية للوحدة الاقتصادية العربية بناءاً على طلب من اللجنة السياسية للجامعة العربية فى 1954 ثم فى 1956. وهكذا اكتملت منظومة الصيغة الجديدة للتنمية العربية المشتركة، حيث ساد شعور قوى بالدور المحورى للتكامل الاقتصادى الإقليمى فى إنهاء الخلل الذى استمر يعرقل مسار التنمية فى كل من الدول العربية حديثة العهد بالاستقلال، وكان من ثمار هذا الشعور تحول هذا التكامل إلى وحدة اندماجية بين مصر وسوريا فى أوائل 1958، أعقبها اعتماد أول خطة شاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية فى إقليمى الجمهورية العربية المتحدة.إعلان الدستور: رأينا أن عبد الناصر حرص فى بداية عهد الثورة على تكليف المختصين بأمرين هما؛ إعداد دستور للبلاد، وتحقيق نهضة اجتماعية واقتصادية. ففى مجال الدستور أعلن عبد الناصر بصفته رئيساً للجمهورية فى يناير 1956 دستور الشعب باسم الشعب، مفتتحاً إياه بالعبارة التالية: " نحن الشعب المصرى الذى انتزع حقه فى الحرية والحياة، بعد معركة متصلة ضد السيطرة المعتدية من الخارج، والسيطرة المستغلة من الداخل ".
وهكذا جاء الدستور تعبيراً عن إرادة شعبية وتتويجاً لكفاح وطنى، وليس هبة من حاكم، أو مِنَّة من قوى خارجية. وتحددت أهدافه بالأهداف التى من أجلها قامت الثورة وهى؛ القضاء على الاستعمار وأعوانه، والقضاء على الإقطاع، وإنهاء الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة جيش وطنى قوى، وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. وأعلن فى مطلعه أن مصر دولة عربية وأن السيادة للأمة، وأن التضامن الاجتماعى أساس للمجتمع، وأن الاقتصاد القومى ينظَّم وفقاً لخطط مرسومة تراعى فيها مبادئ العدالة الاجتماعية، وتهدف إلى تنمية الإنتاج ورفع مستوى المعيشة، وتعمل الدولة على أن تيسر للمواطنين جميعاً مستوى لائقاً من المعيشة، أساسه تهيئة الغذاء، والسكن، والخدمات الصحية، والثقافية والاجتماعية، أو ما أصبح يعرفه المجتمع الدولى فيما بعد باسم الحاجات الأساسية. وأكد الدستور على حرية النشاط الاقتصادى الخاص، ويكفل القانون التوافق بينه وبين النشاط الاقتصادى العام؛ تحقيقاً للأهداف الاجتماعية ورخاء الشعب، كما نص على أن يستخدم رأس المال فى خدمة الاقتصاد القومى، بما لا يتعارض مع الخير العام للشعب، وعلى أن العدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف العامة، وعند إعلان الوحدة وقيام الجمهورية العربية المتحدة صدر فى دمشق فى 5/3/1958 الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة، متضمناً نفس المبادئ.التمصير وإنشاء المؤسسة الاقتصادية: رغم أن قرار تأميم قناة السويس ضمن لحملة الأسهم قيمة رؤوس أموالهم البالغة 70 مليون جنيه حسب أسعار إقفال 25 يوليو 1956 فى سوق الأوراق المالية بباريس؛ فإن بريطانيا وفرنسا طاش صوابهما وتآمرا مع إسرائيل للعدوان على مصر، وجمدت بريطانيا أرصدة مصر لديها البالغة 107.4 مليون جنيه، وجمدت الولايات المتحدة 20.9 مليون جنيه، وفعلت الشئ نفسه فرنسا، ولو أن الأرصدة فيها كانت محدودة بالقياس بمديونية مصر لها.
وكما رأينا من قبل تخلت البنوك الأجنبية عن تمويل محصول القطن لتحقيق مزيد من الضغط الاقتصادى على البلاد. وتمت مواجهة ذلك بعدد من الإجراءات، ففى 13/1/1957 صدر القانون رقم 20 لسنة 1957 بإنشاء المؤسسة الاقتصادية برأسمال يشمل أنصبة الحكومة فى رؤوس أموال الشركات المساهمة المختلطة القائمة - آنذاك - وعددها 17 شركة ومؤسسة، ورؤوس أموال المؤسسات العامة التى يكون من أغراضها مباشرة النشاط التجارى، أو الصناعى، أو الزراعى، أو العقارى، والتى يصدر بتحديدها قرار من رئيس الجمهورية، واعتبرت أموال المؤسسة أموالاً خاصة. ومن أغراض المؤسسة تنمية الاقتصاد القومى عن طريق النشاط التجارى، والصناعى، والزراعى، والمالى، ووضع سياسة استثمار أموالها وتوجيهها فى المنشآت التى تساهم فيها، وكذلك القيام نيابة عن الحكومة بالتوجيه والإشراف على المؤسسات العامة الأخرى التى يعينها قرار من رئيس الجمهورية. وتلا ذلك القرار الجمهورى رقم 22 لسنة 1957 يقضى بتمصير البنوك بأن تتخذ شكل شركات مساهمة مصرية تكون أسهمها جميعها إسمية ومملوكة دائماً للمصريين، وقامت المؤسسة بإنشاء بنك الإسكندرية الذى اشترى بنك باركليز، كما أدمج بنكا الكريدى ليونيه، والخصم الأهلى الباريسى، وبيعا إلى بنك القاهرة.
وأعطيت البنوك الأجنبية مهلة خمس سنوات لإتمام عملية التمصير، وشارك فى شرائها التجار، والغرف التجارية، والاتحاد العام للغرف التجارية. وروعى فى توزيع البنوك الإنجليزية والفرنسية طبيعة العمليات والأجهزة الفنية المختلفة، ودعم المؤسسة المشترية، والمؤسسات المشتراة لتصبح وحدات اقتصادية تعمل لصالح الاقتصاد القومى.أما القانون الثالث، رقم 23 لسنة 1957، فقد امتد إلى شركات التأمين الأجنبية التى كانت تسيطر على السوق المصرية، وتوجه الأموال للاستثمارات قصيرة الأجل بعيداً عن الاستثمار فى الصناعة المصرية، ونص على أنه لا يجوز تسجيل أية هيئة تأمين إلا إذا كانت متخذة شكل شركة مساهمة مصرية، أسهمها إسمية ومملوكة دائماً للمصريين. وكان لأموال قطاع التأمين دور هام فى توفير موارد للتنمية القومية، وكانت تجربة فرنسا فى تأميم شركات التأمين فيها، وبرنامج حزب العمال المماثل فى بريطانيا؛ مرشداً للحركة فى هذا المجال. وانضم إلى هذه المجموعة القانون رقم 24 لسنة 1957 بحظر مزاولة أعمال الوكالة التجارية إلا لمن يكون اسمه مقيداً فى السجل المعد لذلك بوزارة التجارة، والذى لا يجوز أن يقيد فيه غير المصريين، أو شركات المساهمة المصرية التى تكون أسهمها جميعاً إسمية ومملوكة دائماً للمصريين. وهكذا كسر الاحتكار الأجنبى للوكالات التجارية الذى كان يعوق سعى حكومة الثورة لفتح أسواق جديدة، كالأسواق الآسيوية، والأفريقية، وبلاد الكتلة الشرقية.البرامج القطاعية: بادرت بعض الوزارات بتنفيذ ما نص عليه الدستور من نشاط تخطيطى؛ فقامت وزارة الزراعة بوضع برنامج قطاعى لتطوير الزراعة، ورغم الجهود التى بذلها مجلس الإنتاج، فإن التنمية فى قطاع الصناعة ظلت محدودة، كما أن رأس المال الخاص والأجنبى ظل ضعيفاً رغم التسهيلات العديدة التى أعطيت له، ولذلك قرر عبد الناصر فى يوليو 1956 إنشاء وزارة مستقلة للصناعة - بعد أن كانت جزءاً من وزارة التجارة - وعهد إليها بوضع برنامج خمسى للتنمية الصناعية، أطلق عليه اسم مشروع السنوات الخمس، يتجاوز الجهود التى بذلها مجلس الإنتاج فى الحدود التى عمل بضمنها.
وقامت الوزارة، مستعينة بالخبرات الحكومية والأهلية، بوضع برنامج يتكلف 127.4 مليون جنيه، وينفذ على ثلاث مراحل سنوية، ثم تقرر بعد مراجعته رفع تكلفته إلى حوالى 250.4 مليون جنيه، ويكون من نتيجته زيادة نصيب الصناعة فى الدخل القومى من 11 % إلى 19 %، ويتم تنفيذه على خمس مراحل، مدة الأولى 18 شهراً، وكل من الأربع الباقين 12 شهراً.
واهتم البرنامج برفع مستوى الكفاية الإنتاجية، وتنظيم الصناعة بشكل يضمن عدم تعارض المشروعات، ويحقق لها النمو بشكل لا يعرقل نمو مشروعات أخرى، واقتضى هذا وضع نظام للأولويات، تضمّن الأعباء التمويلية للمشروع، وما يحتاجه من عملات أجنبية، والعائد الذى يحققه، ومدى ما يضيفه إلى الطاقة الإنتاجية، وما يستخدمه من عناصر ويشغّله من عمال، وأهميته بشكل عام بالنسبة لتنمية مختلف الصناعات، كل ذلك بالإضافة إلى الاعتبارات الاستراتيجية.
وهكذا حلت الاعتبارات التنموية المجتمعية محل معيار الربحية الذى تنحصر فيه رؤية القطاع الخاص. كما تناول البرنامج تعزيز الأبحاث الخاصة بتشجيع الصناعة وتقديم المعونات الممكنة وتوفير المواد الأولية لها، وأنشئ مجلس استشارى للصناعة من وكلاء الوزارات المختصة بالتنمية، واتحاد الصناعات، ورجال الاقتصاد والصناعة، كما أنشئت مجالس إقليمية تزود وزارة الصناعة بمقترحاتها عن النهوض بالصناعة فى الأقاليم. ونظراً لغياب المواصفات والمقاييس، رغم أهميتها، تقرر إنشاء هيئة التوحيد القياسى، كما أنشئت هيئة السنوات الخمس، وتوسعت المصانع الحربية فى الإنتاج المدنى، وشكلت لها هيئة عامة تديرها على أسس اقتصادية. وفـى سبيل تنفيـذ هـذا البرنامـج فى الظروف التى أسفر فيها الغرب عـن عدائـه للثـورة والتنميـة التـى تبنتهـا؛ تـم الحصـول على قرض من الاتحاد السوفيتى، الذى ساهم فى الوقت نفسه فى تمويل بناء السد العالى. وقد رفعت تكلفة البرنامج فيما بعد إلى 330 مليون جنيه لإنجاز 502 مشروعاً، وتم خلال سنتين إنشاء 105 مشروعاً بتكلفة 88.5 مليون جنيه، ثم صيغ برنامج ثانى للسنوات 60/61- 64/1965 أدرج فى الخطة القومية الأولى.تطوير أجهزة التخطيط القومى: استناداً إلى المادة 7 من الدستور صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 78 فى منتصف يناير 1957 بشأن التخطيط القومى، ونص على أن تقسم كل مرحلة من مراحل الخطة إلى خطط سنوية يبين فيها موارد الدولة، وطرق استخدامها، ووسائل التنفيذ، وتعتبر الميزانية العامة للحكومة والميزانيات الملحقة والمستقلة من العناصر الرئيسية لهذه الخطط، وهذا مصدر الإلزام فى الخطة، وحدد القرار هيئتين هما:
المجلس الأعلى للتخطيط القومى، ويختص بتحديد الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للدولة وإقرار الخطة فى مراحلها المختلفة، ويرأسه رئيس الجمهورية، ويضم أعضاء يصدر بهم قرار منه. ثم صدر قرار جمهورى رقم 1369 لسنة 1958 بإنشاء اللجنة الوزارية لشئون التخطيط لتحل محل المجلس الأعلى للتخطيط، وصدر قرار رقم 2183 فى 19/12/1959 بتشكيلها من عدد من الوزراء ومحافظ البنك المركزى، وبرئاسة وزير التخطيط.لجنة التخطيط القومى، وتضم عشرة أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية، ثلاثة منهم متفرغين ويرأسها وزير الدولة لشئون التخطيط، وتختص بإعداد الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية فى الدولة وبيان مراحلها وأجزائها السنوية، وجميع ما يتصل بذلك من تشريعات وتوصيات واقتراحات، وذلك على ضوء ما تقوم به من دراسات وما تقدمه الوزارات من مشروعات. وتتابع اللجنة سير العمل فى الخطة وتقوم بمراجعتها وتقييمها دورياً، وبتقديم تقارير عن ذلك إلى المجلس الأعلى للتخطيط.وفى 20/3/1957 صدر قرار جمهورى رقم 263 بإدماج المجلس الدائم للإنتاج القومى، والمجلس الدائم للخدمات العامة فى لجنة التخطيط القومى. وفى 27/8/1957 ألقى وزير المالية ووزير الدولة لشئون التخطيط بالنيابة، د. عبد المنعم القيسونى، بياناً أمام مجلس الأمة جاء فيه أنه " ذهب البعض خطأ إلى الظن بأن التخطيط معناه الإلزام للجميع "، وقال أن ما تتضمنه الخطة من مشروعات، سواء الفردى أو الحكومى أو المختلط، سيعرض على الجميع لإبداء الرأى فيها حتى إذا روجعت واعتمدت أمكن اتخاذها أساساً للنشاط الاقتصادى والاجتماعى، مع مراعاة المرونة فى متابعة الأحداث وملاءمة التصرفات العاجلة لأهداف السياسة العامة دون إهمال الواقع الجارى. وتتولى الحكومة عن طريق التشريعات واللوائح، وكذلك عن طريق الميزانية السنوية تنفيذ نصيبها من الخطة. وكذلك تفعل الهيئات الأهلية راغبة راضية بعد أن ترى أن سيرها فى اتجاه التخطيط يتفق ومصلحتها الخاصة، فالأفراد لهم بحكم الدستور حق التصرف فى أموالهم، ولذلك لن تكون الخطة وسيلة لسلب الأفراد حريتهم فى التصرف، إنما هى تعينهم على تبين الموقف الاقتصادى واتجاه التنمية العامة حتى تكون تصرفاتهم فى ضوئها وبرغبتهم دون إلزام أو إجبار. وأوضح أن الأمر ليس مجرد زيادة الإنتاج المادى فحسب، بل يجب مراعاة الاحتياجات الاجتماعية وما تستدعيه من نفقة وجهد داخل حدود الموارد الكلية المتاحة، كما أنه ليس مجرد إقامة مشروعات جديدة، بل من الأهم صيانة المشروعات التى تم تنفيذها، ويرتبط بالصيانة ارتباطاً شديداً أمر تدريب الأفراد، وإعداد الفنيين، وتنظيم الإدارة والتشغيل.
وهكذا أوضح أن القضية ليست مجرد إقامة قطاع عام وإخضاعه لقرار تخطيطى يحدد له أسلوب عمله، بل العمل على حسن الاستفادة من الموارد البشرية والمادية المتاحة للدولة - حكومة وشعباً - واستخدامها فى تنسيق وتعاون وتكامل لتحقيق أكبر قدر ممكن من التنمية الاقتصادية، ورفع مستوى المعيشة لمختلف طبقات الشعب فى ظل التقاليد القومية والمبادئ الدستورية، ووفقاً للسياسة العامة للدولة.
دعم أجهزة التخطيط القومى: فى ظل التوجه الذى حدده دستور 1956 نحو التخطيط الشامل، واستكمال الهيكل العلوى لأجهزة التخطيط، كان من اللازم النهوض بالقدرات التخطيطية على جميع المستويات وفى مختلف المجالات، ولهذا الغرض نظمت لجنة التخطيط القومى سلسلة من المحاضرات، ضمت سبعين رسالة فى التخطيط القومى موجهة إلى المهتمين بمختلف جوانب التنمية (كان من بينها رسالة أ. وهيب مسيحة سالفة الذكر). ودعت اللجنة عدداً من الخبراء العالميين فى مختلف المجالات، من بين هؤلاء الخبير الفرنسى " شارل برو " مدير مركز البرمجة الاقتصادية بباريس، الذى ساهم فى بناء جداول التدفقات المالية، وإلى جانبه الخبيران "بارتل" و" مويكا " من ألمانيا الديموقراطية فى مجال جداول المصادر والاستخدامات التى كانت تعتمد عليها أيضاً المدرسة الفرنسية، وكان من بين من قدموا بعض أصحاب المدارس الفكرية المتقدمة فى مجال التخطيط؛ نخص بالذكر منهم النرويجى " راجنر فريش " الذى ابتدع أساليب فى البرمجة الخطية لدراسة المشروعات، واختبار اتساق الخطط التفصيلية، والهولندى "جان تنبرجن" الذى قاد المدرسة الهولندية فى التخطيط، وكلاهما اقتسم مع الآخر جائزة نوبل فى التخطيط عن أعمال كان من بينها ما أعداه فى لجنة التخطيط المصرية، بل إن أحد النماذج التى صاغها " فريش " والتى كانت تتطلب استخدام الحاسبات الإليكترونية، وكانت ما زالت فى بداياتها الأولى، عرف باسم " نموذج القاهرة لقنوات الاستثمار " Cairo Channel Model. وقد كان للقائه بالرئيس عبد الناصر أكبر الأثر فى تحمسه للعمل مع الجهاز المصرى، الذى تشكل فيه أول فريق لأساليب البرمجة وبحوث العمليات، وقد عبر عن تقديره لشخصية الرئيس بنشر دراسة بعنوان " كيف نخطط " How to Plan، أسسها على أفكار استلهمها من هذا اللقاء.كذلك عملت اللجنة على إيفاد العاملين فيها للتدريب والإطلاع على أنظمة العمل فى أجهزة التخطيط فى مختلف بقاع العالم، وكان لأولئك الذين زاروا الهند، وفى مقدمتهم أ. محمود إبراهيم؛ فضل إدخال أسلوب تحليل المدخلات والمخرجات، الذى استفاد كثيراً من الأساس الإحصائى الذى وفرته الثورة، وبخاصة الحصر الصناعى لعام 1954، والذى طور إلى جداول لعام 1958. كذلك اتضحت الحاجة إلى وجود جهاز إحصائى قوى، لم يكن يكفله القانون رقم 41 لسنة 1949 الخاص بتنظيم الإحصاءات والتعدادات، فصدر فى 31/1/1957 القانون رقم 19 بتحويل مصلحة الإحصاء والتعداد إلى وكالة وزارة لشئون الإحصاء تتبع رئاسة الجمهورية، يديرها وكيل وزارة لشئون الإحصاء تحت إشراف وزير الدولة لشئون التخطيط، كما تقرر إنشاء " اللجنة المركزية للإحصاء " تلحق بلجنة التخطيط القومى كهيئة فنية تقرر الإحصاءات والتعدادات الواجب إجراؤها لمعاونة لجنة التخطيط القومى فى رسم الخطة ومتابعتها وتقييمها، ولبيان التطورات الاجتماعية والاقتصادية وقياسها، وتحديد مواعيدها، وطرق إجرائها، ونشر نتائجها، وتعيين الجهات والأجهزة التى تقوم بعمل هذه الإحصاءات والتعدادات بما يحقق التنسيق الكامل بين العمليات والأجهزة الإحصائية ويرفع من دقتها، وحصر العمل فيها منعاً لتشتت الجهود.
على أن المعلومات اللازمة للتنمية وللتخطيط لا تقتصر على الإحصاءات، بل إن الجانب الأكبر والأهم يتناول الجوانب الفنية والعلمية التى تتعلق بالدراسات والمشروعات، وبالتفاصيل الدقيقة عن هذه المشروعات، ولذلك استصدر وزير التخطيط قراراً جمهورياً رقم 1013 فى 27/8/1958 بتأليف 64 لجنة مشتركة من جهاز التخطيط، والوزارات والهيئات، والمؤسسات العامة؛ لتقوم بتقديم جميع البيانات التى تطلبها لجنة التخطيط القومى عن الأعمال والمشروعات التى تمت، أو جارى تنفيذها، أو مقترحة للمستقبل. وفى 7/2/1959 صدر قرار جمهورى آخر رقم 262 لسنة 1959 بإنشاء مكاتب للتخطيط فى الوزارات والمؤسسات العامة، تعاون جهاز التخطيط القومى فى الحصول على المعلومات والتقارير اللازمة، وإجراء الدراسات والتحليلات المطلوبة، ثم شكل وزير التخطيط القومى ست لجان قطاعية رئيسية يتكون كل منها من عدد من اللجان الفرعية التى يختص كل منها بنشاط معين، بلغ مجموعها 57 لجنة، ضمت صفوة الخبراء المتخصصين من مختلف أجهزة البحث العلمى ورجال الجامعات، قامت بعقد اجتماعات متوالية ابتداء من شهر يناير 1959، وحتى أواخر شهر مايو 1959 للنظر فى مقترحات الخطة، وتدعيمها بدراسات قطاعية توضح اتجاهات النمو السابقة والمستقبلة. وحرصاً على رفع كفاءة العمل والعاملين فى مختلف مستويات التخطيط أنشئ معهد التخطيط القومى، الذى يعتبر أول مؤسسة من نوعها فى القارة الأفريقية والوطن العربى، ليتولى التدريب لكل المستويات وإجراء البحوث والدراسات.التحول الاشتراكى والتخطيط القومى الشامل:يمثل النصف الأول من الستينات مرحلة حاسمة فى حياة الثورة وتطور نموذجها التنموى، فقد شهدت هذه المرحلة اعتماد أول خطة قومية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية فى كل من إقليمى الجمهورية العربية المتحدة، ولو أن الانفصال فى عام 1961 أحدث انقطاعاً فى خطة الإقليم الشمالى، كذلك اتضح مدى انتهازية القطاع الخاص، الذى لم يكتف بالتقاعس عن المساهمة الجادة فى التنمية، بل حاول أن يثرى على حساب النشاط المتزايد الذى أبدته الدولة فى عمليات الاستثمار، وأن ينأى بمكاسبه بتحويلها إلى الخارج، كما تصادف أن شهدت بدايات هذه الفترة أزمات إنتاجية حادة بسبب الآفات التى تعرض لها الإنتاج الزراعى.
وتعين على الثورة أن تعالج هذه الأمور عن طريقين؛ الأول: هو توسيع نطاق النشاط الإنتاجى الذى تتولاه الدولة عن طريق التأميمات التى أريد بها حماية مدخرات الشعب وتعزيز مكتسباته، والثانى: هو إحداث تحول اجتماعى شامل ساهمت فى صياغته مختلف فئات الشعب العاملة من خلال ميثاق العمل الوطنى، الذى بلور نموذجاً جديداً للتنمية أكثر اتساقا مع مقتضيات التطور العملى، وأكثر قدرة على تحقيق أهداف المجتمع، فإذا كانت المرحلة الأولى شهدت إعادة بناء التنظيم المجتمعى، بينما استكملت الثانية البنيان المؤسسى؛ فإن المرحلة الثالثة شهدت إرساء معالم النظام السياسى الاجتماعى على أسس قادرة على تحقيق التنمية الشاملة، التى كانت هى المقصد منذ البداية.الخطة القومية الأولى: سارعت لجنة التخطيط القومى إلى صياغة المشروع المبدئى لإطار خطة التنمية الأولى للسنوات 1960 - 1964، باعتبار 1959 سنة أساس. ونظراً لأن الإطار الذى أعدته لجنة التخطيط تضمن تعديلات تكفل اتساق الخطة وكفاءة تحقيق الأهداف، كان لا بد من إجراء مراجعة نهائية تشمل مشاركة الأجهزة المعنية فى الدولة، بل ومشاركة الشعب بأكمله، ولذلك رفع وزير التخطيط - نائب رئيس الجمهورية، عبد اللطيف البغدادى - مذكرة فى 15/3/1960 إلى الرئيس عبد الناصر يطالب فيها بتكليف كافة الجهات التنفيذية - الوزارات والمؤسسات العامة الحكومية وشبه الحكومية - بمراجعة مشروع الإطار لإبداء الرأى فيه " حتى تتحمل مسئوليتها كاملة فى تنفيذه فيما بعد وفقاً لقانون إصدار الخطة ". وقد صدر قرار جمهورى رقم 426 فى 18/3/1960 يطالب الجهات واللجنة الوزارية للتخطيط بإنجاز إطار الخطة العامة فى موعد لا يتجاوز 15/5/1960، على أن يتضمن برنامجاً تفصيلياً لخطة السنة الأولى، يشمل مشروعات الاستثمار والتنمية فى القطاعين العام والخاص، وتقديرات الإنتاج، والاستهلاك، والعمالة، ووسائل التمويل والتنفيذ والمتابعة، مع العمل على إعداد مشروع الميزانية العامة للدول بما يتفق وتلك الخطة، التى تقرر أن تبدأ فى أول يوليو 1960. وكما اقترحت مذكرة وزير التخطيط فقد جرى عرض الخطة على الشعب فى مؤتمر عام نظمه الاتحاد القومى، وهكذا شهدت الخطة الخمسية الأولى تكامل الأجهزة التخطيطية وتضافر القدرات البحثية، ومشاركة التنظيمات الجماهيرية، فكانت بذلك الخطة الوحيدة التى توفرت لها هذه المقومات، فضلاً عن كونها أعدت لكل من إقليمى الجمهورية العربية المتحدة بعد إجراء تنسيق بين خطتى الإقليمين، اللتين أعدتا ضمن منظور بعيد المدى لمضاعفة الدخل خلال عشر سنوات فى كل من الإقليمين، ويلاحظ أنه عند بدء الخطة كانت هناك مشروعات صناعية تكلفتها حوالى 100 مليون جنيه لم تنفذ بعد، فأدرجت ضمن برنامج صناعى خماسى جديد أدمج فى الخطة العامة الأولى.تطوير الجهاز المصرفى:
كان من الواضح أن توجيه موارد الدولة نحو الأهداف المقررة للتنمية يتطلب السيطرة على السياسة النقدية، وتولى الأجهزة المصرفية المسئوليات التى تحددها الخطة فى مجالات الإنتاج والاستثمار. غير أن خلافاً نشب بين الحكومة والبنوك حول تخصيص الموارد للاستثمار، فقد أصر بنك مصر على التوجه نحو صناعات الغزل والنسيج، على غير ما قضى به برنامج التصنيع، لذلك تقرر فى فبراير 1960 تأميم كل من البنك الأهلى وبنك مصر، ثم فى ديسمبر من نفس السنة البنك البلجيكى الدولى، فأصبحت الدولة تمتلك أربعة بنوك بالكامل، بإضافة بنك الإسكندرية، فضلاً عن أنصبتها فى بنك القاهرة.

ليست هناك تعليقات: