الفصل الخامس
التمهيد للاحتلال
(على أي أساس تبنون، أيها اليهود، ادعاءكم في التحرر والانعتاق ؟ على دينكم ؟ إنه العدو اللدود لدين الدولة.. وإن أبشع شكل من أشكال التعارض والتناقض بين اليهودي والمسيحي هو التعارض والناقض الديني. وكيف يمكن لشخص التخلص من المعارضة؟ بجعلها مستحيلة الوجود.. وكيف يمكن العمل على استحالة وجود المعارضة الدينية ؟ بإخماد الدين).
(كارل ماركس)
برزت الشيوعية والصهيونية وسط الفوضى والتشوش الشامل الذي عم في القرن التاسع عشر، وظهرت كل منهما في روسيا في نفس اللحظة قافزة في تكوين عقائدي كامل من أذهان مجموعة عرقية واحدة. وقد أعلنت حركة منهما بأنها تنشد السلطة العالمية وتسعى للوصول إليها عن طريق العمل الثوري. وأعلنت الأخرى هدفها في الاستيلاء على أرض ليست لها، وطلبت سلطات ومزايا استثنائية في كل مكان آخر في العالم. وفي سنة 1918 نالت كلتا الحركتين أهمية عالمية: فنالت الصهيونية وعد بلفور (الفصل الثامن)، وربحت الشيوعية الثورة الروسية. وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى استطاعت الشيوعية والصهيونية وحدهما الادعاء بالخروج منها منتصرتين دون أن تخسرا شيئاً: إذ فازت الشيوعية بالاتحاد السوفييتي واحتلت الصهيونية رأس حربة لها في فلسطين، وبدت كلتا الحركتين وكأنهما تحت إدارة واحدة وتوجيه واحد.
وعملت القوتان على مر السنين على دعم وتقوية وحماية بعضهما بعضاً، وأكدت كلتاهما على (معاداة السامية) في برامجهما الدعائية، تنشرها حيث تواتي الفرصة لضم (مجموعات أقلية) أخرى في مناطق تقدمهما وسيرهما. وكانت القوى التقدمية في كل مكان هدفهما الدائم. ومع ذلك فقد بشرت كل من الحركتين بقومية مغالية في التعصب لم يعرفها التاريخ من قبل، وزرعت كل واحدة عملاء لها في حكومات العالم وأخضعتا المسؤولين الخانعين لإرادتيهما. وسترفعان فيما بعد العلم وتعلنان أن (الشيوعية هي أمريكا في القرن العشرين) وأن الولاء لإسرائيل (وطنية أمريكية). والملاحظ أن كلتا الحركتين تبشران بالحكومة (العالمية الواحدة) وإخضاع الشعوب للحكومة العملاقة المثالية التي تنويان أقامتهما وتصممان على السيطرة عليها. وكلتاهما ضد الأديان وضد (الجمهورية)، وتمجدان فضائل الديموقراطية بينما تزاولان الحكم المتسلط المستبد. وبينما تنددان بالعنصرية وتفَوُّق شمال أوروبا، تتنبأ كل واحدة لنفسها بأنها ستكون نخبة العالم، وشعب الله المختار. ويعتبر أتباع كل مجموعة أنفسهم غرباء في أرض يحيط بها الأعداء، مقتنعين بأن عليهم إخضاع أعدائهم لإرادتهم، وإخضاعهم تماماً، أو أن يفنوا هم أنفسهم.
كان كارل ماركس ابناً لمحام يهودي سليل عدد كبير من الأحبار. وقد تأثرت كتاباته تأثراً واضحاً بجدل ومماحكة الأحبار البارعين في هذا الفن، وتعلق المعارف اليهودية على الفصول الخاصة بنظرية القيمة في كتابه (رأس المال) قائلة أنها (توحي، من تحليلها البارع، بنزعة تلمودية متأصلة..).
ورغم أن ماركس لم يستطع يوماً أن يكسب من النقود ما يكفي للإنفاق على نفسه أو على أسرته، فإنه أصبح خبيراً عالمياً في هذا الميدان. وليس غريباً أن تبنى هذه النظرية على تجارب حياته الخاصة. ولما كان قد عاش على كرم صديقه، فريدريك انجلز، فقد بشرت نظريته الاقتصادية بخطة مماثلة للطبقات الكادحة في العالم.
ضمن ماركس (الإعلان الشيوعي) مبادئه الأساسية وأعلن فيه أن (تاريخ كل المجتمعات السابقة يكمن في صراع الطبقات، وهو صراع أخذ أشكالاً مختلفة في العصور المتباينة.. وجاءت الثورة الشيوعية كأعنف وسيلة قطعت كل صلة مع الملكية التقليدية، ولا عجب كذلك أن تقطع الصلة مع الأفكار التقليدية الشائعة). وبعد أن يضع المقدمة الأساسية، يتقدم لصلب المشكلة: (إن الخطوة الأولى في ثورة الطبقة العاملة هر رفع البروليتاريا إلى موقع الطبقة الحاكمة من أجل كسب معركة الديموقراطية). وكيف يتم ذلك ؟ : (ستعمد البروليتاريا إلى استخدام سيادتها السياسية لتنتزع بالتدريج كل رأس المال من البروجوازيين، وتركز كل أدوات الإنتاج في أيدي الدولة، أي البروليتاريا المنظمة في الطبقة الحاكمة ؟ وزيادة قوى الإنتاج بأسرع وقت ممكن).
ويشير ماركس منذ البداية إلى أن (الاعتداءات الاستبدادية على حقوق الملكية ضرورية جداً)، ثم تؤدي هذه الاعتداءات بالضرورة إلى (اعتداءات أخرى على النظام الاجتماعي القديم).
إن الشيوعية تتوجه بندائها إلى الفاشلين التائهين الذين لا أمل في شفائهم. فالذين يعانون من شعور عميق بالاحتقار والخيبة يجدون العزاء في الظن بأنهم (ضحايا) نظام أو استغلال ما. ويتميز الفاشل بعدم الرغبة في الاعتراف بمواطن ضعفه وعيوبه. وعندما يوجه حقده على السبب المزعوم في ضياعه يصبح مغالياً في تقديره لنفسه، وجريئاً في رغبته للانتقام. وتخلق الشيوعية ميلاً غير واع في أتباعها للعمل على الهبوط بالجنس البشري إلى مستوى عادي ويصبح الاتجاه السائد خلق تسوية معيارها التوسط في القدرة والبراعة، وخنق التفوق والطموح وأخذ عقل ماركس الغاضب المكتئب والذي تطارده أشباح المنطق التلمودي، الشاعر بالأرض الخصبة المهيأة له، أخذ يتصور بالتدريج قوة جديدة خبيثة للعمل السياسي. ومع تخليه غير الأخلاقي عن يهوديته، مزج بين مكر بني قومه وبين الخداع الميكافيلي، وأعطى (الطبقات الكادحة) عالمه (الجديد الشجاع). ولا يخفى على أحد أن فلسفته لم تعرض هدفاً نبيلاً لم تقدم دولة نموذجية، فذلك جزء حيوي من الخطة.
وأخيراً ظهر كتاب (رأس المال) الممل سنة 1855. كانت نظرية (قيمة الفائض) قد تطورت على أيدي آدم سميث، وريكاردو، وروبرت أوينز وأتباعه الإنجليز، وبراودهون في فرنسا، ورود برتوس في ألمانيا. فقام ماركس بسرقة الأفكار الرئيسية من (الخياليين) وأطاح بهيغل، واختلس (جدلياته)، واستغل أفكار فيورباخ (المادية)، وسرق نظريات (قيمة الفائض) وخلط هذا المزيج الغريب بعنف، بينما كان يلعن في نفس الوقت مختلف المؤلفين، وقدم حصيلة ذلك على أنه (الاشتراكية العلمية الماركسية).
كان ماركس يحاول أن يقول أنه بينما يزداد الغني غنى والفقير فقراً، تكون الرأسمالية بذلك تحفر لها قبراً، ولن تصبح هناك حاجة في مستقبل الاشتراكية للفؤوس والمعاول لحفر ذلك القبر.. هذا هو الأمر ليس إلا ! ولا بد أن ينتهي التفسير المادي للتاريخ، وربما التاريخ نفسه، عندما تنتهي الرأسمالية من حفر قبرها. وحتى نظام ماركس الجدلي الأنيق لا بد أن يهوي أرضاً في عالمه الاشتراكي الجديد الجريء، ولن تصبح هناك حاجة مطلقاً للبحث عن فرضية معاكسة، لأن الشيوعية ستكون آخر تركيب يجمع بين الطريحة والنقيض. ويمكن للمرء أن يفترض، قياساً على ذلك، بأن قانون الجاذبية يتوقف عندما تسقط التفاحة على الأرض وتصطدم بها.
كان كارل منجر النمساوي أول من هدم نظرية ماركس في (قيمة الفائض)، وأصبحت هذه النظرية الآن مرفوضة تماماً. ويمكن لأي طالب ذكي لم يدخل مرحلة التعليم العالي أن ينقض مفهوم ماركس (المادي) للتاريخ، الذي هو لب الماركسية. وإذا أبطلنا نظرية (قيمة الفائض) انهار الجانب الاقتصادي من الماركسية تماماً، وتصبح الإجابة في مقدور أي إنسان ذكي.. وإذا لم تثبت الملاحظة تناقصاً مستمراً في الرأسماليين وتزايداً مستمراً في العمال المعدمين فإن نظرية (قيمة الفائض) تتلاشى في سحابة من الدخان. والواقع أنه، منذ صدور كتاب (رأس المال) تزايد عدد الرأسماليين وأفراد الطبقة الوسطى الميسورة الحال بنسبة كبيرة، بينما يعيش أفراد الطبقة الكادحة في الولايات المتحدة مثلاً في حال أفضل مما عاشه كارل ماركس على نقود انجلز.
لم يكن هجوم كارل ماركس على الدين(أفيون الشعوب) هجوماً على كل الأديان بمقدار ما كان حرباً على المسيحية، ولم يكن ماركس، كمعظم المفكرين اليهود، موالياً لليهودية أكثر من التزامه بالمسيحية، ولكنه كان يهودياً من ناحية عرقية. وكان يؤمن بأن اليهودي، بصفته يهودياً، له حقوق ليست للمسيحي. فقد تساءل: (لماذا يطلب اليهودي حقوقاً لا يملكها ويتمتع بها المسيحي ؟). ورأى بمنطقه أن اليهودي، بنشدانه التحرر من الدولة المسيحية، يطلب أن تتخلى الدولة المسيحية عن تحاملها وتعصبها الديني. ولكن هل يتخلى اليهودي نفسه عن تحامله الديني وتعصبه ؟ وهل يجوز له بعدئذ أن يطالب الآخرين بالتخلي عن دياناتهم ؟ وينتهي ماركس إلى القول أنه طالما ظلت الدولة مسيحية وطالما ظل اليهودي يهودياً، يصبح الطرفان غير قادرين، الأول على منح الحرية، والثاني على نيل هذه الحرية.
إن الفلسفة الماركسية لا تتحمل التسوية والمصالحة. إذن، ما هو الحل الماركسي ؟
يستنتج ماركس أنه طالما ظلت الدول مسيحية، وطالما ظلت اليهودية عدواً لدوداً لدين الدولة فلا بد من وضع معادلة لتدمير المسيحية (وأي دين رسمي)، بإقامة مبدأ الإلحاد وإنكار وجود الله. يقول: (إن أسوأ شكل من أشكال التعارض بين المسيحي واليهودي هو التعارض الديني. وكيف يتخلص المرء من المعارضة؟ بجعلها مستحيلة الوقوع.. وكيف يمكن العمل على استحالة التعارض الديني ؟.. بطمس الدين).
كان ماركس يرغب في الاعتراف بأن اليهودي قد تحرر في زمنه، ولكن بطريقة يهودية. فقد اعتقد بأن اليهودي قد تحرر بأسلوب محكم مع تحول المسيحيين إلى يهود في تفكيرهم واتجاههم العملي. فكان ماركس يعلم أن اليهودي (الذي كان يعيش في فيينا ولا يجد إلا القليل من التسامح الديني أصبح يقرر بقوته المالية فقط مستقبل أوروبا، وأن اليهودي الذي ربما يفتقر لحقوقه في أصغر مقاطعة ألمانية، قرر مستقبل أوروبا. وكان ماركس يعتقد بأن اليهودي قد جعل من نفسه سيد السوق المالية عن طريق الذهب الذي أصبح قوة عالمية، وعن طريق (الروح اليهودية العملية) التي أصبحت، عملياً، روح الشعب المسيحي. ولكن هذا النوع من التحرر، في نظر ماركس، لم يكن يكفي. فالتحرر الحقيقي في الشعور الماركسي يمكن أن يتحقق فقط بالتدمير الكامل للدين.
ولا تنادي الماركسية فقط بضرورة هدم الدين في سبيل الوصول إلى السلطة، بل ويعمل الماركسيون في كل مكان لإزالة القومية. فالدين والقومية هما السور الواقي للحضارة، ويجب إزالتهما أولاً إذا أرادت الماركسية أن تهزم العالم وتسيطر عليه. ولما كانت الوطنية والقومية النتيجة الطبيعية والمنطقية لوحدة الأسرة المتضامنة فإن الماركسية تقوم بضرب الأسرة أيضا، فلا بد من تدميرها وجعل أفرادها مجرد أعضاء تذوب في الجماعة العامة. ولا تقف الماركسية عند هذا الحد، بل لا بد من النزول بكرامة الإنسان وروح المبادرة عنده، وبفرديته، إلى المستوى العادي.
* * *
ولد ثيودور هرتزل في بودابست في 2 مايو 1860، وقد قدر له أن يكون مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة. وقد تلقى دراسته الحقوقية في فيينا، ونال شهرة كبيرة كصحفي أدبي وكاتب مأساوي. ولكن عمله كمؤسس للصهيونية الحديثة طغى على كل انجازاته الأخرى.
نشر هيرتزل كتابه (الدولة اليهودية) سنة 1896، ونادى فيه بأنه ليس أمام اليهود إلا أحد خيارين اثنين: الاندماج الكامل مع الأجناس الأخرى، أو المحافظة على النفس بالقومية السياسية، وتبنى هو الاتجاه الثاني.
كان حل هيرتزل للقضية اليهودية حلاً اقتصادياً وسياسياً بحتاً، ولم يكن يصر في بداية الأمر على فلسطين كوطن جديد لليهود.
ولكن أفكار هيرتزل اكتسحت يهود أوروبا منعشة أحلامهم القومية القديمة.
والتقى (المؤتمر الصهيوني) العالمي لأول مرة في مدينة (بال) بسويسرا سنة 1897، ووضع القواعد الدائمة لتنظيم الصهيونية، وسمى المؤتمر نفسه، جورا، (الأمة اليهودية)، وأنشأ اليهود تنظيماً سياسياً عالمياً.
ولكن الصهيونية عانت من نكسة عنيفة بموت الدكتور هيرتزل سنة 1904. ولكن هيرتزل قد عمل على تعطيل التطور العادي للعالم اليهودي على طريق الحرية الفردية أكثر مما عمله أي زعيم يهودي آخر منذ سنة 1666، فقد أوجد (عصر النهضة) و(الإصلاح) ثورة في تفكير الإنسان حول (الإنسان)، واكتسحت العالم الغربي الأفكار الجديدة عن حقوق الإنسان. ولكن هيرتزل وحركته الصهيونية ألحقا ضرراً كبيراً باليهودية العالمية في مسيرتها نحو الحرية الفردية والكرامة الإنسانية، وساقا الفرد اليهودي ثانية إلى ما وراء جدار الغيتو التي عزلت القومية اليهودية وغذت روح العداء ضد الأقوام الأخرى.
لقد ادعى هيرتزل بأن قضية (دريفاس)(1) هي التي جعلت منه صهيونياً، ولكنه أخفق في رؤية (زولا) والشعب الفرنسي الذي دافع عن دريفاس. وهاجم هيرتزل ادموند روتشيلد لدعمه المسرف للمشاريع الصهيونية بحجة أنه دعم (إنساني) لا دعماً يخدم (المصالح القومية) وهدده بإثارة الشعور العام ضده إلى درجة يصعب معها حفظ النظام.. وحاول مقايضة اشتراك اليهود في الحركات الثورية بروسيا القيصرية وألمانيا بامتياز سياسي في فلسطين. ولقد خلق هيرتزل موجة من المعاداة للسامية في كل حركة، ووضع أسافين لسوء التفاهم بين اليهود والمسيحيين، وعمل على إبعاد اليهود عن أي كفاح عادل للوصول إلى حقوق عادلة في البلدان التي نشأوا وأقاموا فيها، وأبدل ذلك بالفكرة المجرمة (انتزاع العرب من فلسطين وإقامة الدولة اليهودية).
وقد ترك هيرتزل خلفه (جمهوراً كبيراً قلقاً من اليهود، وعمل على زرع الفرقة والخلاف بين اليهود كما لم يحدث أن تفرقوا واختلفوا منذ اختلافهم على يوم السبت).
ثم عكفت الحركة الصهيونية على تشكيل طابور خامس منيع في فلسطين، وسعى قادة الصهاينة، من خلال الهجرة المتزايدة والحصول على الأراضي، إلى التدرج في نزع ملكية العرب، ثم الاستيلاء على البلد بكامله، في الوقت المناسب. ويبين نجاح الخطة مدى الصبر اليهودي والتماسك، رغم أن ذلك يترك المجال لكثير من الحديث عن أساليبهم غير الأخلاقية.
تأسس (الصندوق القومي اليهودي) ليكون وسيلة تمويل الاغتصاب السري لفلسطين، ورغم أن المنظمة اشترت، بهدوء، أرضاً واسعة قبل سنة 1910، إلا أنها صعدت نشاطها وبرامجها بعد ذلك(2).
بينما يهتاج اليهود ويثورون على القوانين والمواثيق التي تسد أمامهم الطريق للوصول إلى ما عند الغير، نلاحظ أن قانون الصندوق القومي اليهودي يمنع تأجير أراضيه لغير اليهودي ويحرم تحريماً قاطعاً بيع أي شبر من أراضيه للعرب.
وعندما بدأ الاستعمار اليهودي لفلسطين أسرع اليهود في تطوير الثقافة العبرية والمستوطنات اليهودية. ورغم توقف النشاط الصهيوني في فلسطين مع الحرب العالمية الأولى إلا أن الصهيونية واصلت مساومة الدعم اليهودي للحلفاء مقابل إعلان سياسي حول فلسطين، كجزء من تسويات ما بعد الحرب.
فترأس الدكتور حاييم وايزمان، من جامعة مانشستر، جماعة من الصهاينة السياسيين ببريطانيا، اقترحت أن تشترط بريطانيا العظمى في تسوية السلام إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
ولكن الإصلاحيين اليهود في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية عارضوا الصهيونية، وكانوا قد أزالوا من كتب الصلاة ذكر القدس وجبل صهيون. بل وجد من أعلن بأن الحركة وبال لليهود، وأنها ستولد وتزيد من العداء للسامية.
غير أن اليهود الروس في الولايات المتحدة كانوا أصحاب الثروة والسلطة والرغبة الجامحة في دعم الصهيونية. وكانت (المنظمة الصهيونية بأمريكا) قد تأسست سنة 1897، وسرعان ما أقيمت فروع للنساء (الهداسا)، والأطفال وكذلك (شباب يهودا)، وذلك لتصعيد نشاط المنظمة الأم. وقد عمل لويس برانديس كرئيس للمنظمة الصهيونية بأمريكا قبل تعيينه في المحكمة العليا.
وفي سنة 1951، وحتى بعد إقامة دولة إسرائيل، أعادت الصهيونية تنظيم صفوفها واستعدت للقيام بعمليات احتلال كبرى. وكتب الدكتور (ماكس نوسباوم) يقول: (إن فكرة هيرتزل عن (إخضاع الأقليات) يجب أن تتحول إلى حقيقة في أيامنا هذه. فيجب أن تكون إحدى مشاريعنا للسنوات القادمة إقامة مجالس للجماعة اليهودية، تتطور إلى جماعات أشبه بالكهيلا العضوية.. إن علينا أن نحقق أحلام هيرتزل بإخضاع الأقليات وقيادتها لروح البقاء اليهودية..).
وقد صاحب ظهور آل روتشيلد نشاط تنظيمي لليهودية العالمية، وعملت مصاهرة اليهود للأسر النبيلة الأممية بأوروبا على حماية الأمميين للمطامح الصهيونية، بينما عمل التزاوج مع الأسر المصرفية اليهودية الأخرى على تعزيز النفوذ والتوجيه المالي لآل روتشيلد.
وازدادت المؤتمرات اليهودية الدولية أكثر فأكثر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وإذا كان ليو بنسكر وثيودور هيرتزل هما اللذان جهرا بالدعوة لقيام منظمة يهودية دولية، فإن آل روتشيلد بسيطرتهم على المال العالمي، هم الذين جعلوا الدعوة لذلك أمراً ممكن التحقيق. وهكذا فإن الذي كان يعد خيانة في القرن الثامن عشر مر دون أن يتحداه أحد في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر.
وجاء ما يسمى (إعلان كوبنهاجن)، الذي تبنته (المنظمة الصهيونية العالمية) سنة 1918، وأقر كارلزباد سنة 1921، بالإضافة لتأكيد الادعاءات اليهودية في فلسطين، جاء يدعو إلى (المساواة الكاملة والواقعية بين اليهود وغيرهم في كل بلد، بالإضافة إلى الاستقلال القومي بالنسبة للأنشطة الثقافية والاجتماعية والسياسية للأقليات اليهودية في البلدان ذات الأعداد الكبيرة من السكان اليهود، وفي كل البلدان الأخرى التي يمكن أن يطلب فيها السكان اليهود هذا الاستقلال).
ويمكن اعتبار إعلان كوبنهاجن فريداً من نوعه، مثل (الإعلان الشيوعي). فقد دعا الثاني إلى مصادرة الممتلكات الخاصة والإطاحة بحكومات العالم القائمة. وطلب الأول اغتصاب بلد لم يحتله اليهود ولم ينتسبوا إليه، وطلب، بالإضافة لذلك، إقامة (أمة داخل أمة)، وبذلك يرتفع اليهود وتصبح لهم حقوق أكبر من حقوق زملائهم من المواطنين في البلد الذي ولدوا فيه وأقاموا فيه.
ويشن دعاة الماركسية وأبواقها هجوماً عنيفاً على (الأم) و(الوطن) و(الجنة) و(العلم) و(الوطن الأم) و(الوطنية) ويجعلون هذه الأسماء المحبوبة تبدو وكأنها مستهجنة ورجعية ومجرد بقايا من العصر القبلي يحافظ عليها الأشرار من الناس لكسب المال. وترى تلك الأبواق أن (غرس) هذه القيم والمفاهيم في عقول الناس يخلق (وطنيين)، وهؤلاء (الوطنيون)، من وجهة نظر الماركسية، إقليميون وغير ناضجين ذهنياً و(رجعيون). أما اليهودية المنظمة فهي تعتبر الوطنية معادلة للقومية، والقومية معادلة للفاشية، والفاشية تعني (معاداة السامية). وهذا المفهوم اليهودي، بالطبع، ينطبق على الوطنية الأممية فقط وليس له صلة بالقومية اليهودية.
ويتفق معظم الذين ينتقدون (القومية) على أنها هي الخطر الذي يهدد بشكل أساسي الاشتراكيين الشيوعيين واليهود وغيرهم من الحلفاء الذي يشكلون عنصر تصديع داخل أي بلد. ورغم أنهم لا يصرحون بذلك علناً، لكن هذا واضح عندهم. وهم كذلك ينسون ويلقون جانباً المبدأ القائل أن كل الأفراد والجماعات المضطهدة تتجه لحماية نفسها عندما تتعرض للخطر، وأن حب البقاء هو أول قوانين الطبيعة. فالشيوعيون يعلنون بجرأة هدفهم في تدمير حرية الأفراد ومصادرة ممتلكاتهم وإخضاع حياتهم لنسق عام. وكذلك اليهودية المنظمة، سواء كانت حليفة للماركسيين، أم أمة مستقلة داخل أمة، تصر على المحافظة على وضع مستقل بجنسية مزدوجة أو بدون جنسية مزدوجة. أم الاستيلاء الناشئ عند الذين يقاومون الأهداف الشيوعية والصهيونية فإنه يدمغ زوراً بطابع (الفاشية).
ويسير رواد الجماعية شوطاً أبعد في هجومهم الدائم على القوة المقاومة عند الذين يريدون تحطيمهم. فينادي هؤلاء الرواد بأن الذين يدعون للاستعداد العسكري ولتبني سياسة خارجية قوية، هم (القوميون المتطرفون) الذي يتحولون إلى (نازيين وفاشيين). وإذا تشكلت أفكار أمة حسب هذا الاتجاه الشيوعي والصهيوني فإنها ستفشل في مقاومة أي هجوم، وتهلك دون أن ترفع يدها عن نفسها. وإذا أمكن جعل زعيم أمة يعتقد بأن الخوف من الشيوعية أو الصهيونية هو (جنون الارتياب) وأن الاستعداد لمواجهة ذلك الخطر هو (جنون العظمة) فإن دمار الحضارة سيتحقق دون بذل جهد بشري كبير من جانب أعدائها.
من الواضح أن الذين يشوهون سمعة الوطنية لا يجدون ما يعيبونه على الأفراد والجماعات ـ من الشيوعيين ـ الذي يعلنون عن نيتهم في تدمير كل الأمم ـ عدا الاتحاد السوفييتي. ويبدو أن تهديد حياة وممتلكات وحريات الناس في كل مكان، فضيلة عالية المكانة عندما يمارسه الشيوعيون، وأما الإصرار على البقاء أمة داخل أمم العالم، وغزو وسرقة بلد ما، فإن ذلك يبدو مثالياً عندما يأتي من جانب اليهودية المنظمة.
والتجانس أيضاً يعتبر نوعاً آخر من أنواع (جنون العظمة) في الذهنية القومية، حسب الدعوة الماركسية لقيام دولة (عالمية) واحدة. فالدعوة للتجانس من جانب شعب ما توصم دائماً بأنها اضطهاد للأقليات بسبب الجنس أو اللغة أو الدين. فالذي يدعو إلى قيام الدولة العالمية لا يعترف مطلقاً بالولاء للوطن أو الأمة، والتمثيل السياسي أو التضامن الوطني ـ إلا إذا خضعت لفلسفته الخاصة. أما النشاطات الحاقدة والمعادية للفوضويين الأجانب والشيوعيين والصهاينة، والذي يعملون جميعاً ضد مصالح البلد الذي اختاروه للإقامة أو لجؤوا إليه، فإنها تعتبر عند الماركسيين شذوذاً يستحق التنديد. وتعلو الصيحات المعادية للتجانس بشكل خاص في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث وجدت العناصر المتنافرة، الحرية والكرم.. ولا يكفي هؤلاء اللاجئين أن يجدوا الملجأ والحرية، بل لا بد لهم بالضرورة من مواصلة إقامة التكتلات التي سببت طردهم من بلدانهم الأصلية. ولا يكفي أن يصبحوا مواطنين أمريكيين أو بريطانيين مع حريتهم في مزاولة معتقداتهم الدينية الخاصة، والتمتع بحقوق المواطنية، بل لا بد لهم أن يدمروا غريزة التجانس عند الأغلبية حتى لا يلاحظ أحد وضعهم الخاص وامتناعهم عن التجانس.
ولقد أورث ماركس أتباعه شيئاً آخر غير (الإعلان الشيوعي) و(رأس المال).. أورثهم الحب في الطعن المرير والحقد المتأجج والتصميم على العنف كما لم يسبق أن ورث أحد أتباعه من قبل. وقد حقن فلسفته بالحيوية الدامغة للتدمير. وما الكادح الملثم الذي خلقه في خياله إلا مزيج ألفي سنة من أحبار ماركس. وقد تغلغلت الحياة الملتهبة التي نفخها في مخلوقه المعذب داخل كل ذرة من كيانه، مع رغبته المستمرة في الموت على المتاريس التي توضع في طريقه.
لم يخلف ماركس برنامجاً سوى الحرب والثورة، أما (الأخوة) التي أقامها فقد كانت أمها (الحسد) وأبوها (الكراهية). ولما اعتقد بأنه قد دمر الله فقد قام هو نفسه بدور الإله. ولما أخفق في ترك علامات للطريق المؤدية إلى جنة العمال، فقد أصبح أتباعه من مائة طائفة يرسمون لأنفسهم طرائق قددا.. ويمكن (للرفاق) أن يقطعوا رقاب بعضهم البعض للتدريب على حرب (الرأسماليين)، ولا بأس بذلك لأنهم سيحاربون أخيراً إلى جنب المتاريس ضد العدو المشترك.
وكانت نتيجة كل ذلك الاهتياج والإثارة وضع أساس الصهيونية السياسية على يدي هيرتزل سنة 1897، فعقد في تلك السنة أول مؤتمرين، تمخضت عنهما حركتان يهوديتان قدر لهما أن يغيرا مسار التاريخ: (فهذا ثيودور هيرتزل يترأس (المؤتمر الصهيوني) الأول، وتلك (الجمعية الاشتراكية اليهودية) تلتقي في (المؤتمر الشيوعي) الأول في منسك.
ولا عجب أن يحتل (موسى هيس)، الذي سماه ماركس (الحبر الشيوعي) مكانة هامة في التاريخ. فهو في وقت واحد المناصر الخبيث لحركتين خبيثتين، تبدوان لأول وهلة متعارضتين تماماً ـ الصهيونية السياسية والشيوعية العالمية ـ ولم يجد هيس تناقضاً بين بهوديته وبين جموحه لتدمير العالم المسيحي. فقام هذا الكاتب والزعيم الاشتراكي، المنادي بالإطاحة بكل الحكومات الأخرى بالقوة، بتوجيه النصح لإخوانه اليهود للتضحية بالتحرر إذا كان التحرر يتعارض مع القومية اليهودية ! وأعلن عن اعتقاده باستحالة إزالة الشعور القومي اليهودي، وعن دوام بقاء الشكل اليهودي والنموذج اليهودي كما هو عليه.
وعندما تجد اليهودية المنظمة ذلك ملائماً، تعلن بأن (اليهود كانوا دائماً يؤمنون بالحركة الاشتراكية الحديثة منذ بدئها) (دائرة المعارف اليهودية)، وعندما يكون التنبؤ منها يخدم صالح اليهودية، تعلن بأن الشيوعية لا تتمشى مع اليهودية أو الصهيونية.
لقد اكتسحت أوروبا، مع ظهور الماركسية، موجة من الإلحاد عارمة، فغمرت الأماكن المنخفضة من العالم المسيحي، ومضت الموجة تتدحرج عبر البحار إلى أمريكا مرتفعة أكثر فأكثر إلى أن ضربت جدران الكليات والجامعات وعلت حتى وصلت منابر الكنائس التي تصدت للنيران والسيف. ومع تحرك المياه الموحلة، هوت أعلام دول ذات كبرياء وضاعت مع ربان السفن وقذارة الفيضان. وحيثما وصلت تلك المياه ظهرت ندبات كبيرة من التآكل والتعرية على وجه الأرض ـ ندبات على الكرامة الإنسانية الضائعة وحرياتها المتلاشية.
وبدأت العقيدة الدينية والقيم تتهاوى تحت أمواج الفيضان العاتية، وولت الحقائق الخالدة أمام الصراخ الأجش والسخريات المهينة من حشود الدهماء الشهوانية، وخيم على الأرض ليل حالك وطويل.
التمهيد للاحتلال
(على أي أساس تبنون، أيها اليهود، ادعاءكم في التحرر والانعتاق ؟ على دينكم ؟ إنه العدو اللدود لدين الدولة.. وإن أبشع شكل من أشكال التعارض والتناقض بين اليهودي والمسيحي هو التعارض والناقض الديني. وكيف يمكن لشخص التخلص من المعارضة؟ بجعلها مستحيلة الوجود.. وكيف يمكن العمل على استحالة وجود المعارضة الدينية ؟ بإخماد الدين).
(كارل ماركس)
برزت الشيوعية والصهيونية وسط الفوضى والتشوش الشامل الذي عم في القرن التاسع عشر، وظهرت كل منهما في روسيا في نفس اللحظة قافزة في تكوين عقائدي كامل من أذهان مجموعة عرقية واحدة. وقد أعلنت حركة منهما بأنها تنشد السلطة العالمية وتسعى للوصول إليها عن طريق العمل الثوري. وأعلنت الأخرى هدفها في الاستيلاء على أرض ليست لها، وطلبت سلطات ومزايا استثنائية في كل مكان آخر في العالم. وفي سنة 1918 نالت كلتا الحركتين أهمية عالمية: فنالت الصهيونية وعد بلفور (الفصل الثامن)، وربحت الشيوعية الثورة الروسية. وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى استطاعت الشيوعية والصهيونية وحدهما الادعاء بالخروج منها منتصرتين دون أن تخسرا شيئاً: إذ فازت الشيوعية بالاتحاد السوفييتي واحتلت الصهيونية رأس حربة لها في فلسطين، وبدت كلتا الحركتين وكأنهما تحت إدارة واحدة وتوجيه واحد.
وعملت القوتان على مر السنين على دعم وتقوية وحماية بعضهما بعضاً، وأكدت كلتاهما على (معاداة السامية) في برامجهما الدعائية، تنشرها حيث تواتي الفرصة لضم (مجموعات أقلية) أخرى في مناطق تقدمهما وسيرهما. وكانت القوى التقدمية في كل مكان هدفهما الدائم. ومع ذلك فقد بشرت كل من الحركتين بقومية مغالية في التعصب لم يعرفها التاريخ من قبل، وزرعت كل واحدة عملاء لها في حكومات العالم وأخضعتا المسؤولين الخانعين لإرادتيهما. وسترفعان فيما بعد العلم وتعلنان أن (الشيوعية هي أمريكا في القرن العشرين) وأن الولاء لإسرائيل (وطنية أمريكية). والملاحظ أن كلتا الحركتين تبشران بالحكومة (العالمية الواحدة) وإخضاع الشعوب للحكومة العملاقة المثالية التي تنويان أقامتهما وتصممان على السيطرة عليها. وكلتاهما ضد الأديان وضد (الجمهورية)، وتمجدان فضائل الديموقراطية بينما تزاولان الحكم المتسلط المستبد. وبينما تنددان بالعنصرية وتفَوُّق شمال أوروبا، تتنبأ كل واحدة لنفسها بأنها ستكون نخبة العالم، وشعب الله المختار. ويعتبر أتباع كل مجموعة أنفسهم غرباء في أرض يحيط بها الأعداء، مقتنعين بأن عليهم إخضاع أعدائهم لإرادتهم، وإخضاعهم تماماً، أو أن يفنوا هم أنفسهم.
كان كارل ماركس ابناً لمحام يهودي سليل عدد كبير من الأحبار. وقد تأثرت كتاباته تأثراً واضحاً بجدل ومماحكة الأحبار البارعين في هذا الفن، وتعلق المعارف اليهودية على الفصول الخاصة بنظرية القيمة في كتابه (رأس المال) قائلة أنها (توحي، من تحليلها البارع، بنزعة تلمودية متأصلة..).
ورغم أن ماركس لم يستطع يوماً أن يكسب من النقود ما يكفي للإنفاق على نفسه أو على أسرته، فإنه أصبح خبيراً عالمياً في هذا الميدان. وليس غريباً أن تبنى هذه النظرية على تجارب حياته الخاصة. ولما كان قد عاش على كرم صديقه، فريدريك انجلز، فقد بشرت نظريته الاقتصادية بخطة مماثلة للطبقات الكادحة في العالم.
ضمن ماركس (الإعلان الشيوعي) مبادئه الأساسية وأعلن فيه أن (تاريخ كل المجتمعات السابقة يكمن في صراع الطبقات، وهو صراع أخذ أشكالاً مختلفة في العصور المتباينة.. وجاءت الثورة الشيوعية كأعنف وسيلة قطعت كل صلة مع الملكية التقليدية، ولا عجب كذلك أن تقطع الصلة مع الأفكار التقليدية الشائعة). وبعد أن يضع المقدمة الأساسية، يتقدم لصلب المشكلة: (إن الخطوة الأولى في ثورة الطبقة العاملة هر رفع البروليتاريا إلى موقع الطبقة الحاكمة من أجل كسب معركة الديموقراطية). وكيف يتم ذلك ؟ : (ستعمد البروليتاريا إلى استخدام سيادتها السياسية لتنتزع بالتدريج كل رأس المال من البروجوازيين، وتركز كل أدوات الإنتاج في أيدي الدولة، أي البروليتاريا المنظمة في الطبقة الحاكمة ؟ وزيادة قوى الإنتاج بأسرع وقت ممكن).
ويشير ماركس منذ البداية إلى أن (الاعتداءات الاستبدادية على حقوق الملكية ضرورية جداً)، ثم تؤدي هذه الاعتداءات بالضرورة إلى (اعتداءات أخرى على النظام الاجتماعي القديم).
إن الشيوعية تتوجه بندائها إلى الفاشلين التائهين الذين لا أمل في شفائهم. فالذين يعانون من شعور عميق بالاحتقار والخيبة يجدون العزاء في الظن بأنهم (ضحايا) نظام أو استغلال ما. ويتميز الفاشل بعدم الرغبة في الاعتراف بمواطن ضعفه وعيوبه. وعندما يوجه حقده على السبب المزعوم في ضياعه يصبح مغالياً في تقديره لنفسه، وجريئاً في رغبته للانتقام. وتخلق الشيوعية ميلاً غير واع في أتباعها للعمل على الهبوط بالجنس البشري إلى مستوى عادي ويصبح الاتجاه السائد خلق تسوية معيارها التوسط في القدرة والبراعة، وخنق التفوق والطموح وأخذ عقل ماركس الغاضب المكتئب والذي تطارده أشباح المنطق التلمودي، الشاعر بالأرض الخصبة المهيأة له، أخذ يتصور بالتدريج قوة جديدة خبيثة للعمل السياسي. ومع تخليه غير الأخلاقي عن يهوديته، مزج بين مكر بني قومه وبين الخداع الميكافيلي، وأعطى (الطبقات الكادحة) عالمه (الجديد الشجاع). ولا يخفى على أحد أن فلسفته لم تعرض هدفاً نبيلاً لم تقدم دولة نموذجية، فذلك جزء حيوي من الخطة.
وأخيراً ظهر كتاب (رأس المال) الممل سنة 1855. كانت نظرية (قيمة الفائض) قد تطورت على أيدي آدم سميث، وريكاردو، وروبرت أوينز وأتباعه الإنجليز، وبراودهون في فرنسا، ورود برتوس في ألمانيا. فقام ماركس بسرقة الأفكار الرئيسية من (الخياليين) وأطاح بهيغل، واختلس (جدلياته)، واستغل أفكار فيورباخ (المادية)، وسرق نظريات (قيمة الفائض) وخلط هذا المزيج الغريب بعنف، بينما كان يلعن في نفس الوقت مختلف المؤلفين، وقدم حصيلة ذلك على أنه (الاشتراكية العلمية الماركسية).
كان ماركس يحاول أن يقول أنه بينما يزداد الغني غنى والفقير فقراً، تكون الرأسمالية بذلك تحفر لها قبراً، ولن تصبح هناك حاجة في مستقبل الاشتراكية للفؤوس والمعاول لحفر ذلك القبر.. هذا هو الأمر ليس إلا ! ولا بد أن ينتهي التفسير المادي للتاريخ، وربما التاريخ نفسه، عندما تنتهي الرأسمالية من حفر قبرها. وحتى نظام ماركس الجدلي الأنيق لا بد أن يهوي أرضاً في عالمه الاشتراكي الجديد الجريء، ولن تصبح هناك حاجة مطلقاً للبحث عن فرضية معاكسة، لأن الشيوعية ستكون آخر تركيب يجمع بين الطريحة والنقيض. ويمكن للمرء أن يفترض، قياساً على ذلك، بأن قانون الجاذبية يتوقف عندما تسقط التفاحة على الأرض وتصطدم بها.
كان كارل منجر النمساوي أول من هدم نظرية ماركس في (قيمة الفائض)، وأصبحت هذه النظرية الآن مرفوضة تماماً. ويمكن لأي طالب ذكي لم يدخل مرحلة التعليم العالي أن ينقض مفهوم ماركس (المادي) للتاريخ، الذي هو لب الماركسية. وإذا أبطلنا نظرية (قيمة الفائض) انهار الجانب الاقتصادي من الماركسية تماماً، وتصبح الإجابة في مقدور أي إنسان ذكي.. وإذا لم تثبت الملاحظة تناقصاً مستمراً في الرأسماليين وتزايداً مستمراً في العمال المعدمين فإن نظرية (قيمة الفائض) تتلاشى في سحابة من الدخان. والواقع أنه، منذ صدور كتاب (رأس المال) تزايد عدد الرأسماليين وأفراد الطبقة الوسطى الميسورة الحال بنسبة كبيرة، بينما يعيش أفراد الطبقة الكادحة في الولايات المتحدة مثلاً في حال أفضل مما عاشه كارل ماركس على نقود انجلز.
لم يكن هجوم كارل ماركس على الدين(أفيون الشعوب) هجوماً على كل الأديان بمقدار ما كان حرباً على المسيحية، ولم يكن ماركس، كمعظم المفكرين اليهود، موالياً لليهودية أكثر من التزامه بالمسيحية، ولكنه كان يهودياً من ناحية عرقية. وكان يؤمن بأن اليهودي، بصفته يهودياً، له حقوق ليست للمسيحي. فقد تساءل: (لماذا يطلب اليهودي حقوقاً لا يملكها ويتمتع بها المسيحي ؟). ورأى بمنطقه أن اليهودي، بنشدانه التحرر من الدولة المسيحية، يطلب أن تتخلى الدولة المسيحية عن تحاملها وتعصبها الديني. ولكن هل يتخلى اليهودي نفسه عن تحامله الديني وتعصبه ؟ وهل يجوز له بعدئذ أن يطالب الآخرين بالتخلي عن دياناتهم ؟ وينتهي ماركس إلى القول أنه طالما ظلت الدولة مسيحية وطالما ظل اليهودي يهودياً، يصبح الطرفان غير قادرين، الأول على منح الحرية، والثاني على نيل هذه الحرية.
إن الفلسفة الماركسية لا تتحمل التسوية والمصالحة. إذن، ما هو الحل الماركسي ؟
يستنتج ماركس أنه طالما ظلت الدول مسيحية، وطالما ظلت اليهودية عدواً لدوداً لدين الدولة فلا بد من وضع معادلة لتدمير المسيحية (وأي دين رسمي)، بإقامة مبدأ الإلحاد وإنكار وجود الله. يقول: (إن أسوأ شكل من أشكال التعارض بين المسيحي واليهودي هو التعارض الديني. وكيف يتخلص المرء من المعارضة؟ بجعلها مستحيلة الوقوع.. وكيف يمكن العمل على استحالة التعارض الديني ؟.. بطمس الدين).
كان ماركس يرغب في الاعتراف بأن اليهودي قد تحرر في زمنه، ولكن بطريقة يهودية. فقد اعتقد بأن اليهودي قد تحرر بأسلوب محكم مع تحول المسيحيين إلى يهود في تفكيرهم واتجاههم العملي. فكان ماركس يعلم أن اليهودي (الذي كان يعيش في فيينا ولا يجد إلا القليل من التسامح الديني أصبح يقرر بقوته المالية فقط مستقبل أوروبا، وأن اليهودي الذي ربما يفتقر لحقوقه في أصغر مقاطعة ألمانية، قرر مستقبل أوروبا. وكان ماركس يعتقد بأن اليهودي قد جعل من نفسه سيد السوق المالية عن طريق الذهب الذي أصبح قوة عالمية، وعن طريق (الروح اليهودية العملية) التي أصبحت، عملياً، روح الشعب المسيحي. ولكن هذا النوع من التحرر، في نظر ماركس، لم يكن يكفي. فالتحرر الحقيقي في الشعور الماركسي يمكن أن يتحقق فقط بالتدمير الكامل للدين.
ولا تنادي الماركسية فقط بضرورة هدم الدين في سبيل الوصول إلى السلطة، بل ويعمل الماركسيون في كل مكان لإزالة القومية. فالدين والقومية هما السور الواقي للحضارة، ويجب إزالتهما أولاً إذا أرادت الماركسية أن تهزم العالم وتسيطر عليه. ولما كانت الوطنية والقومية النتيجة الطبيعية والمنطقية لوحدة الأسرة المتضامنة فإن الماركسية تقوم بضرب الأسرة أيضا، فلا بد من تدميرها وجعل أفرادها مجرد أعضاء تذوب في الجماعة العامة. ولا تقف الماركسية عند هذا الحد، بل لا بد من النزول بكرامة الإنسان وروح المبادرة عنده، وبفرديته، إلى المستوى العادي.
* * *
ولد ثيودور هرتزل في بودابست في 2 مايو 1860، وقد قدر له أن يكون مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة. وقد تلقى دراسته الحقوقية في فيينا، ونال شهرة كبيرة كصحفي أدبي وكاتب مأساوي. ولكن عمله كمؤسس للصهيونية الحديثة طغى على كل انجازاته الأخرى.
نشر هيرتزل كتابه (الدولة اليهودية) سنة 1896، ونادى فيه بأنه ليس أمام اليهود إلا أحد خيارين اثنين: الاندماج الكامل مع الأجناس الأخرى، أو المحافظة على النفس بالقومية السياسية، وتبنى هو الاتجاه الثاني.
كان حل هيرتزل للقضية اليهودية حلاً اقتصادياً وسياسياً بحتاً، ولم يكن يصر في بداية الأمر على فلسطين كوطن جديد لليهود.
ولكن أفكار هيرتزل اكتسحت يهود أوروبا منعشة أحلامهم القومية القديمة.
والتقى (المؤتمر الصهيوني) العالمي لأول مرة في مدينة (بال) بسويسرا سنة 1897، ووضع القواعد الدائمة لتنظيم الصهيونية، وسمى المؤتمر نفسه، جورا، (الأمة اليهودية)، وأنشأ اليهود تنظيماً سياسياً عالمياً.
ولكن الصهيونية عانت من نكسة عنيفة بموت الدكتور هيرتزل سنة 1904. ولكن هيرتزل قد عمل على تعطيل التطور العادي للعالم اليهودي على طريق الحرية الفردية أكثر مما عمله أي زعيم يهودي آخر منذ سنة 1666، فقد أوجد (عصر النهضة) و(الإصلاح) ثورة في تفكير الإنسان حول (الإنسان)، واكتسحت العالم الغربي الأفكار الجديدة عن حقوق الإنسان. ولكن هيرتزل وحركته الصهيونية ألحقا ضرراً كبيراً باليهودية العالمية في مسيرتها نحو الحرية الفردية والكرامة الإنسانية، وساقا الفرد اليهودي ثانية إلى ما وراء جدار الغيتو التي عزلت القومية اليهودية وغذت روح العداء ضد الأقوام الأخرى.
لقد ادعى هيرتزل بأن قضية (دريفاس)(1) هي التي جعلت منه صهيونياً، ولكنه أخفق في رؤية (زولا) والشعب الفرنسي الذي دافع عن دريفاس. وهاجم هيرتزل ادموند روتشيلد لدعمه المسرف للمشاريع الصهيونية بحجة أنه دعم (إنساني) لا دعماً يخدم (المصالح القومية) وهدده بإثارة الشعور العام ضده إلى درجة يصعب معها حفظ النظام.. وحاول مقايضة اشتراك اليهود في الحركات الثورية بروسيا القيصرية وألمانيا بامتياز سياسي في فلسطين. ولقد خلق هيرتزل موجة من المعاداة للسامية في كل حركة، ووضع أسافين لسوء التفاهم بين اليهود والمسيحيين، وعمل على إبعاد اليهود عن أي كفاح عادل للوصول إلى حقوق عادلة في البلدان التي نشأوا وأقاموا فيها، وأبدل ذلك بالفكرة المجرمة (انتزاع العرب من فلسطين وإقامة الدولة اليهودية).
وقد ترك هيرتزل خلفه (جمهوراً كبيراً قلقاً من اليهود، وعمل على زرع الفرقة والخلاف بين اليهود كما لم يحدث أن تفرقوا واختلفوا منذ اختلافهم على يوم السبت).
ثم عكفت الحركة الصهيونية على تشكيل طابور خامس منيع في فلسطين، وسعى قادة الصهاينة، من خلال الهجرة المتزايدة والحصول على الأراضي، إلى التدرج في نزع ملكية العرب، ثم الاستيلاء على البلد بكامله، في الوقت المناسب. ويبين نجاح الخطة مدى الصبر اليهودي والتماسك، رغم أن ذلك يترك المجال لكثير من الحديث عن أساليبهم غير الأخلاقية.
تأسس (الصندوق القومي اليهودي) ليكون وسيلة تمويل الاغتصاب السري لفلسطين، ورغم أن المنظمة اشترت، بهدوء، أرضاً واسعة قبل سنة 1910، إلا أنها صعدت نشاطها وبرامجها بعد ذلك(2).
بينما يهتاج اليهود ويثورون على القوانين والمواثيق التي تسد أمامهم الطريق للوصول إلى ما عند الغير، نلاحظ أن قانون الصندوق القومي اليهودي يمنع تأجير أراضيه لغير اليهودي ويحرم تحريماً قاطعاً بيع أي شبر من أراضيه للعرب.
وعندما بدأ الاستعمار اليهودي لفلسطين أسرع اليهود في تطوير الثقافة العبرية والمستوطنات اليهودية. ورغم توقف النشاط الصهيوني في فلسطين مع الحرب العالمية الأولى إلا أن الصهيونية واصلت مساومة الدعم اليهودي للحلفاء مقابل إعلان سياسي حول فلسطين، كجزء من تسويات ما بعد الحرب.
فترأس الدكتور حاييم وايزمان، من جامعة مانشستر، جماعة من الصهاينة السياسيين ببريطانيا، اقترحت أن تشترط بريطانيا العظمى في تسوية السلام إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
ولكن الإصلاحيين اليهود في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية عارضوا الصهيونية، وكانوا قد أزالوا من كتب الصلاة ذكر القدس وجبل صهيون. بل وجد من أعلن بأن الحركة وبال لليهود، وأنها ستولد وتزيد من العداء للسامية.
غير أن اليهود الروس في الولايات المتحدة كانوا أصحاب الثروة والسلطة والرغبة الجامحة في دعم الصهيونية. وكانت (المنظمة الصهيونية بأمريكا) قد تأسست سنة 1897، وسرعان ما أقيمت فروع للنساء (الهداسا)، والأطفال وكذلك (شباب يهودا)، وذلك لتصعيد نشاط المنظمة الأم. وقد عمل لويس برانديس كرئيس للمنظمة الصهيونية بأمريكا قبل تعيينه في المحكمة العليا.
وفي سنة 1951، وحتى بعد إقامة دولة إسرائيل، أعادت الصهيونية تنظيم صفوفها واستعدت للقيام بعمليات احتلال كبرى. وكتب الدكتور (ماكس نوسباوم) يقول: (إن فكرة هيرتزل عن (إخضاع الأقليات) يجب أن تتحول إلى حقيقة في أيامنا هذه. فيجب أن تكون إحدى مشاريعنا للسنوات القادمة إقامة مجالس للجماعة اليهودية، تتطور إلى جماعات أشبه بالكهيلا العضوية.. إن علينا أن نحقق أحلام هيرتزل بإخضاع الأقليات وقيادتها لروح البقاء اليهودية..).
وقد صاحب ظهور آل روتشيلد نشاط تنظيمي لليهودية العالمية، وعملت مصاهرة اليهود للأسر النبيلة الأممية بأوروبا على حماية الأمميين للمطامح الصهيونية، بينما عمل التزاوج مع الأسر المصرفية اليهودية الأخرى على تعزيز النفوذ والتوجيه المالي لآل روتشيلد.
وازدادت المؤتمرات اليهودية الدولية أكثر فأكثر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وإذا كان ليو بنسكر وثيودور هيرتزل هما اللذان جهرا بالدعوة لقيام منظمة يهودية دولية، فإن آل روتشيلد بسيطرتهم على المال العالمي، هم الذين جعلوا الدعوة لذلك أمراً ممكن التحقيق. وهكذا فإن الذي كان يعد خيانة في القرن الثامن عشر مر دون أن يتحداه أحد في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر.
وجاء ما يسمى (إعلان كوبنهاجن)، الذي تبنته (المنظمة الصهيونية العالمية) سنة 1918، وأقر كارلزباد سنة 1921، بالإضافة لتأكيد الادعاءات اليهودية في فلسطين، جاء يدعو إلى (المساواة الكاملة والواقعية بين اليهود وغيرهم في كل بلد، بالإضافة إلى الاستقلال القومي بالنسبة للأنشطة الثقافية والاجتماعية والسياسية للأقليات اليهودية في البلدان ذات الأعداد الكبيرة من السكان اليهود، وفي كل البلدان الأخرى التي يمكن أن يطلب فيها السكان اليهود هذا الاستقلال).
ويمكن اعتبار إعلان كوبنهاجن فريداً من نوعه، مثل (الإعلان الشيوعي). فقد دعا الثاني إلى مصادرة الممتلكات الخاصة والإطاحة بحكومات العالم القائمة. وطلب الأول اغتصاب بلد لم يحتله اليهود ولم ينتسبوا إليه، وطلب، بالإضافة لذلك، إقامة (أمة داخل أمة)، وبذلك يرتفع اليهود وتصبح لهم حقوق أكبر من حقوق زملائهم من المواطنين في البلد الذي ولدوا فيه وأقاموا فيه.
ويشن دعاة الماركسية وأبواقها هجوماً عنيفاً على (الأم) و(الوطن) و(الجنة) و(العلم) و(الوطن الأم) و(الوطنية) ويجعلون هذه الأسماء المحبوبة تبدو وكأنها مستهجنة ورجعية ومجرد بقايا من العصر القبلي يحافظ عليها الأشرار من الناس لكسب المال. وترى تلك الأبواق أن (غرس) هذه القيم والمفاهيم في عقول الناس يخلق (وطنيين)، وهؤلاء (الوطنيون)، من وجهة نظر الماركسية، إقليميون وغير ناضجين ذهنياً و(رجعيون). أما اليهودية المنظمة فهي تعتبر الوطنية معادلة للقومية، والقومية معادلة للفاشية، والفاشية تعني (معاداة السامية). وهذا المفهوم اليهودي، بالطبع، ينطبق على الوطنية الأممية فقط وليس له صلة بالقومية اليهودية.
ويتفق معظم الذين ينتقدون (القومية) على أنها هي الخطر الذي يهدد بشكل أساسي الاشتراكيين الشيوعيين واليهود وغيرهم من الحلفاء الذي يشكلون عنصر تصديع داخل أي بلد. ورغم أنهم لا يصرحون بذلك علناً، لكن هذا واضح عندهم. وهم كذلك ينسون ويلقون جانباً المبدأ القائل أن كل الأفراد والجماعات المضطهدة تتجه لحماية نفسها عندما تتعرض للخطر، وأن حب البقاء هو أول قوانين الطبيعة. فالشيوعيون يعلنون بجرأة هدفهم في تدمير حرية الأفراد ومصادرة ممتلكاتهم وإخضاع حياتهم لنسق عام. وكذلك اليهودية المنظمة، سواء كانت حليفة للماركسيين، أم أمة مستقلة داخل أمة، تصر على المحافظة على وضع مستقل بجنسية مزدوجة أو بدون جنسية مزدوجة. أم الاستيلاء الناشئ عند الذين يقاومون الأهداف الشيوعية والصهيونية فإنه يدمغ زوراً بطابع (الفاشية).
ويسير رواد الجماعية شوطاً أبعد في هجومهم الدائم على القوة المقاومة عند الذين يريدون تحطيمهم. فينادي هؤلاء الرواد بأن الذين يدعون للاستعداد العسكري ولتبني سياسة خارجية قوية، هم (القوميون المتطرفون) الذي يتحولون إلى (نازيين وفاشيين). وإذا تشكلت أفكار أمة حسب هذا الاتجاه الشيوعي والصهيوني فإنها ستفشل في مقاومة أي هجوم، وتهلك دون أن ترفع يدها عن نفسها. وإذا أمكن جعل زعيم أمة يعتقد بأن الخوف من الشيوعية أو الصهيونية هو (جنون الارتياب) وأن الاستعداد لمواجهة ذلك الخطر هو (جنون العظمة) فإن دمار الحضارة سيتحقق دون بذل جهد بشري كبير من جانب أعدائها.
من الواضح أن الذين يشوهون سمعة الوطنية لا يجدون ما يعيبونه على الأفراد والجماعات ـ من الشيوعيين ـ الذي يعلنون عن نيتهم في تدمير كل الأمم ـ عدا الاتحاد السوفييتي. ويبدو أن تهديد حياة وممتلكات وحريات الناس في كل مكان، فضيلة عالية المكانة عندما يمارسه الشيوعيون، وأما الإصرار على البقاء أمة داخل أمم العالم، وغزو وسرقة بلد ما، فإن ذلك يبدو مثالياً عندما يأتي من جانب اليهودية المنظمة.
والتجانس أيضاً يعتبر نوعاً آخر من أنواع (جنون العظمة) في الذهنية القومية، حسب الدعوة الماركسية لقيام دولة (عالمية) واحدة. فالدعوة للتجانس من جانب شعب ما توصم دائماً بأنها اضطهاد للأقليات بسبب الجنس أو اللغة أو الدين. فالذي يدعو إلى قيام الدولة العالمية لا يعترف مطلقاً بالولاء للوطن أو الأمة، والتمثيل السياسي أو التضامن الوطني ـ إلا إذا خضعت لفلسفته الخاصة. أما النشاطات الحاقدة والمعادية للفوضويين الأجانب والشيوعيين والصهاينة، والذي يعملون جميعاً ضد مصالح البلد الذي اختاروه للإقامة أو لجؤوا إليه، فإنها تعتبر عند الماركسيين شذوذاً يستحق التنديد. وتعلو الصيحات المعادية للتجانس بشكل خاص في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث وجدت العناصر المتنافرة، الحرية والكرم.. ولا يكفي هؤلاء اللاجئين أن يجدوا الملجأ والحرية، بل لا بد لهم بالضرورة من مواصلة إقامة التكتلات التي سببت طردهم من بلدانهم الأصلية. ولا يكفي أن يصبحوا مواطنين أمريكيين أو بريطانيين مع حريتهم في مزاولة معتقداتهم الدينية الخاصة، والتمتع بحقوق المواطنية، بل لا بد لهم أن يدمروا غريزة التجانس عند الأغلبية حتى لا يلاحظ أحد وضعهم الخاص وامتناعهم عن التجانس.
ولقد أورث ماركس أتباعه شيئاً آخر غير (الإعلان الشيوعي) و(رأس المال).. أورثهم الحب في الطعن المرير والحقد المتأجج والتصميم على العنف كما لم يسبق أن ورث أحد أتباعه من قبل. وقد حقن فلسفته بالحيوية الدامغة للتدمير. وما الكادح الملثم الذي خلقه في خياله إلا مزيج ألفي سنة من أحبار ماركس. وقد تغلغلت الحياة الملتهبة التي نفخها في مخلوقه المعذب داخل كل ذرة من كيانه، مع رغبته المستمرة في الموت على المتاريس التي توضع في طريقه.
لم يخلف ماركس برنامجاً سوى الحرب والثورة، أما (الأخوة) التي أقامها فقد كانت أمها (الحسد) وأبوها (الكراهية). ولما اعتقد بأنه قد دمر الله فقد قام هو نفسه بدور الإله. ولما أخفق في ترك علامات للطريق المؤدية إلى جنة العمال، فقد أصبح أتباعه من مائة طائفة يرسمون لأنفسهم طرائق قددا.. ويمكن (للرفاق) أن يقطعوا رقاب بعضهم البعض للتدريب على حرب (الرأسماليين)، ولا بأس بذلك لأنهم سيحاربون أخيراً إلى جنب المتاريس ضد العدو المشترك.
وكانت نتيجة كل ذلك الاهتياج والإثارة وضع أساس الصهيونية السياسية على يدي هيرتزل سنة 1897، فعقد في تلك السنة أول مؤتمرين، تمخضت عنهما حركتان يهوديتان قدر لهما أن يغيرا مسار التاريخ: (فهذا ثيودور هيرتزل يترأس (المؤتمر الصهيوني) الأول، وتلك (الجمعية الاشتراكية اليهودية) تلتقي في (المؤتمر الشيوعي) الأول في منسك.
ولا عجب أن يحتل (موسى هيس)، الذي سماه ماركس (الحبر الشيوعي) مكانة هامة في التاريخ. فهو في وقت واحد المناصر الخبيث لحركتين خبيثتين، تبدوان لأول وهلة متعارضتين تماماً ـ الصهيونية السياسية والشيوعية العالمية ـ ولم يجد هيس تناقضاً بين بهوديته وبين جموحه لتدمير العالم المسيحي. فقام هذا الكاتب والزعيم الاشتراكي، المنادي بالإطاحة بكل الحكومات الأخرى بالقوة، بتوجيه النصح لإخوانه اليهود للتضحية بالتحرر إذا كان التحرر يتعارض مع القومية اليهودية ! وأعلن عن اعتقاده باستحالة إزالة الشعور القومي اليهودي، وعن دوام بقاء الشكل اليهودي والنموذج اليهودي كما هو عليه.
وعندما تجد اليهودية المنظمة ذلك ملائماً، تعلن بأن (اليهود كانوا دائماً يؤمنون بالحركة الاشتراكية الحديثة منذ بدئها) (دائرة المعارف اليهودية)، وعندما يكون التنبؤ منها يخدم صالح اليهودية، تعلن بأن الشيوعية لا تتمشى مع اليهودية أو الصهيونية.
لقد اكتسحت أوروبا، مع ظهور الماركسية، موجة من الإلحاد عارمة، فغمرت الأماكن المنخفضة من العالم المسيحي، ومضت الموجة تتدحرج عبر البحار إلى أمريكا مرتفعة أكثر فأكثر إلى أن ضربت جدران الكليات والجامعات وعلت حتى وصلت منابر الكنائس التي تصدت للنيران والسيف. ومع تحرك المياه الموحلة، هوت أعلام دول ذات كبرياء وضاعت مع ربان السفن وقذارة الفيضان. وحيثما وصلت تلك المياه ظهرت ندبات كبيرة من التآكل والتعرية على وجه الأرض ـ ندبات على الكرامة الإنسانية الضائعة وحرياتها المتلاشية.
وبدأت العقيدة الدينية والقيم تتهاوى تحت أمواج الفيضان العاتية، وولت الحقائق الخالدة أمام الصراخ الأجش والسخريات المهينة من حشود الدهماء الشهوانية، وخيم على الأرض ليل حالك وطويل.
(1) ـ الفريد دريفاس: (1859 ـ 1935) هو جندي يهودي فرنسي سجن سنة 1894 في جزيرة الشيطان بغينيا بتهمة التجسس ثم أطلق سراحه سنة 1906 بعد حملة عنيفة أحدثت انقساماً سياسياً واجتماعياً طويلاً في فرنسا، وانبرت اليهودية تتهم الفرنسيين بالعداء للسامية.
(2) ـ يعتبر الصندوق القومي اليهودي أحد الجهات الأساسية المستفيدة من (نداء فلسطين الحر) الذي كان بدوره أكبر مستفيد من (النداء اليهودي المتحد). وقد قال بنيامين براودي، رئيس المنظمة الصهيونية بأمريكا أن (الصندوق القومي اليهودي) هو الصورة المصغرة من ملامح الحركة الصهيونية، ولو لم يوجد لما أقيمت الدولة اليهودية مطلقاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق