ملخص ما نشر
لولا بيل جيتس لما حقق الكمبيوتر الشخصي هذا النجاح والانتشار الهائل عبر العالم أجمع· فهو الذي كُتب له أن يحقق أمجاداً كبرى لن يُقدّر للتاريخ أن ينساها أبداً من خلال تأسيسه لشركة مايكروسوفت الرائدة في مستهلّ الانطلاقة الحقيقية لعصر المعلومات، وتمكّن من الجمع بين التكنولوجيات السائدة وتطبيقها العملي المفيد في مجال تجسيد الأفكار التي تؤدي إلى تطوير أساليب العمل والإنتاج بطريقة ثورية· وجيتس هو ببساطة رائد تكنولوجيا البرمجيات بالرغم من أنه ليس عبقرياً في التكنولوجيا الهندسية التركيبية؛ وهو مدير تنفيذي لامع كان في وسعه استلهام النجاح حتى في عزّ الأزمات والهزّات التي تعرّض لها·وهذا الكتاب الجديد الذي نحن بصدد عرضه تحت عنوان بيل جيتس ·· عبقري ثورة البرمجيات ورائد عصر المعلومات صدر في نهاية عام ،2000 وهو من تأليف روبرت هيلير الذي اشتهر بتأليف مجموعة من الكتب المهمة التي تدور حول فنون التسيير والإدارة حتى أصبح أحد أعلام المؤلفين في هذا الاختصاص منذ عام ·1972 وهيلير هو المؤسس الأول للمجلّة البريطانية الرائدة المتخصصة في شؤون العمل والإدارة تحت عنوان مانجمنت تودي أو الإدارة اليوم، وبقي رئيساً لتحريرها لمدة 25 عاماً· ومن أشهر كتبه المسيّرون المتفوّقون و صنّاع القرار· وفي عام 1990 كتب هيلير كتابه الأكثر شهرة والأذيع صيتاً تحت عنوان الصدمة الثقافية، وهو الذي عرض فيه للطريقة التي ستثوّر بموجبها تكنولوجيا المعلومات أساليب العمل والإدارة والتسيير·
استعرضنا في الحلقة السابقة حديث هيلير عن نشأة بيل جيتس وكيف تمكّن من تأسيس شركة مايكروسوفت والقفز بها إلى أعلى قمم النجاح بسبب حدّة ذكائه وديناميكيته الفائقة، وتطرقنا إلى التحدّي الذي واجهه بيل جيتس ومايكروسوفت بعد ذلك بسبب القصور الذي انطوى عليه تصوّره لأهمية اقتحام تكنولوجيا الإنترنت والسلوك الاحتكاري الذي اتبعه لتدارك هذا القصور حين عمد إلى الربط التقني المقصود بين متصفّح مايكروسوفت وبرنامج ويندوز 95 حتى يضمن بذلك تحقيق أوسع رواج له في سوق كانت تستأثر بها الشركات المنافسة في هذا الإطار· ولقد أثار هذا السلوك حفيظة الشركات المنافسة، فيما اعتبره القضاء الأميركي يندرج ضمن إطار جرائم الاحتكار· ودخلت مايكروسوفت، ومعها مؤسسها ورئيسها التنفيذي وصاحبها بيل جيتس نفقاً مظلماً بعد أن تألّب عليها الرأي العام، وأصبحت من الشركات الملاحقة قضائياً· وبلغت هذه الصدمة التي تلقتها مايكروسوفت حداً من القوّة جعل المحللين الخبيرين يتساءلون عما إذا كان جيتس سيتمكن من النهوض ثانية وإعادة مايكروسوفت إلى موقع الريادة· وتمثل الإجابة عن هذه التساؤلات موضوع حلقة اليوم·
يعرض روبرت هيلير في الفصل الثاني من هذا الكتاب لفلسفة بيل جيتس وتوجهاته الراسخة ورؤاه الصائبة حول التطورات السريعة التي يشهدها العالم بتأثير ثورة المعلومات، وإلى النتائج الهائلة التي تنتظر العالم في المستقبل القريب بسببها· ويشير في هذا الصدد إلى أن فلسفة بيل جيتس ونجاحه يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بثورة المعلومات· فمنذ أطلق العنان لعقله السبّاق في نضوجه، ولمخيلته الخصبة، للتحليق في هذا العالم الجديد الذي خلقه الكمبيوتر، كانت أهدافه وأحلامه تنحصر في عبارة واحدة ·· ابتكار أدوات جديدة لعصر المعلومات يمكنها أن تعزّز من قوّة دماغك بدلاً من تضخيم قوّة عضلاتك· وهو ينظر إلى الأدوات الرقمية باعتبارها وسائل لتقوية القدرات المتفرّدة عند البشر، كالقدرة على التفكير، وتحقيق الربط بين الأفكار الإبداعية، والعمل المشترك مع الناس الآخرين من أجل تحقيق التفاعل الفكري الذي يفجّر القدرات الخاصة على الإبداع· وأما من الناحية الإدارية، فلقد بنى جيتس نجاحه وفقاً لافتراض يفيد بأن تكنولوجيا المعلومات لابد أن تؤدي إلى تغيير كل شيء بما في ذلك طرق اتصال الشركات والمؤسسات ببعضها البعض، سوف تثوّر أساليب تسييرها وإدارتها وسوف تؤمن لها قدرة جديدة على المنافسة وتطوير أساليب العمل والإنتاج· وبعد أن قضى جيتس سنوات من العمل المركّز في تطوير الحواسيب الشخصية، وهو العمل الذي بالغ في الانصراف إليه حتى فاتته الشركات الأخرى في اقتحام تكنولوجيا الإنترنت، وجد نفسه عام 1995 في موقف يقتضي منه تغيير طبيعة اهتماماته وإعطاء ثورة الإنترنت الحيّز الأكبر من الاهتمام بالرغم من أنها كانت في ذلك الوقت في بداياتها الأولى·
فكيف كان ينظر جيتس إلى هذه المرآة السحرية التي لم تكن تعكس خياله الحقيقي في بداية الأمر؟!·
مفهوم الإنترنت عند بيل جيتس :
تمثّل الإنترنت في فلسفة بيل جيتس نقطة انعطاف كبرى بالنسبة للبشرية كلها· وعندما ظهر أول موقع على الإطلاق في تاريخ شبكة الويب عام ،1993 ليتبعه بعد ذلك مباشرة ظهور أول متصفّح في التاريخ للإنترنت ابتكرته شركة نيتسكيب، شعر جيتس بإحباط غامر وهو يقف متفرّجاً على هذه الأحداث الجسام من حيث مدلولاتها التطوّرية العميقة· ولكنّه، وكما كان يعترف دائماً في مجالسه ومناظراته، كان بطيئاً في استيعاب وفهم الأهمية الكبرى التي ينطوي عليها تطوير الإنترنت· وضمّن جيتس إحدى محاضراته التي ألقاها عام 1998 قوله: وعندما ظهرت الإنترنت، لم تكن تشغل من اهتماماتنا إلا المرتبة الخامسة أو السادسة· وقال بعد ذلك مخاطباً نفسه: ولكن، وطالما أن الإنترنت وردت أصلاً في قائمة اهتماماتي، فإنني أشعر أن أمورنا كانت تسير على مايرام بالرغم من أن الحكمة كانت تقتضي وضعها في المرتبة الأولى من اهتماماتنا· ثم لايلبث بيل جيتس أن يعيد النظر في هذا الطرح البعيد عن واقع الأحوال حين قال بعد بضعة أشهر: لقد وصلنا إلى النقطة التي أدركنا فيها بأن الأمور تسير بأسرع مما كنا نتوقّع، وها نحن نرى بأن ظاهرة الإنترنت أكثر عمقاً وأبعد أثراً بكثير مما كنا نتوقع حين وضعنا استراتيجيتنا في العمل والتطوير·
ويبدو أن إدراك بيل جيتس لهذه الحقائق الجديدة جاء متأخراً بعض الشيء؛ وكان لهذا التأخر أن يحرّض الأرض التي تقع فوقها مايكروسوفت على الاهتزاز بحركة زلزالية كادت تدمّرها تماماً· ولم يكن أسوأ مافي هذا التصوّر المغلوط الذي تبنّاه جيتس يقتصر على الجانب التحليلي الإدراكي وحده، بل تجاوز ذلك إلى تسجيل فشل نوعي مدهش في القدرة على تقدير التوجهات الحقيقية للأسواق والمستهلكين· وقبل أن يصحو جيتس من هذه الصدمة القويّة، كان بعض عتاة المعلّقين الخبيرين توصلوا إلى النتيجة التي تفيد بأن الإنترنت بحد ذاتها هي التي قوّضت أسوار القلعة الاحتكارية التي كانت مايكروسوفت تتحصّن بها·
وهكذا ·· كان عامل الزمن ذا تأثير هائل على سير هذه الأحداث الآنيّة على ضوء ماتمكّن جيتس من استنتاجه بعد ذلك· ففي عام ،1999 وجد جيتس بأن الإنترنت تجاوزت بكثير مفهومها كمجرّد تطبيق حاسوبي يمكن أن تستأثر به شركة واحدة إلى أن أصبحت تمثّل في ذهنه، وفي الواقع أيضاً، تكنولوجيا متكاملة قائمة بذاتها· ويقول جيتس في كتابه العمل وسرعة التفكير في عصر النظام العصبي الرقمي الذي صدر عام 1999: إن الإنترنت تخلق الآن فضاءً كونياً جديداً لتبادل المعلومات والتعاون والتجارة· ولقد أمكن لهذا الفضاء الجديد أن يحقق الإدماج الوظيفي بين التلفزيون والهاتف مع أجهزة معالجة المعلومات على الورق وبطريقة تنطوي على إعادة صياغة مفاهيم العلاقات البشرية وأساليبها في النشاط تماماً· وأشار جيتس أيضاً إلى حقيقة أخرى عندما قال: وأصبحت القدرة البشرية الفائقة للعثور على المعلومات، ودفع الناس إلى الاهتمام بها، تمثل نشاطاً بشرياً جديداً تماماً·
عثرات جيتس :
ويتجسّد فشل جيتس في تقدير الأهمية الكبرى التي تنطوي عليها الإنترنت في هفوة أخرى تعود إلى نحو عقدين من الزمن· ففي عام 1981 كتب جيتس يقول في معرض استشرافه لمستقبل الحواسيب الشخصية: وسوف تكون الذاكرة التي تبلغ سعتها 640 كيلوبايت (الكيلوبايت يساوي ألف بايت) كافية لتغطية احتياجات أي مستعمل للكمبيوتر· ولكننا نجد اليوم بأن من العادي تماماً أن تبلغ سعة ذاكرة حواسيب سطح المكتب العادية 128 ميجابايت (الميجابايت يساوي مليون بايت) في حين تصل السعة الخازنة للقرص الصلب إلى 6 جيجابايت (الجيجابايت يساوي مليار بايت)· ومعنى ذلك أن مستخدم الحاسوب الشخصي هذه الأيام يستعمل حواسيب تزيد سعة اختزانها للمعلومات عماتنبأ به جيتس بأكثر من 200 مرة· ويبدو واضحاً في هذا الصدد أيضاً بأن جيتس لم يكن مقتنعاً بالقانون الناجح الذي وضعه جوردون مور منذ عام 1969 والذي يقضي بأن قوّة الحواسيب تتضاعف كل 18 شهراً؛ وهو القانون الذي أثبت تطابقاً مدهشاً مع الواقع فيما بعد· ويكون علينا أن لاننسى في هذا الصدد بأن الموهبة الخارقة التي يحتكم إليها جيتس في الشؤون التجارية، هي التي جعلته أكثر نجاحاً في تحقيق القفزات التطورية للحواسيب الشخصية من حيث قدراتها على تخزين ومعالجة المعلومات، منه كمتنبىء بمستقبلها· وفي عام ،1998 تنبأ جيتس أيضاً بأن التطورات الهائلة التي طرأت على كل من الهاردوير و السوفتوير -أو على التجهيزات الصلبة وبرمجياتها-، وأيضاً على المعايير الجديدة لقطاع الاتصالات سوف تعيد صياغة أساليب العمل وسلوكيات المستهلكين تماماً· وكانت الكثير من النبوءات التي أطلقها جيتس في ذلك الوقت تجد طريقها إلى التطبيق العملي الواسع حتى في أثناء انشغاله بكتابة المقالات التنبؤية حولها· ومن ذلك مثلاً قوله في تلك الفترة: وسوف يستخدم الناس الحواسيب الشخصية في مكاتبهم أو بيوتهم، وهي الحقيقة التي كانت ماثلة على الأرض في ذلك الوقت!· وهكذا كان شأن سلسلة من النبوءات الأخرى التي أطلقها بالجملة في كتابه العمل وسرعة التفكير في عصر النظام العصبي الرقمي كقوله مثلاً: ·· وسوف يصبح التعامل بالبريد الإلكتروني أمراً روتينياً بالنسبة لكل الناس، و وسوف يتصلون بالإنترنت بالملايين وهم يحملون أجهزتهم الرقمية المتنقلة التي تختزن معلوماتهم وبياناتهم الشخصية والعملية· ولم يكن المرء في ذلك الوقت مضطراً للاحتكام إلى قدرة تنبؤية خارقة حتى يتأكد من أنه سوف يجد هذه الأجهزة في أيدي الغالبية العظمى من رجال الأعمال والإداريين والموظفين حتى لو كانت تفتقد إلى أجهزة التلفزيون النقّالة التي أدرجها جيتس في نبوءاته بكل ثقة؛ وذلك لسبب بسيط هو أنها كانت موجودة فعلاً· ولكن ·· أليست هذه هي حال المتكهنين بأحداث الثورات الكبرى التي يُقدّر لها أن تقود إلى انقلابات اجتماعية شاملة؟·
أسلوب جديد في العمل والحياة :
ولقد يكون الأهم من كل ذلك هو الإشارة إلى أن الأمور المتعلّقة بتنبؤات بيل جيتس وطروحاته المتعلقة بتقييم التحوّلات الاجتماعية الكبرى التي تنطوي عليها الإنترنت والنظام العصبي الرقمي لم تكن على مثل السوء والقصور الذي يستشفه القارىء من هذا الذي قيل حولها؛ بل يكون الأصحّ هو النظر إلى ماقيل على أنه يمثل الجانب الأقل إضاءة في شخصية هذا الرجل الذي وصف بأنه رائد ثورة المعلومات بما ابتكره من أجهزة وأدوات أساسية أسهمت بنقل العالم أجمع إلى عصر جديد تماماً· ويكفي جيتس فخراً في هذا الصدد أنه هو الذي تمكّن من حوصلة هذه التطورات في مصطلحين معبّرين لم يسمع بهما أدباء ومؤرخو ثورة المعلومات وهما أسلوب ويب في العمل Web workstyle ، و أسلوب ويب في الحياة Web lifestyle· وبالرغم من أن جيتس لم يفِ هذين المصطلحين حقهما من الشرح والتفصيل عند حديثه عنهما بشيء من التفصيل والإثارة عام 1999 في كتابه العمل وسرعة التفكير في عصر النظام العصبي الرقمي، إلا أنه نجح أيّما نجاح في وضع القارىء في صورة التصوّر الإدراكي الخصب لمفهومهما· ولقد انبثق مفهوم أسلوب ويب في العمل من مبدأ استخدام الأساليب الرقمية لتغيير طرائق أداء العمل وتسيير عمليات الإنتاج وتقديم الخدمات· أما أسلوب ويب في الحياة فهو الذي يعني تغيير طبيعة العلاقة بين المستهلكين والمنتجين وفقاً لنهج جديد تماماً مسخّر لخدمة الطرفين· ولاشك بأن أسلوب ويب في العمل و أسلوي ويب في الحياة يمثّلان مظهرين متفاعلين إلى أبعد الحدود· وهناك العديد من القرائن التي تثبت، دون الحاجة إلى البراهين المعقدة، بأن التغيّر الجذري في أسلوب إدارة الإنتاج الذي تحقق مع انتشار ظاهرة استخدام الإنترنت، ينطوي على أهمية بالغة في مجال تحقيق حاجات المستهلكين بأساليب جديدة وفعّالة من خلال التجارة الإلكترونية على الخط· وحتى الوقت الراهن، لم تزل الشركات الكبرى المنتجة للسلع والخدمات تتعامل مع الصفقات التي يتمّ إبرامها عبر شبكة الويب باعتبارها فرصاً استثنائية تمثّل الاستثناء لا القاعدة· ولعلّ مما يسوّغ لها هذا الشعور هو الحقيقة الماثلة الآن من أن التجارة الإلكترونية عبر العالم، وحتى في أميركا ذاتها، لم تزل تمثّل كسراً بسيطاً من حجم التجارة الكلّية· ولكن جيتس يتنبأ في هذا الصدد بأن هذه الحال لن تبقى على حالها لوقت طويل· فهو متشبّع بالاقتناع، وحتى التخمة، بما طرحه زميله آندي جروف، المدير التنفيذي لشركة إنتيل التي تعدّ أشهر شركة في العالم في إنتاج المعالِجات المصغّرة، عندما تحدّث عما يسمى بـ نقطة الانعطاف inflection point التي تولّد التكنولوجيا عندها تغيراً هائلاً ومفاجئاً·
ويتنبأ جيتس بأن هذا التغيّر الهائل سوف يحدث عندما ستغادر وصلات الإنترنت سطوح المكاتب لتصبح قابلة للحمل، و عندما ستتصّل أجهزة الاستخدام اليومي كلها ودون استثناء، كعدّادات الماء والكهرباء وأنظمة السلامة والأمان والسيارات، ببعضها البعض لتبثّ دون انقطاع معلوماتها وبياناتها· وسوف تهيئ لنا هذه الطريقة الاتصالية اللاسلكية فرصة البقاء على اتصال دائم مع الأنظمة الأخرى والناس الآخرين بواسطة أجهزتنا الإلكترونية المتحرّكة· وسوف تترتّب على هذا التغيّر الثوري تغيرات أساسية في كل من أساليب الحياة والعمل على حدّ سواء·
يشير بيل جيتس في كتابه العمل وسرعة التفكير في عصر النظام العصبي الرقمي إلى أن التكنولوجيات البدائية التي ابتكرها الإنسان كانت بدورها تغيّر طرائق عيش الناس تماماً· ويضرب لذلك مثلاً بحلول عصر الكهرباء· فقبل أن تصبح البنى التحتية الكهربائية شائعة في المدن، لم تكن لدى الناس أية فكرة حول الأجهزة الكهربائية، كالهاتف والتلفزيون، وهي الأجهزة التي كتب لها أن تغيّر العالم· ويمكن النظر إلى الإنترنت على أنها تطبيق كهربائي· ولكنّ جيتس يتلمّس في الإنترنت خصوصيات لاتنطبق على باقي الأمثلة والحالات؛ وحيث يقول حرفياً في كتابه المذكور (وفقاً لما يشير إليه روبرت هيلير): وهذا التغيّر تضاعف من حيث وتيرته؛ وهو مستمر في تضاعفه طالما أن تبنّي تكنولوجيا الإنترنت لتحقيق أسلوب ويب في الحياة يتمّ بأكثر من سرعة تبنّي التكنولوجيات الكهربائية الأولى والسيارات والتلفزيون والراديو·
ولم تزل النتائج المنظورة لهذه الثورة التكنولوجية الهائلة مؤقتة، لاتعبّر عن أبعادها الحقيقية الخفيّة· وحتى في عام ،1998 لم يكن قد سُجل إلا عدد قليل من الصفقات التي تتمّ عن طريق التجارة الإلكترونية فيما كانت دول العالم الأخرى بعيدة تماماً عن تطبيقاتها· ويشير جيتس إلى الحقيقة المعبّرة عن هذا الوضع الذي كان سائداً بقوله: ومن أصل فواتير تبلغ قيمتها الإجمالية 15 مليار دولار، تمّ دفع مليون دولار منها فقط بطريقة إلكترونية· ولكن نمو التجارة الإلكترونية بدا بعد ذلك وكأنه يقفز بسرعة صاروخيّة بحيث يتضاعف عدد مستخدمي الويب كل 100 يوم· وكان من الهيّن على بيل جيتس بعد أن وقف على هذه الحقائق الإحصائية المثيرة أن يتنبأ بمستقبل قريب تكون فيه التعاملات التجارية الإلكترونية قد أحرزت تطوراً انتشاريا يجعلها الوسيلة العالمية الوحيدة للتجارة وأداء الأعمال، إلى جانب ماستحققه من تطوّر في وظائفها الذاتية الفنّية في إنجاز الصفقات·
وقريباً جداً، سوف يمتلك كل إنسان دون استثناء صفحته البنكية على الويب التي سينجز من خلالها كافة معاملاته وصفقاته ومشترياته المالية؛ وسوف تضمّ هذه الصفحة أيضاً كافة المعلومات والبيانات المالية المتعلّقة به· وهذه ليست رؤية تخيلية، بل هي حكم قاطع على توجّه لايمكنه أن يسير إلى الوراء· ولم يكن بيل جيتس يكشف الغيب عندما تنبأ بأنه سيأتي في الألفية الجديدة اليوم الذي سيكون فيه 60 بالمئة من أرباب البيوت في الولايات المتحدة يمتلكون الحواسيب، وسوف يكون 85 بالمئة منهم متصلين بالإنترنت·
ويشير بيل جيتس إلى أن التأثير الهائل الذي سيترك أبلغ الأثر في تغيير أسلوب الحياة سوف يأتي من التلفزيون· وهو يقول في هذا الصدد: وسوف يكــــون التلفزيـــون الرقمـــي عنصــــراً مكمـــــــلاً لبقيــــــــة الأجهــــزة الرقميــــة حيـــــث سيكون مجهّزاً بالعملاء الأذكياء intelligent agents الذين يُعرّفون بأنهم برامج حاسوبية تطبيقية تتولّى مساعدة مستخدميها في انتقاء مايبحثون عنه من معلومات من ضمن الركام الهائل الذي تعجّ به الإنترنت· وسوف يكون التلفزيون الرقمي معرضاً حيّاً لعرض وبيع السلع على الخط وطريقة عملية للإبحار عبر الإنترنت· ويعترف بيل جيتس بعد ذلك بأنه يدرك تماماً وجود الكثير من المصاعب التقنية التي تعرقل ابتكار التلفزيون الرقمي، من أهمها توحيد المعايير الفنّية والتقنية المتعلقة به، والاتفاق على توحيد سعة موجة البثّ التي تتعلّق بنظام الاتصالات الرقمي ذاته· ولكنّه يعبّر عن ثقته التامة في أن القوى التكنولوجية الهائلة التي أصبح يحتكم إليها العالم سوف تكون قادرة على قهر هذه العقبات وتجاوزها؛ وهو يقول في هذا الصدد: وتثبت التطورات النوعية الهائلة التي نلمسها الآن على مختلف الجبهات، بأن سرعة التطوّر التي سيشهدها هذا الميدان سوف تكون كافية لإصابة كل البشر بالدهشة والانبهار خلال العقد المقبل·
لولا بيل جيتس لما حقق الكمبيوتر الشخصي هذا النجاح والانتشار الهائل عبر العالم أجمع· فهو الذي كُتب له أن يحقق أمجاداً كبرى لن يُقدّر للتاريخ أن ينساها أبداً من خلال تأسيسه لشركة مايكروسوفت الرائدة في مستهلّ الانطلاقة الحقيقية لعصر المعلومات، وتمكّن من الجمع بين التكنولوجيات السائدة وتطبيقها العملي المفيد في مجال تجسيد الأفكار التي تؤدي إلى تطوير أساليب العمل والإنتاج بطريقة ثورية· وجيتس هو ببساطة رائد تكنولوجيا البرمجيات بالرغم من أنه ليس عبقرياً في التكنولوجيا الهندسية التركيبية؛ وهو مدير تنفيذي لامع كان في وسعه استلهام النجاح حتى في عزّ الأزمات والهزّات التي تعرّض لها·وهذا الكتاب الجديد الذي نحن بصدد عرضه تحت عنوان بيل جيتس ·· عبقري ثورة البرمجيات ورائد عصر المعلومات صدر في نهاية عام ،2000 وهو من تأليف روبرت هيلير الذي اشتهر بتأليف مجموعة من الكتب المهمة التي تدور حول فنون التسيير والإدارة حتى أصبح أحد أعلام المؤلفين في هذا الاختصاص منذ عام ·1972 وهيلير هو المؤسس الأول للمجلّة البريطانية الرائدة المتخصصة في شؤون العمل والإدارة تحت عنوان مانجمنت تودي أو الإدارة اليوم، وبقي رئيساً لتحريرها لمدة 25 عاماً· ومن أشهر كتبه المسيّرون المتفوّقون و صنّاع القرار· وفي عام 1990 كتب هيلير كتابه الأكثر شهرة والأذيع صيتاً تحت عنوان الصدمة الثقافية، وهو الذي عرض فيه للطريقة التي ستثوّر بموجبها تكنولوجيا المعلومات أساليب العمل والإدارة والتسيير·
استعرضنا في الحلقة السابقة حديث هيلير عن نشأة بيل جيتس وكيف تمكّن من تأسيس شركة مايكروسوفت والقفز بها إلى أعلى قمم النجاح بسبب حدّة ذكائه وديناميكيته الفائقة، وتطرقنا إلى التحدّي الذي واجهه بيل جيتس ومايكروسوفت بعد ذلك بسبب القصور الذي انطوى عليه تصوّره لأهمية اقتحام تكنولوجيا الإنترنت والسلوك الاحتكاري الذي اتبعه لتدارك هذا القصور حين عمد إلى الربط التقني المقصود بين متصفّح مايكروسوفت وبرنامج ويندوز 95 حتى يضمن بذلك تحقيق أوسع رواج له في سوق كانت تستأثر بها الشركات المنافسة في هذا الإطار· ولقد أثار هذا السلوك حفيظة الشركات المنافسة، فيما اعتبره القضاء الأميركي يندرج ضمن إطار جرائم الاحتكار· ودخلت مايكروسوفت، ومعها مؤسسها ورئيسها التنفيذي وصاحبها بيل جيتس نفقاً مظلماً بعد أن تألّب عليها الرأي العام، وأصبحت من الشركات الملاحقة قضائياً· وبلغت هذه الصدمة التي تلقتها مايكروسوفت حداً من القوّة جعل المحللين الخبيرين يتساءلون عما إذا كان جيتس سيتمكن من النهوض ثانية وإعادة مايكروسوفت إلى موقع الريادة· وتمثل الإجابة عن هذه التساؤلات موضوع حلقة اليوم·
يعرض روبرت هيلير في الفصل الثاني من هذا الكتاب لفلسفة بيل جيتس وتوجهاته الراسخة ورؤاه الصائبة حول التطورات السريعة التي يشهدها العالم بتأثير ثورة المعلومات، وإلى النتائج الهائلة التي تنتظر العالم في المستقبل القريب بسببها· ويشير في هذا الصدد إلى أن فلسفة بيل جيتس ونجاحه يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بثورة المعلومات· فمنذ أطلق العنان لعقله السبّاق في نضوجه، ولمخيلته الخصبة، للتحليق في هذا العالم الجديد الذي خلقه الكمبيوتر، كانت أهدافه وأحلامه تنحصر في عبارة واحدة ·· ابتكار أدوات جديدة لعصر المعلومات يمكنها أن تعزّز من قوّة دماغك بدلاً من تضخيم قوّة عضلاتك· وهو ينظر إلى الأدوات الرقمية باعتبارها وسائل لتقوية القدرات المتفرّدة عند البشر، كالقدرة على التفكير، وتحقيق الربط بين الأفكار الإبداعية، والعمل المشترك مع الناس الآخرين من أجل تحقيق التفاعل الفكري الذي يفجّر القدرات الخاصة على الإبداع· وأما من الناحية الإدارية، فلقد بنى جيتس نجاحه وفقاً لافتراض يفيد بأن تكنولوجيا المعلومات لابد أن تؤدي إلى تغيير كل شيء بما في ذلك طرق اتصال الشركات والمؤسسات ببعضها البعض، سوف تثوّر أساليب تسييرها وإدارتها وسوف تؤمن لها قدرة جديدة على المنافسة وتطوير أساليب العمل والإنتاج· وبعد أن قضى جيتس سنوات من العمل المركّز في تطوير الحواسيب الشخصية، وهو العمل الذي بالغ في الانصراف إليه حتى فاتته الشركات الأخرى في اقتحام تكنولوجيا الإنترنت، وجد نفسه عام 1995 في موقف يقتضي منه تغيير طبيعة اهتماماته وإعطاء ثورة الإنترنت الحيّز الأكبر من الاهتمام بالرغم من أنها كانت في ذلك الوقت في بداياتها الأولى·
فكيف كان ينظر جيتس إلى هذه المرآة السحرية التي لم تكن تعكس خياله الحقيقي في بداية الأمر؟!·
مفهوم الإنترنت عند بيل جيتس :
تمثّل الإنترنت في فلسفة بيل جيتس نقطة انعطاف كبرى بالنسبة للبشرية كلها· وعندما ظهر أول موقع على الإطلاق في تاريخ شبكة الويب عام ،1993 ليتبعه بعد ذلك مباشرة ظهور أول متصفّح في التاريخ للإنترنت ابتكرته شركة نيتسكيب، شعر جيتس بإحباط غامر وهو يقف متفرّجاً على هذه الأحداث الجسام من حيث مدلولاتها التطوّرية العميقة· ولكنّه، وكما كان يعترف دائماً في مجالسه ومناظراته، كان بطيئاً في استيعاب وفهم الأهمية الكبرى التي ينطوي عليها تطوير الإنترنت· وضمّن جيتس إحدى محاضراته التي ألقاها عام 1998 قوله: وعندما ظهرت الإنترنت، لم تكن تشغل من اهتماماتنا إلا المرتبة الخامسة أو السادسة· وقال بعد ذلك مخاطباً نفسه: ولكن، وطالما أن الإنترنت وردت أصلاً في قائمة اهتماماتي، فإنني أشعر أن أمورنا كانت تسير على مايرام بالرغم من أن الحكمة كانت تقتضي وضعها في المرتبة الأولى من اهتماماتنا· ثم لايلبث بيل جيتس أن يعيد النظر في هذا الطرح البعيد عن واقع الأحوال حين قال بعد بضعة أشهر: لقد وصلنا إلى النقطة التي أدركنا فيها بأن الأمور تسير بأسرع مما كنا نتوقّع، وها نحن نرى بأن ظاهرة الإنترنت أكثر عمقاً وأبعد أثراً بكثير مما كنا نتوقع حين وضعنا استراتيجيتنا في العمل والتطوير·
ويبدو أن إدراك بيل جيتس لهذه الحقائق الجديدة جاء متأخراً بعض الشيء؛ وكان لهذا التأخر أن يحرّض الأرض التي تقع فوقها مايكروسوفت على الاهتزاز بحركة زلزالية كادت تدمّرها تماماً· ولم يكن أسوأ مافي هذا التصوّر المغلوط الذي تبنّاه جيتس يقتصر على الجانب التحليلي الإدراكي وحده، بل تجاوز ذلك إلى تسجيل فشل نوعي مدهش في القدرة على تقدير التوجهات الحقيقية للأسواق والمستهلكين· وقبل أن يصحو جيتس من هذه الصدمة القويّة، كان بعض عتاة المعلّقين الخبيرين توصلوا إلى النتيجة التي تفيد بأن الإنترنت بحد ذاتها هي التي قوّضت أسوار القلعة الاحتكارية التي كانت مايكروسوفت تتحصّن بها·
وهكذا ·· كان عامل الزمن ذا تأثير هائل على سير هذه الأحداث الآنيّة على ضوء ماتمكّن جيتس من استنتاجه بعد ذلك· ففي عام ،1999 وجد جيتس بأن الإنترنت تجاوزت بكثير مفهومها كمجرّد تطبيق حاسوبي يمكن أن تستأثر به شركة واحدة إلى أن أصبحت تمثّل في ذهنه، وفي الواقع أيضاً، تكنولوجيا متكاملة قائمة بذاتها· ويقول جيتس في كتابه العمل وسرعة التفكير في عصر النظام العصبي الرقمي الذي صدر عام 1999: إن الإنترنت تخلق الآن فضاءً كونياً جديداً لتبادل المعلومات والتعاون والتجارة· ولقد أمكن لهذا الفضاء الجديد أن يحقق الإدماج الوظيفي بين التلفزيون والهاتف مع أجهزة معالجة المعلومات على الورق وبطريقة تنطوي على إعادة صياغة مفاهيم العلاقات البشرية وأساليبها في النشاط تماماً· وأشار جيتس أيضاً إلى حقيقة أخرى عندما قال: وأصبحت القدرة البشرية الفائقة للعثور على المعلومات، ودفع الناس إلى الاهتمام بها، تمثل نشاطاً بشرياً جديداً تماماً·
عثرات جيتس :
ويتجسّد فشل جيتس في تقدير الأهمية الكبرى التي تنطوي عليها الإنترنت في هفوة أخرى تعود إلى نحو عقدين من الزمن· ففي عام 1981 كتب جيتس يقول في معرض استشرافه لمستقبل الحواسيب الشخصية: وسوف تكون الذاكرة التي تبلغ سعتها 640 كيلوبايت (الكيلوبايت يساوي ألف بايت) كافية لتغطية احتياجات أي مستعمل للكمبيوتر· ولكننا نجد اليوم بأن من العادي تماماً أن تبلغ سعة ذاكرة حواسيب سطح المكتب العادية 128 ميجابايت (الميجابايت يساوي مليون بايت) في حين تصل السعة الخازنة للقرص الصلب إلى 6 جيجابايت (الجيجابايت يساوي مليار بايت)· ومعنى ذلك أن مستخدم الحاسوب الشخصي هذه الأيام يستعمل حواسيب تزيد سعة اختزانها للمعلومات عماتنبأ به جيتس بأكثر من 200 مرة· ويبدو واضحاً في هذا الصدد أيضاً بأن جيتس لم يكن مقتنعاً بالقانون الناجح الذي وضعه جوردون مور منذ عام 1969 والذي يقضي بأن قوّة الحواسيب تتضاعف كل 18 شهراً؛ وهو القانون الذي أثبت تطابقاً مدهشاً مع الواقع فيما بعد· ويكون علينا أن لاننسى في هذا الصدد بأن الموهبة الخارقة التي يحتكم إليها جيتس في الشؤون التجارية، هي التي جعلته أكثر نجاحاً في تحقيق القفزات التطورية للحواسيب الشخصية من حيث قدراتها على تخزين ومعالجة المعلومات، منه كمتنبىء بمستقبلها· وفي عام ،1998 تنبأ جيتس أيضاً بأن التطورات الهائلة التي طرأت على كل من الهاردوير و السوفتوير -أو على التجهيزات الصلبة وبرمجياتها-، وأيضاً على المعايير الجديدة لقطاع الاتصالات سوف تعيد صياغة أساليب العمل وسلوكيات المستهلكين تماماً· وكانت الكثير من النبوءات التي أطلقها جيتس في ذلك الوقت تجد طريقها إلى التطبيق العملي الواسع حتى في أثناء انشغاله بكتابة المقالات التنبؤية حولها· ومن ذلك مثلاً قوله في تلك الفترة: وسوف يستخدم الناس الحواسيب الشخصية في مكاتبهم أو بيوتهم، وهي الحقيقة التي كانت ماثلة على الأرض في ذلك الوقت!· وهكذا كان شأن سلسلة من النبوءات الأخرى التي أطلقها بالجملة في كتابه العمل وسرعة التفكير في عصر النظام العصبي الرقمي كقوله مثلاً: ·· وسوف يصبح التعامل بالبريد الإلكتروني أمراً روتينياً بالنسبة لكل الناس، و وسوف يتصلون بالإنترنت بالملايين وهم يحملون أجهزتهم الرقمية المتنقلة التي تختزن معلوماتهم وبياناتهم الشخصية والعملية· ولم يكن المرء في ذلك الوقت مضطراً للاحتكام إلى قدرة تنبؤية خارقة حتى يتأكد من أنه سوف يجد هذه الأجهزة في أيدي الغالبية العظمى من رجال الأعمال والإداريين والموظفين حتى لو كانت تفتقد إلى أجهزة التلفزيون النقّالة التي أدرجها جيتس في نبوءاته بكل ثقة؛ وذلك لسبب بسيط هو أنها كانت موجودة فعلاً· ولكن ·· أليست هذه هي حال المتكهنين بأحداث الثورات الكبرى التي يُقدّر لها أن تقود إلى انقلابات اجتماعية شاملة؟·
أسلوب جديد في العمل والحياة :
ولقد يكون الأهم من كل ذلك هو الإشارة إلى أن الأمور المتعلّقة بتنبؤات بيل جيتس وطروحاته المتعلقة بتقييم التحوّلات الاجتماعية الكبرى التي تنطوي عليها الإنترنت والنظام العصبي الرقمي لم تكن على مثل السوء والقصور الذي يستشفه القارىء من هذا الذي قيل حولها؛ بل يكون الأصحّ هو النظر إلى ماقيل على أنه يمثل الجانب الأقل إضاءة في شخصية هذا الرجل الذي وصف بأنه رائد ثورة المعلومات بما ابتكره من أجهزة وأدوات أساسية أسهمت بنقل العالم أجمع إلى عصر جديد تماماً· ويكفي جيتس فخراً في هذا الصدد أنه هو الذي تمكّن من حوصلة هذه التطورات في مصطلحين معبّرين لم يسمع بهما أدباء ومؤرخو ثورة المعلومات وهما أسلوب ويب في العمل Web workstyle ، و أسلوب ويب في الحياة Web lifestyle· وبالرغم من أن جيتس لم يفِ هذين المصطلحين حقهما من الشرح والتفصيل عند حديثه عنهما بشيء من التفصيل والإثارة عام 1999 في كتابه العمل وسرعة التفكير في عصر النظام العصبي الرقمي، إلا أنه نجح أيّما نجاح في وضع القارىء في صورة التصوّر الإدراكي الخصب لمفهومهما· ولقد انبثق مفهوم أسلوب ويب في العمل من مبدأ استخدام الأساليب الرقمية لتغيير طرائق أداء العمل وتسيير عمليات الإنتاج وتقديم الخدمات· أما أسلوب ويب في الحياة فهو الذي يعني تغيير طبيعة العلاقة بين المستهلكين والمنتجين وفقاً لنهج جديد تماماً مسخّر لخدمة الطرفين· ولاشك بأن أسلوب ويب في العمل و أسلوي ويب في الحياة يمثّلان مظهرين متفاعلين إلى أبعد الحدود· وهناك العديد من القرائن التي تثبت، دون الحاجة إلى البراهين المعقدة، بأن التغيّر الجذري في أسلوب إدارة الإنتاج الذي تحقق مع انتشار ظاهرة استخدام الإنترنت، ينطوي على أهمية بالغة في مجال تحقيق حاجات المستهلكين بأساليب جديدة وفعّالة من خلال التجارة الإلكترونية على الخط· وحتى الوقت الراهن، لم تزل الشركات الكبرى المنتجة للسلع والخدمات تتعامل مع الصفقات التي يتمّ إبرامها عبر شبكة الويب باعتبارها فرصاً استثنائية تمثّل الاستثناء لا القاعدة· ولعلّ مما يسوّغ لها هذا الشعور هو الحقيقة الماثلة الآن من أن التجارة الإلكترونية عبر العالم، وحتى في أميركا ذاتها، لم تزل تمثّل كسراً بسيطاً من حجم التجارة الكلّية· ولكن جيتس يتنبأ في هذا الصدد بأن هذه الحال لن تبقى على حالها لوقت طويل· فهو متشبّع بالاقتناع، وحتى التخمة، بما طرحه زميله آندي جروف، المدير التنفيذي لشركة إنتيل التي تعدّ أشهر شركة في العالم في إنتاج المعالِجات المصغّرة، عندما تحدّث عما يسمى بـ نقطة الانعطاف inflection point التي تولّد التكنولوجيا عندها تغيراً هائلاً ومفاجئاً·
ويتنبأ جيتس بأن هذا التغيّر الهائل سوف يحدث عندما ستغادر وصلات الإنترنت سطوح المكاتب لتصبح قابلة للحمل، و عندما ستتصّل أجهزة الاستخدام اليومي كلها ودون استثناء، كعدّادات الماء والكهرباء وأنظمة السلامة والأمان والسيارات، ببعضها البعض لتبثّ دون انقطاع معلوماتها وبياناتها· وسوف تهيئ لنا هذه الطريقة الاتصالية اللاسلكية فرصة البقاء على اتصال دائم مع الأنظمة الأخرى والناس الآخرين بواسطة أجهزتنا الإلكترونية المتحرّكة· وسوف تترتّب على هذا التغيّر الثوري تغيرات أساسية في كل من أساليب الحياة والعمل على حدّ سواء·
يشير بيل جيتس في كتابه العمل وسرعة التفكير في عصر النظام العصبي الرقمي إلى أن التكنولوجيات البدائية التي ابتكرها الإنسان كانت بدورها تغيّر طرائق عيش الناس تماماً· ويضرب لذلك مثلاً بحلول عصر الكهرباء· فقبل أن تصبح البنى التحتية الكهربائية شائعة في المدن، لم تكن لدى الناس أية فكرة حول الأجهزة الكهربائية، كالهاتف والتلفزيون، وهي الأجهزة التي كتب لها أن تغيّر العالم· ويمكن النظر إلى الإنترنت على أنها تطبيق كهربائي· ولكنّ جيتس يتلمّس في الإنترنت خصوصيات لاتنطبق على باقي الأمثلة والحالات؛ وحيث يقول حرفياً في كتابه المذكور (وفقاً لما يشير إليه روبرت هيلير): وهذا التغيّر تضاعف من حيث وتيرته؛ وهو مستمر في تضاعفه طالما أن تبنّي تكنولوجيا الإنترنت لتحقيق أسلوب ويب في الحياة يتمّ بأكثر من سرعة تبنّي التكنولوجيات الكهربائية الأولى والسيارات والتلفزيون والراديو·
ولم تزل النتائج المنظورة لهذه الثورة التكنولوجية الهائلة مؤقتة، لاتعبّر عن أبعادها الحقيقية الخفيّة· وحتى في عام ،1998 لم يكن قد سُجل إلا عدد قليل من الصفقات التي تتمّ عن طريق التجارة الإلكترونية فيما كانت دول العالم الأخرى بعيدة تماماً عن تطبيقاتها· ويشير جيتس إلى الحقيقة المعبّرة عن هذا الوضع الذي كان سائداً بقوله: ومن أصل فواتير تبلغ قيمتها الإجمالية 15 مليار دولار، تمّ دفع مليون دولار منها فقط بطريقة إلكترونية· ولكن نمو التجارة الإلكترونية بدا بعد ذلك وكأنه يقفز بسرعة صاروخيّة بحيث يتضاعف عدد مستخدمي الويب كل 100 يوم· وكان من الهيّن على بيل جيتس بعد أن وقف على هذه الحقائق الإحصائية المثيرة أن يتنبأ بمستقبل قريب تكون فيه التعاملات التجارية الإلكترونية قد أحرزت تطوراً انتشاريا يجعلها الوسيلة العالمية الوحيدة للتجارة وأداء الأعمال، إلى جانب ماستحققه من تطوّر في وظائفها الذاتية الفنّية في إنجاز الصفقات·
وقريباً جداً، سوف يمتلك كل إنسان دون استثناء صفحته البنكية على الويب التي سينجز من خلالها كافة معاملاته وصفقاته ومشترياته المالية؛ وسوف تضمّ هذه الصفحة أيضاً كافة المعلومات والبيانات المالية المتعلّقة به· وهذه ليست رؤية تخيلية، بل هي حكم قاطع على توجّه لايمكنه أن يسير إلى الوراء· ولم يكن بيل جيتس يكشف الغيب عندما تنبأ بأنه سيأتي في الألفية الجديدة اليوم الذي سيكون فيه 60 بالمئة من أرباب البيوت في الولايات المتحدة يمتلكون الحواسيب، وسوف يكون 85 بالمئة منهم متصلين بالإنترنت·
ويشير بيل جيتس إلى أن التأثير الهائل الذي سيترك أبلغ الأثر في تغيير أسلوب الحياة سوف يأتي من التلفزيون· وهو يقول في هذا الصدد: وسوف يكــــون التلفزيـــون الرقمـــي عنصــــراً مكمـــــــلاً لبقيــــــــة الأجهــــزة الرقميــــة حيـــــث سيكون مجهّزاً بالعملاء الأذكياء intelligent agents الذين يُعرّفون بأنهم برامج حاسوبية تطبيقية تتولّى مساعدة مستخدميها في انتقاء مايبحثون عنه من معلومات من ضمن الركام الهائل الذي تعجّ به الإنترنت· وسوف يكون التلفزيون الرقمي معرضاً حيّاً لعرض وبيع السلع على الخط وطريقة عملية للإبحار عبر الإنترنت· ويعترف بيل جيتس بعد ذلك بأنه يدرك تماماً وجود الكثير من المصاعب التقنية التي تعرقل ابتكار التلفزيون الرقمي، من أهمها توحيد المعايير الفنّية والتقنية المتعلقة به، والاتفاق على توحيد سعة موجة البثّ التي تتعلّق بنظام الاتصالات الرقمي ذاته· ولكنّه يعبّر عن ثقته التامة في أن القوى التكنولوجية الهائلة التي أصبح يحتكم إليها العالم سوف تكون قادرة على قهر هذه العقبات وتجاوزها؛ وهو يقول في هذا الصدد: وتثبت التطورات النوعية الهائلة التي نلمسها الآن على مختلف الجبهات، بأن سرعة التطوّر التي سيشهدها هذا الميدان سوف تكون كافية لإصابة كل البشر بالدهشة والانبهار خلال العقد المقبل·
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق