الفصل السادس والثلاثون: قصة إقالتي من منصب (ر.ا.ح.ق.م.م)
البيانات العسكرية المصرية وحقيقتها:
لقد اتفقت مع أحمد إسماعيل قبل الحرب على أن تكون بلاغاتنا العسكرية دقيقة وصادقة وأن نذكر الحقائق كلها مجردة من أية مبالغات أو أكاذيب كما كان الحال في حربنا السابقة مع إسرائيل. وقد التزمت القيادة هذا الخـط إلى أن جاء يوم 14 من اكتوبر 73 الذى خسرنا فيه حوالي 250 دبابه مقابل خسـائر محدودة من العدو. ونظرا لما كـان يحس به السادات وأحمد إسماعيل من شعور بالذنب- لأنهما هما اللذان أصرا على هذا الهجوم على الرغم من معارضتي أنا وقادة الجـيوش كما سبق أن ذكرت- فقد صـدر البيان العسكري، ولأول مرة منذ بداية الحرب، وفيه تزوير للحقائق. ثم جاء بعد ذلك اختراق العدو في منطقة الدفرسوار ليلة 15/16 من أكتوبر فكان عاملا جديدا في استمرار بياناتنا العسكرية في أكاذيبها.
في خلال الأيام الأولى من الاختراق نفت البيانات العسكرية نفيا قاطعا وجود أي اختراق للعدو غرب القناة وبعد أن تطورت قوة العدو في الغرب إلى الحد الذي أصبح معه مستحيلا إخفاء وجود هذه الاختراقات عمدت البيانات إلى التقليل من أهمية هذا الاختراق.
وأني أذكر كيف كان أحمد إسماعيل يتصل هاتفيا من غرفة العمليات بالدكتور حاتم نائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام لكي يشرح له الموقف، ومن بين تلك المحـادثات مكالمة هاتفـية يوم 18 من اكتوبر، قبل أن أتحرك إلى الجيش الثـالث ظهر هذا اليوم. كانت قوة العدو في ذلك الوقت تقدر بأربعة ألوية مدرعة ومع ذلك كان أحمد إسماعيل يقول للدكتور حاتم "إن للعدو 7 دبابات فى الغرب وإنهم يتبعون أسلوب حرب العصابات. إذ يظهرون فجأة حيث يضـربون ثم يهربون ويخـتفون في الأشجـار ولذلك فإننا نجد صعوبة فى اكتشافهم وتدميرهم!! ". ومع أني لم أكن اسمع ما يقوله الدكتور حـاتم من الجانب الآخر من الخط إلا أني كنت أستنتج انه لا يسـتطيع أن يتقبل هذا التفسير السـاذج، مما كـان يضطر أحمد إسماعيل إلى ان يعيد ويكرر ما سبق أن قاله مرات ومرات.
وعندما كنت أناقش هذا الموضوع مع الوزير وأطالبه بضرورة إعلان الحقائق فإننا كنا نصطدم معا كعقليتين وعقيدتين مختلفتين تماما. فقد كان يقول إن إذاعة هذه المعلومات السيئة سوف تكون لها اثر سيئ على الروح المعنوية للقوات المسلحة وعلى الشعب. وكنت أقول إن المعلومات السيئة تستحدث الهمم وتولد عند كل مواطن روح التحدي للعدو وتدفعه لأن يقدم لوطنه أقصى ما يستطيع أن يقدمه. كما أن إعلانها للقوات المسلحـة سيدفع التشكيـلات والوحدات غير المشتركة في القتال لكي تكون اكثر تعاونا واستعدادا لتقديم المساعدة والدعم للقوات المشتركة في القتال. نظريتان مختلفتان تماما. والنتيجة هى أن الوزير استمر في إصدار البيانات العسكرية الكاذبة- ويعلم السادات بكذبها- طوال مدة الحرب.
مقابلة مع مندوب مجلة نيوزويك الأمريكية:
في الساعة 1700 يوم 5 من ديسمبر 73 أجريت مقابلة صحـفية مع المسـتر أرنولد بورشجـريف محرر مجلة نيوزويك الأمريكية، وقد تكلمت معه بمنتهى الحرية والصراحة وأجبت عن أسئلته كلها وذلك فيما عدا المعلومات التي قد يستفيد العدو من إذاعتها. وقد منعت الرقابة المصرية المستر بورشجريف من إرسال هذا الحديث الصحفي إلى مجلته، وقامت بترجمة الحديث إلى اللغة العربية وأرسلته إلى المخابرات الحربيـة للموافقة على النشر، فقامت المخابرات الحربية بعرض الأمر على السيد الوزير. سألني الوزير عما إذا كنت قد قلت هذا الكلام فأجبت بالإيجاب. قال كان يجب عليك ان تعرضها على المخابرات الحربية قبل إرسالها إلى الصحافة. قلت له "كيف أطلب من المخابرات الحـربية وهي إدارة مرؤوسة لي أن تراجع ما أقول". أنا أعرف ما هو سر وما هو ليس سراً أكثر من مدير المخابرات لأن لدي قدرة تصور أوسع واتصالات عالمية اكثر. لماذا نخفي شيئا يعرفه العالم أجمع إلا شعب مصر؟.. إنني لم أقل شيئا يستطيع العدو أن يستفيد منه. وعلى سبيل المثال فقد امتنعت عن الإجابة عندما طلب مني أن أقارن بين قوتنا وقوة العدو قبل 6 من اكتوبر والآن. لأن الإجابة عن هذا السؤال قد تضطرني إلى إذاعة بعض المعلومات التي ليست معروفة على المسـتوى الدولي حتى الآن. مثال ذلك خسائرنا في الحرب والإمدادات التي وصلتنا حتى الآن. أما أنت ففي حديث لك مع الأسـتـاذ حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام، أذعت بيـانا عن خسـائرنا في الحرب. ولو استطاع العدو ان يعرف الإمدادات التي وصلت إلينـا بعد 6 من أكتوبر وحتى الآن فإنه يستطيع ان يعرف قوتنا على وجه التحديد. لقد كانت مناقشة حادة حقا. طلب مني الوزير أن استدعي بورشجريف وأن اسحب منه ما قلت فرفضت.
جريدة الأهرام تذيع خبرا كاذبا:
في صباح يوم 11 من ديسمبر 73 فوجئت بعنوان ضخم في جريدة الأهرام "قواتنا في الشرق والغرب تتقدم عشرة كيلومترات "، وكانت الجريدة تنسب الخبر إلى قيادة قوة الطوارئ الدولية في القاهرة لقد كان الخبر صورة أخرى من صور التزوير لواقع الأمر. حاولت معرفة مصدر هذا الخبر. اتصلت بقيادة قوة الطوارئ الدولية فنفت نفيا باتا إنها اصدرت بيانا عن ذلك اتصلت بإدارة المخابرات الحربية فنفت هي الأخرى أي علم بمصدر أو مؤلف هذا الخبر. كان الوزير يجلس بجواري في غرفة العمليات وأنا أجري هذه الاتصالات دون أن يعلق بشيء. مما جعلني اشك أنه هو مصدر هذا الخبر. قلت بصوت عال وبغضب دون أن اوجه كلامي لأحد هذا جنون. ليس هذا هو الأسلوب الصحيح للأعلام. يجب أن نعرف من هو الشخص الذي وراء هذا الخبر ويجب أن يعاقب. وهنا تدخل الوزير قائلا "لماذا تغضب هل أنت وزير الإعلام؟ قد يعتقدون أن إصدار هذا الخبر في مصلحة الوطن". سألت "من هم الذين يعتقدون؟" قال "لا أعرف، ولكني أود أن أقول لك لا تتدخل في عمل المخابرات أو في عمل الإعلام". فأجبته بأنني سوف أتدخل.
وفي اليوم نفسه صممت على أن التقي بالدكتور حاتم. وفي الساعة 1300 كـنت في مكتبه في وزارة الإعلام. حكيت له رأيي في الإعلام عموما ثم تطرقنا إلى الخبر الذي نشر في جريدة "الأهرام " صباح ذلك اليوم وقلت له "لقد اتصلت بجميع الجهات التي يمكن أن تكون مصدرا لهذا الخبر وجميعها نفت علمها بهذا الموضوع. هناك شخصان أشتبه فيهما: الشخص الأول هو الأستاذ حسنين هيكل رئيس تحرير "الأهرام"، والشخص الثاني هو وزير الحربية. وحيث أنه ليست لدي أية سلطة لكي استجوب أياً منهما فإني أرجو أن تحقق سيادتكم عن مصدر هذا الخبر". ذكر لي الدكتور حاتم أن الخط الإعلامي للدولة كان مرتبطا بالبلاغات العسكرية التي تصدرها القيادة، وأنه على الرغم من عدم قناعته الشخصية بها إلا انه كان ملتزما بها. أما بخصوص الخبر الذي نشر في جريدة "الأهرام " صباح ذلك اليوم فقد أكد لي عدم علمه بمصدره ووعد بالبحث لمعرفة الحقيقة.
وفي صباح يوم 12 من ديسمبر ظهرت جريدة "الأهرام"، وفيها تصحيـح للخبر وإعتذار عن الخطأ وأعطت بعض التبريرات لهذا الخطأ. لقد بلغ التحدي بيني وبين السلطة السياسية مداه. إن بقائي سوف يفسد الألاعيب التي يقومون بها. لقد تحملوا مني الكثير وكان لابد ان يتخلصوا مني، وفي مساء يوم 12 من ديسمبر 73 أقالني السادات من منصبي كرئيس لأركان حرب القوات المسلحة المصرية.
كيف علمت بخبر الإقالة؟!
لم اذهب إلى منزلي منذ اول اكتوبر حتى 13 من ديسمبر إلا مرة واحدة لمدة سـاعتين لإحضار بعض الملابس الإضافية وللاستحمام بالماء الساخن. وحوالي منتصف نوفمبر كانت الأمور قد استقرت واصبح الموقف لا يتطلب أن أكون بصـفة دائمة في المركز 10 او بين القوات كما كان الحال فترة العمليـات، وفي منتصف نوفمبر استأنفت القيام بتدريباتي الرياضية اليوميـة واكتشفت أنني فقدت من وزني 5 كيلوجرامات خـلال تلك الفترة الماضية، وعلى الرغم من أنه كان في استطاعتي أن أعود إلى منزلي الذي لم يكن يبعد أكثر من بضعة كيلومترات عن مركز القيادة فإني لم أفعل ذلك. كنت أشعر بالأسى بالنسـبة لرجال الجيش الثـالث المحـاصرين، كـيف يمكنني أن أذهب إلى منزلي وهناك 45000 رجل من رجـالنا محاصرون؟ حقا إن يدي نظيفتـان من مسئولية حصـارهم ولكن ليس هذا هو وقت تحديد المسئولية. إنهم أولا وأخيرا أبناء مصر، ويجب أن أشاركهم أحزانهم وقلقهم. صـممت ألا أعود إلى منزلي إلا بعد أن يعود هؤلاء الرجال إلى ديارهم.
كان يوم 13 من ديسمبـر هو عيد زواجي فأقنعت نفسي مسـاء يوم 12 من ديسمبر ان أقضي ليلة بالمنزل. وحيث إني أشك فيما يدور حولي كله فقد أخذت معي قبل أن أغادر المركـز 10 أوراقي كلها ومذكراتي الخاصـة. لم يدر بخلدي قط وأنا اترك المركز 10 في السـاعة 1700 يوم 12 من ديسمبر 1973، أن تلك السـاعة هي نهاية خدمتي بالقوات المسلحة المصرية. ومع ذلك فإن الحاسة السادسـة قد دفعتني إلى أن آخذ معي أوراقي المهمة ومذكراتي جميعها. وقد صدق حدسي حـيث إني بعد أن ذهبت إلى مكتبي بعد ذلك بأيام لأجمع باقي أوراقي وجدت أن إدارة المخابرات الحربية قد قامت بواجبها على الوجه الأكمل، فقد اخـتفت جميع هذه الأوراق بما فيها برقيات التهاني التي كـانت قد وصلتني من الأهلين ومن رؤساء أركان الجيوش العربية. كنت في قمة السعادة لأنهم لم يستطيعوا الحصول على ما كانوا يبحثون عنه.
وفي حوالي السـاعة 2000 من يوم 12 من ديسمبر 73 وبينما كنت في منزلي رن جرس الهاتف وكان الوزير على الطرف الآخر. أخبرني بأنه يحدثني من مكتبه بالوزارة ويود لو أستطيع أن أحضر لمقابلته. وبعد حوالي نصف ساعة كنت أدخل عليه مكتبه، وعند دخولي عليه وجدت عنده الجـمسي وسعد مأمون، وبعد دخولي عليهم قطع الوزير الحديث وطلب من الجمسي وسعد مأمون ان ينسحبا ويتركانا على انفراد. اخذ الوزير يدور ويلف إلى أن دخل في صلب الموضوع الذي استدعاني من أجله ودار بيني وبينه الحديث التالي:
الوزير:
لقد قرر رئيس الجمهورية إنهاء خدمتكم كـرئيس أركان حرب القوات المسلحـة وأصدر قرارا جمهوريا بتعيينكم سفيرا في وزارة الخـارجية، وعليكم التوجه اعتبارا من الساعة الثامنة صباحا إلى وزارة الخارجية في ميدان التحرير.
الشاذلي:
أشكر الرئيس على هذا التـعيين وأرجو أن تقوم بإبلاغه بأنني اعتذر عن قبول منصب السفير وافضل أن أبقى في منزلي.
الوزير:
هل تعني أنك ترفض إطاعة امر الرئيس الذي يقضي بذهابك إلى وزارة الخارجية؟
الشاذلي:
سيادة الوزير.. يمكنك أن تفسرها كما تشاء. إذا كان الرئيس يعتبر أن هذا التعيين خدمة لي فمن حقي أن اقبل الخدمة أو ارفضـها. وإذا كان المقصود بهذا التعيين هو العقاب فأنا ارفضه وافضل أن يكون هناك تحقيق ومحاكمة حتى تظهر الحقائق.
الوزير:
إن ما تقوله شيء خطير.. هل أقوم بإبلاغ الرئيس بما قلته؟
الشاذلي:
طبعا.. الهاتف بجوارك ويمكنك أن تبلغه الآن وفوراً.
الوزير:
حاول الوزير بعد ذلك أن يقنعني بطريق اكثر تهذيبا بأن أقبل هذا المنصب السامي، حيث إن رفضي سوف يغضب الرئيس وانه يقدر عملي ومجهودي اللذين قدمتهما للقوات المسلحة الخ.. الخ..!
الشاذلي:
إني أصـر على الرفض وأفضل ان يكون عزلا وليس نقلا الى وزارة الخـارجيـة، وهذا اعتذار رسمي عن عدم قبول منصب السفير (وحررت له الاعتذار كتـابة وسلمته إليه). ماذا سيفعل الرئيس بعد أن يعلم أني رفضت منصب السفيرة هل سيأمر بمحاكمتي؟ إني أفضل ذلك وأنا على أتم الاستعداد له.
وبعد حوار دام حوالي نصف الساعة غادرت مكتب الوزير بعد أن أكدت له أنني لن أذهب غدا لا إلى وزارة الخارجية ولا إلى المركز 10، وأنني سأبقى في منزلي.
بعد أن عدت الى منزلي أخبرت زوجتي بما دار بيني وبين الوزير من حوار وقلت لها "الحمد لله الذي جعلهم يتخذون هذه الخطوة. ان كل شيء كان يسـير مؤخـرا في عكس الاتجاه الذي أريده. لم يكن يسعدني البقاء ولكن لم لكن أستطيع ان أتقدم بالاستقالة في مثل هذه الظروف الصعبة". استقبلت زوجتي الخـبر بشجاعة وأيدت موقفي في رفض منصب السفيـر وقالت "الحمد لله انك تترك القوات المسلحة بعد أن عبرت بهم القناة ولم يكن أحد يصدق أن هذا عمل ممكن. الحمد لله الذي تترك القوات المسلحة ونحن في صحـة جيدة. لو حسبت الوقت الذي قضـيته في منزلك منذ أن تزوجنا فانـه لن يزيد على ربع تلك السنين. لنسترح ونسـتمتع بما بقي لنا من عمر". ضحكت وتعجبت لقد كنت أسمع أن خبر التقاعد هو أصعب خبر تتلقاه الزوجات وهاهي ذي زوجتي تتلقى الخبر بفرح وارتيـاح. إن الخبر بالنسبة لها هو استعادة للزوج الذي كانت قد فقدته لأنه أعطى وقته واهتمامه كلهما للقوات المسلحة على حساب بيته وعائلته. ضحكنا وأخذنا نتجاذب الحديث وننتظر حضور المستر بورشجريف مراسل جـريدة النيوزويك الأمريكية الذي كنت قد وعدته باستقباله في منزلي تلك الليلة.
بورشجريف أول من يعلم بخبر الإقالة:
كان بورشجريف قد اتصل بي صباح ذلك اليوم وأخطرني بأنه سوف يغادر القاهرة في اليوم التالي، وأنه يرغب في لقائي قبل سفره ليعبر لي عن شكره على الحديث الذي أدليت به له، فوعدت بأن استقبله في منزلي في مساء اليوم نفسه. ولم تكد تمر 15 دقيقة على عودتي إلى المنزل حتى وصل بورشجريف هو وزوجته. قلت له: مستر بورشجريف.. إنك صحفي محظوظ. سوف أقول لك خـبرا لم يعرفه أي صحفي في العالم حتى الآن. وحكيت له قصة مقابلتي مع الوزير ورفضي لمنصب السفير الذي عرض عليّ. لم يكن بورشجريف وزوجته يصدقان ما أقول وكانا يعتقدان أنني أمزح وعندما أكدت له ذلك اكثر من مرة قال: فإن الطريقة التي تتكلم بها أنت وزوجتك تدل على انك سعيد بهذا ولا يبدو عليك أو على حرمك أي حزن أو أسف". فقلت له هذه فلسفتي. "لو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك الا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمع أهل الأرض على ان يضروك بشيء ما ضروك بشيء كتبه الله لك، جفت الأقلام وطويت الصحف".. وقد جال بخاطر بورشجريف أن يكون حديثي معه هو السبب في إعفائي من منصبي فقال لي على استحياء: "أرجو ألا أكون سببا فيما أصابك؟" ، فقلت له "لا أعتقد ذلك. أنني على خـلاف معهم في أمور كـثيرة وأن موضوعك يعتـبر واحداً منها ولكنه يكاد يكون ابسطها"، ولكنني شعرت من كثرة تساؤلات بورشجريف حول هذا الموضوع أنه كان يشعر بأنه أحد الأسباب الرئيسية. وعموما فإذا كانت مقابلة بورشجريف يوم 5 من ديسمبر وتكذيب الخبر الذي نشر في جريدة الأهرام يوم 11 من ديسمبر هما من الأسبـاب المباشرة الظاهرة فإنهما لا يعدوان أن يكونا القشة التي قصمت ظهر البعير.
لقد كانت الساعة قد بلغت الحادية عشـرة مساء عندما غادر منزلي بورشجريف، وهو لا يكاد يصدق ما رآه بعينه وسمعه بأذنيه.
زيارة غير متوقعة من حسني مبارك:
بعد حوالي 15 دقيقة من مغادرة بورشجريف منزلي، رن جرس الهاتف. كان المتحدث هو اللواء حسني مبـارك، حيث قال لي إنه يريد ان يقابلني لأمر مهم. لم أكن أعرف إذا كان قد علم بخبر إقالتي أم لا فحاولت أن أؤجل المقابلة إلى الغد على اعتبار انه إذا لم يكن يعرف الآن فسوف يعرف غدا وينتهي الموضوع، ولكنـه أصر على المقابلة. قلت له "لا داعي لهذه المقابلة حيث إني لم أعد رئيس أركان حرب القوات المسلحة". فأجاب لا أنا اعرف ذلك، ولذلك أريد ان أقابلك. إني احمل رسالة لك من السيد الرئيس،. فأجبت "أهلا وسهلا". وفي حوالي الساعة 2330 وصل حسني مبارك. كان ملخص رسالة الرئيس السادات ما يلي:
أ- إن الرئيس يقدر تمـاما ما قمت به من أعمال في خـدمة القوات المسلحة وقت السلم و الحرب.
ب- إن الخلافات المستمرة بينك وبين الوزير قد تفاقمت وقد أصبح من الخطورة أن تستمر بهذا الشكل.
ج- إن تعيينك سفيرا لا يعني تنزيلا من درجـتك فسوف تستمـر بدرجة وزير وتنال راتب وبدل تمثيل الوزير.
د- إن الرئيس ينوي إرسالك سفيرا إلى لندن، وهو أسمى منصب دبلوماسي يطمع فيه إنسان.
هـ- ولكي يؤكد الرئيس ان هذا التعيين لا يعني أي تنزيل من مقامك فإنه يرقيك إلى رتبة فريق اول.
و- وإن الرئيس يتعشم أن تقبل هذا المنصب.
كانت خـلاصة أقوالي لحسني مبارك ما يلي "لو أن الرئيس استدعاني وقـال لي هذا الكلام لقبلت، ولكن أن يكلف احمد إسماعيل - وهو يعلم جـيدا ما بيني وبينه- بإبلاغي الخبر وبالصورة التي قالها، فإن هذا يعني أن الرئيس يصـدق ما يقوله أحمد إسماعيل ويؤيد موقفه. لذلك فإني ارفض مرة أخرى قبول العرض"، ثم كررت على مسامعه ما سبق أن قلته لأحمد إسماعيل قبل ساعات قليلة "إذا كان الرئيس يعرض علي هذا المنصب مكافـأة لى فأرجو إبلاغه شكري واعتذاري عن عدم قبول المنصب، وإذا كـان هذا المنصب عقابا لي فلنضع النقاط على الحروف ولنناقش هذا الموضوع بطريقة علنية. لن أقبل هذا المنصب ولن يستطيع أحد أن يرغمني على قبوله".
غادر حـسنى مبارك منزلي بعد منتصف الليل دون أن يستطيع إقناعي بقبول المنصب. وفى صباح يوم 13 من ديسمبر ظهرت صحف الصبـاح وفيها نبأ تعيين الجمسي رئيسا للأركان دون أي ذكر لمصير الفريق سعد الدين الشاذلي. هل أقيل ؟ هل استقال؟ هل عين سفيرا؟ هل مات؟ لا شيء على الإطلاق.
مقابلة الرئيس في أسوان:
على الرغم من عدم ذهابي إلى وزارة الخـارجية او قيامي باستـلام أي عمل فإن الإجراءات الخاصة بتعييني في الخارجية استمرت في سيرها كالمعتاد، وبعد عدة أيام كتبت بعض الصحـف أنني عينت سفيرا في لندن. وهنا اتصلت بـالرئاسة وطلبت مقـابلة الرئيس لكي أوضح موقفي ولكي أؤكد له أنني أبلغت رفضي لهذا المنصب إلى كل من أحمد إسماعيل وحسني مبارك وأنني مازلت مقيما في منزلي. وبعد بضعة ايام من طلبي المقابلة اتصل بي مكتب الرئيس وأبلغني بأنه سوف يستقبلني في أسوان يوم 6 من يناير 74. وعلى الرغم من ان القرار الجمهوري الخاص بتعييني سفيرا بالدرجة الممتازة كان قد صدر قبل ذلك، إلا أنني لم أكن حتى ذلك الوقت اعترف بهذا القرار الجمهوري، وبالتالي سافرت إلى أسوان على حسابي الخاص ودون أن أخطر وزارة الخـارجـيـة بذلك. عندما وصلت طائرتي إلى أسوان كـان ما يزال أمامي ساعتان قبل أن يحـل موعد مقابلة الرئيس فذهبت إلى فندق الكتراكت لكي أقضي بعض الوقت. وهناك قابلت حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام. أخذنا نتجاذب أطراف الحـديث في موضوعات شتى اغلبها يدور حول حرب أكتوبر إلى أن حان ميعاد ذهابي إلى الرئيس فتركته وذهبت للقاء الرئيس.
كان حديث الرئيس ظريفا طيبا، واخذ يسألني عن أحوال زوجتي والعائلة الخ. ثم فاتحني في الموضوع الرئيسي. بدأ الرئيس حديثه بنبرة عتاب ولكنه من نوع العتاب الضاحك الباسم فقال "لا لا لا.. أنا زعلان منك. إزاي تعمل كده؟ أنت اتجننت؟ أبعت لك حـسني مبـارك برسالة مني فترفض الرسالة. أنا لما قال لي حسني إنك رفضت، قلت أبعث أجـيبك وأكلمك بنفسي لكن حسني قال لي بلاش دلوقت. ده مصمم وراكب دماغه. قلت طيب بعدين". قلت له "سيادة الرئيس.. أنا لست منزعجا من أن أترك القوات المسلحة. إن كـل ضابط يجب عليه أن يترك القوات المسلحة في يوم ما ليخلي الطريق لغيره، وهذه هي سنة الحيـاة ولكن ما ضايقني هو الأسلوب الذي أبلغتني به هذا القرار. سيادتك تعلم جـيدا ما بيني وبين أحـمد إسماعيل، ومع ذلك طلبت من احمد إسماعيل أن يقوم بإبلاغي بهذا القرار". قال الرئيس أنا أعرف ما بينك وبين احمد إسماعيل وعلشـان كده لما أبلغني أحمد إسماعيل بأنك رفضت المنصب وقال لي الكلام الذي قلته له، اعتقدت ان احمد إسماعيل يبالغ فقررت أن ارسل لك حسني مبـارك فرفضت أيضا. وعندما قلت أحضرك أمامي وأبلغك بنفسي، حسني قال لي بلاش دلوقت ". وأضـاف ضاحكا "لازم حسنـي بيخاف منك قل لي ماذا تعمل لكي تجعل مرؤوسيك يخافونك ويخشونك؟". - استرسل الرئيس في حـديثه فـأثنى عليَّ وأفاض في ذلك كـثيرا وقال أنني مـازلت موضع ثقـته وأن كل ما حدث هو أنه ينقلني من مجال عمل إلى مجـال عمل آخر وإن ما أضطره إلى ذلك هو الخلاف الشديد الذي يسود العلاقات بيني وبين أحمد إسماعيل. وحكى لي كيف ولماذا أعفي الدكتور محمود فوزي من رئاسة الوزراء فقال "كان فوزي يشتكي لي كل يوم ويقول لي الوزير فلان والوزير فلان ما بيسمعوش كلامه. أنا مش فاضي علشان اعمل قاضي بين كـبار الموظفين. واستطرد بعد ذلك "وفيما يتعلق بك أنت واحمد إسماعيل كـان لازم واحـد منكم يمشـي. وأنا فكرت ووجـدت انه من الأفضل انك أنت اللي تمشي وعرضت عليك افضل المناصب عندنا. وإذا اخترت لك لندن ليس لمركزها الأدبي فحسب بل لأني محتـاج لأن يكون لنا رجل ذو خبرة عسكرية كبيرة في لندن. إننا على اتصال الآن مع ألمانيا الغربية وستقوم ألمانيا بإمدادنا بأسلحة متطورة ومتقدمة. وإن سفيرنا في ألمانيا رجل مدني اسمه محمد إبراهيم كامل. كان معي في السجن وأنا عينتـه في الخارجية وبعد ذلك هو الآن سفير في ألمانيا، إنما طبعا لا يفهم في الشـئون العسكرية ولا يستطيع ان يتابع عمليات المباحثات والعقود العسكرية. وأنا أهدف إلى أنك من لندن تقوم برحلات مستمرة إلى ألمانيا للإشـراف على هذا الموضوع. ان وظيفتك كسفير في لندن ستكون موضوعا ثانويا بالنسبة للوظيفة الأولى وهي تسليح الجـيش المصري. وليس لدينا من هو افضل منك للقيام بهذه المهمة" وأفاض في حديثـه... حتى اعتبرت ان ما قاله هو ترضية كـافية وأن منصب سفير مصر في لندن هو امتداد لمسئوليتي في خدمة القوات المسلحة المصرية وتقويتها وقبلت المنصب. انتقلنا بعد ذلك إلى الحديث عن العلاقات المصريـة البريطانيـة والمصريين الذين يعيشون في المملكة المتحدة وموضوعات اخرى. وكانت السـاعة قد بلـغت الواحدة والنصف بعد الظهر عندما غادرت استراحة الرئيس في أسوان.
عدت مرة أخـرى إلى فندق الكتراكت لكي أتناول الغداء وانتظر الطائرة التي سـأعود بها إلى القاهرة وهناك التقطني الأستاذ حسنين هيكل مرة أخرى. وكما كـان بورشجريف أول صحفي في العـالم يعلم بإعفائي من منصبي ورفضي قبول منصب سفير. كان هيكل اول صحفي في العالم يعرف نتيجـة مقابلتي مع الرئيس في أسوان، ولكن لم اخبره بموضوع تسليح الجـيش المصري عن طريق ألمانيـا الغربية حـيث أن هذا الموضوع- كـما ذكـر لي الرئيس- كان يتم على مستوى عال من السرية.
السفر إلى لندن:
بعد أن أذيع خبر تعييني سفيراً لمصر في لندن بدأ الناس يتهامسون ويقولون إن تعييني في لندن لا يقصد به إبعادي من القاهرة فحسب بل إنه جزء من مؤامرة لقتلي. إن المخابرات الإسرائيلية والمتطرفين الصهاينة يستطيعون اغتيالي في لندن دون أن يتركوا من ورائهم أثرا يكشف دورهم. إنهم يعتبرونني العدو رقم 1 بالنسبة إليهم. وبدا بعض الناس ينصحونني بعدم الذهاب إلى لندن حفاظا على حياتي، ولكني لم استمع إلى هذه النصـائح والتحذيرات وقلت لنفسي "لقد كانت حياتي سلسلة من المخاطرات. وان خدمتي في لندن لن تكون سوى امتداد لهذه الحياة التي تحـيط بها المخاطر دائما. إنني لا أخشى الموت الآن. وفي الحقيقة فإني أحيانا أتعجب كيف عشت طوال هذه السنين على الرغم من المخاطر كلها التي مررت بها. لو أنني مت اليوم فإني سوف أموت سعيدا. لقد أعطيت بلادي كل ما أستطيع ان أعطيه وقد رأيت ثمرة كفاحي. رأيت جنود مصر بعد أن هزمتهم إسرائيل في ثلاث حروب سابقة. رأيتهم وهم يعبرون قناة السويس ويحطمون خط بارليف ويهتفون الله اكبر. ماذا أريد بعد ذلك كله ؟ لا شيء. أيها الموت أهلا بك فإني لا أخشاك إن الأعمار بيد الله سبحـانه وتعالى ولن يستطيع أحد أن يقدم أجلي أو يؤخره عن الوقت الذي حدده الله ولو بثانية واحدة". وقبل سفري إلى لندن بعدة ايام طلبني اللواء رفعت حسنين نائب رئيس المخابرات العامة وأخبرني بأن لديهم معلومات تفيد بان مجموعة من المتعصبين الإسرائيليين سوف يسافرون إلى لندن لاغتيالي وأن المخابرات الإنجليزية لديها المعلومات نفسها ولذلك يطلب مني أن أكون حذرا وأن أتحاشى بقدر الإمكان الإعلان المسبق عن تحركاتي. ولذلك فأن ميعاد سفري إلى لندن يجب أن يبقى سراً وألا أبوح به لأحد وعملا بنصـيحة المخابرات العامة، سافرت سراً من القاهرة إلى لندن يوم 13 من مايو 74. وبعد وصولي ببضعة اشهر بدأت تثور شكوكي حول السادات وأهدافه فيما يتعلق بشخصي. فقد بدأ يصعد هجـومه علي ويوجه إليّ اتهامات باطلة، ومـن هنا بدأت اعد العدة للمجابهة التي لابد أنها ستقع بيننا يوما مـا. وبينما كنت اقدر الموقف استعدادا لهذه المجابهة توصلت إلى نتيجة هي أن السـادات له مصلحة في التخلص من حياتي أكثر من مصلحة المتعصبين الإسرائيليين. إن حياتي تشكل خطراً كبيراً عليه. لذلك يجب أن احتاط ولقد تذكرت كيف مـات الفريق أليثي ناصف بطريقة غامضة في لندن في أغسطس 73 وكيف قيدّت حادثة وفاته على إنها انتحار بينما يثور كثير من الجدل والتسـاؤلات حول وفاته. وبطريقة سرية لم يعلم بها أحد من رجال السفارة المصرية أو الليبية حصلت على جواز سفر ليبي لي وآخر لزوجتي ولكن بأسماء مستعارة.
الفصل السابع والثلاثون: السادات يبحث عن كبش فداء
اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 21 من نوفمبر73:
لابد أن مسئولية ثغرة الدفرسوار وحصار الجيش الثالث كانت تقلق السادات وتدفعه للبحث عن شخص لكي يلقي عليه بهذه المسئولية. هذه هي طبيعة السادات وقد اعترف بها في مذكراته في أكثر من موضع. انه لكي يبرئ نفسه من أية تهمة لا يتردد في أن يتهم شخصا أخر بتهمة لم يرتكبها. لقد روى لنا في مذكراته -دون حياء في الصفحات من 88 إلى 94- كيف انه ادعى كذبا على القاويش وكيل النيابة، وعلى مأمور السجن، وعلى سعيد الجزار، بأنهم كانوا يعذبونه عندما كان في المعتقل، وذلك لكي يفسد القضية ويبرئ نفسه.
وقد بدا السادات يكشف عن نواياه لأول مرة في يوم 21 من نوفمبر 73 اثناء اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. في هذا الاجتماع قال بطريقة عفوية وهو يستعرض أحداث الحرب "إنها ليلة واحدة هي السبب في المشكلات كلها التي حدثت، تلك هي ليلة 18/19 اكتوبر. لو إننا عملنا بحسم وقوة خلال تلك الليلة لقضينا على الثغرة إنها تلك الليلة التي كنت فيها يا سعد في الجيش الثاني" (1) لقد فهمت بسرعة ماذا يقصد الرئيس من وراء هذا وتعجبت لماذا يختار هذه الليلة بالذات وهل يعتقد الرئيس انه بمجرد ان يقول ان هذا كان ممكنا يوم 18 فإن الناس جميعا يجب ان يصدقوا ما يقول. الا يعرف ان هناك علما عسكريا يقرر ما هو ممكن وما هو غير ممكن في كل يوم وفي كل ساعة طبقا للظروف المحيطة؟ تدخلت بسرعة قائلا "سيادة الرئيس. لقد بذل رجال الجيش الثاني أقصى ما يمكن عمله خلال تلك الليلة". فرد قائلا "بعد أن تنتهي الحرب سوف نقوم بتحقيق لتحديد المسئولية عن عملية اختراق الدفرسوار" فقلت له بصوت لم استطـع أن أخفي ما فيه من ثقة وتحد "فعلا. يجب أن نحدد من هو المسئول ؟" (2)
بعد أن انتهى الاجتماع رافقته أنا والوزير إلى عربته كما هي العادة وبعد أن غادر الرئيس مبنى القيادة وفي أثناء عودتنا إلى الداخل قال لي الوزير وكيف تخاطب الرئيس بهذا الشكل ؟ ولماذا تأخذ كلام الرئيس على أنه اتهام لك؟ هل أنت قائد الجيش الثاني؟ إذا كانت هناك مسئولية فهي مسئولية الجيش الثاني". قلت له "إن مجرد وجودي في الجيش الثاني يجعلني مسئولا عن كل ما يقوم به الجيش من أعمال. لقد وافقت وشاركت في كل قرار اتخذ في الجيش خلال الفترة التي عشتها معهم ". وبعد أن انفض الاجتماع استدعيت اللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني وقلت له "يا عبد المنعم أني أشم رائحة الخيانة والغدر. يبدو انهم يبحثون عن شخص يلقون عليه أضرار أخطائهم كلها. كن حذرا وحافظ على وثائق الجيش حتى لا يقوم أحد بسرقتها أو تزويرها".
في خلال اجتماع المجلس الأعلى للقوات اثار الرئيس موضوعاً مهماً وركّز عليه طويلا وهو موضوع الجيش والسياسة. قال الرئيس "إن القوات المسلحة يجب أن تلتفت إلى عملها وألا تتدخل في السياسة. إن عملية الفصل بين القوات هي عملية سياسية. وسواء تم التوصل إلى اتفاق أم لا فإن هذا لا يعنيكم في شئ . وعليكم أن تهتموا فقط بأعمالكم، ومن خبرتنا الطويلة في القوات المسلحة فإن مثل هذه التصريحات لا يمكن أن تصدر من رئيس الجمهورية، الا اذا كانت ردا على شائعة أو كان المقصود منها إبلاغ شخـص ما برسالة أو إنذارا بطريقة مستترة من هم يا ترى الأشخاص الذين يعنيهم الرئيس بهذا الكلام؟ من هم اكثر الناس إلماما بأسرار حرب اكتوبر وخفاياها وبعد ثلاثة أسابيع من هذا اللقاء جاء الرد على هذا التساؤل. لقد أقال الرئيس كلا من الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة واللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني واللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث من مناصبهم، وفي وقت لاحق أقيل أيضا سعد مأمون الذي قاد الجيش الثاني حتى يوم 14 اكتوبر. لقد عرض الرئيس علينا نحن الأربعة مناصب سامية: حيث عرض علي منصب سفير في لندن بدرجة وزير، وعين عبد المنعم واصل محافظا مدنيا بدرجـة نائب وزير، وعين عبد المنعم خليل مساعداً لوزير الحربية، وعين سعد مأمون في وقت لاحق محافظا مدنيا هو الآخر. ولكن هذه الوظائف السامية لم تستطيع أن تخفي الحقيقة وهي أن السادات تخلص من اكثر الناس إلماما بأسرار الحرب.
يشتمني في زفة ويصالحني في عطفة:
وعندما ذهب السادات إلى مجلس الشعب في فبراير 74 لكي يحتفل بتنفيذ الاتـفاقية الأولى للفصل بين القوات. وأخـذ يوزع الأنواط والأوسمة على القادة الذين حـاربوا خلال حرب اكتوبر حدثت همهمة بين الناس واخذوا يتساءلون فيما بينهم: أين الشاذلي؟ أين عبد المنعم واصل؟ أين سعد مأمون؟أين عبد المنعم خليل؟ كانت تساؤلات خافتة لا يستطيع أحد أن يجاهر بها في ظل نظام أوتوقراطي، ثم إنها كانت مناسبة سعيدة للاحتفال بانتصار أكتوبر ولا أحد يريد أن يثير الجدل حول أي موضوع حتى لا يؤثر في هذا الجو المرح السعيد. ومن سخرية القدر أنه بينما كان مجلس الشعب يحتفل بانتصار حرب اكتوبر كان سعد الدين الشاذلي يتابع هذا الاحتفال على شاشة التليفزيون في منزله. قامت زوجتي بإغلاق التليفزيون وقالت "ما هذا التهريج؟ إن هي إلا تمثيلية سخيفة". ولكني طلبت منها إعادة فتح التليفزيون وقلت لها "إنها حقا تمثيلية ولكنها جزء من تاريخ مصر ويجب أن نشاهدها". وفكرت في هذه اللحظة ما سبق ان قاله سعد مأمون قبل الحرب "اذا فشل العبور فسوف تطير ثلاثة رؤوس في الهواء" لم يكن يتصور سعد مأمون وهو يقول هذا الكلام أن الرؤوس الثلاثة نفسها سوف تطير أيضا لو نجح العبور.
ولكي يثير السادات الشكوك حول مسئولية الثغرة فان اسمي لم يذكر بين أسماء القادة الذي جرى تكريمهم في مجلس الشعب وسـلمت إليهم "الأنواط والأوسمة"، ولكن بينما السادات -وأقول السادات وليس مصر- تعمد إسقاط دوري في حرب أكتوبر فإن العرب بصفة عامة وسوريا بصفة خاصة أخذوا يشيدون بالنصر الذي قمت به في هذه الحرب. ففي الحفل الكبير الذي أقامته سوريا لتكريم أبطال حرب أكتوبر لم ينس السوريون دور الفريق سعد الدين الشاذلي وانعموا علي بأعلى وسام عسكري سوري. كان حفل تكريم أبطال الحرب السوريين يذاع على الهواء وكان الكثيرون من الأهلين في مصر يستمعون إليه. عندما ذكر أسمي والوسام الذي منـح لي -وعلى الرغم من عدم وجودي بينهم- ضجت القاعة بالتصفيق لمدة طويلة حتى ظن معظم المستمعين المصريين أنني في دمشق. لقد كان التصرف السوري صفعة شديدة للسادات, لقد أراد الأخوة السوريون أن يوضحوا للعالم العربي والمصري أن السادات يتكلم عن الوفاء ولكنه ليس وفيا لأحد، وانه يدعو الناس لئلا يحقدوا على أحد، وهو الحقود الذي يجري الحقد في دمائه. أراد السادات أن يصلح خطأه تجاهي فارتكب خطأ أخر. ففي خلال عام 1974 -وبينما كنت سفيرا لمصر في لندن- حضر إلى مكتبي ذات يوم الملحق الحربي المصري وهو يكاد ينهار خجلا. كان مترددا ومتلعثما وهو يحاول أن يتكلم إلى أن شجعته على الكلام فقال "سيادة الفريق. أني لا اعرف كيف أبدأ الحديث في هذا الموضوع، وكم كنت أتمنى ألا أجد نفسي أبدا في هذا الموقف ولكنها الأوامر صدرت إلي وأنت اعلم بما يجب أن أقوم به لتنفيذها. لقد طلب إلي أن اسلم إليكم نجمة الشرف التي انعم عليكم بها رئيس الجمهورية ". استلمت منه الوسام في هدوء وأنا واثق ان مصر -وليس السادات حاكم مصر- سوف يكرمني في يوم من الأيام بعد أن تعرف حقائق وأسرار حرب أكتوبر. ليس التكريم هو أن أمنح وساما في الخفاء ولكن التكريم هو أن يعلم الشعب بالدور الذي قمت به. سوف يأتي هذا اليوم مهما حاول السادات تأخيره ومهما حاول السادات تزوير التاريخ. أنه لن يستطيع لأنه لا يصح إلا الصحيح.
كان ما قاله السادات خلال اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 21 من نوفمبر 73 من أن ليلة 18/ 19 من اكتوبر هي سبب كارثة الدفرسوار هو بداية الحملة التي رسمها السادات في خياله ليحملني مسئولية الثغرة ثم جاء بعد ذلك اجتماع مجلس الشعب لتكريم أبطال الحرب وغيابي عن حضور التمثيلية التي أخرجها السادات ثم بدأ بعد ذلك يصعد حملته شيئا فشيئا على شكل أحاديث صحفية وتليفزيونية الخ. وتركته يتكلم ويناقض نفسه بنفسه شهراً بعد شهر وعاما بعد عام إلى أن نشر مذكراته في مايو 1978، فكـانت هذه المذكرات ذات فائدة مزدوجة لي. كانت الفائدة الأولى هي استخدام الاعترافات التي وردت على لسان السادات في هذه المذكرات كوثيقة اتهام ضده أما الفائدة الثانية فإنها قد أعطت لي المبرر كي أنشر مذكراتي وأرد فيها على الأكاذيب التي ملا بها مذكراته.
التاريخ الحقيقي لإقالتي:
يدعي السادات في مذكراته (صفحة 341) بأنه عزلني يوم 19 من أكتوبر 73. ولو أنه قال بدلا من ذلك نويت أن أعزله لكان اقرب إلى الصدق منه إلى الكذب لأن العزل معناه الا يمارس الشخص أي عمل بعد عزله، ولكن الحقيقة كانت غير ذلك فقد مكثت أمارس عملي حتى 12 من ديسمبر 73. قد يتعجب بعض الناس لماذا أقول هذا الكلام ؟ وقد يرى الأذكياء منهم أنه خير لي ألف مرة أن أرحب بهذا الادعاء لأن القوات المسلحة لم تحقق شيئا بعد يوم 19 من اكتوبر، بل على العكس توالت المصائب بعد هذا التاريخ. فبعد هذا التاريخ تم حصار الجيش الثالث، وبعد هذا التاريخ فقدنا المبادرة نهائيا على المستويين العسكري والسياسي. ولهؤلاء أقول أن الأمانة في كتابة التاريخ هي التي تفرض على أن أقول كل شئ.
لقد كان بقائي عنصر ضغط وتأثير على القرارات حتى لو لم يؤخذ بوجهة نظري. وإذا كان بقائي حتى 12 من ديسمبر لم يحقق شيئا سوى إنقاذ الفرقة الرابعة المدرعة من التدمير و إبقائها سليمة للدفاع ضد أي هجوم معاد لاحتلال القاهرة فإن هذا وحده يكفيني ويجعل من بقائي فائدة لمصر. إن رفضي التوقيع على الأمر هو الذي أرغم الوزير على التراجع. لابد أن الرئيس قد نوى أن يعزلني قبل يوم 19 من أكتوبر بكثير. إن السادات إذا أراد أن يتخلص من أحد فإنه يرسم ويخطط لذلك ويحاول أن يخلق أو يدعـي أسبابا أبعد ما تكون عن الأسباب الحقيقية. فقد فعل ذلك مع الفريق الليثي ناصف، والفريق محمد صادق والدكتور عزيز صدقي، وجاء دوري، ثم جاء من بعدي ممدوح سالم، ثم عبد الغني الجمسي ومحمد علي فهمي، والبقية تأتي. وأني أنصح هؤلاء الذين مازالوا يتعاملون مع السادات أن يأخذوا حذرهم منه وأن يتعظوا مما فعله مع أعوانه السابقين. أعود وأقول انه لابد أنه عزم على إقالتي اعتبارا من يوم 12 من اكتوبر 73 للأسباب الآتية:
1- بعد النجاح الرائع الذي حققته القوات المسلحة المصرية في عبور قناة السويس ركزت الصحـافة العربية والأجنبية كلها على النصر الكبير الذي قام به الفريق سعد الدين الشاذلي ر.ا.ح.ق.م.م. ولقد بلغ الأمر أن صورتي كانت تعلق داخل البيوت في مصر والبلاد العربية، وظهرت كصورة غلاف على كثير من المجلات الأجنبية. لقد وصل ذلك كله إلى السادات فدبت الغيرة والحقد في قلبه.
2- وفي يوم 12 من اكتوبر عارضت دفع الفرقتين المدرعتين 21، 4 وأصر السادات. وفي 15 من اكتوبر طالبت بإعادة نفس الفرقتين إلى الضفة الغربية ورفض السادات وفي يوم 16 من اكتوبر اختلفت مع السادات والوزير في أسلوب القضاء على الثغرة، وثار السادات وفقد أعصابه كما سبق أن بينت (الفصل الثالث والثلاثون).
من هنا نرى أن النية في إقالتي لابد أنها بدأت تتكون في فكر السادات منذ الأيام الأولى للحرب نتيجة لعنصر الغيرة ثم أخذت الفكرة تختمر اعتبارا من يوم 12 من أكتوبر نتيجة ما كنت أبديه من معارضة لآدائه وقد كانت ثورته العارمة يوم 16 من أكتوبر دليلا قاطعا على انه اصبح لا يطيق وجودي ولو أن هجومنا في تصفية الثغرة نجح يوم 17 من اكتوبر طبقا للخطة التي وضعها أحمد إسماعيل ووافق عليها السادات لأعلن بعد الحرب انه عزلني يوم 16 من اكتوبر، ولكن فشل الهجوم كما توقعت اثبت أني كنت على حق، وبالتالي أصبح يوم 16 من اكتوبر ليس يوما مناسبا لإعلان العزل.
ادعاءات السادات الباطلة ضدي:
1- لم يبدأ السادات في مهاجمتي إلا في أبريل عام 1974 . ففي حديث أجراه مع الأستاذ سليم اللوزي رئيس مجلة الحوادث ونشر في المجلة المذكورة يدعو أنه أمرني يوم 16 من أكتوبر بما يلي: "عليك أن تكون بعد ساعة ونصف الساعة في الإسماعيلية وتضرب طوقا حول الدفرسوار، بحيث نترك اليهود يدخلون إلى هذه المنطقة بعدها تصبح القوة الإسرائيلية كلها في يدي.. ". وليس لدي تعليق على هذا الكلام سوى أن أقول أنه كلام مصاطب قد تحكيه جدة عجوز لطفل ريفي لتساعده على النعاس كما كانت جدة الرئيس تحكي له وهو طفل قصة زهران. ليس هكذا تدار الحرب وليس هكذا تخصص المهام العسكرية. أني اخجل ويخجل معي كل مثقف أن يِنسب إلى رئيس جمهورية مصر هذا الكلام. وبعد ذلك كله فلم يحدث أن أمرني السادات أن اذهب إلى الجبهة يوم 16 ولم اذهب الا يوم 18 من اكتوبر وسجلات الحرب المكتوبة تثبت ذلك. إن السادات بهذه القصة تحاشى أن يذكر قصة المواجهة التي دارت بيني وبينه بخصوص تصفية الثغرة كما سبق أن ذكرته.
2- يدعي السادات بأنني طالبت يوم 19 من أكتوبر بالانسحاب الكامل من سيناء وهذه كذبة كبيرة اخرى سبق أن شرحتها بالتفصيل (الفصل الثالث والثلاثون). إن كل ما طالبت به يوم 20 هو سحب 4 ألوية مدرعة وكان سيبقى لنا بعد سحبها 90000 رجل في الشرق. وشتان ما بين حجم هذه القوات وبين حجم القوات التي حددتها اتفاقية فض الاشتباك الأولى، والتي كان بموجبها لا يسمح لمصر بأن تحتفظ شرق القناة بما يزيد على 7000 رجل و30 دبابة.. شتان ما بين ما أمكن أن يحصل عليه السادات بالسياسة، وما كان يمكن أن نحصل عليه بالحرب. فلو أنه قال أنه أقالني لأنني طالبت بسحب 4 ألوية مدرعة وانه سيبقى لنا في الشرق بعد ذلك 90000 رجل ومعهم اكثر من 3500 قطعة سلاح مضاد للدبابات (500 دبابة+ 350 مالوتكا+ حوالي 150 مدفعا 85 ملليمتر+ 2500 مدفع مضاد للدبابات ذو مدى قصير ب 10/ ب 11/ ر.ب.ج) علاوة على حوالي 700 قطعة مدفعية ميدان يمكن استخـدامها وقت الضرورة كأسلحة مضادة للدبابات+ حوالي 250 هاونا ثقيلا 120/ 160 مم (4). لو قال السادات هذه الحقائق لظهرت ادعاءاته بشكل لا يمكن لعاقل أن يقبله. لذلك ابتكر السادات كذبة كبيرة فربط بين الإقالة وبين سحب القوات كلها من سيناء. وأني أتحدى أن يذكر أحد شهود هذا الاجتماع-وهم ستة أشخاص علاوة على الرئيس والوزير وأنا- أنني طلبت انسحاب القوات كلها من سيناء,وفي الحديث السابق نفسه يتحدث السادات
عن نفسه فيقول: "أنني استطعت أن أوقف القتال على خط 22 أكتوبر"، ولم يقل لنا السادات لماذا لم يستطع التمسك بخط 22 أكتوبر. إن من يوقف عدوه عند خط معين يجب أن يكون قادرا على التمسك بهذا الخط إن عدم قدرتنا على التمسك بهذا الخط عندما بدأ العدو هجومه يوم 23 من اكتوبر هو دليل قاطع على ضعف قواتنا العسكرية في هذا الخط ولو أن السادات وافق على اقتراحي بسحب هذه الألوية الأربعة (ثلاثة من الجيش الثاني في الشرق وواحد من الجيش الثالث في الشرق) في ليلة 20/21 أكتوبر لظهر أثر ذلك في القتال اعتبارا من صباح يوم 21 من أكتوبر ولكان في إمكاننا ضرب الثغرة يومي 21 و22 وفي أسوأ الظروف كان يمكن تضييقها. ولو حدث وتوقف القتال وتلك الألوية الأربعة حول الثغرة لما استطاع العدو أن ينتهك وقف إطلاق النار يوم 23 اكتوبر، ولو انتهكه لكنا قادرين على صده وتدميره.إن مسئولية حصار الجيش الثالث يوم 23 اكتوبر تقع أولا وأخيراً على الرئيس السادات وهو يحاول أن يهرب منها. ولكن هيهات هيهات.
3- أما ادعاؤه بأني عدت منهاراً من الجبهة يوم 19 من اكتوبر فإن هذا قول رخيص. فلست أنا الذي انهار ولم يحدث أن انهرت في حياتي حتى الآن والحمد لله. أنا رجل مظلات يعرفني رجالي ويعرفني أصدقائي جيدا ولا أحد يستطيع أن يصدق ما يدعيه السادات؟ أما السادات فله تاريخ طويل من الانهيار والأمراض النفسية وهذا بنيان بعضها:
(أ) اعترف في حديث له مع همت مصطفى (الإذاعة المصرية) بمناسبة 15 مايو 1977 بأنه أصيب بمرض عصبي نتيجة القبض عليه في الساعة الثالثة صباحا في برد الشتاء القارص في كل من عامي 42، 46 وأن هذا المرض لازمه لمدة سنة ونصف السنة. وقد أضاف السادات قائلا بأنه شفي، وقد أكد هذه القصة بشكل مخفف في مذكراته صفحـة 104. ولكن الذي لا يريد أن يعترف به السادات هو أنـه مازال مريضا وأن هذه الحالة حدثت له اكثر من مرة بعد خروجه من السجن عام 1946.
(ب) يقول في مذكراته صفحـة 228 عن الحالة التي انتابته بعد هزيمة عام 1967 "استولى عليّ ذهول غريب لم اعد أستطيع معه أن أتبين الزمن أو المسافات أو حتى المكان نفسه في بعض الأحيان ".
(ج) يقول في مذكراته في الصفحة 264 عن الحالة التي انتابته بعد وفاة عبد الناصر "بعد ان أصبحت الجنازة على وشك الابتداء أصبت بانهيار مفاجئ فحملوني الى مجلس قيادة الثورة وأعطاني الأطباء خمس حقن لم أفق منها الا حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر.
(د) يقول في مذكراته في الصفحة 357 عن حالته النفسية يوم 12 ديسمبر "أصبت بنزيف لمدة 4 ايام، وقال لي الأطباء إن هذا النزيف بسبب التوتر النفسي" ويقول في الصفحة نفسها "كنت في حالة نفسية مرهقة ".
(هـ) هناك حالة اخرى شهدها كل من الرئيس معمر القذافي والأخ عبد السلام جلود ولن أتعرض لذكرها.
إن للسادات تاريخا طويلا في الأمراض النفسية. أما أنا فأني أحمد الله واشكره لأني لم اصب طوال حياتي بأي مرض عصبي أو أي حالة نفسية. اللهم لا شماتة وإنما أشكرك على ما أنعمت به علي وأقول أن السادات - وهو الرجل المريض- يرى في غيره ما يحس هو به، فيتهم كل من يختلف معه في الرأي بأنه انهار. ولست أنا أولهم ولن أكون اَخرهم. فإذا كان السادات قد أتهمني بهذا الاتهام الباطل، فإنه قد اتهم من بعدي وزيرين للخارجية بالاتهام نفسه. لقد اتهم إسماعيل فهمي وزير الخارجية الذي رفض أن يسافر معه الى القدس بالتهمة ذاتها وقال عنه في الصفحة رقم 407 من مذكراته "مسكين، لم تستطع أعصابه أن تتحمل المبادرة واستقال". وبعد أن رفض محمد إبراهيم كامل (وزير الخارجية الذي حل محل إسماعيل فهمي) التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد واستقال احتجاجـا على ذلك، اتهمه السادات في تصريحاته بالاتهام نفسه. إن السادات له تاريخ طويل وثابت يؤكد انه يعاني أمراضا عصبية ونفسية، وهو في مرضه هذا يتصور نفسه وكان جميع الناس مرضى وانه هو وحده الذي لا يعاني هذه الأمراض، وهذا هو أخطر حالات المرض.
الخاتمة:
هذه هي القصة الكاملة والحقيقية لحرب اكتوبر 1973 وهي تختلف كثيرا عن كل ما صدر عن هذه الحرب من كتب. إن هذا هو الكتاب الأول الذي يكتب عن هذه الحرب من وجهة النظر العربية، دون أن يكون تحت أي ضغط من أصحاب السلطة في مصر أو في غيرها. لقد سردت الأحداث بصراحة تامة لم يألفها المصريون حتى ليبدو للكثيرين منهم أني قد أذعت "أسرارا حربية" ما كان يصح لي أن أبوح بها.
ولكي نوضح هذه النقطة يحب أن نتفق أولا على المعنى المقصود من تعبير "أسرار حربية". إن التفسير المنطقي لذلك هو "إذاعة معلومات عن القوات المسلحة الوطنية لم يكن العدو يعرفها، ونتيجة معرفته لهذه المعلومات فإنه يستطيع ان يهدد أمن وسلامة الوطن". إن حجب المعلومات التي لا ينطبق عليها التفسير السابق عن الشعب المصري والعربي تحت شعار السرية هو إسراف في تفسير تعبير "أسرار حربية" وهو محاولة يائسة من السادات ونظامه لكي يحجب الحقائق عن الشعب المصري، لكي ينقذ نفسه من مسئولية الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها في حق مصر وقواتها المسلحة.
ان العدو يعرف جيدا إننا قمنا بدفع الفرقتين المدرعتين 4 و 21 من غرب القناة إلى شرقها ليلتي 13,12 أكتوبر، ويعلم جيدا إننا قمنا بهجوم فاشل يوم 14 من أكتوبر خسرنا فيه 250 دبابة، ويعلم كذلك أنه عبر في منطقة الدفرسوار ليلة 15/16 من أكتوبر بقوة لواء مشاة ولواء مدرع، ويعلم جيداً بخطتنا للهجوم على الدفرسوار يوم 17 من أكتوبر وانه دمر اللواء المدرع 25 بكامله، ويعلم جـيداً انه مساء يوم 18 اكتوبر كان له غرب القناة خمسة ألوية مدرعة ولواء مشاة إن العدو يعلم جيدا أنه حاصر الجيش الثالث يومي 23 و 24 أكتوبر وانه عند وقف إطلاق النار يوم 24 من اكتوبر كان له ثلاث فرق مدرعة غرب القناة مقابل فرقة مدرعة مصرية واحدة. إن مالا يعرفه العدو هو"لماذا يتصرف المصريون بمثل هذه الحماقة، ومن هو المسئول الرئيسي عن هذه القرارات الخاطئة؟". ليس هناك إذن معلومات سرية يستطيع العدو أن يستفيد منها ضد مصر وإنما هناك أسرار يريد السادات أن يحجبها عن الشعب العربي. وهذه هي مشكلة الديمقراطية في مصر. إن السادات لايريد أن يسمح لشعب مصر أن يقرأ ألا ما يريد له السـادات أن يقرأ. انه لا يريد لأحـد من أبناء مصر أن يكتب إلا إذا كـان ما يكتبه معبرا عن وجهة نظر حـاكم مصر. ومن هنا يكون هذا الكتاب تحديا خطيرا لهذه القواعد القمعية و اللاديمقراطية التي يمارسـها نظام السادات في مصر.
إن هذه الحرب مليئة بالدروس والعبر، لعل أبرزها أكثرها تأثيرا على سير العمليات هو الصراع بين القادة العسكريين والسياسيين ذلك الصراع الذي يعد مشكلة كل وقت وزمان، ولكنها لم تكن قط بهذه الصورة التي ظهرت بها خلال حرب أكتوبر 73 على المسـتوى المصري.
لقد كان في استطاعتنا أن نحقق الكثير لولا تدخل السادات المستمر واصدار سلسلة من القرارات الخاطئة التي كانت تجهض قدراتنا العسكرية. والآن وقد أذيعت الأسرار كلها التي كـان يحرص السادات على إخفائها، فقد آن الأوان لكي نجري في مصـر حوارا نناقش فيه أخطائنا ونحدد المسئول عن كل خطأ حتى نعرف من هم أبطال هذه الحـرب الحقيقيين ومن هم الأبطال المزيفون.
ملحق
نص الخطاب الذي وجهه الفريق سعد الدين الشاذلي إلى النائب العام المصري .. وفيه يطلب محاكمة السادات
السيد النائب العام:
تحية طيبة.. وبعد
أتشرف أنا الفريق سـعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في الفترة ما بين 16 من مـايو 1971 وحتى 12 ديسمبر 1973، أقيم حاليـا بالجمهورية الجـزائرية الديمقراطية بمدينة الجزائر العاصمة وعنواني هو صندوق بريد رقم 778 الجزائر- المحطة B.P 778 ALGER. GARE بان اعرض على سيادتكم ما يلي:
أولا:
إني أتهم السيد محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربيـة بأنه خلال الفترة ما بين أكتوبر 1973 ومايو 1978، وحيث كان يشغل منصب رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية بأنه ارتكب الجرائم التالية:
1- الإهمال الجسيم:
وذلك انه وبصفته السابق ذكرها أهمل في مسئولياته إهمالا جسيما واصدر عدة قرارات خاطئة تتعـارض مع التوصيات التي أقرها القادة العسكريون، وقد ترتب على هذه القرارات الخاطئة ما يلي:
(أ) نجاح العدو في اختراق مواقعنا في منطقة الدفرسوار ليلة 15/16 أكتوبر 73 في حين انه كان من الممكن ألا يحدث هذا الاختراق إطلاقا.
(ب) فشل قواتنا في تدمير قوات العدو التي اخترقت مواقعنا في الدفرسوار، فى حين أن تدمير هذه القوات كان في قدرة قواتنا، وكان تحـقيق ذلك ممكنا لو لم يفرض السادات على القادة العسكريين قراراته الخاطئة.
(ج) نجاح العدو في حصار الجيش الثالث يوم 23 من أكـتوبر 73، في حين أنه كان من الممكن تلافي وقوع هذه الكارثة.
2- تزييف التاريخ:
وذلك انه بصفته السابق ذكرها حاول و لا يزال يحاول أن يزيف تاريخ مصر، ولكي يحقق ذلك فقد نشر مذكراته في كتاب اسماه (البحث عن الذات) وقد ملأ هذه المذكرات بالعديد من المعلومات الخاطئة التي تظهر فيها أركان التزييف المتعمد وليس مجرد الخطأ البريء.
3- الكذب:
وذلك انه كذب على مجلس الشعب وكذب على الشعب المصري في بياناته الرسمية وفي خطبه التي ألقاها على الشعب أذيعت في شتى وسائل الإعلام المصري. وقد ذكر العديد من هذه الأكاذيب في مذكراته (البـحث عن الذات) ويزيد عددها على خمسين كذبة، اذكـر منها على سبيل المثال لا الحصر مايلي:
(أ) ادعاءه بـان العدو الذي اخـترق في منطقـة الدفرسوار هو سبعة دبابات فقط واستمر يردد هذه الكذبة طوال فترة الحرب.
(ب) ادعاءه بأن الجـيش الثالث لم يحاصر قط في حين أن الجيش الثالث قد حـوصر بواسطة قوات العدو لمدة تزيد على ثلاثة أشهر.
4 -الادعاء الباطل:
وذلك انه ادعى باطلا بأن الفريق الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية قد عاد من الجبهة منهارا يوم 19 من اكتوبر 73، وانه أوصى بسحب جميع القوات المصرية من شرق القناة، في حين انه لم يحدث شيء من ذلك مطلقا.
5- إساءة استخدام السلطة:
وذلك أنه بصفته السابق ذكرها سمح لنفسه بان يتهم خصومه السياسيين بادعاءات باطلة، واستغل وسائل إعلام الدولة في ترويـج هذه الادعاءات الباطلة. وفي الوقت نفسه فقد حرم خصومه من حق استخـدام وسائل الإعلام المصرية -التي تعتبر من الوجـهة القانونية ملكا للشعب- للدفاع عن أنفسهم ضد هذه الاتهامات الباطلة.
ثانيا:
إني أطالب بإقامة الدعوى العمومية ضد الرئيس أنور السادات نظير ارتكابه تلك الجرائم ونظرا لما سببته هذه الجرائم من أضرار بالنسبة لأمن الوطن ونزاهة الحكم.
ثالثا:
اذا لم يكن من الممكن محـاكمة رئيس الجمهورية في ظل الدستور الحـالي على تلك الجرائم، فإن اقل ما يمكن عمله للمحافظة على هيبة الحكم هو محاكمتي لأنني تجرأت واتهمت رئيس الجمهورية بهذه التهم التي قد تعتقدون من وجهة نظركم انها اتهامات باطلة. إن البينة على من ادعى وإني أستطيع- بإذن الله- أن أقدم البينة التي تؤدى إلى ثبوت جميع هذه الادعاءات وإذا كان السادات يتهرب من محاكمتي على أساس أن المحاكـمة قد تترتب عليها إذاعة بعض الأسـرار، فقد سقطت قيمة هذه الحجة بعد أن قمت بنشر مذكراتي في مجلة "الوطن العربي" في الفـترة ما بين ديسمبر 78 ويوليو 1979 للرد على الأكاذيب والادعاءات الباطلة التي وردت في مذكرات السـادات. لقد اطلع على هذه المذكرات واستمع إلى محتوياتها عشرات الملايين من البشر في العالم العربي ومئات الألوف في مصر.
الفصل الثامن والثلاثون: أسرار الدولة وأسرار الحكومة
لم أفش أي أسرار عسكرية:
إن اتهامي أمام محكمة عسكرية بأنني أفشيت أسرارا عسكرية في كتابي الذي نشرته عن حرب اكتوبر سنة 1979. هو اتهام باطل لا يستند إلى أي دليل. أني أتحدى من يدعي بغير ذلك أن يذكر معلومة محددة يعتقد انها- من وجهة نظره- تعتبر معلومة عسكرية سرية.
لقد جاء في تعليق مدير إدارة القضاء العسكري الذي نشر في مجلة المجلة بتاريخ 24 أكـتوبر 93 "أن الفريق الشـاذلي بصفته العسكريـة كرئيس للأركان قد أفشى أسرارا عن اسلحة ومعدات وخطط ومعلومات عن تشكيلات وتحركات وافراد وعتاد واستراتيجيات وتكتيكات القوات المسلحة المصرية. وذلك من خلال ما كتبه في الخارج من مقالات نشرت في مجلة الوطن العربي بالإضافة إلى كتـاب صدر في باريس تحت عنوان حـرب اكتوبر، دون إذن خطي من السلطات العسكرية المختصة كـما يوجب القانون " وأرى أن الجملة الوحيـدة الصـادقة في كل هذا التصريح هي أنني لم احصل على تصريح كتابي من وزارة الدفاع بنشر كتـابي عن حرب اكتوبر. أما كل مـا جاء على لسان مدير إدارة القضاء العسكري من اتهامات اخرى فهي ادعاءات باطلة لا تستند إلى أي دليل.
نعم لم أطلب تصـريحـا من وزارة الدفاع لأني أرى أن أي قرار أو قانون يفرض على الأشخاص ضرورة الحصول على إذن مسبق من القيادة العامة للقوات المسلحة، قبل إجراء أي حديث أو قبل نشره هو إجـراء غير دستوري ويتعارض مع مبدأ حرية الرأي التي كفلها الدستور لكافة المواطنين. وان كل مـا تستطيع السلطة التنفيذية عمله- إذا افترضنـا احترامها للدستور- هو أن ترفع الدعوى ضد من تعتقد أنه أفشى اسرارا عسكريـة. ثم يترك الأمر بعد ذلك للقضاء للفصل في الدعوى.
نعم لم اطلب تصـريحا من وزير الحـربية لأنني على قناعة بأني لست اقل منه علما أو وطنية عند تقييمي لما اكتب، من حيث أن ما اكتبه يمكن أن يستفيد منه العدو في تهديد أمن وسلامة وطني. وإذا علمنا بالكـم الهائل من المقالات والكتب التي يتحتم عرضها على وزارة الحربيـة لاحتوائها على موضوعات عسكرية. وان الوزير وكـبار معاونيه لا يستطيـعون مراجعة كل هذه المقالات والكتب. وان الأمور عادة ما تنتهي بإحالة هذه الكتب والمقالات إلى ضباط ينقصهم العلم والخبرة، اتضـحت لنا خطورة النتائج التي يمكن أن تسفـر عنها مثل هذه الرقابة. والتي عادة ما تتمسك بالشكل دون المضمون. والتي قد تخضع احيانا لعوامل شخصية وتصفية حسابات قديمة. أو قد تتأثر بموقف انتهازي من الضابط الرقيب إذا شعر أن رفضه التصـريح بنشر كـتاب لمؤلف مـا، قد يرضى رئيسه، نظرا لما يعلمه من وجود خلافات سابقة بين المؤلف وبين رئيس الضابط الرقيب.
نعم رفضت طلب التصريح بالنشر من وزير الحربيـة، لأن كتابي عن حرب أكـتوبر كان مليئا بالنقد اللاذع لرئيس الجمهورية ولوزير الحربية. ولأنـني طالبت في هذا الكتاب بإلغاء منصب القائد العام للقوات المسلحة، وإبعاد وزير الحربية عن القرارات العسكرية.
نعم كنت ومازلت أطالب من أجل مصر بان يصبح رئيس الأركان هو الرجل العسكري الأول، وبأن يصبح وزير الحربية شخصية سياسية تختص فقط باتخاذ القرار السياسي وتحديد الهدف الاستراتيجي دون التدخل في أسلوب التنفيذ. ولم يكن من المعقول أن يوافق وزير الحربية على التصريح بنشر كتابي إذا أنا طلبت منه ذلك (راجع الفصل السابع عشر).
ولو أننا أخذنا بما جاء على لسان مدير إدارة القضاء العسكري عن مفهومه الفضفاض للأسرار العسكرية (تكتيكات، استراتيجيات، تحركات، أسلحة ومعدات، خطط تم تنفيذها) لأصبح الزاما علينا أن نوقف إصـدار مجلة الدفاع وأي مجلة عسكرية أخـرى تصدرها أفرع القوات المسلحـة الرئيسية واسلحة الجـيش المختلفة، وألا نتحـدث في الصحف عن المناورات العسكرية التي تقوم بها قواتنا، وألا نقبل في مـعاهدنا العسكرية طلبة أجانب حتى لا يدرسوا ما لدينا من تكتيكات واستراتيجيـات.. الخ، وأن نمنع المجلات العالميـة التي تعالج الشـئون العسكرية من دخول مصر.. والتي من ضمنها الكتب التي يصدرها المعهد الدولي للدراسات ألاستراتيجية THE INTERNATIONAL INSTITUTE FOR STRATEGIC STUDIES (IISS والكتب التي يصدرها SLPRI … والكتب التي تصدرها JANES .. حيث أن هذه الكتب تتحـدث عن حجم وتنظيم الوحدات والتشكيـلات ومواصفات الأسلحة والمعدات وكل ما جـاء على لسان مدير إدارة القضاء العسكري على أنه من الأسرار، ولأصبح الزاما علينا أن نمنع اقمار التـجسس التي تعبر فضـاءنا الجوي في كل يوم وتقوم برصد كل تحـركاتنا العسكرية، أو على اقل تقدير نحتج على مرورها.
الأسرار في عصر الأقمار الصناعية:
لقد لعبت اقمار التجسس دورا مهما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، سواء من ناحية مراقبة كل من الولايات المتحدة والاتحـاد السوفيتي لبعضهما البـعض، أما من ناحية تزويد بعض الدول الصـديقة لأي منهما بالمعلومات التي تفيدها في صراعها ضـد الدول الأخرى المعادية. يقول المستر كيسىCASEY مدير وكالة المخابرات الأمريكية الأسبق C.I.A "من الصور التي تلتقطها أقمارنا الصناعية، نستطيع أن تعد جميع الدبابات السـوفيتية. وبتكرار التصـوير على فترات، نستطيع أن نعرف إذا ما كـانت هذه الدبابات صـالحـة للاستخدام من عدمه. وتستطيع وسائل الإنذار المبكر أن تسجل أي تحركات تقوم بها القوات السوفيتية، أو أي مشروع دفاعي كبير يكون في مرحلة التطوير صفحة رقم 221 من كتاب THE SECRET WARS OF THE CIA للكاتب الصحـفي بوب ودورد BOB WOODWARD النسخة الإنجليزية، الطبعة الأولى 1987).
ويقول المستر جون Mr John Lehman -الذي كان يشغل منصب وزير الحربية في إدارة الرئيس الأمريكي ريجان مابين 81-1987- "إن الولايات المتحدة زودت بريطانيا بمعلومات مهمة خلال حرب الفولكلاند عام 1982، وإن هذه المعلومات كانت بطريقة سرية، وكانت خافية حتى على كثير من كـبار المسئولين في الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، وانه بدون هذه المساعدة ما كان باستطاعة بريطانيا أن تنتصر في هذه الحرب. بل إن بعضا من كبار المسئولين البريطانيين الذين كانوا على علم بتلك المعلومات التي قدمتها إليهم أمريكا - ويشاركهم في ذلك ليمان نفسه- يعتـقدون أن بريطانيا كانت ستهزم في تلك الحرب لو لم تحصل على تلك المعلومات " مذكرات ليمان صحيفة الجارديان بتاريخ 4/1/89).
وعن القمر الصناعي KH-11 ، يقول كيسى "أطلق أول قمر من هذا النوع في ديسمـبر1976، فكان ذلك اهم انجازات السبعينيات في هذا المجال. فقد كان في استطاعة هذا القمر أن يرسل إلى الأرض ما يلتقطه من صور باشارات تلفزيونية فور تصويرها. وكان ذلك على عكس الجيل السابق من الأقمار الصناعية التي كانت تقوم بقذف الأفلام إلى الأرض بعد استكمال التصوير، حيث كان التقاط هذه الأفلام وتفريغها ثم توزيعها على الجهات المعنية يحتاج إلى الكثير من الوقت الذي قد تصبح فيه هذه المعلومات غير حديثة. أما بواسطة القمر الصناعي KH-11 فإنه اصبح في استطاعتنا في وكالة المخابرات والبنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) والقادة الميدانيين أن يشاهدوا حركة الدبابات السوفيتية فور حدوثها.
كان القمر الصناعيElectro Optical Kh -11 Imaging Satellite يعتمد على التصوير. وكان ذلك يعني عدم قدرته على إرسال الصور الواضحة في الليل في الأيام الغائمة، ثم ظهر بعد ذلك الجيل المتطور من هذه الأقمار التي تستطيع التصوير ليلا، وذلك بتكثيف ضوء النجوم، ثم ظهر الجيل الثالث من الأقمار الصناعية الذي يعتمد على التصوير الراداري، حيث إن الإشـارات الرادارية لا تتاثر بالظلام والسحب. وهكذا ظهر مشـروع قمر لاكروس وقد وضع اول قمر لاكروس Lacrosse في الفضـاء يوم 3 ديسمبر1988. (ص 30 من المرجع السابق).
وعندما اسقط الاتحاد السـوفيتي طائرة الركاب الكورية التي انتهكت الأجواء السوفيتية اثناء رحلتها رقم 7.. في ليلة 31 اغسطس أول سبتمبر 1983على أساس أنها كانت تقوم برحلة تجسسية لحساب امريكـا سخر الخبراء الأمريكيـون من هذا الادعاء وقالوا إن الصور التي تلتقطها اقمارهم من ارتفاع 160 كيلومترا، اظهرت أحد الأشـخاص وهو يقرأ صحيفة برافدا في أحد شوارع مدينة تقع في شمال الاتحاد السوفيتي. وقالوا إن عنوان الصـحيفة كـان ظاهرا ويمكن قراءته من الصورة (نيويورك تايمز، هيرالد تربيون 12/9/83).
وفي لقاء مع عدد من طلاب الجامـعات المصرية في افتتاح إسبوع أنشطة الجامعات في الإسماعيلية، قال الرئيس حسني مبارك "إن المناورات المشتركة مع امريكا لا تضيف شيئا إلى معلومات امريكا عن قواتنا المسلحة. ذلك انهم يعلمون كل شيء عنا، فهم يبيعون لنا السلاح وقطع الغيـار. كما أنهم يمتلكون أجهزة دقيقة للتصـوير والتجسس تمكنهم من معرفة أدق الأسرار. وقد ابلغوا الحكومة المصرية مؤخرا أن هناك 60 جنديا مصـريا على الحدود مع إسرائيل زيادة على اتفاقية كامب ديفيد" (مجلة المستقبل 29 من سبتمبر 1987).
ويعتقد أن الولايات المتحدة كانت اكثر تقدما من الاتحاد السوفيتي في مجال الاستطلاع بالأقمار الصناعية. ولكن الاتحاد السوفيتي لحق بها في منتصف السـتينيات وقد علم الأمريكان بذلك عندما لفت السوفيت نظرهم بأنهم قاموا بتمويه مرابض صواريخ مينيتمانMiinuteman في منطقة مونتـانا، وان ذلك يتعارض مع معاهدة سولت-1 ، وقد أنكر المفاوضون الأمريكيون هذا الاتهام اول الأمر. ولكنهم اكتشفوا بعد ذلك أن الفنيين قد قاموا بتغطية هذه المرابض و حمايتها من الصقيع عندما هبطت الحرارة إلى درجة الصفر. وبعد أن علم المفاوضون الأمريكيون بذلك أمروا برفع هذه الأغطية واعتذروا للسوفيت. ولكن هذا الحـادث أكد لهم أن الاتحـاد السوفيتي لابد أن يكون قد أحرز تقدما كـبيرا في مجـال الاستطلاع بالأقمار الصناعية.
وفي خلال حرب اكـتوبر 73، استخدم الإسرائيليون الصور التي كانت اقمار التجسس العسكرية الأمريكية تلتـقطها لمدينة السويس. فعرفوا منها الشوارع التي كـانت تخلو من القوات المصـرية والشعبيـة. وبناء على هذه المعلومات أخذت قيـادة الجـبهة الجنوبيـة (الإسرائيلية) توجه القوات الإسرائيلية التي كانت محاصـرة في مكتب شرطة السويس للإفلات خلال ليلة 24/ 25 أكتوبر.
يقول السادات في الصفحة رقم 375 من كتابه "البحث عن الذات" وهو يتحدث عن حرب 1967، ما يلي "كان جونسون (الرئيس الأمريكي) يسـتحث الإسـرائيليين على المبـادرة بالهجـوم على سيناء، بعد ان قدم لهم صور القمر الصناعي الأمريكي عن أوضـاع القوات المصرية في سيناء سـاعة بعد ساعة"، وعندمـا كان السادات يتحدث عن حـرب اكتوبر 73، فإنه قال في الصفحة 346 من نفس المرجع السـابق ما يلي "ولكن القمر الصناعي الأمريكي والبنتاجون كـانوا يوافون إسرائيل بالموقف ساعة بعـد ساعة دون أن تطلب ذلك. وأخبرهم بنقل الفرقة 21 المدرعة من الغرب إلى الشرق" .
ومرة أخرى يكتب السادات في الصفحة رقم 387 من كتابه "البحث عن الذات" عن لقائه مع وزير الخـارجيـة الأمريكي (كان هذا اللقاء يوم 7 نوفمبـر 73) ومطالبته بضـرورة انسحـاب إسرائيل إلى خط 22 أكـتوبر، فـيقول ما يلي "خط 22 أكتوبر سنة 1973 وهو الخط الذي كـان قـائما وقت وقف إطلاق النار، وتعرفه امريكا وروسـيـا بأقمارهما الصناعية". كان هذا يعني اعترافا صريحا آخر من رئيس الجمهورية بقـدرة الأقمار الصناعية في اكتشاف وتوزيع مواقع القوات المتحاربة.
بعد هذا العرض لإمكانات الأقمار الصناعية. وبعد اعتراف السادات بان امريكا كانت تمد إسرائيل بكل المعلومات التي كانت تحصل عليها عن تحركـات قواتنـا بواسطة اقمارها الصناعية. فهل يمكن لعاقل أن يتصور أن المخابرات الإسرائيلية كانت في حـاجة ماسة إلى معرفة تحركات قواتنا من كتاب الفريق الشاذلي وبعد أن كان قد مضى أكثر من 5 سنوات على تلك الحرب.
العلم العسكري والسر العسكري
الحرب علم وفن، والمكتبـات العـامة تزدحم بمئات الكتب والمجلات التي تعالج الحـرب بجـميع فروعها. ولعل اقدم هذه الكتب- والذي مازال يدرس في الكثير من الأكاديميات العسكرية- هو كتاب "فن الحرب الذي ألفه الصيني Sun Tzu عام 500 قبل الميلاد أما أحدثها فهو الكتاب الذي نشره الجنرال شوارتزكوف عام 1992 عن الحرب التي قادها ضد العراق عام 90/91. وبين هذين الكتابـين صدرت الاف الكتب التـي تتحـدث عن التكتيك، والاستراتيجية، والتحركات، ومبادىء الحـرب والتنظيم، والخسائر البشرية والمادية لكل حرب، والخلافات بين القيادات السياسية والقيادات العسكرية، الخ. ولم يقل أحد قط- إلا في مصر وفي حـالة الفريق الشاذلي بالذات- إن ما ورد في هذه الكتب يعتبر افشاء للأسرار العسكرية!!
وبهذه المناسبة نذكر بما قاله الرئيس حسني مبارك يوم 12/8/92 في أثـناء توديعه للقوة المصـرية المسافرة إلى سراييفو. فقد قال "إن حرب اكـتوبر تدرس الآن في جـميع المعاهد العسكرية وغير العسكرية". وانه لفخر لمصر أن تقوم كلية القيادة والأركان الأمريكية بتدريس حرب اكتوبر لطلبتها. وهنا علينا أن نتساءل: من اين حصلت امريكا على المعلومات التي تقوم بتدريسها للطلبة العسكريين. إن كان المرجع هو كتاب الفريق الشـاذلي فهذا فخر للعسكرية المصـرية. إذ يصبح أحد ابنائهـا صاحب كتـاب يصل به إلى العالمية. أما إذا كانت المعلومـات التي تدرس في الأكاديميات العسكرية الأمريكية مصدرها شىء آخـر، فإن هذا يعني ويؤكد أن امريكا حصلت على هذه المعلومات- إذا افترضـنا سريتها- من مصادر أخرى. وبذلك تلقي التهمة المنسوبة إلى الفريق الشاذلي فيما يتعلق بافشاء اسرار عسكرية. وبالإضـافة إلى الكتب العسكرية فهنـاك مئـات المجلات العسكرية التي تصدر بطريقة دورية. بعضها يصدر اسبوعيا وبعضها يصدر شهريا أو سنويا. ولعل أشهر هذه المجلات على المستوى العالمي هي تلك التي تصدر عن الجهات التالية:
(أ) معهد الدراسات الاستراتيجية الدولي International Institute for Strategic Studies
(ب) المعهد الملكي للأسلحة المشتركة لشئون الدفاع Royal United Services for Defence Studies
(ج) مؤسسة جينز Janes
وعن طريق هذه المطبوعات يمكن معرفة ميزانية الدفاع في كل دولة. وما تمتلكه كل دولة من قوات مسلحـة. ويشمل ذلك: عدد الأفراد، وعدد الأسلحة الرئيسية، واسلوب تنظيم هذه الأسلحة في تشكيـلات، ومواصفات وخصائص كل سـلاح ومعدة. كـما تتضـمن دراسات وبحوثا عن المشاكل التكتيكية والاستراتيجية الحاضرة والمستقبلية.
إن تطور أجهزة الرصـد وتنوعها وإقدام الدول الغربية على نشر المعلومات الوفيرة عما تملكه من اسلحة وعما يملكه الآخرين من اسلحة وعتاد، قد جعل كافة الدول عارية تماما من كل سر يتعلق بالقدرات القتالية، و اصبـحت كل دولة على معرفة تامة بما تملكه جاراتها من اسلحة وقدرات قتالية، وأصبح على كل طرف أن يبني خططه على أساس أن عدوه المحتمل يعلم عنه كل شيء فيما عدا النوايا التي يخفيها في صدره ومع أن هذه النوايا يمكن تخمينها بواسطة القادة العسكريين في الطرف الآخر، إلا أنها- مع ذلك- تبقى هي السر الوحيد الباقي إلى أن تبدأ العمليات الحربية، وبمجرد بدء العمليات وتنفيذ النوايا على أرض المعركة تصبح الحرب تاريخا وتصبح خططها جزءاً من هذا التاريخ. وعلى هذا الأساس خططنا لحرب أكتوبر، حيث كنا على علم عن إسرائيل كل شىء. وكنا نفترض طبعا اتها تعلم عنا كل شيء. وكما يقول السادات في الصفحة رقم 333 من كتابه "البحث عن الذات":"كانت كل من مصر وإسرائيل تمتلك من أساليب الحرب الالكترونية ما يمكنها من رصد كل ما يحدث على الجانب الآخر".
كانت خططنا للعبور وتدمير خط بارليف هي الشيء الوحيد الذي نحرص على إخـفائه وبنجاح خطة العبور والمام إسرائيل بها فقدت الخطة سريتها.
لمن يكون الولاء؟
نعم لمن يكون الولاء للشـعب والدولة؟ أم للحكم والحكومة؟ الإجابة عن هذا السؤال قد حُسمت في الأنظمة الديموقراطية. فالشعب هو الذي يختار الحاكم والحكومة دون تدخل من الحكومة التي تشرف على الانتخابات والشعب هو الذي يحدد اخـتصاصـات الحـاكم والحكومة، وهو الذي يسقطهم إذا وجـد منهم انحـرافا عن الحدود والاختصاصـات التي رسمها لهم. ولذلك فإن الولاء الأول يكون للشعب. أما ولاء الشخص للحاكم والحكومة فهو ولاء مشروط وهذه الشروط هو ألا يتعارض هذا الولاء مع ولائه للشعب. وفي بريطانيا التي تعتبر أعرق الديمقراطيات في العالم المعاصر، تأكد هذا المفهوم من خـلال قضية Ponting عام 85 وقضية Wright عام 1987.
أما القضية الأولى فقد كانت تتعلق بموقف حكومـة المسز تاتشر من إخفاءها بعض المعلومات التي تتعلق بحرب الفولكلاند التي جرت بين بريطانيا والأرجنتين عام 1982. فقد أدلت حكومـة تاتشر أمام مجلس العموم البريطاني بان الغواصة البريطانية كـونكيرور Conqueror أغرقت البارجة الأرجنتينية بلجرانو يوم 2 مايو 82، لأنها كانت تشكل خطورة على أمن وسلامة الأسطول البريطاني في المنطقة. وانه عندما صدر القرار السياسي بأغراق البارجة الأرجنتينية لم تكن مسز تاتشر قد علمت بعد بمشروع الاتفاق الذي تقدمت به دولة بيرو لحل النزاع بين بريطانيا والأرجنتين. ولكن المستر بونتنج- الذي كان يشغل منصـبا كبيرا في وزارة الدفـاع- سرب إلى حزب العمل المعارض للحكومة وثيقة تؤكد أن الحكومة قد كذبت على مجلس العموم في نقطتين مهمتين، الأولى هي أن القرار السيـاسي قد صدر بإغراق البارجة بعد 24 ساعة من إبلاغ الحكومة البريطانية بمشروع الحل السياسي. والأخيرة هي انه عندما صدر الأمر بإغراقها، كـانت بلجرانو على مسافـة 200 ميل من الأسطول البريطاني، وبالتالي فإنها لم تكن تشكل أي خطورة على الأسطول البريطاني.
قدمت الحكومة البريطانية المستر بونتنج للمحاكمـة بتهمة إفشاء أسرار عسكرية (محكمة عادية بالتأكيد، حيث إنه في بريطانيا لا تقام الدعوى ضد المدنيين أمام محاكم عسكرية). وفي أثناء المحاكمة دار الحوار بين الادعاء والدفاع حول سؤال مهم هو: لمن يكون الولاء للشعب أم للحكومـة؟ فالدفاع كـان يقول إن إذاعة هذه الأسرار كان بناء على نداء الضمير نحو حق الشعب في معرفة الحقائق. وإنه إذا تعارضت مصلحـة الشعب مع مصلحة الحكومـة، فإن ولاء الموظف يجب أن يكون للشعـب. أما الإدعاء فكان يتمسك بان المستر بونتنج قد انتهك القانون الخاص بالأسرار الرسميـة عندما أذاع أسرارا كانت بعهدته إلى أشـخاص غير مسئولين. وإنه ليس هناك تناقض بين مصالح الدولة ومصالح الحكومة، حـيث إن مصالح الحكومة القائمة هي مصالح الدولة نفسها.
وفي 11 من فبراير 85 صدر الحكم بتبرئة المسـتر بونتنج من تهمة إذاعة اسرار الدولة. وجاء في الحكم أن مصالح الحكومة ليست دائما متطابقة مع مصالح الدولة. وأن الموظف العام لا تمكن إدانته إذا هو أذاع معلومات في حوزته لا تهدد أمن وسلامة الدولة، ولاسيما إذا اتضح له أن الحكومة تحـجب حـقائق مهمة عن الشعب. وقد هلل الشـعب البريطاني لهذا الحكم وعلق عليه السكرتير العام لموظفي الدولة قائلا "إن هذا الحكم يعتبر انتصـارا عظيما للحريات المدنية. أرجو أن يدفع ذلك الحكومات إلى التوقف عن محاكمة موظفي الدولة الذين تكون كل جريمتهم هي انهم يضعون ولائهم للشعب في المقام الأول".
أما القضية الثانية فهي قضية المستر رايت Wright.الذي كان يعمل ضـابطا بالمخابرات البريطانيـة. وبعد تقاعده هاجر إلى استراليا واصدر كتـابا عن الأعمال القذرة التي تقوم بها المخابرات البريطانية والتي كان من بينها التصنت غير القانوني على محادثات الأفراد وسرقة منازلهم. وقتل المستر جيتسكيل Gaitskell زعيم حزب العمال بان دسوا له ميكروب مرض إستوائي قاتل في شـراب من الويسكي. والتآمر لاغتيال الرئيس المصري جمـال عبد الناصر والزعيم القبرصي اليوناني جريفاس.. إلخ. وقد قام رايت بنشر كتابه الذي أسماه- قناص الجواسيس Spy Catecher- في أمريكا، ولكن القضاء البريطاني فرض حظر النشر في بريطانيا باغلبية ثلاثة ضد اثنين. وقد وقف الشعب البريطاني ضد هذا الحكم. ولجأت بعض الصـحف إلى نشر اجـزاء من الكتـاب. وذهب توني بن Tony Benn -أحد زعماء حزب العمال- إلى حديقة هايد بارك ومعه نسخة من الطبـعة الأمريكية للكتاب واخذ يقرا منها على الجماهير الشعبية التي وقفت تستمع إليه. وكتبت صحيفة الديلي ميرور في 31 من يوليو 87 تقول "لقد نشر كتاب رايت في أمريكا وتمت قراءته في كل مكان. والانجليز وحدهم هم الذين لا يستطيعون قراءته. إن القضاة الأغبياء قد أصدروا حكما لا يمكن أن يحترم أو يعيش" أما صـحيفة الديلي ميل فقد نشـرت في 1/8/87 تقول "لو قبل الشعب البـريطاني بان الحريات التي يتمتع بها هي تلك التي تسمح بها السلطات (يقصد السلطة التنفيذية والسلطة القضائية)، فإن ذلك يعني أننا بدأنا السير على طريق الشمولية"
أما في الأنظمة الاوتـقراطية والشموليـة. فإن الأمور تسير في عكس هذا الاتجاه تماما. فالولاء للحـاكم هو السبيل الوحـيدة لشغل المناصب الـعليا. وفي هذه الأنظمة يشيع النفاق ويتقدم الانتهازيون الصفوف. أما القلة التي ترفض السير في ركب المنافقين وتتمسك بالقيم والمبادئ فإنها تتعرض لحملات ظالمة من وسائل الإعلام التي تملكها الدولة أو تسيطر عليها عن طريق وسائل اخرى متعددة وفي ظل هذه الظروف الصعبة فلا غرابة أن يسود في تلك البلاد شعار يطالب الفرد بان يكون ولاؤه للحاكم والحكومة حتى لو تعارض هذا الولاء مع ولائه لله وللأمة والوطن.
أما المؤمنون والمؤمنات فولاؤهم الأول والأخير لله سبحانه وتعالى مهما سبب لهم ذلك من مشاكل ومتاعب. واما الحاكم فطاعته مشروطة بما جـاء في الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم. فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. ذلك خير واحسن تأويلا)" (النساء/ 59).
وقد جرى الخلفاء الراشدين على هذا النهج. فقد قال أبو بكر مخاطبا الناس بعد أن تمت له البيعة (إني وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم). وعندما ولي عمر بن الخطاب ردد نفس ما قاله أبو بكر الصديق. فقال له رجل وهو شاهر سيفه "والله يا امير المؤمنين لو رأيناك معوجا لقومناك بسيوفنا" فرد عليه عمر "رحمكم الله الذي جعل فيكم من يقوم عمر بسيفه". هذا هو الحاكم المسلم حـقا. وهذا هو الشعب المسلم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يخشى إلا الذي خلقه وخلق السماوات والأرض وما بينهما.
من الذي يحدد أسرار الدولة؟
تعريف السر: في الأنظمة الديمقـراطية تقوم السلطة التشريعية بتعريف السر تعريفا حقيقيا قبل تجريمه. وتصـدر السلطة القضائية حكمها في الدعوى التي ترفعهـا السلطة التنفيذية أو أي جهة اخرى ضد من يرتكب جريمة إفشاء السر. وحيث إنه لا يمكن لأي سر أن يبقى سرا إلى الأبد. وحيث إن وسائل الرصد والحصول على المعلومات تتطور عاما بعد عام، فإن ما كان يمكن أن يعتبر سرا من اسرار الدولة منذ مائة عام أو منذ خمسين عاما، فإنه لا يمكن اعتبـاره اليوم من أسرار الدولة، نظرا لاستحالة إخـفائه عن سمع و انظار الأعداء في عصر الأقمار الصناعيـة. بل إن قدرات الأقمار الصـناعية تتعاظم عاما بعد عام بحيث أصبح اليوم في استطاعة القائد العسكري أن يشاهد حـركة الدبابات والتشكيـلات المعادية على شاشـة تليفزيونيـة وهي على بعد مئات أو آلاف الكيلومترات. وفي ظل هذه المتغيرات السريعة، فإن أفضل تعريف للسر العسكري، هو ما جاء في منطوق حكم المحكمة البريطانية التي برأت المستر بونتنج من تهمة افشاء أسرار عسكرية، في 11 فبراير 1985، فقالت إن "السر العسكري أو سر الدولة هو ذلك السر الذي يترتب على افشائه تهديد أمن و سلامة الدولة".
ومع أن هذا التعريف البريطاني صدر عام 1985. ومع أن كتابي عن حرب أكتوبر نشر عام 1979، إلا أن مفهومي للسر العسكري كان يتطابق تماما مع مفهوم التعريف البريطاني. ويؤكد ذلك ذكر خصائص الصواريخ جو- ارض التي كانت لدينا والتي نوقشت خلال مؤتمر انشاص في 19 من نوفمبر 71 (ص 149 حرب أكتوبر الطبعة الثالثة). ففي خـلال هذا المؤتمر تحدث الجنرال أوكينيف عن الصواريخ جو- ارض التي قرر الاتحـاد السوفيتي إمدادنا بها. وتحدث كذلك عن مواصفات تلك الصواريخ التي يمكن استخـدامها بواسطة القاذفات TU-16. ولكنني لم أتطرق في كتابي لمواصفات تلك الصواريخ عندما تبين لي أن مواصفاتها لم تكن قد ظهرت بعد في كتب ومجلات جينس Janes .ويبين هذا التصرف العلاقة بين السر والزمن. فما كنت اعتبره سرا عام 79، لا يمكن اعتباره اليوم سرا. حيث إن مواصفات تلك الصواريخ نشرت بعد ذلك في مطبوعات جينس اللاحقة.
وإذا نحن قبلنا بما تدعيه السلطة التنفيذية في مصر -وتأخذ به المحاكم العسكرية- بأنها هي صاحبة الحق المطلق في تقدير ما هو سر وما هو غير سر. فإن ذلك لابد أن يؤدي إلى إهدار العدالة. وذلك نتيجة تجميع السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) في يد شخص واحد هو الحاكم أو من يكلفه بذلك فالكل يعلم أن وزير الحربية في مصر هو الذي يعين القضـاة العسكريين ويعزلهم ويرقيهم ويحيلهم إلى التقاعد، وبالتالي فإنهم جزء من السلطة التنفيذية. فإذا قبلنا بأن وزير الحربية هو صاحب الحق في توصيف أي كتاب أو مقال ينشر بأنه يحوي أسرارا عسكرية. فإن ذلك يعني أن الحكم قد صدر مسبقا بمجرد تقديم المتهم للمحكمة العسكرية. حيث تصبح مهمة القاضي العسكري في هذه الحالة هي إصدار الحكم على المتهم بناء على شهادة مقدمة من وزارة الحربية بأن ما جاء في كتاب أو مقال المتهم هو إفشاء للأسرار العسكرية.
ونتيحه لهذه السلطات الواسعة وعدم وجود أية ضوابط لتعريف ما هو سر، حدثت تناقضات مؤسفة. فمن كان بالأمس هو صاحب السلطة في إعطاء التصريح للضباط المتقاعدين بنشر كتبهم أو عدم نشرها على أساس أن هذا سر وهذا غير سر. إذا هو -بعد تقاعده- يجد من بين تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه من يرفض التصريح له بنشر مذكراته على أساس أنها تحوي أسرارا عسكرية. وفي كـثير من الحالات كـان رفض التصريح للقادة القدامى بنشر مذكراتهم يخضع لما يسمى تصفية حسابات بين القادمة القدامى والقادة الجدد. أو قد يلجا القادة الذين في السلطة إلى هذا التصرف إرضاء للحاكم إذا استشعروا منه عدم الرضى عن القائد المتقاعد، حتى وإن لم يطلب الحاكم منهم ذلك صراحة.
ففي عام 1970 قام اللواء متقاعد صلاح الحديدي بتأليف كـتاب عن حرب اليمن. واتفق مع أحد الناشرين اللبنانيين على طبعه ونشـره في بيروت دون اخـذ إذن بذلك من وزارة الحربيـة. ولكن المخابرات الحربية علمت بذلك قبل أن يصدر الكتاب، فأبلغت الفريق أول فوزي وزير الحربية. فاستدعى الوزير اللواء صـلاح الحديدي وطلب إليه إلغاء التعاقد وعدم نشر الكتاب. وأذعن صلاح الحديدي لقرار الوزير، لأن البديل لذلك كان هو تقديمه للمحاكمة بتهمة إفشاء أسرار عسكرية. فإذا علمنا أن صلاح الحديدي كان قبل ذلك بسنوات هو مدير المخابرات
الحربيـة، وأنه كان- بحكم هذا المنصب- هو الشخص الذي يحـدد- باسم وزير الحربية- ما هو سر لا يجـوز نشره وكـان هو الشخص الذي يصـدق على ما تنشـر في وسـائل الإعلام (كتـاب وزارة الحربيـة رقم 7/ 4/ 1/ 1/ 1/ 11562 بتـاريخ 13/ 4/ 83 والذي اعتمد عليه المدعي العسكري العام في تقديم الفريق سعد الشاذلي للمحاكمة العسكرية بتهمة إفشـاء أسرار عسكرية، يقول إن ما نشره الفريق الشاذلي في كتابه عن حرب أكتوبر يحوي معلومات سرية محظور نشرها إلا بتصديق مسبق من مدير المخابرات الحربية). فهل يعقل أن صـلاح الحديدي الذي كان هو الرقيب الأول عندمـا كان في الخدمة، يصـاب فجأة بالعته عندما يتقاعد حتى انه لا يستطيع أن يميز بين ما هو سر وما هو ليس بسر؟!.
وإذا علمنا أن كتاب صـلاح الحديدي نشر بعد ذلك بسنوات، بعد أن تغير موقف القيادة السياسيـة من حرب اليمن. اتضح لنا أن أصحاب السلطة في مصر ينظرون إلى السر على أساس انه سر الحـاكم وسر النظام، ثم يدعون ظلما وعدوانا انه سـر من أسرار الدولة. وما حدث مع اللواء الحديدي حدث مع الفريق أول متقاعد محسن مرتجي، عندما رفض الجمسي - عندما كان وزيرا للحربية- التصريح له بنشر مذكراته. ثم تكرر نفس الشيء عام 1983، عندما اتهمت وزارة الحربية الفريق أول متقاعد محمد فوزي بأن كتابه عن حرب الاستنزاف -الذي نشره حـينئذ- يحوي أسرارا عسكرية. أي أن الفريق أول محمد فوزي الذي أرغم صلاح الحديدي على عدم نشر كتابه عام 1970، شرب هو من الكأس نفسـها عام 1983 عندما اتهم بأنه لا يستطيع أن يفرق بين ما هو سر وما هو ليس بسر!!
والأنكى من ذلك أن وزارة الحربية تكيل بمكيالين وربما اكثر من ذلك فيما يتعلق بمن تتهمهم بأنهم أذاعوا أسرارا محظور نشرها قبل حصولهم على إذن مسبق.
وفي حديث أدلى به الفريق سعيد إلماحي -الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات العامة- للصحفية سوسن أبو حسين، يقول الماحى "استدعاني الرئيس السادات ذات يوم في استراحة القناطر الخيرية وقال لي هل قرأت كتاب الفريق سعد الشاذلي عن حرب أكتوبر، فقلت له لا يا سيادة الرئيس. فأعطاني النسخة الصادرة باللغة الإنجليزية وقال لي أنا عايزك تقرأ هذا الكتاب كويس وتقدم لي عنه تقريرا وافيا وهل يتضمن أسرارا عسكرية أم لا. لأنه اذا كان الأمر كذلك حتما سنقدمه للمحاكمة العسكرية. وبعد يومين عدت إليه وقلت له إن الكتاب يخلو تماما من أية اسرار عسكرية ولاداعي للمحاكمة. لأن تقديم القادة للمحاكمة العسكرية قد يؤدي في النهاية إلى إضافة صفة الأبطال عليهم. وبالفعل أنا كنت صادقاً تماما مع الرئيس السادات ولم أجامل الفريق الشاذلي وقتها في هذه الشهادة".
وعن توصيفه للاسرار العسكرية قال الماحي "الأسرار العسكرية العامة هي كل ما يمكن أن يحصل عليه العدو ويستفيد منه ليستخدمه في الحفاظ على امنه والإضرار بمصالح وأمن بلادنا". ولذلك فأنا ارى من الأهمية أن تأخذ بعض الوقائع العسكرية طابع الاحتفاظ بالسرية لمدة طويلة حتى لا نعطي فرصة الاستفادة للعدو خاصة في القضايا الاستراتيجـية العامة. وفي الوقت نفسه نتمكن من كتابة الحقيقة الكاملة دون تخوف من محاذير استفادة العدو والتاثير على مصالح الدولة. ومن ناحية اخرى لا يجب على الإطلاق أن نحجب الحقائق عن الشعب، لأن من حقه أن يعرف كل ما يريد معرفته. خاصة أن العالم من حولنا اصبح قرية صغيرة وان ما لم يعرفه الفرد عن بلاده في الداخل فإنه من الممكن أن يحصل عليه من خارجها. وهو الأمر الذي يحدث فجوة كبيرة في الثقة بين الحاكم والمحكوم. ويدفع الأخير إلى الاستجابة إلى الشائعات الكاذبة التي لا تتصل مع الحقيقة في شيء. وقد تسيء هذه الشائعات ايضا إلى أمن وسلامة البلاد.
تنويم القوانين وايقاظها:
في 13/ 4/83 أرسل أمين عام وزارة الدفاع خطابا رقم 7/4/1/1/1/1/11562 إلى المدعي العسكري العام يقول فيه أن ما نشره الفريق الشاذلي في كتابه عن حرب اكتوبر، وما نشره الفريق اول فوزي في كتابه عن حرب الاستنزاف يحوي معلومات سرية محظور نشرها إلا بتصديق مسبق من مدير المخابرات الحربية، كأن نشر هذين الكتابين يضر بأمن وسلامة البلاد. والذي يثير التعجب والسخرية هو أن الفريق الشاذلي قدم للمحاكمة في حين أن الفريق اول فوزي لم يقدم للمحاكمة.
إن إفشـاء أسرار الدولة هو جريمة بشعة تخل بشـرف صاحـبها وتوجب احتقار من يرتكبها من كل مواطن شريف. ولذلك فإن تجميع كل ما يتـعلق بتوصيفها وإقامة الدعوى على من يُتهم بها ثم الحكم عليه في يد شخص واحد هو اهدار للعدالة. وحيث أن جميع هذه السلطات يملكها وزير الحربية. وحـيث أن رئيس الجمهورية هو الذي يعين وزير الحـربية ويعزله. فإن ذلك يعني أن رئيس الجمهورية يجـمع في يده سلطات تشريعية وقضائية بالإضافة إلى سلطاته التنفيذية، وهو ما تتنافى مع روح الدستور. ولإصلاح هذه الأوضاع فإني أطالب بأن يكون التعريف الدقيق لهذه الجـريمة من اختصاص مجلس الشعب. وأن تنحصر مهمة السلطة التنفيذية في إقامـة الدعوى ضد من تعتقد انه أفشى اسرارا عسكرية. ثم يكون بعد ذلك القضـاء الطبيعي هو الجهة المختصـة بالحكم في أي دعوى سواء بالإدانة أم البراءة.
وان الأخذ بهذا الاقتراح - وهو المتبع في الدول الديمقراطية- سوف يقضي على فوضـه التفسيرات المتناقضة التي تصدر عن السلطة التنفيذية.
الحرب مدرسة لأولي الألباب:
الحرب عملية باهظة التكلفة، وتكلفتها لا تقاس بمجموع ما يتم إنفاقه خلال فترة العمليات الحربية وما تتحمله الدولة من خسائر بشرية ومادية خـلالها. بل يضاف إليها ما تنفقه الدولة على قواتها المسلحة خلال سنوات السلم لتجهيزها وتدريبها. وما يتم إنفاقه لتأمين الشعب ضد اخطار الحـرب عند اندلاعها. ونتائج كل حرب هي التي تحدد مدى نجاح الدولة في تدبير شئونها العسكرية، من حيث التسليح والتدريب وترشيد الإنفاق، الخ. ولذلك فإن الدروس المستفادة من كل حرب تعتبر ثروة لا تقدر بثمن لأنها تكون رصيدا للدولة اذا ما اشتركت في حرب اخرى. بل أن كل الدول تسعى للحصول على الدروس المستفادة من الحروب التي لم تشارك فيها.
وهذه الدروس المستفادة لا يمكن التوصل إليها إلا اذا عرفت الأخطاء التي ارتكبت بواسطة أحد الأطراف المتنازعة وأدت إلى هزيمته أو أدت إلى وضعه في موقف صعب. وإن اكـتفاءنا بذكر الأعمال المجيدة التي تمت خلال حرب أكتوبر وعدم ذكر الأخطاء التي ارتكبت يمكن أن يولد لدى قادة الأجيال التالية شعورا بالتفوق الزائف، الذي قد يؤدي إلى ارتكابهم نفس الأخطاء التي ارتكبها آباؤهم واجدادهم. ولذلك فإنه يجب علينا أن نعترف بأنه رغم النجاح الباهر الذي حققناه بعبورنا قناة السويس وتدميرنا لخط بارليف في 18 ساعة. فقد ارتكبنا سلسلة من الأخطاء. أن تطوير الهجوم يوم 14/10 كـان قرارا خاطئا وهو الذي أدى إلى وقوع الثغرة ليلة 15/16 أكتوبر. وإن عدم المناورة بقواتنا المدرعة واستغلال خفة حركتها لكي تتصدى للقوات المدرعة الإسرائيلية التي عبرت إلى الغرب كان تصرفا خـاطئا. فقد كان يجب علينا أن نناور بقواتنا حتى يمكننا حشد القوات بالحجم المناسب في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. وإن إصرار السادات ووسائل الإعلام الحكومية المصرية على وصف ثغرة الدفرسوار بأنها معركة تليفزيونية هو وصف ديماجوجي ومضلل.
إن هذه الحرب المجيدة التي خاضتها قواتنا في أكتوبر 73، أصبحت تدرس الآن في كثير من الأكاديميات العسكرية. وانهم يشيدون في تلك المعاهد التعليمية بعملية العبور العظيم يوم 6 أكتوبر. ولكنهم في الوقت نفسه يوجهون اللوم للقيادة العامة للقوات المسلحة المصرية لأنها لم تطبق مبدا المناورة بالقوات بالسرعة التي تتطلبها ظروف المعركة. وقد ذهب أحد الخبراء العسكريين الأجانب الذين دعتهم الحكومة المصرية عام 1975 للمشاركة في ندوة أكتوبر إلى وصف القيادة المصرية بالشلل. وانه لمن المؤسف حقا أن الإعلام المصري وكتاب السلطة في مصر يعلنون ويؤكدون لأبنائنا بأنه لم يكن في الإمكان احسن مما كان، وان ضربة الطيران -تزلفا إلى الرئيس حسني مبارك- هي السبب الرئيسي للنصر. مع أن الحقيقة المرة هي أن القوات الجوية كانت احدى نقاط الضعف الرئيسية في قواتنا المسلحة. والاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني هجومـا أو نقدا لرئيس الجمهورية الذي كان يشـغل حينئذ منصب قائد القوات الجـوية. فلم يكن حسني مبارك في ذلك الوقت هو صـاحب الكلمة العليا في اختيار الطائرة أو في تخصيص الميزانية الكافية للقوات الجوية. وبالتالي فإن ضعف قواتنا الجوية هو مسؤولية جماعية تقع على عاتق الشعب والقيادة السياسية. ولكن بالرغم من ضعف قواتنا الجوية- مقارنة بالقوات الجوية الإسرائيلية- فقد أظهر بعض الطيارين بطولات وشجاعة. ولكن هذه البطولات الفردية كانت تضيع في زخم أي معركة جوية بين طائراتنا وطائرات العدو.
أهل الكهف ومفهوم الإسرار
أن من يدعي بأن ما جـاء في مذكرات الشاذلي عن حرب اكتوبر يعتبر افشاء للاسرار العسكرية هو واحد من اثنين: إما منافق وإما جاهل. فاما المنافق فالله وحده هو الذي يعلم ما في السرائر، وقد امرنا الدين الحنيف إلا نحكم على الناس ألا بظاهر ما يعملون. فقد قال تعالى"يا أيها الذين اَمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن إثم. ولاتجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه. واتقوا الله. إن الله توابٌ رحيم" (الحجرات /12). وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "أمرت أن احكم على الناس حسب الظواهر، وأن اترك السرائر لله"، وانطلاقا من هذه التشريعات الإلهية فإننا نفترض أن الجهل هو الذي أوقع بعض الناس في خطا الخلط بين ما يمكن أن يعتبر سرا وبين ما هو ليس بسر.
والجهل لا يعتبر نقيصة اذا كان نتيجـة سبب خارج عن ارادة الإنسان. واذكر بهذه المناسبة حديثا طريفا دار بيني وبين أحد شيوخ القبائل في اليمن عام 1965. كنت في ذلك الوقت قائدا للواء الأول مشاة الذي يتمركز في منطقة الجوف التي تقع في الركن الشمالي الشرقي لليمن. ومنطقة الجوف هذه هي التي تلتقي حدودها مع حدود المملكة العربية السعودية حيث تمتد الصحراء ذات الرمال الناعمة وحيث تنعدم الأمطار. ويعتمد الناس في هذه المنطقة على عدد محدود من الآبار. وعجبت لأمر هؤلاء الناس الذين يعيشون في هذه المنطقة حيث لا زراعة ولا تجارة ولا صناعة ولا أي مصدر للرزق وزارني في مركز قيادتي أحد شيوخ المنطقة، فسألته: ما الذي يدفعكم للبقاء في هذه المنطقة القاحلة
التي لا ماء فيها ولا زرع ولا حتى شجر تستظلون به؟ وكانت المفاجأة عندما قال "نحن قطاع طريق. إن طريق قوافل الحج من الجنوب إلى الحجاز تمر عبر أراضينا. واننا نفرض عليهم الإتاوات في مقابل السماح لهم بالعبور أو نستحل أموالهم إذا لم يدفعوا. وما نحصله في موسم الحج يكفينا طوال العام..". ثم تطرق الحديث بعد ذلك عن احوالهم المعيشية فقال "والله اليمن كانت افضل بلاد العالم إلى أن جيتـم انتم يا مصريين فخربتم الديار!!"، فعجبت لهذا القول وسألته: هل زرت مصر قبل ذلك فأجاب بالنفي، فسألته: وهل زرت أي بلد آخر خارج اليمن فأجاب بالنفي ايضا. فقلت له "وكيف تعرف إذن انها افضل بلاد العالم اذا كان اليمن، هو كل العالم بالنسبة لك. لقد زرت بلادا كثيرة أقول لك أن اليمن هي اكثر البلاد تخلفا من بين كل ما زرته من بلاد العالم"، وعندما خلوت بنفسي تساءلت: ما ذنب هذا الرجل؟ إن العالم بالنسبة إليه هو اكل الثريد واللحم ومعاشرة النساء ومضغ القات. وكل ذلك ميسور لديه بفضل ما يحصل عليه من مال حرام. وإذا كنا نحن نعتبر أن ما يحصل عليه من إتاوات يفرضها على الحجاج هو عمل غير أخلاقي، فإنه لا يعتبره كذلك. بل انه يعتبره حقا مشروعا له نظير حمايته لهم اثناء عبورهم الديار.
والجهل لا يُعتبر نقيصة إذا شب الإنسان في مجتمع مغلق تسيطر فيه الدولة على وسائل الإعلام والثقافة. مجتمع لا يسمع فيه المرء إلا ما يريد له الحاكم أن يسمعه ولا يقرأ فيه الفرد إلا ما يريد له الحاكم أن يقرأه. فينشأ كالإنسان الآلي يتصرف طبقا للبرنامج الذي وضعه الحاكم. فهو عندما يتكلم أو يتصرف إنما يردد- من حيث لا يدري- صوت و أوامر سيده الذي برمجه.
الجهل لا يعتبر نقيصة بالنسبة لأهل الكهف الذين نامت عقولهم مائة عام أو اكثر أو اقل. فمنهم من لم يعرف السيارة ومنهم من لم يعرف الطائرة ومنهم من لم يعرف التليفون، ومنهم من لم يعرف التليفزيون، ومنهم من لم يعرف الأقمار الصناعية ومنهم من لم يسمع عن الصواريخ ارض ارض التي تسبح في الفضاء قاطعة اكثر من عشرة ألاف كيلومتر وانه يتم توجيهها اثناء مسارها بواسطة الأقمار الصناعية لتصل في النهاية إلى الهدف المحدد لها بدقة متناهية، وانها تحمل خلال هذه الرحلة قنبلة نووية قوة تفجيرها تعادل مليون ومائتي ألف طن من المتفجرات (حوالي 60 مرة قوة تفجـير القنبلة التي القيت على هيروشيما في أغسـطس 1945)، وأن أقصى خطا محتمل بعد هذه الرحلة الطويلة هو 100 متر. أي أن أقصى خطأ هو 1 سنتيمتر عن كل كـيلو متر ومنهم من لم يسمع عن أن اقمار الإنذار المبكر Early Warning Satellite الامريكية كانت خلال حرب الخليج عام 1991 ترصد عملية اطلاق الصواريخ أرض-أرض العراقية من طراز الحسين فور اطلاقها، ثم تبـعث بها إلى المحطة الأرضية الأمريكية في نارونجار Narrungar في استراليا، فتقوم بدورها بإرسالها إلى مواقع الصواريخ الأمريكيـة المضادة للصواريخ باتريوت Patriot التي تتمركز في السعودية عبر اقمار الاتصال. وكل ذلك يتم بطريقة أوتوماتيكية في اقل من ثانية !!
ولكن الجهل يعتبر نقيصة اذا أصر أهل الكهف -الذين نامت عقولهم طوال هذه السنين- على عدم تصـديقهم لما يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم- ويصـرون على أن هذا من عمل الشيطان. هؤلاء إذن هم الجاهلون حقا بمفهوم العصر الذي نعيش فيه. فمن يتصور أن حجم القوات المسلحة ونوعية تسليحها هو سر من أسرار الدولة فهو جاهل لا يريد أن يتعلم. ومن يتصور أن الخطط التي قمنا بتنفيذها في حرب أكتوبر هي سر من أسرار الدولة فهو جاهل لا يريد أن يتعلم. ومن يتصور أن ذكر مواصفات وخصائص بعض الأسلحـة والمعدات التي استخدمناها خلال حرب أكتوبر هو سر من أسرار الدولة فهو جـاهل لا يريد أن يتعلم ولا يريد أن يجاري العصر الذي نعيش فيه.
ما السر العسكري؟
وسوف يقودنا هذا التحليل إلى السؤال المهم والأخـير وهو "وهل يعني ذلك أنه لـيست هناك أسرار عسكرية تجب المحـافظة عليها؟" وأبادر بالإجابة بان هناك أسرارا عسكرية كثيرة تجب المحافظة عليها. ومن الأمثلة على ذلك إنتاج سلاح جديد، أو خطة عسكرية لم تنفذ بعد. فمن المعروف أن إنتاج سلاح جديد Sophisticated مثل الطائرة أو الدبابة أو المدفع يمر بعدة مراحل.
-المرحلة الأولى هي مرحلة الابتكار ووضع التصميمات الخاصة بهذا الابتكار على الورق.
-والمرحلة الثانيـة هي تصنيع عينة من هذا الابتكار وإجراء اخـتبـارات ميدانية عليها للتأكد من مطابقة المواصفات النظرية على إمكانات المنتج ميدانيا.
-المرحلة الثالثة وهي مرحلة الإنتاج المكثف.
-المرحلة الرابعة والأخـيرة فهي توزيع هذا الإنتاج على الوحدات والتشكيلات الميدانية. وهذه المراحل الأربـع تستغرق عادة حوالي عشر سنوات.
فإذا كانت الدولة المنتجة للسلاح تعتمد على نفسها اعتمادا كليا في جميع مراحل الإنتاج دون الحـصول على أية مساعدات فنية من أية دولة أجنبية -هذا لم يكن متيسرا إطلاقا إلا بالنسبة لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق- فإنها يمكن أن تخفي عن الطرف الآخر المنافس المرحلتين الأولى والثانيـة. وهذا يعني إحـراز السبق في مجـال الإنتـاج بحوالي 5 سنوات. ولكن بمجـرد بدء الإنتـاج ووصول أعداد قليلة من المنتج إلى التشكيلات العسكرية للتدريب عليه، فإن وسائل الرصد المعادية تصبح قادرة على تصويره وتحديد مواصفاته وأسلوب استخدامه. وتصل المعلومات عن السلاح إلى ذروتها بعد أن تتم متـابعته خـلال المشاريع التدريبية والمناورات وتبقى بعـد ذلك حلقة واحدة وأخيرة وهي متابعة نتيجة اشتراك هذا السلاح في الحرب أو الحصول على عينة من هذا السلاح سواء بالاستيلاء عليه في حرب أم بإغراء بعض العملاء على الهروب به، أم بتهريب الوثائق السرية التي تتعلق بالتصنيع والصيانة والاستخدام والقيود التي تتعلق بالسلاح.
وتحرص الدول المنتجة للسلاح على ألا تبيع الأجـيال الحديثة من سلاحها إلى الدول الأجنبية إلا اذا كانت متأكدة من صداقة هذه الدول. وكانت على قناعة تامة بان هذه الدول الأجنبية لن تفشي أسرار هذه الأسلحة إلى أي طرف ثالث. حيث أن افشاء الأسرار التي تكون مازالت غير معروفة عن هذا السلاح، يمكن أن يسبب اضرارا كـبيرة ليس بالنسـبة للدولة المنتجة للسلاح فحسب. بل لجميع الدول الصديقة التي تكون قد حصلت على هذا السلاح من الدولة المنتجة.كذلك فإن الخطط الهجومية والدفاعية التي تقوم الدولة بإعدادها قبل الحرب تعتبر من اسرار الدولة، ولكنها تفقد سريتها عندما يتم تنفيذها على ارض المعركة. واذا كانت وسائل الرصد الحديثة لا تستطيع أن ترصد النوايا التي يحتفظ بها القائد في صدره، فهناك بعض التصرفات التي يمكن أن توحي بهذه النوايا وهنا تبرز اهمية القيام بعمليات الخـداع والتضليل التي ترمي إلى إيهام الخصم بالنية إلى عمل شيء ثم القيام بعمل شيء اَخر. ولاشك أن ما قامت به قواتنا المسلحة من عمليات خداع وتضليل
قبل أن تشن هجومها يوم 6 اكتوبر يعتبر مثلا رائعا لذلك. أما دول العالم الثالث التي تستورد التكنولوجيا أو بعضها من الخارج والتي تعتمد على تشغيل الخبراء الأجانب في إنتاج الأسلحة فإنها تجد صعوبة كبيرة في المحافظة على سرية انتاج الأسلحـة المتطورة ولعل العراق هو البلد الوحيد من بين تلك الدول الذي نجح في تحقيق ذلك بدرجة تثير الإعجاب فقد نجح قبل عام 1990، في إنشاء مصانـع لإنتاج الغازات، وانتاج صواريخ ارض ارض (صاروخ الحسين 650 كم وصاروخ العباس 850 كم) وإنتاج مدافع مختلفة الأعيرة وكان قاب قوسين أو أدنى من إنتاج القنبلة النووية. وإنتاج اضخم مدفع في العالم، وقد تم كل ذلك في سرية تامة. ولكن يجب أن نعترف بان الظروف الدولية كانت مواتية، وان العراق احسن استغلال تلك الظروف الدولية. فمن المؤكد أن وسائل الرصد الأمريكي كانت تعلم بمراحل انتاج العراق للغازات السامة في أوائل الثمانينيات ولكنها كانت تغض الطرف عن ذلك حتى يتمكن العراق من صد المد الإسلامي الذي ينبعث من إيران، والذي كان يهدد بسقوط الأنظمة العربية الموالية للغرب وبعد توقف الحرب الإيرانية عام 1988 واندلاع حرب الخليج الثانية عام 1990، انتهزت الولايات المتحـدة الفرصة لكي تقوم بتدمير الترسانة العسكرية العراقية. فكانت المنشآت النووية، ومصانع الغازات وإنتاج الصواريخ هي الأهداف ذات الأسبقية الأولى لقصف القوات الجوية الأمريكية. وخلاصـة القول إن مساحـة المعلومات التي يمكن للدولة أن تحيطها بسيـاج من السرية أصبحت تضيق عاما بعد عام. كما أن الأفعال ليست كلها ذات طبيعة واحده فمنها ما يعتبر سرا وهو في مرحلة التحضير ثم يفقد الفعل سريته بمجرد التنفيذ. مثال ذلك استعانة مصر بطيارين سوفيت في الدفاع الجوي عن مصر عام 70 والاستعانة بطيارين كـوريين في الدفاع الجوي عام 73. فقد تمت المفاوضات لتحقيق ذلك في الحالتين في سرية تامة. ولكن بمجرد إقلاع الطيارين بطائراتهم من القواعد الجوية المصـرية التي يتمركزون فيها، وتبادلهم الحديث باللغة الروسية أو الكورية، فإن هذا الفعل فقد سريته. وبالتالي فإن القاضي الذي يوكل إليه الحكم في قضية إفشاء أسرار يجب أن يكون متفتحا وذا أفق واسع وعلى دراية تامة بتطور إمكانات الرصد في العالم. وأن يفرق بين ما إذا كان هذا السر هو سر الحاكم والحكومة، أم أنه يعتبر سرا من أسرار الدولة. وأن إفشاء هذا السر يعرض أمن وسلامة الدولة للخطر.
رأي رجال القانون
استطلعت الصحفية سوسن أبو حسين رأي رجـال القانون فيما يمكن أن يعتبره القاضي سرا من أسرار الدولة، ونشرت ذلك عام 1994 في كتاب لها اسمته "سعد الشاذلي: قصتي مع السادات" وقد وردت في هذا الكتاب شهادة كل من الدكتور فتحي سرور رئيس مجلس الشعب، والدكتورة سعاد الشرقاوي أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق جامعة القاهرة، والدكتور محمود عاطف ألبنا استاذ القانون الدستوري بجامعـة القاهرة والدكتور محمد عصفور المحامي المشهور وأستاذ القانون الدستوري.
يقول الدكـتور فتحي سرور إذا كـان نشر الأسرار يؤدي إلى الإضرار بمصـالح الشعب فمن واجب الشعب نفسه أن يطالب بعدم نشرها لأنه صـاحب السيـادة العليا والمصلحة العامـة. أما إذا كـانت هناك قضـايا سياسـية معينة ويريد الشعب معرفتها فهذه تتعلق بمصداقية المسـئول في قراراته، ومصارحته للشـعب بالحقائق لاتدخل في باب الأسرار. إن تحديد مفهوم اسرار الدولة من الموضوعات الدقيقة التي تتطلب وضعها في ميزان التوازن بين حق الإنسان في المعرفة وفقا لمبدأ الحريات وبين الحفاظ على النظام العام والمصلحة العامة".
وتقول الدكتورة سعاد الشرقاوي "إن إخفاء الحـقائق والأسرار عن الشعب يعتبر انتهاكا دستوريا، لأن حق المعرفة والاطلاع مكفول للجميع في كافة القوانين الدستورية على المستوى الدولي". أمامنا مثال واضح حدث مع الرئيس الأمريكي السابق نيكسون عندما رفض تسليم وثائق قضية ووترجيت للجنة التحقيق بحجـة انها ضمن أسرار الدولة، ثم صـدر الحكم من المحكمة العليا بضرورة تسليمه وثائق القضيـة، إلا انه رفض الحكم واستقال. وهذا يؤكد حق الشعب والراي العام في معرفة الحقائق.
ويقول الدكتور محـمود عاطف البنا "إن تحديد مفهوم أسرار الدولـة تحكمه عدة مبادئ وتوجهات من الصعب تحديدها. فهو يخضع لحالات متعددة، منها تفسـير كل قانون لمفهوم السرية، والذي يتأثر بدوره بالنظام السياسي لكل دولة ومدى احترامها للحقوق والحريات أو إغفالها. ففي النظم الديمقراطية الحرة والأكثر ليبرالية وتسامحا مع حق النشر والمعرفة يختلف تحديد مفهوم السرية عنه في النظم الشموليـة التي تتوسع في اعتبار أشياء كثيرة جداً من أسرار الدولة، وهي في حقيقة الأمر ليست من الأسرار في شيء".
أما الدكـتور عصفور فقد كان اكثر صراحة وتحديدا في إجـاباته عن أسئلة الصحـفية المذكورة. فهو يعقب على رأي الدكتور سرور بقوله إنه لا يوجد في القانون ما يسمى بفكرة التوازنات، وان هناك نصـوصاً واضحـة لا يمكن مخـالفتها بأي حال. إن مصلحـة الشعب الأساسية تكون في حصوله على حق الحرية والمعرفة، وانه لا يوجد أي تطابق بين مصالح الشعب ومصلحة النظام. كما أن رأي الدكتور سرور الحالي عن فكرة التوازنات يختلف تماما عما ذكره في كتابه الشرعية الجنائية.
وعن سؤال عن الوقائع التي يمكن أن تعتبرها القوات المسلحة إفشاء لأسرارها العسكرية أجاب الدكتور عصفور"الأسرار العسكرية الحـقيقيـة هي خطة الحرب، والإجـراءات والتشكيلات والوسائل الدفاعية التي لم يتم تنفيذها بالفعل. ويعتبر إفشاؤها جريمة تستحق الإعدام. أما إذا كانت هذه الوقائع العسكرية قد تداولها البعض في معركة تمت وانتهت سواء كانت نتائجها الفشل أم النجاح، فمن المستحيل- بل من العبث- أن نقول عنها إنها أسرار. إذا كـانت كل الأسلحـة التي لدينا نحصل عليـها من مصـادر خـارجيـة، وكل من أمريكا وإسرائيل على علم بها. فكيف نخدع انفسنا ونضحك على بعضنا البعض ونقول إن هذه هي أسرار؟! هذا التلاعب بالألفاظ هو مجرد هراء".
وعن سؤال حول محاكمة الفريق الشـاذلي أجاب الدكتور عصفور إن محاكمة الفريق الشاذلي كانت خطأ كبيرا. لأن المحاكمة تمت على أساس غير قانوني، ولم تكتمل اركانها كما انه لا توجد أية وقائع في كتابه تثبت انه أفشى اسرارا عسكرية. ولا أتصور ابدا انه عندما ينتقد تصرفات بعض القادة- كوصفه لوزير الحربية احمد إسماعيل بأنه ضعيف الشخصية ومتردد- أن يكون هذا ضمن الأسرار العسكرية. وجريمة الشـاذلي انه لم يحصل على إذن مسبق لكتابة مذكراته. وفي رأيي أن الإذن المسبق على النشر يعد مخالفة دستورية، وان الفريق الشـاذلي استخـدم حقه في حـرية الفكر والرأي المكفول له قانونا. وهذا هو الطريق الذي يجب أن يلتزم به الجميع في كتابة مذكراتهم. وإذا رأت وزارة الدفاع أن ما كتب يضر بمصالحها وأمن وسلامة الدولة فلها أن تلجـأ إلى القضاء المستقل ليكون الحد الفاصل بين اسرار الدولة وأسرار الحكومة. ولابد أن نصحح مرة اخرى لمن لا يعرف إن إفشـاء السرية يجب أن يكون مقصورا على اعطاء معلومات للعدو عن معركة قادمة، ومن الممكن أن يستفيد العدو بهذه المعلومات ويضر بأمن وسلامة البلاد. أما المعارك التي تمت فمن العبث القول بأن العدو سوف يستفيد منها".
وعن رأيه في المحـاكم العسكرية أجاب الدكتور عصفور "المفروض أن يحـدد القاضي (يقصد القاضي الطبيـعي) ما السر، وما طبيعته. وهل يترتب على إفشائه الاضرار بمصلحة الدولة أم لا. ومن الطبيـعي أن يعود ذلك لتقدير القاضي. ولكن عندما تُعرض هذه القضايا أمام المجالس العسكرية فإن الميزان يختل. لماذا؟ لأن السلطة للقائد الذي يأمر بتـشكيل المجلس العسكري. ولا يوجـد بالمجـالس العسكرية قضاة بالمعنى الصحيح. إن القضـاء العسكري يلجأ عادة إلى الالتزام بأوامر السلطة التنفيذية وليس لتقدير القاضي".
وعن أسرار الدولة التي تتعلق بالسياسـة الخارجية أجاب الدكتور عصفور "في الدول الديمقراطية لايمكن أن يستغل بند السرية الطريقة نفسها التي نوظف بها هذا البند في مصر. إن ما يحدث في مصر هو قليل من كثير من المخالفات الصارخة التي يرتكـبها نظام الحكم تحت غطاء السرية كـوسيلة لحمـاية عوراته. وعلى سبيل المثال فإن السادات قد أخفى عن مجلس الشعب الملاحق الخـاصة باتفاقية كـمب ديفيد. وبالتالي فإن الرئيس السادات خدع الشعب ولم يصارحـه بالحقائق الكاملة في الاتفاقـية، حيث إن ملاحقها فيها قدر كـبير من الانتقاص من سيادة الدولة وحريتها. وهذا هو الفرق بين أسرار الدولة وأسـرار الحكومة. فماذا لو استطاع أحد الأشخاص الحصول على هذه الملاحق ونشرها. هل تعتبر هذه الوقائع إفشاء لأسرار الدولة؟ بكل تاكيد لا. بل إن من يخـفيها عن الشعب هو الذي يقع تحت طائلة القانون ويعاقب عليها بتهمة الخداع والغش.
بماذا تحكم أيها القارئ؟
في أوائل الستينيات كنت اشغل منصب الملحق الحربي بسفارة مصر في لندن. وكان التليفزيون البريطاني يعرض من وقت لآخر برنامج بماذا تحكم The Verdict Is Yours . كان التليفزيون البريطانـي ينقل خلال هذا البرنامج صورة حية من إحدى المحـاكم في قضية من القضايا التي تشغل الرأي العام البريطاني. وكان هذا البرنامج يجتذب اهتمام كل الناس حيث يشاهدون ويستمعون إلى مرافعات الادعاء والدفاع ومناقشة الشهود في أقوالهم إلخ. وقبل أن يصدر القاضي حكمه في نهاية الجلسة يكون كل فرد من المشاهدين قد توصل بينه وبين نفسه إلى قناعة بما يجب أن يكون عليه الحكم العـادل في هذه القضية. فيكون ذلك بمثابة رقابة شعبية على عدالة المحـاكمة. وقد كنت احرص كل الحرص إثناء وجودي في لندن على مشاهدة هذا البرنامج وكنت من المعجبين به. وحيث أن المحكمة العسكرية قد اصدرت حكمها غيابيا بتاريخ 16/7/83 على مؤلف هذا الكتاب بالأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات بتهمة افشاء اسرار عسكرية. فقد طالبت عند عودتي إلى الوطن بتاريخ 14/3/1992 بأن تعاد محاكمتي وان تكون المحاكمة علنية أدافع فيها عن نفسي تجاه هذه التهمة الظالمة. ولكن هذا الطلب رفض فتقدمت باستشكال في تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة العسكرية امام محكمة امن الدولة العليـا التي اصدرت حكمـها بتاريخ 13/8/92 بإيقاف تنفيذ الحكم الصادر من المحـكمة العسكرية العليا. وقد جاء في حيثيات الحكم ما يلي: "إن الحكم المستشكل في تنفيذه تجرد من أركانه الأساسية ومقومات وجوده كحكم، واصبح هو والعدم سواء بسواء. فإن الاستمرار في تنفيذه وبقاء المحكوم عليه مودعا بالسجن على ذمته يعد تعطيـلا لحقوقه الأساسية وما كفله له الدستور من ضمانات واعتداء صـارخا على حريتـه". وفي 17/8/ 92 (أي بعد أربعة أيام من صدور حكم محكمة امن الدولة العليا كان من بينها يوما الخميس والجمعة) انعقدت محكمة عسكرية عليـا بناء على طلب من النيابة العامة العسكرية، واصـدرت في نفس اليوم حكما جـديدا باستمرار تنفيذ العقوبة المحكوم بها من المحكمة العسكرية العليا بتاريخ 16/7/83 .
والآن عزيزي القارئ بعد أن قرأت كتابي عن حرب أكتوبر، وبعد أن قرأت هذا الفصل عن أسرار الدولة واسرار الحكومة. هل تعتقد أن الفريق الشاذلي أفشى أسراراً عسكرية؟ إن رأيك أهم عندي من حكم القضاة. فالقضـاة بشر منهم الصالح الذي لايخشي في كلمة الحق لومة لائم. ومنهم الطالح الذي يخضع لجـبروت السلطة الدنيوية فيشتري الحياة الدنيا بالآخرة. وقد قال عنهم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في حديث شـريف "قاض في الجنة وقاضـيان في النار". وحسبنا الله. ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون.
الفصل التاسع والثلاثون: تطوير الهجوم نحو المضايق
"لا يستطيع أي جيش في العالم أن يدعي أنه كان باستطاعته أن يفعل افضل مما فعله المصريون في تخطيط وإدارة واقتحام قناة السويس. أما القرار باستغلال النجاح فكان خطأ جسيما. ولنتذكر جيدا أن أحد العوامل الرئيسية في الخطة المصرية ، كان هو الاعتراف بالتفوق الكبير للسلاح الجوي الإسرائيلي والتفوق المساوي له تقريبا في حرب المدرعات المتحركة" .
كتاب هيكل عن حرب اكتوبر
في أواخر عام 1993، نشر الأستاذ محمد حسنين هيكل كتابه "أكتوبر 73.. السلاح والسياسة". الذي أثار ضجة كبيرة نظرا لما يتمتع به الأستاذ هيكل من شهرة كـبيرة. وقد علقت على هذا الكتـاب باستفاضـة، ونشر هذا التعليق في صحيفـة الأهالي الأسبوعية في ثلاث حلقات كانت كل منها تغطي صفحـة كاملة من الصحيفة، وكان ذلك في الأيام 19 من يناير، و 26 من يناير، و 2 من فبراير 94. كما قامت مجلة المجلة التي تصدر في لندن بنشر ملخص لهذا التعليق في عددها رقم 739 بتاريخ 10 ابريل 1994. وفي 21 من مارس 1995 نشرت صحيفة الشعب تعليقا لي أوضح فيه ما ورد في كتـاب هيكل عن تطوير هجومنا نحو المضايق يوم 14 اكتوبر 1973. وحيث أني كنت و أنا اكـتب هذه التعليقات أفترض أن القارىء لم يقرأ كتابي هذا عن حرب اكتوبر، فقد كنت مضطرا إلى أن اذكر في هذه التعليقات الكثير من الأحداث التي لاشك أن القارىء قد أصبح ملما بها بعد قراءته للفصول السابقة في كتابي هذا، وبالتالي فليس هناك من داع إلى تكرارها. وسوف اكـتفي بالإشارة إليها إذا دعت الضرورة إلى ذلك . وفي هذا الفصل سوف أناقش فقط ما أثير حـول تطوير هجوم قواتنا نحو المضايق. والأسئلة المطروحة للمناقشة هي:
* هل كان من ضمن نوايانا قبل بدء العمليات أن نصل بقواتنا إلى المضايق؟
* هل كان في استطاعة قواتنا أن تصل إلى المضايق بعد نجاحها في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف؟
يقول هيكل إن الخطة التي دخلنا بها الحرب كانت تتضمن الوصول بقواتنا إلى المضايق. وهو يعتمد في هذه المعلومـة على شهادة المشير عبد الغني الجمسي الذي كان يشغل خلال حرب اكتوبر منصب رئيس هيئة العمليات برتبة لواء. وكـان هذا المنصب يضع الجمسي في الترتيب الثالث في الهرم القيادي بعد الفريق أول أحمد إسماعيل القائد العام للقوات المسلحة والفريق سعد الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة. ومرة اخرى يقول هيكل في كتابه إن قواتنا كان في استطاعتها أن تتقدم إلى الممرات بعد نجاحها في العبور. وهو يستند في ذلك إلى ثلاثة مصـادر. المصدر الأول هو مجموعة من الخبراء في مركز دراسات الأهرام كانت ترى انه كان يجب علينا أن نبدا في تطوير هجومنا نحو المضـايق يوم 7 أو 8 أكتوبر.
المصدر الثاني هو ما سمعه من السفير السوفيتي يوم 9 من أكتوبر. والمصدر الثالث والأخير هو ما جاء في كـتاب الجمسي "يوميات حرب أكتوبر" الذي نشر عام 1992، والذي يقول فيه إنه كان من الممكن أن يتم تطوير الهجوم نحو المضايق بنجاح لو أنه تم يوم 9 أو 10 من أكتوبر. ومع احترامي لوجهة نظر الأستاذ هيكل، فإن هذا الرد لا يرقى إلى الحقيقـة التاريخية. فالحقائق التاريخية في الحروب لا تتأكد إلا من خلال ثلاثة مصادر المصدر الأول هو الوثائق الرسمية التي لاتثار الشكوك حول تزييفها، وإجماع الشهود أو الغالبية العظمى من الشهود الأقرب إلى المعلومة التي يدور البحث حولها، و إجماع الخبراء أو اتفاق الغالبية العظمى منهم على صحة المعلومة نتيجة التحليل السياسي والعسكري في الوقت والتاريخ الذي أثيرت فيه هذه المعلومـة. ويؤسفني جـدا أن أقول إن الأستاذ هيكل تجاهل تماما تلك المصادر الثلاثة عندما تحدث عن موضوع تطوير هجومنا نحو المضايق.
الوثائق الرسمية
على الرغم من أن الأستـاذ هيكل نشر في كتابه المذكور 142 وثيقة. إلا أنه لم تكن بين هذا الكم الهائل من الوثائق الوثيقة التي أصدرتها القيادة العامة إلى قادة الجيوش قبل بدء العمليـات ولو تم نشر هذه الوثيقة لعلم العامة والخاصة انه لم يكن من ضمن خطتنا أن تتقدم قواتنا نحو المضايق سواء يوم 9 من أكتوبر أم 10 من أكتوبر أم قبل ذلك أم بعده. أما لماذا لم تتضمن الخطـة عمليـة تطوير هجـومنا نحو المضـايق فإن ذلك يرجع إلى أسباب عسكرية كثيرة أهمها هو ضعف قواتنا الجوية وعدم توافر صواريخ مضادة للطائرات خفيفة الحركة تستطيع مرافقة قواتنا البرية المتقدمة وحمايتها ضد هجمات العدو الجوية (راجع الفصول 4,3,2 من هذا الكتاب).
لقد نجحت قواتنا البرية في اقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف بينما كانت كتائب صواريخ الدفاع الجوي من طراز سـام 2، سام 3 تحمي سماء قواتنا المهاجمـة من مواقعها الثابتة غرب القناة وكانت هذه الصواريخ توفر لقواتنا الحماية ضد هجمات العدو الجوية حتى مسـافة 10- 15 كيلومتراً شـرقي القناة. وحيث إن احتلال المضايق كـان يحتم علينا التقدم عبر سيناء حوالي 50 كيلومترا، فإن التقدم عبر هذه المسافة دون حماية جوية ودون توافر وسائل الدفاع الجوي الذاتي الحركة (تتحرك على جـنزير وترافق القوات البرية إثناء تحركـها) سوف يعرض قواتنا البرية للتدمير بواسطة القوات الجوية المعادية. حيث إن المعركة في هذه الحالة ستكون معركة غير متكافئة، بل معركة من جانب واحد: معركة بين قوات جوية تملك قدرات هائلة للتدمير وبين قوات برية لا تستطيع أن تدافع عن نفسها ضد هذه الهجمات.
ومع ذلك فيجب أن اعترف بان القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية قد قامت بإصدار وثيقة مزورة قبل الحرب، وكان ذلك بناء على أوامر القيادة السياسية. كان الهدف من هذه الوثيقة المزورة هو إقناع السوريين بدخول الحـرب إلى جانبنا في المعركة القادمة، وذلك باخطارهم بأن هدف القوات المسلحـة المصرية هو الوصول إلى المضـايق وليس التوقف على مسافة 10-15 كيلومتراً شرق القناة كما في الخطة الأصلية . ( ذكرت هذه المعلومة في الفصل الرابـع من هذا الكتاب. كما أشرت إليها في تعليقي على كتاب هيكل، وتم نشرها بصحـيفة الأهالي في 19 من يناير 1994)، وهذه الوثيقة المزورة لم تكن ابدا تمثل نوايانا الحقيقية، ويؤكد ذلك ما يلي:-
1- فيما عدا الجمسي، فأن أكـثر الناس معرفة بالخطة و أهدافنا- كـما سيرد ذكرهم فـيما بعد- ينكرون أن الوصول إلى المضايق كان هو هدف القوات المسلحة.
2- لم تشمل الخرائط التي عرضت على السوريين التوقيتـات التي يبدأ فيها التحرك نحو المضايق بعد نجـاح العبور، والتوقيتـات التي تصل فيها قواتنا إلى المضايق، بل أكتُفي بالقول بأنه بعد وقفة تعبوية تستأنف قواتنا تقدمها نحو المضايق. وكما سبق أن قلت فإن التعبير العسكري وقفة تعبوية يعني التوقف إلى أن تتغير الظروف التي أدت إلى هذا التوقف وقد تكون الوقفة التعبوية عدة أسابيع أو عدة شهور أو اكثر. ويختلف ذلك اختلافـا جذريا مع المشـاريع الاستراتيجية التي كنا نتدرب عليها خـلال السنوات 68-72. فقد كنا خلالها نحتل المضايق في اليوم السابع ونحرر سيناء في اليوم الثاني عشـر. وكان يظهر على تلك الخـرائط ما تحققه قواتنا كل يوم. وإن عدم اتباع هذا الأسلوب بالنسـبة للخطة التي تقضي باحتلال المضـايق يؤكد أننا لم نكـن جادين في تنفيذ هذه المرحلة.
3- تصدر عن كل خطة وثيقة رئيسية تبين الهدف والقوات الرئيسية التي تكلف بتنفيذ هذه الخطة والتوقيتـات التي يتم فيها تحـقيق هذه الأهداف. ثم تصـدر بعد ذلك عشرات الوثائق الفرعية توضح قرارات قادة الوحدات المرؤوسة وتنظيم التعاون بينها الخ.. وإن عدم إصدار تلك الوثائق الفرعية بالنسبة لمرحلة التقدم للمضايق يؤكد مرة اخرى اننا لم نكن جادين في تنفيذ هذه المرحلة.
فإذا نحن تركنا هذه الوثيقة المزورة رجعنا إلى الوثائق الحقيقية، فإننا نجد تناقضا كبيرا مع تلك الوثيقة المزورة. يقول التوجيه الذي أصدره الرئيس السادات إلى الفريق أول احمد إسماعيل ما يلي "الهدف الاستراتيجي للقوات المسلحة هو تحدي نظرية الأمن الإسرائيلي. وذلك عن طريق عمل عسكري حسب إمكانات القوات المسلحة، يكون هدفه الحاق اكبر قدر من الخسائر بالعدو واقناعه بأن مواصلة احتلاله أراضينا يفرض عليه ثمنا لا يستطيع دفعه. وبالتالي فإن نظريته في الأمن- على أساس التخويف النفسي والسياسي والعسكري- ليست درعا من الفولاذ يحميه لا في المدى القريب ولا في المدى البعيد (كتاب البحث عن الذات ص 441).
إن جوهر الخطة الأصلية التي تم وضعها والتصديق عليها في شهر أغسطس 1971 -أي قبل أن يعين الجمسي رئيسا لهيئة العمليات، وقبل أن يعين احمد اسماعيل قائدا عاما للقوات المسلحة- كان هو أن نفرض على اسرائيل الحرب بأسلوب يختلف اختلافا جذريا عما تعودت عليه في جميع حروبها السابقة. اذ أنها كانت تتفادى الهجوم بالمواجـهة وتلجا إلى عمليات الالتفاف ومهاجمة قواتنا من الخلف فإذا نحن توقفنا شرق القناة بحوالي 10-15 كيلومترا واستند خطنا الدفاعي على البحر الأبيض شمالا وخليج السويس جنوبا فإنه سيصبح من المستحيل تطويق هذا الخط وبالتالي فإننا سنضع اسرائيل امام خيارين كلاهما مر بالنسبة لإسرائيل وكلاهما حلو بالنسبة لنا. الخيار الأول هو أن تهاجم مواقعنا الدفاعية بالمواجهة وسوف يتيح لنا ذلك الفرصة لأن نكبد إسرائيل خسـائر فادحة في الأفراد، وهذا هو المقتل الأول لإسرائيل، أما الخيار الآخر فهو عزوف إسرائيل عن الهجوم فتطول فترة الحرب لعدة اشهر دون أن يكون في استطاعتها إنهاء التعبئة العامة، وبذلك تستنزف قوتها الاقتصادية. وهذا هو المقتل الثاني لإسرائيل (راجع الفصل الثاني من هذا الكتاب).
مما تقدم يتضح أن الوثيقة الخاصة بالتوجيه الذي أصدره السادات إلى القائد العام. والوثيقة الخاصة بالخطة الأصلية. وأن اصدار عشرات الوثائق الفرعية عن مرحلة العبور وعدم اصدار وثائق فرعية تتعلق بالتقدم إلى المضايق. كل ذلك يؤكد أن التوقف عند مسافة 10-15 كيلومترا شرق القناة كان هو هدفنا النهائي في أكتوبر 73. بل أن السادات ذكر في كتابه "البحث عن الذات" في صفحة 329 ما يلي "في حياة عبد الناصر كنت أقول له على سبيل المبالغة اننا لو أخذنا حتى عشرة سنتيمترات في سيناء ووقفنا فيها ولم ننسحب، فسوف يتغير الموقف شرقا وغربا وكل شيء. وبناء على هذا وضعت توجيهي الاستراتيجي وقلت للقوات المسلحة في فبراير 73، إن الذي يكسب الأربعة والعشرين ساعة الأولى سوف يكسب الحرب".
يقول الفريق اول محمد فوزي في كتابه "حرب الثلاث سنوات" 1983 إنه جهز خطة هجومية هدفها تحرير سيناء على أن يبدا تنفيذها فور انتهاء فترة ايقاف النيران في 17/ 10/ 1970. وكان من المفترض أن يصدق عليها الرئيس عبد الناصر في الأسبوع الأول من سبتمبر. ولكن احداثا اخرى شغلت عبد الناصر عن التصديق على الخطة ثم وافته المنية قبل أن يصدق على الخطة (ص 210). ويقول في نفس المرجع انه أدار مشروعا تدريبيـا لاختيار خطة تحرير سيناء، كان هذا المشروع بدأ يوم 14/3/71 وانتهى يوم 25/3/71 وتأكد من خلاله امكان تحرير سيناء خلال مدة 12 يوما (ص 366).
وبناء على طلب اللواء حسن البدري -رئيس لجنة كتابة تاريخ حرب أكتوبر- تحدد يوم 12 ابريل 1994 لإجراء لقاء بيني وبين الفريق اول محمد فوزي لبحث الخلاف بين ما سبق أن قلته في كتابي بأنه عندما عينت رئيسا للأركان فإنه لم تكن هناك خطة هجومية (راجع الفصل الثاني). وبين ما يقوله الفريق اول فوزي بأنه كانت هناك خطة هجومية. وقد حضر هذا اللقاء كل من اللواء حسن البدري واللواء عبد المنعم خليل. وفي هذا اللقاء سألت الفريق اول فوزي عن الشخص الذي كانت بعهدته وثائق هذه الخطة حتى يمكن سؤاله عن مصير هذه الوثاثق، فاجـاب بأنه كان يخشى تسليم الوثائق لأي أحد حتى لاتفقد سريتها. وهذه الإجابة تؤكد ما قلته بأنه لم تكن هناك أي خطة هجومية عندمـا توليت رئاسـة الأركان. وإن ما ذكره فوزي ليس إلا افكـارا كانت مازالت حبيسة في صدره وفي بعض الأوراق الخاصة به.
تطوير الهجوم نحو المضايق، صفحه رقم 272
ويقول الجمسـي في مذكراته "في مصر ظهرت بعض المذكرات والكتب تقول بأنه كانت هناك الخطة 200 التي وضعت عام 1970 لتحرير سيناء في 12 يوما إلا أن الظروف في ذلك الوقت لم تسمح لتنفيذها. ولقد ظهر اسم هذه الخطة والغرض منها في مذكرات أحد القادة العسكريين المصريين السابقين (يقصد الفريق أول فوزي). ومن هنا نقلت إلى مذكرات وكتب اخرى. وسوف يسـجل التاريخ أن الخطة 200 كـانت خطة دفاعية عن منطقة قناة السويس وضعت بعد حرب 1967، واشتركت في وضعها عندما كنت أعمل رئيسا لأركان جبهة قناة السويس في ذلك الوقت. ووثائقها موجودة في وزارة الدفاع " (مذكرات الجمســــي ص 302). وهكذا يؤكد الجمسي مـا قلته بأنه لم تكن هناك أي خطة هجوميـة عندما توليت رئاسـة الأركان في مايو 1971.
ويؤكد أمين هويدي -وزير الدفاع الأسبق ورئيس جهاز المخابرات العامة الأسبق، والذي كان من المقربين لجمال عبد الناصر- تشككه في أقوال الفريق أول فوزي، فيقول في اجتماع تم مساء يوم 30/9/70 في مكتب وزير الحربية الفريق أول فوزي وحضره كل من السادة محمود رياض وزير الخارجية، و شعراوي جمعة وزير الداخلية، وحافظ اسماعيل رئيس اركـان المخابرات العامة، وسامي شرف وزير الدولة لشـئون رئاسـة الجمهورية، ومحـمد حسنين هيكل وزير الإرشـاد، و أمين هويدي وزير الدولة، للوصول إلى قرار بشان تجديد قرار وقف إطلاق النار الذي كان ينتهي في 17/ 10/ 1970. وقد سئل الفريق فوزي هل يناسبك من الناحيـة العسكرية أن تبدأ القتال على الفور، ام انك تفضل أن يتاح لك المزيد من الوقت والاستعداد؟ فرد على الفور: إذا منحت فرصـة شهرين آخرين فإني أظن أن موقفي سيكون احسن. إذ ستكون بطاريات الصواريخ في مصر العليا قد استقرت في موضـعها وسأشعـر بمزيد من الأمن. وعلى أي حـال أنا جندي. وإذا صدر لي أمر مكتوب فإني سأنفذ ما تطلبه القيادة السياسية" . ويستطرد أمين هويدي فيقول وعلى اثر ذلك تقرر مد إيقاف إطلاق النار. ولم يعرض في هذا الاجتماع موضوع خطة 200 أو جـرانيت أو عبور قناة السويس. كل ما كان معروضا هو استئناف حرب الاستنزاف مرة اخرى. ولم تكن قواتنـا المسلحة مسـتعدة لذلك في هذا الوقت، لأن الصعيد باكمله كـان مكشوفا ضد الغارات المعادية (أمين هويدي: الفرص الضائعة ص 328، و 329).
شهادة الشهود
يتفق كل البـاحثين على أن الوثيقة هي المصدر الرئيسي للحقيقة. ولكن حيث إن تزوير بعض الوثائق هو احتمال وارد لايمكن استبعاده فإن إجماع الشهود أو الغالبية العظمى منهم على صـحة الوثيقـة وصحة مـا ورد فيها من معلومـات لابد أن يضيف بعدا جديدا للحقيقة. وعندما نتكلم عن الشهود فإننا نعني بذلك الأشخاص الذين تسمح لهم مناصبهم بأن يلموا بالمعلومة التي يدور البحث حول صحـتها من عدمها.وإذا نحن طبـقنا ذلك علىالمعلومة الخاصة بتطوير هجومنا نحو المضايق. فإننا نجد أن اكثر الناس الماما بهذه المعلومة
هم الآتون بعد حسب رتبهم ومناصبهم في أكتوبر عام 73:
الرئيس انـور السـادات.. رئيـس الجمهـوريـة
فريق أول احمد إسماعيل علي.. القائد العام للقـوات المسلحة
فـريق سعد الشـاذلي.. رئيس أركان حرب القوات المسلحة
لواء عبد الغنى الجمسـي ..رئيـس هيئة العمليات
لواء محمد علي فهمي.. قائد قـوات الدفـاع الجوي
لواء محمد حسني مـبارك.. قـائد القـوات الجـوية
لواء فـؤاد زكـري.. قـائد القـوات البحـرية
لواء سـعد مـأمـون.، قـائد الجـيش الثـاني
لواء عبد المنعـم واصـل.. قـائـد الجيش الثـالـث
وفيما عدا اللواء عبد الغني الجمسي، فلم يذكر أحد من الثمانية الآخرين أن التقدم إلى المضايق كان ضمن نوايانا في حرب أكتوبر. وبالإضافة إلى الأسماء المذكورة فقد كان هناك شخصان اَخران قريبان من تلك المجموعة أدليا برأيهما في هذا الموضوع. أولهما هو السيد حافظ اسماعيل مستشار رئيس الجمهورية لشئون الأمن القومي واَخرهما هو المشير أبو غزالة.
يقول السيد/ حافظ اسماعيل في كتابه "أمن مصر القومي في عصر التحديات" تحت عنوان "10- 13 أكتوبر، وقفة تعبوية"، ما يلي "كانت قواتنا خلال المرحلة التي انتهت قد اتمت تحقيق الهدف المباشر. وكنت من خلال احاديثى مع الفريق أول احمد إسماعيل قبل نشوب الحرب أدرك انه لا ينوي التقدم حتى الممرات الجبلية وان ما جاء في تعليمات عمليات القيادة العامة بان الهدف هو احتلال المضايق. انما قُصد به حث القيادات الصغرى خلال مرحلة بناء رؤوس الكباري على استمرار التقدم حتى الهدف المباشر" (محـمد حافظ اسماعيل/ أمن مصر القومي في عصر التحديات/ الطبعة الأولى ص 323).
ويقول حافظ إسماعيل انه في الساعة الأولى من صباح يوم 21 من أكتوبر استدعاه الرئيس السـادات، حيث ابلغه انه قرر طلب وقف إطلاق النار غير المشروط بالانسـحاب الإسرائيلي (المؤلف: لاحظ أيها القاري أن هذا التوقيت يعني أنه فعل ذلك بعد أن حـضر مؤتمر القيادة في المركـز 10 والذي امتد حتى منتصف الليل كما جاء في الفصل الرابع والثـلاثين تحت عنوان "استدعاء رئيس الجمهورية إلى المركز 10"). ويستطرد حـافظ إسماعيل فيقول: إن الموقف العسكري كـان يحتم ضرورة تخفيف القوات في الشرق حتى يمكن توفير القوات اللازمة- وخاصة المدرعة- للعمل ضد الثغرة في الغرب. إلا أن الرئيس رفض أي اقتراح بسحب قوات من الشرق إلى الغرب (المرجع السابق ص 345).
ويستطرد حـافظ إسماعيل في سرده للأحداث فيقول: إن تقييم السادات للموقف كما شرحـه لمساعدي الرئيس ونواب رئيس الوزراء ومستشـار الأمن القومي بعد قرار مجلسى الأمن بوقف إطلاق النار اننا خسرنا يوم 14 أكـتوبر220 دبابة. وكـانت هذه المعركـة هي المقدمة للاختراق الإسرائيلي في منطقة الدفرسوار. وأوضح أننا دخلنا الحـرب لإقناع إسرائيل بأن الحـرب لا تحل المشكلات وإننا كسبنا الاحـترام بدلا من احتقار العالم لنا. ثم أضاف بأننا لا نستطيع تحرير سيناء عسكريا"0(المرجع السابق ص 348).
وعن انفراد السادات بالقرارات السياسية والعسكرية يقول حافظ إسماعيل في الصفحة 360 من المرجع السابق "لقد اختار السادات أن يواجه الموقف وحـده. إذ انه اتخذ وحده من قبل قرارات مصيرية متـعددة. وربما لم يجد ضـرورة الآن وحدة الأزمة تتصاعد أن يدعو رفاقه ومعاونيه. واختار أن يجتاز الأزمة وحده.
لقد اختـار أن يكون صاحب النصر عندما ننتصر. وهو الآن يرفض إلا أن يكون المسئول عن تحول المعركة (المؤلف: هذا ليس بصحيح.. فإنه أراد أن يلقي بمسئوليـة أخطائه على الفريق سعد الشاذلي كما جاء في كتابه البحث عن الذات).
كان وزير الدفاع الأسـبق المشير أبو غزالة ضابطا برتبـة عميد إبان حرب أكـتوبر وكان يشغل منصب قائد مدفعية الجيش الثاني، وإذا كان هذا المنصب لم يكن يؤهله لكي يعرف كل أسرار الحـرب.. إلا انه من المؤكد أنه كـان يؤهله لمعـرفة بعض الأسـرار التي على مستوى الجيش. فلو افترضنا أن القيادة العامة للقوات المسلحة كان في نيتها تطوير هجوم قواتنا يوم 9 من اكتوبر كما ذكر الجمسي فإنه كـان يتحتم عليها إخطار قادة الجيوش المنوط بهم تنفيذ هذه النوايا. واذا افترضنا أن اللواء سعد مامون قـائد الجيش الثاني كـان يعلم بهذه النوايا فمن المؤكد انه كان سيطلع قائد مدفعيته العميد أبو غزالة بذلك. وفي حديث له مع مجلة روز اليوسف نشر بتاريخ 26/3/ 94- ورغم استخدامه لغة دبلوماسية رفيعة- قام أبو غزالة بنقد شهادة الجمسي على أنها غير مقبولة وغير منطقية.
يقول أبو غزالة "ولايعقل أن تكون أفكار القيادة العامة غير معلومة لقادة الجيوش حتى تكون الجيوش مستعدة لتنفيذ هذه الأفكار. ولقد ذكر لي كثير من القادة انهم لم يعلموا بأن هناك نية للتطوير إلا يوم 12 أكتوبر. وكان بهدف تخفيف الضغط عن سوريا أساسا. وأنا لا أقول هذا إن ما قاله الجمسي ليس صحيحا فهو رأي ولاشك سليم. ولكن كان يجب أن يكون معلوما للقادة والقوات حتى تكون على استعداد تام لتنفيذ المهمة بكفاءة".
وبشهادة كل من حافظ إسماعيل، وأبو غزالة تصبح شهادة الجمسي هي النشاز الوحيد بين كل ما أدلى به القادة حـول موضوع تطوير الهجوم نحو المضايق. ترى مـا الذي دفع الجمسي إلى هذه الشهادة التي لم يؤيده فيها شخص مسئول واحد؟! ثم ما هي الأسباب التي دفعت هيكل إلى أن يتغاضى عن شهادة عشرات المسئولين ويتبنى من دونهم جميعا شهادة الجمسي؟! ترى هل كان لرسالة السادات إلى كيسنجر يوم 7 من أكتوبر تأثير كبير على أفكار وآراء هيكل اكثر مما يجب؟! وانه وجـد في رأي الجمسي ما يستند إليـه لتأكيد أفكاره وشكوكه في السادات؟!.
رأي الخبراء
استعرض أمين هويدي ما جاء في تصريحـات السادات وفي كتابه البحث عن الذات وما جاء في كـتاب الشاذلي وما جاء في كتاب الجمسي وما جاء من تصريحـات الفريق أول أحمد إسماعيل للصحافة قبل وفاته، وأضاف إلى ذلك توزيع القوات أثناء عملية عبور قناة السويس وانتهى في نهاية ذلك إلى القول بان كل ذلك يثبت صدق ما ذهب إليه الشاذلي من أن الخطة لم تهدف على الإطلاق احـتلال خط المضايق (أمين هويدي/ الفرص الضائعة ص 330- 339). ثم يستطرد بعد ذلك فيقول "وعلينا أن نلاحظ على السـادات انه كان يتبع الازدواجية في قراراته.. أي أن معظم قراراته كانت تآمرية بحيث يوافق على القرار ويصدره ولكنه ينفذ قرارا آخر حـتى ولو تم ذلك من وراء مسـاعديه. وانه عندما اجتمـع مع حافظ الأسد في برج العرب في إبريل 73 وأيقن أن الأسد لن يقاتل إلى جانبه مـا لم يكن الهدف المشترك هو تحرير سيناء والجولان بالضغط المتزامن على إسرائيل، فإن السادات باعه خطة جرانيت 2 (الوصول بقواتنا إلى المضايق)، بينما كان ينوي تنفيذ خطة المآذن العالية. ثم يصل هويدي في استنتاجه إلى أن السادات كان يلعب على الأسد وان الأسد كان يلعب على السادات (عندما اتصل بالاتحاد السوفيتي بعد بداية القتال لاتخاذ قرار بإيقاف النيران دون علم السادات).. أي أن الرئيسان كانا يلعبان على بعضهما البعض وليس مع بعضهما البعض (نفس المرجع السابق ص 349 و350).
انعقدت في القاهرة في الفترة ما بين 27 و 31 من اكتوبر 1975، ندوة دولية عن حرب أكتوبر شارك فيها 185 خبيرا اجنبيا ينتمون إلى 50 دولة. وقد قدم هؤلاء الخبراء 11 بحثا قيما تناولوا فيها جميع جوانب حـرب أكتوبر. وقد أشارت جميع هذه البحوث بعملية العبور الرائعة التي قامت بها قواتنا المسلحة. ولكنهم في نفس الوقت وجـهوا نقدا لاذعا للقيـادة العامة للقوات المسلحـة إزاء تصرفاتها تجاه موضوعين رئيسيين: الأول هو تطوير هجومنا نحـو المضايق. والأخير هو اسلوب التعامل مح الثغرة، وقد جاء في تعليق الخبير الأمريكي الكولونيل تريفور دي بوي ما يلي:
"لا يستطيع أي جيش في العالم أن يدعي أنه كـأن باستطاعتـه أن يفعل أفضل مما فعله المصريون في تخطيط وإدارة اقتحام قناة السويس. أما القرار باستغلال النجاح والتقدم نحو المضايق فقد كان خطأ جـسيماً. ولنتذكر جيدا أن أحد العوامل الرئيسية في الخطة المصرية، كان هو الاعتراف بالتفوق الكبير للسـلاح الجوي الإسرائيلي، والتفوق المساوي له تقريبا في حرب المدرعات الخفيفة. لقد واجه قائدان مهمان في التاريخ نفس المشكلة التي واجهت المشير احمد إسماعيل أحدهما هو الجنرال الأمريكي اندرو جـاكسون في موقعه نيو اورليانز عام 1815، فقد حقق نصرا دفاعيا ضد افضل قوات الجيش البريطاني. وبعد ذلك رفض بحكمة التحـول للمطاردة بعد أن اتضح له انها ربما تطيح بالنصر الذي أحـرزه. نفس الشيء أيضا فعله الجنرال مونتجومري في معركـة علم حلفا عام 1942. إذ رفض بحـذر إعطاء روميل فرصة للهجوم المضاد وتحويل هزيمته إلى انتصار. وعلى ذلك أقول إن أي هجوم مصري في 9 و10 من أكتوبر، أو بعد هذا التاريخ كان سيلقي نفس المصير الذي انتهى إليه الهجوم المصري يوم 14 أكتوبر، حتى وان لم يكن سيحسم بنفس الطريقة".
قد يقول قائل ولماذا نفترض صـحة رأي الخبراء الأجانب. وله الحق في ذلك إذا كان رأي الخبير الأجنبي يتعارض مع العلم العـسكري ومع المنطق ومع إجماع آراء الخبراء الوطنيين؟ أما إذا كـان رأي الخبراء الأجانب مؤيدا لوجهة نظر الغالبية العظمى من الخبراء الوطنين، ومع العلم العسكري، فإن رأيهم في هذه الحـالة يعتبر دعما إضـافيا لصحـة رأي القادة والخبراء الوطنيين.
يقول هيكل إنه شكل في الأهرام مـا أطلق عليه "المركز رقم 11"، وإن هذا المركز كـان يضم اللواء طلعت حسن علي ومصطفي الجمل وحسن البدري. وأن هذا المركز كـان مكلفا بمتابعة مجرى العمليات عن بعد متـحررين من ضغوط المعركة وأن يبعثوا بما يعن لهم إلى القيادة العامة للقوات المسلحـة (هيكل أكتوبر 73 ص 437) إن مؤسسة الأهرام حرة في أن تنشئ مركزاً للدراسات الاستراتيجـية وان تطلق عليه ما تشـاء من الأسماء ولكن مع احترامي لهؤلاء الأشـخاص الذين جاء ذكرهم، ومع اعترافي بأنهم من خيرة الضابط إلا أنه لايمكن اعتـبار هذا المركز التابع للأهرام بديلا عن المركز 10 التابع للقيـادة العامـة للقوات المسلحة أو موازيا له. وماذا لو قامت مؤسسة اخـبار اليوم بإنشاء مركز مثيل. ثم ماذا لو تصورنا في ظل التعددية الحزبية الحالية أن صحيفة الشعب التـابعة لحزب العمل المعارض قامت هي الأخرى بإنشاء مركز مثيل!! إن هذه المراكز مهما تعددت ومهما ضمت من ضباط ممتازين فإنها ستكون دائما في حاجة ماسة إلى المعلومات التي تتغير يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة والتي لايمكن متابعتها الا من خلال مركز القيادة الرئيسي التابع للقوات المسلحة والذي كان يطلق عليه المركز 10.
وإني أذكر أن اللواء مصطفي الجمل قد زارنا في المركز 10 واقترح أن نقوم بتطوير هجومنا نحو المضـايق. ولكنه لقي معارضة ورفضا من كل من الفريق اول أحمد إسماعيل ومن الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس الأركان. وقد أوضحت له بنفسي الأسباب التي تدعو إلى ذلك. وإن رفض الأخذ بتوصية اللواء مصطفي الجمل لاتعني- حاشا لله- الاستخفاف بها.. ولكنها كـانت تعني ببساطة شديدة انه هو وزملاؤه في مركز دراسات الأهرام لم يكونوا على دراية كاملة بموقف قواتنا وقوات العدو في اللحظة التي تقدم فيها باقتراحه.
يتبنى هيكل في كتابه الرأي القائل بأن قواتنا المسلحـة كانت لديها القدرة على التقدم إلى المضايق يوم 9 من اكـتوبر ولكنها لم تفعل ذلك. ويستشهد هيكل على صحة مـا يقول بما سمعه من السفير السوفيتي فينوجراسرف والجنرال السوفيتي ساماخودسكي في الساعات الأولى من يوم 9 من اكتوبر (هيكل/ أكتوبر 73 ص 392 و 393). ويبدو أن هيكل قد وقع في خطا التصور بان صور الأقمار الصناعية السـوفيتية كانت تصب اولا بأول في السفارة السوفيتية، وأن خريطة الموقف التي شاهدها عند الجنرال ساماخودسكي كانت تبين توزيع قواتنا وقوات العدو حتى آخر لحظة.. حيث أن ذلك هو ابعد ما يكون عن الحقيقة. فقد كانت صور الأقمار السوفيتية تصل إلينا من موسكو برفقة ضابط سوفيـتي حيث تسلم مباشرة إلى المركز 10، أما الجنرال ساماخردسكي فقد كـان يزورنا في المركز 10 مرة في كل يوم لكي يحصل منا على المعلومات التي طرأت على الجـبهة خلال الأربـع والعشـرين ساعة السابقة.
وبالتالي فإن توصية السفير السوفيتي بتطوير هجومنا نحو المضايق يوم 9 من أكتوبر تتساوى مع توصية مركز الدراسات الاستراتيجية في كونها تفتقر إلى المعلومات الصحيحة. وقد حصـل هيكل على هذه الإجابة من الفريق سعد الدين الشاذلي عندما اتصل به الساعة الثالثة صباح يوم 9 من أكتوبر، كما حصل على نفس الإجابة من الفريق اول أحمد إسماعيل عندما اتصل به بعد ذلك بثلاث ساعات (المرجع السابق ص 394)
تخفيف الضغط عن سوريا
حيث إن السادات لم يعلن قط أن الهدف الذي حدده للقوات المسلحة قبل الحرب كان هو الوصول إلى المضايق، وحـيث أنه هو نفسه الذي أمر يوم 12 من أكتوبر بالتطوير نحـو المضايق. وحيث إن هجومنا نحو المضايق يوم 14 من اكتوبر- تنفيذا لقرار السادات وعلى الرغم من المعارضـة الشديدة من القادة العسكريين- قـد فشل فشلا ذريعا. فإن السادات لجأ إلى تبرير هذا القرار الخـاطىء بان الغرض منه كـان هو تخفيف الضـغط عن الجبهة السـورية. وهذا الادعاء هو اكذوبة كبرى من أكاذيب السـادات الكثيرة وقد سبق لي أن أوضحت تلك بالتفصيل في الفصل الثالث والثلاثين وهناك ثلاث حقائق تؤكد عدم مصداقية هذا التبرير وهي:
الحقيقة الأولى هي ما ذكره السادات لهيكل مسـاء 11 من أكتوبر إذ قال "أنا مرتاح للموقف في سوريا. السوريين تمكنوا من تثبيت الجبهة. والإمدادات تتدفق عليهم من الاتحاد السوفيتي، وقد وصلتهم اليوم حمولة 40 طائرة (يقصد طائرات انتنوف 22 حمولة كل منها 80 طنا). احمد إسماعيل أول ما دخل كان عاوز يقول لي إن السـوريين استطاعوا تثبيت الهجوم المضاد الإسرائيلي، فقلت له يا أحمد أنا عارف قبل ما تقول لي وأنا مطمئن " (هيكل/ أكتوبر 73 ص 427). فإذا كان هذا هو رأي السادات مساء 11، فما الذي دفعه إلى إصدار الأمر صباح يوم 12 بالتطوير بحجة تخفيف الضغط عن الجبهة السورية ما الذي حدث خلال العشر ساعات السابقة لاتخاذه هذا القرار؟
الحقيقة الثانية هي لغة الأرقام. ففي يوم 12 من أكتوبر كان تحت تصرف قيادة الجبهة السورية 13 لواء مدرع عربي (8 سوري، 3 عراقي، 1 أردني، 1مغربي) في مقابل 6 الوية مدرعة إسرائيلي. نعم كـانت الألوية المدرعة العربية قد تحملت بعض الخسائر، ولكن إذا أضفنا إلى عدد الدبابات الأسلحـة المضـادة للدبابات، فإن قدرة سوريا على صد الهجـوم المضاد الإسرائيلية كانت مؤكدة، بل إن الموقف النسبي بين سوريا واسرائيل على الجبهة السورية كـان افضل بكثير من الموقف النسبي بين مصر واسرائيل على الجبهة المصرية، حيث كانت إسرائيل تحشد 8 الوية مدرعة في مواجهة 10 الوية مدرعة مصرية (اللواء المدرع الإسرائيلي 120 دبابة اما اللواء المدرع العربي فهو 90 دبابة).
أما الحقيقة الثالثة والأخيرة فإنه طبقا لأصول العلم العسكري، وما تتمتع به إسرائيل من موقع مركزي بين الجبهتين المصرية والسورية مما يمكنها من العمل على خطوط داخلية، واضطرار الجبهتين المصرية والسورية إلى العمل في خطوط خـارجية، وابتعاد الجبهتين عن بعضهما حوالي 250 كيلومترا، والتفوق الجـوي الإسرائيلي الساحق. فإن كل من الجـبهة المصرية أو الجبهة الشرقية لا تستطيع أن تخفف الضغط عن الأخرى، وقد أوضحت ذلك في تقرير قدمته بصفتي الأمين العام المسـاعد العسكـري للجامعة العربية إلى مجلس الدفاع العربي المشترك في دورته الثانية عشرة عام 71.
فإذا علمنا انه لم يحدث على الجبهة السورية أي تغيير خلال العشر ساعات التي سبقت اتخاذ السادات القرار الخاص بتطوير هجوم قواتنا نحو المضايق. وإذا افترضنا- كما تؤكد الأحداث وطبقا لما جاء في حـديث السـادات مسـاء يوم 11- أن الجـبهة السورية كـانت متماسكة وابعد ما تكون عن الانهيار. واذا افترضنا أن القائد العام أحـمد إسماعيل لابد انه اخطر السادات بالمخاطر التي سوف تجابه قواتنا إثناء تحـركها، ويبدو ذلك جليا من الحديث الذي أدلى به احمد إسماعيل إلى هيكل بعـد الحرب يوم 14 نوفمبر 1973. إذا افترضنا كل ذلك فإنه يتـحتم علينا أن نجـيب عن السؤال المهم الذي يفرض نفسـه وهو: "لماذا إذن اتخذ السادات هذا القرار؟". لقد ذهب خصوم السادات إلى حد اتهامه بالخيـانة وانه كان عميلا للمخابرات الأمريكية.وأنه كان يتقاضى راتبا شهريا من CIA عندما كان نائبا لرئيس الجمهورية. وهم يستندون في ذلك على ما نشر في الصحف الأجنبية عام 1978، ثم ما أكده الصـحفي الأمريكي بوب ودورد Bob Woodward في كتابه الذي نشر في أغسطس 1987 (The Secret Wars of the CIA, Page 352) ، والذي يعطي لهذا الكتاب الأخير اهمية خاصة هو انه صدر بناء على أحاديث أجراها بوب ودورد مع المستر Caesy مدير وكالة المخابرات الأمريكية.
أما من ناحيتي فأني اعتقد أن ذلك كان يرجع إلى شوفينية كاذبة تولدت وتعظمت لدى السادات بعد نجاح قواتنا في عبور قناة السويس كرد فعل لما عاناه في طفولته البـائسة. ويبدو ذلك جليا لمن يقارن بين ما جاء في كـتابه البحث عن الذات. وبين حديثـه مع هيكل مساء 11 أكتوبر 73. فهو يصف طفولته في كتاب البحث عن الذات "كنت أسير خلف جدتي صبيـا اسمر ضئيل الجسم حافي القدمين يرتدي جلبابا تحته قميص من البفتـة لا تفارق عيناه زلعة العسل. ذلك الكنز الذي استطعنا الحصول عليه أخيرا (ص 11) وهو يشرح في الصفحـات التالية كيف كان يخرج في الفجر ليشتغل بالطنبور في ري الأرض، وكيف كان ياخذ البهائم إلى الترعة لتشرب. وانه عندما ذهب إلى المدرسة الثانوية عرف معنى الطبقة والفوارق وأنه كان يعيش تحت خط الفقر". أما في حديثه مع هيكل مساء يوم 11 أكتوبر فإنه يقول "بعثت اليوم للبكر (يقصد الرئيس العراقي حسن البكر) أطلب منه السماح باستخدام طيارة الردع تي يو من بغداد ضد اسرائيل بعث البكر يقول لي حاضر. حكمتك يارب. كل الناس في العالم العربي بياخدوا مني دلوقتي أوامر. أقول أي شيء يقولوا حاضر يا أفندم". ولنا أن نتصور ما يمكن أن يحـدثه هذا التطور الهائل في حـيـاة وتفكير هذا الشخص. لابد أن شيـاطين الجن والإنس -قد يكشف لنا المستقبل عمن هم شياطين الإنس الذين تكالبوا عليه مساء يوم 11 أكتوبر- قد قالوا له "إن نجاح القوات المسلحة المصرية في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف قد جعل منك بطلا مصرياً. فلماذا لا تستغل هذا الموقف لكي تصبح بطلا عربيا كصلاح الدين وغيره من القادة الأبطال؟.
وإذا علمنا أن السـادات لم يخدم بالقوات المسلحـة سوى ثلاث سنوات في الأربعينيات. وانه ليس بقاريء وليس له أي ثقافة عسكرية. وانه لم يتول أي قيادة ميدانية فإننا لا نتجنى عليه إذا وصـفناه بالجهل. وإذا اجتمعت الشوفينية والجهل في شـخص ما فهي لابد تؤدي إلى الكوارث. ولاشك أن علماء النفس هم اقدر مني على تحليل شـخصـية السـادات والتوصل إلى الأسباب الحقيقية التي دفعته لاتخاذ قرار التطوير الخاطئ وذلك إذا افترضنا استبعاد اتهامه بالخيانة.
الصواريخ المضادة للطائرات
المشير محمد علي فهمي كان إبان حرب أكتوبر برتبة لواء وكـان قائدا لقوات الدفاع الجوي. وقد أبلت قوات الدفاع الجوي بلاء حسنا خلال حربي الاستنزاف وأكتوبر 1973. ونظرا لضعف قواتنا الجوية التي من المفترض أنها تتحمل نصيبا من مسئولية الدفاع الجوي، فقد كانت نتيجـة ذلك زيادة الحمل الملقى على عاتق قوات الدفاع الجوي، والذين عاشوا في مصر عام 1970 يعرفون ملحـمة بناء قوات الدفاع الجوي، فبنهاية عام 1969 كان الدفاع الجوي قد انهار تماما واصبحت الطائرات الإسرائيلية تقوم بغارات شبه يومية لا على الأهداف العسكرية فحسـب بل على الأهداف المدنيـة في العمق أيضـا (راجع الفصل العاشر).
وسافر جمال عبد الناصـر إلى موسكو في يناير 70 وطلب من الاتحـاد السوفيتي أن يشاركوا بقواتهم في الدفاع الجوي عن مصر. واستجاب الروس لطلب عبد الناصر وبدأت الامدادات الروسية تصل إلى مصر خـلال فبراير ومارس، وبحلول شهر ابريل كـانت الوحدات السوفيتيـة قد اصبحت جاهزة للقيام بمهامها القتـالية. وقد بلغ عدد أفراد الوحدات السوفيتية في مصر حينئذ 6000 فرد، وكانت تشمل ما يلي :-
- 80 طائرة ميج 21 بأطقمها
- 37 كتيبة صواريخ سام 2، سام 3 بأطقمها
- فوج صواريخ سام 6.
- 4 طائرات ميج 25 بأطقمها
- 1 سرب استطلاع وإعاقة إلكتروني
- 1 وحدة سمالطا يمكنها إعاقة جهاز التوجيه في صواريخ هوك الإسرائيلية
- 1 وحدة تاكان يمكنها إعاقة أجهزة التوجيه في الطائرات المعادية
- مجموعة رادارات مختلفة الأنواع
كانت صواريخ سام 2 وسام 3 من النوع الثقيل الذي يستخدم في الدفاع الثابت وتحتاج إلى بناء قواعد وملاجئ من الخرسانة المسلحة. كان العدو يشن هجمات يومية على المهندسين والعمال الذين يقومون ببناء هذه الملاجئ وفيما بين يناير وابريل 1970 بلغ مجموع الغارات الجوية الإسرائيلية 3300 طلعة أسقط خلالها 8800 طن من المتفجرات، سقط خـلالها بضعة الاف من القتلى كان غالبيتهم من العمال الذين يقومون ببناء قواعد الصواريخ. وفي أواخر يونيو بدأ تحرك كتائب الصواريخ من القاهرة في اتجاه القناة كان التحرك يتم على وثبات، وفي خلال أسبوعين وصل حائط الصواريخ إلى خط يقع حوالي 20 كيلومترا غرب القناة.
وفي عام 1977 نشر محمد علي فهمي كتابه "القوة الرابعة، تاريخ الدفاع الجوي في مصر". ولم يدع في كتابه أن التقدم نحو المضايق كان هو هدف القوات المسلحة في خطة الحرب ولكنه كان حريصا على ألا تتحمل قيادة قوات الدفاع الجوي مسئولية عدم إدراج التطوير في الخطة. وان عدم توافر كتائب الصواريخ خفيفة الحركة مثل سام- 6 باعداد كافية كان هو أحد الأسباب الرئيسية لذلك. وهو يدافع عن وجهة نظره هذه بالنقاط التالية:
- تم إدخال تعديلات فنية على التنظيم والمعدات والتدريب لتسهيل عملية التحرك والاستبانه حتى اصبح من الممكن تجهيز موقع قاعدة الصواريخ في عدة ساعات (المؤلف: لم يذكر الأخ محمد علي فهمي عدد هذه الساعات ولكن على ما اتذكر فإنها كانت تستغرق ثمان ساعات أثناء التدريب وقت السلم وبدون أي تدخل من العدو. وهي مدة طويلة جدا لا تتناسب مطلقا مع سرعة المعركة الهجومية).
- إن قوات الدفاع الجوي دفعت فعلا عددا من كتائب الصواريخ إلى شرق القناة حينما قررت القيادة العامة للقوات المسلحة تطوير الهجوم شرقا يوم 14 اكتوبر لتخفيف الضغط عن سوريا.
ومع احترامي لوجهة نظر الأخ محمد علي فهمي فأنني أذكره بما يلي:
1- في المؤتمر الذي عقد برئاسة الرئيس السادات في بيته بالجيزة في 2 من يناير 72 قال محمد علي فهمي "مشكلة الدفاع الجوي حاليا أني عاوز أحارب حرب هجومية باسلحة دفاعية. الصواريخ الخفيفة الموجودة عندي من نوع ستريلا وقوتها التدميرية محدودة ومداها لايتعدى كيلو ونصف. السوفيت عندهم نوع متقدم ويمكن غير موجود عند الدول الغربية لأنه محمل على وسيلة نقل مجنزرة ويضرب على الكونتراست ولا يضرب بالانفرارد. بالوسائل الموجودة لا نقدر على توفير دفاع كافي أمام طائرات سكاي هوك وطائرات الفانتوم. ومن ناحية القيادة والسيطرة ليس لديّ وسيلة اتصال مأمونة أثناء التحرك وهذا يضطرني إلى إرسال الإشارات بالشيفرة ومعنى هذا اَخذ 20-30 دقيقة علشان أوصل معلوماتي. العدو عنده امكانات عالية جدا في التصنت والإعاقة والشوشرة اللاسلكية". (المؤلف: يلاحظ أن محمد علي فهمي لم يذكر إطلاقا إمكان استخدام سام 2 وسام 3 في العمليات الهجومية. اننا نذكره بالوقت والخسائر التي تحملتها كتائب الدفاع الجوي إثناء تحركها من منطقة القاهرة وحتى 20 كيلومترا غرب القناة في شهر يونيو 1970- فقد استغرق ذلك حوالي إسبوعين رغم انه كان يتم فوق ارض تسيطر عليها قواتنا البرية سيطرة كاملة، وتستخدم الخطوط التليفونية المؤمنة في القيادة والسيطرة على هذه الكتائب اثناء تحركها واثناء اشتباكها).
2- إن دفع عدد محدود من كتائب الصواريخ إثناء عملية التطوير يوم 14 أكتوبر إلى مسافة حوالي 5 كيلومترات شرق القناة لا ينهض دليلا على اماكن استخدام كتائب سام 2 وسام 3 في العمليات الهجومية، حيث انها كانت تنتقل من مكان تسيطر عليه قواتنا البرية إلى مكان آخر تسيطر عليه ايضا قواتنا البرية. وهذا الوضع يختلف تماما إلى أن هذه الكتائب أن تفتح على مسافة تزيد على 15 كيلومترا شرق القناة.
3- الصواريخ المضادة للطائرات خفيفة الحركة لا تعني مجرد سرعة هذه الصواريخ في الانتقال من موقع مجهز يقع تحت سيطرة قواتنا البرية إلى موقع مجهز يقع ايضا تحت سيطرة قواتنا. بل انها تعني القدرة على القفل والتحرك بعد كل اشتباك حتى تتفادى هجمات طيران العدو ومدفعيته بعد أن يكون قد حدد مواقعها. وبالتالي فانه تكون لها القدرة على مفاجأة طائرات العدو من مواقع متعددة.
4- إن الخسائر الفادحة التي تكبدتها قواتنا البرية اثناء عملية التطوير هي خير شاهد على عدم نجاح كتائب الصواريخ سام 2 وسام 3. كما أن قيام هذه الكتائب بإسقاط عدد من طائراتنا يدل على أن وسائل القيادة والسيطرة لدى تلك الكتائب كانت غير كافية.
5- إذا كان في إمكاننا دفع كتائب صواريخ من طراز سام 2 وسام 3 بمثل هذه السهولة التي يصورها الأخ محمد علي فهمي، فلماذا لم ندفع بكتبية أو اثنتين من تلك الكتائب مع اللواء الأول مشاه عندما كلف بالتحرك ليلة 10/11 إلى سدر حتى لا يتسبب طيران العدو في تشتت اللواء كما حدث؟!.
6- أذكّر الأخ محمد علي فهمي بموقف هذه الكتائب بعد أن نجح العدو في اختراق مواقعنا في منطقة الدفرسوار، وبعد أن اهتزت سيطرتنا على الأرض التي تقع خلف الجيش الثالث حيث تتمركز كتائب الصواريخ. فإن افتقار هذه الكتائب لصفة الحركة قد حدّ كثيرا من فعاليتها.
7- واخيرا فلو أن صواريخ سام 2 وسام 3 يمكن استخدامها في العمليات الهجومية لما كانت هنالك ضرورة لاختراع الصواريخ المضادة للطائرات الهجومية من طراز سام 4 وسام 6 أو من طراز الصواريخ التي طالب بها قائد قوات الدفاع الجوي في المؤتمر الذي عقد بمنزل الرئيس بالجيزة في 2 من يناير 1972.
تقدير الموقف العسكري على الجبهة المصرية
يقول الجمسي في كتابه يوميات حرب اكتوبر "كان من رأيي ضرورة استغلال الموقف لتطوير الهجوم شرقا طبقا للخطة دون أن نتوقف طويلا (يعني بعد العبور) حتى نحرم العدو من فرصة تدعيم مواقعه أمام قواتنا. وقد ناقشت الفريق اول احمد اسماعيل في هذا الموضوع يوم 9 من أكتوبر خلال مقابلتين معه. فوجدت منه الحذر الشديد من سرعة التقدم شرقا. حيث كان يرى الانتظار لتكبيد العدو اكبر خسائر ممكنة من خلال اوضاع قواتنا في رؤوس الكباري قبل استئناف الهجوم. وكان الفريق أول احمد إسماعيل يرى أيضا أن القوات البرية القائمة بالهجوم ستتعرض بشدة للطيران الإسرائيلي في وقت لا تتمكن فيه المقاتلات وصواريخ الدفاع الجوي من توفير الحماية الكافية لها. واوضحت له أن استئناف هجومنا يترتب عليه التحام قواتنا مع قوات العدو، الأمر الذي يجعل تأثير السلاح الجوي المعادي الإسرائيلي اقل. وللحد من تاثير السلاح الجوي المعادي، يجب استغلال طاقة قواتنا الجوية التي اثبتت قدرتها ضد طيران العدو خلال الأيام الأربعة 6-9 اكتوبر. وفضلا عن ذلك فإن صواريخ الدفاع الجوي خفيفة الحركة على الرغم من قلتها إلا إنها مؤثرة وفي الوقت نفسه يمكننا تحريك بعض كتائب صواريخ دفاعنا الجوي بطيئة الحركة على وثبات للامام (الجمسي/ يوميات حرب أكتوبر ص 150 و151). وعلى الرغم من أن التطوير يتعارض تماما مع جوهر الخطة كما سبق أن أسلفنا، وكما اتضح من معارضة أحمد اسماعيل لهذا الرأي. إلا أننا حتى لو افترضنا جدلا بانه حتى لو كان التطوير
مقررا ضمن نوايانا فهل كان الموقف يوم 9 أو الأيام التالية يسمح بهذا التطوير؟ لقد بنى الجمسي رأيه على ثلاثة افتراضات جميعها خاطئة.
1- الافتراض الأول هو أن قواتنا الجوية اثبتت قدرتها ضد طيران العدو خلال الأيام 6-9 أكتوبر، وهذا الافتراض لا يؤيده عدد الاشتباكات الجوية وعدد خسـائر الطرفين نتيجة هذه الاشتباكات.
2- الافتراض الثاني هو قدرة الدفاع الجوي الصاروخي على حماية تقدم قواتنا داخل سيناء وقد سبق أن ناقشت ذلك.
3- الافتراض الأخير هو التحام قواتنا البرية مع قوات العدو البرية للحد من تأثير السلاح الجوي الإسرائيلي. ومع أن هذه التوصية بالالتحام تحمل اعترافا ضمنيا بعدم اطمئنانه إلى قدرة قواتنا الجوية وقوات الدفاع الجوي على حماية قواتنا البرية. إلا أن هذا الافتراض هو ايضا افتراض خاطى لقد كان على قواتنا أن تتقدم حوالي 40-50 كيلومتر، خارج رؤوس الكباري. أي بعيدا عن مظلة الدفاع الجوي الثابته والالتحام الذي يحد من قدرة القوات الجوية الإسرائيلية على التمييز بين دباباتنا ودبابات العدو، يعني الاقتراب منها إلى مسافة 500 متر فأقل. فهل من المعقول أن القوات الجوية الإسرائيلية ستقف موقف المتفرج اثناء تحركها لمسافة 40-50 كيلو مترا إلى أن يحدث الالتحام بين القوتين؟؟.
لقد مضت 22 سنة على هذه الحرب وان حجم وتوزيع قواتنا وقوات العدو على الجبهة في كل يوم من ايام الحرب بات معروفا. كما وان خسائرنا وخسائر العدو في كل معركة وفي كل يوم قد اصبح معروفا. فلماذا لا نقوم بإجراء تقدير موقف للجبهة المصرية عن كل يوم من ايام الحرب على ضوء المعلومات المؤكدة عن قواتنا وقوات العدو في كل يوم حتى تتبين الحقيقية. إن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق يكون من حقها الاطلاع على كل الوثائق واستجواب من تراه من الأشخاص، اصبح ضرورة وطنية. حتى يتعلم الأبناء والأحفاد الدروس المستفادة الصحيحة عن تلك الحرب المجيدة.
احتلال طريق المدفعية
يرى بعض النقاد انه كان يعب علينا أن نعمق مواقعنا شـرقي القناة حتى تحـتل طريق المدفعية العرضي الذي تستخدمه القوات الإسرائيلية في تحركاتها العرضية. وإلى أصحاب هذا الرأي نقول أن طريق المدفعية كان يمتد على مسافة حوالي 25 كيلومترا شرقي القناة. وانه كان خارج مدى مظلة الدفاع الجوي. وبالتالي فإن احتلاله والاحتفاظ به كان سيترتب عليه زيادة انتشار قواتنا واتساع الفواصل بين تشكيـلاتنا مما يعرضها للتطويق بواسطة قوات العدو.
تطوير الهجوم نحو المضايق، صفحه رقم 283
وإن احتلال خط دفاعي شرق القناة 10-15 كيلومتراً هو افضل من احتلال خط دفاعي على مسافة 25-30 كيلومتراً شرق القناة للأسباب التالية:
1- يحتاج إلى قوات اقل نظرا لوجود موانع مائية داخل هذا الخط (بحيرة التمساح والبحيرات المرة).
2- يستند جناحه الأيمن على خليج السويس ويستند جناحه الأيسر على البحر الأبيض وبذلك يصعب على العدو تطويقه. أما خط المدفعية فإن جناحه الأيسر يستند على البحر الأبيض في حين أن جناحه الأيمن سيكون معلقا في الهواء وبالتالي يمكن تطويقه. وإذا أردنا أن يستند هذا الخط على خليج السويس فإن ذلك يعني إضافة حوالي 25-30 كيلومتراً للخط الدفاعي. وسوف يؤدي ذلك إما إلى زيادة الفواصل بين التشكيلات فيسهل على العدو تطويق وحداتنا من الأجناب، وإما إلى احتلال الموقع الدفاعي على نسق واحد وبالتالي يصبح من السهل على العدو اختراقه.
مؤتمر القناطر يوم 6 يونيو 1972
يقول هيكل "كان اختيار الفريق احمد إسماعيل علي اختياراً سليما. فهو من مدرسة نضج اقتناعها بان القتال اصـبح ضرورة سياسية وعسكرية وبالوسـائل المتاحة لتحـقيق هدف محدود أو محدد تتغير به المعادلة السياسية التي جمدت حل الأزمة (هيكل/ أكتوبر 73 ص 296) ، وكان هيكل قد ذكر قبل ذلك في الصفحة 267 من نفس المصدر السابق ما يلي "اصدر السادات تعليماته إلى الوزير الجديد الفريق أول احمد إسماعيل بالاستعداد للعمل المسلح على الجبهة في شهر ديسمبر72 أي بعد اقل من شهرين من تولي الوزير الجديد مسئوليته الضخمة. وسافر احمد إسماعيل إلى سوريا خـلال الفترة من 10- 13 نوفمبر، وقدم بعد عودته تقريرا إلى السادات نشـره هيكل في الوثيقة رقم 41 وجاء فيه تكليف القيادة العامة للقوات المسلحة السورية بالتخطيط وإعداد القوات للعملية الهجومية على النحو التالي:
- الانتهاء من التخطيط وعرض الخطط في 15 من ديسمبر 72.
- استعداد القوات للعمليات الهجومية في 31 من ديسمبر 72.
والذي يثير الانتباه والتعجب في نفس الوقت أن هيكل لم يشر من قريب أو بعيد إلى التقرير الذي كان أحمد اسماعيل قد بعث به -بصفته رئيس جهاز المخابرات العامة- إلى الرئيس السـادات في يونيو 72. هذا التقرير الذي حذر فيها احمد اسماعيل من أن تقوم القوات المسلحة بأية عملية هجومية لأسباب متعددة أهمها هو ضعف قواتنا الجوية، وضعف امكاناتنا في الدفاع الجوي الصاروخي ذاتي الحركة. هذا التقرير الذي دعا السادات مجموعة مصغرة من القادة لمناقشته يوم 6 من يونيو 1972 في استراحة الرئيس بالقناطر الخيرية (راجع الفصل الثامن عشر لمعرفة تفاصيل هذا المؤتمر وتعليق الشاذلي بأنه يجب علينا أن نخطط لمعركة هجومية محدودة في ظل تفوق جوي معاد).
لم يحدد السادات موقفه في هذا المؤتمر بوضوح. وكان تعقيبه لا يعني الرفض ولا يعني القبول. فقد عقب قائلا "أنا والفريق صادق يشاركني الرأي نرى انه يجب علينا إلا نقوم بأية عملية هجومية إلا بعد أن يكون لدينا قوة الردع. أي يكون لدينا طيران يستطيع أن يضرب عمق العدو. ولكن يجب أن نفكر فيما إذا اضطرنا الموقف السياسي إلى بدء المعركة قبل الانتهاء من بناء قوة الردع".
وإذا كان هذا هو موقف السـادات وموقف أحمد اسماعيل في يونيو 72، فكيف يمكن أن يتحول هذا الموقف إلى نقيضه بعد خمسـة اشهر. رغم أنه لم يحدث خلال هذا الفاصل الزمني أي تغيير في القوى العسكرية النسبية بيننا وبين العدو؟! وهنا تبرز عدة أسئلة مازالت بدون اجـابة من بينها: هل كان تقرير احمد اسماعيل هو جزء من مؤامرة الغرض منها هو ايهام الفريق أول صادق بأن رايه حول ضرورة تفادي الحرب هو الرأي الأصوب، في الوقت الذي كان السادات يهيئ فيه الظروف لإقالته بعد اقل من خمسة اشهر على أساس انه لم يجهز القوات المسلحة للحرب كما امره السادات؟ وهل هناك علاقة بين احجام السـادات عن اتخاذ قرار الحرب يوم 6 يوليو 72، وبين قراره بطرد الخـبراء السوفيت والوحدات السوفيتية بعد ذلك بشهر واحد؟
رسالة السادات إلى كيسنجر
لقد أثار هيكل ضجة كبرى حول الرسـالة التي أرسلها السادات إلى كيسنجر يوم 7 أكتوبر والتي قال فيها " إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباك او توسيع مدى المواجهة" ومع أني لم أعلم بهذه الرسالة إلا بعد نشرها في جريدة الأهالي بتاريخ 18 من مايو 83 . ومع إني كنت سأعترض على إرسال مثل هذه الرسالة إذا اخذ رأيي قبل إرسالها. اما وقد أصبحت هذه الرسالة تاريخا، فإني وان كنت أدينها إلا أني في الوقت نفسه لا أعتقد أنها تستحق كل هذه الضجة التي أثارها هيكل حولها.
يقول هيكل في تعليقه على هذه الرسالة "كانت هذه هي أول مرة في التاريخ كله يقول فيها طرف محارب لعدوه نواياه كاملة ويعطيه من التأكيدات ما يمنحه حرية في الحركة السياسية والعسكرية على النحو الذي يراه ملائما له ". ومع قناعتي بأن هذه الرسالة ستصل إلى إسرائيل، إلا أنني لا أعتقد أن إسرائيل ستفترض أن هذه الرسالة تمثل نوايانا المستقبلية بصفة مؤكدة. إذ ليس من الممارسات السياسية والعسكرية أن يصدق القادة كل ما يعلنه الأعداء من تصريحات ورسائل. وعن نفسي فلو قيل لي أن جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل قالت كذا، أو إن موشي دايان وزير الدفاع قال كذا فان أول ما يتبادر إلى ذهني وأتوقعه من إسرائيل هو عكس ما يقولون اللهم إلا إذا كانت لدي قناعة مؤكدة أن المتكلم أو صاحب الخطاب هو عميل مضمون.
إن القادة السياسيين والعسكريين -إذا استبعدنا ما يصلهم من معلومات عن طريق الجواسيس والعملاء- لا يتخذون قراراتهم بناء على التصريحات التي تصدر عن أعدائهم، أو التي تصلهم عن طريق تدخل طرف ثالث. ولكنهم يتخذون قراراتهم بناء على ما تسجله وسائل الاستطلاع والرصد والتصنت السلكي واللاسلكي والإلكتروني والبشري. وبناء على ما تسفر عنه نتائج تقدير موقف العدو على ضوء إمكاناته الحقيقية وليس بناء على ما يعلنه أو يدعيه.
الفصل الأربعون: أسلوب التعامل مع ثغرة الدفرسوار
"لانشارك الآخرين جريمة التستر على الأخطاء التي تجري فالأخطاء ليست عيبا. ولكن التستر عليها جريمة في حق الأمن القومي للوطن".
أمين هويدي
رئيس جهاز المخابرات الأسبق ووزير الدفاع الأسبق
الفرص الضائعة / ص 496
"في تقديري كان الشاذلي على حق عندما اقترح مساء يوم 20 سحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق لإعادة التوازن المختل إلى الجبهة. ولم يكن سحب هذه الألوية المدرعة وربما اكثر منها يسبب أية خطورة في الشرق".
أمين هويدي
المصدر السابق/ ص 486 و 493
"يبدو أن القادة المصريين أُخذوا على غرة بالعبور الإسرائيلي. وتصرفت الرتب العليا وكأن على أعينهم غشاوة وتمزقت الهجمات المضادة شر ممزق. بل بدا وكأن القائد العام يفتقر إلى احتياطي عام "
الخبير السويدي
الليفتنانت جنرال ستمج لوفجرين
الندوة الدولية عن حرب أكتوبر بالقاهرة 1975
الحدود بين الجيوش والمناطق
كثر الحديث بعد الحرب عن انه كان هناك فاصل بين الجيشين الثاني والثالث، وان الإسرائيليين استغلوا وجود هذا الفاصل غير المؤمن فنفذوا من خلاله إلى الضفة الغربية للقناة كان السـادات هو أول من أطلق هذه الفرية ليغطي بها قراره الخاطئ بالتطوير الذي ترتب عليه دفع الفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين من غرب القناة إلى شرقها، ثم قراره الخاطئ الآخر برفض إعادة هاتين الفرقتين إلى مواقعـهمـا غرب القناة بعد فشل هجومهما يوم 14 أكتوبر. وعن طريق السـادات نقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية هذه المعلومة. وافترض المحللون العسكريون صحة هذا الخبر عند تقييمهم لموقف القيادة العامة للقوات المسلحة المصـرية. ولكن هذه الفرية التي أطلقها السـادات، هي أبعد ما تكون عن الحقيقة. فقد كانت الجبهة مؤمنة- طبقا للخطة- من البحـر الأبيض شمالا حـتى خليج السويس جنوبا.
ولم يكن هناك متر واحد لا يقع تحت مسئـولية إحدى القيادات. فـقد كانت مسئولية قطاع بور سعيد تمتد من البحر الأبيض حـتى القنطرة (خارج). وكانت مسـئولية الجيش الثانـي تمتد من القنطرة (داخل) حتى الدفرسوار (داخل). وكانت مسئولية الجيش الثالث تمتد من جنوب الدفرسوار بحوالي عشـرة كيلومترات حتى ميناء الأدبية على خليج السويس (داخل). ثم كانت مسـئولية منطقة البحر الأحمر من جنوب الأدبية بحوالي عشرة كيـلومترات حتى أقصي الجنوب. وبالتالي فإن منطقة الدفرسوار كـانت تدخل- بصـفة مؤكدة- ضمن مسئولية الجيش الثاني (راجع الخريطة رقم 2).
ولكن هذا لا يعني مطلقا انه يتحتم على كل قائد أن يحتل بقواته كل متر من المواجهة التي تقع في نطاق مسئوليته، حيث إن ذلك لابد أن يؤدي إلى أن يصبح ضعيفا في كل مكان. ويتعارض ذلك مع مبدأ مهم من مبادئ الحرب وهو مبدا الاقتصاد في القوة وبالتالي فإن وجود ثغرات غير محـتلة بالجنود بصفة دائمة بين التشكيلات وبين الجـيوش يعتبر أمراً طبيعيـا، وذلك بشرط أن يقوم القادة باتخاذ الإجراءات اللازمة لتامين هذه الثغرات. ويكون التأمين عادة برقابة هذه الثغرات بعدد من الدوريات الثابتة أو المتحركة أو الجوية، والاحتفاظ باحتياطي من القوات ومن النيران للتصدي للقوات المعادية إذا ما قامت بالمرور من تلك الثغرات. وبصرف النظر عما اتخـذته قيادة الجيشين الثـاني والثالث من إجـراءات لتأمين الثغرات التي بين تشكيلاتها أو تلك التي في أماكن لاتشكل طريقا محـتملا لاقتراب العدو (البحيرات المرة على سبيل المثال)، فقد اتخذت القيادة العامة للقوات المسلحة إجراءات إضافية لتدمير أي قوات للعدو قد تنجح في اختراق مواقع الجيشين الثاني والثالث وقطاع بور سعيد.
وقد تصورنا عند وضع الخطة أن العدو قد ينجح في اختراق مواقعنا في واحدة أو اثنتين من ثلاث نقاط محتملة. وكانت الدفرسوار هي واحدة من تلك النقاط الثلاثة وعلى الرغم من أن هذه النقاط الثلاث كانت مؤمنة بالقوات من الشرق بكثافة (كانت الفرقة 16 مشاة تؤمن منطقة الدفرسوار بقوة من شرق القناة)، إلا أننا لم نستبعد مطلقا احتمال نجاح العدو في اختراق مواقعنا في أي من تلك النقاط الثلاث إذا ما ركز هجومه عليها. ولذلك فقد قاست القيادة العامة بالاحتفاظ بالفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين وبعض الوحدات الأخرى في النسق الثاني للجيوش. وكانت هذه القوات مكلفة بواجب تدمير أي عدو قد ينجح في عبور القناة إلى الغرب. بل أن هذه القوات قامت بتنفيذ مشروعات تدريبية لتنفيذ هذا الواجب على نفس الأرض التي سوف تقاتل عليها حتى اصبح تنفيذ هذا الواجب وكـأنه طابور تدريب تكتيكي يعلم كل ضابط وجندي تفاصيله.
ولكن القرار السياسي الخاطئ بضرورة تطوير الهجوم نحو المضايق- والذي سبق أن شرحته بالتفصيل في الفصل السابق، والذي ترتب عليه دفع الفرقة 21 مدرعة، والفرقة الرابعة المدرعة عدا لواء في عملية التطوير- حرم القيادة العامة للقوات المسلحة من أي احتياطات فعالة يمكن أن تتصدى لأية عملية اختراق يقوم بها العدو لمواقعنا شرق القناة. كان القرار السليم- طبقا للموقف وطبقا لأصول العلم العسكري- هو أن نسحب الفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين بعد فشل هجومنا يوم 14 إلى مواقعهما الأصلية غرب القناة لنعيد الاتزان إلى مواقعنا الدفاعية. ولكن احمد إسماعيل المصاب بعقدة هزيمة 67 عارض هذا الاقتراح على أساس أن سحب هذه القوات قد يؤثر على الروح المعنوية للجنود (راجع الفصل الثالث والثلاثين)
أسلوب التعامل مع ثغرة الدفرسوار، صفحه رقم 287
المناورة بالقوات
المناورة بالقوات هي مبدأ مهم جدا من مبادئ الحرب. ويندر أن لم يكن من المستحيل كسب أي حرب دون تطبيقه. والمناورة بالقوات في العلم العسكري تعني أن يقوم القائد بتحريك قوات قبل وأثناء المعركة من مكان إلى آخر، حيث تستطيع من موقعها الجديد أن تحقق نجاحا اكبر في القتال. ففي العمليات الهجومية يستطيع القائد الذي يطبق هذا المبدأ استغلال الفرص التي قد تظهر له أثناء القتال نتيجة سوء توزيع العدو لقواته في الدفاع أو نتيجة بدء حركتها، فيدفع قواته في الاتجاهات الضعيفة حيث يمكن اختراق خطوط خصمه الدفاعية والوصول إلى مؤخرته. ويستطيع القائد أن يحقق هذا المبدأ أيضا في المعارك الدفاعية. فهو يستطيع أن يتظاهر بالضعف في قطاع معين سواء بالتقهقر أمام خصمه في قطاع من الجبهة، أم بأن يترك ثغرة غير مؤمنة بين جناحيه تغري المهاجم على المرور خلالها بغية الوصول إلى مؤخرة القوات المدافعة. فإذا ما نجح القائد المدافع في استدراج خصمه إلى منطقة القتل التي يريدها انقضت عليه قواته من الأمام والخلف والأجناب لإبادتها. فالمناورة بالقوات إذن شيء والانسحاب شيء أخر. فالأولى هي الاستمرار في القتال في مكان آخر أما الثانية فهي التخلص أو الهروب من المعركة.
وقد بين القرآن العظيم الفرق بين المناورة بالقوات والانسحاب في قوله تعالى( يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تُوَلُّوهُمُ الأدبار. ومن يولِّهم يومئذٍ دُبُرَهُ إلا مُتحرِّفاً لقتال أو متحـيّزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنَّمُ وبئس المصير) (16,15 الأنفال). فتولية الدبر معناها الانسحاب من القتال. أما ألتحرف للقتال أو التحيز إلى فئة فهو ما يطلق عليه اليوم في العلم العسكري مبدأ المناورة بالقوات.
لقد كان الخلاف الرئيسي بيني من جانب وبين السادات وأحمد إسماعيل من الجانب الآخر يدور طول فترة الحرب حول تطبيق هذا المبدأ. واشتد الصراع بيني وبينهما بصفة خاصة خـلال الأيام من 15 وحتى 20 من أكتوبر. ومنعا للتكرار فأرجو مراجعة الفصلين 33 و 34. حيث أني سأقتصر في هذا الفصل على الرد على ما كتبه النقاد بعد صدور هذا الكتاب.
كنت حريصا منذ البداية على أن نستغل خفة حركة وقوة نيران قواتنا المدرعة، وذلك عن طريق الاحتفاظ بها في الاحتياطات والأنساق الثانية للجيوش وألا نستخدمها إلا في المراحل الأخيرة والحاسمة للحرب، وبعد أن تتحطم قوات العدو المدرعة على صخرة دفاعاتنا شرق القناة هذه الصخرة التي كانت تتكون من 5 فرق مشاة تستطيع كل منها -بما لديها من دبابات وأسلحة مضادة للدبابات تدخل في تنظيمها العضوي - صد هجوم تقوم به ثلاثة ألوية مدرعة قوامها 360 دبابة. فقد كـان يدخل ضمن تنظيم كل فرقة مشـاة ما يلي من الأسلحة:
4 كتيبة دبابات (124 دبابة).
1 كتيبة BMP ( قطعة40).
1 كتيبة قواذف صواريخ موجهة مالوتكا (36 قطعة).
1 كتيبة مدفعية مضادة للدبابات 85 ملليمتر (36 قطعة).
90 مدفع بي 10 و بي 11 مضاد للدبابات.
459 قاذف صاروخي قصير المدى (ر.ب.ج).
3 كتائب هاون 120 ملليمتر (36 قطعة).
3 كتائب مدفعية 100 ملليمتر (36 قطعة).
3 كتائب هاوتزر122 ملليمتر (36 قطعة).
أسلوب التعامل مع ثغرة الدفرسوار، صفحه رقم 288
ولذلك فإن خطة الهجوم الأصلية (المآذن العالية) لم تكن تتضمن تدعيم الفرقة المشاة أثناء عملية اقتحام قناة السويس بأي وحدات مدرعة. بل أنها كانت أيضا لا تتضمن كتيبة BMP حيث أن هذه الوحدة لم تدخل ضمن تنظيم الفرقة المشاة إلا قبل بدء حرب أكتوبر ببضعة اشهر (تم التعاقد على توريد هذه الكتائب فقط في مارس 1973، ووصلت بعد ذلك ببضعة اشهر).
بعد أن تولى احمد إسماعيل منصب القائد العام للقوات المسلحة، طلب منه السادات أن يضمن سرعة احتلال القنطرة شرق، حيث أنه يريد أن يستغل تحريرها سياسيا. وبناء عليه أمر احمد إسماعيل بأن تدعم الفرقة 18 مشاة التي تقع مدينة القنطرة شرق في قطاعها بلواء مدرع. ثم عاد السادات بعد ذلك فطلب منه أيضا ضرورة سرعة تامين مدينتي السويس والإسماعيلية من الشرق فأمر احمد إسماعيل بتدعيم كل من الفرقة 19 مشاة التي تقع السويس في قطاعها والفرقة 16 مشاة التي تقع الإسماعيلية في قطاعها بلواء مدرع. وبعد ذلك اشتكى قائدا الفرقتين المشاة السابعة والثانية، من أن هذا التوزيع سيكون دعوة للعدو لكي يركز هجومه عليهما من دون فرق المشاة الأخرى فأمر احمد إسماعيل بتدعيم كل منهما بلواء مدرع. ومع أن توزيع نصف قواتنا المدرعة بهذا الأسلوب يعتبر استخداما سيئا لخصائص القوات المدرعة، إلا انه كان من الممكن التغاضي عنه مؤقتا على أساس أن هذه الألوية المدرعة سوف تسحب من فرق المشاة وتعود إلى مواقعها غرب القناة بعد أن تنجح فرق المشاة في تجهيز مواقعها الدفاعية. وكان من الممكن أن يحدث ذلك اعتبارا من يوم 10 من أكتوبر. ولكن كما سبق أن أوضحنا فقد اتخذ يوم 12 من أكتوبر قرار بدفع باقي الفرقة 21 مدرعة والفرقة الرابعة المدرعة عدا لواء. وبالتالي فإنه بحلول يوم 14 أكتوبر كان قد اصبح لنا في الشرق 7 ألوية مدرعة. ولم يبق في غرب القناة خلف الجيشين الثاني والثالث سوى لواء مدرع واحد من الفرقة الرابعة المدرعة. وكان يتمركز في منطقة القاهرة لواء مدرع بالإضافة إلى لواء مدرع الحرس الجمهوري.
وثار الخلاف مرة أخرى بيني وبين احمد إسماعيل يوم 15 من أكتوبر عندمـا اقترحت سحب الفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين المدرعة إلى مواقعهما السابقة غرب القناة ثم تجدد الخلاف يوم 16 من أكتوبر بعد حدوث الثغرة عندما طالبت بسحب الفرقة الرابعة المدرعة واللواء 25 مدرع من الشرق لضرب وتصفية الثغرة من الغرب. ثم بلغ الخلاف بيني وبين السادات ذروته ليلة 20/ 21 من أكتوبر عندما طالبت بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب.
رأي النقاد
* يقول أمين هويدي عن اقتراح الشاذلي ليلة 20/ 21 أكتوبر سحب أربعة ألوية مدرعة ما يلي "وفي رأيي فإن اقتراح الشـاذلي- كما سبق أن أوضحت في كتابي كيسنجر وادارة الصراع الدولي- كان أحسن اقتراح عملي متاح في تلك الظروف الحرجـة: إن تعليق جمال حماد بالقول بأن الموقف التكتيكي المتردي الذي أصبحت فيه قواتنا يجعل من المستحيل على أي إنسان أن يهتدي إلى حل سليم مهما كانت عبقريته يعني التسليم بالأمر الواقع، وهو ما رفضه الشاذلي. وكان اقتراح الشاذلي فيه مخاطرة مقبولة لأنه لا قتال دون مخاطرة وكان تنفيذ الاقتراح سيطيل أمد القتال، ويكبد العدو مزيدا من الخسائر التي كان من الصعب عليه الاستمرار في تعويضها حتى في ظل وجود الجسر الجوي الذي اعدته الولايات المتحدة (أمين هويدي/ الفرص الضائعة/ ص 493).
* ويعلق حافظ إسماعيل على الموقف في الساعات الأولى من يوم 21 من أكتوبر عندما قرر السادات طلب وقف اطلاق النار بما يلي "كان الاختراق الذي حدث في الجبهة العسكرية منذ 16 من أكتوبر قد تطور الآن بحيث أصبحنا اليوم نواجه هجوما إسرائيليا مضادا واسع النطاق يستهدف عزل قواتنا في شرق القناة وكان مثل هذا التقييم يقتضي تثبيت القوات الإسرائيلية في غرب القناة تمهيدا للقضاء عليها. ولتحقيق ذلك كان من الضروري تخـفيف رؤوس الكباري في شرق القناة حتى يمكن توفير القوات اللازمة وخاصة المدرعة للعمل في غرب القناة ضد منطقة الثغرة في الدفرسوار، مع استمرار الحفاظ على مراكزنا في الشرق بصفة فعالة. إلا أن رفض الرئيس أي اقتراح بسحـب قوات من الشرق إلى الغرب- بينما كانت قواتنا المتوافرة في غرب القناة اضعف من أن تتمكن من تثبيت القوات الإسرائيلية داخل منطقة الاختراق- جعل من المحتم القبول بوقف اطلاق النار قبل أن تتمكن القوات الإسرائيلية من الانطلاق من منطقة الدفرسوار فتدمر النجاح الذي تحقق. واحتمال التسوية السياسية المرضية (محمد حافظ اسماعيل/ أمن مصر القومي في عصر التحديات/ ص 345).
* يقول الكولونيل تريفور دي برى ما يلي "كان رد الفعل المصري للعبور الإسرائيلي في منطقة الدفرسوار بطيئا. وما من شك في أن هجوما مضادا رئيسيا من جانب مصر يوم 16 بل و يوم 17 من أكتوبر كان يمكن أن يحطم قوة شارون على الشاطئ الغربي لأنها كـانت تتألف من اقل من لواءين (الندوة الدولية لحرب أكتوبر/ القطاع العسكري/ ص 49).
* يقول الليفتنانت جنرال ستيج لوفجرين ما يلي "لقد أثبتت القوات المسلحة المصرية قدرتها على إعداد وتنفيذ هذه العملية المعقدة التي هي عبور قناة السويس. ولكن عندما أصبحت الحرب متحركة، ولم تعد تتبع سيناريو معدا من قبل. حاق بالمصريين أسوا ما فيها. ويبدو أن القادة على جميع المستويات أخذوا على غرة بالعبور الإسرائيلي. وتوقفت البيانات، وتصرفت الرتب العليا وكان على أعينهم غشاوة وتمزقت الهجمات المضادة شر ممزق. بل بدا وكان القائد العام يفتقر إلى احتياطي عام" (المصدر السابق/ ص 85).
* يقول الكولونيل ادجار أوبالانس وهو يتحدث عن الموقف ليلة 21 من أكتوبر ما يلي "وعلى الضفة الغربية للقتال كان هناك افتقار للسيطرة والقيادات ويبدو أن المستويات العليا من القيادة المصرية أصيبت بحالة من الشلل". (المصدر السابق/ ص185).
الدفرسوار ليست معركة تليفزيونية
* يقول أمين هويدي "لا يجوز أن نسمي ما قام به العدو من اختراق لثغرة الدفرسوار أنه مجـرد معركة تليفزيونية كما أطلق عليها الرئيس السادات أو مجرد قصة جسدتها الإعلام الإسرائيلية مستغلة عبور بعض القوات الإسرائيلية إلى غرب القناة لإبراز نجاح إسرائيل في هذه المعركة وانه كان من الواجب مقاومة ذلك بخطة دعائية مضادة كما كتب الجمسي في مذكراته. هذه معالجة سيـئة لأمور تتعلق بأمننا القومي. فعلاوة على ما في هذا الأسلوب من استخفاف بالرأي العام وافتئـات على الحقائق التاريخية، فهو أيضا تهديد لقواتنا المسلحـة وتغطية لسلبياتها بما يسمح للسوس بأن ينخر في عظامها (أمين هويدي/ الفرص الضائعة/ ص 437).
* ويقول أمين هويدي في مكان آخر "فليس صحيحا أو ليس في صالح مصر أو جيشها أن يسمي الجمسي ما حدث "قصة الثغرة"، وهي التي نقلته أحـداثها في فجر أحد الأيام السوداء في تاريخ مصـر من موقعه تحت الأرض في المركز 10 إلى إحـدى الخيام عند الكيلو 101 طريق السويس- القاهرة، ليجري هو وحفنة من الضباط أول محادثات مباشرة مع إسرائيل (نفس المصدر السابق ص 472).
وفي تعليقه على ما جاء في صفحة 436 من مذكرات الجمسي التي يقول فيها إن القوات الإسرائيلية الموجودة غرب القناة تحولت من سلاح تضغط به علينا إلى رهينة نضغط بها نحن على إسرائيل ومصدر استنزاف لأرواح ومعدات واقتصاد إسرائيل، يقول أمين هويدي بسخرية "اذكّر الجمسي بما قاله في مذكراته في صفحة 481 بان إسرائيل كانت تتحكم في السماح بإمداد الجيش الثالث ومدينة السويس. و اذكّره بما قاله من إن عينيه اغرورقتا بالدموع عندما وافق السادات يوم 17/ 1/ 74 على اتفاقية فض الاشتباك نظرا لما حوته من شروط مهينة. ولأول مرة نسمع أن الفريسة- كما يصور الجمسي موقف إسـرائيل علـى الضـفة الغربية- هي التي بيدها السماح بمرور الأكل للصـياد. ولأول مرة أيضا نسمع أن الفريسـة يمكنها الضغط على الصياد حـتى تبكيه!!" (المصدر السابق ص 525).
* وعن لهفة المصـريين على وقف إطلاق النار طبقا للشروط الإسرائيلية- مما يعكس سوء موقفهم العسكري- يقول دايان "حضر نائب سيلاسفو كبير المراقبين الدوليين لمقابلتي في القدس، واخـبرني بأنه تلقى برقيـة من القاهرة تقول إن رد المصـريين على شروطنا الثـلاثة لقبول وقف إطلاق النـار أنهم موافقون موافقون موافقون. وسألته عما إذا كـان المصريون كـرروها ثلاث مرات فأجابني بأنها أربعة (أمين هويدي/ الفرص الضائعة ص 472).
* وفي أثناء المقابلة التي تمت بين الرئيس السادات والمستر كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي، بعد ظهر يوم 17/ 10، حاول السادات أن يقلل من أهمية الثغرة فقال له كوسيحين "إن صديقنا السادات يقلل من الخطر الذي تواجهه القوات المصرية. وأنا مضطر لأن أوضح أمامه الحقيقة حتى يستطيع أن يقيم حساباته على أساس سليم ". ثم وضع كوسيجين أمام السادات 18 صورة التقطتها الأقمار الصناعية السوفيتية تظهر فيها قوات للعدو التي في غرب القناة وعلق كوسيجين على تلك الصور بما يلي: "هذه الصور تظهر انه حتى ساعة التقاطها ظهر اليوم، كان لإسرائيل في الغرب 760 قطعة مدرعة ما بين دبابات وعربات مصفحة. وهذه قوة كبيرة وتطويرها مازال مستمرا (مقال هيكل بالأهرام يوم 6/12/93 عن السلاح والسياسة).
* وقد كشف الأستاذ حسنين هيكل في صحيفة الأهرام يوم 11/12/93 عن سر جديد فيما يتعلق بموقف السـادات تجاه الثغرة (الحلقة التاسعة من مقالات هيكل عن كـتابه السلاح والسياسة). تقول الوثيقة التي نشرها هيكل: إن حافظ إسماعيل مستشار الرئيس السادات لشئون الأمن القومي، أرسل برقية يوم 2 من نوفمبر إلى وزير الخارجية إسماعيل فهمي الذي كان موجودا حينئذ في واشنطن، يلح فيها على مطالبة كيسنجر بأن يقدم ضمانا تتعهد فيه أمريكا بألا تقوم إسرائيل بأية عمليات عسكرية ضد القوات المصرية في الضفة الغربية من قناة السويس. وإن كيسنجر إمعانا في إذلال مصر، ورغبة منه في انتهاز هذا الموقف كتب خطابا لا يلزم أمريكا بشيء بل يمكن أن يعطيها ورقة تضغط بها على السادات للحصول منه على تنازلات في مقابل وعود - مجرد وعود لا توجد أي نية صادقة لتنفيذها- بأن تكبح جماح إسرائيل.
* تقول برقية إسماعيل فهمي إلى الرئيس السادات "بعد حوار طويل سلمني كيسنجر الضـمان المكتوب. وكان يود في أول الأمر عدم توقيعه بالحروف الأولى. ثم وقعه. وأضاف ضاحكا بأنه يرجو ألا ينشر الضمان في الأهرام. ويشير الضمان إلى انه اتصالا بأي اتفاق يتم بين مصر وإسرائيل بخصوص تنفيذ الفقرة الأولى من قرار مجلس الأمن رقم 338، تضمن الولايات المتحدة أنها ستفعل أقصى ما تقدر عليه لمنع عمليات عسكرية هجومية تقوم بها القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية ضد القوات المصرية أثناء وجود القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وكان الضمان مكتوبا بالآلة الكاتبة وعلى ورقة بيضاء (أي ليست الأوراق التي تحمل في أعلاها اسم وزارة الخارجية الأمريكية)، كما أن كيسنجر لم يوقعه بالحروف الأولى الكاملة وهي HAK هنري الفريد كيسنجر كمـا هو متـعارف عليه دبلوماسيا بل إنه وقعه بحـرفين هما H.K (هيكل/ أكتوبر 73/ وثيقة رقم 127/ ص 869).
ولعل الأخ الجمسي يقتنع- بعد أن يقرأ كل ذلك- أن اختراق العدو لمواقعنا لم يكن معركة تليفزيونية كما كـان يدعي السادات- وان قوات العدو غرب القناة لم تكن رهينة. بل إن الجيش الثـالث هو الذي كان رهينة في يد إسرائيل وفي يد كيسنجر. ولعل الجمسي يقتنع أيضا أن السادات كانت له سياسة ذات وجهين تجاه الثغرة كان يدعي أمام شعب مصر أنها معركة تليفزيونية. وانه كان في استطاعته تصفيتها. بل انه ذهب إلى ابعد من ذلك عندما قام بعملية تمثيلية في مجلس الشعب في الجلسة الخاصـة بتكريم قادة حرب أكتوبر في فبراير 74. فقد ادعى في تلك الجلسة أن الجيش الثالث لم يحاصر قط ولعل الأخ الجمسي يذكر الحوار الذي دار بين السادات وبين اللواء بدوي في جـلسة مجلس الشعب (تولى اللواء بدوي قيادة الجيش الثـالث في الحصار). وإلى من لم يشهد تفاصـيل هذه الجلسة من جيل الشباب على التليفزيون، فإني أذكر بعضا مما دار فيها من حوار:
السادات: الجيش الثالث كان محاصرا يا بدوي؟ .
بـدوي: لا يا أفندم.
السادات: الأكل كان بيوصلكم بانتظام يا بدوي.
بـدوي: ايوه يا أفندم.
كان الراديو والتليفزيون يذيعان هذا الحفل على الهواء. وكان السادات يعلم وهو يدير هذا الحوار بأنه يكذب على شعب مصر وكـان يعلم أن مليون ضابط وجندي في القوات المسلحة - وعن طريقهم يعلم شعب مصر بأكمله- يعلمون أن الجيش الثالث كان محاصراً اعتباراً من يوم 23/ 10 وانه بقي في الحصار أكثر من ثلاثة اشهر إلى أن تم التوصل إلى فك الحصار في إطار تسوية سلمية. كان هذا هو الوجه الذي يواجه به شعب مصر. أما الوجه الآخر الذي يواجه به أمريكا بخصوص هذه المشكلة فقد كـان شيئا آخر. بينه كان يعلـم أن قواتنا التي تحيط بالثغرة- كما يبدو من خطاب الضمان الذي يطلبـه من أمريكا- غير قادرة على فك حصار الجيش الثالث.
ونخلص من كل ذلك إلى أن اختراق العدو لمواقعنا في منطقة الدفرسوار لم يكن معركة تليفزيونية. بل إن الاحـتفال الذي أقامه السادات في مجلس الشـعب في فبراير 1974، كان هو المعركة التليفزيونية الحقيقية التي يعلم العالم اجمع بزيفها.
الشرق لن يتأثر
يقول الجمسي في تعليقه على اقتراح الشاذلي ليلة 20/21 أكتوبر بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب انه يترتب عليه اهتزاز دفاعات قواتنا في الشرق، الأمر الذي لا يمكن قبوله (الجمسي/ يوميات حرب أكتوبر/ ص 199). وهذا القول لا يستند إلى أي دليل. بل انه يتعارض مع كل ما نقوم بتدريسه لأبنائنا من الضباط والقادة في معاهدنا العسكرية.
لقد روعي عند وضع تنظيم الفرقة المشاة المصرية قبل حرب أكتوبر أن يكون لديها القدرة -وبدون أي دعم خارجي- على صد هجوم تقوم به فرقة مدرعة إسرائيلية تضم ثلاثة ألوية مدرعة قوامها 360 دبابة. فإذا علمنا انه سيبقى لدينا في الشرق بعد سحب هذه الألوية المدرعة 5 فرق مشاة وفي مواجهتها ثلاثة ألوية مدرعة إسرائيلية فقط. فكيف يستقيم القول بان سحب هذه الألوية المدرعة يمكن أن يؤدي إلى اهتزاز دفاعاتنا في الشرق. قد يقال أن فرق المشاة قد تحملت بعض الخسائر خلال الأسبوعين الماضيين وهذه حقيقة. ولكن يقابلها أيضا أن الألوية المدرعة الإسرائيلية هي الأخرى قد تحملت خسائر قد تكون نسبيا اكثر من الخسائر التي تحملتها قواتنا. وبالإضـافة إلى ذلك فإني أقول إلى الأخ الجسمي: كيف تخـشى على من هو أقوى ولا تخشى على من هو اضعف ألا تخشى على الموقف في الغرب بعد أن اصبح للعدو ثلاث فرق مدرعة تضم 6 ألوية مدرعة في مقابل فرقة مدرعة مصرية تضم لواءين مدرعين؟ وان هذه القوات المدرعة الإسرائيلية أصبحت تهدد بعزل قواتنا في الشرق؟.
وردا على من يقول أن العدو قد يلجا هو الآخر-إذا نحن سحبنا ألويتنا المدرعة من الغرب- إلى سحب ألويته المدرعة من الغرب إلى الشرق فيصبح له 9 ألوية مدرعة في الشرق وبذلك يزداد تهديده لقواتنا في الشرق. فإني أقول لهم: ليته يفعل ذلك. حيث أن ذلك يعني أننا نجحنا في تصفية الثغرة بالمناورة بالقوات وبدون قتال، وفي نفس الوقت فأن هذه الألوية المدرعة الإسرائيلية التسعة لا يمكن أن تشكل خطورة على 5 فرق مشاة تستطيع كل واحدة منها أن تصد 3 ألوية مدرعة إسرائيلية كما سبق أن أسلفت.
والذي يؤكد سلامة وقدرة فرق المشاة على التمسك بمواقعها وصد هجمات العدو المدرعة دونما حاجـة إلى تدعيمها بألوية مدرعة هو القرار الذي اتخذه أحمد اسماعيل بعد وقف إطلاق النار. فعلى الرغم من أن العدو قد دفع إلى الجبهة المصرية بأربعة ألوية مدرعة جديدة ليصبح أمام الجبهة المصرية 12 لواء مدرعا إسرائيليا (كان 6 ألوية مدرعة منها غرب القناة و 6 ألوية أخرى شرق القناة). إلا أن احمد اسماعيل لكي يوفر القوات اللازمة لتنفيذ الخطة "شامل" -التي كثر الحديث الإعلامي عنها- فإنه أمر بسحب جميع الألوية المدرعة من الشرق إلى الغرب وهو نفس ما كان يطالب به الشـاذلي يوم 20 من أكتوبر (الفرقة 21 مدرعة وبها ل1م، ل14م+ ل24م الذي كان تحت قيادة الفرقة المشاة الثانية)، ولم يكن من الممكن سحب اللواء المدرع الذي كان في الجيش الثالث بعد أن دخل الجيش الثالث بجميع قواته داخل الحصار اعتبارا من 24 من أكتوبر. ألا ترى يا أخ جمسي أن قرار سحب الألوية المدرعة من الشرق إلى الغرب لتوفير القوات اللازمة للخطة شامل، يعتبر اعترافا من احمد إسماعيل وممن يؤيده في هذا القرار بأن فرق المشاة التي في الشرق لديها القدرة على صد أي هجمات يقوم بها العدو؟ (انظر توزيع الألوية المدرعة الإسرائيلية في الملحق المرفق بهذا الفصل).
ولكن للأسف الشديد فإن قرار احمد اسماعيل جاء متأخرا حوالي أسبوعين عن التاريخ الذي اقترح فيه الشاذلي الأخذ بهذا القرار!!
حول مؤتمر القيادة يوم 20
يلومني بعض النقاد بأنني لم أتكلم خلال المؤتمر الذي عقد في المركز 10 مساء يوم 20 من أكتوبر. ولكي أوضح لهم وللقراء السبب في ذلك فإنه يتحتم علي أن اشرح لهم أسلوب إدارة المؤتمرات التي تعقدها القيادة العامة للقوات المسلحة لمناقشة الخطط العسكرية والتصديق عليها. فهذه المؤتمرات تعقد إما تحت رئاسة القائد العام للقوات المسلحة أو تحت رئاسة رئيس الجمهورية، ويحضرها رئيس الأركان ورئيس هيئه العمليات ومدير المخابرات الحربية وقادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحـة (القوات الجوية، القوات البحرية ، قوات الدفاع الجوي)، وقد يدعا إليها عدد اَخر من الرؤساء والقادة إذا دعت الضرورة إلى ذلك. ويقوم رئيس المؤتمر بطلب الكلمة من الحاضرين واحدا بعد الآخر حيث يتكلم كل منهم في تخصصه فقط ويكون أول المتكلمين هو مدير المخابرات حيث يتكلم عن آخر المعلومات عن العدو من حيث حجم قواته وأماكن تمركزها الخ.. ثم يصل في النهاية إلى استنتاج نواياه المستقبلية. ثم يتكلم بعد ذلك المشاركون في المؤتمر طبقا لما يشير إليه رئيس المؤتمر. ولا يجوز لأي من هؤلاء المشاركين أن يتحدث إلا في تخصصه فقط فعلى سبيل المثال لا يتكلم قائد القوات الجوية إلا فيما يتعلق بموقف القوات الجوية. ولا يتكلم قائد قوات الدفاع الجوي إلا فيما يتعلق بموقف قوات الدفاع الجـوي.. الخ. وبعد أن يستمع القائد العام إلى تقارير الرؤساء فإنه يطلب من رئيس الأركان التقدم بالخطة المقترحة… حيث إن رئيس الأركان هو الوحـيد الذي له الحق في تقديم الخطة المقترحـة على ضوء تقارير الموقف الذي تقدم به الرؤسـاء وبعد أن يدلي رئيس الأركـان بالخطة المقترحة يصـدر القائد العام أو رئيس الجمهورية- إذا كـان حاضرا- قراره ويكون إما "تصـدق" ويعني التصـديق على الخطة المقدمة من رئيس الأركان. وإما "تصدق فيما عدا كذا.." أو أنه يرفض الخطة المقترحة ويصدر قرارا جديدا. وبعد أن يصدر القرار فإنه يجب على الجميع أن يلتزموا بتنفيذه.
وحيـث أن هذا الأسلوب يحتـاج إلى كثير من الوقت فإنه وان كان ضروريا في وقت السلم وأثناء تحضير الخطط الحربية قبل اندلاع العمليات الحربيـة، إلا أننا لا نلتزم به أثناء الحرب، لما قد يسببه ذلك من تعطيل في اتخاذ القرارات وحيث أن رؤساء الأفرع الرئيسية يقومون بإخطار رئيس الأركان بالأحداث فور وقوعها فإن رئيس الأركان ليـس في حاجة إلى الدعوة لمثل هذا المؤتمر قبل أن يتقدم للقائد العام بالخطة المقترحة. وإن كان ذلك لا يمنع من القيام بالاستماع إلى واحد أو اثنين من هؤلاء الرؤساء عن طريق حـديث تليفوني أو عن طريق استدعائه للتشاور معه. والدليل على ذلك هو أن مؤتمر يوم 20 من أكتوبر هو المؤتمر الوحيد الذي عقد خلال فترة العمليات، وذلك على الرغم من عشـرات القرارات التي اتخذت قبل وبعد هذا التاريخ.
ولكي اذكّر النقـاد والقراء، اكرر أني أنا الذي طالبت باستـدعاء رئيس الجمهورية مساء يوم 20 ليفصل بيني وبين احـمد إسماعيل حول الخطة التي اقترحتها على احمد إسماعيل والتي كانت تقضي بضرورة سحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب حـتى نتمكن من القضاء على الثغرة. إذن فقد كانت هناك خطة اقترحها رئيس الأركـان ولم يوافق عليها القائد العام. ونظرا للخطورة التي كنت أتوقعها إذا لم تنفذ الخطة التي اقترحتها، فقد رأيت أن أمن مصر وسلامة القوات المسلحة هي اكبر من أن يتركا في يد القائد العام وحده. ولذلك طالبت باستدعاء رئيس الجمهورية لكي أضعه أمام مسئوليته التاريخية.
واذكّر القراء أيضا بان السادات بعد حضوره إلى المركز 10، انفرد مع احمد اسماعيل والمهندس أحمد عبد الله حوالي ساعة. ولاشك انه سمع خلال تلك السـاعة عن الخطة التي يقترحـها الشاذلي، حيث إنه حضـر خصيصا لذلك، ولاشك أنه ناقش أيضـا مع القائد العام الحلول البديلة لخطة الشاذلي. وأنه وصل في النهاية إلى قرار قبل أن يدخل غرفة العمليات.
وتؤكد ذلك تصرفات السادات التالية:
* فهو لم يطلب من الشاذلي أن يعرض خطته لأنه سمعها من احمد إسماعيل. وبالتالي فإنه لم يكن في حاجة إلى سماعها مرة ثانية.
* انه بعد انتهاء المؤتمر وعودته إلى قصر القاهرة ابلغ السيد حافظ اسماعيل بأنه اتخذ قرارا بطلب وقف إطلاق النار وطلب إبلاغ ذلك إلى كل من الاتحاد السوفيتي والرئيس حافظ الأسد، وقد أكد حافظ اسماعيل هذه الواقعة في كتابه الذي صدر في عام 1987 (محمد حافظ إسماعيل/ أمن مصر القومي في عصر التحديات/ ص 344). ويقول حافظ إسماعيل إن السادات قد أعطى مبررا لذلك انه لا يسـتطيع أن يحارب أمريكا. (المؤلف لم اعرف أن السادات طالب بوقف إطلاق النار بعد عودته مباشرة من المركز 10. إلا بعد أن توقف القتـال. وهذا يؤكد أنه أتخذ قرارا بطلب وقف اطلاق النار بعد التشاور مع أحـمد إسماعيل قبل أن يجتمع بنا في غرفة العمليات).
* إنه ذكـر في كتـابه البحث عن الذات أنه اتخـذ قراراً بعزلي من منصب رئيس الأركـان اعتبارا من يوم 19 من أكـتوبر (ومع أن الحـقيقة هي أني بقيت أمارس مسئولياتي كرئيس للأركان حـتى يوم 12 ديسمبر. ومع أن التاريخ الحقيقي للمؤتمر هو يوم 20. فإن المعنى الحـقيقي لما ورد على لسان السـادات هو أنه عزلني لأنه لم يوافق على الخطة التي اقترحتها. وهذا يؤكد أن السادات استمع إلى خطتي من احمد إسماعيل قبل حضوره غرفة العمليات يوم 20 من أكتوبر).
لقد طالبت باستدعاء السـادات إلى المركز 10 يوم 20 ليفصل في الخـلاف بيني وبين القائد العام. وقد استمع واتخذ القرار. وإذا كـان قد حاول بعد الحرب أن يبرر قراره بأنني طالبت بسحب كل قواتنا من الشرق، فهذه أكذوبة كبرى كتبها الجمسي في كتابه وسبق أن كتبها حسني مبارك ومحمد على فهمي في حديث لهما مع الصـحفي موسى صبري في أوائل عام 1974.
الحرب ضد أمريكا
"السادات بياع شاطر". فهو عندما يريد أن يخـفي خطأ ارتكبه أو عندمـا يريد أن يبرر قرارا لا يقبله المنطق. فإنه يلجأ إلى تغليف ذلك في سلسلـة من الأكاذيب. فإذا نحـن قرانا تصريحـاته وما نشره في كتابه البحث عن الذات، ثم قارنا ما جاء في هذا الكتاب مع ما جاء في كتب ومذكرات القادة التي نشرت بعد وفاته، فإننا نجد أن السادات ارتكب الكثير من الأكاذيب التي يظهر فيـه العمد واضحا. وسوف أورد بعضها قبل أن انتقل إلى مناقشة موضوع الحرب ضد أمريكا:
* ادعى أن السوفيت لم يعطونا السلاح والعتاد، وان مصر هي التي قامت بتصنيع الكباري التي عبرت عليها قواتنا المسلحة يوم 6من أكتوبر، وان الاتحاد السوفيتي لم يكن يطلعنا على المعلومات التي تلتقطها أقمارهم الصناعية عن إسرائيل. وكان السادات بهذه الأكاذيب يمهد الطريق للارتماء في أحضان أمريكا.
* ادعى أنني ذهبت إلى الجبهة يوم 16 من أكتوبر، وأنني عدت منها يوم 19 من أكتوبر، وأنني قد قضيت يوما كاملا في إنشاء قيادة أنافس بها غريمي أحمد اسماعيل، وقد أكد كل من الجمسي وعبد المنعم خليل أنني ذهبت إلى الجبهة مساء يوم 18 وعدت منها يوم 20 من أكتوبر. وأنني لم أنشي أي قيادة خاصة بي، بل كنت أمارس القيادة والسيطرة من قيادة الجيش الثاني. وكان السادات يهدف من جراء التلاعب بهذه التواريخ أن يلقي على الشاذلي تبعة عدم القضاء على الثغرة بحيث أن العدو يوم 16 كان يقدر بحوالي لواء مشاة وكتيبة دبابات، في حين انه كان قد اصبح مساء يوم 18 أي وقت وصول الشاذلي- فرقتين مدرعتين بهما 5 ألوية مدرعة ولواءان مشاة.
* ادعى أنني عدت منهاراً من الجبهة وأوصيت بسحب كل قواتنا من الشرق. ولكن الجمسي أكد أنني لم اكن منهاراً عند عودتي من الجـبهة وأنني فقط طالبت بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق حتى يمكن التصدي بها للعدو في منطقة الدفرسوار في الغرب. وكان السادات يرمي من وراء هذه الأكذوبة أن يبيع إلى الشعب قراره الخاطئ عن طلب وقف اطلاق النار وهو في موقف الضعف. فكأنه يريد أن يقول للشعب "الشاذلي يريد أن يسحب كل قواتنا، أما أنا السادات فإني نجحت من خلال اتفاقية فض الاشتباك في أن احتفظ بقوات في شرق القناة تقدر بحوالي 7000 ضابط وجندي".
* ادعى في كتابه (ص 349) بأنه عزلني من منصبي يوم 19 من أكتوبر في حين أنني بقيت في منصبي حتى 12 من ديسمبر 73. ويؤكد ذلك القرار الجمهوري الذي صدر بنقلي إلى وزارة الخارجية. وكان السادات يريد أن يربط بين قرار العزل والادعاء الباطل الذي إفتراه علي بأنني أطالب بسحب جميع قواتنا من الشرق.
* ادعى أن مؤتمر القيـادة عقد مساء يوم 19، وانه طلب في نفس الليلة السفير السـوفيتي ليبلغه بقراره الخاص بوقف اطلاق النار، في حين أن الحقيقة هي أن مؤتمر القيادة كان مساء يوم 20 واستمر حتى منتصف الليل، وبالتالي فإنه قراره بطلب وقف اطلاق النار كان في الساعات الأولى ليوم 21. وقد أكد ذلك حافظ إسماعيل في كتابه في الصفحة 345. كما أكد ذلك حسنين هيكل (هيكل/ أكتوبر 73/ ص 518). وقد لجأ السادات إلى التلاعب في هذه التواريخ حتى يتماشى ذلك مع كذبة أخرى قالها أثناء انعـقاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 21 من نوفمبر 73، والتي قـال فيها: إن ليلة 18/ 19 هي سبب كل المشكلات التي حـدثت ولو أننا عملنا بحسم وقوة خلال تلك الليلة لأمكننا القضاء على الثـغرة (راجع الفصل السابع والثـلاثين) وكان السادات يرمي من وراء هذه الكذبة تحميل مسئولية الثغرة على الشاذلي وقت أن كان في قيادة الجيش، وكان يتحتم على السـادات أن يربط بين هذه الكـذبة وبين تاريخ عودة الشـاذلي وتاريخ طلبـه وقف إطلاق النار.
* بعد التوقيع على اتفاقية فض الاشـتباك في 17/ 1/ 74، وبعد أن فك حصـار الجيش الثالث، دعا السادات مجلس الشعب للانعقاد ودعا إلى هذه الجلسـة العميد احـمد بدوي قائد الجيش الثالث الذي كان في الحصار واخذ يستنطقه أمام أعضاء المجلس بأن الجيش الثالث لم يكن محاصرا. بينما كان العالم اجمع والكثير من أبناء الشعب المصري يعلمون أن السادات كان يكذب في غير خجل أو حياء.
* لكي يقنعني بقبول منصب سفير مصر في لندن، اخبرني بان هناك اتفاقا سريا للحصول على أسلحـة من ألمانيا الغربية، وان منصـبي سفيرا في لندن هو فقط للتغطيـة. ولكن سأكون مسئولا عن الإشراف على هذا الموضوع. فقبلت على أساس إن خدمتي سفيرا ستكون امـتدادا لخدمتي في القوات المسلحة. ولكن بعد أن ذهبت إلى لندن اكتشفت أن القصة بأكملها كانت من خيال السادات.
* نعود بعد ذلك إلى الشعـار الذي رفعه السادات أنا غير مستـعد لأن أحارب أمريكا. إنه شعار قد يصادف هوى لدى الذين ينفرون من الجهاد إن العلاقة الخاصة التي تربط بين إسرائيل والولايات المتحدة هي علاقة وطيدة يعلمها العامة والخاصة منذ عشرات السنين. فأمريكا تمد إسرائيل بأحدث الأسلحة والمعدات. وتمدها بالتكنولوجيا الحديثة. وتقدم لها المساعدات الماليـة والتي يقدر المنظور منها- عسكريا واقتصـاديا- بحوالي 4000 مليون دولار سنويا. أما إذا أضيف إلى ذلك المساعدات والمكاسب غير المنظورة فإن الرقم يرتفع إلى حوالي 10000 مليون دولار سنويا!!! وبالإضافـة إلى ذلك فإن أمريكا تسمح لمن يرغب من اليهود الأمريكيين بان يحتفظ بالجنسية المزدوجـة الأمريكية والإسـرائيلية. وبالتالي فإن الكثير من اليهود الأمريكيين مدرجون في كشوفات الضـباط والجنود الاحتياطي في الجيش الإسرائيلي ويتم استدعاؤهم للخدمة في إسرائيل عندما تعلن إسرائيل التعبئة العامة. ولعل هذه المعلومات هي التي دفعت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى التقارب مع الاتحاد السوفيتي منذ حوالي 40 سنة لكي يخلق نوعا من التوازن بين التأييد الأمريكي لإسرائيل والتأييد السوفيتي لمصر.
* ولايمكن لمنصف أن يقلل من حجم ونوعية الأسلحة والمعدات الفنية الحـديثة التي قام الاتحاد السوفيتي بإمدادنا بها قبل وأثناء الحرب. وفيما عدا القوات الجوية، فقد كان لدينا قبل حرب أكتوبر أسلحة ومعدات لاتقل حجما ونوعية عما تملكه إسرائيل. وعندما اندلعت الحرب أقام الاتحاد السوفيتي جسرا جويا وبحريا نقل خلاله 78000 طن إلى مصر وسوريا، وأقامت أمريكا هي الأخرى جسراً جوياً وبحرياً نقلت خلاله 61105 أطنان إلى إسرائيل (راجع الفصل الرابع والعشرين).
* إن السادات يريد أن يقول أن الجسر الجوي الأمريكي هو السبب الرئيسي الذي دفعه إلى المطالبة بوقف اطلاق النار. وأني أقول هذه مغالطة فلولا تدخل السادات في إدارة العمليات واستجابة احمد اسماعيل لهذه التدخلات لما تأثر موقفنا بهذا الجسر الأمريكي، ولأصبح في استطاعتنا أن نطيل أمد الحرب إلى عدة اشهر أخرى وهو مالا تستطيع إسرائيل أن تتحمله. حيث كان هذا هو جوهر الخطة التي دخلنا بها الحرب.
* وتحت شعار لا أستطيع محاربة أمريكا دعا السادات إلى لقاء مصغر في قصر القاهرة مساء يوم 22 أكتوبر 73. وحضر هذا اللقاء: مساعدا الرئيس، نواب رئيس الوزراء، حافظ اسماعيل. وقال لهم: إن الإسرائيليين قد حققوا التفوق نتيجة تدفق الإمداد الأمريكي، وان استمرارنا في القتال سوف يترتب عليه تدمير قواتنا. وأننا لا نستطيع أن نحقق تحرير سيناء عسكريا. وإنه سوف يعمل على عدم تصعيد الموقف العسكري حاليا، بينما يستمر في استخدام البترول كسلاح ضغطه ورغم أن ذلك هو ابعد ما يكون عن الحقيقة، إلا أن أحد الحاضرين بلغ من اقتناعه بتلك الأكاذيب أن اقترح على الرئيس بأن يحاط صغار الضباط والجنود علما بان قيادتهم العسكرية هي التي طلبت وقف اطلاق النار. (حافظ اسماعيل/ أمن مصر القومي/ ص 348, 349). ورغم أن حافظ اسماعيل يستطرد فيقول: إن السادات لم يستجب لهذا الاقتراح. إلا أن الاتهامات الباطلة التي وجهها السادات إلى الشاذلي فيما بعد والتي اتهمه فيها بأنه طالب بسحب كل قواتنا من الشرق تؤكد أن اقتراح هذا الانتهازي الذي حضر هذا الاجتماع، قد صادف هوى لدى السادات. وكان هدف السـادات من كل ذلك هو التستر على الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها خلال تلك الحرب. وهذه هـي طبيعة السادات إنه يقول شيئا، ولكنه يفعل شيئا آخر. ولقد استطاع بهذا الأسلوب أن يخدع الكثير من الناس بما في ذلك اقرب المقربين إليه. وعندما تتضح أعماله الشريرة أمام ضحاياه الذين خـدعهم، يكون هو قد حقق مآربه، ولم يعد في حـاجة إلى إخفاء نواياه التي يقدم لها اكثر من مبرر... ثم يجد من بين بطانته من يدافع عن تلك التصرفات الشريرة.
الثغرة بعد وقف اطلاق النار
يقول السادات في الصفحة 355 من كتابه البحث عن الذات ما يلي:" في ديسمبر 1973 كنت مستعدا لتصفية جيب الثغرة. ولكن الخطر الذي كان أمامي كان تدخل أمريكا. ففي 11 من ديسمبر جاء كيسنجر وقلت له أنا مش مستعد أقبل الأسلوب اللي هم ماشيين به ده وأنا حصفي الثغرة. قال لي أنا قبل ما احضر إليك عارف إنك جاهز. أنا طلبت صورة الموقف من البنتاجـون فأعطوني تقريرا كاملا.. حائط صواريخك يتكون من كذا بطارية. دباباتك حول الثغرة 800 دبابة. مدافعك عددها كذا. وتستطيع فعلا أن تصفي الثغرة. ولكن اعلم أنك إذا فعلت هذا سيضربك البنتـاجون. سيضـربك البنتـاجون لسـبب واحد. وهو أن السـلاح الروسي قد انتصر على السـلاح الأمريكي مرة ولن يسمح له في الاستراتيجـية العـالمية بتاعتنا أن ينتصر للمرة الثانية"، ثم عاد السادات في الصفحة 389 فأضاف أن كيسنجر قال له " إن دبابات إسـرائيل داخل الثغرة 400 وأنت لديك 800 دبابة حـولها. ولديك صـاروخ ونصف الصاروخ تقـريبا لكل دبابة ، وأنت فعلا تستطيع أن تصـفي الثغرة بهذه القوات". ويستطرد السادات فيقول في نفس الصـفحة 389 إنه خلال مؤتمر جنيف الذي عقد في 21 من ديسمبر اتفق السادات و كيسنجر على فض الاشتباك في يناير 74. والذي يلفت نظري من كل ذلك ما يلي:
* إن السادات يريد أن يوهم الشعب العربي بان مصـر كانت قادرة على تصـفية الثـغرة. ولأنه يعلم انه كذاب اشر، فإنه يريد أن يبعث الثقة في نفس القارئ أو المستمع بزعم أن هذه الأرقام مصدرها الأقمار الصناعية الأمريكية. وحتى لو افترضنا جدلا صحة الرقمين اللذين ذكرهما السادات فهناك عشرات الأرقام الأخرى التي يجب علينا معرفتها قبل أن نقرر ما إذا كان لدينا القدرة على تصفية الثغرة أم لا.
* العقل والمنطق يقولان لو إن إسرائيل أو أمريكا تشك ولو بنسبـة واحد في الألف في أن السادات في نيته تصفية الثغرة عسكريا، لكان أسهل الإجراءات لديها هو أن تمنع مرور الإمدادات إلى الجيش الثالث وكـما قال الأخ أمين هويدي فهذه هي أول مرة نسمع فيها أن الفريسة هي التي بيدها السماح بمرور الأكل إلى الصياد.
* إن السـادات يعلم جيدا أنه لا يستطيع أن يبيع هذا الوهم إلى أمريكا أو حتى الاتحـاد السوفيتي. ولذلك فقد كـان هدفه من كل ذلك هو أن يبيع هذا الوهم إلى قادة القوات المسلحـة. آسف إلى بعض قادة القوات المسلحة. ولذلك فإننا نراه يزعم- كما يقول في صفحـة 357 -أنه عقد في يوم 24 من ديسـمبر مؤتمرا لمناقشة خطة تصفية الثغرة!! ويبدو أن الجمسي الذي كـان قد اصبح رئيسا للأركان اعتبارا من 13 من ديسمبر 73، كـان من بين من صدقوا ما يعلنه السـادات عن نيته تصفيـة الثغرة.. حيث انه (أي الجمسي) كما ذكر في صفحة 481 من مذكراته، لم يسـتطع أن يحبس دموعه عند التوقيع على اتفاقية فض الاشتباك في 17 من يناير 74.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو "ماذا كان يمكن أن يحدث لو وافق احمد اسماعيل والسادات على اقتراح الشاذلي بسحب الأربعة ألوية المدرعة ؟ الإجابة من وجهة نظري هي أنه من المؤكد أننا كنا سنكون قادرين خلال يومي 21 و 22 من أكتوبر على حصار الثغرة ومنع انتشـارها. ثم ندخل معه بعد ذلك في معارك تصادميـة اعتبارا من يوم 23 أكتوبر تمهيدا لتدميره بعد ذلك والذي يلفت النظر حقا انه بعد حوالي أسبوع من وقف إطلاق النار.وبعد أن كان العدو قد أتم حصار الجيش الثالث ومعه أحد الألوية المدرعة التي كان الشاذلي يريد سحبها، اصدر القائد العام أمرا بسحب الألوية المدرعة الثلاثة الباقية -التي كانت مع الجيش الثاني- من الشرق إلى الغرب ولكن التأخير في اتخاذ هذا القرار، وتنفيذه في ظل حصار الجيش الثالث ومدينة السويس وهما رهينتان غاليتان في يد العدو، كان يحد كثيرا من إمكان الاستفادة بها. ولعلنا نتعلم من ذلك درسا مهما وهو أهمية القرار المناسب في الوقت المناسب.
الفصل الحادي والأربعون: الأخطاء القيادية الجسيمة
* أطالب بإلغاء منصب القائد العام للقوات المسلحة. هذا المنصب الذي لا نجد له مثيلا إلا في دول العالم الثالث المتخلفة.
* لو أن السادات لم يرتكب أي جريمة في حق الوطن سوى أنه عين أحمد اسماعيل قائدا عاما للقوات المسلحـة وهو يعلم انه كان مريضا بالسرطان، لكان ذلك دليلا كافيا لإدانته بارتكاب جريمة الخيانة العظمى في حق الوطن.
* إن القائد الذي يخشى أن يسحب جزءا من قواته من القطاعات الغير مهددة للزج بها في القطاعات المهددة بحجة أن ذلك قد يؤثر على الروح المعنوية. هو قائد انهزامي ولن ينجح قط في تحقيق أي نصر في أي معركة.
* لقد عارض السادات واحمد إسماعيل اقتراح الشاذلي بسحب الفرقة الرابعة المدرعة واللواء 25 المدرع من الشرق إلى الغرب يوم 16، ولكنهما قاما بسحب الفرقة الرابعة المدرعة يوم 18. وعارضا اقتراح الشاذلي بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب يوم 20، ولكنهما قررا الأخذ بهذا الاقتراح يوم 28 أكتوبر. وفي الحالتين جـاء القرار متـأخرا ولم يحقق الهدف من هذه المناورات.
* لماذا لم تشكل لجنة قضائية عليا حتى الآن لتقصي الحقائق عن حرب أكتوبر، كـما حدث في إسرائيل، وكما يحدث في جميع الدول المتحضرة في أعقاب كل حرب؟.
* لماذا يخشى السادات قبول دعوة الشاذلي إلى مناظرة علنية كبديل مؤقت للجنة تقصي الحقائق؟
التستر على الخطأ جريمة
فكرت كثيرا قبل أن اختار عنوان هذا الفصل "الأخطاء القيادية الجسيمة". وكان العنوان الذي في رأسي أول الأمر هو "أخطاء أحمد اسماعيل والسادات" ، حيث انهما هما اللذان ارتكبا تلك الأخطاء دون غيرهما. غير أن المناقشات والتصريحات التي أدلى بها بعض القادة وبعض المحللين العسكريين بعد الحرب كان بعضها يؤيد هذه الأخطاء. وحيث أن تلك الأخطاء التي سوف اسردها تتعارض مع أصول العلم العسكري وما نقوم بتدريسـه لأبنائنا في الكليات والأكـاديميات العسكرية، فقد خشيت أن يقتنع بعض القادة الحاليين وبعض طلاب العلوم العسكرية بتلك الأخطاء فتكون مصيبة كبرى بالنسبة لمستقبل مصر والبلاد العربية.
ولذلك فقد اخترت العنوان الذي ذكرته ليكون في نفس الوقت ردا لكل من يؤيد تلك الأخطاء بالصمت أو بالكلمة.
عدم المحافظة على الغرض
المحافظة على الغرض مبدا أساسي من مبادئ الحرية بل أنها هي المبدأ المحوري الذي تتأثر به جميع مبادئ الحرب الأخرى. ولذلك فإن المهمة التي تخصص للقوات المسلحة يجب أن تكون واضحـة، وان تكون في حدود إمكـاناتها. وحيث أن الحرب هي امتداد للسياسة بوسيلة أخرى، فإن القيادة السياسية هي التي تخصص المهمة التي تكلف بها القوات المسلحة.
ولكن القيادة السياسية تلجأ عادة إلى مناقشة هذه المهمة مع القادة العسكريين قبل إصدارها حتى تضمن إمكان نجاح القوات المسلحة في تنفيذها. ومنذ اليوم الأول لميلاد أول خطة هجـوميـة "المآذن العالية" في شهر أغسطس 1971، كانت القيـادتان السيـاسيـة والعسكرية على قناعة بحقائق ثلاث: هي تفوق العدو الساحق في مجال القوات الجوية. تفوق العدو علينا في مجال الحرب البرقية خفيفة الحركة BLITZ KRIEG كنتيجـة حتمية لتفوقه في القوات الجوية وفي وسائل الاتصال المؤمنة في الجو والأرض.والثالثة و الأخيرة هي أن أمريكا تؤيد إسرائيل تأييدا مطلقا سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وفي ظل هذه الحقائق كـان يجب أن يكون الهدف متواضعا. حـتى أن الرئيس السادات كان يقول في مؤتمرات القادة قبل الحرب "أريد منكم أن تنجحوا في احتلال عشرة سنتيمترات على الضفة الشرقية وان تحتفظوا بها. وسوف يؤدي ذلك إلى تعديل كبير في موازين القوة سياسيا وعسكريا".
وفي ظل هذه الحقائق وضعت خطة المآذن العالية التي كان هدفها هو عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف واحتلال من 10-12 كيلومتراً شرق القناة وفي خلال الفترة من أغسطس 71 حتى أكـتوبر 73، زاد حجم ونوعية قواتنا المسلحة، ولكن كانت تقـابلها أيضا زيادة في حـجم ونوعية قوات العدو. وبالتالي فإن الحـقائق الثـلاث التي أدت إلى الخطة الهجومية بقيت كما هي، وبالتالي فإن الهدف المحدد للقوات المسلحة بقي كما هو. كان كل ذلك يتم شفويا بين القيادتين السياسية والعسكرية، ولكـن أحمد إسماعيل بطبيـعته الحذرة طلب من القيادة السياسية أن تحدد مهمة القوات المسلحة في وثيقة مكتوبة. فأصدر السادات في الأول من أكتوبر 73 توجيها إلى القائد العام يحدد له مهمة القوات المسلحة والتي كانت كما يلي "تحـدي نظرية الأمن الإسرائيلي، وذلك عن طريق عمل عسكري حسب إمكانات القوات المسلحة، يكون هدفه إلحاق اكبر قدر من الخسائر بالعدو، وإقناعه أن مواصلة احتلاله لأراضينا تفرض عليه ثمنا لا يستطيع دفعه. وبالتالي فإن نظريته في الأمن- على أساس التخويف النفسي والسياسي والعسكري- ليست درعا من الفولاذ يحـميه الآن أو في المستقبل".
وكـان هذا يتماشى تماما مع جوهر خطة "المآذن العـالية" التي تغير اسـمها ليصبح "جرانيت-2" ثم "بدر". وبحلول يوم 9 من أكتوبر عام 1973 كـانت القوات المسلحـة قد حققت المهمة التي كلفت بها. فقد نجحت في خلال 18 ساعة في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف. وفي خـلال ألـ 48 ساعة التاليـة كانت قد نجحت في صـد جميع الهجمات المضادة التي قـام بها العدو. واعتبـارا من يوم 10 من أكتوبر كـان العدو يقف يائسـا أمام قواتنا الصامدة. لقد كانت خطتنا تهدف إلى وضع العدو أمام خيارين، كلاهما مر بالنسبة له وكلاهما حلو بالنسبة لنا. كان الخيار الأول :هو أن يقوم بهجمات مضـادة على قواتنا، وقد اتبع هذا الخيار يومي 8 و 9 ولكنه فشل في تحقيق أي نجاح. واعتبارا من يوم 10 بدأ يلجأ إلى الخيـار الآخر وهو التوقف عن شن هجـمات مضادة قوية. كانت المبـادأة بأيدينا، وكان العدو يتصرف كما نريد له أن يتصرف طبقا للخطة.
ولو أن القائد الـعام تمسك بمبدأ المحـافظة على الغرض لكان في إمكاننا أن نبقى في هذا الوضع عدة اشهر، بينما لا يستطيع العدو أن يتحمل هذا الوضع بضعة أسابيع، فلم يكن من الصـواب إذن أن ننسى تفوق العدو علينا في القوات الجـوية وفي أسلوب الحـرب البرقية (الحقيقتان الأولى والثانية) وان ندفع بقواتنا في عمق سينـاء ولم يكن من المقبول أن يبرر السادات أخطائه بالقول "إني لا أستطيع أن أحارب أمريكا" . فقد كنا نعلم مسبقا أن أمريكا سوف تؤيد إسرائيل سياسيا وعسكريا كما فعلت في الحروب السابقة (الحقيقة الثالثة). ولو أننا التزمنا بمبدأ المحافظة على الغرض لما استطاعت إسرائيل أن تزحزحنا عن مواقعنا شرق القناة مهما تحصل على مساعدات أمريكية.
عدم المناورة بالقوات
المناورة بالقوات أيضا مبدأ مهم من مبادئ الحرب فلو افترضنا وقوع اصطدام بين جيشين متساويين في الحجم وفي المعدات وفي النوعية وفي الروح المعنوية وفي كل شيء آخر. فإن الغلبة ستكون للجيش الذي يطبق قائدة مبدأ المناورة بالقوات. تماما كما يحدث بين لاعبي الشطرنـج اللذين يبدآن المباراة بقطع متساوية في العدد والنوعية والمواصفات. ومع ذلك فإن النصر يكون دائما لمن يحسن تحريك قطعه ونقلها من مكان إلى مكان. فيخلق بذلك لنفسه حشدا متفوقا في الاتجاه الذي يهاجم فيه إذا كـان يشن هجوما. وإذا كان اللاعب في الدفاع فعليه إن يسـتقرئ نوايا خصمه وان يسرع بتحريك قطعه إلى الأماكن المهددة حتى يكون على أهبة الاستعداد لإفشال هجوم خصمه.
ومادمنا نقوم بتعليم أبنائنا في معاهدنا العسكرية، أن تطبيق مبدأ المناورة بالقوات هو مفتـاح النصـر في كل الحـروب على المستوى الاستراتيجي، وفي كل المـعارك الكبرى والصغرى على المستويين التعبوي والتكتيكي. فلكي تكون هناك مصداقية لما نقوله لهم، فإنه يجب علينا أن نعترف بان القائد العام للقوات المسلحة في حرب أكتوبر لم يطبق هذا المبدأ فحسب، بل إنه كان أيضا يرفض النصائح التي كـانت تقترح عليه ضرورة المناورة بالقوات. كان أحيانا يبدي تخوفا شديدا من تأثير سـحب قوات من قطاع ما على أمن وسـلامة هذا القطاع. وكان أحيانا يبدي تخوفه من أن يؤثر هذا السحب على الروح المعنوية للجند وكان أحـيانا يقول: إن الموقف العسكري العام لا يستدعي ضـرورة القيـام بهذا الإجـراء. وفي الحالات النادرة التي استجاب فيها إلى تلك النصائح فإنه كان يقوم بها بعد تردد كبير، وبعد مضي بضعة أيام تكون فيها تلك المناورة قد أصبحت عديمة القيمة. وأن واجبي الوطني يحتم على أن أوضح لأبنائنا وأحفادنا من قادة المستقبل، ما سببته لنا مواقف احمد إسماعيل المتخاذلة من مصائب مازلنا نقاسي منها حتى يومنا هذا.
- إن عدم المناورة بالقوات هو الذي أدى إلى ثغرة الدفرسوار. إن عدم المناورة بالقوات هو الذي سمح لثغرة الدفرسوار أن تتسع. إن عدم المناورة بالقوات هو الذي أدى إلى حصار الجيش الثـالث ومدينة السويس. وأن تطبيق العدو لمبدأ المناورة بالقوات، وإحجامنا عن تطبيقه، هو الذي أدى إلى أن يحقق العدو كل هذا النجاح، رغم أن قواتنا البـرية بالجبهة كانت تتفوق في الحـجم ولا تقل في النوعيـة عن القوات الإسرائيلية التي في مواجهتها. وسوف أذكر فيـما يلي تلك السلوكيات الخاطئـة التي ارتكبها أحمد إسمـاعيل... والتي أدعو قادة المستقبل إلى ضرورة تفاديها.
الحذر الشديد
كان الحـذر الشديد يدفع أحمد إسماعيل إلى زيادة حجم القوات المكلفة بالدفاع بشكل يفوق كثيرا متطلبات الدفاع، وعلى سبيل المثـال فإن الخطة الهجومية الأصلية "المآذن العالية" لم تكن تتضمن تدعيم فرق المشاة الخمس المكلفـة بالهجوم بأية ألوية مدرعة. حيث إن فرقة المشاة بما لديها من أسلحة عضوية قادرة على صد فرقة مدرعة إسرائيلية تضم ثلاثة ألوية مدرعة. وكان في تقديراتنا أن أقصى ما يمكن للعدو أن يدفعه في اتجاه الجبهة المصرية هو 8 ألوية مدرعة و 4 ألوية من المشاة الميكانيكية. وبالتالي فإنه لن يستطع تدمير قواتنا التي تعبر إلى الشرق والتي كـان قوامها 5 فرق مشاة. إن أقصى مـا يستطيع العدو أن يفعله هو أن يركز هجومه على فرقة واحدة أو اثنتين. وقد ينجح في تدمير إحدى الفرق ولكن بعد أن يكون قد فقد نصف مدرعاته وبالتالي يفقد القدرة على متابعة الهجوم، ويهيئ لنا الظروف للقيام بهجوم مضاد نستعيد به الموقف. ومع كل ذلك فقد أمر أحمد اسماعيل بتدعيم كل فرقة مشاة بلواء مدرع. وهكذا قمنا بتخـصيص 5 ألوية مدرعة للفرق المشـاة، وكان ذلك بالتأكيد على حساب الاحتياطات التعبوية والاستراتيجية التي كان يتحتم علينا الاحتفاظ بها غرب القناة. كما انه كان يتعارض مع الأسلوب الأمثل في استخدام القوات المدرعة، والذي يحذر من تفتيت القوات المدرعة، ويدعو إلى استخدامها في حشود كبيرة في المكان والوقت المناسب لحسم المعركة.
وقد كان من الممكن إصلاح هذا الخطأ المؤقت لو أننا قمنا بسحب هذه الألوية المدرعة من الشرق واعدناها إلى وحداتها الأصلية المكلفة بواجبات الاحتياطات التعبوية والاستراتيجية. وقد كـان من الممكن تحقيق ذلك اعتبارا من يوم 10 أكتوبر بعد أن تحطمت هجمات العدو المضادة يومي 8 و 9 أكتوبر. ولكن الحذر الزائد من جانب احمـد إسماعيل دفـعه إلى الإبقاء على هذه الألوية مع الفرق المشاة بل انه عندما اتخذ يوم 12 قرارا بالتطوير-رغم المعارضة الشـديدة من جـانب رئيس الأركان وقـائدي الجـيشين الثاني والثـالث- فإنه دفع بلواءين مدرعين إضافيين ولواء مشاة ميكانيكي إلى الشرق. ومرة أخرى كان من الممكن إصلاح هذا الخطأ بعد أن فشلت عملية التطوير يوم 14، وذلك بإعادة الفرقتين المدرعتين الرابعـة والحادية والعشرين إلى مواقعهما الأصلية إلى الغرب. ولكنه رفض ذلك أيضا.
عدم القدرة على التنبؤ
إن تقدير قدرات العدو هو العامل الأول في تقدير الموقف الذي يقوم به كل قائد قبل أن يتخذ قرارا سواء كان هذا القائد يقود فصـيلة أم كان يقود جيشا أم مـا هو أكثر من ذلك. ولكن بالنسبة للقادة الأصاغر فإن الفاصل الزمني بين تقدير الموقف وبين تنفيذ القرار يكاد يكون معـدوما. وبالتـالي فإن تقدير قدرات العدو خلال فترة تقدير الموقف لا تختلف عن قدراته أثناء تنفيذ القرار. ولكن الأمر يختلف كثيرا بالنسـبة للمستويات الأعلى. حيث إن الفاصل بين الوقت الذي يتخذ فيه قائد الجيش أو القائد العام للقوات المسلحة قراره وبين الوقت الذي يتم فيـه تنفيذ القرار قد يمتد إلى 24 ساعة، بل قد يمتد إلى بضـعة أيام. وفي خلال هذه الفترة سوف يتغير حتما حجم وأوضاع العدو عما كانت عليه وقت تقدير الموقف. وبالتالي فإن قادة التشكيلات الكبرى يجب أن تكون تقديرهم لقدرات العدو على أساس ما سوف تكون عليه
وقت تنفيذ قراراتهم وليس على أساس ما كان عليه العدو عند اتخاذهم القرار. وهذا يتطلب من قادة التشكيلات الكبرى أن يكون لهم القدرة على التنبؤ واستقراء نوايا العدو المستقبلية لبضعة أيام قبل حدوثها.
وللأسف الشديد فإن احمد إسماعيل لم تكن لديه القدرة على استقراء نوايا العدو. لقد اخترق العدو مواقع الجيش الثاني في منطقة الدفرسوار ليلـة 15/ 16 أكتوبر وبدأت قواته صباح يوم 16 تغير على مواقع كتائب الصواريخ المضادة سام-2، سـام-3 غرب القناة بمجموعات من الدبابات تقدر بحوالي 7 دبابات في كل إغارة وعندما ظهر لي أن قيادة الجيش غير قادرة على استعادة الموقف اقترحت في منتصف نهار يوم 16 أن نسحب الفرقة الرابعة المدرعة (كان للفرقة الرابعة لواء مدرع ولواء مشاة ميكانيكي في شرق القناة، بينما كان لها لواء مدرع في غرب القناة) واللواء 25 مدرع مستقل من الجيش الثالث إلى غرب القناة. ثم تكليف الفرقة الرابعة المدرعة بالكامل بعد تدعيمها باللواء 25 بتوجيه ضربة قوية لتصفية العدو في منطقة الدفرسوار في أول ضوء يوم 17. واعترض احمد إسماعيل على هذه الخطة قائلا: لماذا كـل هذه القوات ضد 7 دبابات وعبثا حاولت إقناعه أن قيـام العدو بالإغارة على كتائب الصواريخ بقوة 7 دبابات في كل مرة لا تعني أن كل ما يملكه من دبابات غرب القناة هو 7 دبابات؟. ثم إنه بحلول فجـر يوم 17 قد يصل حجم هذه الدبابات إلى لواء مدرع أو لواءين!. وكانت الخطة البديلة التي أمر بتنفيذها هي توجيه ضربة من الشرق يقوم بها اللواء 25 مدرع. تلك الخطة التي أدت إلى تدمير اللواء 25 مدرع (راجع الفصل 33).
التأثير المعنوي على الجنود
كان احـمد إسـماعيل يخـشى أن يؤثر سحب قوات من الشرق إلى الغرب على الروح المعنوية للقوات، وان هذا السحب قد يتـحول إلى ذعر تصعب السـيطرة عليه. وكـان ذلك انعكاسا للعقدة النفسية التي كـانت تسيطر عليه منذ هزيمة 1967. تلك العقدة التي جعلته يخلط خلطا مشينا بين انسحاب عام 67 وبين المناورة المقترحة بالقوات عام 73. فقد كانت قواتنا عام 67 تنسـحب تحت ضغط من قوات العدو البرية والجوية، وبدون أي دفاع جوي من جانبنا، وبدون أي سيطرة من القيادة العامـة للقوات المسلحة. أما المناورة بـالقوات عام 73، فقد كانت تقوم بها قوات ليست على اتصال بالعدو. وكـانت تتم تحت ستر 5 فرق مشـاه وتحت مظلة دفاعنا الجوي، وفي إطار خطة محكمة تحت سيطرة القيادة العـامة. وبالتالي فان تحرك هذه القوات كان اقرب إلى أن يكون تحركا إداريا اكثر منه إلى تحركات العمليات. وبالإضافة إلى ذلك فإن انتصارنا في اقتحام القناة قد فجر في الضباط والجنود طاقات معنوية هائلة. إن إحـجام وتردد احمد إسماعيل في المناورة بالقوات هو خطأ لايمكن قبوله تحت أي عذر من الأعذار، وإن الادعاء بأن المناورة بـالقوات ما بين شرق القناة وغربها يمكن أن تؤثر على الروح المعنوية هو ادعاء باطل وانهزامي، ومن يؤمن بهذا الادعاء فإنه لن ينجح في تحقيق الانتصار في أي حرب.
عدم اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب
كان تردد احمد إسماعيل في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب هو أسوأ صفات أحمد إسماعيل. ورغم كل ما يقدمه من مبررات، فإن ذلك يرجع أساسا إلى سببين رئيسيين الأول هو العقدة النفسية التي ترسخت في أعماقه نتيجة هزيمة 67 ونتيجة قيام عبد الناصر بإعفائه من منصبه مرتين، مما جعله يخشى المسؤولية ويتردد في اتخـاذ القرارات الجريئة. أما السبب الآخر فهو كونه كان يقود معارك على الخرائط فقط، ولم يزر الجبهة قط إلا بعد وقف إطلاق النار ببضعة أسابيع، وبعد أن أصبحت مزارا لكل الناس بما في ذلك طلبـة المدارس. وإن عدم اتصـاله بالضباط والجنود لم يسمح له بأن يلمس ما أحدثه نجاحنا في عبور قناة السويس في رفع روحهم المعنوية، وفي استعادة ثقتهم بقادتهم الذين رسموا لهم الخطط وهيئوا لهم الظروف التي مكنتهم من تحـقيق هذا النصـر. وبالتالي فإن الصـورة الكئيبة التي شاهدها عام 1967 بقيت مترسخة في أعماقه ووجدانه. فـأصبح يخلط بين المناورة بالقوات وبين الانسحاب . و بمعنى آخر يخشى أن يتطور انتقال أي قوات من الشرق إلى الغرب بهدف القتال أو تشكيل احتياطي إلى انسحاب مذعور تصعب السـيطرة عليه. وعندما يتشجـع ويتخذ القرار في النهاية يكون الوقت قد فات. وفيما يلي أمثلة على القرارات التي لم تتخذ في الوقت المناسب:
1- عدم سـحب الألوية المدرعة من الفرق المشـاة بعد نجاح العبور ونجاح قواتنا في صد جميع هجمات العدو المضادة يومي 8 و 9 من أكتوبر.
2- عدم سحب الفرقة الرابعة المدرعة والفرقة 21 المدرعة إلى الغرب بعـد فشل عملية التطوير يوم 14 من أكتوبر.
3- عدم سحب الفرقة الرابعة المدرعة واللواء 25 مدرع يوم 16 بهدف تصفية الثغرة من الغرب. ولكنه عاد فسحب الفرقة المدرعة يوم 18، ولكن انسحابها جاء متأخراً 48 ساعة زاد خلالها انتشار العدو في الغرب واصبح الأمر يحتاج إلى سحب أعداد أكبر من الألوية المدرعة.
4- عدم سحب الألوية المدرعة التي طالب الشاذلي بسحبها يوم 20 (الفرقة 21 مدرعة وبها لواءين مدرعين+ اللواء 24 مدرع الذي كان ضمن تجميع الفرقة الثانية المشاة+ اللواء المدرع الذي كان ضمن تجميع الجيش الثـالث). وقد أدى هذا التردد إلى حصار الجيش الثالث ومدينة السويس. وبعد أن توقف القتال في 28 من أكتوبر ببضعة أيام أصدر أحمد إسماعيل أمرا بسـحب جميـع الألوية المدرعة من الشرق إلى الغرب. ولكن هذا القرار الذي جاء متأخرا مدة أسبوعين عن التاريخ الذي طالب فيه الشاذلي بسحب هذه الألوية افقدها الكثير من فعالياتها وتأثيرها على سير المعارك.
إغفال تشكيل احتياطيات جديدة
يتحتم على كل قائد أن يحتفظ باحتياطي من القوات والنيران حتى يمكنه أن يواجه به أي تصرفات غير محتملة (راجع الفصل 33). وإذا ما دعت الضرورة إلى إقحام الاحتياطيات أو جزء منها في المعركة، فإنه يجب تشكيل احتياطيات جديدة لكي تحل محلها. وحيث إنه ليس من المتيسر على مستوى القيادة العامة للقوات المسلحة تشكيل وحدات جديدة لكي تحل مكان الوحدات التي كانت تشكل الاحتياطيات التعبوية والاستراتيجية. فإن التغلب على ذلك يمكن أن يتم بالمناورة بالقوات. تماما كـما يفعل لاعب الشطرنـج الذي يبدأ بعدد محدد من القطع ولا يسمح له بزيادتها إلى أن تنتهي المباراة.
وطبـقا للخطة الأصلية "المآذن العـالية" فقد كـنا نحتفظ في الاحتيـاطات التـعبوية والاستراتيـجية بقوات كبيرة قوامها فرقتـان مدرعتان وثلاث فرق مشـاة ميكانيكية وثلاثة ألوية مدرعة مستقلة (إجمالي الألوية المدرعة عشرة: اثنان في كل فرقة مدرعة وواحد في كل فرقة مشاة ميكانيكية، ولواءان مستقلان. لواء الحرس الجمهوري). ولكن الحذر الزائد من احمد إسماعيل اضطرنا إلى تخصـيص 5 ألوية مدرعة لتدعيم فرق المشاة. وقد كان مفروضا إعادة هذه الألوية إلى الاحتياط بعد أن نجـحت فرق المشاة في تثبيت مواقعها شرق القناة ولكن ذلك لم يحـدث. بل إن أحمد إسماعيل لجأ إلى زيادة تفتيت الاحتياطات كما سبق أن أوضحنا في الفصول السابقة حتى تأزم الموقف تماما. وفي يوم 20 من أكتوبر كانت الفرصة الوحيدة لإنقاذ الموقف هي سحب الألوية المدرعة الأربعة التي كانت في الشرق لكي نواجه بها الموقف المتأزم في الغرب ومع ذلك فإن احمد إسماعيل عارض هذا الاقتراح وانه لمن المؤسف حقا أن هناك بعضا من القادة يؤيدون اليوم هذا التصرف المعيب.
وإني أقولها صـراحة: إذا لم نوضـح لأبنائنا من طلبة الأكـاديميـات العسكرية أن عدم المناورة بالقوات، وتفتيت الاحتياطيات، وعدم تشكيل احتياطيات جديدة بدلا من تلك التي يتم إقحامها كانت جميعها من الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها أحمد إسماعيل خلال حرب أكتوبر 73. فأبشروا بجيل جديد من القادة سيجلبون على مصر هزائم تتضاءل بجانبها هزيمة عام 001967 اللهم قد بلغت.
التدخل السياسي في القرارات العسكرية
ليس هنالك خلاف حول حتمية تبعية القيادة العسكرية للقيادة السياسية، حيث إن الحرب كما قـال كلاوزوفيتز هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى. ولكن الخـلاف يدور حول حدود ومدى هذه التبعية. وتتساوى في ذلك جميع الأنظمة السياسية سواء كـانت ديمقراطية أم دكتاتورية أم شمولية، وإن اخـتلفت الأسباب التي تراها الأنظمة لفرض هذه التبعيـة. ففي الدول الديمقراطية تكون القيـادة السيـاسية منتخبة بواسطة الشعب، وبالتالي فهي تمثل الشعب وتعمل على تحقيق أهدافه. في حين أن القيادة العسكرية غير منتخبة وبالتالي يجب إخضاعها لإشـراف القيادة السياسية المنتخبة. وقد ذهبت بعض الدول الديمقراطية إلى أبعد من ذلك عند تعيين رؤوس القمة العسكرية.
ففي الولايات المتحدة يختـار الرئيس الأمريكي رئيس الأركـان، ولكن هذا الاختيـار لا يكتمل إلا بعد عرض هذا الاسم على الكونجـرس وإقراره. وقد يلجا الكونجرس إلى دعوة الشخص المرشح لهذا المنصب لمناقشته والحوار معه عدة جلسات قـبل أن يوافق على تعيينه أو رفضه، فإذا رفض الكونجرس هذا التعيين فإنه يتحتم على الرئيس ترشيح شخص آخر يحظى بموافقة الكونجرس.
أما في الأنظمة الدكتاتورية والشمولية، فالأمر يختلف. فالقيادة السياسية فيها هي قيادة مغتصبة، والمغتصب يريد دائما أن يحافظ ويدافع عمـا اغتصبه ضد أي غاصب محتمل آخر، أو ضد أي انتفاضة شعبية ضد نظامه. وحيث إن القوة العسكرية هي الوسيلة الأمضى لقمع أي انتفاضة شعبية ضد الحكم، وهي في الوقت نفسه تعتبر المرشح الأول لاغتصاب السلطة من مغتصبيها. فإنه من الضروري للحاكم أن يسيطر سيطرة كـاملة على القوات المسلحة، وبذلك يمكنه استـخدامها في قمـع أي انتفاضة شعـبية، ويضمن في الوقت نفسه الا تنقلب عليه. كانت الأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفيتي- قبل ان تتحول إلى أنظمة ديمقراطية في أوائل التسعينيات- تلجا إلى السيطرة على القوات المسلحة عن طريق تسييسها بصفة عامة، وعن طريق تسييس القادة بصفة خاصة. فقد كان غالبيـة القادة الكبار أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وكان وزير الدفاع دائما هو عضو في المكتب السياسي. ونتيجة لذلك فقد كان هناك فصل بين اختصاصات القيادة السياسية ممثلة في المكتب السياسي للحزب الشيوعي ، وبين القيادة العسكريـة التي يرأسها رئيس أركان حرب القوات المسلحة والذي هو في نفس الوقت عضو في اللجنة المركزية.
ونتيـجة لذلك فإن منصب رئيس الأركان كـان قمة الهرم العسكري سواء في الأنظمة الديمقراطيـة الغربية ام في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشـرقية ذات النظم الشمولية. وكان وزير الدفاع في كل من الكتلتين- سواء كان رجلا مدنيا أم عسكريا- هو حلقة الوصل بين القيادتـين السياسية والعسكرية. وبالتالي فلم تكن هناك حاجـة لدى تلك الأنظمة- رغم اختلاف طبيعتها- إلى أن تخلق وظيفة نصفها عسكري ونصفها سياسي كما فعلت الغالبية العظمى من دول العالم الثالث.
لقد ابتكرت الأنظمة في دول العالم الثالث- وغالبيتها أنظمة غير ديمقراطية- نظاما فريدا يميزها عما هو مـتبع في الدول الديمقراطيـة ودول الكتلة الشـيوعيـة قـبل تحولها إلى الديمقراطيـة.. وذلك بخلق وظيفة جـديدة تسمى القائد العام للقوات المسلحة. وهناك أربعة نماذج لهذه الوظيفة: النموذج الأول هو إسناد هذه الوظيفة إلى وزير الدفاع فـيصبح لقـبه وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحـة. النموذج الثاني هو أن يحتفظ رئيس الدولة بلقب القائد العام ويصبح وزير الدفاع هو نائب القائـد العام. النموذج الثالث هو أن يحتفظ رئيس الدولة بمنصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، ويلغي منصب رئيـس الأركان، ويستبدله بمنصب ذي صلاحـيات محـدودة يسمى أمين عام وزارة الدفـاع. النموذج الرابع والأخـيـر يلغى فيه منصب وزير الدفاع ومـنصب رئيس الأركـان، ويمارس رئيس الدولة سلطات هذين المنصبين من خلال أحد مديري مكتبه. وهذه النمـاذج الأربعة وإن اختلفت في الشكل، إلا أنها تتفق في المضمون والهدف، وهو تمكين رئيس الدولة من ممارسة أكـبر قدر من السيطرة على القوات المسلحة. ومصر هي إحدى دول المجموعة التي تتبع النموذج الأول. هناك إجماع في الرأي علـى ان القيادة السياسـية هي التي تحدد مهمة القوات المسلحة.
ولكن جرت العادة على أن يتم التشاور بين القيادتين السياسية والعسكرية قبل تخصيص المهمة حتى تكون المهمة التي تكلف بها القوات المسلحة في حدود إمكاناتها. أما بعد تخصيص المهمة فإن القيادة السياسية يجب ألا تتدخل في أسلوب القيادة العسكرية في التنفيذ. وإن كان هذا لا يمنع عقد لقاءات مشتركة بين القيادتين لتبادل الرأي إذا دعت الضرورة إلى ذلك. وحـتى يلم كل طرف بإمكانات وحـدود الطرف الآخـر. يحـدث هذا في كل من دول الكتلة الغربية بزعامة أمريكا ودول الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق، حيث بالنسبة لمصر ودول العالم الثالث، فالأمر يختلف. حيث أن جمع وظيفة وزير الحـربية- وهو عضو في القيادة السياسية- ووظيفة القائد العام للقوات المسلحة في شخـص واحد، يعني أن نصف هذا الشخص سياسي والنصف الآخر عسكري. فهو إذا تحدث في موضوع معين مع رئيس الأركان حول أسلوب تنفيذ المهمة بصفته وزير الحربية، فإن رئيس الأركان يستطيع أن يرفض ذلك. أما إذا تحـدث معه بصفته القائد العام للقوات المسلحة فإن رئيس الأركان يصبح ملزما بتنفيذ أوامرها وأقصى ما يمكن لرئيس الأركان عمله، هو أن يبين لـه العيوب والمشاكل والمخاطر التي سوف تترتب على تنفيذ هذا الأمر، فإن أصر القائد على التنفيذ فانه يجب على رئيس الأركـان أن ينفذ أوامر القائد وبنفس الحماس الذي عارض به الأمر قبل إقراره بصفة نهائية . حـيث إن تقاليد القوات المسلحة وسلامة وأمن أفرادها لا تسمح لأي قائد أو ضابط مرؤوس أن ينفذ من أوامر قائد ما يعجبه ويستبعد منها مالا يعجبه. وفي ظل هذا التنظيم وهذه المفاهيم شاءت المقادير أن يكون الفريق أول أحمد إسماعيل هو القائد العام للقوات المسلحـة ووزير الحربية، وكان الفريق سعد الدين الشاذلي هو رئيـس أركان حرب القوات المسلحة، إبان حرب أكتوبر 73. (راجع الفصل التاسع والعشرين).
ولاداعي لأن أكرر هنا ما سبق أن ذكرته في الفصول المسابقة عن الخـلافات التي وقعت بيني وبين أحمد إسماعيل خلال فترة إدارة العمليات الحربية. فقد عارضت الكثير من قراراته قبل أن يتقرر إرسالها إلى القادة المرؤوسين ولكن الموقف كان يحسم في النهاية بضرورة الالتزام بما يأمر به بصـفته القائد العام للقوات المسلحة. حدث هذا بالنسبة لقرار التطوير، وبالنسبة لموقفه من مطالبتي بضرورة المناورة بالقوات وبالنسبـة لأسلوبه في التعامل مع الثغـرة، وبالنسبة لموقفه يوم 20 من أكتوبر من اقتراحـي بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب. ثم كان يوم 25 من أكتوبر عندمـا تمردت على أوامره ورفضت توقيع الأمر الذي يتعلق بدفع الفرقة الرابعة المدرعة لفك حصار الجـيش، حيث إني كنت على قناعة تامة بان توقيعي على هذا الأمر يعني أنني اشترك في مؤامرة سوف تؤدي إلى تدمير هذه الفرقة (راجع الفصل الخامس والثلاثين).
ومن أجل مصر.. ومن أجل سلامة القوات المسلحة فإني أطالب بضرورة إلغاء منصب القائد العام للقوات المسلحة. هذا المنصب الذي لا نجد له مثيلا إلا في أنظمة دول العالم الثالث المتخلفة.. التي تضع سـلامة النظام وسلامة الحاكم قبل سلامة أمن البلاد. وبان نتبع في مصـر نفس الأسلوب الذي تتبعه الدول الديمقراطية. وهو أن تكون وظيفة وزير الحـربية وظيفة سياسية فقط فهو كعضو في القيادة السياسية يسـاهم في تخصيص مهمة القوات المسلحة في الحرب والسلم ولكنه لا يتدخل في أسلوب تنفيذ تلك المهام. فلو أن وظيفة أحمد إسماعيل خـلال حرب أكتوبر كانت هي وزير الحربيـة فقط، لكان في إمكاننا تحقيق انتصارات تفوق كثيرا ما حققنـاه وهو يجمع بين وظيفتي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة.
أحمد اسماعيل لاعب أم دمية؟!
أعتقد أن أحمد اسماعيل كان اقرب إلى أن يكون دمية في يد السادات من أن يكون شريكا معه في اتخـاذ تلك القرارات المهمة. فعلـى الرغم من أن التوجيه الاستراتيجي الذي أصدره السادات إلى أحمد إسماعيل ينص على أن تقوم القوات المسلحة بعمل عسكري يكون في حـدود إمكاناتها، إلا أننا نجـد أن السـادات كلف القوات المسلحة بعمل يخـرج عن حدود إمكاناتها عندما اتخذ قراراً يوم 12 من أكتوبر بتطوير الهجوم. وقد استجاب أحمد إسماعيل لهذا التكليف رغم علمه بأن العدو يتفوق علينا تفوقا ساحقا في مجـال القوات الجوية، وأن هذا الهجوم محكوم عليه بالفشل قبل أن يبدأ ومما يؤكد سيطرة السادات الكاملة على أحمد إسماعيل، ذلك التصريح الذي أطلقه السادات في أحد خطبه عام 1977 والذي قال فيه إنه كان يعلم بمرض أحمد إسماعيل بداء السرطان قبل وأثناء حـرب أكتوبر 73، وان الأطباء أخطروه بان حالته الصحية لاتسمح له باتخاذ القرارات، وإن السادات هو الذي كـان يتخذ القرارات (راجع الفصل التاسع عشر). ولولا هذه الشهادة التي يدين فيها السـادات نفسه بنفسـه، لما كان في استطاعة أي محكمة تاريخيـة إدانة السادات على ما ارتكـبه من أخطاء جسيمة أثناء الحرب. إذا ما قدم الدفاع عنه إلى المحكمة وثيقة التوجيه الاستـراتيجي التي بعثها إلى احمد إسماعيل، والتي يربط فـيها بين المهمة التي تكلف بها القوات المسلحة وبين حدود إمكاناتها.
قد يكون من السهل على النقاد أن يتهموا السادات بالجهل، لأنه لم يخدم في القوات المسلحة سوى ثلاث سنوات وهو برتبة الملازم والنقيب في بداية الأربعينيات، ولأنه لا يحب أن يجهد نفسه في القراءة والبحث. ولكن هذا لا ينطبق على أحمد إسماعيل. فلا أحد يستطيع أن يشك في علمه وثقافته العسكرية، وإن كان قد اشتهر بجموده الفكري وخشيته من تحمل المسئولية. ولكن هل من الممكن أن يصل الجمود الفكري بأحمد اسماعيل إلى حد إهمال مبدأ عام وحيوي من مبادئ الحرب لايمكن تحقيق أي نصر بدونه وهو المناورة بالقوات هل يمكن أن يصل الجمود الفكري إلى حد أن يقوم يوم 25 أكتوبر بتكليف الفرقة الرابعة المدرعة بفك حصار الجـيش الثالث، بينما كانت قوات العدو غرب القناة تقدر بحوالي 3 فرق مدرعة وكان يمتلك زمام الجو، ولولا تمردي ورفضي توقيع هذا الأمر لدمرت هذه الفرقة؟!
وهناك أسئلة كثيرة مازلنا نجهل إجاباتها حتى الآن نذكر منها: هل كان احـمد إسماعيل يعلم بالرسـالة التي بعث بها السادات إلى كيسنجر يوم 7 من أكتوبر؟هل شارك احـمد إسماعيل السادات بالرأي عندما طلبت بريطانيا يوم 13 من أكتوبر- عن طريق سفيرها في مصر السير فيليب آدامز- أن يبدي السـادات رأيه في المشاورة الدائرة بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن حول إمكان وقف اطلاق النار في المواقع القائمة؟ وهل اتخـذ السادات قراره برفض هذا الاقتراح؟ (البحث عن الذات/ ص 344) دون التشاور مع صاحب المنصبين الرئيسيين اللذين لهما علاقة بهذا القرار؟؟ وهل طلب السادات مشورة احـمد إسماعيل- صاحب المنصبين الرئيسيين- عندما رفض الاقتراح الذي تقدم به الاتحـاد السوفيتي يوم 13 والأيام التالية، والذي كان يتضمن أيضا وقف اطلاق النار على الخطوط القائمة، أم أن السادات كـان ينفرد
باتخاذ القرار؟ وهل كان قرار دفع الفرقة الرابعة المدرعة -الذي تقرر إلغاؤه بعد أن رفضت التوقيع على أمر العمليات- صادرا من احمد اسماعيل عن قناعة أم انه كان ينفذ أمر السادات؟ هذه هي بعض الأسئلة التي يتحتم على المؤرخين الإجابة عنها قبل أن يمكننا أن نحدد طبيعة العلاقة بين الرجلين.
- وعمومـا فقد وردت شهادتين على لسان كل من حافظ اسماعيل وحسنين هيكل عن انفراد السادات باتخـاذ القرارات خلال حرب أكتوبر. يقول حافظ في تعليقه على اتخـاذ السـادات قرار وقف إطلاق النار يوم 21 أكتوبر على الخطوط الحـالية، دون أن يستشيـر أحد ما يلي "كان الرئيس وحيدا. كان هو الذي اختـار أن يواجه الموقف وحده لقد اتخذ وحـده من قبل قرارات مصيرية متعددة . وربما لم يجد ضرورة الآن، وحدة الأزمة تتصاعد، أن يدعو رفاقه ومعاونيه. واختار بان يجتاز الأزمة وحده لقد أراد أن يكون صاحب النصر عندما ننتصر. وهو الآن يرفض إلا أن يكون المسئول عن نتائج تحول المعركة. بينما كنت أظن أن هذه الساعات الحرجة التي نمر بها هي بالضبط الظروف التـي من اجلها بني تنظيم الأمن القومي لكي يدعى ليتحمل مسئوليته ويعاون على اتخاذ القرارات المصيرية. فلقد كـان الموقف يتطلب تفويضـا جديدا". (محمد حـافظ إسماعيل/ أمن مصـر القومي/ ص 360).
- أما هيكل فهو ينقل إلينا موقف السادات من أي مشروع قرار يناقشـه مجلس الأمن، فيذكر أن السادات قال له: "إنه من المستحسن أن يبت هو (السادات) في كل الأمور من هنا من القاهرة، وان يجيئوا إلي شخصيـا كلما أرادوا إدخال أو تغيير كلمة أو حرف" (هيكل/ أكتوبر 73/ ص 455).
تعالوا إلى كلمة سواء
الحرب عملية باهظة التكلفة. وتكلفة الحرب لا تقاس بمجموع مـا يتم إنفاقه خـلال فترة العمليات الحربية وما تتحمله الدولة من خسائر بشرية ومادية خلال تلك الفترة. بل يضاف إليها ما تنفقه الدولة على قواتها المسلحة خلال سنوات السلم التي يتم خلالها تجهيز وتدريب تلك القوات، وما يتم إنفاقه لتامين الشعب ضد أخطار الحرب عند انـدلاعها. ونتائج كل حرب هي التي تحـدد مدى نجاح الدولة في تدبير شـئونها العسكرية من حـيث التسليح والتدريب وترشـيد الإنفاق. الخ. ولذلك فإن الدروس المسـتفادة من كل حرب تعتبر ثروة لا تقدر بثمن، لأنها تكون رصيدا للدولة إذا ما اشتركت في حرب أخرى.
وهذه الدروس المسـتفـادة لا يمكن التوصل إليها، إلا إذا عرفت الأخطاء التي ارتكبت بواسطة أحد الأطراف وأدت إلى هزيمتـه أو أدت إلى وضعه في موقف صعب. وان اكتفائنا بذكر الأعمال المجيدة التي تمت خـلال حرب أكتوبر، وعدم ذكر الأخطاء التي ارتكبت يمكن أن يولد لدى قادة الأجـيال التالية شعورا بالتفوق الزائف، الذي قد يؤدي إلى ارتكابهم نفس الأخطاء التي ارتكبها آباؤهم وأجدادهم. ولذلك فإنه يجب علينا أن نعترف بأنه رغم النجاح الباهر الذي حققناه بعبورنا قناة السويس وتدميرنا خط بارليف في 18 سـاعة فقد ارتكبنا سلسلة من الأخطاء. إذ إن تطوير الهجـوم يوم 14 أكتوبر كان قرارا خاطئا، وهو الذي أدى إلى حـدوث ثغرة الدفرسوار ليلة 15/16 أكتوبر. كمـا أن عدم المناورة بقواتنا المدرعة واستغلال خفة حـركتها لكي نتصدى بها للقوات المدرعة الإسـرائيلية التي عبرت إلى الغرب كان تصرفا خاطئا. علاوة على أن التهوين من أهمية الثغرة في الإعلام المصري، ووصفها بأنها معركة تليفزيونية هو وصف ديماجوجي ومضلل، وأدى في النهاية إلى نجاح العدو في حصار الجيش الثالث ومدينة السويس.
والآن وبعد مرور حوالي 22 عاما على حـرب أكتوبر المجيدة، ألم يأن الأوان لأصحاب الآراء المختلفة حول القرارات التي اتخذت خـلال تلك الحرب، أن يجلسوا مع بعضهم البعض، وان يتناقشوا حول نقاط الخـلاف بغية التوصل إلى ما هو صحـيح وما هو خطا، وأن تتم هذه المناقشـات على شكل مناظرة علنية يقوم فيها كل طرف بعرض وجهة نظره مع تقديم الحجج التي تؤيدها. نحن لسنا في حاجة إلى استدعاء خـبراء أجانب فلدينا خبراء قد يتفوق الكثير منهم على الخبراء الأجـانب. ولكن بشرط أن نوفر لهم المناخ الديمقراطي، وألا يضار صاحب رأي برأيه. مناظرة لا يكون كل هم المشاركين المصـريين فيهـا- كمـا حدث في أثناء الندوة الدولية لحرب أكـتوبر التي عقدت عام 1975- هو الدفاع عن الأخطاء التي ارتكبتها القيادة السيـاسية والقيادة العسكرية خلال تلك الحرب. إن هذا هو اقل ما يمكن عمله اليوم. فإن لم نفعل ذلك فإن التاريـخ لن يرحم هؤلاء الذين يريدون تزييف تاريخ مصر. وما لنا لا نفعل ذلك وقد سبقتنا دول كثيرة اتخذت خطوات اكثر تشددا من تلك المناظرة التي ناديت بها منذ سنوات ومازلت أنادي بها حتى اليوم. لقد شكلت بريطانيا لجنة تقصي الحقائق في أعقاب حـرب الفولكلاند عام 1982. وشكلت إسرائيل لجنة مماثلة في أعقاب حرب أكتوبر ، وأخرى في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. فهل يقبل الجمسي أن يدخل معي في مناظرة علنية حول نقط الخلاف؟ وهل يقبل هيكل أن يثري هذه المناظرة بآرائه وتحليلاته السديدة على ضوء المعلومات التي كانت خـافية عنه وقت أن نشر كتابه عن حرب أكتوبر؟
البيانات العسكرية المصرية وحقيقتها:
لقد اتفقت مع أحمد إسماعيل قبل الحرب على أن تكون بلاغاتنا العسكرية دقيقة وصادقة وأن نذكر الحقائق كلها مجردة من أية مبالغات أو أكاذيب كما كان الحال في حربنا السابقة مع إسرائيل. وقد التزمت القيادة هذا الخـط إلى أن جاء يوم 14 من اكتوبر 73 الذى خسرنا فيه حوالي 250 دبابه مقابل خسـائر محدودة من العدو. ونظرا لما كـان يحس به السادات وأحمد إسماعيل من شعور بالذنب- لأنهما هما اللذان أصرا على هذا الهجوم على الرغم من معارضتي أنا وقادة الجـيوش كما سبق أن ذكرت- فقد صـدر البيان العسكري، ولأول مرة منذ بداية الحرب، وفيه تزوير للحقائق. ثم جاء بعد ذلك اختراق العدو في منطقة الدفرسوار ليلة 15/16 من أكتوبر فكان عاملا جديدا في استمرار بياناتنا العسكرية في أكاذيبها.
في خلال الأيام الأولى من الاختراق نفت البيانات العسكرية نفيا قاطعا وجود أي اختراق للعدو غرب القناة وبعد أن تطورت قوة العدو في الغرب إلى الحد الذي أصبح معه مستحيلا إخفاء وجود هذه الاختراقات عمدت البيانات إلى التقليل من أهمية هذا الاختراق.
وأني أذكر كيف كان أحمد إسماعيل يتصل هاتفيا من غرفة العمليات بالدكتور حاتم نائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام لكي يشرح له الموقف، ومن بين تلك المحـادثات مكالمة هاتفـية يوم 18 من اكتوبر، قبل أن أتحرك إلى الجيش الثـالث ظهر هذا اليوم. كانت قوة العدو في ذلك الوقت تقدر بأربعة ألوية مدرعة ومع ذلك كان أحمد إسماعيل يقول للدكتور حاتم "إن للعدو 7 دبابات فى الغرب وإنهم يتبعون أسلوب حرب العصابات. إذ يظهرون فجأة حيث يضـربون ثم يهربون ويخـتفون في الأشجـار ولذلك فإننا نجد صعوبة فى اكتشافهم وتدميرهم!! ". ومع أني لم أكن اسمع ما يقوله الدكتور حـاتم من الجانب الآخر من الخط إلا أني كنت أستنتج انه لا يسـتطيع أن يتقبل هذا التفسير السـاذج، مما كـان يضطر أحمد إسماعيل إلى ان يعيد ويكرر ما سبق أن قاله مرات ومرات.
وعندما كنت أناقش هذا الموضوع مع الوزير وأطالبه بضرورة إعلان الحقائق فإننا كنا نصطدم معا كعقليتين وعقيدتين مختلفتين تماما. فقد كان يقول إن إذاعة هذه المعلومات السيئة سوف تكون لها اثر سيئ على الروح المعنوية للقوات المسلحة وعلى الشعب. وكنت أقول إن المعلومات السيئة تستحدث الهمم وتولد عند كل مواطن روح التحدي للعدو وتدفعه لأن يقدم لوطنه أقصى ما يستطيع أن يقدمه. كما أن إعلانها للقوات المسلحـة سيدفع التشكيـلات والوحدات غير المشتركة في القتال لكي تكون اكثر تعاونا واستعدادا لتقديم المساعدة والدعم للقوات المشتركة في القتال. نظريتان مختلفتان تماما. والنتيجة هى أن الوزير استمر في إصدار البيانات العسكرية الكاذبة- ويعلم السادات بكذبها- طوال مدة الحرب.
مقابلة مع مندوب مجلة نيوزويك الأمريكية:
في الساعة 1700 يوم 5 من ديسمبر 73 أجريت مقابلة صحـفية مع المسـتر أرنولد بورشجـريف محرر مجلة نيوزويك الأمريكية، وقد تكلمت معه بمنتهى الحرية والصراحة وأجبت عن أسئلته كلها وذلك فيما عدا المعلومات التي قد يستفيد العدو من إذاعتها. وقد منعت الرقابة المصرية المستر بورشجريف من إرسال هذا الحديث الصحفي إلى مجلته، وقامت بترجمة الحديث إلى اللغة العربية وأرسلته إلى المخابرات الحربيـة للموافقة على النشر، فقامت المخابرات الحربية بعرض الأمر على السيد الوزير. سألني الوزير عما إذا كنت قد قلت هذا الكلام فأجبت بالإيجاب. قال كان يجب عليك ان تعرضها على المخابرات الحربية قبل إرسالها إلى الصحافة. قلت له "كيف أطلب من المخابرات الحـربية وهي إدارة مرؤوسة لي أن تراجع ما أقول". أنا أعرف ما هو سر وما هو ليس سراً أكثر من مدير المخابرات لأن لدي قدرة تصور أوسع واتصالات عالمية اكثر. لماذا نخفي شيئا يعرفه العالم أجمع إلا شعب مصر؟.. إنني لم أقل شيئا يستطيع العدو أن يستفيد منه. وعلى سبيل المثال فقد امتنعت عن الإجابة عندما طلب مني أن أقارن بين قوتنا وقوة العدو قبل 6 من اكتوبر والآن. لأن الإجابة عن هذا السؤال قد تضطرني إلى إذاعة بعض المعلومات التي ليست معروفة على المسـتوى الدولي حتى الآن. مثال ذلك خسائرنا في الحرب والإمدادات التي وصلتنا حتى الآن. أما أنت ففي حديث لك مع الأسـتـاذ حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام، أذعت بيـانا عن خسـائرنا في الحرب. ولو استطاع العدو ان يعرف الإمدادات التي وصلت إلينـا بعد 6 من أكتوبر وحتى الآن فإنه يستطيع ان يعرف قوتنا على وجه التحديد. لقد كانت مناقشة حادة حقا. طلب مني الوزير أن استدعي بورشجريف وأن اسحب منه ما قلت فرفضت.
جريدة الأهرام تذيع خبرا كاذبا:
في صباح يوم 11 من ديسمبر 73 فوجئت بعنوان ضخم في جريدة الأهرام "قواتنا في الشرق والغرب تتقدم عشرة كيلومترات "، وكانت الجريدة تنسب الخبر إلى قيادة قوة الطوارئ الدولية في القاهرة لقد كان الخبر صورة أخرى من صور التزوير لواقع الأمر. حاولت معرفة مصدر هذا الخبر. اتصلت بقيادة قوة الطوارئ الدولية فنفت نفيا باتا إنها اصدرت بيانا عن ذلك اتصلت بإدارة المخابرات الحربية فنفت هي الأخرى أي علم بمصدر أو مؤلف هذا الخبر. كان الوزير يجلس بجواري في غرفة العمليات وأنا أجري هذه الاتصالات دون أن يعلق بشيء. مما جعلني اشك أنه هو مصدر هذا الخبر. قلت بصوت عال وبغضب دون أن اوجه كلامي لأحد هذا جنون. ليس هذا هو الأسلوب الصحيح للأعلام. يجب أن نعرف من هو الشخص الذي وراء هذا الخبر ويجب أن يعاقب. وهنا تدخل الوزير قائلا "لماذا تغضب هل أنت وزير الإعلام؟ قد يعتقدون أن إصدار هذا الخبر في مصلحة الوطن". سألت "من هم الذين يعتقدون؟" قال "لا أعرف، ولكني أود أن أقول لك لا تتدخل في عمل المخابرات أو في عمل الإعلام". فأجبته بأنني سوف أتدخل.
وفي اليوم نفسه صممت على أن التقي بالدكتور حاتم. وفي الساعة 1300 كـنت في مكتبه في وزارة الإعلام. حكيت له رأيي في الإعلام عموما ثم تطرقنا إلى الخبر الذي نشر في جريدة "الأهرام " صباح ذلك اليوم وقلت له "لقد اتصلت بجميع الجهات التي يمكن أن تكون مصدرا لهذا الخبر وجميعها نفت علمها بهذا الموضوع. هناك شخصان أشتبه فيهما: الشخص الأول هو الأستاذ حسنين هيكل رئيس تحرير "الأهرام"، والشخص الثاني هو وزير الحربية. وحيث أنه ليست لدي أية سلطة لكي استجوب أياً منهما فإني أرجو أن تحقق سيادتكم عن مصدر هذا الخبر". ذكر لي الدكتور حاتم أن الخط الإعلامي للدولة كان مرتبطا بالبلاغات العسكرية التي تصدرها القيادة، وأنه على الرغم من عدم قناعته الشخصية بها إلا انه كان ملتزما بها. أما بخصوص الخبر الذي نشر في جريدة "الأهرام " صباح ذلك اليوم فقد أكد لي عدم علمه بمصدره ووعد بالبحث لمعرفة الحقيقة.
وفي صباح يوم 12 من ديسمبر ظهرت جريدة "الأهرام"، وفيها تصحيـح للخبر وإعتذار عن الخطأ وأعطت بعض التبريرات لهذا الخطأ. لقد بلغ التحدي بيني وبين السلطة السياسية مداه. إن بقائي سوف يفسد الألاعيب التي يقومون بها. لقد تحملوا مني الكثير وكان لابد ان يتخلصوا مني، وفي مساء يوم 12 من ديسمبر 73 أقالني السادات من منصبي كرئيس لأركان حرب القوات المسلحة المصرية.
كيف علمت بخبر الإقالة؟!
لم اذهب إلى منزلي منذ اول اكتوبر حتى 13 من ديسمبر إلا مرة واحدة لمدة سـاعتين لإحضار بعض الملابس الإضافية وللاستحمام بالماء الساخن. وحوالي منتصف نوفمبر كانت الأمور قد استقرت واصبح الموقف لا يتطلب أن أكون بصـفة دائمة في المركز 10 او بين القوات كما كان الحال فترة العمليـات، وفي منتصف نوفمبر استأنفت القيام بتدريباتي الرياضية اليوميـة واكتشفت أنني فقدت من وزني 5 كيلوجرامات خـلال تلك الفترة الماضية، وعلى الرغم من أنه كان في استطاعتي أن أعود إلى منزلي الذي لم يكن يبعد أكثر من بضعة كيلومترات عن مركز القيادة فإني لم أفعل ذلك. كنت أشعر بالأسى بالنسـبة لرجال الجيش الثـالث المحـاصرين، كـيف يمكنني أن أذهب إلى منزلي وهناك 45000 رجل من رجـالنا محاصرون؟ حقا إن يدي نظيفتـان من مسئولية حصـارهم ولكن ليس هذا هو وقت تحديد المسئولية. إنهم أولا وأخيرا أبناء مصر، ويجب أن أشاركهم أحزانهم وقلقهم. صـممت ألا أعود إلى منزلي إلا بعد أن يعود هؤلاء الرجال إلى ديارهم.
كان يوم 13 من ديسمبـر هو عيد زواجي فأقنعت نفسي مسـاء يوم 12 من ديسمبر ان أقضي ليلة بالمنزل. وحيث إني أشك فيما يدور حولي كله فقد أخذت معي قبل أن أغادر المركـز 10 أوراقي كلها ومذكراتي الخاصـة. لم يدر بخلدي قط وأنا اترك المركز 10 في السـاعة 1700 يوم 12 من ديسمبر 1973، أن تلك السـاعة هي نهاية خدمتي بالقوات المسلحة المصرية. ومع ذلك فإن الحاسة السادسـة قد دفعتني إلى أن آخذ معي أوراقي المهمة ومذكراتي جميعها. وقد صدق حدسي حـيث إني بعد أن ذهبت إلى مكتبي بعد ذلك بأيام لأجمع باقي أوراقي وجدت أن إدارة المخابرات الحربية قد قامت بواجبها على الوجه الأكمل، فقد اخـتفت جميع هذه الأوراق بما فيها برقيات التهاني التي كـانت قد وصلتني من الأهلين ومن رؤساء أركان الجيوش العربية. كنت في قمة السعادة لأنهم لم يستطيعوا الحصول على ما كانوا يبحثون عنه.
وفي حوالي السـاعة 2000 من يوم 12 من ديسمبر 73 وبينما كنت في منزلي رن جرس الهاتف وكان الوزير على الطرف الآخر. أخبرني بأنه يحدثني من مكتبه بالوزارة ويود لو أستطيع أن أحضر لمقابلته. وبعد حوالي نصف ساعة كنت أدخل عليه مكتبه، وعند دخولي عليه وجدت عنده الجـمسي وسعد مأمون، وبعد دخولي عليهم قطع الوزير الحديث وطلب من الجمسي وسعد مأمون ان ينسحبا ويتركانا على انفراد. اخذ الوزير يدور ويلف إلى أن دخل في صلب الموضوع الذي استدعاني من أجله ودار بيني وبينه الحديث التالي:
الوزير:
لقد قرر رئيس الجمهورية إنهاء خدمتكم كـرئيس أركان حرب القوات المسلحـة وأصدر قرارا جمهوريا بتعيينكم سفيرا في وزارة الخـارجية، وعليكم التوجه اعتبارا من الساعة الثامنة صباحا إلى وزارة الخارجية في ميدان التحرير.
الشاذلي:
أشكر الرئيس على هذا التـعيين وأرجو أن تقوم بإبلاغه بأنني اعتذر عن قبول منصب السفير وافضل أن أبقى في منزلي.
الوزير:
هل تعني أنك ترفض إطاعة امر الرئيس الذي يقضي بذهابك إلى وزارة الخارجية؟
الشاذلي:
سيادة الوزير.. يمكنك أن تفسرها كما تشاء. إذا كان الرئيس يعتبر أن هذا التعيين خدمة لي فمن حقي أن اقبل الخدمة أو ارفضـها. وإذا كان المقصود بهذا التعيين هو العقاب فأنا ارفضه وافضل أن يكون هناك تحقيق ومحاكمة حتى تظهر الحقائق.
الوزير:
إن ما تقوله شيء خطير.. هل أقوم بإبلاغ الرئيس بما قلته؟
الشاذلي:
طبعا.. الهاتف بجوارك ويمكنك أن تبلغه الآن وفوراً.
الوزير:
حاول الوزير بعد ذلك أن يقنعني بطريق اكثر تهذيبا بأن أقبل هذا المنصب السامي، حيث إن رفضي سوف يغضب الرئيس وانه يقدر عملي ومجهودي اللذين قدمتهما للقوات المسلحة الخ.. الخ..!
الشاذلي:
إني أصـر على الرفض وأفضل ان يكون عزلا وليس نقلا الى وزارة الخـارجيـة، وهذا اعتذار رسمي عن عدم قبول منصب السفير (وحررت له الاعتذار كتـابة وسلمته إليه). ماذا سيفعل الرئيس بعد أن يعلم أني رفضت منصب السفيرة هل سيأمر بمحاكمتي؟ إني أفضل ذلك وأنا على أتم الاستعداد له.
وبعد حوار دام حوالي نصف الساعة غادرت مكتب الوزير بعد أن أكدت له أنني لن أذهب غدا لا إلى وزارة الخارجية ولا إلى المركز 10، وأنني سأبقى في منزلي.
بعد أن عدت الى منزلي أخبرت زوجتي بما دار بيني وبين الوزير من حوار وقلت لها "الحمد لله الذي جعلهم يتخذون هذه الخطوة. ان كل شيء كان يسـير مؤخـرا في عكس الاتجاه الذي أريده. لم يكن يسعدني البقاء ولكن لم لكن أستطيع ان أتقدم بالاستقالة في مثل هذه الظروف الصعبة". استقبلت زوجتي الخـبر بشجاعة وأيدت موقفي في رفض منصب السفيـر وقالت "الحمد لله انك تترك القوات المسلحة بعد أن عبرت بهم القناة ولم يكن أحد يصدق أن هذا عمل ممكن. الحمد لله الذي تترك القوات المسلحة ونحن في صحـة جيدة. لو حسبت الوقت الذي قضـيته في منزلك منذ أن تزوجنا فانـه لن يزيد على ربع تلك السنين. لنسترح ونسـتمتع بما بقي لنا من عمر". ضحكت وتعجبت لقد كنت أسمع أن خبر التقاعد هو أصعب خبر تتلقاه الزوجات وهاهي ذي زوجتي تتلقى الخبر بفرح وارتيـاح. إن الخبر بالنسبة لها هو استعادة للزوج الذي كانت قد فقدته لأنه أعطى وقته واهتمامه كلهما للقوات المسلحة على حساب بيته وعائلته. ضحكنا وأخذنا نتجاذب الحديث وننتظر حضور المستر بورشجريف مراسل جـريدة النيوزويك الأمريكية الذي كنت قد وعدته باستقباله في منزلي تلك الليلة.
بورشجريف أول من يعلم بخبر الإقالة:
كان بورشجريف قد اتصل بي صباح ذلك اليوم وأخطرني بأنه سوف يغادر القاهرة في اليوم التالي، وأنه يرغب في لقائي قبل سفره ليعبر لي عن شكره على الحديث الذي أدليت به له، فوعدت بأن استقبله في منزلي في مساء اليوم نفسه. ولم تكد تمر 15 دقيقة على عودتي إلى المنزل حتى وصل بورشجريف هو وزوجته. قلت له: مستر بورشجريف.. إنك صحفي محظوظ. سوف أقول لك خـبرا لم يعرفه أي صحفي في العالم حتى الآن. وحكيت له قصة مقابلتي مع الوزير ورفضي لمنصب السفير الذي عرض عليّ. لم يكن بورشجريف وزوجته يصدقان ما أقول وكانا يعتقدان أنني أمزح وعندما أكدت له ذلك اكثر من مرة قال: فإن الطريقة التي تتكلم بها أنت وزوجتك تدل على انك سعيد بهذا ولا يبدو عليك أو على حرمك أي حزن أو أسف". فقلت له هذه فلسفتي. "لو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك الا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمع أهل الأرض على ان يضروك بشيء ما ضروك بشيء كتبه الله لك، جفت الأقلام وطويت الصحف".. وقد جال بخاطر بورشجريف أن يكون حديثي معه هو السبب في إعفائي من منصبي فقال لي على استحياء: "أرجو ألا أكون سببا فيما أصابك؟" ، فقلت له "لا أعتقد ذلك. أنني على خـلاف معهم في أمور كـثيرة وأن موضوعك يعتـبر واحداً منها ولكنه يكاد يكون ابسطها"، ولكنني شعرت من كثرة تساؤلات بورشجريف حول هذا الموضوع أنه كان يشعر بأنه أحد الأسباب الرئيسية. وعموما فإذا كانت مقابلة بورشجريف يوم 5 من ديسمبر وتكذيب الخبر الذي نشر في جريدة الأهرام يوم 11 من ديسمبر هما من الأسبـاب المباشرة الظاهرة فإنهما لا يعدوان أن يكونا القشة التي قصمت ظهر البعير.
لقد كانت الساعة قد بلغت الحادية عشـرة مساء عندما غادر منزلي بورشجريف، وهو لا يكاد يصدق ما رآه بعينه وسمعه بأذنيه.
زيارة غير متوقعة من حسني مبارك:
بعد حوالي 15 دقيقة من مغادرة بورشجريف منزلي، رن جرس الهاتف. كان المتحدث هو اللواء حسني مبـارك، حيث قال لي إنه يريد ان يقابلني لأمر مهم. لم أكن أعرف إذا كان قد علم بخبر إقالتي أم لا فحاولت أن أؤجل المقابلة إلى الغد على اعتبار انه إذا لم يكن يعرف الآن فسوف يعرف غدا وينتهي الموضوع، ولكنـه أصر على المقابلة. قلت له "لا داعي لهذه المقابلة حيث إني لم أعد رئيس أركان حرب القوات المسلحة". فأجاب لا أنا اعرف ذلك، ولذلك أريد ان أقابلك. إني احمل رسالة لك من السيد الرئيس،. فأجبت "أهلا وسهلا". وفي حوالي الساعة 2330 وصل حسني مبارك. كان ملخص رسالة الرئيس السادات ما يلي:
أ- إن الرئيس يقدر تمـاما ما قمت به من أعمال في خـدمة القوات المسلحة وقت السلم و الحرب.
ب- إن الخلافات المستمرة بينك وبين الوزير قد تفاقمت وقد أصبح من الخطورة أن تستمر بهذا الشكل.
ج- إن تعيينك سفيرا لا يعني تنزيلا من درجـتك فسوف تستمـر بدرجة وزير وتنال راتب وبدل تمثيل الوزير.
د- إن الرئيس ينوي إرسالك سفيرا إلى لندن، وهو أسمى منصب دبلوماسي يطمع فيه إنسان.
هـ- ولكي يؤكد الرئيس ان هذا التعيين لا يعني أي تنزيل من مقامك فإنه يرقيك إلى رتبة فريق اول.
و- وإن الرئيس يتعشم أن تقبل هذا المنصب.
كانت خـلاصة أقوالي لحسني مبارك ما يلي "لو أن الرئيس استدعاني وقـال لي هذا الكلام لقبلت، ولكن أن يكلف احمد إسماعيل - وهو يعلم جـيدا ما بيني وبينه- بإبلاغي الخبر وبالصورة التي قالها، فإن هذا يعني أن الرئيس يصـدق ما يقوله أحمد إسماعيل ويؤيد موقفه. لذلك فإني ارفض مرة أخرى قبول العرض"، ثم كررت على مسامعه ما سبق أن قلته لأحمد إسماعيل قبل ساعات قليلة "إذا كان الرئيس يعرض علي هذا المنصب مكافـأة لى فأرجو إبلاغه شكري واعتذاري عن عدم قبول المنصب، وإذا كـان هذا المنصب عقابا لي فلنضع النقاط على الحروف ولنناقش هذا الموضوع بطريقة علنية. لن أقبل هذا المنصب ولن يستطيع أحد أن يرغمني على قبوله".
غادر حـسنى مبارك منزلي بعد منتصف الليل دون أن يستطيع إقناعي بقبول المنصب. وفى صباح يوم 13 من ديسمبر ظهرت صحف الصبـاح وفيها نبأ تعيين الجمسي رئيسا للأركان دون أي ذكر لمصير الفريق سعد الدين الشاذلي. هل أقيل ؟ هل استقال؟ هل عين سفيرا؟ هل مات؟ لا شيء على الإطلاق.
مقابلة الرئيس في أسوان:
على الرغم من عدم ذهابي إلى وزارة الخـارجية او قيامي باستـلام أي عمل فإن الإجراءات الخاصة بتعييني في الخارجية استمرت في سيرها كالمعتاد، وبعد عدة أيام كتبت بعض الصحـف أنني عينت سفيرا في لندن. وهنا اتصلت بـالرئاسة وطلبت مقـابلة الرئيس لكي أوضح موقفي ولكي أؤكد له أنني أبلغت رفضي لهذا المنصب إلى كل من أحمد إسماعيل وحسني مبارك وأنني مازلت مقيما في منزلي. وبعد بضعة ايام من طلبي المقابلة اتصل بي مكتب الرئيس وأبلغني بأنه سوف يستقبلني في أسوان يوم 6 من يناير 74. وعلى الرغم من ان القرار الجمهوري الخاص بتعييني سفيرا بالدرجة الممتازة كان قد صدر قبل ذلك، إلا أنني لم أكن حتى ذلك الوقت اعترف بهذا القرار الجمهوري، وبالتالي سافرت إلى أسوان على حسابي الخاص ودون أن أخطر وزارة الخـارجـيـة بذلك. عندما وصلت طائرتي إلى أسوان كـان ما يزال أمامي ساعتان قبل أن يحـل موعد مقابلة الرئيس فذهبت إلى فندق الكتراكت لكي أقضي بعض الوقت. وهناك قابلت حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام. أخذنا نتجاذب أطراف الحـديث في موضوعات شتى اغلبها يدور حول حرب أكتوبر إلى أن حان ميعاد ذهابي إلى الرئيس فتركته وذهبت للقاء الرئيس.
كان حديث الرئيس ظريفا طيبا، واخذ يسألني عن أحوال زوجتي والعائلة الخ. ثم فاتحني في الموضوع الرئيسي. بدأ الرئيس حديثه بنبرة عتاب ولكنه من نوع العتاب الضاحك الباسم فقال "لا لا لا.. أنا زعلان منك. إزاي تعمل كده؟ أنت اتجننت؟ أبعت لك حـسني مبـارك برسالة مني فترفض الرسالة. أنا لما قال لي حسني إنك رفضت، قلت أبعث أجـيبك وأكلمك بنفسي لكن حسني قال لي بلاش دلوقت. ده مصمم وراكب دماغه. قلت طيب بعدين". قلت له "سيادة الرئيس.. أنا لست منزعجا من أن أترك القوات المسلحة. إن كـل ضابط يجب عليه أن يترك القوات المسلحة في يوم ما ليخلي الطريق لغيره، وهذه هي سنة الحيـاة ولكن ما ضايقني هو الأسلوب الذي أبلغتني به هذا القرار. سيادتك تعلم جـيدا ما بيني وبين أحـمد إسماعيل، ومع ذلك طلبت من احمد إسماعيل أن يقوم بإبلاغي بهذا القرار". قال الرئيس أنا أعرف ما بينك وبين احمد إسماعيل وعلشـان كده لما أبلغني أحمد إسماعيل بأنك رفضت المنصب وقال لي الكلام الذي قلته له، اعتقدت ان احمد إسماعيل يبالغ فقررت أن ارسل لك حسني مبـارك فرفضت أيضا. وعندما قلت أحضرك أمامي وأبلغك بنفسي، حسني قال لي بلاش دلوقت ". وأضـاف ضاحكا "لازم حسنـي بيخاف منك قل لي ماذا تعمل لكي تجعل مرؤوسيك يخافونك ويخشونك؟". - استرسل الرئيس في حـديثه فـأثنى عليَّ وأفاض في ذلك كـثيرا وقال أنني مـازلت موضع ثقـته وأن كل ما حدث هو أنه ينقلني من مجال عمل إلى مجـال عمل آخر وإن ما أضطره إلى ذلك هو الخلاف الشديد الذي يسود العلاقات بيني وبين أحمد إسماعيل. وحكى لي كيف ولماذا أعفي الدكتور محمود فوزي من رئاسة الوزراء فقال "كان فوزي يشتكي لي كل يوم ويقول لي الوزير فلان والوزير فلان ما بيسمعوش كلامه. أنا مش فاضي علشان اعمل قاضي بين كـبار الموظفين. واستطرد بعد ذلك "وفيما يتعلق بك أنت واحمد إسماعيل كـان لازم واحـد منكم يمشـي. وأنا فكرت ووجـدت انه من الأفضل انك أنت اللي تمشي وعرضت عليك افضل المناصب عندنا. وإذا اخترت لك لندن ليس لمركزها الأدبي فحسب بل لأني محتـاج لأن يكون لنا رجل ذو خبرة عسكرية كبيرة في لندن. إننا على اتصال الآن مع ألمانيا الغربية وستقوم ألمانيا بإمدادنا بأسلحة متطورة ومتقدمة. وإن سفيرنا في ألمانيا رجل مدني اسمه محمد إبراهيم كامل. كان معي في السجن وأنا عينتـه في الخارجية وبعد ذلك هو الآن سفير في ألمانيا، إنما طبعا لا يفهم في الشـئون العسكرية ولا يستطيع ان يتابع عمليات المباحثات والعقود العسكرية. وأنا أهدف إلى أنك من لندن تقوم برحلات مستمرة إلى ألمانيا للإشـراف على هذا الموضوع. ان وظيفتك كسفير في لندن ستكون موضوعا ثانويا بالنسبة للوظيفة الأولى وهي تسليح الجـيش المصري. وليس لدينا من هو افضل منك للقيام بهذه المهمة" وأفاض في حديثـه... حتى اعتبرت ان ما قاله هو ترضية كـافية وأن منصب سفير مصر في لندن هو امتداد لمسئوليتي في خدمة القوات المسلحة المصرية وتقويتها وقبلت المنصب. انتقلنا بعد ذلك إلى الحديث عن العلاقات المصريـة البريطانيـة والمصريين الذين يعيشون في المملكة المتحدة وموضوعات اخرى. وكانت السـاعة قد بلـغت الواحدة والنصف بعد الظهر عندما غادرت استراحة الرئيس في أسوان.
عدت مرة أخـرى إلى فندق الكتراكت لكي أتناول الغداء وانتظر الطائرة التي سـأعود بها إلى القاهرة وهناك التقطني الأستاذ حسنين هيكل مرة أخرى. وكما كـان بورشجريف أول صحفي في العـالم يعلم بإعفائي من منصبي ورفضي قبول منصب سفير. كان هيكل اول صحفي في العالم يعرف نتيجـة مقابلتي مع الرئيس في أسوان، ولكن لم اخبره بموضوع تسليح الجـيش المصري عن طريق ألمانيـا الغربية حـيث أن هذا الموضوع- كـما ذكـر لي الرئيس- كان يتم على مستوى عال من السرية.
السفر إلى لندن:
بعد أن أذيع خبر تعييني سفيراً لمصر في لندن بدأ الناس يتهامسون ويقولون إن تعييني في لندن لا يقصد به إبعادي من القاهرة فحسب بل إنه جزء من مؤامرة لقتلي. إن المخابرات الإسرائيلية والمتطرفين الصهاينة يستطيعون اغتيالي في لندن دون أن يتركوا من ورائهم أثرا يكشف دورهم. إنهم يعتبرونني العدو رقم 1 بالنسبة إليهم. وبدا بعض الناس ينصحونني بعدم الذهاب إلى لندن حفاظا على حياتي، ولكني لم استمع إلى هذه النصـائح والتحذيرات وقلت لنفسي "لقد كانت حياتي سلسلة من المخاطرات. وان خدمتي في لندن لن تكون سوى امتداد لهذه الحياة التي تحـيط بها المخاطر دائما. إنني لا أخشى الموت الآن. وفي الحقيقة فإني أحيانا أتعجب كيف عشت طوال هذه السنين على الرغم من المخاطر كلها التي مررت بها. لو أنني مت اليوم فإني سوف أموت سعيدا. لقد أعطيت بلادي كل ما أستطيع ان أعطيه وقد رأيت ثمرة كفاحي. رأيت جنود مصر بعد أن هزمتهم إسرائيل في ثلاث حروب سابقة. رأيتهم وهم يعبرون قناة السويس ويحطمون خط بارليف ويهتفون الله اكبر. ماذا أريد بعد ذلك كله ؟ لا شيء. أيها الموت أهلا بك فإني لا أخشاك إن الأعمار بيد الله سبحـانه وتعالى ولن يستطيع أحد أن يقدم أجلي أو يؤخره عن الوقت الذي حدده الله ولو بثانية واحدة". وقبل سفري إلى لندن بعدة ايام طلبني اللواء رفعت حسنين نائب رئيس المخابرات العامة وأخبرني بأن لديهم معلومات تفيد بان مجموعة من المتعصبين الإسرائيليين سوف يسافرون إلى لندن لاغتيالي وأن المخابرات الإنجليزية لديها المعلومات نفسها ولذلك يطلب مني أن أكون حذرا وأن أتحاشى بقدر الإمكان الإعلان المسبق عن تحركاتي. ولذلك فأن ميعاد سفري إلى لندن يجب أن يبقى سراً وألا أبوح به لأحد وعملا بنصـيحة المخابرات العامة، سافرت سراً من القاهرة إلى لندن يوم 13 من مايو 74. وبعد وصولي ببضعة اشهر بدأت تثور شكوكي حول السادات وأهدافه فيما يتعلق بشخصي. فقد بدأ يصعد هجـومه علي ويوجه إليّ اتهامات باطلة، ومـن هنا بدأت اعد العدة للمجابهة التي لابد أنها ستقع بيننا يوما مـا. وبينما كنت اقدر الموقف استعدادا لهذه المجابهة توصلت إلى نتيجة هي أن السـادات له مصلحة في التخلص من حياتي أكثر من مصلحة المتعصبين الإسرائيليين. إن حياتي تشكل خطراً كبيراً عليه. لذلك يجب أن احتاط ولقد تذكرت كيف مـات الفريق أليثي ناصف بطريقة غامضة في لندن في أغسطس 73 وكيف قيدّت حادثة وفاته على إنها انتحار بينما يثور كثير من الجدل والتسـاؤلات حول وفاته. وبطريقة سرية لم يعلم بها أحد من رجال السفارة المصرية أو الليبية حصلت على جواز سفر ليبي لي وآخر لزوجتي ولكن بأسماء مستعارة.
الفصل السابع والثلاثون: السادات يبحث عن كبش فداء
اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 21 من نوفمبر73:
لابد أن مسئولية ثغرة الدفرسوار وحصار الجيش الثالث كانت تقلق السادات وتدفعه للبحث عن شخص لكي يلقي عليه بهذه المسئولية. هذه هي طبيعة السادات وقد اعترف بها في مذكراته في أكثر من موضع. انه لكي يبرئ نفسه من أية تهمة لا يتردد في أن يتهم شخصا أخر بتهمة لم يرتكبها. لقد روى لنا في مذكراته -دون حياء في الصفحات من 88 إلى 94- كيف انه ادعى كذبا على القاويش وكيل النيابة، وعلى مأمور السجن، وعلى سعيد الجزار، بأنهم كانوا يعذبونه عندما كان في المعتقل، وذلك لكي يفسد القضية ويبرئ نفسه.
وقد بدا السادات يكشف عن نواياه لأول مرة في يوم 21 من نوفمبر 73 اثناء اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. في هذا الاجتماع قال بطريقة عفوية وهو يستعرض أحداث الحرب "إنها ليلة واحدة هي السبب في المشكلات كلها التي حدثت، تلك هي ليلة 18/19 اكتوبر. لو إننا عملنا بحسم وقوة خلال تلك الليلة لقضينا على الثغرة إنها تلك الليلة التي كنت فيها يا سعد في الجيش الثاني" (1) لقد فهمت بسرعة ماذا يقصد الرئيس من وراء هذا وتعجبت لماذا يختار هذه الليلة بالذات وهل يعتقد الرئيس انه بمجرد ان يقول ان هذا كان ممكنا يوم 18 فإن الناس جميعا يجب ان يصدقوا ما يقول. الا يعرف ان هناك علما عسكريا يقرر ما هو ممكن وما هو غير ممكن في كل يوم وفي كل ساعة طبقا للظروف المحيطة؟ تدخلت بسرعة قائلا "سيادة الرئيس. لقد بذل رجال الجيش الثاني أقصى ما يمكن عمله خلال تلك الليلة". فرد قائلا "بعد أن تنتهي الحرب سوف نقوم بتحقيق لتحديد المسئولية عن عملية اختراق الدفرسوار" فقلت له بصوت لم استطـع أن أخفي ما فيه من ثقة وتحد "فعلا. يجب أن نحدد من هو المسئول ؟" (2)
بعد أن انتهى الاجتماع رافقته أنا والوزير إلى عربته كما هي العادة وبعد أن غادر الرئيس مبنى القيادة وفي أثناء عودتنا إلى الداخل قال لي الوزير وكيف تخاطب الرئيس بهذا الشكل ؟ ولماذا تأخذ كلام الرئيس على أنه اتهام لك؟ هل أنت قائد الجيش الثاني؟ إذا كانت هناك مسئولية فهي مسئولية الجيش الثاني". قلت له "إن مجرد وجودي في الجيش الثاني يجعلني مسئولا عن كل ما يقوم به الجيش من أعمال. لقد وافقت وشاركت في كل قرار اتخذ في الجيش خلال الفترة التي عشتها معهم ". وبعد أن انفض الاجتماع استدعيت اللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني وقلت له "يا عبد المنعم أني أشم رائحة الخيانة والغدر. يبدو انهم يبحثون عن شخص يلقون عليه أضرار أخطائهم كلها. كن حذرا وحافظ على وثائق الجيش حتى لا يقوم أحد بسرقتها أو تزويرها".
في خلال اجتماع المجلس الأعلى للقوات اثار الرئيس موضوعاً مهماً وركّز عليه طويلا وهو موضوع الجيش والسياسة. قال الرئيس "إن القوات المسلحة يجب أن تلتفت إلى عملها وألا تتدخل في السياسة. إن عملية الفصل بين القوات هي عملية سياسية. وسواء تم التوصل إلى اتفاق أم لا فإن هذا لا يعنيكم في شئ . وعليكم أن تهتموا فقط بأعمالكم، ومن خبرتنا الطويلة في القوات المسلحة فإن مثل هذه التصريحات لا يمكن أن تصدر من رئيس الجمهورية، الا اذا كانت ردا على شائعة أو كان المقصود منها إبلاغ شخـص ما برسالة أو إنذارا بطريقة مستترة من هم يا ترى الأشخاص الذين يعنيهم الرئيس بهذا الكلام؟ من هم اكثر الناس إلماما بأسرار حرب اكتوبر وخفاياها وبعد ثلاثة أسابيع من هذا اللقاء جاء الرد على هذا التساؤل. لقد أقال الرئيس كلا من الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة واللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني واللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث من مناصبهم، وفي وقت لاحق أقيل أيضا سعد مأمون الذي قاد الجيش الثاني حتى يوم 14 اكتوبر. لقد عرض الرئيس علينا نحن الأربعة مناصب سامية: حيث عرض علي منصب سفير في لندن بدرجة وزير، وعين عبد المنعم واصل محافظا مدنيا بدرجـة نائب وزير، وعين عبد المنعم خليل مساعداً لوزير الحربية، وعين سعد مأمون في وقت لاحق محافظا مدنيا هو الآخر. ولكن هذه الوظائف السامية لم تستطيع أن تخفي الحقيقة وهي أن السادات تخلص من اكثر الناس إلماما بأسرار الحرب.
يشتمني في زفة ويصالحني في عطفة:
وعندما ذهب السادات إلى مجلس الشعب في فبراير 74 لكي يحتفل بتنفيذ الاتـفاقية الأولى للفصل بين القوات. وأخـذ يوزع الأنواط والأوسمة على القادة الذين حـاربوا خلال حرب اكتوبر حدثت همهمة بين الناس واخذوا يتساءلون فيما بينهم: أين الشاذلي؟ أين عبد المنعم واصل؟ أين سعد مأمون؟أين عبد المنعم خليل؟ كانت تساؤلات خافتة لا يستطيع أحد أن يجاهر بها في ظل نظام أوتوقراطي، ثم إنها كانت مناسبة سعيدة للاحتفال بانتصار أكتوبر ولا أحد يريد أن يثير الجدل حول أي موضوع حتى لا يؤثر في هذا الجو المرح السعيد. ومن سخرية القدر أنه بينما كان مجلس الشعب يحتفل بانتصار حرب اكتوبر كان سعد الدين الشاذلي يتابع هذا الاحتفال على شاشة التليفزيون في منزله. قامت زوجتي بإغلاق التليفزيون وقالت "ما هذا التهريج؟ إن هي إلا تمثيلية سخيفة". ولكني طلبت منها إعادة فتح التليفزيون وقلت لها "إنها حقا تمثيلية ولكنها جزء من تاريخ مصر ويجب أن نشاهدها". وفكرت في هذه اللحظة ما سبق ان قاله سعد مأمون قبل الحرب "اذا فشل العبور فسوف تطير ثلاثة رؤوس في الهواء" لم يكن يتصور سعد مأمون وهو يقول هذا الكلام أن الرؤوس الثلاثة نفسها سوف تطير أيضا لو نجح العبور.
ولكي يثير السادات الشكوك حول مسئولية الثغرة فان اسمي لم يذكر بين أسماء القادة الذي جرى تكريمهم في مجلس الشعب وسـلمت إليهم "الأنواط والأوسمة"، ولكن بينما السادات -وأقول السادات وليس مصر- تعمد إسقاط دوري في حرب أكتوبر فإن العرب بصفة عامة وسوريا بصفة خاصة أخذوا يشيدون بالنصر الذي قمت به في هذه الحرب. ففي الحفل الكبير الذي أقامته سوريا لتكريم أبطال حرب أكتوبر لم ينس السوريون دور الفريق سعد الدين الشاذلي وانعموا علي بأعلى وسام عسكري سوري. كان حفل تكريم أبطال الحرب السوريين يذاع على الهواء وكان الكثيرون من الأهلين في مصر يستمعون إليه. عندما ذكر أسمي والوسام الذي منـح لي -وعلى الرغم من عدم وجودي بينهم- ضجت القاعة بالتصفيق لمدة طويلة حتى ظن معظم المستمعين المصريين أنني في دمشق. لقد كان التصرف السوري صفعة شديدة للسادات, لقد أراد الأخوة السوريون أن يوضحوا للعالم العربي والمصري أن السادات يتكلم عن الوفاء ولكنه ليس وفيا لأحد، وانه يدعو الناس لئلا يحقدوا على أحد، وهو الحقود الذي يجري الحقد في دمائه. أراد السادات أن يصلح خطأه تجاهي فارتكب خطأ أخر. ففي خلال عام 1974 -وبينما كنت سفيرا لمصر في لندن- حضر إلى مكتبي ذات يوم الملحق الحربي المصري وهو يكاد ينهار خجلا. كان مترددا ومتلعثما وهو يحاول أن يتكلم إلى أن شجعته على الكلام فقال "سيادة الفريق. أني لا اعرف كيف أبدأ الحديث في هذا الموضوع، وكم كنت أتمنى ألا أجد نفسي أبدا في هذا الموقف ولكنها الأوامر صدرت إلي وأنت اعلم بما يجب أن أقوم به لتنفيذها. لقد طلب إلي أن اسلم إليكم نجمة الشرف التي انعم عليكم بها رئيس الجمهورية ". استلمت منه الوسام في هدوء وأنا واثق ان مصر -وليس السادات حاكم مصر- سوف يكرمني في يوم من الأيام بعد أن تعرف حقائق وأسرار حرب أكتوبر. ليس التكريم هو أن أمنح وساما في الخفاء ولكن التكريم هو أن يعلم الشعب بالدور الذي قمت به. سوف يأتي هذا اليوم مهما حاول السادات تأخيره ومهما حاول السادات تزوير التاريخ. أنه لن يستطيع لأنه لا يصح إلا الصحيح.
كان ما قاله السادات خلال اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 21 من نوفمبر 73 من أن ليلة 18/ 19 من اكتوبر هي سبب كارثة الدفرسوار هو بداية الحملة التي رسمها السادات في خياله ليحملني مسئولية الثغرة ثم جاء بعد ذلك اجتماع مجلس الشعب لتكريم أبطال الحرب وغيابي عن حضور التمثيلية التي أخرجها السادات ثم بدأ بعد ذلك يصعد حملته شيئا فشيئا على شكل أحاديث صحفية وتليفزيونية الخ. وتركته يتكلم ويناقض نفسه بنفسه شهراً بعد شهر وعاما بعد عام إلى أن نشر مذكراته في مايو 1978، فكـانت هذه المذكرات ذات فائدة مزدوجة لي. كانت الفائدة الأولى هي استخدام الاعترافات التي وردت على لسان السادات في هذه المذكرات كوثيقة اتهام ضده أما الفائدة الثانية فإنها قد أعطت لي المبرر كي أنشر مذكراتي وأرد فيها على الأكاذيب التي ملا بها مذكراته.
التاريخ الحقيقي لإقالتي:
يدعي السادات في مذكراته (صفحة 341) بأنه عزلني يوم 19 من أكتوبر 73. ولو أنه قال بدلا من ذلك نويت أن أعزله لكان اقرب إلى الصدق منه إلى الكذب لأن العزل معناه الا يمارس الشخص أي عمل بعد عزله، ولكن الحقيقة كانت غير ذلك فقد مكثت أمارس عملي حتى 12 من ديسمبر 73. قد يتعجب بعض الناس لماذا أقول هذا الكلام ؟ وقد يرى الأذكياء منهم أنه خير لي ألف مرة أن أرحب بهذا الادعاء لأن القوات المسلحة لم تحقق شيئا بعد يوم 19 من اكتوبر، بل على العكس توالت المصائب بعد هذا التاريخ. فبعد هذا التاريخ تم حصار الجيش الثالث، وبعد هذا التاريخ فقدنا المبادرة نهائيا على المستويين العسكري والسياسي. ولهؤلاء أقول أن الأمانة في كتابة التاريخ هي التي تفرض على أن أقول كل شئ.
لقد كان بقائي عنصر ضغط وتأثير على القرارات حتى لو لم يؤخذ بوجهة نظري. وإذا كان بقائي حتى 12 من ديسمبر لم يحقق شيئا سوى إنقاذ الفرقة الرابعة المدرعة من التدمير و إبقائها سليمة للدفاع ضد أي هجوم معاد لاحتلال القاهرة فإن هذا وحده يكفيني ويجعل من بقائي فائدة لمصر. إن رفضي التوقيع على الأمر هو الذي أرغم الوزير على التراجع. لابد أن الرئيس قد نوى أن يعزلني قبل يوم 19 من أكتوبر بكثير. إن السادات إذا أراد أن يتخلص من أحد فإنه يرسم ويخطط لذلك ويحاول أن يخلق أو يدعـي أسبابا أبعد ما تكون عن الأسباب الحقيقية. فقد فعل ذلك مع الفريق الليثي ناصف، والفريق محمد صادق والدكتور عزيز صدقي، وجاء دوري، ثم جاء من بعدي ممدوح سالم، ثم عبد الغني الجمسي ومحمد علي فهمي، والبقية تأتي. وأني أنصح هؤلاء الذين مازالوا يتعاملون مع السادات أن يأخذوا حذرهم منه وأن يتعظوا مما فعله مع أعوانه السابقين. أعود وأقول انه لابد أنه عزم على إقالتي اعتبارا من يوم 12 من اكتوبر 73 للأسباب الآتية:
1- بعد النجاح الرائع الذي حققته القوات المسلحة المصرية في عبور قناة السويس ركزت الصحـافة العربية والأجنبية كلها على النصر الكبير الذي قام به الفريق سعد الدين الشاذلي ر.ا.ح.ق.م.م. ولقد بلغ الأمر أن صورتي كانت تعلق داخل البيوت في مصر والبلاد العربية، وظهرت كصورة غلاف على كثير من المجلات الأجنبية. لقد وصل ذلك كله إلى السادات فدبت الغيرة والحقد في قلبه.
2- وفي يوم 12 من اكتوبر عارضت دفع الفرقتين المدرعتين 21، 4 وأصر السادات. وفي 15 من اكتوبر طالبت بإعادة نفس الفرقتين إلى الضفة الغربية ورفض السادات وفي يوم 16 من اكتوبر اختلفت مع السادات والوزير في أسلوب القضاء على الثغرة، وثار السادات وفقد أعصابه كما سبق أن بينت (الفصل الثالث والثلاثون).
من هنا نرى أن النية في إقالتي لابد أنها بدأت تتكون في فكر السادات منذ الأيام الأولى للحرب نتيجة لعنصر الغيرة ثم أخذت الفكرة تختمر اعتبارا من يوم 12 من أكتوبر نتيجة ما كنت أبديه من معارضة لآدائه وقد كانت ثورته العارمة يوم 16 من أكتوبر دليلا قاطعا على انه اصبح لا يطيق وجودي ولو أن هجومنا في تصفية الثغرة نجح يوم 17 من اكتوبر طبقا للخطة التي وضعها أحمد إسماعيل ووافق عليها السادات لأعلن بعد الحرب انه عزلني يوم 16 من اكتوبر، ولكن فشل الهجوم كما توقعت اثبت أني كنت على حق، وبالتالي أصبح يوم 16 من اكتوبر ليس يوما مناسبا لإعلان العزل.
ادعاءات السادات الباطلة ضدي:
1- لم يبدأ السادات في مهاجمتي إلا في أبريل عام 1974 . ففي حديث أجراه مع الأستاذ سليم اللوزي رئيس مجلة الحوادث ونشر في المجلة المذكورة يدعو أنه أمرني يوم 16 من أكتوبر بما يلي: "عليك أن تكون بعد ساعة ونصف الساعة في الإسماعيلية وتضرب طوقا حول الدفرسوار، بحيث نترك اليهود يدخلون إلى هذه المنطقة بعدها تصبح القوة الإسرائيلية كلها في يدي.. ". وليس لدي تعليق على هذا الكلام سوى أن أقول أنه كلام مصاطب قد تحكيه جدة عجوز لطفل ريفي لتساعده على النعاس كما كانت جدة الرئيس تحكي له وهو طفل قصة زهران. ليس هكذا تدار الحرب وليس هكذا تخصص المهام العسكرية. أني اخجل ويخجل معي كل مثقف أن يِنسب إلى رئيس جمهورية مصر هذا الكلام. وبعد ذلك كله فلم يحدث أن أمرني السادات أن اذهب إلى الجبهة يوم 16 ولم اذهب الا يوم 18 من اكتوبر وسجلات الحرب المكتوبة تثبت ذلك. إن السادات بهذه القصة تحاشى أن يذكر قصة المواجهة التي دارت بيني وبينه بخصوص تصفية الثغرة كما سبق أن ذكرته.
2- يدعي السادات بأنني طالبت يوم 19 من أكتوبر بالانسحاب الكامل من سيناء وهذه كذبة كبيرة اخرى سبق أن شرحتها بالتفصيل (الفصل الثالث والثلاثون). إن كل ما طالبت به يوم 20 هو سحب 4 ألوية مدرعة وكان سيبقى لنا بعد سحبها 90000 رجل في الشرق. وشتان ما بين حجم هذه القوات وبين حجم القوات التي حددتها اتفاقية فض الاشتباك الأولى، والتي كان بموجبها لا يسمح لمصر بأن تحتفظ شرق القناة بما يزيد على 7000 رجل و30 دبابة.. شتان ما بين ما أمكن أن يحصل عليه السادات بالسياسة، وما كان يمكن أن نحصل عليه بالحرب. فلو أنه قال أنه أقالني لأنني طالبت بسحب 4 ألوية مدرعة وانه سيبقى لنا في الشرق بعد ذلك 90000 رجل ومعهم اكثر من 3500 قطعة سلاح مضاد للدبابات (500 دبابة+ 350 مالوتكا+ حوالي 150 مدفعا 85 ملليمتر+ 2500 مدفع مضاد للدبابات ذو مدى قصير ب 10/ ب 11/ ر.ب.ج) علاوة على حوالي 700 قطعة مدفعية ميدان يمكن استخـدامها وقت الضرورة كأسلحة مضادة للدبابات+ حوالي 250 هاونا ثقيلا 120/ 160 مم (4). لو قال السادات هذه الحقائق لظهرت ادعاءاته بشكل لا يمكن لعاقل أن يقبله. لذلك ابتكر السادات كذبة كبيرة فربط بين الإقالة وبين سحب القوات كلها من سيناء. وأني أتحدى أن يذكر أحد شهود هذا الاجتماع-وهم ستة أشخاص علاوة على الرئيس والوزير وأنا- أنني طلبت انسحاب القوات كلها من سيناء,وفي الحديث السابق نفسه يتحدث السادات
عن نفسه فيقول: "أنني استطعت أن أوقف القتال على خط 22 أكتوبر"، ولم يقل لنا السادات لماذا لم يستطع التمسك بخط 22 أكتوبر. إن من يوقف عدوه عند خط معين يجب أن يكون قادرا على التمسك بهذا الخط إن عدم قدرتنا على التمسك بهذا الخط عندما بدأ العدو هجومه يوم 23 من اكتوبر هو دليل قاطع على ضعف قواتنا العسكرية في هذا الخط ولو أن السادات وافق على اقتراحي بسحب هذه الألوية الأربعة (ثلاثة من الجيش الثاني في الشرق وواحد من الجيش الثالث في الشرق) في ليلة 20/21 أكتوبر لظهر أثر ذلك في القتال اعتبارا من صباح يوم 21 من أكتوبر ولكان في إمكاننا ضرب الثغرة يومي 21 و22 وفي أسوأ الظروف كان يمكن تضييقها. ولو حدث وتوقف القتال وتلك الألوية الأربعة حول الثغرة لما استطاع العدو أن ينتهك وقف إطلاق النار يوم 23 اكتوبر، ولو انتهكه لكنا قادرين على صده وتدميره.إن مسئولية حصار الجيش الثالث يوم 23 اكتوبر تقع أولا وأخيراً على الرئيس السادات وهو يحاول أن يهرب منها. ولكن هيهات هيهات.
3- أما ادعاؤه بأني عدت منهاراً من الجبهة يوم 19 من اكتوبر فإن هذا قول رخيص. فلست أنا الذي انهار ولم يحدث أن انهرت في حياتي حتى الآن والحمد لله. أنا رجل مظلات يعرفني رجالي ويعرفني أصدقائي جيدا ولا أحد يستطيع أن يصدق ما يدعيه السادات؟ أما السادات فله تاريخ طويل من الانهيار والأمراض النفسية وهذا بنيان بعضها:
(أ) اعترف في حديث له مع همت مصطفى (الإذاعة المصرية) بمناسبة 15 مايو 1977 بأنه أصيب بمرض عصبي نتيجة القبض عليه في الساعة الثالثة صباحا في برد الشتاء القارص في كل من عامي 42، 46 وأن هذا المرض لازمه لمدة سنة ونصف السنة. وقد أضاف السادات قائلا بأنه شفي، وقد أكد هذه القصة بشكل مخفف في مذكراته صفحـة 104. ولكن الذي لا يريد أن يعترف به السادات هو أنـه مازال مريضا وأن هذه الحالة حدثت له اكثر من مرة بعد خروجه من السجن عام 1946.
(ب) يقول في مذكراته صفحـة 228 عن الحالة التي انتابته بعد هزيمة عام 1967 "استولى عليّ ذهول غريب لم اعد أستطيع معه أن أتبين الزمن أو المسافات أو حتى المكان نفسه في بعض الأحيان ".
(ج) يقول في مذكراته في الصفحة 264 عن الحالة التي انتابته بعد وفاة عبد الناصر "بعد ان أصبحت الجنازة على وشك الابتداء أصبت بانهيار مفاجئ فحملوني الى مجلس قيادة الثورة وأعطاني الأطباء خمس حقن لم أفق منها الا حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر.
(د) يقول في مذكراته في الصفحة 357 عن حالته النفسية يوم 12 ديسمبر "أصبت بنزيف لمدة 4 ايام، وقال لي الأطباء إن هذا النزيف بسبب التوتر النفسي" ويقول في الصفحة نفسها "كنت في حالة نفسية مرهقة ".
(هـ) هناك حالة اخرى شهدها كل من الرئيس معمر القذافي والأخ عبد السلام جلود ولن أتعرض لذكرها.
إن للسادات تاريخا طويلا في الأمراض النفسية. أما أنا فأني أحمد الله واشكره لأني لم اصب طوال حياتي بأي مرض عصبي أو أي حالة نفسية. اللهم لا شماتة وإنما أشكرك على ما أنعمت به علي وأقول أن السادات - وهو الرجل المريض- يرى في غيره ما يحس هو به، فيتهم كل من يختلف معه في الرأي بأنه انهار. ولست أنا أولهم ولن أكون اَخرهم. فإذا كان السادات قد أتهمني بهذا الاتهام الباطل، فإنه قد اتهم من بعدي وزيرين للخارجية بالاتهام نفسه. لقد اتهم إسماعيل فهمي وزير الخارجية الذي رفض أن يسافر معه الى القدس بالتهمة ذاتها وقال عنه في الصفحة رقم 407 من مذكراته "مسكين، لم تستطع أعصابه أن تتحمل المبادرة واستقال". وبعد أن رفض محمد إبراهيم كامل (وزير الخارجية الذي حل محل إسماعيل فهمي) التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد واستقال احتجاجـا على ذلك، اتهمه السادات في تصريحاته بالاتهام نفسه. إن السادات له تاريخ طويل وثابت يؤكد انه يعاني أمراضا عصبية ونفسية، وهو في مرضه هذا يتصور نفسه وكان جميع الناس مرضى وانه هو وحده الذي لا يعاني هذه الأمراض، وهذا هو أخطر حالات المرض.
الخاتمة:
هذه هي القصة الكاملة والحقيقية لحرب اكتوبر 1973 وهي تختلف كثيرا عن كل ما صدر عن هذه الحرب من كتب. إن هذا هو الكتاب الأول الذي يكتب عن هذه الحرب من وجهة النظر العربية، دون أن يكون تحت أي ضغط من أصحاب السلطة في مصر أو في غيرها. لقد سردت الأحداث بصراحة تامة لم يألفها المصريون حتى ليبدو للكثيرين منهم أني قد أذعت "أسرارا حربية" ما كان يصح لي أن أبوح بها.
ولكي نوضح هذه النقطة يحب أن نتفق أولا على المعنى المقصود من تعبير "أسرار حربية". إن التفسير المنطقي لذلك هو "إذاعة معلومات عن القوات المسلحة الوطنية لم يكن العدو يعرفها، ونتيجة معرفته لهذه المعلومات فإنه يستطيع ان يهدد أمن وسلامة الوطن". إن حجب المعلومات التي لا ينطبق عليها التفسير السابق عن الشعب المصري والعربي تحت شعار السرية هو إسراف في تفسير تعبير "أسرار حربية" وهو محاولة يائسة من السادات ونظامه لكي يحجب الحقائق عن الشعب المصري، لكي ينقذ نفسه من مسئولية الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها في حق مصر وقواتها المسلحة.
ان العدو يعرف جيدا إننا قمنا بدفع الفرقتين المدرعتين 4 و 21 من غرب القناة إلى شرقها ليلتي 13,12 أكتوبر، ويعلم جيدا إننا قمنا بهجوم فاشل يوم 14 من أكتوبر خسرنا فيه 250 دبابة، ويعلم كذلك أنه عبر في منطقة الدفرسوار ليلة 15/16 من أكتوبر بقوة لواء مشاة ولواء مدرع، ويعلم جيداً بخطتنا للهجوم على الدفرسوار يوم 17 من أكتوبر وانه دمر اللواء المدرع 25 بكامله، ويعلم جـيداً انه مساء يوم 18 اكتوبر كان له غرب القناة خمسة ألوية مدرعة ولواء مشاة إن العدو يعلم جيدا أنه حاصر الجيش الثالث يومي 23 و 24 أكتوبر وانه عند وقف إطلاق النار يوم 24 من اكتوبر كان له ثلاث فرق مدرعة غرب القناة مقابل فرقة مدرعة مصرية واحدة. إن مالا يعرفه العدو هو"لماذا يتصرف المصريون بمثل هذه الحماقة، ومن هو المسئول الرئيسي عن هذه القرارات الخاطئة؟". ليس هناك إذن معلومات سرية يستطيع العدو أن يستفيد منها ضد مصر وإنما هناك أسرار يريد السادات أن يحجبها عن الشعب العربي. وهذه هي مشكلة الديمقراطية في مصر. إن السادات لايريد أن يسمح لشعب مصر أن يقرأ ألا ما يريد له السـادات أن يقرأ. انه لا يريد لأحـد من أبناء مصر أن يكتب إلا إذا كـان ما يكتبه معبرا عن وجهة نظر حـاكم مصر. ومن هنا يكون هذا الكتاب تحديا خطيرا لهذه القواعد القمعية و اللاديمقراطية التي يمارسـها نظام السادات في مصر.
إن هذه الحرب مليئة بالدروس والعبر، لعل أبرزها أكثرها تأثيرا على سير العمليات هو الصراع بين القادة العسكريين والسياسيين ذلك الصراع الذي يعد مشكلة كل وقت وزمان، ولكنها لم تكن قط بهذه الصورة التي ظهرت بها خلال حرب أكتوبر 73 على المسـتوى المصري.
لقد كان في استطاعتنا أن نحقق الكثير لولا تدخل السادات المستمر واصدار سلسلة من القرارات الخاطئة التي كانت تجهض قدراتنا العسكرية. والآن وقد أذيعت الأسرار كلها التي كـان يحرص السادات على إخفائها، فقد آن الأوان لكي نجري في مصـر حوارا نناقش فيه أخطائنا ونحدد المسئول عن كل خطأ حتى نعرف من هم أبطال هذه الحـرب الحقيقيين ومن هم الأبطال المزيفون.
ملحق
نص الخطاب الذي وجهه الفريق سعد الدين الشاذلي إلى النائب العام المصري .. وفيه يطلب محاكمة السادات
السيد النائب العام:
تحية طيبة.. وبعد
أتشرف أنا الفريق سـعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في الفترة ما بين 16 من مـايو 1971 وحتى 12 ديسمبر 1973، أقيم حاليـا بالجمهورية الجـزائرية الديمقراطية بمدينة الجزائر العاصمة وعنواني هو صندوق بريد رقم 778 الجزائر- المحطة B.P 778 ALGER. GARE بان اعرض على سيادتكم ما يلي:
أولا:
إني أتهم السيد محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر العربيـة بأنه خلال الفترة ما بين أكتوبر 1973 ومايو 1978، وحيث كان يشغل منصب رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية بأنه ارتكب الجرائم التالية:
1- الإهمال الجسيم:
وذلك انه وبصفته السابق ذكرها أهمل في مسئولياته إهمالا جسيما واصدر عدة قرارات خاطئة تتعـارض مع التوصيات التي أقرها القادة العسكريون، وقد ترتب على هذه القرارات الخاطئة ما يلي:
(أ) نجاح العدو في اختراق مواقعنا في منطقة الدفرسوار ليلة 15/16 أكتوبر 73 في حين انه كان من الممكن ألا يحدث هذا الاختراق إطلاقا.
(ب) فشل قواتنا في تدمير قوات العدو التي اخترقت مواقعنا في الدفرسوار، فى حين أن تدمير هذه القوات كان في قدرة قواتنا، وكان تحـقيق ذلك ممكنا لو لم يفرض السادات على القادة العسكريين قراراته الخاطئة.
(ج) نجاح العدو في حصار الجيش الثالث يوم 23 من أكـتوبر 73، في حين أنه كان من الممكن تلافي وقوع هذه الكارثة.
2- تزييف التاريخ:
وذلك انه بصفته السابق ذكرها حاول و لا يزال يحاول أن يزيف تاريخ مصر، ولكي يحقق ذلك فقد نشر مذكراته في كتاب اسماه (البحث عن الذات) وقد ملأ هذه المذكرات بالعديد من المعلومات الخاطئة التي تظهر فيها أركان التزييف المتعمد وليس مجرد الخطأ البريء.
3- الكذب:
وذلك انه كذب على مجلس الشعب وكذب على الشعب المصري في بياناته الرسمية وفي خطبه التي ألقاها على الشعب أذيعت في شتى وسائل الإعلام المصري. وقد ذكر العديد من هذه الأكاذيب في مذكراته (البـحث عن الذات) ويزيد عددها على خمسين كذبة، اذكـر منها على سبيل المثال لا الحصر مايلي:
(أ) ادعاءه بـان العدو الذي اخـترق في منطقـة الدفرسوار هو سبعة دبابات فقط واستمر يردد هذه الكذبة طوال فترة الحرب.
(ب) ادعاءه بأن الجـيش الثالث لم يحاصر قط في حين أن الجيش الثالث قد حـوصر بواسطة قوات العدو لمدة تزيد على ثلاثة أشهر.
4 -الادعاء الباطل:
وذلك انه ادعى باطلا بأن الفريق الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية قد عاد من الجبهة منهارا يوم 19 من اكتوبر 73، وانه أوصى بسحب جميع القوات المصرية من شرق القناة، في حين انه لم يحدث شيء من ذلك مطلقا.
5- إساءة استخدام السلطة:
وذلك أنه بصفته السابق ذكرها سمح لنفسه بان يتهم خصومه السياسيين بادعاءات باطلة، واستغل وسائل إعلام الدولة في ترويـج هذه الادعاءات الباطلة. وفي الوقت نفسه فقد حرم خصومه من حق استخـدام وسائل الإعلام المصرية -التي تعتبر من الوجـهة القانونية ملكا للشعب- للدفاع عن أنفسهم ضد هذه الاتهامات الباطلة.
ثانيا:
إني أطالب بإقامة الدعوى العمومية ضد الرئيس أنور السادات نظير ارتكابه تلك الجرائم ونظرا لما سببته هذه الجرائم من أضرار بالنسبة لأمن الوطن ونزاهة الحكم.
ثالثا:
اذا لم يكن من الممكن محـاكمة رئيس الجمهورية في ظل الدستور الحـالي على تلك الجرائم، فإن اقل ما يمكن عمله للمحافظة على هيبة الحكم هو محاكمتي لأنني تجرأت واتهمت رئيس الجمهورية بهذه التهم التي قد تعتقدون من وجهة نظركم انها اتهامات باطلة. إن البينة على من ادعى وإني أستطيع- بإذن الله- أن أقدم البينة التي تؤدى إلى ثبوت جميع هذه الادعاءات وإذا كان السادات يتهرب من محاكمتي على أساس أن المحاكـمة قد تترتب عليها إذاعة بعض الأسـرار، فقد سقطت قيمة هذه الحجة بعد أن قمت بنشر مذكراتي في مجلة "الوطن العربي" في الفـترة ما بين ديسمبر 78 ويوليو 1979 للرد على الأكاذيب والادعاءات الباطلة التي وردت في مذكرات السـادات. لقد اطلع على هذه المذكرات واستمع إلى محتوياتها عشرات الملايين من البشر في العالم العربي ومئات الألوف في مصر.
الفصل الثامن والثلاثون: أسرار الدولة وأسرار الحكومة
لم أفش أي أسرار عسكرية:
إن اتهامي أمام محكمة عسكرية بأنني أفشيت أسرارا عسكرية في كتابي الذي نشرته عن حرب اكتوبر سنة 1979. هو اتهام باطل لا يستند إلى أي دليل. أني أتحدى من يدعي بغير ذلك أن يذكر معلومة محددة يعتقد انها- من وجهة نظره- تعتبر معلومة عسكرية سرية.
لقد جاء في تعليق مدير إدارة القضاء العسكري الذي نشر في مجلة المجلة بتاريخ 24 أكـتوبر 93 "أن الفريق الشـاذلي بصفته العسكريـة كرئيس للأركان قد أفشى أسرارا عن اسلحة ومعدات وخطط ومعلومات عن تشكيلات وتحركات وافراد وعتاد واستراتيجيات وتكتيكات القوات المسلحة المصرية. وذلك من خلال ما كتبه في الخارج من مقالات نشرت في مجلة الوطن العربي بالإضافة إلى كتـاب صدر في باريس تحت عنوان حـرب اكتوبر، دون إذن خطي من السلطات العسكرية المختصة كـما يوجب القانون " وأرى أن الجملة الوحيـدة الصـادقة في كل هذا التصريح هي أنني لم احصل على تصريح كتابي من وزارة الدفاع بنشر كتـابي عن حرب اكتوبر. أما كل مـا جاء على لسان مدير إدارة القضاء العسكري من اتهامات اخرى فهي ادعاءات باطلة لا تستند إلى أي دليل.
نعم لم أطلب تصـريحـا من وزارة الدفاع لأني أرى أن أي قرار أو قانون يفرض على الأشخاص ضرورة الحصول على إذن مسبق من القيادة العامة للقوات المسلحة، قبل إجراء أي حديث أو قبل نشره هو إجـراء غير دستوري ويتعارض مع مبدأ حرية الرأي التي كفلها الدستور لكافة المواطنين. وان كل مـا تستطيع السلطة التنفيذية عمله- إذا افترضنـا احترامها للدستور- هو أن ترفع الدعوى ضد من تعتقد أنه أفشى اسرارا عسكريـة. ثم يترك الأمر بعد ذلك للقضاء للفصل في الدعوى.
نعم لم اطلب تصـريحا من وزير الحـربية لأنني على قناعة بأني لست اقل منه علما أو وطنية عند تقييمي لما اكتب، من حيث أن ما اكتبه يمكن أن يستفيد منه العدو في تهديد أمن وسلامة وطني. وإذا علمنا بالكـم الهائل من المقالات والكتب التي يتحتم عرضها على وزارة الحربيـة لاحتوائها على موضوعات عسكرية. وان الوزير وكـبار معاونيه لا يستطيـعون مراجعة كل هذه المقالات والكتب. وان الأمور عادة ما تنتهي بإحالة هذه الكتب والمقالات إلى ضباط ينقصهم العلم والخبرة، اتضـحت لنا خطورة النتائج التي يمكن أن تسفـر عنها مثل هذه الرقابة. والتي عادة ما تتمسك بالشكل دون المضمون. والتي قد تخضع احيانا لعوامل شخصية وتصفية حسابات قديمة. أو قد تتأثر بموقف انتهازي من الضابط الرقيب إذا شعر أن رفضه التصـريح بنشر كـتاب لمؤلف مـا، قد يرضى رئيسه، نظرا لما يعلمه من وجود خلافات سابقة بين المؤلف وبين رئيس الضابط الرقيب.
نعم رفضت طلب التصريح بالنشر من وزير الحربيـة، لأن كتابي عن حرب أكـتوبر كان مليئا بالنقد اللاذع لرئيس الجمهورية ولوزير الحربية. ولأنـني طالبت في هذا الكتاب بإلغاء منصب القائد العام للقوات المسلحة، وإبعاد وزير الحربية عن القرارات العسكرية.
نعم كنت ومازلت أطالب من أجل مصر بان يصبح رئيس الأركان هو الرجل العسكري الأول، وبأن يصبح وزير الحربية شخصية سياسية تختص فقط باتخاذ القرار السياسي وتحديد الهدف الاستراتيجي دون التدخل في أسلوب التنفيذ. ولم يكن من المعقول أن يوافق وزير الحربية على التصريح بنشر كتابي إذا أنا طلبت منه ذلك (راجع الفصل السابع عشر).
ولو أننا أخذنا بما جاء على لسان مدير إدارة القضاء العسكري عن مفهومه الفضفاض للأسرار العسكرية (تكتيكات، استراتيجيات، تحركات، أسلحة ومعدات، خطط تم تنفيذها) لأصبح الزاما علينا أن نوقف إصـدار مجلة الدفاع وأي مجلة عسكرية أخـرى تصدرها أفرع القوات المسلحـة الرئيسية واسلحة الجـيش المختلفة، وألا نتحـدث في الصحف عن المناورات العسكرية التي تقوم بها قواتنا، وألا نقبل في مـعاهدنا العسكرية طلبة أجانب حتى لا يدرسوا ما لدينا من تكتيكات واستراتيجيـات.. الخ، وأن نمنع المجلات العالميـة التي تعالج الشـئون العسكرية من دخول مصر.. والتي من ضمنها الكتب التي يصدرها المعهد الدولي للدراسات ألاستراتيجية THE INTERNATIONAL INSTITUTE FOR STRATEGIC STUDIES (IISS والكتب التي يصدرها SLPRI … والكتب التي تصدرها JANES .. حيث أن هذه الكتب تتحـدث عن حجم وتنظيم الوحدات والتشكيـلات ومواصفات الأسلحة والمعدات وكل ما جـاء على لسان مدير إدارة القضاء العسكري على أنه من الأسرار، ولأصبح الزاما علينا أن نمنع اقمار التـجسس التي تعبر فضـاءنا الجوي في كل يوم وتقوم برصد كل تحـركاتنا العسكرية، أو على اقل تقدير نحتج على مرورها.
الأسرار في عصر الأقمار الصناعية:
لقد لعبت اقمار التجسس دورا مهما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، سواء من ناحية مراقبة كل من الولايات المتحدة والاتحـاد السوفيتي لبعضهما البـعض، أما من ناحية تزويد بعض الدول الصـديقة لأي منهما بالمعلومات التي تفيدها في صراعها ضـد الدول الأخرى المعادية. يقول المستر كيسىCASEY مدير وكالة المخابرات الأمريكية الأسبق C.I.A "من الصور التي تلتقطها أقمارنا الصناعية، نستطيع أن تعد جميع الدبابات السـوفيتية. وبتكرار التصـوير على فترات، نستطيع أن نعرف إذا ما كـانت هذه الدبابات صـالحـة للاستخدام من عدمه. وتستطيع وسائل الإنذار المبكر أن تسجل أي تحركات تقوم بها القوات السوفيتية، أو أي مشروع دفاعي كبير يكون في مرحلة التطوير صفحة رقم 221 من كتاب THE SECRET WARS OF THE CIA للكاتب الصحـفي بوب ودورد BOB WOODWARD النسخة الإنجليزية، الطبعة الأولى 1987).
ويقول المستر جون Mr John Lehman -الذي كان يشغل منصب وزير الحربية في إدارة الرئيس الأمريكي ريجان مابين 81-1987- "إن الولايات المتحدة زودت بريطانيا بمعلومات مهمة خلال حرب الفولكلاند عام 1982، وإن هذه المعلومات كانت بطريقة سرية، وكانت خافية حتى على كثير من كـبار المسئولين في الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، وانه بدون هذه المساعدة ما كان باستطاعة بريطانيا أن تنتصر في هذه الحرب. بل إن بعضا من كبار المسئولين البريطانيين الذين كانوا على علم بتلك المعلومات التي قدمتها إليهم أمريكا - ويشاركهم في ذلك ليمان نفسه- يعتـقدون أن بريطانيا كانت ستهزم في تلك الحرب لو لم تحصل على تلك المعلومات " مذكرات ليمان صحيفة الجارديان بتاريخ 4/1/89).
وعن القمر الصناعي KH-11 ، يقول كيسى "أطلق أول قمر من هذا النوع في ديسمـبر1976، فكان ذلك اهم انجازات السبعينيات في هذا المجال. فقد كان في استطاعة هذا القمر أن يرسل إلى الأرض ما يلتقطه من صور باشارات تلفزيونية فور تصويرها. وكان ذلك على عكس الجيل السابق من الأقمار الصناعية التي كانت تقوم بقذف الأفلام إلى الأرض بعد استكمال التصوير، حيث كان التقاط هذه الأفلام وتفريغها ثم توزيعها على الجهات المعنية يحتاج إلى الكثير من الوقت الذي قد تصبح فيه هذه المعلومات غير حديثة. أما بواسطة القمر الصناعي KH-11 فإنه اصبح في استطاعتنا في وكالة المخابرات والبنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) والقادة الميدانيين أن يشاهدوا حركة الدبابات السوفيتية فور حدوثها.
كان القمر الصناعيElectro Optical Kh -11 Imaging Satellite يعتمد على التصوير. وكان ذلك يعني عدم قدرته على إرسال الصور الواضحة في الليل في الأيام الغائمة، ثم ظهر بعد ذلك الجيل المتطور من هذه الأقمار التي تستطيع التصوير ليلا، وذلك بتكثيف ضوء النجوم، ثم ظهر الجيل الثالث من الأقمار الصناعية الذي يعتمد على التصوير الراداري، حيث إن الإشـارات الرادارية لا تتاثر بالظلام والسحب. وهكذا ظهر مشـروع قمر لاكروس وقد وضع اول قمر لاكروس Lacrosse في الفضـاء يوم 3 ديسمبر1988. (ص 30 من المرجع السابق).
وعندما اسقط الاتحاد السـوفيتي طائرة الركاب الكورية التي انتهكت الأجواء السوفيتية اثناء رحلتها رقم 7.. في ليلة 31 اغسطس أول سبتمبر 1983على أساس أنها كانت تقوم برحلة تجسسية لحساب امريكـا سخر الخبراء الأمريكيـون من هذا الادعاء وقالوا إن الصور التي تلتقطها اقمارهم من ارتفاع 160 كيلومترا، اظهرت أحد الأشـخاص وهو يقرأ صحيفة برافدا في أحد شوارع مدينة تقع في شمال الاتحاد السوفيتي. وقالوا إن عنوان الصـحيفة كـان ظاهرا ويمكن قراءته من الصورة (نيويورك تايمز، هيرالد تربيون 12/9/83).
وفي لقاء مع عدد من طلاب الجامـعات المصرية في افتتاح إسبوع أنشطة الجامعات في الإسماعيلية، قال الرئيس حسني مبارك "إن المناورات المشتركة مع امريكا لا تضيف شيئا إلى معلومات امريكا عن قواتنا المسلحة. ذلك انهم يعلمون كل شيء عنا، فهم يبيعون لنا السلاح وقطع الغيـار. كما أنهم يمتلكون أجهزة دقيقة للتصـوير والتجسس تمكنهم من معرفة أدق الأسرار. وقد ابلغوا الحكومة المصرية مؤخرا أن هناك 60 جنديا مصـريا على الحدود مع إسرائيل زيادة على اتفاقية كامب ديفيد" (مجلة المستقبل 29 من سبتمبر 1987).
ويعتقد أن الولايات المتحدة كانت اكثر تقدما من الاتحاد السوفيتي في مجال الاستطلاع بالأقمار الصناعية. ولكن الاتحاد السوفيتي لحق بها في منتصف السـتينيات وقد علم الأمريكان بذلك عندما لفت السوفيت نظرهم بأنهم قاموا بتمويه مرابض صواريخ مينيتمانMiinuteman في منطقة مونتـانا، وان ذلك يتعارض مع معاهدة سولت-1 ، وقد أنكر المفاوضون الأمريكيون هذا الاتهام اول الأمر. ولكنهم اكتشفوا بعد ذلك أن الفنيين قد قاموا بتغطية هذه المرابض و حمايتها من الصقيع عندما هبطت الحرارة إلى درجة الصفر. وبعد أن علم المفاوضون الأمريكيون بذلك أمروا برفع هذه الأغطية واعتذروا للسوفيت. ولكن هذا الحـادث أكد لهم أن الاتحـاد السوفيتي لابد أن يكون قد أحرز تقدما كـبيرا في مجـال الاستطلاع بالأقمار الصناعية.
وفي خلال حرب اكـتوبر 73، استخدم الإسرائيليون الصور التي كانت اقمار التجسس العسكرية الأمريكية تلتـقطها لمدينة السويس. فعرفوا منها الشوارع التي كـانت تخلو من القوات المصـرية والشعبيـة. وبناء على هذه المعلومات أخذت قيـادة الجـبهة الجنوبيـة (الإسرائيلية) توجه القوات الإسرائيلية التي كانت محاصـرة في مكتب شرطة السويس للإفلات خلال ليلة 24/ 25 أكتوبر.
يقول السادات في الصفحة رقم 375 من كتابه "البحث عن الذات" وهو يتحدث عن حرب 1967، ما يلي "كان جونسون (الرئيس الأمريكي) يسـتحث الإسـرائيليين على المبـادرة بالهجـوم على سيناء، بعد ان قدم لهم صور القمر الصناعي الأمريكي عن أوضـاع القوات المصرية في سيناء سـاعة بعد ساعة"، وعندمـا كان السادات يتحدث عن حـرب اكتوبر 73، فإنه قال في الصفحة 346 من نفس المرجع السـابق ما يلي "ولكن القمر الصناعي الأمريكي والبنتاجون كـانوا يوافون إسرائيل بالموقف ساعة بعـد ساعة دون أن تطلب ذلك. وأخبرهم بنقل الفرقة 21 المدرعة من الغرب إلى الشرق" .
ومرة أخرى يكتب السادات في الصفحة رقم 387 من كتابه "البحث عن الذات" عن لقائه مع وزير الخـارجيـة الأمريكي (كان هذا اللقاء يوم 7 نوفمبـر 73) ومطالبته بضـرورة انسحـاب إسرائيل إلى خط 22 أكـتوبر، فـيقول ما يلي "خط 22 أكتوبر سنة 1973 وهو الخط الذي كـان قـائما وقت وقف إطلاق النار، وتعرفه امريكا وروسـيـا بأقمارهما الصناعية". كان هذا يعني اعترافا صريحا آخر من رئيس الجمهورية بقـدرة الأقمار الصناعية في اكتشاف وتوزيع مواقع القوات المتحاربة.
بعد هذا العرض لإمكانات الأقمار الصناعية. وبعد اعتراف السادات بان امريكا كانت تمد إسرائيل بكل المعلومات التي كانت تحصل عليها عن تحركـات قواتنـا بواسطة اقمارها الصناعية. فهل يمكن لعاقل أن يتصور أن المخابرات الإسرائيلية كانت في حـاجة ماسة إلى معرفة تحركات قواتنا من كتاب الفريق الشاذلي وبعد أن كان قد مضى أكثر من 5 سنوات على تلك الحرب.
العلم العسكري والسر العسكري
الحرب علم وفن، والمكتبـات العـامة تزدحم بمئات الكتب والمجلات التي تعالج الحـرب بجـميع فروعها. ولعل اقدم هذه الكتب- والذي مازال يدرس في الكثير من الأكاديميات العسكرية- هو كتاب "فن الحرب الذي ألفه الصيني Sun Tzu عام 500 قبل الميلاد أما أحدثها فهو الكتاب الذي نشره الجنرال شوارتزكوف عام 1992 عن الحرب التي قادها ضد العراق عام 90/91. وبين هذين الكتابـين صدرت الاف الكتب التـي تتحـدث عن التكتيك، والاستراتيجية، والتحركات، ومبادىء الحـرب والتنظيم، والخسائر البشرية والمادية لكل حرب، والخلافات بين القيادات السياسية والقيادات العسكرية، الخ. ولم يقل أحد قط- إلا في مصر وفي حـالة الفريق الشاذلي بالذات- إن ما ورد في هذه الكتب يعتبر افشاء للأسرار العسكرية!!
وبهذه المناسبة نذكر بما قاله الرئيس حسني مبارك يوم 12/8/92 في أثـناء توديعه للقوة المصـرية المسافرة إلى سراييفو. فقد قال "إن حرب اكـتوبر تدرس الآن في جـميع المعاهد العسكرية وغير العسكرية". وانه لفخر لمصر أن تقوم كلية القيادة والأركان الأمريكية بتدريس حرب اكتوبر لطلبتها. وهنا علينا أن نتساءل: من اين حصلت امريكا على المعلومات التي تقوم بتدريسها للطلبة العسكريين. إن كان المرجع هو كتاب الفريق الشـاذلي فهذا فخر للعسكرية المصـرية. إذ يصبح أحد ابنائهـا صاحب كتـاب يصل به إلى العالمية. أما إذا كانت المعلومـات التي تدرس في الأكاديميات العسكرية الأمريكية مصدرها شىء آخـر، فإن هذا يعني ويؤكد أن امريكا حصلت على هذه المعلومات- إذا افترضـنا سريتها- من مصادر أخرى. وبذلك تلقي التهمة المنسوبة إلى الفريق الشاذلي فيما يتعلق بافشاء اسرار عسكرية. وبالإضـافة إلى الكتب العسكرية فهنـاك مئـات المجلات العسكرية التي تصدر بطريقة دورية. بعضها يصدر اسبوعيا وبعضها يصدر شهريا أو سنويا. ولعل أشهر هذه المجلات على المستوى العالمي هي تلك التي تصدر عن الجهات التالية:
(أ) معهد الدراسات الاستراتيجية الدولي International Institute for Strategic Studies
(ب) المعهد الملكي للأسلحة المشتركة لشئون الدفاع Royal United Services for Defence Studies
(ج) مؤسسة جينز Janes
وعن طريق هذه المطبوعات يمكن معرفة ميزانية الدفاع في كل دولة. وما تمتلكه كل دولة من قوات مسلحـة. ويشمل ذلك: عدد الأفراد، وعدد الأسلحة الرئيسية، واسلوب تنظيم هذه الأسلحة في تشكيـلات، ومواصفات وخصائص كل سـلاح ومعدة. كـما تتضـمن دراسات وبحوثا عن المشاكل التكتيكية والاستراتيجية الحاضرة والمستقبلية.
إن تطور أجهزة الرصـد وتنوعها وإقدام الدول الغربية على نشر المعلومات الوفيرة عما تملكه من اسلحة وعما يملكه الآخرين من اسلحة وعتاد، قد جعل كافة الدول عارية تماما من كل سر يتعلق بالقدرات القتالية، و اصبـحت كل دولة على معرفة تامة بما تملكه جاراتها من اسلحة وقدرات قتالية، وأصبح على كل طرف أن يبني خططه على أساس أن عدوه المحتمل يعلم عنه كل شيء فيما عدا النوايا التي يخفيها في صدره ومع أن هذه النوايا يمكن تخمينها بواسطة القادة العسكريين في الطرف الآخر، إلا أنها- مع ذلك- تبقى هي السر الوحيد الباقي إلى أن تبدأ العمليات الحربية، وبمجرد بدء العمليات وتنفيذ النوايا على أرض المعركة تصبح الحرب تاريخا وتصبح خططها جزءاً من هذا التاريخ. وعلى هذا الأساس خططنا لحرب أكتوبر، حيث كنا على علم عن إسرائيل كل شىء. وكنا نفترض طبعا اتها تعلم عنا كل شيء. وكما يقول السادات في الصفحة رقم 333 من كتابه "البحث عن الذات":"كانت كل من مصر وإسرائيل تمتلك من أساليب الحرب الالكترونية ما يمكنها من رصد كل ما يحدث على الجانب الآخر".
كانت خططنا للعبور وتدمير خط بارليف هي الشيء الوحيد الذي نحرص على إخـفائه وبنجاح خطة العبور والمام إسرائيل بها فقدت الخطة سريتها.
لمن يكون الولاء؟
نعم لمن يكون الولاء للشـعب والدولة؟ أم للحكم والحكومة؟ الإجابة عن هذا السؤال قد حُسمت في الأنظمة الديموقراطية. فالشعب هو الذي يختار الحاكم والحكومة دون تدخل من الحكومة التي تشرف على الانتخابات والشعب هو الذي يحدد اخـتصاصـات الحـاكم والحكومة، وهو الذي يسقطهم إذا وجـد منهم انحـرافا عن الحدود والاختصاصـات التي رسمها لهم. ولذلك فإن الولاء الأول يكون للشعب. أما ولاء الشخص للحاكم والحكومة فهو ولاء مشروط وهذه الشروط هو ألا يتعارض هذا الولاء مع ولائه للشعب. وفي بريطانيا التي تعتبر أعرق الديمقراطيات في العالم المعاصر، تأكد هذا المفهوم من خـلال قضية Ponting عام 85 وقضية Wright عام 1987.
أما القضية الأولى فقد كانت تتعلق بموقف حكومـة المسز تاتشر من إخفاءها بعض المعلومات التي تتعلق بحرب الفولكلاند التي جرت بين بريطانيا والأرجنتين عام 1982. فقد أدلت حكومـة تاتشر أمام مجلس العموم البريطاني بان الغواصة البريطانية كـونكيرور Conqueror أغرقت البارجة الأرجنتينية بلجرانو يوم 2 مايو 82، لأنها كانت تشكل خطورة على أمن وسلامة الأسطول البريطاني في المنطقة. وانه عندما صدر القرار السياسي بأغراق البارجة الأرجنتينية لم تكن مسز تاتشر قد علمت بعد بمشروع الاتفاق الذي تقدمت به دولة بيرو لحل النزاع بين بريطانيا والأرجنتين. ولكن المستر بونتنج- الذي كان يشغل منصـبا كبيرا في وزارة الدفـاع- سرب إلى حزب العمل المعارض للحكومة وثيقة تؤكد أن الحكومة قد كذبت على مجلس العموم في نقطتين مهمتين، الأولى هي أن القرار السيـاسي قد صدر بإغراق البارجة بعد 24 ساعة من إبلاغ الحكومة البريطانية بمشروع الحل السياسي. والأخيرة هي انه عندما صدر الأمر بإغراقها، كـانت بلجرانو على مسافـة 200 ميل من الأسطول البريطاني، وبالتالي فإنها لم تكن تشكل أي خطورة على الأسطول البريطاني.
قدمت الحكومة البريطانية المستر بونتنج للمحاكمـة بتهمة إفشاء أسرار عسكرية (محكمة عادية بالتأكيد، حيث إنه في بريطانيا لا تقام الدعوى ضد المدنيين أمام محاكم عسكرية). وفي أثناء المحاكمة دار الحوار بين الادعاء والدفاع حول سؤال مهم هو: لمن يكون الولاء للشعب أم للحكومـة؟ فالدفاع كـان يقول إن إذاعة هذه الأسرار كان بناء على نداء الضمير نحو حق الشعب في معرفة الحقائق. وإنه إذا تعارضت مصلحـة الشعب مع مصلحة الحكومـة، فإن ولاء الموظف يجب أن يكون للشعـب. أما الإدعاء فكان يتمسك بان المستر بونتنج قد انتهك القانون الخاص بالأسرار الرسميـة عندما أذاع أسرارا كانت بعهدته إلى أشـخاص غير مسئولين. وإنه ليس هناك تناقض بين مصالح الدولة ومصالح الحكومة، حـيث إن مصالح الحكومة القائمة هي مصالح الدولة نفسها.
وفي 11 من فبراير 85 صدر الحكم بتبرئة المسـتر بونتنج من تهمة إذاعة اسرار الدولة. وجاء في الحكم أن مصالح الحكومة ليست دائما متطابقة مع مصالح الدولة. وأن الموظف العام لا تمكن إدانته إذا هو أذاع معلومات في حوزته لا تهدد أمن وسلامة الدولة، ولاسيما إذا اتضح له أن الحكومة تحـجب حـقائق مهمة عن الشعب. وقد هلل الشـعب البريطاني لهذا الحكم وعلق عليه السكرتير العام لموظفي الدولة قائلا "إن هذا الحكم يعتبر انتصـارا عظيما للحريات المدنية. أرجو أن يدفع ذلك الحكومات إلى التوقف عن محاكمة موظفي الدولة الذين تكون كل جريمتهم هي انهم يضعون ولائهم للشعب في المقام الأول".
أما القضية الثانية فهي قضية المستر رايت Wright.الذي كان يعمل ضـابطا بالمخابرات البريطانيـة. وبعد تقاعده هاجر إلى استراليا واصدر كتـابا عن الأعمال القذرة التي تقوم بها المخابرات البريطانية والتي كان من بينها التصنت غير القانوني على محادثات الأفراد وسرقة منازلهم. وقتل المستر جيتسكيل Gaitskell زعيم حزب العمال بان دسوا له ميكروب مرض إستوائي قاتل في شـراب من الويسكي. والتآمر لاغتيال الرئيس المصري جمـال عبد الناصر والزعيم القبرصي اليوناني جريفاس.. إلخ. وقد قام رايت بنشر كتابه الذي أسماه- قناص الجواسيس Spy Catecher- في أمريكا، ولكن القضاء البريطاني فرض حظر النشر في بريطانيا باغلبية ثلاثة ضد اثنين. وقد وقف الشعب البريطاني ضد هذا الحكم. ولجأت بعض الصـحف إلى نشر اجـزاء من الكتـاب. وذهب توني بن Tony Benn -أحد زعماء حزب العمال- إلى حديقة هايد بارك ومعه نسخة من الطبـعة الأمريكية للكتاب واخذ يقرا منها على الجماهير الشعبية التي وقفت تستمع إليه. وكتبت صحيفة الديلي ميرور في 31 من يوليو 87 تقول "لقد نشر كتاب رايت في أمريكا وتمت قراءته في كل مكان. والانجليز وحدهم هم الذين لا يستطيعون قراءته. إن القضاة الأغبياء قد أصدروا حكما لا يمكن أن يحترم أو يعيش" أما صـحيفة الديلي ميل فقد نشـرت في 1/8/87 تقول "لو قبل الشعب البـريطاني بان الحريات التي يتمتع بها هي تلك التي تسمح بها السلطات (يقصد السلطة التنفيذية والسلطة القضائية)، فإن ذلك يعني أننا بدأنا السير على طريق الشمولية"
أما في الأنظمة الاوتـقراطية والشموليـة. فإن الأمور تسير في عكس هذا الاتجاه تماما. فالولاء للحـاكم هو السبيل الوحـيدة لشغل المناصب الـعليا. وفي هذه الأنظمة يشيع النفاق ويتقدم الانتهازيون الصفوف. أما القلة التي ترفض السير في ركب المنافقين وتتمسك بالقيم والمبادئ فإنها تتعرض لحملات ظالمة من وسائل الإعلام التي تملكها الدولة أو تسيطر عليها عن طريق وسائل اخرى متعددة وفي ظل هذه الظروف الصعبة فلا غرابة أن يسود في تلك البلاد شعار يطالب الفرد بان يكون ولاؤه للحاكم والحكومة حتى لو تعارض هذا الولاء مع ولائه لله وللأمة والوطن.
أما المؤمنون والمؤمنات فولاؤهم الأول والأخير لله سبحانه وتعالى مهما سبب لهم ذلك من مشاكل ومتاعب. واما الحاكم فطاعته مشروطة بما جـاء في الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم. فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. ذلك خير واحسن تأويلا)" (النساء/ 59).
وقد جرى الخلفاء الراشدين على هذا النهج. فقد قال أبو بكر مخاطبا الناس بعد أن تمت له البيعة (إني وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم). وعندما ولي عمر بن الخطاب ردد نفس ما قاله أبو بكر الصديق. فقال له رجل وهو شاهر سيفه "والله يا امير المؤمنين لو رأيناك معوجا لقومناك بسيوفنا" فرد عليه عمر "رحمكم الله الذي جعل فيكم من يقوم عمر بسيفه". هذا هو الحاكم المسلم حـقا. وهذا هو الشعب المسلم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يخشى إلا الذي خلقه وخلق السماوات والأرض وما بينهما.
من الذي يحدد أسرار الدولة؟
تعريف السر: في الأنظمة الديمقـراطية تقوم السلطة التشريعية بتعريف السر تعريفا حقيقيا قبل تجريمه. وتصـدر السلطة القضائية حكمها في الدعوى التي ترفعهـا السلطة التنفيذية أو أي جهة اخرى ضد من يرتكب جريمة إفشاء السر. وحيث إنه لا يمكن لأي سر أن يبقى سرا إلى الأبد. وحيث إن وسائل الرصد والحصول على المعلومات تتطور عاما بعد عام، فإن ما كان يمكن أن يعتبر سرا من اسرار الدولة منذ مائة عام أو منذ خمسين عاما، فإنه لا يمكن اعتبـاره اليوم من أسرار الدولة، نظرا لاستحالة إخـفائه عن سمع و انظار الأعداء في عصر الأقمار الصناعيـة. بل إن قدرات الأقمار الصـناعية تتعاظم عاما بعد عام بحيث أصبح اليوم في استطاعة القائد العسكري أن يشاهد حـركة الدبابات والتشكيـلات المعادية على شاشـة تليفزيونيـة وهي على بعد مئات أو آلاف الكيلومترات. وفي ظل هذه المتغيرات السريعة، فإن أفضل تعريف للسر العسكري، هو ما جاء في منطوق حكم المحكمة البريطانية التي برأت المستر بونتنج من تهمة افشاء أسرار عسكرية، في 11 فبراير 1985، فقالت إن "السر العسكري أو سر الدولة هو ذلك السر الذي يترتب على افشائه تهديد أمن و سلامة الدولة".
ومع أن هذا التعريف البريطاني صدر عام 1985. ومع أن كتابي عن حرب أكتوبر نشر عام 1979، إلا أن مفهومي للسر العسكري كان يتطابق تماما مع مفهوم التعريف البريطاني. ويؤكد ذلك ذكر خصائص الصواريخ جو- ارض التي كانت لدينا والتي نوقشت خلال مؤتمر انشاص في 19 من نوفمبر 71 (ص 149 حرب أكتوبر الطبعة الثالثة). ففي خـلال هذا المؤتمر تحدث الجنرال أوكينيف عن الصواريخ جو- ارض التي قرر الاتحـاد السوفيتي إمدادنا بها. وتحدث كذلك عن مواصفات تلك الصواريخ التي يمكن استخـدامها بواسطة القاذفات TU-16. ولكنني لم أتطرق في كتابي لمواصفات تلك الصواريخ عندما تبين لي أن مواصفاتها لم تكن قد ظهرت بعد في كتب ومجلات جينس Janes .ويبين هذا التصرف العلاقة بين السر والزمن. فما كنت اعتبره سرا عام 79، لا يمكن اعتباره اليوم سرا. حيث إن مواصفات تلك الصواريخ نشرت بعد ذلك في مطبوعات جينس اللاحقة.
وإذا نحن قبلنا بما تدعيه السلطة التنفيذية في مصر -وتأخذ به المحاكم العسكرية- بأنها هي صاحبة الحق المطلق في تقدير ما هو سر وما هو غير سر. فإن ذلك لابد أن يؤدي إلى إهدار العدالة. وذلك نتيجة تجميع السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) في يد شخص واحد هو الحاكم أو من يكلفه بذلك فالكل يعلم أن وزير الحربية في مصر هو الذي يعين القضـاة العسكريين ويعزلهم ويرقيهم ويحيلهم إلى التقاعد، وبالتالي فإنهم جزء من السلطة التنفيذية. فإذا قبلنا بأن وزير الحربية هو صاحب الحق في توصيف أي كتاب أو مقال ينشر بأنه يحوي أسرارا عسكرية. فإن ذلك يعني أن الحكم قد صدر مسبقا بمجرد تقديم المتهم للمحكمة العسكرية. حيث تصبح مهمة القاضي العسكري في هذه الحالة هي إصدار الحكم على المتهم بناء على شهادة مقدمة من وزارة الحربية بأن ما جاء في كتاب أو مقال المتهم هو إفشاء للأسرار العسكرية.
ونتيحه لهذه السلطات الواسعة وعدم وجود أية ضوابط لتعريف ما هو سر، حدثت تناقضات مؤسفة. فمن كان بالأمس هو صاحب السلطة في إعطاء التصريح للضباط المتقاعدين بنشر كتبهم أو عدم نشرها على أساس أن هذا سر وهذا غير سر. إذا هو -بعد تقاعده- يجد من بين تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه من يرفض التصريح له بنشر مذكراته على أساس أنها تحوي أسرارا عسكرية. وفي كـثير من الحالات كـان رفض التصريح للقادة القدامى بنشر مذكراتهم يخضع لما يسمى تصفية حسابات بين القادمة القدامى والقادة الجدد. أو قد يلجا القادة الذين في السلطة إلى هذا التصرف إرضاء للحاكم إذا استشعروا منه عدم الرضى عن القائد المتقاعد، حتى وإن لم يطلب الحاكم منهم ذلك صراحة.
ففي عام 1970 قام اللواء متقاعد صلاح الحديدي بتأليف كـتاب عن حرب اليمن. واتفق مع أحد الناشرين اللبنانيين على طبعه ونشـره في بيروت دون اخـذ إذن بذلك من وزارة الحربيـة. ولكن المخابرات الحربية علمت بذلك قبل أن يصدر الكتاب، فأبلغت الفريق أول فوزي وزير الحربية. فاستدعى الوزير اللواء صـلاح الحديدي وطلب إليه إلغاء التعاقد وعدم نشر الكتاب. وأذعن صلاح الحديدي لقرار الوزير، لأن البديل لذلك كان هو تقديمه للمحاكمة بتهمة إفشاء أسرار عسكرية. فإذا علمنا أن صلاح الحديدي كان قبل ذلك بسنوات هو مدير المخابرات
الحربيـة، وأنه كان- بحكم هذا المنصب- هو الشخص الذي يحـدد- باسم وزير الحربية- ما هو سر لا يجـوز نشره وكـان هو الشخص الذي يصـدق على ما تنشـر في وسـائل الإعلام (كتـاب وزارة الحربيـة رقم 7/ 4/ 1/ 1/ 1/ 11562 بتـاريخ 13/ 4/ 83 والذي اعتمد عليه المدعي العسكري العام في تقديم الفريق سعد الشاذلي للمحاكمة العسكرية بتهمة إفشـاء أسرار عسكرية، يقول إن ما نشره الفريق الشاذلي في كتابه عن حرب أكتوبر يحوي معلومات سرية محظور نشرها إلا بتصديق مسبق من مدير المخابرات الحربية). فهل يعقل أن صـلاح الحديدي الذي كان هو الرقيب الأول عندمـا كان في الخدمة، يصـاب فجأة بالعته عندما يتقاعد حتى انه لا يستطيع أن يميز بين ما هو سر وما هو ليس بسر؟!.
وإذا علمنا أن كتاب صـلاح الحديدي نشر بعد ذلك بسنوات، بعد أن تغير موقف القيادة السياسيـة من حرب اليمن. اتضح لنا أن أصحاب السلطة في مصر ينظرون إلى السر على أساس انه سر الحـاكم وسر النظام، ثم يدعون ظلما وعدوانا انه سـر من أسرار الدولة. وما حدث مع اللواء الحديدي حدث مع الفريق أول متقاعد محسن مرتجي، عندما رفض الجمسي - عندما كان وزيرا للحربية- التصريح له بنشر مذكراته. ثم تكرر نفس الشيء عام 1983، عندما اتهمت وزارة الحربية الفريق أول متقاعد محمد فوزي بأن كتابه عن حرب الاستنزاف -الذي نشره حـينئذ- يحوي أسرارا عسكرية. أي أن الفريق أول محمد فوزي الذي أرغم صلاح الحديدي على عدم نشر كتابه عام 1970، شرب هو من الكأس نفسـها عام 1983 عندما اتهم بأنه لا يستطيع أن يفرق بين ما هو سر وما هو ليس بسر!!
والأنكى من ذلك أن وزارة الحربية تكيل بمكيالين وربما اكثر من ذلك فيما يتعلق بمن تتهمهم بأنهم أذاعوا أسرارا محظور نشرها قبل حصولهم على إذن مسبق.
وفي حديث أدلى به الفريق سعيد إلماحي -الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات العامة- للصحفية سوسن أبو حسين، يقول الماحى "استدعاني الرئيس السادات ذات يوم في استراحة القناطر الخيرية وقال لي هل قرأت كتاب الفريق سعد الشاذلي عن حرب أكتوبر، فقلت له لا يا سيادة الرئيس. فأعطاني النسخة الصادرة باللغة الإنجليزية وقال لي أنا عايزك تقرأ هذا الكتاب كويس وتقدم لي عنه تقريرا وافيا وهل يتضمن أسرارا عسكرية أم لا. لأنه اذا كان الأمر كذلك حتما سنقدمه للمحاكمة العسكرية. وبعد يومين عدت إليه وقلت له إن الكتاب يخلو تماما من أية اسرار عسكرية ولاداعي للمحاكمة. لأن تقديم القادة للمحاكمة العسكرية قد يؤدي في النهاية إلى إضافة صفة الأبطال عليهم. وبالفعل أنا كنت صادقاً تماما مع الرئيس السادات ولم أجامل الفريق الشاذلي وقتها في هذه الشهادة".
وعن توصيفه للاسرار العسكرية قال الماحي "الأسرار العسكرية العامة هي كل ما يمكن أن يحصل عليه العدو ويستفيد منه ليستخدمه في الحفاظ على امنه والإضرار بمصالح وأمن بلادنا". ولذلك فأنا ارى من الأهمية أن تأخذ بعض الوقائع العسكرية طابع الاحتفاظ بالسرية لمدة طويلة حتى لا نعطي فرصة الاستفادة للعدو خاصة في القضايا الاستراتيجـية العامة. وفي الوقت نفسه نتمكن من كتابة الحقيقة الكاملة دون تخوف من محاذير استفادة العدو والتاثير على مصالح الدولة. ومن ناحية اخرى لا يجب على الإطلاق أن نحجب الحقائق عن الشعب، لأن من حقه أن يعرف كل ما يريد معرفته. خاصة أن العالم من حولنا اصبح قرية صغيرة وان ما لم يعرفه الفرد عن بلاده في الداخل فإنه من الممكن أن يحصل عليه من خارجها. وهو الأمر الذي يحدث فجوة كبيرة في الثقة بين الحاكم والمحكوم. ويدفع الأخير إلى الاستجابة إلى الشائعات الكاذبة التي لا تتصل مع الحقيقة في شيء. وقد تسيء هذه الشائعات ايضا إلى أمن وسلامة البلاد.
تنويم القوانين وايقاظها:
في 13/ 4/83 أرسل أمين عام وزارة الدفاع خطابا رقم 7/4/1/1/1/1/11562 إلى المدعي العسكري العام يقول فيه أن ما نشره الفريق الشاذلي في كتابه عن حرب اكتوبر، وما نشره الفريق اول فوزي في كتابه عن حرب الاستنزاف يحوي معلومات سرية محظور نشرها إلا بتصديق مسبق من مدير المخابرات الحربية، كأن نشر هذين الكتابين يضر بأمن وسلامة البلاد. والذي يثير التعجب والسخرية هو أن الفريق الشاذلي قدم للمحاكمة في حين أن الفريق اول فوزي لم يقدم للمحاكمة.
إن إفشـاء أسرار الدولة هو جريمة بشعة تخل بشـرف صاحـبها وتوجب احتقار من يرتكبها من كل مواطن شريف. ولذلك فإن تجميع كل ما يتـعلق بتوصيفها وإقامة الدعوى على من يُتهم بها ثم الحكم عليه في يد شخص واحد هو اهدار للعدالة. وحيث أن جميع هذه السلطات يملكها وزير الحربية. وحـيث أن رئيس الجمهورية هو الذي يعين وزير الحـربية ويعزله. فإن ذلك يعني أن رئيس الجمهورية يجـمع في يده سلطات تشريعية وقضائية بالإضافة إلى سلطاته التنفيذية، وهو ما تتنافى مع روح الدستور. ولإصلاح هذه الأوضاع فإني أطالب بأن يكون التعريف الدقيق لهذه الجـريمة من اختصاص مجلس الشعب. وأن تنحصر مهمة السلطة التنفيذية في إقامـة الدعوى ضد من تعتقد انه أفشى اسرارا عسكرية. ثم يكون بعد ذلك القضـاء الطبيعي هو الجهة المختصـة بالحكم في أي دعوى سواء بالإدانة أم البراءة.
وان الأخذ بهذا الاقتراح - وهو المتبع في الدول الديمقراطية- سوف يقضي على فوضـه التفسيرات المتناقضة التي تصدر عن السلطة التنفيذية.
الحرب مدرسة لأولي الألباب:
الحرب عملية باهظة التكلفة، وتكلفتها لا تقاس بمجموع ما يتم إنفاقه خلال فترة العمليات الحربية وما تتحمله الدولة من خسائر بشرية ومادية خـلالها. بل يضاف إليها ما تنفقه الدولة على قواتها المسلحة خلال سنوات السلم لتجهيزها وتدريبها. وما يتم إنفاقه لتأمين الشعب ضد اخطار الحـرب عند اندلاعها. ونتائج كل حرب هي التي تحدد مدى نجاح الدولة في تدبير شئونها العسكرية، من حيث التسليح والتدريب وترشيد الإنفاق، الخ. ولذلك فإن الدروس المستفادة من كل حرب تعتبر ثروة لا تقدر بثمن لأنها تكون رصيدا للدولة اذا ما اشتركت في حرب اخرى. بل أن كل الدول تسعى للحصول على الدروس المستفادة من الحروب التي لم تشارك فيها.
وهذه الدروس المستفادة لا يمكن التوصل إليها إلا اذا عرفت الأخطاء التي ارتكبت بواسطة أحد الأطراف المتنازعة وأدت إلى هزيمته أو أدت إلى وضعه في موقف صعب. وإن اكـتفاءنا بذكر الأعمال المجيدة التي تمت خلال حرب أكتوبر وعدم ذكر الأخطاء التي ارتكبت يمكن أن يولد لدى قادة الأجيال التالية شعورا بالتفوق الزائف، الذي قد يؤدي إلى ارتكابهم نفس الأخطاء التي ارتكبها آباؤهم واجدادهم. ولذلك فإنه يجب علينا أن نعترف بأنه رغم النجاح الباهر الذي حققناه بعبورنا قناة السويس وتدميرنا لخط بارليف في 18 ساعة. فقد ارتكبنا سلسلة من الأخطاء. أن تطوير الهجوم يوم 14/10 كـان قرارا خاطئا وهو الذي أدى إلى وقوع الثغرة ليلة 15/16 أكتوبر. وإن عدم المناورة بقواتنا المدرعة واستغلال خفة حركتها لكي تتصدى للقوات المدرعة الإسرائيلية التي عبرت إلى الغرب كان تصرفا خـاطئا. فقد كان يجب علينا أن نناور بقواتنا حتى يمكننا حشد القوات بالحجم المناسب في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. وإن إصرار السادات ووسائل الإعلام الحكومية المصرية على وصف ثغرة الدفرسوار بأنها معركة تليفزيونية هو وصف ديماجوجي ومضلل.
إن هذه الحرب المجيدة التي خاضتها قواتنا في أكتوبر 73، أصبحت تدرس الآن في كثير من الأكاديميات العسكرية. وانهم يشيدون في تلك المعاهد التعليمية بعملية العبور العظيم يوم 6 أكتوبر. ولكنهم في الوقت نفسه يوجهون اللوم للقيادة العامة للقوات المسلحة المصرية لأنها لم تطبق مبدا المناورة بالقوات بالسرعة التي تتطلبها ظروف المعركة. وقد ذهب أحد الخبراء العسكريين الأجانب الذين دعتهم الحكومة المصرية عام 1975 للمشاركة في ندوة أكتوبر إلى وصف القيادة المصرية بالشلل. وانه لمن المؤسف حقا أن الإعلام المصري وكتاب السلطة في مصر يعلنون ويؤكدون لأبنائنا بأنه لم يكن في الإمكان احسن مما كان، وان ضربة الطيران -تزلفا إلى الرئيس حسني مبارك- هي السبب الرئيسي للنصر. مع أن الحقيقة المرة هي أن القوات الجوية كانت احدى نقاط الضعف الرئيسية في قواتنا المسلحة. والاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني هجومـا أو نقدا لرئيس الجمهورية الذي كان يشـغل حينئذ منصب قائد القوات الجـوية. فلم يكن حسني مبارك في ذلك الوقت هو صـاحب الكلمة العليا في اختيار الطائرة أو في تخصيص الميزانية الكافية للقوات الجوية. وبالتالي فإن ضعف قواتنا الجوية هو مسؤولية جماعية تقع على عاتق الشعب والقيادة السياسية. ولكن بالرغم من ضعف قواتنا الجوية- مقارنة بالقوات الجوية الإسرائيلية- فقد أظهر بعض الطيارين بطولات وشجاعة. ولكن هذه البطولات الفردية كانت تضيع في زخم أي معركة جوية بين طائراتنا وطائرات العدو.
أهل الكهف ومفهوم الإسرار
أن من يدعي بأن ما جـاء في مذكرات الشاذلي عن حرب اكتوبر يعتبر افشاء للاسرار العسكرية هو واحد من اثنين: إما منافق وإما جاهل. فاما المنافق فالله وحده هو الذي يعلم ما في السرائر، وقد امرنا الدين الحنيف إلا نحكم على الناس ألا بظاهر ما يعملون. فقد قال تعالى"يا أيها الذين اَمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن إثم. ولاتجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه. واتقوا الله. إن الله توابٌ رحيم" (الحجرات /12). وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "أمرت أن احكم على الناس حسب الظواهر، وأن اترك السرائر لله"، وانطلاقا من هذه التشريعات الإلهية فإننا نفترض أن الجهل هو الذي أوقع بعض الناس في خطا الخلط بين ما يمكن أن يعتبر سرا وبين ما هو ليس بسر.
والجهل لا يعتبر نقيصة اذا كان نتيجـة سبب خارج عن ارادة الإنسان. واذكر بهذه المناسبة حديثا طريفا دار بيني وبين أحد شيوخ القبائل في اليمن عام 1965. كنت في ذلك الوقت قائدا للواء الأول مشاة الذي يتمركز في منطقة الجوف التي تقع في الركن الشمالي الشرقي لليمن. ومنطقة الجوف هذه هي التي تلتقي حدودها مع حدود المملكة العربية السعودية حيث تمتد الصحراء ذات الرمال الناعمة وحيث تنعدم الأمطار. ويعتمد الناس في هذه المنطقة على عدد محدود من الآبار. وعجبت لأمر هؤلاء الناس الذين يعيشون في هذه المنطقة حيث لا زراعة ولا تجارة ولا صناعة ولا أي مصدر للرزق وزارني في مركز قيادتي أحد شيوخ المنطقة، فسألته: ما الذي يدفعكم للبقاء في هذه المنطقة القاحلة
التي لا ماء فيها ولا زرع ولا حتى شجر تستظلون به؟ وكانت المفاجأة عندما قال "نحن قطاع طريق. إن طريق قوافل الحج من الجنوب إلى الحجاز تمر عبر أراضينا. واننا نفرض عليهم الإتاوات في مقابل السماح لهم بالعبور أو نستحل أموالهم إذا لم يدفعوا. وما نحصله في موسم الحج يكفينا طوال العام..". ثم تطرق الحديث بعد ذلك عن احوالهم المعيشية فقال "والله اليمن كانت افضل بلاد العالم إلى أن جيتـم انتم يا مصريين فخربتم الديار!!"، فعجبت لهذا القول وسألته: هل زرت مصر قبل ذلك فأجاب بالنفي، فسألته: وهل زرت أي بلد آخر خارج اليمن فأجاب بالنفي ايضا. فقلت له "وكيف تعرف إذن انها افضل بلاد العالم اذا كان اليمن، هو كل العالم بالنسبة لك. لقد زرت بلادا كثيرة أقول لك أن اليمن هي اكثر البلاد تخلفا من بين كل ما زرته من بلاد العالم"، وعندما خلوت بنفسي تساءلت: ما ذنب هذا الرجل؟ إن العالم بالنسبة إليه هو اكل الثريد واللحم ومعاشرة النساء ومضغ القات. وكل ذلك ميسور لديه بفضل ما يحصل عليه من مال حرام. وإذا كنا نحن نعتبر أن ما يحصل عليه من إتاوات يفرضها على الحجاج هو عمل غير أخلاقي، فإنه لا يعتبره كذلك. بل انه يعتبره حقا مشروعا له نظير حمايته لهم اثناء عبورهم الديار.
والجهل لا يُعتبر نقيصة إذا شب الإنسان في مجتمع مغلق تسيطر فيه الدولة على وسائل الإعلام والثقافة. مجتمع لا يسمع فيه المرء إلا ما يريد له الحاكم أن يسمعه ولا يقرأ فيه الفرد إلا ما يريد له الحاكم أن يقرأه. فينشأ كالإنسان الآلي يتصرف طبقا للبرنامج الذي وضعه الحاكم. فهو عندما يتكلم أو يتصرف إنما يردد- من حيث لا يدري- صوت و أوامر سيده الذي برمجه.
الجهل لا يعتبر نقيصة بالنسبة لأهل الكهف الذين نامت عقولهم مائة عام أو اكثر أو اقل. فمنهم من لم يعرف السيارة ومنهم من لم يعرف الطائرة ومنهم من لم يعرف التليفون، ومنهم من لم يعرف التليفزيون، ومنهم من لم يعرف الأقمار الصناعية ومنهم من لم يسمع عن الصواريخ ارض ارض التي تسبح في الفضاء قاطعة اكثر من عشرة ألاف كيلومتر وانه يتم توجيهها اثناء مسارها بواسطة الأقمار الصناعية لتصل في النهاية إلى الهدف المحدد لها بدقة متناهية، وانها تحمل خلال هذه الرحلة قنبلة نووية قوة تفجيرها تعادل مليون ومائتي ألف طن من المتفجرات (حوالي 60 مرة قوة تفجـير القنبلة التي القيت على هيروشيما في أغسـطس 1945)، وأن أقصى خطا محتمل بعد هذه الرحلة الطويلة هو 100 متر. أي أن أقصى خطأ هو 1 سنتيمتر عن كل كـيلو متر ومنهم من لم يسمع عن أن اقمار الإنذار المبكر Early Warning Satellite الامريكية كانت خلال حرب الخليج عام 1991 ترصد عملية اطلاق الصواريخ أرض-أرض العراقية من طراز الحسين فور اطلاقها، ثم تبـعث بها إلى المحطة الأرضية الأمريكية في نارونجار Narrungar في استراليا، فتقوم بدورها بإرسالها إلى مواقع الصواريخ الأمريكيـة المضادة للصواريخ باتريوت Patriot التي تتمركز في السعودية عبر اقمار الاتصال. وكل ذلك يتم بطريقة أوتوماتيكية في اقل من ثانية !!
ولكن الجهل يعتبر نقيصة اذا أصر أهل الكهف -الذين نامت عقولهم طوال هذه السنين- على عدم تصـديقهم لما يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم- ويصـرون على أن هذا من عمل الشيطان. هؤلاء إذن هم الجاهلون حقا بمفهوم العصر الذي نعيش فيه. فمن يتصور أن حجم القوات المسلحة ونوعية تسليحها هو سر من أسرار الدولة فهو جاهل لا يريد أن يتعلم. ومن يتصور أن الخطط التي قمنا بتنفيذها في حرب أكتوبر هي سر من أسرار الدولة فهو جاهل لا يريد أن يتعلم. ومن يتصور أن ذكر مواصفات وخصائص بعض الأسلحـة والمعدات التي استخدمناها خلال حرب أكتوبر هو سر من أسرار الدولة فهو جـاهل لا يريد أن يتعلم ولا يريد أن يجاري العصر الذي نعيش فيه.
ما السر العسكري؟
وسوف يقودنا هذا التحليل إلى السؤال المهم والأخـير وهو "وهل يعني ذلك أنه لـيست هناك أسرار عسكرية تجب المحـافظة عليها؟" وأبادر بالإجابة بان هناك أسرارا عسكرية كثيرة تجب المحافظة عليها. ومن الأمثلة على ذلك إنتاج سلاح جديد، أو خطة عسكرية لم تنفذ بعد. فمن المعروف أن إنتاج سلاح جديد Sophisticated مثل الطائرة أو الدبابة أو المدفع يمر بعدة مراحل.
-المرحلة الأولى هي مرحلة الابتكار ووضع التصميمات الخاصة بهذا الابتكار على الورق.
-والمرحلة الثانيـة هي تصنيع عينة من هذا الابتكار وإجراء اخـتبـارات ميدانية عليها للتأكد من مطابقة المواصفات النظرية على إمكانات المنتج ميدانيا.
-المرحلة الثالثة وهي مرحلة الإنتاج المكثف.
-المرحلة الرابعة والأخـيرة فهي توزيع هذا الإنتاج على الوحدات والتشكيلات الميدانية. وهذه المراحل الأربـع تستغرق عادة حوالي عشر سنوات.
فإذا كانت الدولة المنتجة للسلاح تعتمد على نفسها اعتمادا كليا في جميع مراحل الإنتاج دون الحـصول على أية مساعدات فنية من أية دولة أجنبية -هذا لم يكن متيسرا إطلاقا إلا بالنسبة لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق- فإنها يمكن أن تخفي عن الطرف الآخر المنافس المرحلتين الأولى والثانيـة. وهذا يعني إحـراز السبق في مجـال الإنتـاج بحوالي 5 سنوات. ولكن بمجـرد بدء الإنتـاج ووصول أعداد قليلة من المنتج إلى التشكيلات العسكرية للتدريب عليه، فإن وسائل الرصد المعادية تصبح قادرة على تصويره وتحديد مواصفاته وأسلوب استخدامه. وتصل المعلومات عن السلاح إلى ذروتها بعد أن تتم متـابعته خـلال المشاريع التدريبية والمناورات وتبقى بعـد ذلك حلقة واحدة وأخيرة وهي متابعة نتيجة اشتراك هذا السلاح في الحرب أو الحصول على عينة من هذا السلاح سواء بالاستيلاء عليه في حرب أم بإغراء بعض العملاء على الهروب به، أم بتهريب الوثائق السرية التي تتعلق بالتصنيع والصيانة والاستخدام والقيود التي تتعلق بالسلاح.
وتحرص الدول المنتجة للسلاح على ألا تبيع الأجـيال الحديثة من سلاحها إلى الدول الأجنبية إلا اذا كانت متأكدة من صداقة هذه الدول. وكانت على قناعة تامة بان هذه الدول الأجنبية لن تفشي أسرار هذه الأسلحة إلى أي طرف ثالث. حيث أن افشاء الأسرار التي تكون مازالت غير معروفة عن هذا السلاح، يمكن أن يسبب اضرارا كـبيرة ليس بالنسـبة للدولة المنتجة للسلاح فحسب. بل لجميع الدول الصديقة التي تكون قد حصلت على هذا السلاح من الدولة المنتجة.كذلك فإن الخطط الهجومية والدفاعية التي تقوم الدولة بإعدادها قبل الحرب تعتبر من اسرار الدولة، ولكنها تفقد سريتها عندما يتم تنفيذها على ارض المعركة. واذا كانت وسائل الرصد الحديثة لا تستطيع أن ترصد النوايا التي يحتفظ بها القائد في صدره، فهناك بعض التصرفات التي يمكن أن توحي بهذه النوايا وهنا تبرز اهمية القيام بعمليات الخـداع والتضليل التي ترمي إلى إيهام الخصم بالنية إلى عمل شيء ثم القيام بعمل شيء اَخر. ولاشك أن ما قامت به قواتنا المسلحة من عمليات خداع وتضليل
قبل أن تشن هجومها يوم 6 اكتوبر يعتبر مثلا رائعا لذلك. أما دول العالم الثالث التي تستورد التكنولوجيا أو بعضها من الخارج والتي تعتمد على تشغيل الخبراء الأجانب في إنتاج الأسلحة فإنها تجد صعوبة كبيرة في المحافظة على سرية انتاج الأسلحـة المتطورة ولعل العراق هو البلد الوحيد من بين تلك الدول الذي نجح في تحقيق ذلك بدرجة تثير الإعجاب فقد نجح قبل عام 1990، في إنشاء مصانـع لإنتاج الغازات، وانتاج صواريخ ارض ارض (صاروخ الحسين 650 كم وصاروخ العباس 850 كم) وإنتاج مدافع مختلفة الأعيرة وكان قاب قوسين أو أدنى من إنتاج القنبلة النووية. وإنتاج اضخم مدفع في العالم، وقد تم كل ذلك في سرية تامة. ولكن يجب أن نعترف بان الظروف الدولية كانت مواتية، وان العراق احسن استغلال تلك الظروف الدولية. فمن المؤكد أن وسائل الرصد الأمريكي كانت تعلم بمراحل انتاج العراق للغازات السامة في أوائل الثمانينيات ولكنها كانت تغض الطرف عن ذلك حتى يتمكن العراق من صد المد الإسلامي الذي ينبعث من إيران، والذي كان يهدد بسقوط الأنظمة العربية الموالية للغرب وبعد توقف الحرب الإيرانية عام 1988 واندلاع حرب الخليج الثانية عام 1990، انتهزت الولايات المتحـدة الفرصة لكي تقوم بتدمير الترسانة العسكرية العراقية. فكانت المنشآت النووية، ومصانع الغازات وإنتاج الصواريخ هي الأهداف ذات الأسبقية الأولى لقصف القوات الجوية الأمريكية. وخلاصـة القول إن مساحـة المعلومات التي يمكن للدولة أن تحيطها بسيـاج من السرية أصبحت تضيق عاما بعد عام. كما أن الأفعال ليست كلها ذات طبيعة واحده فمنها ما يعتبر سرا وهو في مرحلة التحضير ثم يفقد الفعل سريته بمجرد التنفيذ. مثال ذلك استعانة مصر بطيارين سوفيت في الدفاع الجوي عن مصر عام 70 والاستعانة بطيارين كـوريين في الدفاع الجوي عام 73. فقد تمت المفاوضات لتحقيق ذلك في الحالتين في سرية تامة. ولكن بمجرد إقلاع الطيارين بطائراتهم من القواعد الجوية المصـرية التي يتمركزون فيها، وتبادلهم الحديث باللغة الروسية أو الكورية، فإن هذا الفعل فقد سريته. وبالتالي فإن القاضي الذي يوكل إليه الحكم في قضية إفشاء أسرار يجب أن يكون متفتحا وذا أفق واسع وعلى دراية تامة بتطور إمكانات الرصد في العالم. وأن يفرق بين ما إذا كان هذا السر هو سر الحاكم والحكومة، أم أنه يعتبر سرا من أسرار الدولة. وأن إفشاء هذا السر يعرض أمن وسلامة الدولة للخطر.
رأي رجال القانون
استطلعت الصحفية سوسن أبو حسين رأي رجـال القانون فيما يمكن أن يعتبره القاضي سرا من أسرار الدولة، ونشرت ذلك عام 1994 في كتاب لها اسمته "سعد الشاذلي: قصتي مع السادات" وقد وردت في هذا الكتاب شهادة كل من الدكتور فتحي سرور رئيس مجلس الشعب، والدكتورة سعاد الشرقاوي أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق جامعة القاهرة، والدكتور محمود عاطف ألبنا استاذ القانون الدستوري بجامعـة القاهرة والدكتور محمد عصفور المحامي المشهور وأستاذ القانون الدستوري.
يقول الدكـتور فتحي سرور إذا كـان نشر الأسرار يؤدي إلى الإضرار بمصـالح الشعب فمن واجب الشعب نفسه أن يطالب بعدم نشرها لأنه صـاحب السيـادة العليا والمصلحة العامـة. أما إذا كـانت هناك قضـايا سياسـية معينة ويريد الشعب معرفتها فهذه تتعلق بمصداقية المسـئول في قراراته، ومصارحته للشـعب بالحقائق لاتدخل في باب الأسرار. إن تحديد مفهوم اسرار الدولة من الموضوعات الدقيقة التي تتطلب وضعها في ميزان التوازن بين حق الإنسان في المعرفة وفقا لمبدأ الحريات وبين الحفاظ على النظام العام والمصلحة العامة".
وتقول الدكتورة سعاد الشرقاوي "إن إخفاء الحـقائق والأسرار عن الشعب يعتبر انتهاكا دستوريا، لأن حق المعرفة والاطلاع مكفول للجميع في كافة القوانين الدستورية على المستوى الدولي". أمامنا مثال واضح حدث مع الرئيس الأمريكي السابق نيكسون عندما رفض تسليم وثائق قضية ووترجيت للجنة التحقيق بحجـة انها ضمن أسرار الدولة، ثم صـدر الحكم من المحكمة العليا بضرورة تسليمه وثائق القضيـة، إلا انه رفض الحكم واستقال. وهذا يؤكد حق الشعب والراي العام في معرفة الحقائق.
ويقول الدكتور محـمود عاطف البنا "إن تحديد مفهوم أسرار الدولـة تحكمه عدة مبادئ وتوجهات من الصعب تحديدها. فهو يخضع لحالات متعددة، منها تفسـير كل قانون لمفهوم السرية، والذي يتأثر بدوره بالنظام السياسي لكل دولة ومدى احترامها للحقوق والحريات أو إغفالها. ففي النظم الديمقراطية الحرة والأكثر ليبرالية وتسامحا مع حق النشر والمعرفة يختلف تحديد مفهوم السرية عنه في النظم الشموليـة التي تتوسع في اعتبار أشياء كثيرة جداً من أسرار الدولة، وهي في حقيقة الأمر ليست من الأسرار في شيء".
أما الدكـتور عصفور فقد كان اكثر صراحة وتحديدا في إجـاباته عن أسئلة الصحـفية المذكورة. فهو يعقب على رأي الدكتور سرور بقوله إنه لا يوجد في القانون ما يسمى بفكرة التوازنات، وان هناك نصـوصاً واضحـة لا يمكن مخـالفتها بأي حال. إن مصلحـة الشعب الأساسية تكون في حصوله على حق الحرية والمعرفة، وانه لا يوجد أي تطابق بين مصالح الشعب ومصلحة النظام. كما أن رأي الدكتور سرور الحالي عن فكرة التوازنات يختلف تماما عما ذكره في كتابه الشرعية الجنائية.
وعن سؤال عن الوقائع التي يمكن أن تعتبرها القوات المسلحة إفشاء لأسرارها العسكرية أجاب الدكتور عصفور"الأسرار العسكرية الحـقيقيـة هي خطة الحرب، والإجـراءات والتشكيلات والوسائل الدفاعية التي لم يتم تنفيذها بالفعل. ويعتبر إفشاؤها جريمة تستحق الإعدام. أما إذا كانت هذه الوقائع العسكرية قد تداولها البعض في معركة تمت وانتهت سواء كانت نتائجها الفشل أم النجاح، فمن المستحيل- بل من العبث- أن نقول عنها إنها أسرار. إذا كـانت كل الأسلحـة التي لدينا نحصل عليـها من مصـادر خـارجيـة، وكل من أمريكا وإسرائيل على علم بها. فكيف نخدع انفسنا ونضحك على بعضنا البعض ونقول إن هذه هي أسرار؟! هذا التلاعب بالألفاظ هو مجرد هراء".
وعن سؤال حول محاكمة الفريق الشـاذلي أجاب الدكتور عصفور إن محاكمة الفريق الشاذلي كانت خطأ كبيرا. لأن المحاكمة تمت على أساس غير قانوني، ولم تكتمل اركانها كما انه لا توجد أية وقائع في كتابه تثبت انه أفشى اسرارا عسكرية. ولا أتصور ابدا انه عندما ينتقد تصرفات بعض القادة- كوصفه لوزير الحربية احمد إسماعيل بأنه ضعيف الشخصية ومتردد- أن يكون هذا ضمن الأسرار العسكرية. وجريمة الشـاذلي انه لم يحصل على إذن مسبق لكتابة مذكراته. وفي رأيي أن الإذن المسبق على النشر يعد مخالفة دستورية، وان الفريق الشـاذلي استخـدم حقه في حـرية الفكر والرأي المكفول له قانونا. وهذا هو الطريق الذي يجب أن يلتزم به الجميع في كتابة مذكراتهم. وإذا رأت وزارة الدفاع أن ما كتب يضر بمصالحها وأمن وسلامة الدولة فلها أن تلجـأ إلى القضاء المستقل ليكون الحد الفاصل بين اسرار الدولة وأسرار الحكومة. ولابد أن نصحح مرة اخرى لمن لا يعرف إن إفشـاء السرية يجب أن يكون مقصورا على اعطاء معلومات للعدو عن معركة قادمة، ومن الممكن أن يستفيد العدو بهذه المعلومات ويضر بأمن وسلامة البلاد. أما المعارك التي تمت فمن العبث القول بأن العدو سوف يستفيد منها".
وعن رأيه في المحـاكم العسكرية أجاب الدكتور عصفور "المفروض أن يحـدد القاضي (يقصد القاضي الطبيـعي) ما السر، وما طبيعته. وهل يترتب على إفشائه الاضرار بمصلحة الدولة أم لا. ومن الطبيـعي أن يعود ذلك لتقدير القاضي. ولكن عندما تُعرض هذه القضايا أمام المجالس العسكرية فإن الميزان يختل. لماذا؟ لأن السلطة للقائد الذي يأمر بتـشكيل المجلس العسكري. ولا يوجـد بالمجـالس العسكرية قضاة بالمعنى الصحيح. إن القضـاء العسكري يلجأ عادة إلى الالتزام بأوامر السلطة التنفيذية وليس لتقدير القاضي".
وعن أسرار الدولة التي تتعلق بالسياسـة الخارجية أجاب الدكتور عصفور "في الدول الديمقراطية لايمكن أن يستغل بند السرية الطريقة نفسها التي نوظف بها هذا البند في مصر. إن ما يحدث في مصر هو قليل من كثير من المخالفات الصارخة التي يرتكـبها نظام الحكم تحت غطاء السرية كـوسيلة لحمـاية عوراته. وعلى سبيل المثال فإن السادات قد أخفى عن مجلس الشعب الملاحق الخـاصة باتفاقية كـمب ديفيد. وبالتالي فإن الرئيس السادات خدع الشعب ولم يصارحـه بالحقائق الكاملة في الاتفاقـية، حيث إن ملاحقها فيها قدر كـبير من الانتقاص من سيادة الدولة وحريتها. وهذا هو الفرق بين أسرار الدولة وأسـرار الحكومة. فماذا لو استطاع أحد الأشخاص الحصول على هذه الملاحق ونشرها. هل تعتبر هذه الوقائع إفشاء لأسرار الدولة؟ بكل تاكيد لا. بل إن من يخـفيها عن الشعب هو الذي يقع تحت طائلة القانون ويعاقب عليها بتهمة الخداع والغش.
بماذا تحكم أيها القارئ؟
في أوائل الستينيات كنت اشغل منصب الملحق الحربي بسفارة مصر في لندن. وكان التليفزيون البريطاني يعرض من وقت لآخر برنامج بماذا تحكم The Verdict Is Yours . كان التليفزيون البريطانـي ينقل خلال هذا البرنامج صورة حية من إحدى المحـاكم في قضية من القضايا التي تشغل الرأي العام البريطاني. وكان هذا البرنامج يجتذب اهتمام كل الناس حيث يشاهدون ويستمعون إلى مرافعات الادعاء والدفاع ومناقشة الشهود في أقوالهم إلخ. وقبل أن يصدر القاضي حكمه في نهاية الجلسة يكون كل فرد من المشاهدين قد توصل بينه وبين نفسه إلى قناعة بما يجب أن يكون عليه الحكم العـادل في هذه القضية. فيكون ذلك بمثابة رقابة شعبية على عدالة المحـاكمة. وقد كنت احرص كل الحرص إثناء وجودي في لندن على مشاهدة هذا البرنامج وكنت من المعجبين به. وحيث أن المحكمة العسكرية قد اصدرت حكمها غيابيا بتاريخ 16/7/83 على مؤلف هذا الكتاب بالأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات بتهمة افشاء اسرار عسكرية. فقد طالبت عند عودتي إلى الوطن بتاريخ 14/3/1992 بأن تعاد محاكمتي وان تكون المحاكمة علنية أدافع فيها عن نفسي تجاه هذه التهمة الظالمة. ولكن هذا الطلب رفض فتقدمت باستشكال في تنفيذ الحكم الصادر من المحكمة العسكرية امام محكمة امن الدولة العليـا التي اصدرت حكمـها بتاريخ 13/8/92 بإيقاف تنفيذ الحكم الصادر من المحـكمة العسكرية العليا. وقد جاء في حيثيات الحكم ما يلي: "إن الحكم المستشكل في تنفيذه تجرد من أركانه الأساسية ومقومات وجوده كحكم، واصبح هو والعدم سواء بسواء. فإن الاستمرار في تنفيذه وبقاء المحكوم عليه مودعا بالسجن على ذمته يعد تعطيـلا لحقوقه الأساسية وما كفله له الدستور من ضمانات واعتداء صـارخا على حريتـه". وفي 17/8/ 92 (أي بعد أربعة أيام من صدور حكم محكمة امن الدولة العليا كان من بينها يوما الخميس والجمعة) انعقدت محكمة عسكرية عليـا بناء على طلب من النيابة العامة العسكرية، واصـدرت في نفس اليوم حكما جـديدا باستمرار تنفيذ العقوبة المحكوم بها من المحكمة العسكرية العليا بتاريخ 16/7/83 .
والآن عزيزي القارئ بعد أن قرأت كتابي عن حرب أكتوبر، وبعد أن قرأت هذا الفصل عن أسرار الدولة واسرار الحكومة. هل تعتقد أن الفريق الشاذلي أفشى أسراراً عسكرية؟ إن رأيك أهم عندي من حكم القضاة. فالقضـاة بشر منهم الصالح الذي لايخشي في كلمة الحق لومة لائم. ومنهم الطالح الذي يخضع لجـبروت السلطة الدنيوية فيشتري الحياة الدنيا بالآخرة. وقد قال عنهم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في حديث شـريف "قاض في الجنة وقاضـيان في النار". وحسبنا الله. ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون.
الفصل التاسع والثلاثون: تطوير الهجوم نحو المضايق
"لا يستطيع أي جيش في العالم أن يدعي أنه كان باستطاعته أن يفعل افضل مما فعله المصريون في تخطيط وإدارة واقتحام قناة السويس. أما القرار باستغلال النجاح فكان خطأ جسيما. ولنتذكر جيدا أن أحد العوامل الرئيسية في الخطة المصرية ، كان هو الاعتراف بالتفوق الكبير للسلاح الجوي الإسرائيلي والتفوق المساوي له تقريبا في حرب المدرعات المتحركة" .
كتاب هيكل عن حرب اكتوبر
في أواخر عام 1993، نشر الأستاذ محمد حسنين هيكل كتابه "أكتوبر 73.. السلاح والسياسة". الذي أثار ضجة كبيرة نظرا لما يتمتع به الأستاذ هيكل من شهرة كـبيرة. وقد علقت على هذا الكتـاب باستفاضـة، ونشر هذا التعليق في صحيفـة الأهالي الأسبوعية في ثلاث حلقات كانت كل منها تغطي صفحـة كاملة من الصحيفة، وكان ذلك في الأيام 19 من يناير، و 26 من يناير، و 2 من فبراير 94. كما قامت مجلة المجلة التي تصدر في لندن بنشر ملخص لهذا التعليق في عددها رقم 739 بتاريخ 10 ابريل 1994. وفي 21 من مارس 1995 نشرت صحيفة الشعب تعليقا لي أوضح فيه ما ورد في كتـاب هيكل عن تطوير هجومنا نحو المضايق يوم 14 اكتوبر 1973. وحيث أني كنت و أنا اكـتب هذه التعليقات أفترض أن القارىء لم يقرأ كتابي هذا عن حرب اكتوبر، فقد كنت مضطرا إلى أن اذكر في هذه التعليقات الكثير من الأحداث التي لاشك أن القارىء قد أصبح ملما بها بعد قراءته للفصول السابقة في كتابي هذا، وبالتالي فليس هناك من داع إلى تكرارها. وسوف اكـتفي بالإشارة إليها إذا دعت الضرورة إلى ذلك . وفي هذا الفصل سوف أناقش فقط ما أثير حـول تطوير هجوم قواتنا نحو المضايق. والأسئلة المطروحة للمناقشة هي:
* هل كان من ضمن نوايانا قبل بدء العمليات أن نصل بقواتنا إلى المضايق؟
* هل كان في استطاعة قواتنا أن تصل إلى المضايق بعد نجاحها في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف؟
يقول هيكل إن الخطة التي دخلنا بها الحرب كانت تتضمن الوصول بقواتنا إلى المضايق. وهو يعتمد في هذه المعلومـة على شهادة المشير عبد الغني الجمسي الذي كان يشغل خلال حرب اكتوبر منصب رئيس هيئة العمليات برتبة لواء. وكـان هذا المنصب يضع الجمسي في الترتيب الثالث في الهرم القيادي بعد الفريق أول أحمد إسماعيل القائد العام للقوات المسلحة والفريق سعد الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة. ومرة اخرى يقول هيكل في كتابه إن قواتنا كان في استطاعتها أن تتقدم إلى الممرات بعد نجاحها في العبور. وهو يستند في ذلك إلى ثلاثة مصـادر. المصدر الأول هو مجموعة من الخبراء في مركز دراسات الأهرام كانت ترى انه كان يجب علينا أن نبدا في تطوير هجومنا نحو المضـايق يوم 7 أو 8 أكتوبر.
المصدر الثاني هو ما سمعه من السفير السوفيتي يوم 9 من أكتوبر. والمصدر الثالث والأخير هو ما جاء في كـتاب الجمسي "يوميات حرب أكتوبر" الذي نشر عام 1992، والذي يقول فيه إنه كان من الممكن أن يتم تطوير الهجوم نحو المضايق بنجاح لو أنه تم يوم 9 أو 10 من أكتوبر. ومع احترامي لوجهة نظر الأستاذ هيكل، فإن هذا الرد لا يرقى إلى الحقيقـة التاريخية. فالحقائق التاريخية في الحروب لا تتأكد إلا من خلال ثلاثة مصادر المصدر الأول هو الوثائق الرسمية التي لاتثار الشكوك حول تزييفها، وإجماع الشهود أو الغالبية العظمى من الشهود الأقرب إلى المعلومة التي يدور البحث حولها، و إجماع الخبراء أو اتفاق الغالبية العظمى منهم على صحة المعلومة نتيجة التحليل السياسي والعسكري في الوقت والتاريخ الذي أثيرت فيه هذه المعلومـة. ويؤسفني جـدا أن أقول إن الأستاذ هيكل تجاهل تماما تلك المصادر الثلاثة عندما تحدث عن موضوع تطوير هجومنا نحو المضايق.
الوثائق الرسمية
على الرغم من أن الأستـاذ هيكل نشر في كتابه المذكور 142 وثيقة. إلا أنه لم تكن بين هذا الكم الهائل من الوثائق الوثيقة التي أصدرتها القيادة العامة إلى قادة الجيوش قبل بدء العمليـات ولو تم نشر هذه الوثيقة لعلم العامة والخاصة انه لم يكن من ضمن خطتنا أن تتقدم قواتنا نحو المضايق سواء يوم 9 من أكتوبر أم 10 من أكتوبر أم قبل ذلك أم بعده. أما لماذا لم تتضمن الخطـة عمليـة تطوير هجـومنا نحو المضـايق فإن ذلك يرجع إلى أسباب عسكرية كثيرة أهمها هو ضعف قواتنا الجوية وعدم توافر صواريخ مضادة للطائرات خفيفة الحركة تستطيع مرافقة قواتنا البرية المتقدمة وحمايتها ضد هجمات العدو الجوية (راجع الفصول 4,3,2 من هذا الكتاب).
لقد نجحت قواتنا البرية في اقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف بينما كانت كتائب صواريخ الدفاع الجوي من طراز سـام 2، سام 3 تحمي سماء قواتنا المهاجمـة من مواقعها الثابتة غرب القناة وكانت هذه الصواريخ توفر لقواتنا الحماية ضد هجمات العدو الجوية حتى مسـافة 10- 15 كيلومتراً شـرقي القناة. وحيث إن احتلال المضايق كـان يحتم علينا التقدم عبر سيناء حوالي 50 كيلومترا، فإن التقدم عبر هذه المسافة دون حماية جوية ودون توافر وسائل الدفاع الجوي الذاتي الحركة (تتحرك على جـنزير وترافق القوات البرية إثناء تحركـها) سوف يعرض قواتنا البرية للتدمير بواسطة القوات الجوية المعادية. حيث إن المعركة في هذه الحالة ستكون معركة غير متكافئة، بل معركة من جانب واحد: معركة بين قوات جوية تملك قدرات هائلة للتدمير وبين قوات برية لا تستطيع أن تدافع عن نفسها ضد هذه الهجمات.
ومع ذلك فيجب أن اعترف بان القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية قد قامت بإصدار وثيقة مزورة قبل الحرب، وكان ذلك بناء على أوامر القيادة السياسية. كان الهدف من هذه الوثيقة المزورة هو إقناع السوريين بدخول الحـرب إلى جانبنا في المعركة القادمة، وذلك باخطارهم بأن هدف القوات المسلحـة المصرية هو الوصول إلى المضـايق وليس التوقف على مسافة 10-15 كيلومتراً شرق القناة كما في الخطة الأصلية . ( ذكرت هذه المعلومة في الفصل الرابـع من هذا الكتاب. كما أشرت إليها في تعليقي على كتاب هيكل، وتم نشرها بصحـيفة الأهالي في 19 من يناير 1994)، وهذه الوثيقة المزورة لم تكن ابدا تمثل نوايانا الحقيقية، ويؤكد ذلك ما يلي:-
1- فيما عدا الجمسي، فأن أكـثر الناس معرفة بالخطة و أهدافنا- كـما سيرد ذكرهم فـيما بعد- ينكرون أن الوصول إلى المضايق كان هو هدف القوات المسلحة.
2- لم تشمل الخرائط التي عرضت على السوريين التوقيتـات التي يبدأ فيها التحرك نحو المضايق بعد نجـاح العبور، والتوقيتـات التي تصل فيها قواتنا إلى المضايق، بل أكتُفي بالقول بأنه بعد وقفة تعبوية تستأنف قواتنا تقدمها نحو المضايق. وكما سبق أن قلت فإن التعبير العسكري وقفة تعبوية يعني التوقف إلى أن تتغير الظروف التي أدت إلى هذا التوقف وقد تكون الوقفة التعبوية عدة أسابيع أو عدة شهور أو اكثر. ويختلف ذلك اختلافـا جذريا مع المشـاريع الاستراتيجية التي كنا نتدرب عليها خـلال السنوات 68-72. فقد كنا خلالها نحتل المضايق في اليوم السابع ونحرر سيناء في اليوم الثاني عشـر. وكان يظهر على تلك الخـرائط ما تحققه قواتنا كل يوم. وإن عدم اتباع هذا الأسلوب بالنسـبة للخطة التي تقضي باحتلال المضـايق يؤكد أننا لم نكـن جادين في تنفيذ هذه المرحلة.
3- تصدر عن كل خطة وثيقة رئيسية تبين الهدف والقوات الرئيسية التي تكلف بتنفيذ هذه الخطة والتوقيتـات التي يتم فيها تحـقيق هذه الأهداف. ثم تصـدر بعد ذلك عشرات الوثائق الفرعية توضح قرارات قادة الوحدات المرؤوسة وتنظيم التعاون بينها الخ.. وإن عدم إصدار تلك الوثائق الفرعية بالنسبة لمرحلة التقدم للمضايق يؤكد مرة اخرى اننا لم نكن جادين في تنفيذ هذه المرحلة.
فإذا نحن تركنا هذه الوثيقة المزورة رجعنا إلى الوثائق الحقيقية، فإننا نجد تناقضا كبيرا مع تلك الوثيقة المزورة. يقول التوجيه الذي أصدره الرئيس السادات إلى الفريق أول احمد إسماعيل ما يلي "الهدف الاستراتيجي للقوات المسلحة هو تحدي نظرية الأمن الإسرائيلي. وذلك عن طريق عمل عسكري حسب إمكانات القوات المسلحة، يكون هدفه الحاق اكبر قدر من الخسائر بالعدو واقناعه بأن مواصلة احتلاله أراضينا يفرض عليه ثمنا لا يستطيع دفعه. وبالتالي فإن نظريته في الأمن- على أساس التخويف النفسي والسياسي والعسكري- ليست درعا من الفولاذ يحميه لا في المدى القريب ولا في المدى البعيد (كتاب البحث عن الذات ص 441).
إن جوهر الخطة الأصلية التي تم وضعها والتصديق عليها في شهر أغسطس 1971 -أي قبل أن يعين الجمسي رئيسا لهيئة العمليات، وقبل أن يعين احمد اسماعيل قائدا عاما للقوات المسلحة- كان هو أن نفرض على اسرائيل الحرب بأسلوب يختلف اختلافا جذريا عما تعودت عليه في جميع حروبها السابقة. اذ أنها كانت تتفادى الهجوم بالمواجـهة وتلجا إلى عمليات الالتفاف ومهاجمة قواتنا من الخلف فإذا نحن توقفنا شرق القناة بحوالي 10-15 كيلومترا واستند خطنا الدفاعي على البحر الأبيض شمالا وخليج السويس جنوبا فإنه سيصبح من المستحيل تطويق هذا الخط وبالتالي فإننا سنضع اسرائيل امام خيارين كلاهما مر بالنسبة لإسرائيل وكلاهما حلو بالنسبة لنا. الخيار الأول هو أن تهاجم مواقعنا الدفاعية بالمواجهة وسوف يتيح لنا ذلك الفرصة لأن نكبد إسرائيل خسـائر فادحة في الأفراد، وهذا هو المقتل الأول لإسرائيل، أما الخيار الآخر فهو عزوف إسرائيل عن الهجوم فتطول فترة الحرب لعدة اشهر دون أن يكون في استطاعتها إنهاء التعبئة العامة، وبذلك تستنزف قوتها الاقتصادية. وهذا هو المقتل الثاني لإسرائيل (راجع الفصل الثاني من هذا الكتاب).
مما تقدم يتضح أن الوثيقة الخاصة بالتوجيه الذي أصدره السادات إلى القائد العام. والوثيقة الخاصة بالخطة الأصلية. وأن اصدار عشرات الوثائق الفرعية عن مرحلة العبور وعدم اصدار وثائق فرعية تتعلق بالتقدم إلى المضايق. كل ذلك يؤكد أن التوقف عند مسافة 10-15 كيلومترا شرق القناة كان هو هدفنا النهائي في أكتوبر 73. بل أن السادات ذكر في كتابه "البحث عن الذات" في صفحة 329 ما يلي "في حياة عبد الناصر كنت أقول له على سبيل المبالغة اننا لو أخذنا حتى عشرة سنتيمترات في سيناء ووقفنا فيها ولم ننسحب، فسوف يتغير الموقف شرقا وغربا وكل شيء. وبناء على هذا وضعت توجيهي الاستراتيجي وقلت للقوات المسلحة في فبراير 73، إن الذي يكسب الأربعة والعشرين ساعة الأولى سوف يكسب الحرب".
يقول الفريق اول محمد فوزي في كتابه "حرب الثلاث سنوات" 1983 إنه جهز خطة هجومية هدفها تحرير سيناء على أن يبدا تنفيذها فور انتهاء فترة ايقاف النيران في 17/ 10/ 1970. وكان من المفترض أن يصدق عليها الرئيس عبد الناصر في الأسبوع الأول من سبتمبر. ولكن احداثا اخرى شغلت عبد الناصر عن التصديق على الخطة ثم وافته المنية قبل أن يصدق على الخطة (ص 210). ويقول في نفس المرجع انه أدار مشروعا تدريبيـا لاختيار خطة تحرير سيناء، كان هذا المشروع بدأ يوم 14/3/71 وانتهى يوم 25/3/71 وتأكد من خلاله امكان تحرير سيناء خلال مدة 12 يوما (ص 366).
وبناء على طلب اللواء حسن البدري -رئيس لجنة كتابة تاريخ حرب أكتوبر- تحدد يوم 12 ابريل 1994 لإجراء لقاء بيني وبين الفريق اول محمد فوزي لبحث الخلاف بين ما سبق أن قلته في كتابي بأنه عندما عينت رئيسا للأركان فإنه لم تكن هناك خطة هجومية (راجع الفصل الثاني). وبين ما يقوله الفريق اول فوزي بأنه كانت هناك خطة هجومية. وقد حضر هذا اللقاء كل من اللواء حسن البدري واللواء عبد المنعم خليل. وفي هذا اللقاء سألت الفريق اول فوزي عن الشخص الذي كانت بعهدته وثائق هذه الخطة حتى يمكن سؤاله عن مصير هذه الوثاثق، فاجـاب بأنه كان يخشى تسليم الوثائق لأي أحد حتى لاتفقد سريتها. وهذه الإجابة تؤكد ما قلته بأنه لم تكن هناك أي خطة هجومية عندمـا توليت رئاسـة الأركان. وإن ما ذكره فوزي ليس إلا افكـارا كانت مازالت حبيسة في صدره وفي بعض الأوراق الخاصة به.
تطوير الهجوم نحو المضايق، صفحه رقم 272
ويقول الجمسـي في مذكراته "في مصر ظهرت بعض المذكرات والكتب تقول بأنه كانت هناك الخطة 200 التي وضعت عام 1970 لتحرير سيناء في 12 يوما إلا أن الظروف في ذلك الوقت لم تسمح لتنفيذها. ولقد ظهر اسم هذه الخطة والغرض منها في مذكرات أحد القادة العسكريين المصريين السابقين (يقصد الفريق أول فوزي). ومن هنا نقلت إلى مذكرات وكتب اخرى. وسوف يسـجل التاريخ أن الخطة 200 كـانت خطة دفاعية عن منطقة قناة السويس وضعت بعد حرب 1967، واشتركت في وضعها عندما كنت أعمل رئيسا لأركان جبهة قناة السويس في ذلك الوقت. ووثائقها موجودة في وزارة الدفاع " (مذكرات الجمســــي ص 302). وهكذا يؤكد الجمسي مـا قلته بأنه لم تكن هناك أي خطة هجوميـة عندما توليت رئاسـة الأركان في مايو 1971.
ويؤكد أمين هويدي -وزير الدفاع الأسبق ورئيس جهاز المخابرات العامة الأسبق، والذي كان من المقربين لجمال عبد الناصر- تشككه في أقوال الفريق أول فوزي، فيقول في اجتماع تم مساء يوم 30/9/70 في مكتب وزير الحربية الفريق أول فوزي وحضره كل من السادة محمود رياض وزير الخارجية، و شعراوي جمعة وزير الداخلية، وحافظ اسماعيل رئيس اركـان المخابرات العامة، وسامي شرف وزير الدولة لشـئون رئاسـة الجمهورية، ومحـمد حسنين هيكل وزير الإرشـاد، و أمين هويدي وزير الدولة، للوصول إلى قرار بشان تجديد قرار وقف إطلاق النار الذي كان ينتهي في 17/ 10/ 1970. وقد سئل الفريق فوزي هل يناسبك من الناحيـة العسكرية أن تبدأ القتال على الفور، ام انك تفضل أن يتاح لك المزيد من الوقت والاستعداد؟ فرد على الفور: إذا منحت فرصـة شهرين آخرين فإني أظن أن موقفي سيكون احسن. إذ ستكون بطاريات الصواريخ في مصر العليا قد استقرت في موضـعها وسأشعـر بمزيد من الأمن. وعلى أي حـال أنا جندي. وإذا صدر لي أمر مكتوب فإني سأنفذ ما تطلبه القيادة السياسية" . ويستطرد أمين هويدي فيقول وعلى اثر ذلك تقرر مد إيقاف إطلاق النار. ولم يعرض في هذا الاجتماع موضوع خطة 200 أو جـرانيت أو عبور قناة السويس. كل ما كان معروضا هو استئناف حرب الاستنزاف مرة اخرى. ولم تكن قواتنـا المسلحة مسـتعدة لذلك في هذا الوقت، لأن الصعيد باكمله كـان مكشوفا ضد الغارات المعادية (أمين هويدي: الفرص الضائعة ص 328، و 329).
شهادة الشهود
يتفق كل البـاحثين على أن الوثيقة هي المصدر الرئيسي للحقيقة. ولكن حيث إن تزوير بعض الوثائق هو احتمال وارد لايمكن استبعاده فإن إجماع الشهود أو الغالبية العظمى منهم على صـحة الوثيقـة وصحة مـا ورد فيها من معلومـات لابد أن يضيف بعدا جديدا للحقيقة. وعندما نتكلم عن الشهود فإننا نعني بذلك الأشخاص الذين تسمح لهم مناصبهم بأن يلموا بالمعلومة التي يدور البحث حول صحـتها من عدمها.وإذا نحن طبـقنا ذلك علىالمعلومة الخاصة بتطوير هجومنا نحو المضايق. فإننا نجد أن اكثر الناس الماما بهذه المعلومة
هم الآتون بعد حسب رتبهم ومناصبهم في أكتوبر عام 73:
الرئيس انـور السـادات.. رئيـس الجمهـوريـة
فريق أول احمد إسماعيل علي.. القائد العام للقـوات المسلحة
فـريق سعد الشـاذلي.. رئيس أركان حرب القوات المسلحة
لواء عبد الغنى الجمسـي ..رئيـس هيئة العمليات
لواء محمد علي فهمي.. قائد قـوات الدفـاع الجوي
لواء محمد حسني مـبارك.. قـائد القـوات الجـوية
لواء فـؤاد زكـري.. قـائد القـوات البحـرية
لواء سـعد مـأمـون.، قـائد الجـيش الثـاني
لواء عبد المنعـم واصـل.. قـائـد الجيش الثـالـث
وفيما عدا اللواء عبد الغني الجمسي، فلم يذكر أحد من الثمانية الآخرين أن التقدم إلى المضايق كان ضمن نوايانا في حرب أكتوبر. وبالإضافة إلى الأسماء المذكورة فقد كان هناك شخصان اَخران قريبان من تلك المجموعة أدليا برأيهما في هذا الموضوع. أولهما هو السيد حافظ اسماعيل مستشار رئيس الجمهورية لشئون الأمن القومي واَخرهما هو المشير أبو غزالة.
يقول السيد/ حافظ اسماعيل في كتابه "أمن مصر القومي في عصر التحديات" تحت عنوان "10- 13 أكتوبر، وقفة تعبوية"، ما يلي "كانت قواتنا خلال المرحلة التي انتهت قد اتمت تحقيق الهدف المباشر. وكنت من خلال احاديثى مع الفريق أول احمد إسماعيل قبل نشوب الحرب أدرك انه لا ينوي التقدم حتى الممرات الجبلية وان ما جاء في تعليمات عمليات القيادة العامة بان الهدف هو احتلال المضايق. انما قُصد به حث القيادات الصغرى خلال مرحلة بناء رؤوس الكباري على استمرار التقدم حتى الهدف المباشر" (محـمد حافظ اسماعيل/ أمن مصر القومي في عصر التحديات/ الطبعة الأولى ص 323).
ويقول حافظ إسماعيل انه في الساعة الأولى من صباح يوم 21 من أكتوبر استدعاه الرئيس السـادات، حيث ابلغه انه قرر طلب وقف إطلاق النار غير المشروط بالانسـحاب الإسرائيلي (المؤلف: لاحظ أيها القاري أن هذا التوقيت يعني أنه فعل ذلك بعد أن حـضر مؤتمر القيادة في المركـز 10 والذي امتد حتى منتصف الليل كما جاء في الفصل الرابع والثـلاثين تحت عنوان "استدعاء رئيس الجمهورية إلى المركز 10"). ويستطرد حـافظ إسماعيل فيقول: إن الموقف العسكري كـان يحتم ضرورة تخفيف القوات في الشرق حتى يمكن توفير القوات اللازمة- وخاصة المدرعة- للعمل ضد الثغرة في الغرب. إلا أن الرئيس رفض أي اقتراح بسحب قوات من الشرق إلى الغرب (المرجع السابق ص 345).
ويستطرد حـافظ إسماعيل في سرده للأحداث فيقول: إن تقييم السادات للموقف كما شرحـه لمساعدي الرئيس ونواب رئيس الوزراء ومستشـار الأمن القومي بعد قرار مجلسى الأمن بوقف إطلاق النار اننا خسرنا يوم 14 أكـتوبر220 دبابة. وكـانت هذه المعركـة هي المقدمة للاختراق الإسرائيلي في منطقة الدفرسوار. وأوضح أننا دخلنا الحـرب لإقناع إسرائيل بأن الحـرب لا تحل المشكلات وإننا كسبنا الاحـترام بدلا من احتقار العالم لنا. ثم أضاف بأننا لا نستطيع تحرير سيناء عسكريا"0(المرجع السابق ص 348).
وعن انفراد السادات بالقرارات السياسية والعسكرية يقول حافظ إسماعيل في الصفحة 360 من المرجع السابق "لقد اختار السادات أن يواجه الموقف وحـده. إذ انه اتخذ وحده من قبل قرارات مصيرية متـعددة. وربما لم يجد ضـرورة الآن وحدة الأزمة تتصاعد أن يدعو رفاقه ومعاونيه. واختار أن يجتاز الأزمة وحده.
لقد اختـار أن يكون صاحب النصر عندما ننتصر. وهو الآن يرفض إلا أن يكون المسئول عن تحول المعركة (المؤلف: هذا ليس بصحيح.. فإنه أراد أن يلقي بمسئوليـة أخطائه على الفريق سعد الشاذلي كما جاء في كتابه البحث عن الذات).
كان وزير الدفاع الأسـبق المشير أبو غزالة ضابطا برتبـة عميد إبان حرب أكـتوبر وكان يشغل منصب قائد مدفعية الجيش الثاني، وإذا كان هذا المنصب لم يكن يؤهله لكي يعرف كل أسرار الحـرب.. إلا انه من المؤكد أنه كـان يؤهله لمعـرفة بعض الأسـرار التي على مستوى الجيش. فلو افترضنا أن القيادة العامة للقوات المسلحة كان في نيتها تطوير هجوم قواتنا يوم 9 من اكتوبر كما ذكر الجمسي فإنه كـان يتحتم عليها إخطار قادة الجيوش المنوط بهم تنفيذ هذه النوايا. واذا افترضنا أن اللواء سعد مامون قـائد الجيش الثاني كـان يعلم بهذه النوايا فمن المؤكد انه كان سيطلع قائد مدفعيته العميد أبو غزالة بذلك. وفي حديث له مع مجلة روز اليوسف نشر بتاريخ 26/3/ 94- ورغم استخدامه لغة دبلوماسية رفيعة- قام أبو غزالة بنقد شهادة الجمسي على أنها غير مقبولة وغير منطقية.
يقول أبو غزالة "ولايعقل أن تكون أفكار القيادة العامة غير معلومة لقادة الجيوش حتى تكون الجيوش مستعدة لتنفيذ هذه الأفكار. ولقد ذكر لي كثير من القادة انهم لم يعلموا بأن هناك نية للتطوير إلا يوم 12 أكتوبر. وكان بهدف تخفيف الضغط عن سوريا أساسا. وأنا لا أقول هذا إن ما قاله الجمسي ليس صحيحا فهو رأي ولاشك سليم. ولكن كان يجب أن يكون معلوما للقادة والقوات حتى تكون على استعداد تام لتنفيذ المهمة بكفاءة".
وبشهادة كل من حافظ إسماعيل، وأبو غزالة تصبح شهادة الجمسي هي النشاز الوحيد بين كل ما أدلى به القادة حـول موضوع تطوير الهجوم نحو المضايق. ترى مـا الذي دفع الجمسي إلى هذه الشهادة التي لم يؤيده فيها شخص مسئول واحد؟! ثم ما هي الأسباب التي دفعت هيكل إلى أن يتغاضى عن شهادة عشرات المسئولين ويتبنى من دونهم جميعا شهادة الجمسي؟! ترى هل كان لرسالة السادات إلى كيسنجر يوم 7 من أكتوبر تأثير كبير على أفكار وآراء هيكل اكثر مما يجب؟! وانه وجـد في رأي الجمسي ما يستند إليـه لتأكيد أفكاره وشكوكه في السادات؟!.
رأي الخبراء
استعرض أمين هويدي ما جاء في تصريحـات السادات وفي كتابه البحث عن الذات وما جاء في كـتاب الشاذلي وما جاء في كتاب الجمسي وما جاء من تصريحـات الفريق أول أحمد إسماعيل للصحافة قبل وفاته، وأضاف إلى ذلك توزيع القوات أثناء عملية عبور قناة السويس وانتهى في نهاية ذلك إلى القول بان كل ذلك يثبت صدق ما ذهب إليه الشاذلي من أن الخطة لم تهدف على الإطلاق احـتلال خط المضايق (أمين هويدي/ الفرص الضائعة ص 330- 339). ثم يستطرد بعد ذلك فيقول "وعلينا أن نلاحظ على السـادات انه كان يتبع الازدواجية في قراراته.. أي أن معظم قراراته كانت تآمرية بحيث يوافق على القرار ويصدره ولكنه ينفذ قرارا آخر حـتى ولو تم ذلك من وراء مسـاعديه. وانه عندما اجتمـع مع حافظ الأسد في برج العرب في إبريل 73 وأيقن أن الأسد لن يقاتل إلى جانبه مـا لم يكن الهدف المشترك هو تحرير سيناء والجولان بالضغط المتزامن على إسرائيل، فإن السادات باعه خطة جرانيت 2 (الوصول بقواتنا إلى المضايق)، بينما كان ينوي تنفيذ خطة المآذن العالية. ثم يصل هويدي في استنتاجه إلى أن السادات كان يلعب على الأسد وان الأسد كان يلعب على السادات (عندما اتصل بالاتحاد السوفيتي بعد بداية القتال لاتخاذ قرار بإيقاف النيران دون علم السادات).. أي أن الرئيسان كانا يلعبان على بعضهما البعض وليس مع بعضهما البعض (نفس المرجع السابق ص 349 و350).
انعقدت في القاهرة في الفترة ما بين 27 و 31 من اكتوبر 1975، ندوة دولية عن حرب أكتوبر شارك فيها 185 خبيرا اجنبيا ينتمون إلى 50 دولة. وقد قدم هؤلاء الخبراء 11 بحثا قيما تناولوا فيها جميع جوانب حـرب أكتوبر. وقد أشارت جميع هذه البحوث بعملية العبور الرائعة التي قامت بها قواتنا المسلحة. ولكنهم في نفس الوقت وجـهوا نقدا لاذعا للقيـادة العامة للقوات المسلحـة إزاء تصرفاتها تجاه موضوعين رئيسيين: الأول هو تطوير هجومنا نحـو المضايق. والأخير هو اسلوب التعامل مح الثغرة، وقد جاء في تعليق الخبير الأمريكي الكولونيل تريفور دي بوي ما يلي:
"لا يستطيع أي جيش في العالم أن يدعي أنه كـأن باستطاعتـه أن يفعل أفضل مما فعله المصريون في تخطيط وإدارة اقتحام قناة السويس. أما القرار باستغلال النجاح والتقدم نحو المضايق فقد كان خطأ جـسيماً. ولنتذكر جيدا أن أحد العوامل الرئيسية في الخطة المصرية، كان هو الاعتراف بالتفوق الكبير للسـلاح الجوي الإسرائيلي، والتفوق المساوي له تقريبا في حرب المدرعات الخفيفة. لقد واجه قائدان مهمان في التاريخ نفس المشكلة التي واجهت المشير احمد إسماعيل أحدهما هو الجنرال الأمريكي اندرو جـاكسون في موقعه نيو اورليانز عام 1815، فقد حقق نصرا دفاعيا ضد افضل قوات الجيش البريطاني. وبعد ذلك رفض بحكمة التحـول للمطاردة بعد أن اتضح له انها ربما تطيح بالنصر الذي أحـرزه. نفس الشيء أيضا فعله الجنرال مونتجومري في معركـة علم حلفا عام 1942. إذ رفض بحـذر إعطاء روميل فرصة للهجوم المضاد وتحويل هزيمته إلى انتصار. وعلى ذلك أقول إن أي هجوم مصري في 9 و10 من أكتوبر، أو بعد هذا التاريخ كان سيلقي نفس المصير الذي انتهى إليه الهجوم المصري يوم 14 أكتوبر، حتى وان لم يكن سيحسم بنفس الطريقة".
قد يقول قائل ولماذا نفترض صـحة رأي الخبراء الأجانب. وله الحق في ذلك إذا كان رأي الخبير الأجنبي يتعارض مع العلم العـسكري ومع المنطق ومع إجماع آراء الخبراء الوطنيين؟ أما إذا كـان رأي الخبراء الأجانب مؤيدا لوجهة نظر الغالبية العظمى من الخبراء الوطنين، ومع العلم العسكري، فإن رأيهم في هذه الحـالة يعتبر دعما إضـافيا لصحـة رأي القادة والخبراء الوطنيين.
يقول هيكل إنه شكل في الأهرام مـا أطلق عليه "المركز رقم 11"، وإن هذا المركز كـان يضم اللواء طلعت حسن علي ومصطفي الجمل وحسن البدري. وأن هذا المركز كـان مكلفا بمتابعة مجرى العمليات عن بعد متـحررين من ضغوط المعركة وأن يبعثوا بما يعن لهم إلى القيادة العامة للقوات المسلحـة (هيكل أكتوبر 73 ص 437) إن مؤسسة الأهرام حرة في أن تنشئ مركزاً للدراسات الاستراتيجـية وان تطلق عليه ما تشـاء من الأسماء ولكن مع احترامي لهؤلاء الأشـخاص الذين جاء ذكرهم، ومع اعترافي بأنهم من خيرة الضابط إلا أنه لايمكن اعتـبار هذا المركز التابع للأهرام بديلا عن المركز 10 التابع للقيـادة العامـة للقوات المسلحة أو موازيا له. وماذا لو قامت مؤسسة اخـبار اليوم بإنشاء مركز مثيل. ثم ماذا لو تصورنا في ظل التعددية الحزبية الحالية أن صحيفة الشعب التـابعة لحزب العمل المعارض قامت هي الأخرى بإنشاء مركز مثيل!! إن هذه المراكز مهما تعددت ومهما ضمت من ضباط ممتازين فإنها ستكون دائما في حاجة ماسة إلى المعلومات التي تتغير يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة والتي لايمكن متابعتها الا من خلال مركز القيادة الرئيسي التابع للقوات المسلحة والذي كان يطلق عليه المركز 10.
وإني أذكر أن اللواء مصطفي الجمل قد زارنا في المركز 10 واقترح أن نقوم بتطوير هجومنا نحو المضـايق. ولكنه لقي معارضة ورفضا من كل من الفريق اول أحمد إسماعيل ومن الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس الأركان. وقد أوضحت له بنفسي الأسباب التي تدعو إلى ذلك. وإن رفض الأخذ بتوصية اللواء مصطفي الجمل لاتعني- حاشا لله- الاستخفاف بها.. ولكنها كـانت تعني ببساطة شديدة انه هو وزملاؤه في مركز دراسات الأهرام لم يكونوا على دراية كاملة بموقف قواتنا وقوات العدو في اللحظة التي تقدم فيها باقتراحه.
يتبنى هيكل في كتابه الرأي القائل بأن قواتنا المسلحـة كانت لديها القدرة على التقدم إلى المضايق يوم 9 من اكـتوبر ولكنها لم تفعل ذلك. ويستشهد هيكل على صحة مـا يقول بما سمعه من السفير السوفيتي فينوجراسرف والجنرال السوفيتي ساماخودسكي في الساعات الأولى من يوم 9 من اكتوبر (هيكل/ أكتوبر 73 ص 392 و 393). ويبدو أن هيكل قد وقع في خطا التصور بان صور الأقمار الصناعية السـوفيتية كانت تصب اولا بأول في السفارة السوفيتية، وأن خريطة الموقف التي شاهدها عند الجنرال ساماخودسكي كانت تبين توزيع قواتنا وقوات العدو حتى آخر لحظة.. حيث أن ذلك هو ابعد ما يكون عن الحقيقة. فقد كانت صور الأقمار السوفيتية تصل إلينا من موسكو برفقة ضابط سوفيـتي حيث تسلم مباشرة إلى المركز 10، أما الجنرال ساماخردسكي فقد كـان يزورنا في المركز 10 مرة في كل يوم لكي يحصل منا على المعلومات التي طرأت على الجـبهة خلال الأربـع والعشـرين ساعة السابقة.
وبالتالي فإن توصية السفير السوفيتي بتطوير هجومنا نحو المضايق يوم 9 من أكتوبر تتساوى مع توصية مركز الدراسات الاستراتيجية في كونها تفتقر إلى المعلومات الصحيحة. وقد حصـل هيكل على هذه الإجابة من الفريق سعد الدين الشاذلي عندما اتصل به الساعة الثالثة صباح يوم 9 من أكتوبر، كما حصل على نفس الإجابة من الفريق اول أحمد إسماعيل عندما اتصل به بعد ذلك بثلاث ساعات (المرجع السابق ص 394)
تخفيف الضغط عن سوريا
حيث إن السادات لم يعلن قط أن الهدف الذي حدده للقوات المسلحة قبل الحرب كان هو الوصول إلى المضايق، وحـيث أنه هو نفسه الذي أمر يوم 12 من أكتوبر بالتطوير نحـو المضايق. وحيث إن هجومنا نحو المضايق يوم 14 من اكتوبر- تنفيذا لقرار السادات وعلى الرغم من المعارضـة الشديدة من القادة العسكريين- قـد فشل فشلا ذريعا. فإن السادات لجأ إلى تبرير هذا القرار الخـاطىء بان الغرض منه كـان هو تخفيف الضـغط عن الجبهة السـورية. وهذا الادعاء هو اكذوبة كبرى من أكاذيب السـادات الكثيرة وقد سبق لي أن أوضحت تلك بالتفصيل في الفصل الثالث والثلاثين وهناك ثلاث حقائق تؤكد عدم مصداقية هذا التبرير وهي:
الحقيقة الأولى هي ما ذكره السادات لهيكل مسـاء 11 من أكتوبر إذ قال "أنا مرتاح للموقف في سوريا. السوريين تمكنوا من تثبيت الجبهة. والإمدادات تتدفق عليهم من الاتحاد السوفيتي، وقد وصلتهم اليوم حمولة 40 طائرة (يقصد طائرات انتنوف 22 حمولة كل منها 80 طنا). احمد إسماعيل أول ما دخل كان عاوز يقول لي إن السـوريين استطاعوا تثبيت الهجوم المضاد الإسرائيلي، فقلت له يا أحمد أنا عارف قبل ما تقول لي وأنا مطمئن " (هيكل/ أكتوبر 73 ص 427). فإذا كان هذا هو رأي السادات مساء 11، فما الذي دفعه إلى إصدار الأمر صباح يوم 12 بالتطوير بحجة تخفيف الضغط عن الجبهة السورية ما الذي حدث خلال العشر ساعات السابقة لاتخاذه هذا القرار؟
الحقيقة الثانية هي لغة الأرقام. ففي يوم 12 من أكتوبر كان تحت تصرف قيادة الجبهة السورية 13 لواء مدرع عربي (8 سوري، 3 عراقي، 1 أردني، 1مغربي) في مقابل 6 الوية مدرعة إسرائيلي. نعم كـانت الألوية المدرعة العربية قد تحملت بعض الخسائر، ولكن إذا أضفنا إلى عدد الدبابات الأسلحـة المضـادة للدبابات، فإن قدرة سوريا على صد الهجـوم المضاد الإسرائيلية كانت مؤكدة، بل إن الموقف النسبي بين سوريا واسرائيل على الجبهة السورية كـان افضل بكثير من الموقف النسبي بين مصر واسرائيل على الجبهة المصرية، حيث كانت إسرائيل تحشد 8 الوية مدرعة في مواجهة 10 الوية مدرعة مصرية (اللواء المدرع الإسرائيلي 120 دبابة اما اللواء المدرع العربي فهو 90 دبابة).
أما الحقيقة الثالثة والأخيرة فإنه طبقا لأصول العلم العسكري، وما تتمتع به إسرائيل من موقع مركزي بين الجبهتين المصرية والسورية مما يمكنها من العمل على خطوط داخلية، واضطرار الجبهتين المصرية والسورية إلى العمل في خطوط خـارجية، وابتعاد الجبهتين عن بعضهما حوالي 250 كيلومترا، والتفوق الجـوي الإسرائيلي الساحق. فإن كل من الجـبهة المصرية أو الجبهة الشرقية لا تستطيع أن تخفف الضغط عن الأخرى، وقد أوضحت ذلك في تقرير قدمته بصفتي الأمين العام المسـاعد العسكـري للجامعة العربية إلى مجلس الدفاع العربي المشترك في دورته الثانية عشرة عام 71.
فإذا علمنا انه لم يحدث على الجبهة السورية أي تغيير خلال العشر ساعات التي سبقت اتخاذ السادات القرار الخاص بتطوير هجوم قواتنا نحو المضايق. وإذا افترضنا- كما تؤكد الأحداث وطبقا لما جاء في حـديث السـادات مسـاء يوم 11- أن الجـبهة السورية كـانت متماسكة وابعد ما تكون عن الانهيار. واذا افترضنا أن القائد العام أحـمد إسماعيل لابد انه اخطر السادات بالمخاطر التي سوف تجابه قواتنا إثناء تحـركها، ويبدو ذلك جليا من الحديث الذي أدلى به احمد إسماعيل إلى هيكل بعـد الحرب يوم 14 نوفمبر 1973. إذا افترضنا كل ذلك فإنه يتـحتم علينا أن نجـيب عن السؤال المهم الذي يفرض نفسـه وهو: "لماذا إذن اتخذ السادات هذا القرار؟". لقد ذهب خصوم السادات إلى حد اتهامه بالخيـانة وانه كان عميلا للمخابرات الأمريكية.وأنه كان يتقاضى راتبا شهريا من CIA عندما كان نائبا لرئيس الجمهورية. وهم يستندون في ذلك على ما نشر في الصحف الأجنبية عام 1978، ثم ما أكده الصـحفي الأمريكي بوب ودورد Bob Woodward في كتابه الذي نشر في أغسطس 1987 (The Secret Wars of the CIA, Page 352) ، والذي يعطي لهذا الكتاب الأخير اهمية خاصة هو انه صدر بناء على أحاديث أجراها بوب ودورد مع المستر Caesy مدير وكالة المخابرات الأمريكية.
أما من ناحيتي فأني اعتقد أن ذلك كان يرجع إلى شوفينية كاذبة تولدت وتعظمت لدى السادات بعد نجاح قواتنا في عبور قناة السويس كرد فعل لما عاناه في طفولته البـائسة. ويبدو ذلك جليا لمن يقارن بين ما جاء في كـتابه البحث عن الذات. وبين حديثـه مع هيكل مساء 11 أكتوبر 73. فهو يصف طفولته في كتاب البحث عن الذات "كنت أسير خلف جدتي صبيـا اسمر ضئيل الجسم حافي القدمين يرتدي جلبابا تحته قميص من البفتـة لا تفارق عيناه زلعة العسل. ذلك الكنز الذي استطعنا الحصول عليه أخيرا (ص 11) وهو يشرح في الصفحـات التالية كيف كان يخرج في الفجر ليشتغل بالطنبور في ري الأرض، وكيف كان ياخذ البهائم إلى الترعة لتشرب. وانه عندما ذهب إلى المدرسة الثانوية عرف معنى الطبقة والفوارق وأنه كان يعيش تحت خط الفقر". أما في حديثه مع هيكل مساء يوم 11 أكتوبر فإنه يقول "بعثت اليوم للبكر (يقصد الرئيس العراقي حسن البكر) أطلب منه السماح باستخدام طيارة الردع تي يو من بغداد ضد اسرائيل بعث البكر يقول لي حاضر. حكمتك يارب. كل الناس في العالم العربي بياخدوا مني دلوقتي أوامر. أقول أي شيء يقولوا حاضر يا أفندم". ولنا أن نتصور ما يمكن أن يحـدثه هذا التطور الهائل في حـيـاة وتفكير هذا الشخص. لابد أن شيـاطين الجن والإنس -قد يكشف لنا المستقبل عمن هم شياطين الإنس الذين تكالبوا عليه مساء يوم 11 أكتوبر- قد قالوا له "إن نجاح القوات المسلحة المصرية في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف قد جعل منك بطلا مصرياً. فلماذا لا تستغل هذا الموقف لكي تصبح بطلا عربيا كصلاح الدين وغيره من القادة الأبطال؟.
وإذا علمنا أن السـادات لم يخدم بالقوات المسلحـة سوى ثلاث سنوات في الأربعينيات. وانه ليس بقاريء وليس له أي ثقافة عسكرية. وانه لم يتول أي قيادة ميدانية فإننا لا نتجنى عليه إذا وصـفناه بالجهل. وإذا اجتمعت الشوفينية والجهل في شـخص ما فهي لابد تؤدي إلى الكوارث. ولاشك أن علماء النفس هم اقدر مني على تحليل شـخصـية السـادات والتوصل إلى الأسباب الحقيقية التي دفعته لاتخاذ قرار التطوير الخاطئ وذلك إذا افترضنا استبعاد اتهامه بالخيانة.
الصواريخ المضادة للطائرات
المشير محمد علي فهمي كان إبان حرب أكتوبر برتبة لواء وكـان قائدا لقوات الدفاع الجوي. وقد أبلت قوات الدفاع الجوي بلاء حسنا خلال حربي الاستنزاف وأكتوبر 1973. ونظرا لضعف قواتنا الجوية التي من المفترض أنها تتحمل نصيبا من مسئولية الدفاع الجوي، فقد كانت نتيجـة ذلك زيادة الحمل الملقى على عاتق قوات الدفاع الجوي، والذين عاشوا في مصر عام 1970 يعرفون ملحـمة بناء قوات الدفاع الجوي، فبنهاية عام 1969 كان الدفاع الجوي قد انهار تماما واصبحت الطائرات الإسرائيلية تقوم بغارات شبه يومية لا على الأهداف العسكرية فحسـب بل على الأهداف المدنيـة في العمق أيضـا (راجع الفصل العاشر).
وسافر جمال عبد الناصـر إلى موسكو في يناير 70 وطلب من الاتحـاد السوفيتي أن يشاركوا بقواتهم في الدفاع الجوي عن مصر. واستجاب الروس لطلب عبد الناصر وبدأت الامدادات الروسية تصل إلى مصر خـلال فبراير ومارس، وبحلول شهر ابريل كـانت الوحدات السوفيتيـة قد اصبحت جاهزة للقيام بمهامها القتـالية. وقد بلغ عدد أفراد الوحدات السوفيتية في مصر حينئذ 6000 فرد، وكانت تشمل ما يلي :-
- 80 طائرة ميج 21 بأطقمها
- 37 كتيبة صواريخ سام 2، سام 3 بأطقمها
- فوج صواريخ سام 6.
- 4 طائرات ميج 25 بأطقمها
- 1 سرب استطلاع وإعاقة إلكتروني
- 1 وحدة سمالطا يمكنها إعاقة جهاز التوجيه في صواريخ هوك الإسرائيلية
- 1 وحدة تاكان يمكنها إعاقة أجهزة التوجيه في الطائرات المعادية
- مجموعة رادارات مختلفة الأنواع
كانت صواريخ سام 2 وسام 3 من النوع الثقيل الذي يستخدم في الدفاع الثابت وتحتاج إلى بناء قواعد وملاجئ من الخرسانة المسلحة. كان العدو يشن هجمات يومية على المهندسين والعمال الذين يقومون ببناء هذه الملاجئ وفيما بين يناير وابريل 1970 بلغ مجموع الغارات الجوية الإسرائيلية 3300 طلعة أسقط خلالها 8800 طن من المتفجرات، سقط خـلالها بضعة الاف من القتلى كان غالبيتهم من العمال الذين يقومون ببناء قواعد الصواريخ. وفي أواخر يونيو بدأ تحرك كتائب الصواريخ من القاهرة في اتجاه القناة كان التحرك يتم على وثبات، وفي خلال أسبوعين وصل حائط الصواريخ إلى خط يقع حوالي 20 كيلومترا غرب القناة.
وفي عام 1977 نشر محمد علي فهمي كتابه "القوة الرابعة، تاريخ الدفاع الجوي في مصر". ولم يدع في كتابه أن التقدم نحو المضايق كان هو هدف القوات المسلحة في خطة الحرب ولكنه كان حريصا على ألا تتحمل قيادة قوات الدفاع الجوي مسئولية عدم إدراج التطوير في الخطة. وان عدم توافر كتائب الصواريخ خفيفة الحركة مثل سام- 6 باعداد كافية كان هو أحد الأسباب الرئيسية لذلك. وهو يدافع عن وجهة نظره هذه بالنقاط التالية:
- تم إدخال تعديلات فنية على التنظيم والمعدات والتدريب لتسهيل عملية التحرك والاستبانه حتى اصبح من الممكن تجهيز موقع قاعدة الصواريخ في عدة ساعات (المؤلف: لم يذكر الأخ محمد علي فهمي عدد هذه الساعات ولكن على ما اتذكر فإنها كانت تستغرق ثمان ساعات أثناء التدريب وقت السلم وبدون أي تدخل من العدو. وهي مدة طويلة جدا لا تتناسب مطلقا مع سرعة المعركة الهجومية).
- إن قوات الدفاع الجوي دفعت فعلا عددا من كتائب الصواريخ إلى شرق القناة حينما قررت القيادة العامة للقوات المسلحة تطوير الهجوم شرقا يوم 14 اكتوبر لتخفيف الضغط عن سوريا.
ومع احترامي لوجهة نظر الأخ محمد علي فهمي فأنني أذكره بما يلي:
1- في المؤتمر الذي عقد برئاسة الرئيس السادات في بيته بالجيزة في 2 من يناير 72 قال محمد علي فهمي "مشكلة الدفاع الجوي حاليا أني عاوز أحارب حرب هجومية باسلحة دفاعية. الصواريخ الخفيفة الموجودة عندي من نوع ستريلا وقوتها التدميرية محدودة ومداها لايتعدى كيلو ونصف. السوفيت عندهم نوع متقدم ويمكن غير موجود عند الدول الغربية لأنه محمل على وسيلة نقل مجنزرة ويضرب على الكونتراست ولا يضرب بالانفرارد. بالوسائل الموجودة لا نقدر على توفير دفاع كافي أمام طائرات سكاي هوك وطائرات الفانتوم. ومن ناحية القيادة والسيطرة ليس لديّ وسيلة اتصال مأمونة أثناء التحرك وهذا يضطرني إلى إرسال الإشارات بالشيفرة ومعنى هذا اَخذ 20-30 دقيقة علشان أوصل معلوماتي. العدو عنده امكانات عالية جدا في التصنت والإعاقة والشوشرة اللاسلكية". (المؤلف: يلاحظ أن محمد علي فهمي لم يذكر إطلاقا إمكان استخدام سام 2 وسام 3 في العمليات الهجومية. اننا نذكره بالوقت والخسائر التي تحملتها كتائب الدفاع الجوي إثناء تحركها من منطقة القاهرة وحتى 20 كيلومترا غرب القناة في شهر يونيو 1970- فقد استغرق ذلك حوالي إسبوعين رغم انه كان يتم فوق ارض تسيطر عليها قواتنا البرية سيطرة كاملة، وتستخدم الخطوط التليفونية المؤمنة في القيادة والسيطرة على هذه الكتائب اثناء تحركها واثناء اشتباكها).
2- إن دفع عدد محدود من كتائب الصواريخ إثناء عملية التطوير يوم 14 أكتوبر إلى مسافة حوالي 5 كيلومترات شرق القناة لا ينهض دليلا على اماكن استخدام كتائب سام 2 وسام 3 في العمليات الهجومية، حيث انها كانت تنتقل من مكان تسيطر عليه قواتنا البرية إلى مكان آخر تسيطر عليه ايضا قواتنا البرية. وهذا الوضع يختلف تماما إلى أن هذه الكتائب أن تفتح على مسافة تزيد على 15 كيلومترا شرق القناة.
3- الصواريخ المضادة للطائرات خفيفة الحركة لا تعني مجرد سرعة هذه الصواريخ في الانتقال من موقع مجهز يقع تحت سيطرة قواتنا البرية إلى موقع مجهز يقع ايضا تحت سيطرة قواتنا. بل انها تعني القدرة على القفل والتحرك بعد كل اشتباك حتى تتفادى هجمات طيران العدو ومدفعيته بعد أن يكون قد حدد مواقعها. وبالتالي فانه تكون لها القدرة على مفاجأة طائرات العدو من مواقع متعددة.
4- إن الخسائر الفادحة التي تكبدتها قواتنا البرية اثناء عملية التطوير هي خير شاهد على عدم نجاح كتائب الصواريخ سام 2 وسام 3. كما أن قيام هذه الكتائب بإسقاط عدد من طائراتنا يدل على أن وسائل القيادة والسيطرة لدى تلك الكتائب كانت غير كافية.
5- إذا كان في إمكاننا دفع كتائب صواريخ من طراز سام 2 وسام 3 بمثل هذه السهولة التي يصورها الأخ محمد علي فهمي، فلماذا لم ندفع بكتبية أو اثنتين من تلك الكتائب مع اللواء الأول مشاه عندما كلف بالتحرك ليلة 10/11 إلى سدر حتى لا يتسبب طيران العدو في تشتت اللواء كما حدث؟!.
6- أذكّر الأخ محمد علي فهمي بموقف هذه الكتائب بعد أن نجح العدو في اختراق مواقعنا في منطقة الدفرسوار، وبعد أن اهتزت سيطرتنا على الأرض التي تقع خلف الجيش الثالث حيث تتمركز كتائب الصواريخ. فإن افتقار هذه الكتائب لصفة الحركة قد حدّ كثيرا من فعاليتها.
7- واخيرا فلو أن صواريخ سام 2 وسام 3 يمكن استخدامها في العمليات الهجومية لما كانت هنالك ضرورة لاختراع الصواريخ المضادة للطائرات الهجومية من طراز سام 4 وسام 6 أو من طراز الصواريخ التي طالب بها قائد قوات الدفاع الجوي في المؤتمر الذي عقد بمنزل الرئيس بالجيزة في 2 من يناير 1972.
تقدير الموقف العسكري على الجبهة المصرية
يقول الجمسي في كتابه يوميات حرب اكتوبر "كان من رأيي ضرورة استغلال الموقف لتطوير الهجوم شرقا طبقا للخطة دون أن نتوقف طويلا (يعني بعد العبور) حتى نحرم العدو من فرصة تدعيم مواقعه أمام قواتنا. وقد ناقشت الفريق اول احمد اسماعيل في هذا الموضوع يوم 9 من أكتوبر خلال مقابلتين معه. فوجدت منه الحذر الشديد من سرعة التقدم شرقا. حيث كان يرى الانتظار لتكبيد العدو اكبر خسائر ممكنة من خلال اوضاع قواتنا في رؤوس الكباري قبل استئناف الهجوم. وكان الفريق أول احمد إسماعيل يرى أيضا أن القوات البرية القائمة بالهجوم ستتعرض بشدة للطيران الإسرائيلي في وقت لا تتمكن فيه المقاتلات وصواريخ الدفاع الجوي من توفير الحماية الكافية لها. واوضحت له أن استئناف هجومنا يترتب عليه التحام قواتنا مع قوات العدو، الأمر الذي يجعل تأثير السلاح الجوي المعادي الإسرائيلي اقل. وللحد من تاثير السلاح الجوي المعادي، يجب استغلال طاقة قواتنا الجوية التي اثبتت قدرتها ضد طيران العدو خلال الأيام الأربعة 6-9 اكتوبر. وفضلا عن ذلك فإن صواريخ الدفاع الجوي خفيفة الحركة على الرغم من قلتها إلا إنها مؤثرة وفي الوقت نفسه يمكننا تحريك بعض كتائب صواريخ دفاعنا الجوي بطيئة الحركة على وثبات للامام (الجمسي/ يوميات حرب أكتوبر ص 150 و151). وعلى الرغم من أن التطوير يتعارض تماما مع جوهر الخطة كما سبق أن أسلفنا، وكما اتضح من معارضة أحمد اسماعيل لهذا الرأي. إلا أننا حتى لو افترضنا جدلا بانه حتى لو كان التطوير
مقررا ضمن نوايانا فهل كان الموقف يوم 9 أو الأيام التالية يسمح بهذا التطوير؟ لقد بنى الجمسي رأيه على ثلاثة افتراضات جميعها خاطئة.
1- الافتراض الأول هو أن قواتنا الجوية اثبتت قدرتها ضد طيران العدو خلال الأيام 6-9 أكتوبر، وهذا الافتراض لا يؤيده عدد الاشتباكات الجوية وعدد خسـائر الطرفين نتيجة هذه الاشتباكات.
2- الافتراض الثاني هو قدرة الدفاع الجوي الصاروخي على حماية تقدم قواتنا داخل سيناء وقد سبق أن ناقشت ذلك.
3- الافتراض الأخير هو التحام قواتنا البرية مع قوات العدو البرية للحد من تأثير السلاح الجوي الإسرائيلي. ومع أن هذه التوصية بالالتحام تحمل اعترافا ضمنيا بعدم اطمئنانه إلى قدرة قواتنا الجوية وقوات الدفاع الجوي على حماية قواتنا البرية. إلا أن هذا الافتراض هو ايضا افتراض خاطى لقد كان على قواتنا أن تتقدم حوالي 40-50 كيلومتر، خارج رؤوس الكباري. أي بعيدا عن مظلة الدفاع الجوي الثابته والالتحام الذي يحد من قدرة القوات الجوية الإسرائيلية على التمييز بين دباباتنا ودبابات العدو، يعني الاقتراب منها إلى مسافة 500 متر فأقل. فهل من المعقول أن القوات الجوية الإسرائيلية ستقف موقف المتفرج اثناء تحركها لمسافة 40-50 كيلو مترا إلى أن يحدث الالتحام بين القوتين؟؟.
لقد مضت 22 سنة على هذه الحرب وان حجم وتوزيع قواتنا وقوات العدو على الجبهة في كل يوم من ايام الحرب بات معروفا. كما وان خسائرنا وخسائر العدو في كل معركة وفي كل يوم قد اصبح معروفا. فلماذا لا نقوم بإجراء تقدير موقف للجبهة المصرية عن كل يوم من ايام الحرب على ضوء المعلومات المؤكدة عن قواتنا وقوات العدو في كل يوم حتى تتبين الحقيقية. إن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق يكون من حقها الاطلاع على كل الوثائق واستجواب من تراه من الأشخاص، اصبح ضرورة وطنية. حتى يتعلم الأبناء والأحفاد الدروس المستفادة الصحيحة عن تلك الحرب المجيدة.
احتلال طريق المدفعية
يرى بعض النقاد انه كان يعب علينا أن نعمق مواقعنا شـرقي القناة حتى تحـتل طريق المدفعية العرضي الذي تستخدمه القوات الإسرائيلية في تحركاتها العرضية. وإلى أصحاب هذا الرأي نقول أن طريق المدفعية كان يمتد على مسافة حوالي 25 كيلومترا شرقي القناة. وانه كان خارج مدى مظلة الدفاع الجوي. وبالتالي فإن احتلاله والاحتفاظ به كان سيترتب عليه زيادة انتشار قواتنا واتساع الفواصل بين تشكيـلاتنا مما يعرضها للتطويق بواسطة قوات العدو.
تطوير الهجوم نحو المضايق، صفحه رقم 283
وإن احتلال خط دفاعي شرق القناة 10-15 كيلومتراً هو افضل من احتلال خط دفاعي على مسافة 25-30 كيلومتراً شرق القناة للأسباب التالية:
1- يحتاج إلى قوات اقل نظرا لوجود موانع مائية داخل هذا الخط (بحيرة التمساح والبحيرات المرة).
2- يستند جناحه الأيمن على خليج السويس ويستند جناحه الأيسر على البحر الأبيض وبذلك يصعب على العدو تطويقه. أما خط المدفعية فإن جناحه الأيسر يستند على البحر الأبيض في حين أن جناحه الأيمن سيكون معلقا في الهواء وبالتالي يمكن تطويقه. وإذا أردنا أن يستند هذا الخط على خليج السويس فإن ذلك يعني إضافة حوالي 25-30 كيلومتراً للخط الدفاعي. وسوف يؤدي ذلك إما إلى زيادة الفواصل بين التشكيلات فيسهل على العدو تطويق وحداتنا من الأجناب، وإما إلى احتلال الموقع الدفاعي على نسق واحد وبالتالي يصبح من السهل على العدو اختراقه.
مؤتمر القناطر يوم 6 يونيو 1972
يقول هيكل "كان اختيار الفريق احمد إسماعيل علي اختياراً سليما. فهو من مدرسة نضج اقتناعها بان القتال اصـبح ضرورة سياسية وعسكرية وبالوسـائل المتاحة لتحـقيق هدف محدود أو محدد تتغير به المعادلة السياسية التي جمدت حل الأزمة (هيكل/ أكتوبر 73 ص 296) ، وكان هيكل قد ذكر قبل ذلك في الصفحة 267 من نفس المصدر السابق ما يلي "اصدر السادات تعليماته إلى الوزير الجديد الفريق أول احمد إسماعيل بالاستعداد للعمل المسلح على الجبهة في شهر ديسمبر72 أي بعد اقل من شهرين من تولي الوزير الجديد مسئوليته الضخمة. وسافر احمد إسماعيل إلى سوريا خـلال الفترة من 10- 13 نوفمبر، وقدم بعد عودته تقريرا إلى السادات نشـره هيكل في الوثيقة رقم 41 وجاء فيه تكليف القيادة العامة للقوات المسلحة السورية بالتخطيط وإعداد القوات للعملية الهجومية على النحو التالي:
- الانتهاء من التخطيط وعرض الخطط في 15 من ديسمبر 72.
- استعداد القوات للعمليات الهجومية في 31 من ديسمبر 72.
والذي يثير الانتباه والتعجب في نفس الوقت أن هيكل لم يشر من قريب أو بعيد إلى التقرير الذي كان أحمد اسماعيل قد بعث به -بصفته رئيس جهاز المخابرات العامة- إلى الرئيس السـادات في يونيو 72. هذا التقرير الذي حذر فيها احمد اسماعيل من أن تقوم القوات المسلحة بأية عملية هجومية لأسباب متعددة أهمها هو ضعف قواتنا الجوية، وضعف امكاناتنا في الدفاع الجوي الصاروخي ذاتي الحركة. هذا التقرير الذي دعا السادات مجموعة مصغرة من القادة لمناقشته يوم 6 من يونيو 1972 في استراحة الرئيس بالقناطر الخيرية (راجع الفصل الثامن عشر لمعرفة تفاصيل هذا المؤتمر وتعليق الشاذلي بأنه يجب علينا أن نخطط لمعركة هجومية محدودة في ظل تفوق جوي معاد).
لم يحدد السادات موقفه في هذا المؤتمر بوضوح. وكان تعقيبه لا يعني الرفض ولا يعني القبول. فقد عقب قائلا "أنا والفريق صادق يشاركني الرأي نرى انه يجب علينا إلا نقوم بأية عملية هجومية إلا بعد أن يكون لدينا قوة الردع. أي يكون لدينا طيران يستطيع أن يضرب عمق العدو. ولكن يجب أن نفكر فيما إذا اضطرنا الموقف السياسي إلى بدء المعركة قبل الانتهاء من بناء قوة الردع".
وإذا كان هذا هو موقف السـادات وموقف أحمد اسماعيل في يونيو 72، فكيف يمكن أن يتحول هذا الموقف إلى نقيضه بعد خمسـة اشهر. رغم أنه لم يحدث خلال هذا الفاصل الزمني أي تغيير في القوى العسكرية النسبية بيننا وبين العدو؟! وهنا تبرز عدة أسئلة مازالت بدون اجـابة من بينها: هل كان تقرير احمد اسماعيل هو جزء من مؤامرة الغرض منها هو ايهام الفريق أول صادق بأن رايه حول ضرورة تفادي الحرب هو الرأي الأصوب، في الوقت الذي كان السادات يهيئ فيه الظروف لإقالته بعد اقل من خمسة اشهر على أساس انه لم يجهز القوات المسلحة للحرب كما امره السادات؟ وهل هناك علاقة بين احجام السـادات عن اتخاذ قرار الحرب يوم 6 يوليو 72، وبين قراره بطرد الخـبراء السوفيت والوحدات السوفيتية بعد ذلك بشهر واحد؟
رسالة السادات إلى كيسنجر
لقد أثار هيكل ضجة كبرى حول الرسـالة التي أرسلها السادات إلى كيسنجر يوم 7 أكتوبر والتي قال فيها " إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباك او توسيع مدى المواجهة" ومع أني لم أعلم بهذه الرسالة إلا بعد نشرها في جريدة الأهالي بتاريخ 18 من مايو 83 . ومع إني كنت سأعترض على إرسال مثل هذه الرسالة إذا اخذ رأيي قبل إرسالها. اما وقد أصبحت هذه الرسالة تاريخا، فإني وان كنت أدينها إلا أني في الوقت نفسه لا أعتقد أنها تستحق كل هذه الضجة التي أثارها هيكل حولها.
يقول هيكل في تعليقه على هذه الرسالة "كانت هذه هي أول مرة في التاريخ كله يقول فيها طرف محارب لعدوه نواياه كاملة ويعطيه من التأكيدات ما يمنحه حرية في الحركة السياسية والعسكرية على النحو الذي يراه ملائما له ". ومع قناعتي بأن هذه الرسالة ستصل إلى إسرائيل، إلا أنني لا أعتقد أن إسرائيل ستفترض أن هذه الرسالة تمثل نوايانا المستقبلية بصفة مؤكدة. إذ ليس من الممارسات السياسية والعسكرية أن يصدق القادة كل ما يعلنه الأعداء من تصريحات ورسائل. وعن نفسي فلو قيل لي أن جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل قالت كذا، أو إن موشي دايان وزير الدفاع قال كذا فان أول ما يتبادر إلى ذهني وأتوقعه من إسرائيل هو عكس ما يقولون اللهم إلا إذا كانت لدي قناعة مؤكدة أن المتكلم أو صاحب الخطاب هو عميل مضمون.
إن القادة السياسيين والعسكريين -إذا استبعدنا ما يصلهم من معلومات عن طريق الجواسيس والعملاء- لا يتخذون قراراتهم بناء على التصريحات التي تصدر عن أعدائهم، أو التي تصلهم عن طريق تدخل طرف ثالث. ولكنهم يتخذون قراراتهم بناء على ما تسجله وسائل الاستطلاع والرصد والتصنت السلكي واللاسلكي والإلكتروني والبشري. وبناء على ما تسفر عنه نتائج تقدير موقف العدو على ضوء إمكاناته الحقيقية وليس بناء على ما يعلنه أو يدعيه.
الفصل الأربعون: أسلوب التعامل مع ثغرة الدفرسوار
"لانشارك الآخرين جريمة التستر على الأخطاء التي تجري فالأخطاء ليست عيبا. ولكن التستر عليها جريمة في حق الأمن القومي للوطن".
أمين هويدي
رئيس جهاز المخابرات الأسبق ووزير الدفاع الأسبق
الفرص الضائعة / ص 496
"في تقديري كان الشاذلي على حق عندما اقترح مساء يوم 20 سحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق لإعادة التوازن المختل إلى الجبهة. ولم يكن سحب هذه الألوية المدرعة وربما اكثر منها يسبب أية خطورة في الشرق".
أمين هويدي
المصدر السابق/ ص 486 و 493
"يبدو أن القادة المصريين أُخذوا على غرة بالعبور الإسرائيلي. وتصرفت الرتب العليا وكأن على أعينهم غشاوة وتمزقت الهجمات المضادة شر ممزق. بل بدا وكأن القائد العام يفتقر إلى احتياطي عام "
الخبير السويدي
الليفتنانت جنرال ستمج لوفجرين
الندوة الدولية عن حرب أكتوبر بالقاهرة 1975
الحدود بين الجيوش والمناطق
كثر الحديث بعد الحرب عن انه كان هناك فاصل بين الجيشين الثاني والثالث، وان الإسرائيليين استغلوا وجود هذا الفاصل غير المؤمن فنفذوا من خلاله إلى الضفة الغربية للقناة كان السـادات هو أول من أطلق هذه الفرية ليغطي بها قراره الخاطئ بالتطوير الذي ترتب عليه دفع الفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين من غرب القناة إلى شرقها، ثم قراره الخاطئ الآخر برفض إعادة هاتين الفرقتين إلى مواقعـهمـا غرب القناة بعد فشل هجومهما يوم 14 أكتوبر. وعن طريق السـادات نقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية هذه المعلومة. وافترض المحللون العسكريون صحة هذا الخبر عند تقييمهم لموقف القيادة العامة للقوات المسلحة المصـرية. ولكن هذه الفرية التي أطلقها السـادات، هي أبعد ما تكون عن الحقيقة. فقد كانت الجبهة مؤمنة- طبقا للخطة- من البحـر الأبيض شمالا حـتى خليج السويس جنوبا.
ولم يكن هناك متر واحد لا يقع تحت مسئـولية إحدى القيادات. فـقد كانت مسئولية قطاع بور سعيد تمتد من البحر الأبيض حـتى القنطرة (خارج). وكانت مسـئولية الجيش الثانـي تمتد من القنطرة (داخل) حتى الدفرسوار (داخل). وكانت مسئولية الجيش الثالث تمتد من جنوب الدفرسوار بحوالي عشـرة كيلومترات حتى ميناء الأدبية على خليج السويس (داخل). ثم كانت مسـئولية منطقة البحر الأحمر من جنوب الأدبية بحوالي عشرة كيـلومترات حتى أقصي الجنوب. وبالتالي فإن منطقة الدفرسوار كـانت تدخل- بصـفة مؤكدة- ضمن مسئولية الجيش الثاني (راجع الخريطة رقم 2).
ولكن هذا لا يعني مطلقا انه يتحتم على كل قائد أن يحتل بقواته كل متر من المواجهة التي تقع في نطاق مسئوليته، حيث إن ذلك لابد أن يؤدي إلى أن يصبح ضعيفا في كل مكان. ويتعارض ذلك مع مبدأ مهم من مبادئ الحرب وهو مبدا الاقتصاد في القوة وبالتالي فإن وجود ثغرات غير محـتلة بالجنود بصفة دائمة بين التشكيلات وبين الجـيوش يعتبر أمراً طبيعيـا، وذلك بشرط أن يقوم القادة باتخاذ الإجراءات اللازمة لتامين هذه الثغرات. ويكون التأمين عادة برقابة هذه الثغرات بعدد من الدوريات الثابتة أو المتحركة أو الجوية، والاحتفاظ باحتياطي من القوات ومن النيران للتصدي للقوات المعادية إذا ما قامت بالمرور من تلك الثغرات. وبصرف النظر عما اتخـذته قيادة الجيشين الثـاني والثالث من إجـراءات لتأمين الثغرات التي بين تشكيلاتها أو تلك التي في أماكن لاتشكل طريقا محـتملا لاقتراب العدو (البحيرات المرة على سبيل المثال)، فقد اتخذت القيادة العامة للقوات المسلحة إجراءات إضافية لتدمير أي قوات للعدو قد تنجح في اختراق مواقع الجيشين الثاني والثالث وقطاع بور سعيد.
وقد تصورنا عند وضع الخطة أن العدو قد ينجح في اختراق مواقعنا في واحدة أو اثنتين من ثلاث نقاط محتملة. وكانت الدفرسوار هي واحدة من تلك النقاط الثلاثة وعلى الرغم من أن هذه النقاط الثلاث كانت مؤمنة بالقوات من الشرق بكثافة (كانت الفرقة 16 مشاة تؤمن منطقة الدفرسوار بقوة من شرق القناة)، إلا أننا لم نستبعد مطلقا احتمال نجاح العدو في اختراق مواقعنا في أي من تلك النقاط الثلاث إذا ما ركز هجومه عليها. ولذلك فقد قاست القيادة العامة بالاحتفاظ بالفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين وبعض الوحدات الأخرى في النسق الثاني للجيوش. وكانت هذه القوات مكلفة بواجب تدمير أي عدو قد ينجح في عبور القناة إلى الغرب. بل أن هذه القوات قامت بتنفيذ مشروعات تدريبية لتنفيذ هذا الواجب على نفس الأرض التي سوف تقاتل عليها حتى اصبح تنفيذ هذا الواجب وكـأنه طابور تدريب تكتيكي يعلم كل ضابط وجندي تفاصيله.
ولكن القرار السياسي الخاطئ بضرورة تطوير الهجوم نحو المضايق- والذي سبق أن شرحته بالتفصيل في الفصل السابق، والذي ترتب عليه دفع الفرقة 21 مدرعة، والفرقة الرابعة المدرعة عدا لواء في عملية التطوير- حرم القيادة العامة للقوات المسلحة من أي احتياطات فعالة يمكن أن تتصدى لأية عملية اختراق يقوم بها العدو لمواقعنا شرق القناة. كان القرار السليم- طبقا للموقف وطبقا لأصول العلم العسكري- هو أن نسحب الفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين بعد فشل هجومنا يوم 14 إلى مواقعهما الأصلية غرب القناة لنعيد الاتزان إلى مواقعنا الدفاعية. ولكن احمد إسماعيل المصاب بعقدة هزيمة 67 عارض هذا الاقتراح على أساس أن سحب هذه القوات قد يؤثر على الروح المعنوية للجنود (راجع الفصل الثالث والثلاثين)
أسلوب التعامل مع ثغرة الدفرسوار، صفحه رقم 287
المناورة بالقوات
المناورة بالقوات هي مبدأ مهم جدا من مبادئ الحرب. ويندر أن لم يكن من المستحيل كسب أي حرب دون تطبيقه. والمناورة بالقوات في العلم العسكري تعني أن يقوم القائد بتحريك قوات قبل وأثناء المعركة من مكان إلى آخر، حيث تستطيع من موقعها الجديد أن تحقق نجاحا اكبر في القتال. ففي العمليات الهجومية يستطيع القائد الذي يطبق هذا المبدأ استغلال الفرص التي قد تظهر له أثناء القتال نتيجة سوء توزيع العدو لقواته في الدفاع أو نتيجة بدء حركتها، فيدفع قواته في الاتجاهات الضعيفة حيث يمكن اختراق خطوط خصمه الدفاعية والوصول إلى مؤخرته. ويستطيع القائد أن يحقق هذا المبدأ أيضا في المعارك الدفاعية. فهو يستطيع أن يتظاهر بالضعف في قطاع معين سواء بالتقهقر أمام خصمه في قطاع من الجبهة، أم بأن يترك ثغرة غير مؤمنة بين جناحيه تغري المهاجم على المرور خلالها بغية الوصول إلى مؤخرة القوات المدافعة. فإذا ما نجح القائد المدافع في استدراج خصمه إلى منطقة القتل التي يريدها انقضت عليه قواته من الأمام والخلف والأجناب لإبادتها. فالمناورة بالقوات إذن شيء والانسحاب شيء أخر. فالأولى هي الاستمرار في القتال في مكان آخر أما الثانية فهي التخلص أو الهروب من المعركة.
وقد بين القرآن العظيم الفرق بين المناورة بالقوات والانسحاب في قوله تعالى( يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تُوَلُّوهُمُ الأدبار. ومن يولِّهم يومئذٍ دُبُرَهُ إلا مُتحرِّفاً لقتال أو متحـيّزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنَّمُ وبئس المصير) (16,15 الأنفال). فتولية الدبر معناها الانسحاب من القتال. أما ألتحرف للقتال أو التحيز إلى فئة فهو ما يطلق عليه اليوم في العلم العسكري مبدأ المناورة بالقوات.
لقد كان الخلاف الرئيسي بيني من جانب وبين السادات وأحمد إسماعيل من الجانب الآخر يدور طول فترة الحرب حول تطبيق هذا المبدأ. واشتد الصراع بيني وبينهما بصفة خاصة خـلال الأيام من 15 وحتى 20 من أكتوبر. ومنعا للتكرار فأرجو مراجعة الفصلين 33 و 34. حيث أني سأقتصر في هذا الفصل على الرد على ما كتبه النقاد بعد صدور هذا الكتاب.
كنت حريصا منذ البداية على أن نستغل خفة حركة وقوة نيران قواتنا المدرعة، وذلك عن طريق الاحتفاظ بها في الاحتياطات والأنساق الثانية للجيوش وألا نستخدمها إلا في المراحل الأخيرة والحاسمة للحرب، وبعد أن تتحطم قوات العدو المدرعة على صخرة دفاعاتنا شرق القناة هذه الصخرة التي كانت تتكون من 5 فرق مشاة تستطيع كل منها -بما لديها من دبابات وأسلحة مضادة للدبابات تدخل في تنظيمها العضوي - صد هجوم تقوم به ثلاثة ألوية مدرعة قوامها 360 دبابة. فقد كـان يدخل ضمن تنظيم كل فرقة مشـاة ما يلي من الأسلحة:
4 كتيبة دبابات (124 دبابة).
1 كتيبة BMP ( قطعة40).
1 كتيبة قواذف صواريخ موجهة مالوتكا (36 قطعة).
1 كتيبة مدفعية مضادة للدبابات 85 ملليمتر (36 قطعة).
90 مدفع بي 10 و بي 11 مضاد للدبابات.
459 قاذف صاروخي قصير المدى (ر.ب.ج).
3 كتائب هاون 120 ملليمتر (36 قطعة).
3 كتائب مدفعية 100 ملليمتر (36 قطعة).
3 كتائب هاوتزر122 ملليمتر (36 قطعة).
أسلوب التعامل مع ثغرة الدفرسوار، صفحه رقم 288
ولذلك فإن خطة الهجوم الأصلية (المآذن العالية) لم تكن تتضمن تدعيم الفرقة المشاة أثناء عملية اقتحام قناة السويس بأي وحدات مدرعة. بل أنها كانت أيضا لا تتضمن كتيبة BMP حيث أن هذه الوحدة لم تدخل ضمن تنظيم الفرقة المشاة إلا قبل بدء حرب أكتوبر ببضعة اشهر (تم التعاقد على توريد هذه الكتائب فقط في مارس 1973، ووصلت بعد ذلك ببضعة اشهر).
بعد أن تولى احمد إسماعيل منصب القائد العام للقوات المسلحة، طلب منه السادات أن يضمن سرعة احتلال القنطرة شرق، حيث أنه يريد أن يستغل تحريرها سياسيا. وبناء عليه أمر احمد إسماعيل بأن تدعم الفرقة 18 مشاة التي تقع مدينة القنطرة شرق في قطاعها بلواء مدرع. ثم عاد السادات بعد ذلك فطلب منه أيضا ضرورة سرعة تامين مدينتي السويس والإسماعيلية من الشرق فأمر احمد إسماعيل بتدعيم كل من الفرقة 19 مشاة التي تقع السويس في قطاعها والفرقة 16 مشاة التي تقع الإسماعيلية في قطاعها بلواء مدرع. وبعد ذلك اشتكى قائدا الفرقتين المشاة السابعة والثانية، من أن هذا التوزيع سيكون دعوة للعدو لكي يركز هجومه عليهما من دون فرق المشاة الأخرى فأمر احمد إسماعيل بتدعيم كل منهما بلواء مدرع. ومع أن توزيع نصف قواتنا المدرعة بهذا الأسلوب يعتبر استخداما سيئا لخصائص القوات المدرعة، إلا انه كان من الممكن التغاضي عنه مؤقتا على أساس أن هذه الألوية المدرعة سوف تسحب من فرق المشاة وتعود إلى مواقعها غرب القناة بعد أن تنجح فرق المشاة في تجهيز مواقعها الدفاعية. وكان من الممكن أن يحدث ذلك اعتبارا من يوم 10 من أكتوبر. ولكن كما سبق أن أوضحنا فقد اتخذ يوم 12 من أكتوبر قرار بدفع باقي الفرقة 21 مدرعة والفرقة الرابعة المدرعة عدا لواء. وبالتالي فإنه بحلول يوم 14 أكتوبر كان قد اصبح لنا في الشرق 7 ألوية مدرعة. ولم يبق في غرب القناة خلف الجيشين الثاني والثالث سوى لواء مدرع واحد من الفرقة الرابعة المدرعة. وكان يتمركز في منطقة القاهرة لواء مدرع بالإضافة إلى لواء مدرع الحرس الجمهوري.
وثار الخلاف مرة أخرى بيني وبين احمد إسماعيل يوم 15 من أكتوبر عندمـا اقترحت سحب الفرقتين المدرعتين الرابعة والحادية والعشرين المدرعة إلى مواقعهما السابقة غرب القناة ثم تجدد الخلاف يوم 16 من أكتوبر بعد حدوث الثغرة عندما طالبت بسحب الفرقة الرابعة المدرعة واللواء 25 مدرع من الشرق لضرب وتصفية الثغرة من الغرب. ثم بلغ الخلاف بيني وبين السادات ذروته ليلة 20/ 21 من أكتوبر عندما طالبت بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب.
رأي النقاد
* يقول أمين هويدي عن اقتراح الشاذلي ليلة 20/ 21 أكتوبر سحب أربعة ألوية مدرعة ما يلي "وفي رأيي فإن اقتراح الشـاذلي- كما سبق أن أوضحت في كتابي كيسنجر وادارة الصراع الدولي- كان أحسن اقتراح عملي متاح في تلك الظروف الحرجـة: إن تعليق جمال حماد بالقول بأن الموقف التكتيكي المتردي الذي أصبحت فيه قواتنا يجعل من المستحيل على أي إنسان أن يهتدي إلى حل سليم مهما كانت عبقريته يعني التسليم بالأمر الواقع، وهو ما رفضه الشاذلي. وكان اقتراح الشاذلي فيه مخاطرة مقبولة لأنه لا قتال دون مخاطرة وكان تنفيذ الاقتراح سيطيل أمد القتال، ويكبد العدو مزيدا من الخسائر التي كان من الصعب عليه الاستمرار في تعويضها حتى في ظل وجود الجسر الجوي الذي اعدته الولايات المتحدة (أمين هويدي/ الفرص الضائعة/ ص 493).
* ويعلق حافظ إسماعيل على الموقف في الساعات الأولى من يوم 21 من أكتوبر عندما قرر السادات طلب وقف اطلاق النار بما يلي "كان الاختراق الذي حدث في الجبهة العسكرية منذ 16 من أكتوبر قد تطور الآن بحيث أصبحنا اليوم نواجه هجوما إسرائيليا مضادا واسع النطاق يستهدف عزل قواتنا في شرق القناة وكان مثل هذا التقييم يقتضي تثبيت القوات الإسرائيلية في غرب القناة تمهيدا للقضاء عليها. ولتحقيق ذلك كان من الضروري تخـفيف رؤوس الكباري في شرق القناة حتى يمكن توفير القوات اللازمة وخاصة المدرعة للعمل في غرب القناة ضد منطقة الثغرة في الدفرسوار، مع استمرار الحفاظ على مراكزنا في الشرق بصفة فعالة. إلا أن رفض الرئيس أي اقتراح بسحـب قوات من الشرق إلى الغرب- بينما كانت قواتنا المتوافرة في غرب القناة اضعف من أن تتمكن من تثبيت القوات الإسرائيلية داخل منطقة الاختراق- جعل من المحتم القبول بوقف اطلاق النار قبل أن تتمكن القوات الإسرائيلية من الانطلاق من منطقة الدفرسوار فتدمر النجاح الذي تحقق. واحتمال التسوية السياسية المرضية (محمد حافظ اسماعيل/ أمن مصر القومي في عصر التحديات/ ص 345).
* يقول الكولونيل تريفور دي برى ما يلي "كان رد الفعل المصري للعبور الإسرائيلي في منطقة الدفرسوار بطيئا. وما من شك في أن هجوما مضادا رئيسيا من جانب مصر يوم 16 بل و يوم 17 من أكتوبر كان يمكن أن يحطم قوة شارون على الشاطئ الغربي لأنها كـانت تتألف من اقل من لواءين (الندوة الدولية لحرب أكتوبر/ القطاع العسكري/ ص 49).
* يقول الليفتنانت جنرال ستيج لوفجرين ما يلي "لقد أثبتت القوات المسلحة المصرية قدرتها على إعداد وتنفيذ هذه العملية المعقدة التي هي عبور قناة السويس. ولكن عندما أصبحت الحرب متحركة، ولم تعد تتبع سيناريو معدا من قبل. حاق بالمصريين أسوا ما فيها. ويبدو أن القادة على جميع المستويات أخذوا على غرة بالعبور الإسرائيلي. وتوقفت البيانات، وتصرفت الرتب العليا وكان على أعينهم غشاوة وتمزقت الهجمات المضادة شر ممزق. بل بدا وكان القائد العام يفتقر إلى احتياطي عام" (المصدر السابق/ ص 85).
* يقول الكولونيل ادجار أوبالانس وهو يتحدث عن الموقف ليلة 21 من أكتوبر ما يلي "وعلى الضفة الغربية للقتال كان هناك افتقار للسيطرة والقيادات ويبدو أن المستويات العليا من القيادة المصرية أصيبت بحالة من الشلل". (المصدر السابق/ ص185).
الدفرسوار ليست معركة تليفزيونية
* يقول أمين هويدي "لا يجوز أن نسمي ما قام به العدو من اختراق لثغرة الدفرسوار أنه مجـرد معركة تليفزيونية كما أطلق عليها الرئيس السادات أو مجرد قصة جسدتها الإعلام الإسرائيلية مستغلة عبور بعض القوات الإسرائيلية إلى غرب القناة لإبراز نجاح إسرائيل في هذه المعركة وانه كان من الواجب مقاومة ذلك بخطة دعائية مضادة كما كتب الجمسي في مذكراته. هذه معالجة سيـئة لأمور تتعلق بأمننا القومي. فعلاوة على ما في هذا الأسلوب من استخفاف بالرأي العام وافتئـات على الحقائق التاريخية، فهو أيضا تهديد لقواتنا المسلحـة وتغطية لسلبياتها بما يسمح للسوس بأن ينخر في عظامها (أمين هويدي/ الفرص الضائعة/ ص 437).
* ويقول أمين هويدي في مكان آخر "فليس صحيحا أو ليس في صالح مصر أو جيشها أن يسمي الجمسي ما حدث "قصة الثغرة"، وهي التي نقلته أحـداثها في فجر أحد الأيام السوداء في تاريخ مصـر من موقعه تحت الأرض في المركز 10 إلى إحـدى الخيام عند الكيلو 101 طريق السويس- القاهرة، ليجري هو وحفنة من الضباط أول محادثات مباشرة مع إسرائيل (نفس المصدر السابق ص 472).
وفي تعليقه على ما جاء في صفحة 436 من مذكرات الجمسي التي يقول فيها إن القوات الإسرائيلية الموجودة غرب القناة تحولت من سلاح تضغط به علينا إلى رهينة نضغط بها نحن على إسرائيل ومصدر استنزاف لأرواح ومعدات واقتصاد إسرائيل، يقول أمين هويدي بسخرية "اذكّر الجمسي بما قاله في مذكراته في صفحة 481 بان إسرائيل كانت تتحكم في السماح بإمداد الجيش الثالث ومدينة السويس. و اذكّره بما قاله من إن عينيه اغرورقتا بالدموع عندما وافق السادات يوم 17/ 1/ 74 على اتفاقية فض الاشتباك نظرا لما حوته من شروط مهينة. ولأول مرة نسمع أن الفريسة- كما يصور الجمسي موقف إسـرائيل علـى الضـفة الغربية- هي التي بيدها السماح بمرور الأكل للصـياد. ولأول مرة أيضا نسمع أن الفريسـة يمكنها الضغط على الصياد حـتى تبكيه!!" (المصدر السابق ص 525).
* وعن لهفة المصـريين على وقف إطلاق النار طبقا للشروط الإسرائيلية- مما يعكس سوء موقفهم العسكري- يقول دايان "حضر نائب سيلاسفو كبير المراقبين الدوليين لمقابلتي في القدس، واخـبرني بأنه تلقى برقيـة من القاهرة تقول إن رد المصـريين على شروطنا الثـلاثة لقبول وقف إطلاق النـار أنهم موافقون موافقون موافقون. وسألته عما إذا كـان المصريون كـرروها ثلاث مرات فأجابني بأنها أربعة (أمين هويدي/ الفرص الضائعة ص 472).
* وفي أثناء المقابلة التي تمت بين الرئيس السادات والمستر كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي، بعد ظهر يوم 17/ 10، حاول السادات أن يقلل من أهمية الثغرة فقال له كوسيحين "إن صديقنا السادات يقلل من الخطر الذي تواجهه القوات المصرية. وأنا مضطر لأن أوضح أمامه الحقيقة حتى يستطيع أن يقيم حساباته على أساس سليم ". ثم وضع كوسيجين أمام السادات 18 صورة التقطتها الأقمار الصناعية السوفيتية تظهر فيها قوات للعدو التي في غرب القناة وعلق كوسيجين على تلك الصور بما يلي: "هذه الصور تظهر انه حتى ساعة التقاطها ظهر اليوم، كان لإسرائيل في الغرب 760 قطعة مدرعة ما بين دبابات وعربات مصفحة. وهذه قوة كبيرة وتطويرها مازال مستمرا (مقال هيكل بالأهرام يوم 6/12/93 عن السلاح والسياسة).
* وقد كشف الأستاذ حسنين هيكل في صحيفة الأهرام يوم 11/12/93 عن سر جديد فيما يتعلق بموقف السـادات تجاه الثغرة (الحلقة التاسعة من مقالات هيكل عن كـتابه السلاح والسياسة). تقول الوثيقة التي نشرها هيكل: إن حافظ إسماعيل مستشار الرئيس السادات لشئون الأمن القومي، أرسل برقية يوم 2 من نوفمبر إلى وزير الخارجية إسماعيل فهمي الذي كان موجودا حينئذ في واشنطن، يلح فيها على مطالبة كيسنجر بأن يقدم ضمانا تتعهد فيه أمريكا بألا تقوم إسرائيل بأية عمليات عسكرية ضد القوات المصرية في الضفة الغربية من قناة السويس. وإن كيسنجر إمعانا في إذلال مصر، ورغبة منه في انتهاز هذا الموقف كتب خطابا لا يلزم أمريكا بشيء بل يمكن أن يعطيها ورقة تضغط بها على السادات للحصول منه على تنازلات في مقابل وعود - مجرد وعود لا توجد أي نية صادقة لتنفيذها- بأن تكبح جماح إسرائيل.
* تقول برقية إسماعيل فهمي إلى الرئيس السادات "بعد حوار طويل سلمني كيسنجر الضـمان المكتوب. وكان يود في أول الأمر عدم توقيعه بالحروف الأولى. ثم وقعه. وأضاف ضاحكا بأنه يرجو ألا ينشر الضمان في الأهرام. ويشير الضمان إلى انه اتصالا بأي اتفاق يتم بين مصر وإسرائيل بخصوص تنفيذ الفقرة الأولى من قرار مجلس الأمن رقم 338، تضمن الولايات المتحدة أنها ستفعل أقصى ما تقدر عليه لمنع عمليات عسكرية هجومية تقوم بها القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية ضد القوات المصرية أثناء وجود القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وكان الضمان مكتوبا بالآلة الكاتبة وعلى ورقة بيضاء (أي ليست الأوراق التي تحمل في أعلاها اسم وزارة الخارجية الأمريكية)، كما أن كيسنجر لم يوقعه بالحروف الأولى الكاملة وهي HAK هنري الفريد كيسنجر كمـا هو متـعارف عليه دبلوماسيا بل إنه وقعه بحـرفين هما H.K (هيكل/ أكتوبر 73/ وثيقة رقم 127/ ص 869).
ولعل الأخ الجمسي يقتنع- بعد أن يقرأ كل ذلك- أن اختراق العدو لمواقعنا لم يكن معركة تليفزيونية كما كـان يدعي السادات- وان قوات العدو غرب القناة لم تكن رهينة. بل إن الجيش الثـالث هو الذي كان رهينة في يد إسرائيل وفي يد كيسنجر. ولعل الجمسي يقتنع أيضا أن السادات كانت له سياسة ذات وجهين تجاه الثغرة كان يدعي أمام شعب مصر أنها معركة تليفزيونية. وانه كان في استطاعته تصفيتها. بل انه ذهب إلى ابعد من ذلك عندما قام بعملية تمثيلية في مجلس الشعب في الجلسة الخاصـة بتكريم قادة حرب أكتوبر في فبراير 74. فقد ادعى في تلك الجلسة أن الجيش الثالث لم يحاصر قط ولعل الأخ الجمسي يذكر الحوار الذي دار بين السادات وبين اللواء بدوي في جـلسة مجلس الشعب (تولى اللواء بدوي قيادة الجيش الثـالث في الحصار). وإلى من لم يشهد تفاصـيل هذه الجلسة من جيل الشباب على التليفزيون، فإني أذكر بعضا مما دار فيها من حوار:
السادات: الجيش الثالث كان محاصرا يا بدوي؟ .
بـدوي: لا يا أفندم.
السادات: الأكل كان بيوصلكم بانتظام يا بدوي.
بـدوي: ايوه يا أفندم.
كان الراديو والتليفزيون يذيعان هذا الحفل على الهواء. وكان السادات يعلم وهو يدير هذا الحوار بأنه يكذب على شعب مصر وكـان يعلم أن مليون ضابط وجندي في القوات المسلحة - وعن طريقهم يعلم شعب مصر بأكمله- يعلمون أن الجيش الثالث كان محاصراً اعتباراً من يوم 23/ 10 وانه بقي في الحصار أكثر من ثلاثة اشهر إلى أن تم التوصل إلى فك الحصار في إطار تسوية سلمية. كان هذا هو الوجه الذي يواجه به شعب مصر. أما الوجه الآخر الذي يواجه به أمريكا بخصوص هذه المشكلة فقد كـان شيئا آخر. بينه كان يعلـم أن قواتنا التي تحيط بالثغرة- كما يبدو من خطاب الضمان الذي يطلبـه من أمريكا- غير قادرة على فك حصار الجيش الثالث.
ونخلص من كل ذلك إلى أن اختراق العدو لمواقعنا في منطقة الدفرسوار لم يكن معركة تليفزيونية. بل إن الاحـتفال الذي أقامه السادات في مجلس الشـعب في فبراير 1974، كان هو المعركة التليفزيونية الحقيقية التي يعلم العالم اجمع بزيفها.
الشرق لن يتأثر
يقول الجمسي في تعليقه على اقتراح الشاذلي ليلة 20/21 أكتوبر بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب انه يترتب عليه اهتزاز دفاعات قواتنا في الشرق، الأمر الذي لا يمكن قبوله (الجمسي/ يوميات حرب أكتوبر/ ص 199). وهذا القول لا يستند إلى أي دليل. بل انه يتعارض مع كل ما نقوم بتدريسه لأبنائنا من الضباط والقادة في معاهدنا العسكرية.
لقد روعي عند وضع تنظيم الفرقة المشاة المصرية قبل حرب أكتوبر أن يكون لديها القدرة -وبدون أي دعم خارجي- على صد هجوم تقوم به فرقة مدرعة إسرائيلية تضم ثلاثة ألوية مدرعة قوامها 360 دبابة. فإذا علمنا انه سيبقى لدينا في الشرق بعد سحب هذه الألوية المدرعة 5 فرق مشاة وفي مواجهتها ثلاثة ألوية مدرعة إسرائيلية فقط. فكيف يستقيم القول بان سحب هذه الألوية المدرعة يمكن أن يؤدي إلى اهتزاز دفاعاتنا في الشرق. قد يقال أن فرق المشاة قد تحملت بعض الخسائر خلال الأسبوعين الماضيين وهذه حقيقة. ولكن يقابلها أيضا أن الألوية المدرعة الإسرائيلية هي الأخرى قد تحملت خسائر قد تكون نسبيا اكثر من الخسائر التي تحملتها قواتنا. وبالإضـافة إلى ذلك فإني أقول إلى الأخ الجسمي: كيف تخـشى على من هو أقوى ولا تخشى على من هو اضعف ألا تخشى على الموقف في الغرب بعد أن اصبح للعدو ثلاث فرق مدرعة تضم 6 ألوية مدرعة في مقابل فرقة مدرعة مصرية تضم لواءين مدرعين؟ وان هذه القوات المدرعة الإسرائيلية أصبحت تهدد بعزل قواتنا في الشرق؟.
وردا على من يقول أن العدو قد يلجا هو الآخر-إذا نحن سحبنا ألويتنا المدرعة من الغرب- إلى سحب ألويته المدرعة من الغرب إلى الشرق فيصبح له 9 ألوية مدرعة في الشرق وبذلك يزداد تهديده لقواتنا في الشرق. فإني أقول لهم: ليته يفعل ذلك. حيث أن ذلك يعني أننا نجحنا في تصفية الثغرة بالمناورة بالقوات وبدون قتال، وفي نفس الوقت فأن هذه الألوية المدرعة الإسرائيلية التسعة لا يمكن أن تشكل خطورة على 5 فرق مشاة تستطيع كل واحدة منها أن تصد 3 ألوية مدرعة إسرائيلية كما سبق أن أسلفت.
والذي يؤكد سلامة وقدرة فرق المشاة على التمسك بمواقعها وصد هجمات العدو المدرعة دونما حاجـة إلى تدعيمها بألوية مدرعة هو القرار الذي اتخذه أحمد اسماعيل بعد وقف إطلاق النار. فعلى الرغم من أن العدو قد دفع إلى الجبهة المصرية بأربعة ألوية مدرعة جديدة ليصبح أمام الجبهة المصرية 12 لواء مدرعا إسرائيليا (كان 6 ألوية مدرعة منها غرب القناة و 6 ألوية أخرى شرق القناة). إلا أن احمد اسماعيل لكي يوفر القوات اللازمة لتنفيذ الخطة "شامل" -التي كثر الحديث الإعلامي عنها- فإنه أمر بسحب جميع الألوية المدرعة من الشرق إلى الغرب وهو نفس ما كان يطالب به الشـاذلي يوم 20 من أكتوبر (الفرقة 21 مدرعة وبها ل1م، ل14م+ ل24م الذي كان تحت قيادة الفرقة المشاة الثانية)، ولم يكن من الممكن سحب اللواء المدرع الذي كان في الجيش الثالث بعد أن دخل الجيش الثالث بجميع قواته داخل الحصار اعتبارا من 24 من أكتوبر. ألا ترى يا أخ جمسي أن قرار سحب الألوية المدرعة من الشرق إلى الغرب لتوفير القوات اللازمة للخطة شامل، يعتبر اعترافا من احمد إسماعيل وممن يؤيده في هذا القرار بأن فرق المشاة التي في الشرق لديها القدرة على صد أي هجمات يقوم بها العدو؟ (انظر توزيع الألوية المدرعة الإسرائيلية في الملحق المرفق بهذا الفصل).
ولكن للأسف الشديد فإن قرار احمد اسماعيل جاء متأخرا حوالي أسبوعين عن التاريخ الذي اقترح فيه الشاذلي الأخذ بهذا القرار!!
حول مؤتمر القيادة يوم 20
يلومني بعض النقاد بأنني لم أتكلم خلال المؤتمر الذي عقد في المركز 10 مساء يوم 20 من أكتوبر. ولكي أوضح لهم وللقراء السبب في ذلك فإنه يتحتم علي أن اشرح لهم أسلوب إدارة المؤتمرات التي تعقدها القيادة العامة للقوات المسلحة لمناقشة الخطط العسكرية والتصديق عليها. فهذه المؤتمرات تعقد إما تحت رئاسة القائد العام للقوات المسلحة أو تحت رئاسة رئيس الجمهورية، ويحضرها رئيس الأركان ورئيس هيئه العمليات ومدير المخابرات الحربية وقادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحـة (القوات الجوية، القوات البحرية ، قوات الدفاع الجوي)، وقد يدعا إليها عدد اَخر من الرؤساء والقادة إذا دعت الضرورة إلى ذلك. ويقوم رئيس المؤتمر بطلب الكلمة من الحاضرين واحدا بعد الآخر حيث يتكلم كل منهم في تخصصه فقط ويكون أول المتكلمين هو مدير المخابرات حيث يتكلم عن آخر المعلومات عن العدو من حيث حجم قواته وأماكن تمركزها الخ.. ثم يصل في النهاية إلى استنتاج نواياه المستقبلية. ثم يتكلم بعد ذلك المشاركون في المؤتمر طبقا لما يشير إليه رئيس المؤتمر. ولا يجوز لأي من هؤلاء المشاركين أن يتحدث إلا في تخصصه فقط فعلى سبيل المثال لا يتكلم قائد القوات الجوية إلا فيما يتعلق بموقف القوات الجوية. ولا يتكلم قائد قوات الدفاع الجوي إلا فيما يتعلق بموقف قوات الدفاع الجـوي.. الخ. وبعد أن يستمع القائد العام إلى تقارير الرؤساء فإنه يطلب من رئيس الأركان التقدم بالخطة المقترحة… حيث إن رئيس الأركان هو الوحـيد الذي له الحق في تقديم الخطة المقترحـة على ضوء تقارير الموقف الذي تقدم به الرؤسـاء وبعد أن يدلي رئيس الأركـان بالخطة المقترحة يصـدر القائد العام أو رئيس الجمهورية- إذا كـان حاضرا- قراره ويكون إما "تصـدق" ويعني التصـديق على الخطة المقدمة من رئيس الأركان. وإما "تصدق فيما عدا كذا.." أو أنه يرفض الخطة المقترحة ويصدر قرارا جديدا. وبعد أن يصدر القرار فإنه يجب على الجميع أن يلتزموا بتنفيذه.
وحيـث أن هذا الأسلوب يحتـاج إلى كثير من الوقت فإنه وان كان ضروريا في وقت السلم وأثناء تحضير الخطط الحربية قبل اندلاع العمليات الحربيـة، إلا أننا لا نلتزم به أثناء الحرب، لما قد يسببه ذلك من تعطيل في اتخاذ القرارات وحيث أن رؤساء الأفرع الرئيسية يقومون بإخطار رئيس الأركان بالأحداث فور وقوعها فإن رئيس الأركان ليـس في حاجة إلى الدعوة لمثل هذا المؤتمر قبل أن يتقدم للقائد العام بالخطة المقترحة. وإن كان ذلك لا يمنع من القيام بالاستماع إلى واحد أو اثنين من هؤلاء الرؤساء عن طريق حـديث تليفوني أو عن طريق استدعائه للتشاور معه. والدليل على ذلك هو أن مؤتمر يوم 20 من أكتوبر هو المؤتمر الوحيد الذي عقد خلال فترة العمليات، وذلك على الرغم من عشـرات القرارات التي اتخذت قبل وبعد هذا التاريخ.
ولكي اذكّر النقـاد والقراء، اكرر أني أنا الذي طالبت باستـدعاء رئيس الجمهورية مساء يوم 20 ليفصل بيني وبين احـمد إسماعيل حول الخطة التي اقترحتها على احمد إسماعيل والتي كانت تقضي بضرورة سحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب حـتى نتمكن من القضاء على الثغرة. إذن فقد كانت هناك خطة اقترحها رئيس الأركـان ولم يوافق عليها القائد العام. ونظرا للخطورة التي كنت أتوقعها إذا لم تنفذ الخطة التي اقترحتها، فقد رأيت أن أمن مصر وسلامة القوات المسلحة هي اكبر من أن يتركا في يد القائد العام وحده. ولذلك طالبت باستدعاء رئيس الجمهورية لكي أضعه أمام مسئوليته التاريخية.
واذكّر القراء أيضا بان السادات بعد حضوره إلى المركز 10، انفرد مع احمد اسماعيل والمهندس أحمد عبد الله حوالي ساعة. ولاشك انه سمع خلال تلك السـاعة عن الخطة التي يقترحـها الشاذلي، حيث إنه حضـر خصيصا لذلك، ولاشك أنه ناقش أيضـا مع القائد العام الحلول البديلة لخطة الشاذلي. وأنه وصل في النهاية إلى قرار قبل أن يدخل غرفة العمليات.
وتؤكد ذلك تصرفات السادات التالية:
* فهو لم يطلب من الشاذلي أن يعرض خطته لأنه سمعها من احمد إسماعيل. وبالتالي فإنه لم يكن في حاجة إلى سماعها مرة ثانية.
* انه بعد انتهاء المؤتمر وعودته إلى قصر القاهرة ابلغ السيد حافظ اسماعيل بأنه اتخذ قرارا بطلب وقف إطلاق النار وطلب إبلاغ ذلك إلى كل من الاتحاد السوفيتي والرئيس حافظ الأسد، وقد أكد حافظ اسماعيل هذه الواقعة في كتابه الذي صدر في عام 1987 (محمد حافظ إسماعيل/ أمن مصر القومي في عصر التحديات/ ص 344). ويقول حافظ إسماعيل إن السادات قد أعطى مبررا لذلك انه لا يسـتطيع أن يحارب أمريكا. (المؤلف لم اعرف أن السادات طالب بوقف إطلاق النار بعد عودته مباشرة من المركز 10. إلا بعد أن توقف القتـال. وهذا يؤكد أنه أتخذ قرارا بطلب وقف اطلاق النار بعد التشاور مع أحـمد إسماعيل قبل أن يجتمع بنا في غرفة العمليات).
* إنه ذكـر في كتـابه البحث عن الذات أنه اتخـذ قراراً بعزلي من منصب رئيس الأركـان اعتبارا من يوم 19 من أكـتوبر (ومع أن الحـقيقة هي أني بقيت أمارس مسئولياتي كرئيس للأركان حـتى يوم 12 ديسمبر. ومع أن التاريخ الحقيقي للمؤتمر هو يوم 20. فإن المعنى الحـقيقي لما ورد على لسان السـادات هو أنه عزلني لأنه لم يوافق على الخطة التي اقترحتها. وهذا يؤكد أن السادات استمع إلى خطتي من احمد إسماعيل قبل حضوره غرفة العمليات يوم 20 من أكتوبر).
لقد طالبت باستدعاء السـادات إلى المركز 10 يوم 20 ليفصل في الخـلاف بيني وبين القائد العام. وقد استمع واتخذ القرار. وإذا كـان قد حاول بعد الحرب أن يبرر قراره بأنني طالبت بسحب كل قواتنا من الشرق، فهذه أكذوبة كبرى كتبها الجمسي في كتابه وسبق أن كتبها حسني مبارك ومحمد على فهمي في حديث لهما مع الصـحفي موسى صبري في أوائل عام 1974.
الحرب ضد أمريكا
"السادات بياع شاطر". فهو عندما يريد أن يخـفي خطأ ارتكبه أو عندمـا يريد أن يبرر قرارا لا يقبله المنطق. فإنه يلجأ إلى تغليف ذلك في سلسلـة من الأكاذيب. فإذا نحـن قرانا تصريحـاته وما نشره في كتابه البحث عن الذات، ثم قارنا ما جاء في هذا الكتاب مع ما جاء في كتب ومذكرات القادة التي نشرت بعد وفاته، فإننا نجد أن السادات ارتكب الكثير من الأكاذيب التي يظهر فيـه العمد واضحا. وسوف أورد بعضها قبل أن انتقل إلى مناقشة موضوع الحرب ضد أمريكا:
* ادعى أن السوفيت لم يعطونا السلاح والعتاد، وان مصر هي التي قامت بتصنيع الكباري التي عبرت عليها قواتنا المسلحة يوم 6من أكتوبر، وان الاتحاد السوفيتي لم يكن يطلعنا على المعلومات التي تلتقطها أقمارهم الصناعية عن إسرائيل. وكان السادات بهذه الأكاذيب يمهد الطريق للارتماء في أحضان أمريكا.
* ادعى أنني ذهبت إلى الجبهة يوم 16 من أكتوبر، وأنني عدت منها يوم 19 من أكتوبر، وأنني قد قضيت يوما كاملا في إنشاء قيادة أنافس بها غريمي أحمد اسماعيل، وقد أكد كل من الجمسي وعبد المنعم خليل أنني ذهبت إلى الجبهة مساء يوم 18 وعدت منها يوم 20 من أكتوبر. وأنني لم أنشي أي قيادة خاصة بي، بل كنت أمارس القيادة والسيطرة من قيادة الجيش الثاني. وكان السادات يهدف من جراء التلاعب بهذه التواريخ أن يلقي على الشاذلي تبعة عدم القضاء على الثغرة بحيث أن العدو يوم 16 كان يقدر بحوالي لواء مشاة وكتيبة دبابات، في حين انه كان قد اصبح مساء يوم 18 أي وقت وصول الشاذلي- فرقتين مدرعتين بهما 5 ألوية مدرعة ولواءان مشاة.
* ادعى أنني عدت منهاراً من الجبهة وأوصيت بسحب كل قواتنا من الشرق. ولكن الجمسي أكد أنني لم اكن منهاراً عند عودتي من الجـبهة وأنني فقط طالبت بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق حتى يمكن التصدي بها للعدو في منطقة الدفرسوار في الغرب. وكان السادات يرمي من وراء هذه الأكذوبة أن يبيع إلى الشعب قراره الخاطئ عن طلب وقف اطلاق النار وهو في موقف الضعف. فكأنه يريد أن يقول للشعب "الشاذلي يريد أن يسحب كل قواتنا، أما أنا السادات فإني نجحت من خلال اتفاقية فض الاشتباك في أن احتفظ بقوات في شرق القناة تقدر بحوالي 7000 ضابط وجندي".
* ادعى في كتابه (ص 349) بأنه عزلني من منصبي يوم 19 من أكتوبر في حين أنني بقيت في منصبي حتى 12 من ديسمبر 73. ويؤكد ذلك القرار الجمهوري الذي صدر بنقلي إلى وزارة الخارجية. وكان السادات يريد أن يربط بين قرار العزل والادعاء الباطل الذي إفتراه علي بأنني أطالب بسحب جميع قواتنا من الشرق.
* ادعى أن مؤتمر القيـادة عقد مساء يوم 19، وانه طلب في نفس الليلة السفير السـوفيتي ليبلغه بقراره الخاص بوقف اطلاق النار، في حين أن الحقيقة هي أن مؤتمر القيادة كان مساء يوم 20 واستمر حتى منتصف الليل، وبالتالي فإنه قراره بطلب وقف اطلاق النار كان في الساعات الأولى ليوم 21. وقد أكد ذلك حافظ إسماعيل في كتابه في الصفحة 345. كما أكد ذلك حسنين هيكل (هيكل/ أكتوبر 73/ ص 518). وقد لجأ السادات إلى التلاعب في هذه التواريخ حتى يتماشى ذلك مع كذبة أخرى قالها أثناء انعـقاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 21 من نوفمبر 73، والتي قـال فيها: إن ليلة 18/ 19 هي سبب كل المشكلات التي حـدثت ولو أننا عملنا بحسم وقوة خلال تلك الليلة لأمكننا القضاء على الثـغرة (راجع الفصل السابع والثـلاثين) وكان السادات يرمي من وراء هذه الكذبة تحميل مسئولية الثغرة على الشاذلي وقت أن كان في قيادة الجيش، وكان يتحتم على السـادات أن يربط بين هذه الكـذبة وبين تاريخ عودة الشـاذلي وتاريخ طلبـه وقف إطلاق النار.
* بعد التوقيع على اتفاقية فض الاشـتباك في 17/ 1/ 74، وبعد أن فك حصـار الجيش الثالث، دعا السادات مجلس الشعب للانعقاد ودعا إلى هذه الجلسـة العميد احـمد بدوي قائد الجيش الثالث الذي كان في الحصار واخذ يستنطقه أمام أعضاء المجلس بأن الجيش الثالث لم يكن محاصرا. بينما كان العالم اجمع والكثير من أبناء الشعب المصري يعلمون أن السادات كان يكذب في غير خجل أو حياء.
* لكي يقنعني بقبول منصب سفير مصر في لندن، اخبرني بان هناك اتفاقا سريا للحصول على أسلحـة من ألمانيا الغربية، وان منصـبي سفيرا في لندن هو فقط للتغطيـة. ولكن سأكون مسئولا عن الإشراف على هذا الموضوع. فقبلت على أساس إن خدمتي سفيرا ستكون امـتدادا لخدمتي في القوات المسلحة. ولكن بعد أن ذهبت إلى لندن اكتشفت أن القصة بأكملها كانت من خيال السادات.
* نعود بعد ذلك إلى الشعـار الذي رفعه السادات أنا غير مستـعد لأن أحارب أمريكا. إنه شعار قد يصادف هوى لدى الذين ينفرون من الجهاد إن العلاقة الخاصة التي تربط بين إسرائيل والولايات المتحدة هي علاقة وطيدة يعلمها العامة والخاصة منذ عشرات السنين. فأمريكا تمد إسرائيل بأحدث الأسلحة والمعدات. وتمدها بالتكنولوجيا الحديثة. وتقدم لها المساعدات الماليـة والتي يقدر المنظور منها- عسكريا واقتصـاديا- بحوالي 4000 مليون دولار سنويا. أما إذا أضيف إلى ذلك المساعدات والمكاسب غير المنظورة فإن الرقم يرتفع إلى حوالي 10000 مليون دولار سنويا!!! وبالإضافـة إلى ذلك فإن أمريكا تسمح لمن يرغب من اليهود الأمريكيين بان يحتفظ بالجنسية المزدوجـة الأمريكية والإسـرائيلية. وبالتالي فإن الكثير من اليهود الأمريكيين مدرجون في كشوفات الضـباط والجنود الاحتياطي في الجيش الإسرائيلي ويتم استدعاؤهم للخدمة في إسرائيل عندما تعلن إسرائيل التعبئة العامة. ولعل هذه المعلومات هي التي دفعت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى التقارب مع الاتحاد السوفيتي منذ حوالي 40 سنة لكي يخلق نوعا من التوازن بين التأييد الأمريكي لإسرائيل والتأييد السوفيتي لمصر.
* ولايمكن لمنصف أن يقلل من حجم ونوعية الأسلحة والمعدات الفنية الحـديثة التي قام الاتحاد السوفيتي بإمدادنا بها قبل وأثناء الحرب. وفيما عدا القوات الجوية، فقد كان لدينا قبل حرب أكتوبر أسلحة ومعدات لاتقل حجما ونوعية عما تملكه إسرائيل. وعندما اندلعت الحرب أقام الاتحاد السوفيتي جسرا جويا وبحريا نقل خلاله 78000 طن إلى مصر وسوريا، وأقامت أمريكا هي الأخرى جسراً جوياً وبحرياً نقلت خلاله 61105 أطنان إلى إسرائيل (راجع الفصل الرابع والعشرين).
* إن السادات يريد أن يقول أن الجسر الجوي الأمريكي هو السبب الرئيسي الذي دفعه إلى المطالبة بوقف اطلاق النار. وأني أقول هذه مغالطة فلولا تدخل السادات في إدارة العمليات واستجابة احمد اسماعيل لهذه التدخلات لما تأثر موقفنا بهذا الجسر الأمريكي، ولأصبح في استطاعتنا أن نطيل أمد الحرب إلى عدة اشهر أخرى وهو مالا تستطيع إسرائيل أن تتحمله. حيث كان هذا هو جوهر الخطة التي دخلنا بها الحرب.
* وتحت شعار لا أستطيع محاربة أمريكا دعا السادات إلى لقاء مصغر في قصر القاهرة مساء يوم 22 أكتوبر 73. وحضر هذا اللقاء: مساعدا الرئيس، نواب رئيس الوزراء، حافظ اسماعيل. وقال لهم: إن الإسرائيليين قد حققوا التفوق نتيجة تدفق الإمداد الأمريكي، وان استمرارنا في القتال سوف يترتب عليه تدمير قواتنا. وأننا لا نستطيع أن نحقق تحرير سيناء عسكريا. وإنه سوف يعمل على عدم تصعيد الموقف العسكري حاليا، بينما يستمر في استخدام البترول كسلاح ضغطه ورغم أن ذلك هو ابعد ما يكون عن الحقيقة، إلا أن أحد الحاضرين بلغ من اقتناعه بتلك الأكاذيب أن اقترح على الرئيس بأن يحاط صغار الضباط والجنود علما بان قيادتهم العسكرية هي التي طلبت وقف اطلاق النار. (حافظ اسماعيل/ أمن مصر القومي/ ص 348, 349). ورغم أن حافظ اسماعيل يستطرد فيقول: إن السادات لم يستجب لهذا الاقتراح. إلا أن الاتهامات الباطلة التي وجهها السادات إلى الشاذلي فيما بعد والتي اتهمه فيها بأنه طالب بسحب كل قواتنا من الشرق تؤكد أن اقتراح هذا الانتهازي الذي حضر هذا الاجتماع، قد صادف هوى لدى السادات. وكان هدف السـادات من كل ذلك هو التستر على الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها خلال تلك الحرب. وهذه هـي طبيعة السادات إنه يقول شيئا، ولكنه يفعل شيئا آخر. ولقد استطاع بهذا الأسلوب أن يخدع الكثير من الناس بما في ذلك اقرب المقربين إليه. وعندما تتضح أعماله الشريرة أمام ضحاياه الذين خـدعهم، يكون هو قد حقق مآربه، ولم يعد في حـاجة إلى إخفاء نواياه التي يقدم لها اكثر من مبرر... ثم يجد من بين بطانته من يدافع عن تلك التصرفات الشريرة.
الثغرة بعد وقف اطلاق النار
يقول السادات في الصفحة 355 من كتابه البحث عن الذات ما يلي:" في ديسمبر 1973 كنت مستعدا لتصفية جيب الثغرة. ولكن الخطر الذي كان أمامي كان تدخل أمريكا. ففي 11 من ديسمبر جاء كيسنجر وقلت له أنا مش مستعد أقبل الأسلوب اللي هم ماشيين به ده وأنا حصفي الثغرة. قال لي أنا قبل ما احضر إليك عارف إنك جاهز. أنا طلبت صورة الموقف من البنتاجـون فأعطوني تقريرا كاملا.. حائط صواريخك يتكون من كذا بطارية. دباباتك حول الثغرة 800 دبابة. مدافعك عددها كذا. وتستطيع فعلا أن تصفي الثغرة. ولكن اعلم أنك إذا فعلت هذا سيضربك البنتـاجون. سيضـربك البنتـاجون لسـبب واحد. وهو أن السـلاح الروسي قد انتصر على السـلاح الأمريكي مرة ولن يسمح له في الاستراتيجـية العـالمية بتاعتنا أن ينتصر للمرة الثانية"، ثم عاد السادات في الصفحة 389 فأضاف أن كيسنجر قال له " إن دبابات إسـرائيل داخل الثغرة 400 وأنت لديك 800 دبابة حـولها. ولديك صـاروخ ونصف الصاروخ تقـريبا لكل دبابة ، وأنت فعلا تستطيع أن تصـفي الثغرة بهذه القوات". ويستطرد السادات فيقول في نفس الصـفحة 389 إنه خلال مؤتمر جنيف الذي عقد في 21 من ديسمبر اتفق السادات و كيسنجر على فض الاشتباك في يناير 74. والذي يلفت نظري من كل ذلك ما يلي:
* إن السادات يريد أن يوهم الشعب العربي بان مصـر كانت قادرة على تصـفية الثـغرة. ولأنه يعلم انه كذاب اشر، فإنه يريد أن يبعث الثقة في نفس القارئ أو المستمع بزعم أن هذه الأرقام مصدرها الأقمار الصناعية الأمريكية. وحتى لو افترضنا جدلا صحة الرقمين اللذين ذكرهما السادات فهناك عشرات الأرقام الأخرى التي يجب علينا معرفتها قبل أن نقرر ما إذا كان لدينا القدرة على تصفية الثغرة أم لا.
* العقل والمنطق يقولان لو إن إسرائيل أو أمريكا تشك ولو بنسبـة واحد في الألف في أن السادات في نيته تصفية الثغرة عسكريا، لكان أسهل الإجراءات لديها هو أن تمنع مرور الإمدادات إلى الجيش الثالث وكـما قال الأخ أمين هويدي فهذه هي أول مرة نسمع فيها أن الفريسة هي التي بيدها السماح بمرور الأكل إلى الصياد.
* إن السـادات يعلم جيدا أنه لا يستطيع أن يبيع هذا الوهم إلى أمريكا أو حتى الاتحـاد السوفيتي. ولذلك فقد كـان هدفه من كل ذلك هو أن يبيع هذا الوهم إلى قادة القوات المسلحـة. آسف إلى بعض قادة القوات المسلحة. ولذلك فإننا نراه يزعم- كما يقول في صفحـة 357 -أنه عقد في يوم 24 من ديسـمبر مؤتمرا لمناقشة خطة تصفية الثغرة!! ويبدو أن الجمسي الذي كـان قد اصبح رئيسا للأركان اعتبارا من 13 من ديسمبر 73، كـان من بين من صدقوا ما يعلنه السـادات عن نيته تصفيـة الثغرة.. حيث انه (أي الجمسي) كما ذكر في صفحة 481 من مذكراته، لم يسـتطع أن يحبس دموعه عند التوقيع على اتفاقية فض الاشتباك في 17 من يناير 74.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو "ماذا كان يمكن أن يحدث لو وافق احمد اسماعيل والسادات على اقتراح الشاذلي بسحب الأربعة ألوية المدرعة ؟ الإجابة من وجهة نظري هي أنه من المؤكد أننا كنا سنكون قادرين خلال يومي 21 و 22 من أكتوبر على حصار الثغرة ومنع انتشـارها. ثم ندخل معه بعد ذلك في معارك تصادميـة اعتبارا من يوم 23 أكتوبر تمهيدا لتدميره بعد ذلك والذي يلفت النظر حقا انه بعد حوالي أسبوع من وقف إطلاق النار.وبعد أن كان العدو قد أتم حصار الجيش الثالث ومعه أحد الألوية المدرعة التي كان الشاذلي يريد سحبها، اصدر القائد العام أمرا بسحب الألوية المدرعة الثلاثة الباقية -التي كانت مع الجيش الثاني- من الشرق إلى الغرب ولكن التأخير في اتخاذ هذا القرار، وتنفيذه في ظل حصار الجيش الثالث ومدينة السويس وهما رهينتان غاليتان في يد العدو، كان يحد كثيرا من إمكان الاستفادة بها. ولعلنا نتعلم من ذلك درسا مهما وهو أهمية القرار المناسب في الوقت المناسب.
الفصل الحادي والأربعون: الأخطاء القيادية الجسيمة
* أطالب بإلغاء منصب القائد العام للقوات المسلحة. هذا المنصب الذي لا نجد له مثيلا إلا في دول العالم الثالث المتخلفة.
* لو أن السادات لم يرتكب أي جريمة في حق الوطن سوى أنه عين أحمد اسماعيل قائدا عاما للقوات المسلحـة وهو يعلم انه كان مريضا بالسرطان، لكان ذلك دليلا كافيا لإدانته بارتكاب جريمة الخيانة العظمى في حق الوطن.
* إن القائد الذي يخشى أن يسحب جزءا من قواته من القطاعات الغير مهددة للزج بها في القطاعات المهددة بحجة أن ذلك قد يؤثر على الروح المعنوية. هو قائد انهزامي ولن ينجح قط في تحقيق أي نصر في أي معركة.
* لقد عارض السادات واحمد إسماعيل اقتراح الشاذلي بسحب الفرقة الرابعة المدرعة واللواء 25 المدرع من الشرق إلى الغرب يوم 16، ولكنهما قاما بسحب الفرقة الرابعة المدرعة يوم 18. وعارضا اقتراح الشاذلي بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب يوم 20، ولكنهما قررا الأخذ بهذا الاقتراح يوم 28 أكتوبر. وفي الحالتين جـاء القرار متـأخرا ولم يحقق الهدف من هذه المناورات.
* لماذا لم تشكل لجنة قضائية عليا حتى الآن لتقصي الحقائق عن حرب أكتوبر، كـما حدث في إسرائيل، وكما يحدث في جميع الدول المتحضرة في أعقاب كل حرب؟.
* لماذا يخشى السادات قبول دعوة الشاذلي إلى مناظرة علنية كبديل مؤقت للجنة تقصي الحقائق؟
التستر على الخطأ جريمة
فكرت كثيرا قبل أن اختار عنوان هذا الفصل "الأخطاء القيادية الجسيمة". وكان العنوان الذي في رأسي أول الأمر هو "أخطاء أحمد اسماعيل والسادات" ، حيث انهما هما اللذان ارتكبا تلك الأخطاء دون غيرهما. غير أن المناقشات والتصريحات التي أدلى بها بعض القادة وبعض المحللين العسكريين بعد الحرب كان بعضها يؤيد هذه الأخطاء. وحيث أن تلك الأخطاء التي سوف اسردها تتعارض مع أصول العلم العسكري وما نقوم بتدريسـه لأبنائنا في الكليات والأكـاديميات العسكرية، فقد خشيت أن يقتنع بعض القادة الحاليين وبعض طلاب العلوم العسكرية بتلك الأخطاء فتكون مصيبة كبرى بالنسبة لمستقبل مصر والبلاد العربية.
ولذلك فقد اخترت العنوان الذي ذكرته ليكون في نفس الوقت ردا لكل من يؤيد تلك الأخطاء بالصمت أو بالكلمة.
عدم المحافظة على الغرض
المحافظة على الغرض مبدا أساسي من مبادئ الحرية بل أنها هي المبدأ المحوري الذي تتأثر به جميع مبادئ الحرب الأخرى. ولذلك فإن المهمة التي تخصص للقوات المسلحة يجب أن تكون واضحـة، وان تكون في حدود إمكـاناتها. وحيث أن الحرب هي امتداد للسياسة بوسيلة أخرى، فإن القيادة السياسية هي التي تخصص المهمة التي تكلف بها القوات المسلحة.
ولكن القيادة السياسية تلجأ عادة إلى مناقشة هذه المهمة مع القادة العسكريين قبل إصدارها حتى تضمن إمكان نجاح القوات المسلحة في تنفيذها. ومنذ اليوم الأول لميلاد أول خطة هجـوميـة "المآذن العالية" في شهر أغسطس 1971، كانت القيـادتان السيـاسيـة والعسكرية على قناعة بحقائق ثلاث: هي تفوق العدو الساحق في مجال القوات الجوية. تفوق العدو علينا في مجال الحرب البرقية خفيفة الحركة BLITZ KRIEG كنتيجـة حتمية لتفوقه في القوات الجوية وفي وسائل الاتصال المؤمنة في الجو والأرض.والثالثة و الأخيرة هي أن أمريكا تؤيد إسرائيل تأييدا مطلقا سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وفي ظل هذه الحقائق كـان يجب أن يكون الهدف متواضعا. حـتى أن الرئيس السادات كان يقول في مؤتمرات القادة قبل الحرب "أريد منكم أن تنجحوا في احتلال عشرة سنتيمترات على الضفة الشرقية وان تحتفظوا بها. وسوف يؤدي ذلك إلى تعديل كبير في موازين القوة سياسيا وعسكريا".
وفي ظل هذه الحقائق وضعت خطة المآذن العالية التي كان هدفها هو عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف واحتلال من 10-12 كيلومتراً شرق القناة وفي خلال الفترة من أغسطس 71 حتى أكـتوبر 73، زاد حجم ونوعية قواتنا المسلحة، ولكن كانت تقـابلها أيضا زيادة في حـجم ونوعية قوات العدو. وبالتالي فإن الحـقائق الثـلاث التي أدت إلى الخطة الهجومية بقيت كما هي، وبالتالي فإن الهدف المحدد للقوات المسلحة بقي كما هو. كان كل ذلك يتم شفويا بين القيادتين السياسية والعسكرية، ولكـن أحمد إسماعيل بطبيـعته الحذرة طلب من القيادة السياسية أن تحدد مهمة القوات المسلحة في وثيقة مكتوبة. فأصدر السادات في الأول من أكتوبر 73 توجيها إلى القائد العام يحدد له مهمة القوات المسلحة والتي كانت كما يلي "تحـدي نظرية الأمن الإسرائيلي، وذلك عن طريق عمل عسكري حسب إمكانات القوات المسلحة، يكون هدفه إلحاق اكبر قدر من الخسائر بالعدو، وإقناعه أن مواصلة احتلاله لأراضينا تفرض عليه ثمنا لا يستطيع دفعه. وبالتالي فإن نظريته في الأمن- على أساس التخويف النفسي والسياسي والعسكري- ليست درعا من الفولاذ يحـميه الآن أو في المستقبل".
وكـان هذا يتماشى تماما مع جوهر خطة "المآذن العـالية" التي تغير اسـمها ليصبح "جرانيت-2" ثم "بدر". وبحلول يوم 9 من أكتوبر عام 1973 كـانت القوات المسلحـة قد حققت المهمة التي كلفت بها. فقد نجحت في خلال 18 ساعة في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف. وفي خـلال ألـ 48 ساعة التاليـة كانت قد نجحت في صـد جميع الهجمات المضادة التي قـام بها العدو. واعتبـارا من يوم 10 من أكتوبر كـان العدو يقف يائسـا أمام قواتنا الصامدة. لقد كانت خطتنا تهدف إلى وضع العدو أمام خيارين، كلاهما مر بالنسبة له وكلاهما حلو بالنسبة لنا. كان الخيار الأول :هو أن يقوم بهجمات مضـادة على قواتنا، وقد اتبع هذا الخيار يومي 8 و 9 ولكنه فشل في تحقيق أي نجاح. واعتبارا من يوم 10 بدأ يلجأ إلى الخيـار الآخر وهو التوقف عن شن هجـمات مضادة قوية. كانت المبـادأة بأيدينا، وكان العدو يتصرف كما نريد له أن يتصرف طبقا للخطة.
ولو أن القائد الـعام تمسك بمبدأ المحـافظة على الغرض لكان في إمكاننا أن نبقى في هذا الوضع عدة اشهر، بينما لا يستطيع العدو أن يتحمل هذا الوضع بضعة أسابيع، فلم يكن من الصـواب إذن أن ننسى تفوق العدو علينا في القوات الجـوية وفي أسلوب الحـرب البرقية (الحقيقتان الأولى والثانية) وان ندفع بقواتنا في عمق سينـاء ولم يكن من المقبول أن يبرر السادات أخطائه بالقول "إني لا أستطيع أن أحارب أمريكا" . فقد كنا نعلم مسبقا أن أمريكا سوف تؤيد إسرائيل سياسيا وعسكريا كما فعلت في الحروب السابقة (الحقيقة الثالثة). ولو أننا التزمنا بمبدأ المحافظة على الغرض لما استطاعت إسرائيل أن تزحزحنا عن مواقعنا شرق القناة مهما تحصل على مساعدات أمريكية.
عدم المناورة بالقوات
المناورة بالقوات أيضا مبدأ مهم من مبادئ الحرب فلو افترضنا وقوع اصطدام بين جيشين متساويين في الحجم وفي المعدات وفي النوعية وفي الروح المعنوية وفي كل شيء آخر. فإن الغلبة ستكون للجيش الذي يطبق قائدة مبدأ المناورة بالقوات. تماما كما يحدث بين لاعبي الشطرنـج اللذين يبدآن المباراة بقطع متساوية في العدد والنوعية والمواصفات. ومع ذلك فإن النصر يكون دائما لمن يحسن تحريك قطعه ونقلها من مكان إلى مكان. فيخلق بذلك لنفسه حشدا متفوقا في الاتجاه الذي يهاجم فيه إذا كـان يشن هجوما. وإذا كان اللاعب في الدفاع فعليه إن يسـتقرئ نوايا خصمه وان يسرع بتحريك قطعه إلى الأماكن المهددة حتى يكون على أهبة الاستعداد لإفشال هجوم خصمه.
ومادمنا نقوم بتعليم أبنائنا في معاهدنا العسكرية، أن تطبيق مبدأ المناورة بالقوات هو مفتـاح النصـر في كل الحـروب على المستوى الاستراتيجي، وفي كل المـعارك الكبرى والصغرى على المستويين التعبوي والتكتيكي. فلكي تكون هناك مصداقية لما نقوله لهم، فإنه يجب علينا أن نعترف بان القائد العام للقوات المسلحة في حرب أكتوبر لم يطبق هذا المبدأ فحسب، بل إنه كان أيضا يرفض النصائح التي كـانت تقترح عليه ضرورة المناورة بالقوات. كان أحيانا يبدي تخوفا شديدا من تأثير سـحب قوات من قطاع ما على أمن وسـلامة هذا القطاع. وكان أحيانا يبدي تخوفه من أن يؤثر هذا السحب على الروح المعنوية للجند وكان أحـيانا يقول: إن الموقف العسكري العام لا يستدعي ضـرورة القيـام بهذا الإجـراء. وفي الحالات النادرة التي استجاب فيها إلى تلك النصائح فإنه كان يقوم بها بعد تردد كبير، وبعد مضي بضعة أيام تكون فيها تلك المناورة قد أصبحت عديمة القيمة. وأن واجبي الوطني يحتم على أن أوضح لأبنائنا وأحفادنا من قادة المستقبل، ما سببته لنا مواقف احمد إسماعيل المتخاذلة من مصائب مازلنا نقاسي منها حتى يومنا هذا.
- إن عدم المناورة بالقوات هو الذي أدى إلى ثغرة الدفرسوار. إن عدم المناورة بالقوات هو الذي سمح لثغرة الدفرسوار أن تتسع. إن عدم المناورة بالقوات هو الذي أدى إلى حصار الجيش الثـالث ومدينة السويس. وأن تطبيق العدو لمبدأ المناورة بالقوات، وإحجامنا عن تطبيقه، هو الذي أدى إلى أن يحقق العدو كل هذا النجاح، رغم أن قواتنا البـرية بالجبهة كانت تتفوق في الحـجم ولا تقل في النوعيـة عن القوات الإسرائيلية التي في مواجهتها. وسوف أذكر فيـما يلي تلك السلوكيات الخاطئـة التي ارتكبها أحمد إسمـاعيل... والتي أدعو قادة المستقبل إلى ضرورة تفاديها.
الحذر الشديد
كان الحـذر الشديد يدفع أحمد إسماعيل إلى زيادة حجم القوات المكلفة بالدفاع بشكل يفوق كثيرا متطلبات الدفاع، وعلى سبيل المثـال فإن الخطة الهجومية الأصلية "المآذن العالية" لم تكن تتضمن تدعيم فرق المشاة الخمس المكلفـة بالهجوم بأية ألوية مدرعة. حيث إن فرقة المشاة بما لديها من أسلحة عضوية قادرة على صد فرقة مدرعة إسرائيلية تضم ثلاثة ألوية مدرعة. وكان في تقديراتنا أن أقصى ما يمكن للعدو أن يدفعه في اتجاه الجبهة المصرية هو 8 ألوية مدرعة و 4 ألوية من المشاة الميكانيكية. وبالتالي فإنه لن يستطع تدمير قواتنا التي تعبر إلى الشرق والتي كـان قوامها 5 فرق مشاة. إن أقصى مـا يستطيع العدو أن يفعله هو أن يركز هجومه على فرقة واحدة أو اثنتين. وقد ينجح في تدمير إحدى الفرق ولكن بعد أن يكون قد فقد نصف مدرعاته وبالتالي يفقد القدرة على متابعة الهجوم، ويهيئ لنا الظروف للقيام بهجوم مضاد نستعيد به الموقف. ومع كل ذلك فقد أمر أحمد اسماعيل بتدعيم كل فرقة مشاة بلواء مدرع. وهكذا قمنا بتخـصيص 5 ألوية مدرعة للفرق المشـاة، وكان ذلك بالتأكيد على حساب الاحتياطات التعبوية والاستراتيجية التي كان يتحتم علينا الاحتفاظ بها غرب القناة. كما انه كان يتعارض مع الأسلوب الأمثل في استخدام القوات المدرعة، والذي يحذر من تفتيت القوات المدرعة، ويدعو إلى استخدامها في حشود كبيرة في المكان والوقت المناسب لحسم المعركة.
وقد كان من الممكن إصلاح هذا الخطأ المؤقت لو أننا قمنا بسحب هذه الألوية المدرعة من الشرق واعدناها إلى وحداتها الأصلية المكلفة بواجبات الاحتياطات التعبوية والاستراتيجية. وقد كـان من الممكن تحقيق ذلك اعتبارا من يوم 10 أكتوبر بعد أن تحطمت هجمات العدو المضادة يومي 8 و 9 أكتوبر. ولكن الحذر الزائد من جانب احمـد إسماعيل دفـعه إلى الإبقاء على هذه الألوية مع الفرق المشاة بل انه عندما اتخذ يوم 12 قرارا بالتطوير-رغم المعارضة الشـديدة من جـانب رئيس الأركان وقـائدي الجـيشين الثاني والثـالث- فإنه دفع بلواءين مدرعين إضافيين ولواء مشاة ميكانيكي إلى الشرق. ومرة أخرى كان من الممكن إصلاح هذا الخطأ بعد أن فشلت عملية التطوير يوم 14، وذلك بإعادة الفرقتين المدرعتين الرابعـة والحادية والعشرين إلى مواقعهما الأصلية إلى الغرب. ولكنه رفض ذلك أيضا.
عدم القدرة على التنبؤ
إن تقدير قدرات العدو هو العامل الأول في تقدير الموقف الذي يقوم به كل قائد قبل أن يتخذ قرارا سواء كان هذا القائد يقود فصـيلة أم كان يقود جيشا أم مـا هو أكثر من ذلك. ولكن بالنسبة للقادة الأصاغر فإن الفاصل الزمني بين تقدير الموقف وبين تنفيذ القرار يكاد يكون معـدوما. وبالتـالي فإن تقدير قدرات العدو خلال فترة تقدير الموقف لا تختلف عن قدراته أثناء تنفيذ القرار. ولكن الأمر يختلف كثيرا بالنسـبة للمستويات الأعلى. حيث إن الفاصل بين الوقت الذي يتخذ فيه قائد الجيش أو القائد العام للقوات المسلحة قراره وبين الوقت الذي يتم فيـه تنفيذ القرار قد يمتد إلى 24 ساعة، بل قد يمتد إلى بضـعة أيام. وفي خلال هذه الفترة سوف يتغير حتما حجم وأوضاع العدو عما كانت عليه وقت تقدير الموقف. وبالتالي فإن قادة التشكيلات الكبرى يجب أن تكون تقديرهم لقدرات العدو على أساس ما سوف تكون عليه
وقت تنفيذ قراراتهم وليس على أساس ما كان عليه العدو عند اتخاذهم القرار. وهذا يتطلب من قادة التشكيلات الكبرى أن يكون لهم القدرة على التنبؤ واستقراء نوايا العدو المستقبلية لبضعة أيام قبل حدوثها.
وللأسف الشديد فإن احمد إسماعيل لم تكن لديه القدرة على استقراء نوايا العدو. لقد اخترق العدو مواقع الجيش الثاني في منطقة الدفرسوار ليلـة 15/ 16 أكتوبر وبدأت قواته صباح يوم 16 تغير على مواقع كتائب الصواريخ المضادة سام-2، سـام-3 غرب القناة بمجموعات من الدبابات تقدر بحوالي 7 دبابات في كل إغارة وعندما ظهر لي أن قيادة الجيش غير قادرة على استعادة الموقف اقترحت في منتصف نهار يوم 16 أن نسحب الفرقة الرابعة المدرعة (كان للفرقة الرابعة لواء مدرع ولواء مشاة ميكانيكي في شرق القناة، بينما كان لها لواء مدرع في غرب القناة) واللواء 25 مدرع مستقل من الجيش الثالث إلى غرب القناة. ثم تكليف الفرقة الرابعة المدرعة بالكامل بعد تدعيمها باللواء 25 بتوجيه ضربة قوية لتصفية العدو في منطقة الدفرسوار في أول ضوء يوم 17. واعترض احمد إسماعيل على هذه الخطة قائلا: لماذا كـل هذه القوات ضد 7 دبابات وعبثا حاولت إقناعه أن قيـام العدو بالإغارة على كتائب الصواريخ بقوة 7 دبابات في كل مرة لا تعني أن كل ما يملكه من دبابات غرب القناة هو 7 دبابات؟. ثم إنه بحلول فجـر يوم 17 قد يصل حجم هذه الدبابات إلى لواء مدرع أو لواءين!. وكانت الخطة البديلة التي أمر بتنفيذها هي توجيه ضربة من الشرق يقوم بها اللواء 25 مدرع. تلك الخطة التي أدت إلى تدمير اللواء 25 مدرع (راجع الفصل 33).
التأثير المعنوي على الجنود
كان احـمد إسـماعيل يخـشى أن يؤثر سحب قوات من الشرق إلى الغرب على الروح المعنوية للقوات، وان هذا السحب قد يتـحول إلى ذعر تصعب السـيطرة عليه. وكـان ذلك انعكاسا للعقدة النفسية التي كـانت تسيطر عليه منذ هزيمة 1967. تلك العقدة التي جعلته يخلط خلطا مشينا بين انسحاب عام 67 وبين المناورة المقترحة بالقوات عام 73. فقد كانت قواتنا عام 67 تنسـحب تحت ضغط من قوات العدو البرية والجوية، وبدون أي دفاع جوي من جانبنا، وبدون أي سيطرة من القيادة العامـة للقوات المسلحة. أما المناورة بـالقوات عام 73، فقد كانت تقوم بها قوات ليست على اتصال بالعدو. وكـانت تتم تحت ستر 5 فرق مشـاه وتحت مظلة دفاعنا الجوي، وفي إطار خطة محكمة تحت سيطرة القيادة العـامة. وبالتالي فان تحرك هذه القوات كان اقرب إلى أن يكون تحركا إداريا اكثر منه إلى تحركات العمليات. وبالإضافة إلى ذلك فإن انتصارنا في اقتحام القناة قد فجر في الضباط والجنود طاقات معنوية هائلة. إن إحـجام وتردد احمد إسماعيل في المناورة بالقوات هو خطأ لايمكن قبوله تحت أي عذر من الأعذار، وإن الادعاء بأن المناورة بـالقوات ما بين شرق القناة وغربها يمكن أن تؤثر على الروح المعنوية هو ادعاء باطل وانهزامي، ومن يؤمن بهذا الادعاء فإنه لن ينجح في تحقيق الانتصار في أي حرب.
عدم اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب
كان تردد احمد إسماعيل في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب هو أسوأ صفات أحمد إسماعيل. ورغم كل ما يقدمه من مبررات، فإن ذلك يرجع أساسا إلى سببين رئيسيين الأول هو العقدة النفسية التي ترسخت في أعماقه نتيجة هزيمة 67 ونتيجة قيام عبد الناصر بإعفائه من منصبه مرتين، مما جعله يخشى المسؤولية ويتردد في اتخـاذ القرارات الجريئة. أما السبب الآخر فهو كونه كان يقود معارك على الخرائط فقط، ولم يزر الجبهة قط إلا بعد وقف إطلاق النار ببضعة أسابيع، وبعد أن أصبحت مزارا لكل الناس بما في ذلك طلبـة المدارس. وإن عدم اتصـاله بالضباط والجنود لم يسمح له بأن يلمس ما أحدثه نجاحنا في عبور قناة السويس في رفع روحهم المعنوية، وفي استعادة ثقتهم بقادتهم الذين رسموا لهم الخطط وهيئوا لهم الظروف التي مكنتهم من تحـقيق هذا النصـر. وبالتالي فإن الصـورة الكئيبة التي شاهدها عام 1967 بقيت مترسخة في أعماقه ووجدانه. فـأصبح يخلط بين المناورة بالقوات وبين الانسحاب . و بمعنى آخر يخشى أن يتطور انتقال أي قوات من الشرق إلى الغرب بهدف القتال أو تشكيل احتياطي إلى انسحاب مذعور تصعب السـيطرة عليه. وعندما يتشجـع ويتخذ القرار في النهاية يكون الوقت قد فات. وفيما يلي أمثلة على القرارات التي لم تتخذ في الوقت المناسب:
1- عدم سـحب الألوية المدرعة من الفرق المشـاة بعد نجاح العبور ونجاح قواتنا في صد جميع هجمات العدو المضادة يومي 8 و 9 من أكتوبر.
2- عدم سحب الفرقة الرابعة المدرعة والفرقة 21 المدرعة إلى الغرب بعـد فشل عملية التطوير يوم 14 من أكتوبر.
3- عدم سحب الفرقة الرابعة المدرعة واللواء 25 مدرع يوم 16 بهدف تصفية الثغرة من الغرب. ولكنه عاد فسحب الفرقة المدرعة يوم 18، ولكن انسحابها جاء متأخراً 48 ساعة زاد خلالها انتشار العدو في الغرب واصبح الأمر يحتاج إلى سحب أعداد أكبر من الألوية المدرعة.
4- عدم سحب الألوية المدرعة التي طالب الشاذلي بسحبها يوم 20 (الفرقة 21 مدرعة وبها لواءين مدرعين+ اللواء 24 مدرع الذي كان ضمن تجميع الفرقة الثانية المشاة+ اللواء المدرع الذي كان ضمن تجميع الجيش الثـالث). وقد أدى هذا التردد إلى حصار الجيش الثالث ومدينة السويس. وبعد أن توقف القتال في 28 من أكتوبر ببضعة أيام أصدر أحمد إسماعيل أمرا بسـحب جميـع الألوية المدرعة من الشرق إلى الغرب. ولكن هذا القرار الذي جاء متأخرا مدة أسبوعين عن التاريخ الذي طالب فيه الشاذلي بسحب هذه الألوية افقدها الكثير من فعالياتها وتأثيرها على سير المعارك.
إغفال تشكيل احتياطيات جديدة
يتحتم على كل قائد أن يحتفظ باحتياطي من القوات والنيران حتى يمكنه أن يواجه به أي تصرفات غير محتملة (راجع الفصل 33). وإذا ما دعت الضرورة إلى إقحام الاحتياطيات أو جزء منها في المعركة، فإنه يجب تشكيل احتياطيات جديدة لكي تحل محلها. وحيث إنه ليس من المتيسر على مستوى القيادة العامة للقوات المسلحة تشكيل وحدات جديدة لكي تحل مكان الوحدات التي كانت تشكل الاحتياطيات التعبوية والاستراتيجية. فإن التغلب على ذلك يمكن أن يتم بالمناورة بالقوات. تماما كـما يفعل لاعب الشطرنـج الذي يبدأ بعدد محدد من القطع ولا يسمح له بزيادتها إلى أن تنتهي المباراة.
وطبـقا للخطة الأصلية "المآذن العـالية" فقد كـنا نحتفظ في الاحتيـاطات التـعبوية والاستراتيـجية بقوات كبيرة قوامها فرقتـان مدرعتان وثلاث فرق مشـاة ميكانيكية وثلاثة ألوية مدرعة مستقلة (إجمالي الألوية المدرعة عشرة: اثنان في كل فرقة مدرعة وواحد في كل فرقة مشاة ميكانيكية، ولواءان مستقلان. لواء الحرس الجمهوري). ولكن الحذر الزائد من احمد إسماعيل اضطرنا إلى تخصـيص 5 ألوية مدرعة لتدعيم فرق المشاة. وقد كان مفروضا إعادة هذه الألوية إلى الاحتياط بعد أن نجـحت فرق المشاة في تثبيت مواقعها شرق القناة ولكن ذلك لم يحـدث. بل إن أحمد إسماعيل لجأ إلى زيادة تفتيت الاحتياطات كما سبق أن أوضحنا في الفصول السابقة حتى تأزم الموقف تماما. وفي يوم 20 من أكتوبر كانت الفرصة الوحيدة لإنقاذ الموقف هي سحب الألوية المدرعة الأربعة التي كانت في الشرق لكي نواجه بها الموقف المتأزم في الغرب ومع ذلك فإن احمد إسماعيل عارض هذا الاقتراح وانه لمن المؤسف حقا أن هناك بعضا من القادة يؤيدون اليوم هذا التصرف المعيب.
وإني أقولها صـراحة: إذا لم نوضـح لأبنائنا من طلبة الأكـاديميـات العسكرية أن عدم المناورة بالقوات، وتفتيت الاحتياطيات، وعدم تشكيل احتياطيات جديدة بدلا من تلك التي يتم إقحامها كانت جميعها من الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها أحمد إسماعيل خلال حرب أكتوبر 73. فأبشروا بجيل جديد من القادة سيجلبون على مصر هزائم تتضاءل بجانبها هزيمة عام 001967 اللهم قد بلغت.
التدخل السياسي في القرارات العسكرية
ليس هنالك خلاف حول حتمية تبعية القيادة العسكرية للقيادة السياسية، حيث إن الحرب كما قـال كلاوزوفيتز هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى. ولكن الخـلاف يدور حول حدود ومدى هذه التبعية. وتتساوى في ذلك جميع الأنظمة السياسية سواء كـانت ديمقراطية أم دكتاتورية أم شمولية، وإن اخـتلفت الأسباب التي تراها الأنظمة لفرض هذه التبعيـة. ففي الدول الديمقراطية تكون القيـادة السيـاسية منتخبة بواسطة الشعب، وبالتالي فهي تمثل الشعب وتعمل على تحقيق أهدافه. في حين أن القيادة العسكرية غير منتخبة وبالتالي يجب إخضاعها لإشـراف القيادة السياسية المنتخبة. وقد ذهبت بعض الدول الديمقراطية إلى أبعد من ذلك عند تعيين رؤوس القمة العسكرية.
ففي الولايات المتحدة يختـار الرئيس الأمريكي رئيس الأركـان، ولكن هذا الاختيـار لا يكتمل إلا بعد عرض هذا الاسم على الكونجـرس وإقراره. وقد يلجا الكونجرس إلى دعوة الشخص المرشح لهذا المنصب لمناقشته والحوار معه عدة جلسات قـبل أن يوافق على تعيينه أو رفضه، فإذا رفض الكونجرس هذا التعيين فإنه يتحتم على الرئيس ترشيح شخص آخر يحظى بموافقة الكونجرس.
أما في الأنظمة الدكتاتورية والشمولية، فالأمر يختلف. فالقيادة السياسية فيها هي قيادة مغتصبة، والمغتصب يريد دائما أن يحافظ ويدافع عمـا اغتصبه ضد أي غاصب محتمل آخر، أو ضد أي انتفاضة شعبية ضد نظامه. وحيث إن القوة العسكرية هي الوسيلة الأمضى لقمع أي انتفاضة شعبية ضد الحكم، وهي في الوقت نفسه تعتبر المرشح الأول لاغتصاب السلطة من مغتصبيها. فإنه من الضروري للحاكم أن يسيطر سيطرة كـاملة على القوات المسلحة، وبذلك يمكنه استـخدامها في قمـع أي انتفاضة شعـبية، ويضمن في الوقت نفسه الا تنقلب عليه. كانت الأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفيتي- قبل ان تتحول إلى أنظمة ديمقراطية في أوائل التسعينيات- تلجا إلى السيطرة على القوات المسلحة عن طريق تسييسها بصفة عامة، وعن طريق تسييس القادة بصفة خاصة. فقد كان غالبيـة القادة الكبار أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وكان وزير الدفاع دائما هو عضو في المكتب السياسي. ونتيجة لذلك فقد كان هناك فصل بين اختصاصات القيادة السياسية ممثلة في المكتب السياسي للحزب الشيوعي ، وبين القيادة العسكريـة التي يرأسها رئيس أركان حرب القوات المسلحة والذي هو في نفس الوقت عضو في اللجنة المركزية.
ونتيـجة لذلك فإن منصب رئيس الأركان كـان قمة الهرم العسكري سواء في الأنظمة الديمقراطيـة الغربية ام في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشـرقية ذات النظم الشمولية. وكان وزير الدفاع في كل من الكتلتين- سواء كان رجلا مدنيا أم عسكريا- هو حلقة الوصل بين القيادتـين السياسية والعسكرية. وبالتالي فلم تكن هناك حاجـة لدى تلك الأنظمة- رغم اختلاف طبيعتها- إلى أن تخلق وظيفة نصفها عسكري ونصفها سياسي كما فعلت الغالبية العظمى من دول العالم الثالث.
لقد ابتكرت الأنظمة في دول العالم الثالث- وغالبيتها أنظمة غير ديمقراطية- نظاما فريدا يميزها عما هو مـتبع في الدول الديمقراطيـة ودول الكتلة الشـيوعيـة قـبل تحولها إلى الديمقراطيـة.. وذلك بخلق وظيفة جـديدة تسمى القائد العام للقوات المسلحة. وهناك أربعة نماذج لهذه الوظيفة: النموذج الأول هو إسناد هذه الوظيفة إلى وزير الدفاع فـيصبح لقـبه وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحـة. النموذج الثاني هو أن يحتفظ رئيس الدولة بلقب القائد العام ويصبح وزير الدفاع هو نائب القائـد العام. النموذج الثالث هو أن يحتفظ رئيس الدولة بمنصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، ويلغي منصب رئيـس الأركان، ويستبدله بمنصب ذي صلاحـيات محـدودة يسمى أمين عام وزارة الدفـاع. النموذج الرابع والأخـيـر يلغى فيه منصب وزير الدفاع ومـنصب رئيس الأركـان، ويمارس رئيس الدولة سلطات هذين المنصبين من خلال أحد مديري مكتبه. وهذه النمـاذج الأربعة وإن اختلفت في الشكل، إلا أنها تتفق في المضمون والهدف، وهو تمكين رئيس الدولة من ممارسة أكـبر قدر من السيطرة على القوات المسلحة. ومصر هي إحدى دول المجموعة التي تتبع النموذج الأول. هناك إجماع في الرأي علـى ان القيادة السياسـية هي التي تحدد مهمة القوات المسلحة.
ولكن جرت العادة على أن يتم التشاور بين القيادتين السياسية والعسكرية قبل تخصيص المهمة حتى تكون المهمة التي تكلف بها القوات المسلحة في حدود إمكاناتها. أما بعد تخصيص المهمة فإن القيادة السياسية يجب ألا تتدخل في أسلوب القيادة العسكرية في التنفيذ. وإن كان هذا لا يمنع عقد لقاءات مشتركة بين القيادتين لتبادل الرأي إذا دعت الضرورة إلى ذلك. وحـتى يلم كل طرف بإمكانات وحـدود الطرف الآخـر. يحـدث هذا في كل من دول الكتلة الغربية بزعامة أمريكا ودول الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق، حيث بالنسبة لمصر ودول العالم الثالث، فالأمر يختلف. حيث أن جمع وظيفة وزير الحـربية- وهو عضو في القيادة السياسية- ووظيفة القائد العام للقوات المسلحة في شخـص واحد، يعني أن نصف هذا الشخص سياسي والنصف الآخر عسكري. فهو إذا تحدث في موضوع معين مع رئيس الأركان حول أسلوب تنفيذ المهمة بصفته وزير الحربية، فإن رئيس الأركان يستطيع أن يرفض ذلك. أما إذا تحـدث معه بصفته القائد العام للقوات المسلحة فإن رئيس الأركان يصبح ملزما بتنفيذ أوامرها وأقصى ما يمكن لرئيس الأركان عمله، هو أن يبين لـه العيوب والمشاكل والمخاطر التي سوف تترتب على تنفيذ هذا الأمر، فإن أصر القائد على التنفيذ فانه يجب على رئيس الأركـان أن ينفذ أوامر القائد وبنفس الحماس الذي عارض به الأمر قبل إقراره بصفة نهائية . حـيث إن تقاليد القوات المسلحة وسلامة وأمن أفرادها لا تسمح لأي قائد أو ضابط مرؤوس أن ينفذ من أوامر قائد ما يعجبه ويستبعد منها مالا يعجبه. وفي ظل هذا التنظيم وهذه المفاهيم شاءت المقادير أن يكون الفريق أول أحمد إسماعيل هو القائد العام للقوات المسلحـة ووزير الحربية، وكان الفريق سعد الدين الشاذلي هو رئيـس أركان حرب القوات المسلحة، إبان حرب أكتوبر 73. (راجع الفصل التاسع والعشرين).
ولاداعي لأن أكرر هنا ما سبق أن ذكرته في الفصول المسابقة عن الخـلافات التي وقعت بيني وبين أحمد إسماعيل خلال فترة إدارة العمليات الحربية. فقد عارضت الكثير من قراراته قبل أن يتقرر إرسالها إلى القادة المرؤوسين ولكن الموقف كان يحسم في النهاية بضرورة الالتزام بما يأمر به بصـفته القائد العام للقوات المسلحة. حدث هذا بالنسبة لقرار التطوير، وبالنسبة لموقفه من مطالبتي بضرورة المناورة بالقوات وبالنسبـة لأسلوبه في التعامل مع الثغـرة، وبالنسبة لموقفه يوم 20 من أكتوبر من اقتراحـي بسحب أربعة ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب. ثم كان يوم 25 من أكتوبر عندمـا تمردت على أوامره ورفضت توقيع الأمر الذي يتعلق بدفع الفرقة الرابعة المدرعة لفك حصار الجـيش، حيث إني كنت على قناعة تامة بان توقيعي على هذا الأمر يعني أنني اشترك في مؤامرة سوف تؤدي إلى تدمير هذه الفرقة (راجع الفصل الخامس والثلاثين).
ومن أجل مصر.. ومن أجل سلامة القوات المسلحة فإني أطالب بضرورة إلغاء منصب القائد العام للقوات المسلحة. هذا المنصب الذي لا نجد له مثيلا إلا في أنظمة دول العالم الثالث المتخلفة.. التي تضع سـلامة النظام وسلامة الحاكم قبل سلامة أمن البلاد. وبان نتبع في مصـر نفس الأسلوب الذي تتبعه الدول الديمقراطية. وهو أن تكون وظيفة وزير الحـربية وظيفة سياسية فقط فهو كعضو في القيادة السياسية يسـاهم في تخصيص مهمة القوات المسلحة في الحرب والسلم ولكنه لا يتدخل في أسلوب تنفيذ تلك المهام. فلو أن وظيفة أحمد إسماعيل خـلال حرب أكتوبر كانت هي وزير الحربيـة فقط، لكان في إمكاننا تحقيق انتصارات تفوق كثيرا ما حققنـاه وهو يجمع بين وظيفتي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة.
أحمد اسماعيل لاعب أم دمية؟!
أعتقد أن أحمد اسماعيل كان اقرب إلى أن يكون دمية في يد السادات من أن يكون شريكا معه في اتخـاذ تلك القرارات المهمة. فعلـى الرغم من أن التوجيه الاستراتيجي الذي أصدره السادات إلى أحمد إسماعيل ينص على أن تقوم القوات المسلحة بعمل عسكري يكون في حـدود إمكاناتها، إلا أننا نجـد أن السـادات كلف القوات المسلحة بعمل يخـرج عن حدود إمكاناتها عندما اتخذ قراراً يوم 12 من أكتوبر بتطوير الهجوم. وقد استجاب أحمد إسماعيل لهذا التكليف رغم علمه بأن العدو يتفوق علينا تفوقا ساحقا في مجـال القوات الجوية، وأن هذا الهجوم محكوم عليه بالفشل قبل أن يبدأ ومما يؤكد سيطرة السادات الكاملة على أحمد إسماعيل، ذلك التصريح الذي أطلقه السادات في أحد خطبه عام 1977 والذي قال فيه إنه كان يعلم بمرض أحمد إسماعيل بداء السرطان قبل وأثناء حـرب أكتوبر 73، وان الأطباء أخطروه بان حالته الصحية لاتسمح له باتخاذ القرارات، وإن السادات هو الذي كـان يتخذ القرارات (راجع الفصل التاسع عشر). ولولا هذه الشهادة التي يدين فيها السـادات نفسه بنفسـه، لما كان في استطاعة أي محكمة تاريخيـة إدانة السادات على ما ارتكـبه من أخطاء جسيمة أثناء الحرب. إذا ما قدم الدفاع عنه إلى المحكمة وثيقة التوجيه الاستـراتيجي التي بعثها إلى احمد إسماعيل، والتي يربط فـيها بين المهمة التي تكلف بها القوات المسلحة وبين حدود إمكاناتها.
قد يكون من السهل على النقاد أن يتهموا السادات بالجهل، لأنه لم يخدم في القوات المسلحة سوى ثلاث سنوات وهو برتبة الملازم والنقيب في بداية الأربعينيات، ولأنه لا يحب أن يجهد نفسه في القراءة والبحث. ولكن هذا لا ينطبق على أحمد إسماعيل. فلا أحد يستطيع أن يشك في علمه وثقافته العسكرية، وإن كان قد اشتهر بجموده الفكري وخشيته من تحمل المسئولية. ولكن هل من الممكن أن يصل الجمود الفكري بأحمد اسماعيل إلى حد إهمال مبدأ عام وحيوي من مبادئ الحرب لايمكن تحقيق أي نصر بدونه وهو المناورة بالقوات هل يمكن أن يصل الجمود الفكري إلى حد أن يقوم يوم 25 أكتوبر بتكليف الفرقة الرابعة المدرعة بفك حصار الجـيش الثالث، بينما كانت قوات العدو غرب القناة تقدر بحوالي 3 فرق مدرعة وكان يمتلك زمام الجو، ولولا تمردي ورفضي توقيع هذا الأمر لدمرت هذه الفرقة؟!
وهناك أسئلة كثيرة مازلنا نجهل إجاباتها حتى الآن نذكر منها: هل كان احـمد إسماعيل يعلم بالرسـالة التي بعث بها السادات إلى كيسنجر يوم 7 من أكتوبر؟هل شارك احـمد إسماعيل السادات بالرأي عندما طلبت بريطانيا يوم 13 من أكتوبر- عن طريق سفيرها في مصر السير فيليب آدامز- أن يبدي السـادات رأيه في المشاورة الدائرة بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن حول إمكان وقف اطلاق النار في المواقع القائمة؟ وهل اتخـذ السادات قراره برفض هذا الاقتراح؟ (البحث عن الذات/ ص 344) دون التشاور مع صاحب المنصبين الرئيسيين اللذين لهما علاقة بهذا القرار؟؟ وهل طلب السادات مشورة احـمد إسماعيل- صاحب المنصبين الرئيسيين- عندما رفض الاقتراح الذي تقدم به الاتحـاد السوفيتي يوم 13 والأيام التالية، والذي كان يتضمن أيضا وقف اطلاق النار على الخطوط القائمة، أم أن السادات كـان ينفرد
باتخاذ القرار؟ وهل كان قرار دفع الفرقة الرابعة المدرعة -الذي تقرر إلغاؤه بعد أن رفضت التوقيع على أمر العمليات- صادرا من احمد اسماعيل عن قناعة أم انه كان ينفذ أمر السادات؟ هذه هي بعض الأسئلة التي يتحتم على المؤرخين الإجابة عنها قبل أن يمكننا أن نحدد طبيعة العلاقة بين الرجلين.
- وعمومـا فقد وردت شهادتين على لسان كل من حافظ اسماعيل وحسنين هيكل عن انفراد السادات باتخـاذ القرارات خلال حرب أكتوبر. يقول حافظ في تعليقه على اتخـاذ السـادات قرار وقف إطلاق النار يوم 21 أكتوبر على الخطوط الحـالية، دون أن يستشيـر أحد ما يلي "كان الرئيس وحيدا. كان هو الذي اختـار أن يواجه الموقف وحده لقد اتخذ وحـده من قبل قرارات مصيرية متعددة . وربما لم يجد ضرورة الآن، وحدة الأزمة تتصاعد، أن يدعو رفاقه ومعاونيه. واختار بان يجتاز الأزمة وحده لقد أراد أن يكون صاحب النصر عندما ننتصر. وهو الآن يرفض إلا أن يكون المسئول عن نتائج تحول المعركة. بينما كنت أظن أن هذه الساعات الحرجة التي نمر بها هي بالضبط الظروف التـي من اجلها بني تنظيم الأمن القومي لكي يدعى ليتحمل مسئوليته ويعاون على اتخاذ القرارات المصيرية. فلقد كـان الموقف يتطلب تفويضـا جديدا". (محمد حـافظ إسماعيل/ أمن مصـر القومي/ ص 360).
- أما هيكل فهو ينقل إلينا موقف السادات من أي مشروع قرار يناقشـه مجلس الأمن، فيذكر أن السادات قال له: "إنه من المستحسن أن يبت هو (السادات) في كل الأمور من هنا من القاهرة، وان يجيئوا إلي شخصيـا كلما أرادوا إدخال أو تغيير كلمة أو حرف" (هيكل/ أكتوبر 73/ ص 455).
تعالوا إلى كلمة سواء
الحرب عملية باهظة التكلفة. وتكلفة الحرب لا تقاس بمجموع مـا يتم إنفاقه خـلال فترة العمليات الحربية وما تتحمله الدولة من خسائر بشرية ومادية خلال تلك الفترة. بل يضاف إليها ما تنفقه الدولة على قواتها المسلحة خلال سنوات السلم التي يتم خلالها تجهيز وتدريب تلك القوات، وما يتم إنفاقه لتامين الشعب ضد أخطار الحرب عند انـدلاعها. ونتائج كل حرب هي التي تحـدد مدى نجاح الدولة في تدبير شـئونها العسكرية من حـيث التسليح والتدريب وترشـيد الإنفاق. الخ. ولذلك فإن الدروس المسـتفادة من كل حرب تعتبر ثروة لا تقدر بثمن، لأنها تكون رصيدا للدولة إذا ما اشتركت في حرب أخرى.
وهذه الدروس المسـتفـادة لا يمكن التوصل إليها، إلا إذا عرفت الأخطاء التي ارتكبت بواسطة أحد الأطراف وأدت إلى هزيمتـه أو أدت إلى وضعه في موقف صعب. وان اكتفائنا بذكر الأعمال المجيدة التي تمت خـلال حرب أكتوبر، وعدم ذكر الأخطاء التي ارتكبت يمكن أن يولد لدى قادة الأجـيال التالية شعورا بالتفوق الزائف، الذي قد يؤدي إلى ارتكابهم نفس الأخطاء التي ارتكبها آباؤهم وأجدادهم. ولذلك فإنه يجب علينا أن نعترف بأنه رغم النجاح الباهر الذي حققناه بعبورنا قناة السويس وتدميرنا خط بارليف في 18 سـاعة فقد ارتكبنا سلسلة من الأخطاء. إذ إن تطوير الهجـوم يوم 14 أكتوبر كان قرارا خاطئا، وهو الذي أدى إلى حـدوث ثغرة الدفرسوار ليلة 15/16 أكتوبر. كمـا أن عدم المناورة بقواتنا المدرعة واستغلال خفة حـركتها لكي نتصدى بها للقوات المدرعة الإسـرائيلية التي عبرت إلى الغرب كان تصرفا خاطئا. علاوة على أن التهوين من أهمية الثغرة في الإعلام المصري، ووصفها بأنها معركة تليفزيونية هو وصف ديماجوجي ومضلل، وأدى في النهاية إلى نجاح العدو في حصار الجيش الثالث ومدينة السويس.
والآن وبعد مرور حوالي 22 عاما على حـرب أكتوبر المجيدة، ألم يأن الأوان لأصحاب الآراء المختلفة حول القرارات التي اتخذت خـلال تلك الحرب، أن يجلسوا مع بعضهم البعض، وان يتناقشوا حول نقاط الخـلاف بغية التوصل إلى ما هو صحـيح وما هو خطا، وأن تتم هذه المناقشـات على شكل مناظرة علنية يقوم فيها كل طرف بعرض وجهة نظره مع تقديم الحجج التي تؤيدها. نحن لسنا في حاجة إلى استدعاء خـبراء أجانب فلدينا خبراء قد يتفوق الكثير منهم على الخبراء الأجـانب. ولكن بشرط أن نوفر لهم المناخ الديمقراطي، وألا يضار صاحب رأي برأيه. مناظرة لا يكون كل هم المشاركين المصـريين فيهـا- كمـا حدث في أثناء الندوة الدولية لحرب أكـتوبر التي عقدت عام 1975- هو الدفاع عن الأخطاء التي ارتكبتها القيادة السيـاسية والقيادة العسكرية خلال تلك الحرب. إن هذا هو اقل ما يمكن عمله اليوم. فإن لم نفعل ذلك فإن التاريـخ لن يرحم هؤلاء الذين يريدون تزييف تاريخ مصر. وما لنا لا نفعل ذلك وقد سبقتنا دول كثيرة اتخذت خطوات اكثر تشددا من تلك المناظرة التي ناديت بها منذ سنوات ومازلت أنادي بها حتى اليوم. لقد شكلت بريطانيا لجنة تقصي الحقائق في أعقاب حـرب الفولكلاند عام 1982. وشكلت إسرائيل لجنة مماثلة في أعقاب حرب أكتوبر ، وأخرى في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. فهل يقبل الجمسي أن يدخل معي في مناظرة علنية حول نقط الخلاف؟ وهل يقبل هيكل أن يثري هذه المناظرة بآرائه وتحليلاته السديدة على ضوء المعلومات التي كانت خـافية عنه وقت أن نشر كتابه عن حرب أكتوبر؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق