الأحد، 20 أبريل 2008

دراسات في الحقبة الناصرية (10)

عبد الناصر والصراع العربى / الإسرائيلى ..
بين الإدراك والإدارة
ما تزال الحاجة ماسة إلى قراءة جديدة لعلاقة مصر بالصراع العربى/الإسرائيلى، وخصوصا خلال الحقبة الناصرية، فعلى الرغم من سيل الكتابات التى تناولت هذا الموضوع طوال الأعوام الثلاثين السابقة، إلا أن العديد منها وقع تحت تأثير عوامل مختلفة جنحت بها حيناً نحو التبرير، وحيناً نحو التشهير دفاعاً عن مصلحة أو رغبة فى انتقام، وذهب البعض فى معرض تصفية حسابات قديمة مع عبد الناصر ونظامه إلى حد تصويره وكأنه المسئول الأول، إن لم يكن الوحيد ، عن الزج بمصر فى صراع " لا ناقة لمصر فيه ولا جمل " على الرغم من أن حقائق التاريخ المجردة تقول بأن انخراط مصر فى هذا الصراع بدأ قبل ظهور عبد الناصر على مسرح السياسة بسنين طويلة، وأن اشتراك مصر - وهزيمتها أيضا - فى أول الحروب العربية/الإسرائيلية تم قبل قيام ثورة يوليو بأربع سنوات كاملة، وأن مصر ما تزال منخرطة كلية فى هذا الصراع على المستويين الشعبى والرسمى ، رغم مرور ثلاثين عاماً على رحيل عبد الناصر، وأكثر من عشرين عاماً على إبرام معاهدة سلام رسمية مع إسرائيل .وليس الهدف من الدعوة إلى قراءة جديدة للصراع العربى/الإسرائيلى هو الدفاع عن عبد الناصر أو تبرير سياساته؛ فعبد الناصر ليس فى حاجة إلى من يدافع عنه أو يبرر سياساته، والتكريم الحقيقى لرجل فى قامته لا يكون إلا ببذل الجهد الصادق والدءوب لاستجـلاء الحقيقـة أمام شعـوب أمـة لـم يكـن عبد الناصر - رغم كل الأخطاء - سوى التجسيد الحى لطموحاتها فى مرحلة بالغة الأهمية من مراحل تطورها. ولوضع هذه الدعوة فى سياقها الصحيح يحسن بنا أن نبدأ بعدد من الملاحظات التمهيدية نجملها على النحو التالى :
الملاحظة الأولى : تتعلق بطبيعة الصراع العربى/الإسرائيلى وبدوافع انخراط مصر فيه، فهذا الصراع يدخل فى إطار ما يعرف فى أدبيات العلاقات الدولية باسم"الصراعات الاجتماعية الممتدة protracted social conflicts "، وهى صراعات تدور حول قضايا عميقة الجذور تمس مصالح حيوية تهم الشعوب ككل بصرف النظر عن طبيعة النظم السياسية الحاكمة.
و لهذه الملاحظة أهميتها القصوى؛ لأن انخراط مصر فى هذا الصراع لم يكن بسبب سيادة شكل معين من أشكال النظم السياسية أو العقائدية، وإنما بسبب موضوع الصراع نفسه والذى مس أموراً تتعلق بأمن مصر الوطنى وبدورها الإقليمى، إضافة إلى الاعتبارات القومية والدينية والحضارية الأخرى . ولذلك لم يكن غريباً أن تصبح مصر طرفاً رئيسياً فى هذا الصراع ، سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها ، وأن تخوضه تحت راية جميع أشكال الحكم ، ليبرالية كانت أم شمولية ، وأن تمارسه فى ظل كافة أشكال النظم الدولية متعددة ، أم ثنائية ، أم أحادية القطبية، والتى تعاقبت على الساحتين المحلية والدولية طوال تلك الفترة .
الملاحظة الثانية : تتعلق بأدوات وأساليب إدارة الصراع ، والتى قد تختلف من طرف إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى باختلاف مجمل المعطيات المحلية والإقليمية والعالمية المؤثرة على أوضاع وأطراف الصراع فى كل مرحلة . غير أن العبرة فى النهاية ليست بنوع الأسلوب المستخدم فى إدارة الصراع ، وإنما بجدوى هذا الأسلوب ، وبمدى قدرته على تحقيق الأهداف واستخلاص الحقوق . وفى تقديرنا أنه لا توجد علاقة ميكانيكية بين الأسلوب المستخدم فى إدارة الصراع وبين شكل النظام السياسى السائد ، فقد خاضت مصر الحرب ضد إسرائيل فى العهد الملكى القديم مثلما خاضتها فى ظل نظامى عبد الناصر و السادات، وجرت محاولات للتسوية السلمية فى كل مراحل الصراع وتحت راية كل النظم التى تعاقبت على مصر منذ بدء الصراع ، كما تذبذبت مناهج إدارة الصراع بين التهدئة والتصعيد، إلى أن رجحت كفة الميزان فى اتجاه البحث عن تسوية نهائية منذ زيارة السادات لِلقدس فى نوفمبر 1977.
ومع ذلك فلا يستطيع أحد أن ينكر أن الحقبة الناصرية كانت فى مجملها أكثر مراحل الصراع تكثيفاً وتصعيداً.
الملاحظة الثالثة : تتعلق بطبيعة العملية الجارية حالياً للبحث عن تسوية، فهذه العملية تجرى فى ظل خلل شديد فى موازين القوة لصالح الطرف الإسرائيلى، واقترنت أساساً بتغير أو بتآكل فى المواقف العربية، وخاصة فى الموقف المصرى، بأكثر مما ارتبطت بتغير أو بتآكل فى الموقف الإسرائيلى . يضاف إلى ذلك أن احتمالات الوصول إلى تسوية سياسية شاملة قابلة للدوام ما تزال بعيدة ، على الرغم من مرور ما يقرب من ربع قرن على بدء المفاوضات المباشرة مع إسرائيل ، غير أنه من الإنصاف فى الوقت نفسه أن نؤكد على أن تعثر عملية التسوية الجارية حالياً بسبب الخلل الحادث فى موازين القوى لصالح الطرف الإسرائيلى؛ لا يعد مسئولية طرف عربى بعينه، وإنما هو نتاج أخطاء تراكمت على مدى نصف القرن المنصرم، وتسببت فيها - وإن بدرجات متباينة - كافة القيادات العربية. و فى سياق هذه المسئولية المشتركة يتعين فى تقديرنا أن نبحث عن طبيعة الدور الذى لعبه عبد الناصر فى الصراع .وللتعرف على حقيقة هذا الدور ينبغى أن نميز بداية بين بعدين رئيسيين :
الأول : إدراكى .. يتعلق بكيفية إدراك عبد الناصر لطبيعة الصراع ولما ينطوى عليه من قيم ومصالح وإشكاليات ؛ والإدراك كما هو معروف هو عملية ذهنية ونفسية معقدة لفهم واستيعاب الوقائع والأحداث المحيطة، والربط فيما بينها .
الثانى : عملى أو إجرائى .. يتعلق بأسلوب عبد الناصر فى إدارة الصراع، ونقصد بذلك طريقته فى تحديد الأهداف، وترتيب الأولويات، وفى رسم السياسات، ووضع الخطط والاستراتيجيات والتكتيكات اللازمة لتحقيق تلك الأهداف، وفى حشد وتعبئة الوسائل والإمكانيات المتاحة ، أو المحتمل توظيفها لحسم الصراع .
وعلاقة الارتباط بين هذين البعدين تبدو بديهية لا تحتاج إلى إثبات، إذ تتوقف طريقة إدارة أى صراع بطبيعة الحال على طريقة إدراك صناع القرار لحجم ونوع القيم والمصالح المتصلة به والموارد المتاحة، أو المستخدمة فيه من جانب أطرافه ... إلخ .ومع ذلك فهذين البعدين ليسا متطابقين دائماً وبالضرورة فى كل الأحوال ، فبينما تركز دراسة البعد الخاص بالإدراك على النسق الفكرى والعقيدى الذى يرى صانع القرار من خلاله طبيعة الصراع وما قد ينطوى عليه من مخاطر ومحاذير أو من مغانم وفرص، فإن دراسة البعد الخاص بالإدارة تركز على سلوك وتصرفات صانع القرار؛ أى على مبادراته أو ردود أفعاله ، وعلى حساباته وتقديراته المختلفة لسلوك وتصرفات الأطراف المشاركة فى الصراع ، أو المتأثرة به فى مراحل تطوره المختلفة وخاصة فى أوقات الأزمات ، ولذلك فمن المتصور، نظرياً على الأقل ، إمكانية وجود فجوة قد تضيق أو تتسع حسب الأحوال بين طريقة إدراك الصراع ، وبين طرق وأساليب إدارته .
1 - إدراك عبد الناصر لطبيعة الصراع :تجمـــع كافـــة الـدراسـات التى تناولـت بالتحليـل شخصيـة الرئيـس عبد الناصر وسيرته الذاتية على أن عبد الناصر لم يكن زعيماً عقائدياً يحدد مواقفه السياسية وفق أفكار ونظريات جاهزة، وأنه كان يتحلى بعقلية براجماتية، وليس معنى ذلك افتقاد عبد الناصر لوضوح الرؤية من الناحية الفكرية، أو أن قراراته ومواقفه السياسية كانت نابعة من اعتبارات عملية بحتة تمليها الضرورات وتفتقد إلى أى أطر أو مرجعية فكرية ، فقد كان لعبد الناصر نسقه الفكرى والعقيدى الواضح، وهو نسق تأثر عبر مراحل تطوره المختلفة بالعديد من التيارات الفكرية والأيديولوجية، وخاصة القومية منها والاشتراكية، ومن المعروف أن عبد الناصر كان قد احتك فى مرحلة الشباب بمعظم الأحزاب السياسية ، وتفاعل مع معظم التيارات الفكرية النشطة والصاعدة فى حقبة الأربعينات، وربما يكون قد ارتبط تنظيمياً ببعضها فى مراحل زمنية مختلفة، وإن كانت قصيرة، وخاصة بمصر الفتاة، والإخوان المسلمين، والشيوعيين وغيرها .
وكان من اللافت للنظر حرص عبد الناصر عند تشكيله للتنظيم السرى للضباط الأحرار على تجنيد عناصر تنتمى لكل القوى والتيارات الحية والفاعلة فى المجتمع المصرى، مما جعل هذا التنظيم أقرب ما يكون إلى شكل الجبهة الوطنية - التى تضم كل ألوان الطيف السياسى فى مصر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار- منه إلى شكل الحزب أو التيار السياسى .فى هذا السياق فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن إدراك عبد الناصر لطبيعة الصراع العربى/الإسرائيلى لم تحكمه قوالب نظرية أو فكرية مسبقة وجامدة منذ البداية، وإنما تطور تدريجياً وفقاً لتطور رؤيته وخبرته الشخصية المستمدة من طريقته فى التفاعل مع المعطيات المختلفة لعناصر هذا الصراع، سواء فى مرحلة ما قبل الثورة أو بعدها.أولاً : مرحلة ما قبل الثورة :وفيها يمكن رصد عدد من الوقائع أو الأحداث ذات الدلالة فى تشكيل وعى عبد الناصر المبكر ببعض أبعاد الصراع العربى/الإسرائيلى، من هذه الوقائع :
1 - اشتراك عبد الناصر مع زملائه وهو ما يزال فى مرحلة التعليم الثانوى فى مظـاهرة أو فـى إضـراب سـنوى عـام فــى ذكـرى وعد بلفور، وقد وصف عبد الناصر فى مرحلة لاحقة هذا الوعد بعبارات بليغة تقول بأن " من لا يملك أعطى وعداً لمن لا يستحق " .
2 - مقابلة عبد الناصر للحاج أمين الحسينى مفتى فلسطين، والذى كان يقيم فى حى الزيتون بالقاهرة فى أعقاب صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947، ليبلغه باستعداد ضباط فى الجيش المصرى للتطوع والمشاركة فى القتال إلى جانب الفلسطينيين والمتطوعين العرب الآخرين .
3 - مشاركة عبد الناصر المباشرة فى تجربة حرب وهزيمة 1948 بوصفه رئيساً لأركان حرب الكتيبة السادسة التى احتلت مواقعها فى عراق المنشية، وقاتلت ببسالة وحوصرت فى منطقة الفالوجا . وفيما يتعلق بواقعة اشتراك عبد الناصر مع زملائه من طلاب المدارس الثانوية فى مظاهرات تحتج على وعد بلفور؛ فإن دلالتها لم تتجاوز حماس شاب لديه الاستعداد للمشاركة فى العمل العام تحت راية الحركة الوطنية المصرية الواسعة بروافدها المختلفة، والتى كانت قد بدأت تتفاعل بشكل إيجابى مع قضايا ومع حركات التحرر الوطنى فى العالم بشكل عام، وفى العالم العربى بشكل خــاص .
وخــلال هذه الفترة غرسـت فى وجــدان عبد الناصر بذرة الإحساس المبكر بتعرض الشعب الفلسطينى لظلم فادح من جانب نفس المستعمر الذى يحتل أرض مصر، لكنه لم يكن واعياً فى تلك الفترة المبكرة من حياته كما يقول هو نفسه فى كتاب " فلسفة الثورة " بكل دلالات هذا الحدث وتأثيراته المحتملة على مصر . أما فيما يتعلق بواقعة ذهاب عبد الناصر لمقابلة الحاج أمين الحسينى فقد جاءت بتكليف من تنظيم الضباط الأحرار، والذى كان ما يزال فى طور التشكيل فى ذلك الوقت ، ولا تتوافر لدينا تفصيلات كثيرة بشأن تلك الواقعة. فليس من المعروف مثلاً ما إذا كانت فكرة الاتصال بالحاج أمين الحسينى لإبلاغه باستعداد ضباط مصريين للتطوع للتدريب أو للقتال فى فلسطين نابعة منه، ولا حتى ما إذا كان هو شخصياً من بين المتحمسين لها .
والأرجح أن الفكرة نبعت من صفوف الضباط المنتمين لتنظيم الإخوان المسلمين، والذى كان أكثر فصائل الحركة الوطنية تحمساً للقتال فى فلسطين ، غير أن الشىء المؤكد أن عبد الناصر لم يعترض عليها أو يعتبرها مغامرة غير مأمونة العواقب، على الرغم من أنه لا يوجد ما يشير إلى أنه كان من بين المتحمسين لها، أو من بين الراغبين شخصياً فى التطوع والقتال فى فلسطين قبل قرار الحكومة المصرية الاشتراك فى الحرب . أما مشاركة عبد الناصر فى حرب 1948 كضابط فى الجيش المصرى، والذى خاض معركة خاسرة إلى جانب جيوش عربية بدت مغلوبة على أمرها هى الأخرى؛ فكانت على الأرجح هى أكثر تجارب عبد الناصر السابقة على الثورة تأثيراً فى تشكيل مدركاته عن الصراع العربى/الإسرائيلى فى تلك الفترة، فلا شـك أن هذه التجربة قــد أضافــت إلى نسـقه العقيدى ـ والذى كان ما يزال فى مرحلة التشكل ـ قناعات جديدة، علاوة على تأكيدها لقناعات سابقة .
ووفقـاً للمعلومـات الـواردة فـى كتـاب فلسفـة الثورة يمكن القول أن عبد الناصر استخلص من هذه التجربة ثلاثة أمور رئيسية يبدو أنها أثرت بشكل كبير فى تشكيل فكره السياسى بشكل عام، وخاصة ما يتعلق منه برؤيته لطبيعة الصراع العربى/الإسرائيلى، واستقرت فى ضميره ووجدانه كحقائق أو مسلمات لا تقبل الجدل ، ويمكن إجمال هذه الأمور الثلاث على النحو التالى :
1- أنه لم يكن يقاتل فى أرض غريبة .
2- أن ما حدث فى فلسطين، كان وما زال، يمكن أن يحدث لأى بلد آخر فى المنطقة إذا ما استسلم هذا البلد للعوامل والعناصر التى تحكمه الآن.
3- أن المنطقة العربية تخضع لنفس العوامل والظروف والقوى التى تحاول أن تتحكم فى مصيرها، وعلى رأسها قوى الاستعمار التقليدى والقوى المرتبطة به أو المتعاونة معه .ومع ذلك فمن الصعب فى اعتقادى القطع بوجود علاقة سببية بين تجربة اشتراك عبد الناصر فى القتال على أرض فلسطين، وبين حدث الإطاحة بالنظام السائد فى مصر وقتها؛ وذلك لسبب بسيط وهو أن التخطيط للثورة على هذا النظام بدأ قبل حرب 1948 ، وكان يمكن أن يستمر وأن ينجح بصرف النظر عن وقوع الحرب واشتراك عبد الناصر وبعض رفاقه فيها من عدمه ، غير أنه من المؤكد أن هذه التجربة ساهمت ، وبحكم كونها تجربة كاشفة للمزيد من مظاهر عجز وفساد هذا النظام ، فى زيادة إصرار عبد الناصر على المضى قدماً فى تنفيذ مخططه .
على صعيد آخر، يمكن القول أنه كان لهذه التجربة تأثيرات بعيدة المدى على إدراك عبد الناصر لطبيعة الصراع العربى/الإسرائيلى، ولدور مصر فيه من أكثر من زاوية :الأولى : تعميق إدراكه للطبيعة العسكرية، والعدوانية، والتوسعية للدولة الإسرائيلية البازغة بحكم الاحتكاك المباشر مع " العدو " فى ميدان قتال، لكن ذلك لا يعنى أن هذه التجربة رسبت لدى عبد الناصر بالضرورة مشاعر انتقامية أو اقتناعاً بأن الحرب باتت هى الوسيلة الوحيدة لحسم الصراع.الثانية : بلورة وإنضاج رؤيته لما يتعين أن يكون عليه دور مصر فى المنطقة ، وذلك بحكم مشاركة جيوش عربية أخرى فى قتال نفس العدو وفى نفس الميدان ، وقد عبر عبد الناصر عن رؤيته هذه فى " فلسفة الثورة "، معتبراً الدائرة العربية هى أولى وأهم الدوائر الثلاث فيما يجب أن تكون عليه حركة السياسة الخارجية المصرية . والواقع أن القراءة المدققة لمجمل البيانات والتصريحات الصادرة عن عبد الناصر أو عن مجلس قيادة الثورة، وكذلك الأفكار الواردة فى كتاب فلسفة الثورة المنشور عام 1954 تشير إلى أن إدراك عبد الناصر لطبيعة الصراع العربى/الإسرائيلى ، ولدور مصر فيه لم يكن موضوعاً قائماً بذاته، وإنما جاء فى سياق رؤية شاملة لإعادة بناء الدولة المصرية الحديثة فى سياق الأهداف التى حددتها الثورة، ويمكن استخلاص أهم معالم هذه الرؤية على النحو التالى:
أولاً : أن الأولوية القصوى يجب أن تعطى لإعادة بناء المجتمع المصرى سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، من منطلق أن إقامة مجتمع عصرى حديث فى مصر هو المدخل الصحيح لمعالجة كل أوجه القصور والمشكلات التى تواجه مصر على الصعيدين الداخلى والخارجى .
ثانياً : أن هدف التنمية الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يتحقق إلا فى ظل استقلال سياسى حقيقى، لا يستقيم واستمرار الاحتلال الأجنبى ، أو القواعد العسكرية ، أو الارتباط بالمخططات الأجنبية، وبالتالى فإن التخلص من الاحتلال الأجنبى يصبح شرطاً ضرورياً لإنجاح عملية البناء الداخلى .
ثالثاً : أن مصر سوف يصعب عليها تحقيق استقلالها الوطنى، والشروع بالتالى فى بناء الدولة العصرية بمعزل عن محيطها العربى ، فمصر وفقاً لرؤية محددة بدأت تنضج فى عقل عبد الناصر وفى وجدانه لا تستطيع أن تصبح جزيرة مستقلة معزولة وسط محيط تابع وخاضع للسيطرة الاستعمارية، ومن هنا قناعته بأن النضال ضد الاستعمار وقواعده العسكرية لا ينبغى أن يقتصر على حدود مصر الجغرافية، وإنما يتعين أن يمتد إلى ما وراء هذه الحدود لحماية أمنها الوطنى .
رابعاً : أن القضية الفلسطينية لا تخص مصر وحدها، وإنما هى قضية عربية فى المقام الأول، ومن ثم لا يجوز لأى دولة عربية أن تتصرف فيها بمفردها، أما دور مصر فيها فهو محكوم بقرارات الجامعة العربية من ناحية، وبمسئوليات مصر تجاه قطاع غزة، والذى أصبح خاضعاً للإدارة المصرية المباشرة بعد حرب 1948 من ناحية أخرى .ووفقاً لهذه الرؤية الواضحة والمحددة شرع عبد الناصر فى وضع برنامجه الخاص باستقلال مصر موضع التطبيق فى سياق رؤيته الأوسع لما يجب أن تكون عليه حركة مصر على الصعيد الدولى، والتى حدد عبد الناصر إطارها بدوائر ثلاث حسب ترتيب الأهمية وهى : الدائرة العربية ( التى هى منا ونحن منها ) ، والدائرة الإفريقية ( التى تحرس مصر بوابتها الشمالية )، والدائرة الإسلامية ( التى تجمع مصر بشعوبها قبلة وعقيدة واحدة ) .
وعلى الرغم من أن هذه الرؤية ربما تكون قد انطوت ضمناً على معايير وقيم تشكل أساساً للفرز والتمييز النمطى بين القوى الصديقة والقوى المعادية، وبالتالى ترجح وضع إسرائيل فى الإدراك الناصرى كدولة معادية، إلا أن هذا الإدراك لم ينبثق فى الواقع عن قالب فكرى ، أو أيديولوجى جامد شكل أساس ومرجعية حركة مصر الخارجية فى مرحلة ما بعد الثورة ، فحقيقة الأمر أن مواقف وحركة مصر الخارجية فى مرحلة ما بعد الثورة تحددت على أساس مواقف وردود فعل الأطراف الأخرى من مشروع الثورة للتحرر والتنمية ، وليس العكس .
ثانياً : مرحلة ما بعد الثورة :
يمكن القول بصفة عامة أن تصور عبد الناصر المستمد من خبرته وتجربته المباشرة فى التعامل مع بعض القضايا ذات الصلة بالصراع العربى/الإسرائيلى، ومن تحليلاته الخاصة لدلالات السلوك الإسرائيلى فى المرحلة السابقة على توليه السلطة فى مصر؛ تمحور حول فكرة أن إسرائيل دولة مغتصبة للحقوق الفلسطينية، وذات طبيعة ونوايا عدوانية وتوسعية، فضلاً عن كونها دولة مرتبطة بالمصالح والمخططات الاستعمارية الرامية لفصل المغرب العربى وبالذات مصر عن المشرق العربى .
ومـع ذلك فإن عقليــة عبد الناصر البراجماتية بطبعها جعلته يفضل وضع إسرائيل على محك الاختبار، وكانت النتيجة تثبيت صورة إسرائيل القديمة فى ذهن عبد الناصر، ولكن مع وضعها داخل نسق فكرى بدأت مكوناته تترابط تدريجياً بطريقة أكثر وضوحاً، على الرغم من تغير أهمية وموقع هذه المكونات على سلم هذا النسق من فترة إلى أخرى، ولأغراض التحليل يمكن القول أن هذا النسق شكلته ثلاث مدركات رئيسية ومترابطة هى: أن إسرائيل هى بؤرة للعدوان والتوسع، وأداة فى خدمة المخططات الاستعمارية، وعقبة فى طريق الوحدة العربية .أ - إسرائيل كمصدر للتهديد والعدوان :كان عبد الناصر يرى أن إسرائيل تشكل مصدر تهديد رئيسى لأمن مصر الوطنى يلى فى الترتيب مباشرة الخطر الذى يمثله الوجود العسكرى البريطانى فى مصر، وقد ظهر سلوك إسرائيل العدوانى تجاه ثورة يوليو مبكراً، على الرغم من أن قيادة الثورة كانت شديدة الحذر ولم تحاول القيام بأى تحرش أو تصعيد ضد إسرائيل خلال السنوات التالية على قيام الثورة مركزة كل جهدها فى البداية على قضية الجلاء البريطانى . ففى مساء 24 يوليو 1954 اشتعلت النار فى ملابس شاب كان يحمل فى جيبه عبوة حارقة أمام مبنى سينما ريو فى الإسكندرية، وعند التحقيق معه تبين أنه عضو فى شبكة تخريب كبيرة أرسلتها إسرائيل لزعزعة الأوضاع فى مصر، ولتخريب العلاقات المصرية/الأمريكية، ولإرهاب الخبراء الألمان الملحقين بإدارة الأبحاث فى الجيش المصرى، وقد اشتهرت هذه العملية باسم "عملية لا فون".
ثم خطت إسرائيل خطوة كبيرة أخرى نحو التصعيد بعمل عسكرى علنى ومباشر هذه المرة، وليس من خلال نشاط الأجهزة السرية عندما قامت بشن غارة مفاجئة على مواقع الجيش المصرى المرابط فى غزة، وهى الغارة التى راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى من الضباط والجنود، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المدنيين، وكان الهدف من هذا العدوان هو إظهار ضعف مصر وعجزها، ليس فقط أمام الجيش والشعب فى الداخل ولكن أيضاً أمام الدول والشعوب العربية، وبالتالى تخويفها كى تقبل بالتوقيع على تسوية بشروط إسرائيل، أو على الأقل بالانخراط فى الأحلاف العسكرية الموالية للغرب فى مواجهة الاتحاد السوفييتى .
ثم تجدد العدوان الإسرائيلى ولكن على نطاق واسع وخطير هذه المرة، عندما قررت إسرائيل شن حرب شاملة على مصر عام 1956، وبالتواطؤ مع بريطانيا وفرنسا، واستهدفت إسرائيل من هذا العدوان توجيه ضربة قاصمة إلى الجيش المصرى وتحطيمه قبل أن يتمكن من استيعاب صفقة السلاح التشيكية، واحتلال سيناء إما بهدف التوسع والضم، وإما بهدف المساومة على تسوية بالشروط الإسرائيلية، وأخيراً التخلص من عبد الناصر ونظامه . غير أن هذا العدوان فشل وخرج عبد الناصر منه منتصراً وأقوى مما كان ، وبدأت إسرائيل تخطط على الفور لضربة جديدة توفر لها شروط النجاح هذه المرة .
وحــانت أمامهـا الفرصــة عــام 1967 بسبب أخطاء خطيرة ارتكبها عبد الناصر فى إدارة الصراع، كما سنشير فيما بعد، وقامت بشن هجوم واسع النطاق، لم يقتصر على مصر هذه المرة ، ولكنه شمل سوريا والأردن أيضاً . صحيح أن إسرائيل بدت هذه المرة وكأنها فى موقف الدفاع عن النفس بعد قيام عبد الناصر بحشد القوات فى سيناء ، وسحب قوات الطوارئ الدولية ، وإغلاق خليج العقبة فى وجه الملاحة الإسرائيلية . غير أن كافة الوثائق التى ظهرت لاحقاً أكدت على أن نية إسرائيل فى العدوان كانت مبيتة، وأنها نجحت فى استدراج مصر إلى فخ وقع فيه عبد الناصر، وكادت إسرائيل أن تنجح فى تحقيق أحد أهم أهدافها هذه المرة وهو إسقاط عبد الناصر، والذى قرر التنحى بالفعل بعد اعترافه بمسئوليته الكاملة عما حدث، لولا إصرار الشعب المصـرى على رفـض الهزيمة ، ومطالبته لعبد الناصر بالبقاء وتجديد ثقته به، ومع ذلك فقد تمكنت إسرائيل بهذا العدوان من تحقيق جانب كبير من أهدافها البعيدة المدى، وخصوصاً بعد رحيل عبدالناصر، فما زال العالم العربى غير قادر حتى هذه اللحظة على إزالة آثاره، على الرغم من رضوخه لمعظم - إن لم يكن لكافة - شروط التسوية التى كانت تطالب بها إسرائيل قبل عام 1967.فإذا أضفنا إلى ما تقدم غارات إسرائيل المتكررة على الدول العربية الأخرى، وخاصة لبنان وسوريا والأردن ، فإن قائمة السلوك العدوانى لإسرائيل طوال الحقبة الناصرية يمكن أن تطول كثيراً .
فى هذا السياق فقد كان من الطبيعى أن يركز الخطاب الناصرى وبشكل متزايد مع مرور الوقت وخاصة بعد عدوان 1956، على إبراز إسرائيل كقاعدة للعدوان، وكدولة توسعية تشكل خطراً رئيسياً ليس على دول المشرق العربى وحدها ، وإنما على مصر أيضا. و يمكن استخلاص هذه النتيجة بسهولة من فحص خطب وتصريحات وأحاديث الرئيس عبد الناصر فى الفترة التالية على عدوان 1956، والتى ألح فيها على هذا المعنى، ويستدل من هذا الإلحاح على أحد أمرين أو على كليهما معاً؛
الأول : أن عبد الناصر نفسه كان مقتنعاً بأن تلك الصورة تعكس حقيقة إسرائيل كما يدركها هو،
والثانى : أن عبد الناصر أراد أن يستخدم هذه الصورة كأداة للتعبئة والحشد فى مواجهة إسرائيل .
وكـان مـن المفترض أن يعكـس هــذا الإدراك نفســه على حسابات عبد الناصر الخاصة بإدارة الصراع مع إسرائيل، ويدفعه إلى توخى أقصى درجات الحيطة والحذر تجاه عدو يبدو متحفزاً للحرب على نحو دائم من أجل إشباع شهيته التوسعية، وأن يكون جاهزاً ومستعداً لأى تصرفات غادرة . لكن ذلك لم يحدث للأسف الشديد ، ولذلك بدت الفجوة كبيرة بين صورة إسرائيل كما عكسها الخطاب الناصرى خلال الفترة بين 1956 و 1967 ، وبين ما تتطلبه هذه الصورة من استعداد وتخطيط لمواجهة كافة الاحتمالات، ولم تتقلص هذه الفجوة إلا بعد أن وقع المحظور، وأصبحت القوات الإسرائيلية تقف على الضفة الشرقية لقناة السويس .
- إسرائيل كأداة للهيمنة الخارجية على المنطقة :كانت صورة إسرائيل، باعتبارها مشروعاً استعمارياً هدفه خدمة المخططات البريطانية فى المنطقة فى المقام الأول، قد استقرت فى إدراك النخب العربية عموماً ولم يكن عبد الناصر استثناء منها دونما حاجة للبحث عن ذرائع للتدليل على صحة هذا الإدراك أو لتثبيت تلك الصورة ، فالدلائل على الدور البريطانى الحاسم فى التمكين لقيام الدولة اليهودية كانـت أكبر من أن تحصى ، فقد كان هناك وعد بلفور للحركة الصهيونية بمساعدتها على إنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، وما تبع ذلك من جهود ضخمة بذلتها بريطانيا فى مؤتمر الصلح ؛ لحمل عصبة الأمم على تبنى مشروع الوطن القومى لليهود، وتحويله من التزام بريطانى يفتقد المشروعية إلى التزام دولى يستظل بمظلة الشرعية الدولية، وذلك بموجب صك الانتداب .
وكانت هناك اتفاقيات سايكس ـ بيكو، التى نشرت الثورة البلشفية وثائقها، وكشفت خديعة بريطانيا للعرب من خلال مفاوضات حسين ـ مكماهون . وكانت هناك الممارسات البريطانية فى فلسطين أثناء فترة الانتداب، وخاصة فى السنوات الأولى، وهى السياسة التى مكنت لأعداد كبيرة من المهاجرين اليهود، ليس فقط من الاستقرار فيها، ولكن أيضاً من الاستحواذ على مساحات كبيرة من الأرض، ومن الحصول على السلاح لتتحول المستوطنات اليهودية إلى معسكرات أو جيوش صغيرة …الخ . وفى هذا السياق كان من الطبيعى أن ترى النخب العربية ـ وعبد الناصر واحد منها ـ صورة المشروع الصهيونى فى مرآة المخطط البريطانى فى المنطقة وليس فى مرآة المسألة اليهودية .غير أن هبوب رياح الحرب العالمية الثانية ، وخشية بريطانيا من احتمال ضياع مصالحها فى العالم العربى بانحيازه لمعسكر الحلفاء دفع بريطانيا إلى تبنى سياسة أكثر توازناً ، وقد ترتب على هذا العامل الجديد بداية ظهور فجوة ما بين مصالح المشروع البريطانى ، ومصالح المشروع الصهيونى سمحت للحكومات العربية بهامش من حرية الحركة، فى محاولة للحيلولة بالقوة المسلحة دون قيام الدولة الإسرائيلية، وعلى خلفية من امتناع بريطانيا عن التصويت على مشروع التقسيم الذى تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 رغم كثافة الوجود البريطانى فى المنطقة فى ذلك الوقت، ومع ذلك فإن ملابسات الهزيمة غير المتوقعة التى منيت بها الجيوش العربية فى حرب 1948 أحيت الشكوك التقليدية فى سياسة بريطانيا تجاه المنطقة، وأعادت إلى الأذهان حقائق الارتباط العضوى بين المصالح البريطانية، والمصالح الإسرائيلية حتى وإن لم يتطابقا بشكل كامل .
وفى هذه الأجواء تولى عبد الناصر مقاليد الأمور فى مصر بعد نجاح تنظيم الضباط الأحرار فى قلب نظام الحكم، واحتلت قضية الجلاء البريطانى عن مصر موقع الصدارة على جدول أعماله . ورغم إدراك عبد الناصر لطبيعة العلاقة بين المصالح الإسرائيلية والمصالح البريطانية إلا أنه فضل أن تفصح الممارسات الإسرائيلية نفسها عن مدى عمق هذه العلاقة ، من خلال ردود أفعالها تجاه جهود مصر الرامية إلى التوصل إلى اتفاقية تسمح بجلاء القوات البريطانية عن منطقة قناة السويس ، وسرعان ما اكتشف عبد الناصر أن إسرائيل تسعى بكل الطرق لتخريب المفاوضات المصرية/البريطانية، وإلى عرقلة الانسحاب البريطانى من منطقة قناة السويس، والضغط على بريطانيا لتأجيل هذا الانسحاب إلى ما بعد التوصل إلى تسوية تتحول بموجبها اتفاقية الهدنة إلى اتفاقية سلام دائم بالشروط الإسرائيلية . وكان من الواضح أن إسرائيل ترى فى الوجود العسكرى البريطانى فى قناة السويس ضمانة لأمنها وكابحاً لطموحات نظام سياسى جديد لم تتضح نواياه الحقيقية بعد، و يسعى لبناء دولة عصرية وجيش وطنى قوى فى أكبر الدول العربية المجاورة لإسرائيل .
وفى هذا السياق بدت مصالح مصر الوطنية وفى مقدمتها طموحها المشروع لتحقيق الاستقلال السياسى فى وضع التناقض السافر مع المصالح الإسرائيلية . ثم تكررت بعد ذلك كثيراً مشاهد ومواقف وتصرفات عكست جميعها تناغماً واضحاً بين المصالح الإسرائيلية والمصالح الاستعمارية، وصل أحياناً إلى حد التطابق .غير أن صورة إسرائيل كخادم للمصالح الاستعمارية تجلت، ربما على نحو فاق أكثر التوقعات جنوحاً وتطرفاً، أثناء أزمة السويس ، فلم يكن قرار عبد الناصر بتأميم القناة موجهاً ضد إسرائيل، ولم يمس مصالحها بشكل مباشر، ومع ذلك فلم تتردد إسرائيل فى القيام بدور مخلب القط فى مؤامرة العدوان على مصر، وبدت مصالحها فى أثناء تلك الأزمة متطابقة تماماً مع مصالح الدولتين الاستعماريتين الرئيسيتين فى المنطقة، وتؤكد كافة الوثائق التى نشرت أن خطة العدوان على مصر تبلورت أولاً فى اجتماعات منفصلة بين إسرائيل وفرنسا، ثم أقرت فى شكلها النهائى فى لقاءات سرية عقدت على أعلى مستوى يومى 22 و23 أكتوبر فى ضاحية "سيفر" القريبة من باريس، وكان من اللافت للنظر إصرار بن جوريون ـ والذى رأس الوفد الإسرائيلى بنفسه ـ على صياغة الاتفاق فى ورقة مكتوبة وقعها شخصياً إلى جانب كل من كريستيان بينو وزير الخارجية الفرنسى، والسير باتريك دين وكيل وزارة الخارجية البريطانية .ولا جدال فى أن انكشاف حقيقة الدور الإسرائيلى فى مؤامرة السويس أسهم فى تعميق إدراك عبد الناصر بعضوية الارتباط بين مصالح إسرائيل ومصالح الاستعمار التقليدى فى المنطقة، غير أن التركيز على هذا البعد، وخصوصاً خلال الفترة من 1956 ـ 1967؛ ربما يكون قد ساهم فى تراجع المكون الخاص بإدراك قوة إسرائيل الذاتية، باعتبارها تجسيد لمشروع صهيونى له طموحاته الخاصة، خصوصاً وأن الخطاب الدعائى الناصرى الذى ساد فى تلك الفترة صور إسرائيل وكأنها لا تجرؤ على شن العدوان بمفردها، وأنها تنتظر دائماً تلقى الأمر، أو ضمان الدعم الكامل من جانب أسيادها قبل أن تقدم على ذلك، ولذلك بدت هزيمة بريطانيا وفرنسا وتراجع دورهما التقليدى فى المنطقة، وتآكل مكانتهما الدولية وكأنه هزيمة لإسرائيل فى الوقت نفسه، وبداية لتراجع دورها وتحجيم طموحاتها العدوانية، ولم يكن ذلك سوى نوع من الوهم ربما يكون عبد الناصر نفسه قد استسلم لإغرائه .
ولا يختلف الدور الذى لعبته إسرائيل فى عام 1967 لحساب الولايات المتحدة كثيراً من حيث الجوهر والمضمون؛ عن الدور الذى سبق لها أن لعبته لصالح فرنسا وبريطانيا عام 1956 وإن اختلفت أساليبه وآلياته؛ فقد تكشف فيما بعد أن الولايات المتحدة كانت قد ضاقت ذرعاً بسياسات عبد الناصر، لدرجة أنها وضعت خطة للتخلص منه عرفت باسم "خطة اصطياد الديك الرومى"، وفى سياق هذه الخطة التقت مصالح إسرائيل مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، لكن حرص إسرائيل على تجنب الأخطاء التى وقعت فيها عام 1956 جعلها تأخذ حذرها أكثر هذه المرة، وتفسح لنفسها مجالاً أكبر للحركة المنفردة يسمح لها بالعمل جزئياً على الأقل لحسابها الخاص .
ولذلك اختلفت لعبة توزيع الأدوار هذه المرة بحيث تتحقق الأهداف الأمريكية بالكامل، ولكن تحت مظلة الأهداف الإسرائيلية الأوسع كما سنشير فيما بعد .و لم تكن المعلومات الدقيقة عن طبيعة وحجم التواطؤ بين إسرائيل والولايات المتحدة متاحة حتى وفاة عبد الناصر، ومع ذلك فقد زخر الخطاب الناصرى فى مرحلة ما بعد يونيو 1967 أيضاً بمضامين تؤكد على الدور الذى أصبحت تلعبه إسرائيل لصالح الاستعمار الجديد ممثلاً فى الإمبريالية الأمريكية، لذلك فقد يكون من المهم ومن المفيد أيضاً أن نميز هنا بين رغبة عبد الناصر فى التوظيف الدعائى لهذا المدرك لأسباب تعبوية، وبين قناعـة عبد الناصر وحقيقة إدراكه لطبيعة العلاقة بين الحركة الصهيونية والحركة الاستعمارية؛ إذ يلاحظ مثلاً أنه على الرغم من أن عبد الناصر كان شديد الاقتناع بعمق هذه العلاقة، إلا أن كل الشواهد تشير إلى أنه لم يعتقد قط بإمكانية التطابق الكامل بين مصالح المشروع الصهيونى ، ومصالح القوى الاستعمارية.
فمن المقطوع به - على سبيل المثال - أن عبد الناصر لم يضع فى حساباته عند إدارته لأزمة السويس احتمال أن يصل الأمر إلى حد تواطؤ بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل للقيام بعمل عسكرى مشترك ضد مصر، من ناحية أخرى فإن سلوك عبد الناصر وممارساته طوال أزمة 1967 لا تشير إلى أنه وضع فى حساباته احتمال أن تمنح الولايات المتحدة لإسرائيل الضوء الأخضر للقيام بعمل عسكرى بهذا الحجم ضد ثلاث دول عربية من بينها الأردن، أو أنه قدر أن يصل حجم التطابق فى المصالح بين الولايات المتحدة وإسرائيل إلى درجة تعهد الولايات المتحدة لإسرائيل بتقديم الحماية السياسية اللازمة للحيلولة دون حرمانها من ثمار عدوانها كما حدث عام 1956 . بعبارة أخرى ، يبدو أن عبد الناصر أقام كل حساباته فى إدارة الصراع العربى الإسرائيلى على أساس وجود فجوة بين مصالح القوى الاستعمارية ومصالح إسرائيل فى المنطقة، غير أنه لم ينجح دائماً - وكما سنشير فيما بعد - فى استغلال وتوظيف هذه الفجوة لصالحه .
- إسرائيل كعائق أمام الوحدة العربية:
كان من الطبيعى والمنطقى أن يستقر فى ضمير عبد الناصر، وفى وجدانه أن إسرائيل تشكل عقبة كأداء أمام تحقيق الوحدة العربية؛ فتوحيد العالم العربى تحول عند عبد الناصر إلى هدف أسمى بذل حياته من أجل تحقيقه ، ولم يتردد فى الدخول فى معارك مع كل القوى التى وقفت حائلاً فى سبيله، وعلى رأسها إسرائيل . غير أن إدراك عبد الناصر لطبيعة العلاقة بين إسرائيل وقضية الوحدة العربية لم ينشأ من فراغ ، وإنما بدا وكأنه تطور طبيعى على طريق تم تعبيده من قبـل ، واستجابــة تلقائية لمنطــق الحاضر ونـداء المستقبل ، فعندما تقلد عبد الناصر السلطة فى أعقاب نجاح ثورة 1952 كانت قضية الهوية فى مصر قد حسمت لصالح الانتماء العربى، ففى منتصف الأربعينات قادت مصر - والتى كانت ترأسها حكومة وفدية فى ذلك الوقت - المشاورات التى انتهت بإنشاء جامعة الدول العربية، وأصبحت القاهرة هى مقرها الدائم . كما قادت مصر الدعوة فى عام 1950 إلى إبرام اتفاقية الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى .
ولم تكن رؤية مصر لخطورة المشروع الصهيونى، وما يمثله إنشاء دولة يهودية على حدودها الشرقية من تهديد لمصالحها فى العالم العربى؛ بعيدة عن التفكير الاستراتيجى المصرى الهادف إلى بناء علاقات متينة مع العالم العربى، من منطلق أن ذلك هو الوسيلة الوحيدة للتصدى للخطر الصهيونى، التى اعتبرته مصر خطراً على أمنها القومى، ولذلك لم تكتف مصر فى مرحلة ما قبل الثورة بمجرد المشاركة فى حرب 1948 إلى جانب أشقائها العرب، أو بتزعم الدعوة لبناء نظام أمن جماعى عربى (من خلال اتفاقية الدفاع المشترك السابق الإشارة إليها) فى مواجهة إسرائيل؛ وإنما قادت أيضاً الدعوة لعروبة القضية الفلسطينية، وعدم جواز تصرف أى دولة فيها بمفردها . ونجحت فى استصدار قرار من مجلس جامعة الدول العربية يجرم دخول أى دولة عربية فى مفاوضات منفردة مع إسرائيل، كما تجدر الإشارة إلى أن الرأى السائد فى مصر قبل الثورة كان يؤكد على أن أى تسوية محتملة مع إسرائيل لابد وأن تضمن امتداد مصر الجغرافى مع المشرق العربى .فى هذا السياق يصبح حديث عبد الناصر فى كتاب فلسفة الثورة عن الدائرة العربية " التى هى منا ونحن منها " نتيجة تتسق تماما مع المقدمات، وتمثل امتداداً لخط استراتيجى أفرزته الحركة الوطنية المصرية، باعتباره التعبير الطبيعى عن مصالح مصر الوطنية، ومن المؤكد أن عبد الناصر لم يلج إلى عالم القومية العربية من باب الفكر وإنما من باب الممارسة، فمعاركه الناجحة ضد حلف بغداد ثم ضد العدوان الثلاثى - وهى معارك مصرية فى الأساس - هى التى جعلت الجماهير العربية ترى فيه بطلها المنتظر لجمع شمل الأمة المبعثرة وتحقيق الخلاص .ولا جدال فى أن شعبية عبد الناصر الكاسحة لدى الجماهير العربية على امتداد الوطن العربى كله، والثقة المطلقة التى منحتها إياه أسهمت فى تعميق إيمانه بفكرة الوحدة العربية إلى درجة تشخيص القضية بحيث أصبح عبد الناصر هو الوحدة العربية والوحدة العربية هى عبد الناصـر ، بــل إن عبد الناصر اعتبر نفسه مسئولاً أمام هذه الجماهير لتحقيق طموحها فى الوحدة، أو على الأقل للمحافظة على هذا الأمل حياً رغم كل العقبات .
غير أن هذه المسئولية حملته بأعباء فوق طاقته الشخصية، وربما فوق طاقة مصر كلهـا، خصوصــاً وأن العلاقــة بين قضيـة فلسطين وقضية الوحدة شابها قدر لا بأس به من الالتباس ، ليس فقط على صعيد الفكر، ولكن على صعيد الممارسة كذلك ؛ فالمسئول عن طموح العرب فى تحقيق وحدتهم لا بد أن يكون مسئولاً فى الوقت نفسه عن قضيتهم القومية أو المركزية الأولى وهى القضية الفلسطينية . ولأن قضية الوحدة العربية تعثرت لأسباب كثيرة من بينها بعض ممارسات النظام الناصرى نفسه خلال تجربة الوحدة مع سوريا، فقد بدت إسرائيل وكأنها شماعة تصلح لأن تلقى عليها مسئولية الفشل فى تحقيق الوحدة، ولذلك يلاحظ أنه فى فترات المد القومى جرى تركيز الخطاب الناصرى على قضية الوحدة، باعتبارها الطريق الصحيح نحو تحرير فلسطين ووسيلة هذا التحرير، أما فى فترات الانكسار القومى فقد ركز الخطاب الناصرى على إسرائيل باعتبارها عقبة فى طريق الوحدة، وأداة للحيلولة دون قيامها، ومسئولة عن تعثر خطواتها . على صعيد آخر فقد انطوت العلاقة بين الوحدة والقضية الفلسطينية على العديد من الإشكاليات الفرعية المتصلة بها، والتى انعكست سلباً على طريقة إدارة الصراع العربى/الإسرائيلى، ففى غياب نظام مؤسسى عربى فعال وقادر على توزيع السلطات والمسئوليات والاختصاصات يمكن أن يتحول مفهوم قومية القضية الفلسطينية إلى شعار للمزايدة الخطرة، وهذا هو ما حدث بالفعل وكان أحد الأسباب وراء كارثة 1967.
2 - إدارة عبد الناصر للصراع :يتضح مما سبق أن صورة إسرائيل فى إدراك عبد الناصر عند تسلمه لمقاليد الأمور فى مصر لم تختلف كثيراً عن صورتها النمطية السائدة فى إدراك النخبة المصرية بصفة عامة، فقبل وصول عبد الناصر للسلطة فى مصر كان قد استقر فى وعى وضمير الحركة الوطنية المصرية على اختلاف روافدها الفكرية أن إسرائيل دولة توسعية ذات نزعة عدوانية، وأداة تحركها القوى الاستعمارية الراغبة فى بسط هيمنتها على المنطقة، فضلاً عن أنها تشكل حاجزاً يقطع امتداد مصر واتصالها الجغرافى الطبيعى بالمشرق العربى. وربما لم تجمع الحركة الوطنية المصرية بمختلف روافدها على شىء مثلما أجمعت على أن المشروع الصهيونى يشكل تهديداً رئيسياً على أمن مصـر الوطنى وعلى مصالحها الحيويـة فى المنطقة ، ومـع ذلك فإن سـعى عبد الناصر النشط لبناء دولة عصرية فى مصر، وتصفية الاستعمار فى المنطقة، وتحقيق الوحدة العربية فجر بركاناً من التفاعلات المحلية والإقليمية والدولية التى أعطت للصراع العربى/الإسرائيلى زخماً جديداً وأبعاداً مختلفة تماماً، وفى سياق هذا الزخم احتل الحديث عن الخطر الإسرائيلى والحاجة إلى مواجهته موقعاً مركزياً ومتصاعداً فى الخطاب السياسى الناصرى .غير أن الإحساس بالخطر شىء، والقدرة على تحديد مصدره والتعامل معه، واحتوائه، أو مواجهته بنجاح شىء آخر، ولا جدال فى أن نسق الإدراك الناصرى لطبيعة الصراع مع إسرائيل قد أثار عدداً من الإشكاليات بالنسبة لعملية إدارة الصراع يمكن إجمالها على النحو التالى :
الإشكالية الأولى : تتعلق بكيفية التعامل مع مصدر الخطر والتهديد؛ فإدراك إسرائيل على أنها دولة ذات طبيعة توسعية ونزعة عدوانية، وأنها تشكل مصدر تهديد بالنسبة لأمن مصر الوطنى قد يكون إدراكاً دقيقاً وسليماً تماماً من الناحية الموضوعية، لكن ترجمة هذا الإدراك إلى أسلوب لإدارة الصراع مع العدو تستدعى الاختيار من بين العديد من الاستراتيجيات لكل منها مقوماتها ومتطلباتها الخاصة، إذ تتعدد أساليب واستراتيجيات التعامل مع مصادر التهديد، و تتنوع من الدفاع إلى الهجوم، ومن رد الفعل إلى المبادرة بالفعل، ومن الردع والتخويف إلى العقاب والقمع …إلخ .
الإشكالية الثانية : تتعلق بتوزيع الأعباء و الأدوار، وتحديد واجبات ومسئوليات المواجهة مع مصدر الخطر، فإدراك إسرائيل على أنها تمثل تهديداً للدول العربية ككل، وإدراك القضية الفلسطينية على أنها قضية قومية قد يكون إدراكاً دقيقاً وسليماً من الناحية الموضوعية ، غير أن شعار قومية المعركة، والذى قد يفيد كثيراً فى التعبئة السياسية، وحشد التأييد الجماهيرى للقضية، قد يتحول إلى عبء ، وربما إلى عقبة حقيقية أمام ترشيد عملية إدارة الصراع فى غياب توزيع دقيق للمسئولية على كل الأطراف العربية بما فيها الطرف الفلسطينى، والتزام دقيق بحدود الدور والصلاحيات المنوطة بكل طرف .
الإشكالية الثالثة: تتعلق بالتحديد الدقيق لأولويات المواجهة ومصالح أطرافها، فإدراك إسرائيل على أنها أداة فى يد الاستعمار والقوى الطامعة فى الهيمنة على المنطقة قد يكون إدراكاً صحيحاً من الناحية النظرية أو الفكرية، لكن ترجمته العملية بالنسبة لإدارة الصراع تستدعى قدراً كبيراً من الدقة والحذر فى الوقت نفسه، لأن التعميم فى مثل هذه الأمور قد يؤدى إلى نتائج خطيرة وتوسيع نطاق المواجهة ليشمل كل المصالح الغربيـة فى المنطقة ، خصوصاً إذا ما تعاملنا مع الاستعمار القديم والجديد، باعتباره العدو الرئيسى أو الحقيقى ، وأن إسرائيل هى مجرد عدو تابع أو ثانوى . ولا جــدال فــى أن الزخــم الناجم عن تصاعد المد القومى بزعامة عبد الناصر ساعد على رفع توقعات الجماهير بدرجة خطيرة، مما أدى إلى خلق فجوة كبيرة بين الأهداف والشعارات المعلنة من ناحية، وبين الوسائل والإمكانات اللازمة لتحقيقها أو لترجمتها إلى برامج وسياسات فعالة من ناحية أخرى ، وقد اتجهت هذه الفجوة نحو الاتساع دائماً، وأدت إلى تعدد وتشتت خيــوط الصــراع ، إلى الدرجــة التى حالــت دون ترشيد إدارته ، ودفعـت بعبد الناصر إلى اتخاذ قرارات عاطفية وغير مدروسة كان لها نتائج مأساوية فى بعض الأحيان .فالإدارة الرشيدة للصراع كانـت تفـرض على عبد الناصر - فى تقديرنا - أن يختار بين عدد من الاستراتيجيات التى يمكن دمجها واختزالها فى اثنتين رئيسيتين :
الأولى : دفاعية تستهدف فى الأساس ردع إسرائيل ومنعها من الإمساك بزمام المبادرة والحيلولة دون تمكينها من تحقيق مكاسب أو مزايا جديدة . وقد ينبثق عن هذه الاستراتيجية العامة استراتيجيات فرعية تستهدف تهدئة الصراع أو تجميده؛ سعياً وراء توفير ظروف محلية، وإقليمية، وعالمية أفضل، وتعديل موازين القوى بطريقة تؤدى إلى ردع إسرائيل ، وتحجيم نزعاتها التوسعية .
الثانية : هجومية تستهدف فى الأساس العمل على استخلاص الحقوق الضائعة بالوسائل السلمية أو العسكرية، مع توفير الظروف المحلية ، والإقليمية ، والعالمية اللازمة لخوض المعركة الحاسمة فى الزمان والمكان الذى تختاره مصر، وضمان تحقيق النصر فيها. وهاتان الاستراتيجيتان لا تتعارضان بالضرورة، وإنما قد تتكاملان بحيث تصبح الاستراتيجية الدفاعية مرحلة تمهيدية للثانية، وليس استراتيجية مستقلة وقائمة بذاتها .وللإنصاف يتعين علينا أن نعترف منذ الآن أننا لا نملك ما يكفى من الأدلة للتأكيد على أن عبد الناصر كانت لديه استراتيجية واضحة ومحددة لإدارة الصراع مع إسرائيل؛ سواء فى شقه السياسى، أو فى شقه العسكرى . ا
لشىء الوحيد المؤكد بالنسبة لنا أن عبد الناصر كان لديه - كما سبقت الإشارة- مشروعاً للتحرر والتحديث والوحدة العربية ، والأرجح أنه تصور أن نجاح هذا المشروع سوف يكفل تلقائياً احتواء الخطر الإسرائيلى وتجفيف منابعه، تمهيداً لإزالته كلية، ومع ذلك فقد تعين على عبد الناصر حتى بافتراض صحة هذا الاستنتاج أن يتعامل مع رد الفعل الإسرائيلى على مشروعه، فليس من المنطقى أن يكون قد افترض أن إسرائيل سوف تتركه يمضى فى بناء دولة عصرية فى مصر ويوحد العالم العربى دون أن تعترضه أو تحرك ساكناً، وبالتالى فقد تعين على عبد الناصر أن تكون لديه استراتيجية للتعامل مع رد الفعل الإسرائيلى على مشروعه للتحرر والنهضة .وسوف نحاول فى الصفحات التالية استنباط منهج عبد الناصر فى إدارة الصراع مع إسرائيل من واقع ممارساته الفعلية ؛ بهدف التعرف على الأسباب التى أدت إلى إخفاقه سواء فى احتواء الخطر الإسرائيلى وردعه، أو فى الصمود أمام اعتداءاته المتكررة، وتمكينه من أخذ زمام المبادرة فى العمل والحركة. ولأغراض التبسيط والتحليل يمكن القول أن هذا المنهج غلبت عليه النزعة الدفاعية بصفة عامة، وسياسة رد الفعل وليس الفعل، وأنها لم تتحرك فى اتجاه المواجهة الحقيقة ومحاولة أخذ زمام المبادأة، إلا بعد هزيمة عام 1967، واقتناع عبد الناصر بأنه لن يستطيع استرداد سيناء هذه المرة بالوسائل السياسية وحدها، وأن المواجهة العسكرية أصبحت حتمية .
وعلى هذا الأساس يمكن التمييز بين ثلاث استراتيجيات مختلفة وهى : استراتيجية التهدئة ومحاولة الاحتواء؛ وهى الاستراتيجية التى سادت منذ قيام الثورة وحتى عدوان 1956، واستراتيجية رد الفعل وإدارة الأزمات؛ وهى الاستراتيجية التى سادت فى الفترة من 1956-1967، واستراتيجية المواجهة، وهى التى سادت فى أعقاب هزيمة 1967 وحتى رحيل عبد الناصر فى 28 سبتمبر عام 1970. أولاً : استراتيجية التهدئة والاحتواء :عندما تولى عبد الناصر مقاليد السلطة فى مصر عام 1952 كانت حركته فى إدارة الصراع مع إسرائيل محكومة بإطار سياسى وقانونى موروث من النظام السابق تمثلت أهم معطياته فى العناصر التالية :
1 - أحكام اتفاقية الهدنة المبرمة بين مصر وإسرائيل عام 1949، وفى ظل هذه الاتفاقية ظلت حالة الحرب بين مصر وإسرائيل قائمة من الناحية القانونية، وهو ما سمح لمصر بأن تمنع السفن الإسرائيلية من عبور قناة السويس، أو المرور فى خليج العقبة دون أن يشكل ذلك انتهاكاً للشرعية الدولية، أو خروجاً على أحكام القانون الدولى .
2 - ميثاق جامعة الدول العربية والذى يتضمن ملحقاً خاصاً بفلسطين، واتفاقية الدفاع المشترك، والتعاون الاقتصادى، وقرارات مجلس الجامعة . وجميعها يلزم الدول الأعضاء بسلوك يستوجب فى حده الأدنى تقديم الدعم اللازم للقضية الفلسطينية، وفرض المقاطعة الاقتصادية على إسرائيل ، وتحريم التفاوض أو التعامل المنفرد معها.
3 - المسئولية الملقاة على عاتق مصر بحكم إدارتها لقطاع غزة، وهو جزء من الأرض الفلسطينية وتقطنه أعداد كبيرة من المواطنين الفلسطينيين الأصليين أو من لاجئ عام 1948.4 - الحواجز النفسية الطبيعية المترتبة على الهزيمة فى حرب 1948، وخاصة بالنسبة للجيش المصرى .وكان من الطبيعى أن تتقدم قضية الجلاء البريطانى عن مصر لتحتل فى هذا السياق موقع الصدارة على جدول أولويات عبد الناصر فور توليه السلطة، وفى هذا السياق لم يكن هناك أى حافز يدفع عبد الناصر للمبادرة بتحريك الوضع والتصعيد على جبهة الصراع العربى/الإسرائيلى . غير أن حاجة عبد الناصر لدور أمريكى ضاغط على بريطانيا للتوصل إلى اتفاقية للجلاء من ناحية، وحاجة الولايات المتحدة لمشاركة مصرية نشطة فى الاستراتيجية الغربية لمحاصرة الاتحاد السوفييتى من ناحية أخرى؛ طرحت بطريقة غير مباشرة على الأقل قضية التسوية مع إسرائيل على طاولة المشاورات الأمريكية/المصرية التى نشطت فى تلك الفترة . فقد تحمست الولايات المتحدة للقيام بدور الوساطة لبحث آفاق تلك التسوية من منطلق تصورها لصعوبة ضمان تعاون مصر مع خطط الدفاع عن الشرق الأوسط فى غياب تسوية مقبولة للصراع العربى/الإسرائيلى، فى الوقت نفسه كانت شخصيات عالمية مؤثرة قــد راحت تعرض وساطتها ، أو تحث عبد الناصر على إجراء اتصالات مع قيادات إسرائيلية أو يهودية مؤثرة، لبحث آفاق وفرص وضع حد للصراع العربى/الإسرائيلى .ومن خلال قراءتنا لكل ما نشر عن الوساطة الأمريكية، أو عن الاتصالات السرية التى جرت خلال الفترة من 1953 وحتى بداية 1955، يمكن القول أن عبد الناصر لم يعترض من حيث المبدأ على فكرة التسوية السلمية للصراع، غير أن عدم ثقته فى إسرائيل فضلاً عن التزامه بالموقف العربى العام، جعله يبدو شديد الحذر والحيطة. و عموماً يمكن القول أن موقف عبد الناصر من قضية التسوية السلمية للصراع العربى/الإسرائيلى تحدد بوضوح فى تلك الفترة من خلال العناصر التالية :
1 - رفض إجراء مفاوضات مباشرة سرية أو علنية مع إسرائيل، من منطلق أن ذلك يعد خرقاً لقرارات جامعة الدول العربية من ناحية، فضلاً عن عدم ثقته فى نوايا إسرائيل من ناحية أخرى، فقد اعتقد عبد الناصر أن إلحاح بعض القيادات الإسرائيلية أو اليهودية على تنظيم لقاء سرى معه لا يعد فى ذاته دليلاً على صدق توجه إسرائيل نحو السلام، وإنما قد يكون مجرد مناورة وأداة للابتزاز يمكن استخدامها ضده عند اللزوم لتشويه صورته لدى الرأى العام العربى .
2 - استعداده للقبول من حيث المبدأ بتسوية سياسية تستند على أسس الشرعية الدولية ، والممثلة فى ذلك الوقت فى قرارى الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947 والخاص بتقسيم فلسطين، ورقم 194 لعام 1949 والخاص بعودة وتعويض اللاجئين الفلسطينيين، بل إن عبد الناصر أكد استعداده للسعى بنفسه لدى الدول العربية لإقناعها بالموافقة على تسوية سلمية إذا ما أعلنت إسرائيل استعدادها الصريح لتطبيق هذين القرارين الدوليين .
3 - تفضيل أن تحقق أى تسوية نهائية محتملة امتداد مصر الجغرافى مع دول المشرق العربى، وألا تشكل إسرائيل حاجزاً بينها وبين العالم العربى وهو ما يعنى تأكيد مطالب مصر السابقة بضرورة وضع صحراء النقب تحت السيطرة العربية سواء؛ المصرية أو الأردنية . وقد تعثرت هذه المحاولة المبكرة لاستكشاف آفاق التسوية السياسية لأسباب كثيرة، كان أهمها رفض إسرائيل المطلق للحدود الواردة بقرار التقسيم كحدود نهائية و لعودة اللاجئين. والواقع أن الجناح المتطرف فى إسرائيل لم يكن مهيأً أو متحمساً من حيث المبدأ لفكرة التسوية أساساً قبل استكمال المشروع الصهيونى لحدود إسرائيل التوراتية . وربما لم تكن محاولة تخريب العلاقات المصرية/الأمريكية (عملية لافون)، وتصعيد العمل العسكرى ضد مصر(الغارة الإسرائيلية على مواقع الجيش المصرى فى غزة فى فبراير 1955) سوى تعبير عن إصرار هذا الجناح المتطرف على ضرب أى محاولات للتسوية فى ذلك الوقت، وبالفعل فقد كان له ما أراد، إذ ما لبثت محاولات الوساطة أن توقفت عملياً عقب غارة غزة مباشرة، ثم نهائياً بعد شن إسرائيل حرباً شاملة ضد مصر عام 1956 فى إطار مؤامرة دولية أوسع ، وبالاشتراك مع فرنسا وبريطانيا رداً على قرار عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس، وتحول عبد الناصر إلى موقف رد الفعل وتعين عليه إدارة أزمة 1956 من موقف الدفاع وإجهاض أهداف العدوان، ونجح فى ذلك إلى حد كبير جداً، ولأسباب سوف نشير إليها لاحقاً .وخلال الفترة التى أعقبت أزمة السويس، وحتى عدوان إسرائيل الجديد عام 1967 لم تتح التطورات المحلية، والإقليمية، والعالمية أى فرصة حقيقية للبحث حتى على الصعيد النظرى والفكرى عن آلية للتسوية .فعلى الصعيد المحلى عمق عدوان 1956 من مشاعر الكراهية تجاه إسرائيل، وبالذات فى صفوف الجيش المصرى ، ولم يكن الانتصار السياسى الذى تحقق رغم الهزيمة العسكرية كافياً لإزالة طعم المرارة الذى ترسب فى الحلوق بسبب اضطرار مصر لقبول مرور السفن، والبضائع الإسرائيلية عبر خليج العقبة، ومرابطة قوات طوارئ دولية فى شرم الشيخ وعلى حدودها الدولية الشرقية كثمن لانسحاب إسرائيل من سيناء، وربما عمق هذا الوضع من مشاعر الرغبة فى الانتقام بأكثر مما حفز إلى البحث عن تسوية .وعلى الصعيد الإقليمى خرج التيار القومى من أزمة السويس منتصراً، وفرضت قضية الوحدة العربية نفسها على الجميع، وقد أثار تنامى هذا التيار واندفاعه مخاوف كثيرين داخل العالم العربى وخارجه، وفى سياق الصراع المحتدم فى العالم العربى حول قضية الوحدة و ما أحاط بها من ملابسات؛ تحولت القضية الفلسطينية إلى موضوع للمزايدة، ووقود للحرب الباردة والكلامية بين الدول العربية، وهو مناخ لم يساعد إطلاقاً ولو بالتفكير على طرح قضية التسوية على جدول أعمال النظام العربى . وعلى الصعيد العالمى اشتد صراع الدولتين الأعظم للسيطرة وبسط النفوذ على المنطقة، فازداد اعتماد الولايات المتحدة - خصوصاً بعد انغماسها المتزايد فى الحرب فى فيتنام - على إسرائيل كوكيل لها فى المنطقة، وباستثناء فترة قصيرة جداً أبدت فيها الولايات المتحدة بقيادة كيندى اهتماماً عابراً بعملية التسوية، لم تتوافر أية فرصة جدية لطرق آفاق التسوية خلال تلك المرحلة . والواقع أننا إذا حاولنا أن نستشف استراتيجية عبد الناصر فى التعامل مع إسرائيل خلال تلك الفترة، فسوف نجد أنها كانت تشبه إلى حد كبير سياسة الاحتواء التى انتهجتها الولايات المتحدة فى مواجهة الاتحاد السوفييتى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ فقد استبعد عبد الناصر أى احتمالات واقعية أو حقيقية للتسوية مع إسرائيل ، وقام بتصعيد حملته الدعائية والأيديولوجية لتعبئة العالم العربى فى مواجهتها، والتأكيد على خصائصها ووظيفتها الرئيسية كقاعدة للعدوان والتوسع تهدد الجميع ، لكنه تصرف فى الوقت نفسه على أساس أن وجود قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة على حدود مصر الدولية يشكل من الناحية الفعلية والعملية عازلاً يحول دون اندلاع صدام عسكرى غير محسوب مع إسرائيل .
وربما تصور عبد الناصر أن هذا الوضع رغم مساوئه يمكن أن يتيح لمصر فرصة لالتقاط الأنفاس وتجميد الصراع لفترة تسمح ببناء قوة مصر الذاتية، وإحكام طوق الحصار العربى فى مواجهة إسرائيل، والعمل على عزل إسرائيل دبلوماسياً على الصعيد العالمى. وبالفعل فقد شهدت هذه الفترة تغييرات محلية واسعة النطاق فى مصر هدفت إلى بناء وتحديث الجيش، وإقامة صناعة متقدمة بدخول عصر التصنيع الثقيل، وزيادة الرقعة الزراعية واستصلاح الأراضى …إلخ .وعلى الصعيد الإقليمى شهدت هذه الفترة محاولات متعددة لتوحيد الصف العربى، وتجسيد فكرة الوحدة العربية كان أبرزها تجربة الوحدة المصرية/السورية، ودعم العمل العربى المشترك فى إطار التأكيد على قومية القضية الفلسطينية ...إلخ . وعلى الصعيد العالمى حاول عبد الناصر بناء علاقة صداقة قوية ومتينة ، ليس فقط مع دول عدم الانحياز، ولكن أيضاً مع دول المعسكر الشرقى بصفة عامة ، والاتحاد السوفيتى بصفة خاصة ؛ لضمان الحصول على إمدادات السلاح، وعلى أقصى قدر من الدعم العسكرى والسياسى، ولكن دون التفريط فى استقلال الإرادة أو فى المساس بسياسة عدم الانحياز . وفى هذا السياق حاول عبد الناصر حصار إسرائيل بالضغط على كل الدول التى تحاول إمدادها بالسلاح أو بمختلف عناصر القوة الأخرى ، وأحد الأمثلة البارزة على ذلك قيادته لحملة دبلوماسية شرسة للضغط على ألمانيا الاتحادية لوقف صفقة سلاح سرية كانت قد أبرمتها مع إسرائيل، بعد أن تم اكتشاف هذه الصفقة فى منتصف الستينات .
غير أن نجاح سياسة الاحتواء توقفت أولاً وأخيراً على القدرة على تحقيق توازن قوى حقيقى على الأرض يسمح بردع إسرائيل ، أو على الأقل بالصمود فى وجه التحرشات أو محاولات التصعيد من جانب إسرائيل ، وعدم السماح لها بأخذ زمام المبادرة واستدراج مصر لمواجهة عسكرية شاملة فى الزمان والمكان الذى تحددهما هى، وهو ما لم يحدث ، فقد تمكنت إسرائيل ولأسباب سنتعرض لها فيما بعد، ليس فقط من استدراج عبد الناصر إلى مصيدة 1967، وإنما أيضاً من اتخاذ الاحتياطات الضرورية اللازمة للحيلولة دون تكرار ما حدث فى 1956. وقد خلقت حرب 1967 واقعاً جديداً اضطر معه عبد الناصر تحت ضغط الهزيمة الكاسحة وغير المتوقعة إلى إدخال تغييرات جوهرية على أسلوبه فى إدارة الصراع ، ولذلك تعتبر حرب 1967 هى التجسيد العملى لفشل سياسة التهدئة ومحاولة الاحتواء ، وقد تمثلت أهم هذه التعديلات فى التمييز بين الهدف المرحلى المتعلق بإزالة آثار عدوان 1967 وعودة الأراضى العربية التى احتلت خلالها، وبين الهدف الاستراتيجى المتعلق بالتسوية الدائمة والعادلة للقضية الفلسطينية، فقد تعين على عبد الناصر أن يركز كل تفكيره وجهده بالطبع على الهدف المرحلى الأول ؛ وهو إزالة آثار عدوان 1967، وتأجيل البحث فى كيفية تحقيق الهدف الرئيسى وهو تحقيق الحل العادل للقضية الفلسطينية، إلى أجل غير مسمى .ثانياً: استراتيجية رد الفعل وإدارة الأزمات :لم يوجد عبد الناصر مطلقاً فى وضع يسمح له بالحركة واتخاذ زمام المبادرة لحسم الصراع العربى/الإسرائيلى سلماً أو حرباً، ولذلك فقد تعامل مع تطورات هذا الصراع بمنطق رد الفعل، وحكم هذا المنطق ثوابت الموقف المصرى التقليدى تجاه الصراع العربى/الإسرائيلى من ناحية، وردود الأفعال الإسرائيلية تجاه مشروع ثورة يوليو لبناء مصر الحديثة والمستقلة من ناحية أخرى ، فقد كان من الطبيعى أن يركز عبد الناصر هدفه فى البداية على إنهاء الوجود البريطانى فى مصر؛ ولتحقيق هذا الهدف راح يضغط على بريطانيا بوسيلتين :
الأولى : عسكرية من خلال تنشيط وتكثيف العمل الفدائى ضد قاعدتها العسكرية فى منطقة القناة .
الثانية : دبلوماسية من خلال توظيف الدور الأمريكى الذى كان قد بدأ ينشط ويهتم بالمنطقة لأسباب كثيرة معروفة . فى الوقت نفسه أظهر عبد الناصر اهتماماً كبيراً بمشروع السد العالى، مؤكداً بما لا يدع مجالاً للشك على أن قضية البناء الداخلى هى أهم ما يشغل الثورة فى تلك المرحلة . وأبدت الولايات المتحدة حماساً واضحاً لدعم النظام السياسى الجديد فى مصر بمساعدته فى تحقيق الهدفين معاً ؛ الجلاء وبناء السد العالى .غير أن إسرائيل ما لبثت أن دخلت على الخط بالتعبير عن قلقها - كما سبقت الإشارة - مما يجرى على الساحة المصرية، خصوصاً فى ظل احتمالات الجلاء البريطانى عن مصر، فقد كانت ترى فى الوجود العسكرى الغربى فى منطقة القناة ضماناً لأمنها، ولم يكن فى شروط إسرائيل للتسوية ما يثير حماس مصر أو يحفزها على التجاوب معها، فقد سعت لتحويل اتفاقية الهدنة إلى اتفاقية سلام دائم تمكنها على الأقل من المرور فى خليج العقبة وقناة السويس، ومن الاحتفاظ بالأراضى الإضافية التى احتلتها فى حرب 1948 دون أن يكون لديها أدنى استعداد لإجراء تبادل فى الأراضى يسمح بتواصل مصر الجغرافى مع المشرق العربى، أو بقبول عودة اللاجئين .
يضاف إلى ذلك أن إسرائيل بدأت تعبر علناً وبوضوح عن قلقها من موقف مصر من قضية الأحلاف، ومن سياسة عدم الانحياز، ولم يكن بوسع أى حكومة مصرية أياً كانت أن تقبل بالشروط الإسرائيلية للتسوية، أو بالانضمام إلى الأحلاف الغربية أو تتخلى عن قضية الجلاء لمجرد الرغبة فى تهدئة مخاوف إسرائيل، أو لإثبات حسن النوايا تجاهها . ولأن إسـرائيـل لـم تكن مستعدة لترك مصيرها يتقرر بأيدى الآخرين أو بالصدفة ؛ فقد قررت أن تأخذ بزمام المبادرة فى يدها، وراحت تضغط على مصر بوسائل وأساليب متعددة؛ فبدأت بالعمل السرى فى محاولة لتخريب العلاقات المصرية/الأمريكية المتنامية (عملية لافون)، ثم راحت تجرب الضغط العسكرى المباشر ولكن المحدود (غارة غزة) قبل أن تلجأ إلى أسلوب الحرب الشاملة.وكانت الخلافات بين مصر والولايات المتحدة قد بدأت تظهر ثم تتسع تدريجياً بالتوازى مع الضغوط الإسرائيلية، وعندما أدرك عبد الناصر أنه معرض للوقوع بين المطرقة الإسرائيلية والسندان الأمريكى سعى للإفلات من الحصار وصمم على الصمود، وأتاح النظام الإقليمى والعالمى فى ذلك الوقت هامشاً معقولاً من حرية الحركة، حاول عبد الناصر استغلاله إلى أقصى مدى ممكن، فاختار سياسة عدم الانحياز بديلاً للانحياز للغرب والانخراط فى أحلافه، وأصبح رمزاً من رموزها، ورد على غارة غزة وسياسة احتكار السلاح بإبرام صفقة سلاح مع الاتحاد السوفييتى، مدخلاً بذلك القوة العظمى المناوئة - ولأول مرة طرفاً - موازناً فى لعبة الصراع على النفوذ فى الشرق الأوسط .وعندما بدأ صبر الولايات المتحدة ينفد وتفشل سياستها فـى احتواء عبد الناصر قررت معاقبته بسحب عرضها بتمويل السد العالى، ومرة أخرى برهن عبد الناصر على أنه قادر على مجابهة التحدى فرد بتأميم شركة قناة السويس لتبدأ عجلة الأزمة – والتى عرفت بأزمة السويس - فى الدوران .
- إدارة أزمة السويس :ما يعنينا هنا فى المقام الأول - وحتى لا نتوه فى التفاصيل - هو تحليل مغزى السلوك الإسرائيلى تجاه مصر والأهداف التى سعت لتحقيقها، فقد كان من الواضح أن إسرائيل مصرة على المحافظة على الأمر الواقع، وعلى موازين القوى القائمة فى المنطقة، وعدم السماح لمصر بتحريك الموقف لتعديل هذه الموازين لصالحها، صحيح أن قرار التأميم لم يمس مصالح إسرائيل المباشرة لكن دلالاته كانت تشير إلى أن موازين القوى فى المنطقة بدأت تتحرك فى التحليل النهائى لصالح مصر ولغير صالح إسرائيل . ومن هنا كان قرار إسرائيل بالتعجيل بشن ضربة لإجهاض قدرة الجيش المصرى على استيعاب وهضم صفقة السلاح التشيكية ؛ أى أن قرار التأميم لم يكن فى الواقع سوى مناسبة وجدت إسرائيل أنها الأفضل لتحقيق خطتها الرامية لتحطيم الجيش المصرى وإسقاط عبد الناصر، أو على الأقل تحجيم دوره فى المنطقة وتلقينه درساً لا ينساه .وهكذا تحولت أزمة 1956، والتى فجرها قرار أمريكى بسحب عرض سابق بالمساهمة فى تمويل مشروع السد العالى إلى صدام بين استراتيجيتين؛ أحدهما هجومية تقودها إسرائيل، والأخرى دفاعية يقودها عبد الناصر. إذ تشير كافة الوثائق المنشورة عن أزمة السويس إلى أن إسرائيل كانت هى المحرض الأول للعمل العسكرى ضد مصر، وأن دورها كان هو الأكثر حسماً فى خطة التآمر الثلاثى بينما كان عبد الناصر يستبعد كليةً احتمال قيام إسرائيل بعمل عسكرى للرد على قرار التأميم، فالواقع أن عبد الناصر كان يعتقد أن بريطانيا هى الطرف الوحيد المرشح للجوء إلى القوة للرد على قرار التأميم، ولم يضع فى حساباته احتمال لجوء فرنسا أو إسرائيل للقوة، ناهيك عن احتمال قيامهما بتوريط بريطانيا، ولجوء الأطراف الثلاثة إلى التآمر ضده!.
ومن المفارقات أن العامل الذى تصورت إسرائيل أنه سيحسم المعركة لصالحها، وهو نجاحها فى ضمان مشاركة بريطانيا وفرنسا إلى جانبها فى الشق العسكرى؛ كان هو نفسه أحد الأسباب الرئيسية فى فشلها وفى هزيمتها السياسية، فقد أدى هذا العامل إلى الارتفاع بدرجة ومستوى الصراع من النطاق الإقليمى إلى المواجهة العالمية بكل ما ترتب على ذلك من دخول مفردات جديدة فى معادلة الصراع، وفى حركة موازين القوى التى انتهت بحسم المعركة لغير صالحها . ولا جدال فى أن عبد الناصر تمكن من إدارة أزمة السويس باقتدار، وحشد كل الموارد والإمكانات التى مكنته من تحقيق النصر السياسى رغم الهزيمة العسكرية . وليست هناك حاجة للتوقف طويلاً أمام تحليل العوامل التى ساعدت عبد الناصر على حسم المعركة لصالحه، وإن كان التذكير بأهمها يعتبر ضرورياً لأغراض المقارنة لاحقاً مع العوامل التى أسهمت فى صنع كارثة 1967.
وفى تقديرى أن أهم العوامل التى ساعدت عبد الناصر على صياغة استراتيجية واضحة ورشيدة لإدارة أزمة السويس، تمثل أساساً فى وضوح وعدالة القضية المصرية؛ فقد بدت مصر- وخصوصاً بعد اشتراك بريطانيا وفرنسا فى العمليات العسكرية ضدها – دولة صغيرة تتعرض لعدوان وحشى من جانب قوى لا قبل لها بها لمجرد إصرارها على التمسك بحقوقها المشروعة والسيطرة على مواردها الطبيعية من أجل التنمية، ولا شك فى أن هذه الصورة ساعدت عبد الناصر على حشد التأييد اللازم لقضيته العادلة على كافة المستويات ؛ المحلية والإقليمية والعالمية.فعلى الصعيد المحلى ضمن عبد الناصر تأييد الشعب المصرى له والالتفاف حوله، والإصرار على الصمود فى وجه العدوان، ولم يخرج لإسقاط " الدكتاتور المغامر " كما توقعت القوى المعتدية، بل على العكس تماماً فقد أحس الشعب المصرى أن مقاليد الأمور فى مصر ولأول مرة منذ قرون طويلة قد آلت لزعامة مصرية وطنية صميمة .وعلى الصعيد الإقليمى ضمنت مصر تأييداً عربياً شعبياً ورسمياً ليس له نظير، لم يشذ عنه سوى نورى السعيد رئيس وزراء العراق وقتها، فعلى المستوى الشعبى خرجت الجماهير فى كل أنحاء العالم العربى تندد بالعدوان وتحاصر القواعد العسكرية ( كما حدث فى ليبيا)، أو لقطع إمدادات النفط ، (كما حدث فى سوريا) ...إلخ . وعلى المستوى الرسمى عقدت فى بيروت قمة عربية كانت هى الأولى من نوعها منذ قمة أنشاص عام 1946 ، للمطالبة بوقف العدوان فوراً وانسحاب القوى المعتدية .وعلى الصعيد العالمى ضمنت مصر تأييداً قوياً، ليس فقط من جانب كافة دول العالم الثالث، ولكن أيضاً - وعلى وجه الخصوص - تنديداً بالعدوان من جانب كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى رغم اختلاف دوافعهما، وربما كان الموقف السوفييتى - والذى وصل إلى حد التهديد بضرب لندن وباريس بالصواريخ - هو الموقف الأكثر حسماً فى وقف العدوان البريطانى/الفرنسى . غير أن الموقف الأمريكى كان - بلا جدال - هو الموقف الأكثر حسماً فى حمل إسرائيل على الانسحاب من سيناء بعد عدة شهور من التلكؤ والمماطلة، بل إن التنديد بالعدوان وصل إلى قطاعات عريضة من الرأى العام داخل الدول الغربية المعتدية نفسها، وكان له تأثير مهم على مسار الأحداث .
ومع أن إسرائيل خرجت من أزمة 1956 بمكسب لا يستهان به، وهو ضمان مرور تجارتها عبر خليج العقبة، إلا أنها راحت تتصرف وكأنها حققت انتصاراً سرقه منها الآخرون، ومن ثم فقد رسمت كل خططها المستقبلية للحيلولة دون تكرار ما وقعت فيه من أخطاء نتيجة الاعتماد على الآخرين.أما عبد الناصر والذى لعبت عوامل خارجية الدور الأكبر فى تحقيق انتصاره السياسى، فيبدو أنه وقع تحت وهم أن إسرائيل أضعف من أن تجرؤ على خوض الحرب بمفردها، وأنها مجرد أداة أو لعبة فى يد الآخرين ، بعبارة أخرى فبينما أدت الهزيمة إلى حث إسرائيل على استخلاص الدروس الصحيحة؛ فإن النصر صاحبته أوهام حجبت عن عبد الناصر القدرة على الرؤية الصحيحة لحقيقة ما جرى، وربما كان ذلك هو بداية الخطأ الكبير فى الحسابات التى اندلعت بسببها أزمة 1967 وانعكست فيها الأدوار بحيث أصبحت إسرائيل هذه المرة هى الطرف الأوضح فى أهدافه ، والأقدر على توجيه دفة الأحداث والسيطرة على التفاعلات ، وبالتالى تحقيق النصر الكامل فى المعركة على الصعيدين السياسى والعسكرى .
- إدارة أزمة 1967 :على الرغم من مرور أكثر من ثلث قرن على أحداث أزمة 1967، إلا أننا للأسف لا نملك حتى الآن صورة كاملة ودقيقة تسمح باستخلاص نتائج نهائية لما جرى على الجانب المصرى ، فما زال الغموض يكتنف جوانب كثيرة تتعلق بحقيقة الأهداف التى سعى عبد الناصر لتحقيقها وبدوافعه وتوقعاته وحساباته لنتائج القرارات التى اتخذها ، وخاصة قرارات حشد القوات فى سيناء، وسحب قوات الطوارئ الدولية، وإغلاق خليج العقبة، والرواية الرسمية السائدة فى مصر حتى الآن تركز على عدة عناصر أهمها :
1 - أن إسرائيل هى التى تسببت فى الأزمة بحشودها العسكرية ضد سوريا وتهديدها باحتلال دمشق .
2 - أن عبد الناصر عندما قرر حشد قواته فى سيناء لم يسع إلى الحرب، وإنما إلى ردع إسرائيل عن مهاجمة سوريا .
3- أن رالف بانش - المساعد الأمريكى ليوثانت - هو الذى تسبب فى تصعيد الأزمة بعرقلته للجهود الرامية لاحتوائها سلمياً، وعدم الاستجابة لطلب مصر بسحب قوات الطوارئ جزئياً من خط الحدود مع إسرائيل وليس كلياً، حتى لا تضطر مصر إلى إغلاق خليج العقبة .
4- أن عبد الناصر كان يدرك أن إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية يعنى اندلاع الحرب حتماً، ومع ذلك فقد قرر خوضها من منطلق أن جيشه قادر على تلقى واستيعاب الضربة الأولى، ثم الرد بقوة موجعة، والاشتباك مع العدو خلال فترة يمكن أن تطول إلى أن يتدخل المجتمع الدولى بنجاح ووقف الحرب والبحث عن تسوية مشرفة .ورواية الأستاذ هيكل - وهو الأقرب من عبد الناصر والأقدر من أى شخص آخر على معرفة حقيقة ما جرى - عادت لتؤكد هذه الصورة مرة أخرى فى كتابه الذى صدر بعد مرور ما يقرب من ربع قرن على هذه الحرب، يقول هيكل : " كان جمال عبد الناصر فى الأساس لا يؤمن بالحرب إلا كملجأ أخير ليس منه بد، وفى هذه الحالة فإن حسابات الحرب لا بد وأن تكون دقيقة، وعندما بدأت أزمة الشرق الأوسط بالحشود الإسرائيلية على سوريا، وقرر هو أن يواجهها بحشد عسكرى مصرى فى سيناء، فإنه ظل حريصاً طول الوقت على ألا يغلق باباً أو يترك فرصة تضيع، ولقد كان من هنا حذره الشديد فى خطى سحب قوات الطوارئ وفى استعداده للاستجابة لـ "يوثانت" فى كل ما يقترحه ولا يكون متعارضاً مع مبدأ يؤمن به، ولقد كثف كمية هائلة من العمل السياسى فى تلك الساعات حتى لا تصل الأزمة إلى نقطة صدام، وكان تقديره أنه إذا استطاع أن يكسب وقتاً، وإذا أفلتت من إسرائيل فرصة الرد المباشر على خطوة إغلاق خليج العقبة فإن الصدام يمكن تفاديه وعندما بدا له من سير الحوادث أن احتمالات الصدام تتزايد من 40 إلى 60 إلى 80 إلى 100% يوم 2 يونيو، فإنه لم يكن يعد نفسه لنصر عظيم، كان كل ما يريده معركة دفاعية تمتد أياماً وتبدو فيها وحدة العالم العربى وتضامن شعوب آسيا وإفريقيا، وينعكس أثر ذلك على الرأى العام العالمى ممثلاً فى الأمم المتحدة، مع ظهور بوادر أزمة فى العلاقات بين القوتين الأعظم، وساعتها يمكن الوصول إلى وقف لإطلاق النار، ويبدأ البحث عن مخرج فى الأزمة" .
و تثير هذه الرواية لرؤية عبد الناصر واستراتيجيته فى إدارة الأزمة من الظمأ للمعرفة أكثر مما تروى، ومن التساؤلات أكثر مما تجيب : فنحن لا نعرف مثلاً لماذا قرر عبد الناصر الرد على التهديدات الإسرائيلية لسوريا هذه المرة بالذات رغم أنها تكررت قبل ذلك كثيراً ؟ ولماذا لم ينتظر ارتكاب إسرائيل لعدوان فعلى على سوريا قبل أن يحشد قواته فى سيناء كى يصبح فعلاً فى موقف الدفاع عن النفس حتى لو قام حينئذ بإغلاق خليج العقبة؟ وبافتراض أن سيناريو الأحداث سار كما قدر له عبد الناصر، وتمكن من خوض معركة دفاعية يستطيع خلالها أن يحرك العمل السياسى، ويوقف إطلاق النار ويبدأ فى البحث عن "مخرج"، فما هو هذا "المخرج" الذى كان يريده بالضبط ؟.. هل هو مجرد تعهد إسرائيلى بعدم تكرار حشد القوات على الحدود مع سوريا؟.. أم تصفية آثار عدوان 1956 والعودة إلى الوضع الذى كان سائداً قبله؟.. أم تسوية شاملة للصراع العربى/الإسرائيلى ؟إن عـدم وجـود أجوبة واضحة وقاطعة على مثل هذه الأسئلة البديهية - رغم مرور أكثر من ثلث قرن ورغم كل ما نشر- ليس له سوى معنى واحد وهو أن ما نعرفه عما جرى فى مصر عام 1967 ليس سوى الجزء العائم من جبل الثلج، وهو قليل جداً إذا ما قورن بالجزء الذى ما زال غاطساً منه تحت الماء حتى الآن ، وهذا الوضع يفتح الباب أمام احتمال تباين الاستنتاجات.وفى تقديرى الخاص أن البداية الحقيقية لأزمة 1967 تعود إلى عام 1964، حين قرر عبد الناصر الرد على المشروعات الإسرائيلية لتحويل نهر الأردن بالدعوة إلى مؤتمرات القمة العربية، فمنذ اللحظة التى قررت فيها الدول العربية التصدى بالقوة للخطط الإسرائيلية؛ كان يتعين توقع دخول الصراع العربى/الإسرائيلى مرحلة تصعيد يمكن أن تصل إلى حد صدام مسلح شامل، وأود أن أستشهد هنا بفقرة وردت فى بيان المؤتمر الأول الذى عقد بالقاهرة فى يناير 1964، تقول أن المؤتمر قرر " اعتبار أن قيام إسرائيل هو الخطر الأساسى الذى أجمعت الأمة العربية بأسرها على دفعه، وبما أن وجود إسرائيل يعتبر خطراً يهدد الأمة العربية فإن تحويلها لمياه نهر الأردن سيضاعف من أخطارها على الوجود العربى؛ لذلك فإن على الدول العربية أن تضع الخطط اللازمة لمعالجة الجوانب السياسية والاقتصادية والإعلامية، حتى إذا لم تحقق النتائج المطلوبة كان الاستعداد العسكرى العربى الجماعى القائم، بعد استكماله، هو الوسيلة الأخيرة العملية للقضاء على إسرائيل نهائياً ".
فإذا أضفنا إلى هذا الجزء من الصورة، والذى توحى به هذه الفقرة، بقية الأجزاء التى رسمتها مقررات هذه القمة والقمم التالية : ( الإسكندرية : سبتمبر 1964، والرباط : سبتمبر 1965 ) والتى تمثل أهمها فى : إنشاء قيادة عربية موحدة، وهيئة عربية لاستغلال مياه نهر الأردن وروافده تلتزم الدول العربية بتوفير الدعم العسكرى والمالى لها، والموافقة على قيام منظمة التحرير الفلسطينية وتشكيل جيش فلسطينى ...إلخ ، لأدركنا أنه كان يستحيل على إسرائيل أن تقف مكتوفة الأيدى . فى هذا السياق يمكن القول أن التصعيد فى اتجاه الحرب الشاملة لم يبدأ بالحشود الإسرائيلية فى مواجهة سوريا عام 1967، وإنما بدأ بالتحرشات الإسرائيلية الرامية لوقف خطط وأعمال الهيئة العربية لاستغلال نهر الأردن وضد القوات العربية التى كلفت بحمايتها منذ اللحظة الأولى ، وهذه التحرشات لم تتوقف منذ بدأ نشاط هذه الهيئة حيث تكررت الاشتباكات مع القوات السورية والأردنية خلال الفترة 1956-1967. وكان من الواضح أن إسرائيل قررت منذ البداية عدم السماح للدول العربية بإتمام خططها المضادة لاستغلال مياه نهر الأردن ، وبالتالى فقد تعين على الدول العربية إما المضى قدماً فى خططها أو التراجع ، غير أنه كان من الواضح فى الوقت نفسه- وبالذات منذ مؤتمر الرباط - أن العمل العربى المشترك فقد قوة دفعه ، وأنه لن يستطيع أن يكمل المشوار، و استناداً إلى هذا التحليل يبدو لنا قرار عبد الناصر بحشد الجيش المصرى فى سيناء مفاجئاً ويحتاج إلى تفسير . وفى اعتقادى الشخصى أن موضوع الحشود الإسرائيلية فى مواجهة سوريا لم يكن سوى مناسبة أراد عبد الناصر استغلالها لتسخين الوضع من أجل ردع إسرائيل عن التمادى فى استفزازاتها، تمهيداً لاستعادة سيطرته على أوضاع محلية وعربية كانت تبدو خطرة ومنفلتة فى ذلك الوقت، وربما أراد الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك بانتهاز الفرصة لتصفية آثار عدوان 1956؛ أى إعادة إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية على الأقل ، وكان وجود قوات الطوارئ الدولية فى مصر، والسماح بمرور إسرائيل فى خليج العقبة قد بدأ يشكل فى أجواء التصعيد ومحاولة كل طرف عربى التنصل من مسئولياته باتهام الآخرين بالتخاذل - موضوعاً للمزايدة ووقوداً فى الحرب الباردة العربية، فقد بدأت أجهزة الإعلام العربية تتهم مصر بأنها تحتمى وراء القوات الدولية وتترك غيرها يتعرض للعدوان الإسرائيلى دون أن تفعل شيئاً غير التأييد بالكلمات .
وفى هذا السياق جاء قرار عبد الناصر بالتحرك وحشد القوات ، لكن قراءته لمجمل الأوضاع المحلية، والإقليمية، والعالمية السائدة، وحساباته وتقديراته للاحتمالات ولردود أفعال جميع الأطراف كانت خاطئة هذه المرة وقادت إلى كارثة عام 1967.فعلى الصعيد المحلى ، كانت صورة النظام السياسى السائد تختلف كلية عن الصورة المثالية التى سادت عام 1956 لمجموعة منتقاة من الشباب الوطنى المخلص والمتحمس والملتف حول قائد يمتلك كل مقومات الزعامة، وربما كانت صورة الزعيم ما تزال محتفظة ببريقها عندما اندلعت أزمة 1967، غير أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التى مرت بها مصر خلال الفترة الممتدة بين هاتين الأزمتين؛ كانت قد ألقت بظلالها على النظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى القائم ، إذ كان صراع الأجنحة بين اليمين واليسار داخل النظام قد بدأ يبرز بشكل علنى و يدخل مرحلة مقلقة، وكانت المؤسسة العسكرية تبدو وكأنها تخضع لقيادة عسكرية مستقلة عن القيادة السياسية ، ومنشغلة بأمور أخرى غير مهمتها الأساسية ، وهى إعداد الجيش للدفاع عن أمن الوطن ، ولمواجهة عسكرية محتملة ضد إسرائيل، وكانت هذه القيادة قد اختبرت من قبل ؛ عسكرياً فى 1956، وسياسياً فى أزمة انفصال سـوريا ، وإنسانياً فى واقعة زواج المشـير سـراً من السيدة برلنتى عبد الحميد . وأسفر هذا الاختبار المتكرر عن نتيجة واحدة ؛ وهى عدم الكفاءة على الصعيدين المهنى والشخصى .
وكان من الغريب ، ومن غير المفهوم أيضاً أن يقوم عبد الناصر بتصعيد الأزمة ودفعها نحو المواجهة العسكرية الحتمية ، بدلاً من تهدئتها واحتوائها فى وقت لم يكن فيه مقتنعاً بصلاحية المشير عامر للقيادة ، فقبل بداية الأزمة بأسابيع محدودة كان عبد الناصر قد قرر منح عامر إجازة مفتوحة لكنه عدل عن قراره لأسباب تبدو لنا متهافتة وغير مقنعة ، كما كان من الغريب أيضاً أن يقرر عبد الناصر هذا التصعيد فى وقت كان الجيش المصرى مشتبكاً فى حرب أخرى على بعد آلاف الأميال فى اليمن ، ومع ذلك فمن الصعب تحميل عبد الحكيم عامر وحده مسئولية ما حدث عسكرياً عام 1967، فالإنصاف يتطلب منا أن نعترف بأن بعض القرارات السياسية التى اتخذها عبد الناصر أثناء الأزمة - وضد رغبة عبد الحكيم عامر - ساهمت فى وضع الجيش المصرى وقيادته فى موقف بالغ الصعوبة، و لذلك فإن وجهة نظر عبد الحكيم عامر حول ضرورة توجيه الضربة الأولى بعد أن أصبحت المواجهة حتمية بقرار إغلاق خليج العقبة؛ كان لها- من الناحية العسكرية البحتة على الأقل - ما يبررها .
غير أن نقص المعلومات حول حقيقة ما دار من مناقشات بين القيادتين السياسية والعسكرية متعلقاً بهذه القضية؛ تجعل من العسير أن نقطع برأى فيها .وعلى الصعيد الإقليمى بدت صورة التيار القومى عام 1967 مختلفة كلية عن الصورة التى بدا عليها عام 1956، فبينما برز التيار القومى عام 1956 كقوة فتية صاعدة تطرح نفسها كواحدة من أهم القوى السياسية على المسرح العربى، إن لم يكن أهمها على الإطلاق و أكثرها قدرة على التعبير عن مستقبل المنطقة وطموحاتها؛ فإنه بدا عام 1967 وكأنه يدخل طور الشيخوخة؛ إذ كانت أول تجربة وحدوية بين مصر وسوريا قد انهارت، وتعثرت محاولات الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق، وانقسم العالم العربى إلى معسكرين متصارعين، وكل معسكر إلى جبهات متنافرة . وهكذا تحولت الخلافات العربية/العربية التقليدية إلى صراعات وصلت إلى حد الحرب الباردة حيناً والساخنة فى أحيان أخرى ، ووصلت المزايدات الكلامية وعمليات المتاجرة بالقضية الفلسطينية - والتى أخذت شكل الحروب الإعلامية - حداً وصل إلى تبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة، مرة لحساب الشرق وأخرى لحساب الغرب . وفى هذا السياق لم تعد القوى الخارجية تأخذ التيار القومى أو قضية الوحدة على محمل الجد، أو تتصور أنه قادر على إلحاق ضرر حقيقى بمصالحها.

ليست هناك تعليقات: