العودة إلى قطر بعد الاعتقال
رحلة مع الطلاب إلى السعودية
الحج مع العائلة
لقاء مع الشيخ السباعي
المشرفون على رسالتي: إما الموت أو السفر!!
إلى لبنان في صيف 1965
رحلة مع الطلاب إلى السعودية
الحج مع العائلة
لقاء مع الشيخ السباعي
المشرفون على رسالتي: إما الموت أو السفر!!
إلى لبنان في صيف 1965
رحلة مع الطلاب إلى السعودية
في إجازة نصف السنة الدراسية من سنة 1963م قمت برحلة مع طلاب المعهد الديني إلى المملكة العربية السعودية، فقد كانت وزارة المعارف في قطر توسع على الطلاب في إجازة نصف العام من كل سنة دراسية. وتبعث بالطلاب في رحلات علمية تخدم دراستهم، إلى البلاد المجاورة، وتختار من كل مدرسة عددًا يشاركون في هذه الرحلة، وقد كانت الجهات التي يذهبون إليها تستضيفهم، في حين تعطيهم الوزارة (مصاريف جيب) في يد كل واحد منهم.
وقد كنت مخيرًا بين دول الخليج، فاخترت المملكة العربية السعودية، فهي أليق بالمعهد الديني وطلابه، وطلبت من الوزارة أن يشترك أكبر عدد من طلاب المعهد في هذه الرحلة، باعتبار أن عددهم محدود، وباعتبار هذه الرحلة لونًا من التربية العملية المطلوبة؛ لما تشتمل عليه من أداء العمرة، ووافقت الوزارة مشكورة على ذلك. واخترت معي الأخ الكريم الشيخ عبد اللطيف زايد مرافقًا ومشاركًا في الإشراف على الطلاب. وكان حسن الصلة بهم، محببًا إليهم، يتعامل معهم بالرفق وبالحزم معًا، وهذا هو المطلوب. ثم هو قريب مني كما أني قريب منه، فهو ابن الدعوة، وابن الغربة، وهو من الناس الذين يؤثرون على أنفسهم. ومثل هذا يُربح في السفر، وقد قال الأقدمون: الرفيق قبل الطريق والجار قبل الدار. كما اخترت أيضًا أحد مدرسي المعهد المهذبين، وهو الأستاذ بشير عزام، مدرس المواد الاجتماعية، وهو فلسطيني الجنسية، وكان ذا خلق كريم، وحسن العلاقة بالطلاب.
وقد اشترك عدد كبير من طلاب المعهد في هذه الرحلة، لم أعد أذكر عددهم. وكان المقرر أن نزور أربع مدن: الرياض، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة، هكذا على الترتيب.
زيارة الرياض
د. العسال
وكانت البداية بالرياض، وهي أول مرة أزورها، وكانت في هذا الوقت صغيرة محدودة المساحة، لم يتطور عمرانها إلا قليلاً، مثل منطقة (الملزّ). وقد نزلنا بها في فندق.
وكان هناك عدد من المؤسسات والشخصيات يجب علينا زيارتها.
وأبرز الشخصيات التي لقيناها وأهمها هي شخصية سماحة العلامة الشيخ محمد إبراهيم آل الشيخ المفتي الأكبر للمملكة، وأشهر علمائها، وقد طلب منا أن نلقاه في مجلسه بمنزله القديم، ورحب بنا، وسألني عن المعهد فأعطيته فكرة موجزة عنه، وأنه يجمع بين القديم والحديث، وأن الطلبة يدرسون فيه ما يدرس زملاؤهم -تقريبًا- من العلوم والرياضيات واللغة الإنجليزية، ويزيدون على ذلك التوسع في العلوم الشرعية والعربية.
قال لي: ألا تعتقد أن دراسة الطالب الشرعي لهذه العلوم الحديثة تؤثر على مستواه الدراسي في علوم الشريعة واللغة؟
قلت: بلى، ولكننا مضطرون إلى ذلك؛ لئلا يعيش الطالب معزولاً عن عصره، وحتى إذا قدر له أن يشتغل بالدعوة أو بالفتوى كان عالمًا بواقع من يدعوهم ويخاطبهم بلسانهم؛ ليبين لهم، وعالمًا بواقع من يفتيهم، وتعلم سماحتكم أن المحقق ابن القيم قال: الفقيه الحق هو من يزاوج بين الواجب والواقع، وقد قال ذلك في شرح ما روي عن الإمام أحمد فيما يلزم المفتي، وهي خمس خصال، منها : معرفة الناس، وقد طور الأزهر معاهده، وأدخل فيها اللغة الأجنبية، وتوسع في العلوم الحديثة، ولا يسعنا إلا أن نعيش عصرنا، وفي الأقوال المأثورة: رحم الله امرأ عرف زمانه، واستقامت طريقته.
قال: ماذا تدرسون في العقيدة؟
قلت: ندرس (العقيدة الطحاوية).
قال: حسن، وماذا تدرسون في الفقه؟
قلت: ندرس كتاب (منار السبيل شرح الدليل).
قال: جيد.
وقد بقينا عند الشيخ ما يقرب من ساعة، ثم تكاثر طلاب الفتاوى وغيرها عليه، فطلبنا الإذن من سماحته، وأذن لنا في الانصراف، داعيًا لنا بالتوفيق، وشاكرين له حسن استقباله، وبعد أن حمّلنا أمانة السلام على مشايخ العلم في قطر.
ومن أهم المؤسسات التي زرناها: إدارة الكليات والمعاهد، فلم تكن (جامعة الإمام محمد بن سعود) قد أنشئت بعد، وقد كان مدير هذه الكليات هو فضيلة الشيخ عبد العزيز المسند، الذي تحدث إلينا وتحدثنا إليه حديثًا وديًّا، ثم هيأ لنا زيارة الشيخ مناع القطان المدرس بكلية الشريعة والذي أضحى له فيها قدم راسخة، وتلاميذ ومريدون، وقد أعير إلى الرياض منذ سنة 1954م ونجّاه الله من محن الإخوان في عهد الثورة، وقد استقر في الرياض، وعرفه كبار المسؤولين فيها، وكان له عندهم شأن ومقام، وحصل على الجنسية السعودية مع عدد من الإخوان، وأصبح هو الناطق الرسمي باسم الإخوان في المملكة، وكثيرًا ما حل الله على يديه مشكلات شتى لإخوان كثيرين من مختلف الأقطار.
وكانت فرصة اللقاء بالشيخ مناع لتجديد الذكريات، فقد كنا نسكن معًا في شقة واحدة أيام الكلية، وهي شقة راتب باشا الشهيرة، وكنا نعمل معًا في قسم الطلاب بالإخوان، وفي اتحاد كلية أصول الدين.
وقد زرنا أحد الفصول مع طلابنا، وكان المدرس كفيفًا، وفي أثناء جلوسنا لاستماع بعض الدروس سمع الشيخ صوتًا، فانتبه الشيخ، وقال: ما هذا؟ قالوا له: أحد الطلاب الضيوف، التقط صورة للفصل، فقال: يا سبحان الله طلبة علم وتستخدمون التصوير، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المصورين، وقال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون".
فتدخلت وقلت: يا فضيلة الشيخ، ما ورد في الحديث على أعيننا ورأسنا، ولكنه لا يعني هذا النوع من التصوير الذي يسميه أهل الخليج (عكس)؛ لأنه مجرد عكس للصورة كما تنعكس الصورة على المرآة، والأحاديث النبوية علّلت لعن المصورين بأنهم يضاهون خلق الله، وهذا التصوير الحديث هو خلق الله نفسه. وانصرفنا، وما أظنه اقتنع بكلامي.
وقد زرنا وزارة التربية والتعليم، وكان وزيرها الرجل الفاضل المعروف معالي الشيخ حسن عبد الله آل الشيخ، ولم تُتح لنا فرصة زيارته، أحسبه كان غائبًا عن الرياض. وقد زرنا مبنى الوزارة واستقبلنا وكيلها المعروف الأستاذ عبد الوهاب عبد الواسع، وتحدثنا معه حول التربية بصفة عامة، والتربية الإسلامية بصفة خاصة.
كما زرنا (معهد العاصمة النموذجي) الذي كان يسمى من قبل: (معهد الأنجال) أي أنجال الملك عبد العزيز، وتغير إلى هذا العنوان الجديد، وأريد بـ(العاصمة): الرياض، ويقصد بهذا تثبيت عاصميّتها في الأذهان، وكان مدير المعهد المربي الكبير الأستاذ عثمان الصالح، الذي كنا قد سعدنا بزيارته في قطر من قبل، وفي المعهد التقينا بالأخ الكريم المربي الفاضل الأستاذ علي فودة نيل (د. علي بعد ذلك) أستاذ اللغة العربية المتمكن.
إلى مكة المكرمة
ومن الرياض اتجهنا إلى مكة المكرمة، عن طريق الطائرة (فتَذْكرتنا: الدوحة – الرياض – جدة) مستعدين بملابس الإحرام التي صحبناها معنا من الدوحة، وعندما حاذينا الميقات: أحرمنا ونوينا العمرة، ولبّينا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك اللهم عمرة.
ونزلنا جدة في مطارها القديم، ولم نقم بجدة، بل توجهنا مباشرة إلى مكة المكرمة لأداء النسك: نسك العمرة، التي هي الحج الأصغر. وطول الطريق نلبي ونكبر ونسبح ونهلل ونحمد، وندعو الله تعالي، ونحن في حالة من الرقة والخشوع، تزداد كلما اقتربنا من مكة ومن البيت الحرام.
وقد أنزلتنا وزارة المعارف في إحدى مدارسها هناك، ومنها انطلقنا لتأدية مناسك العمرة، وما أعظم فرحتنا، وأعمق سعادتنا، حين يرى المسلم المسجد الحرام والبيت الحرام، وبعضنا يراه لأول مرة، لقد دخلنا المسجد قائلين: نعوذ بالله العظيم، ووجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، اللهم إني أسألك من فضلك، اللهم افتح لي أبواب رحمتك.
وطفنا بالكعبة سبعًا، بادئين من الحجر الأسود، الذي استطعنا أن نقبله في أكثر أشواط الطواف، فقد كان الوقت غير مزدحم، وفي بعض الأشواط أشرنا بأيدينا، وفي كل الأشواط التمسنا الركن اليماني، وقد عرفنا أنه لم يَرِد أدعية في الطواف غير ما كان يدعو به صلى الله عليه وسلم بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخر حسنة وقنا عذاب النار".
يا عجبًا! أي سر في هذا الحجر الأسود الذي يقبله المسلم كأنما يقبل شفتي حبيب بعد شوق وغياب طويل؟! وهو يقبله ويقول ما قال عمر: إني أقبلك وأنا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. هذا هو اعتقاد كل مسلم، ولكنه يعتبره رمزًا كالرموز التي عبّر عنها الشعراء قديمًا في شعرهم:
أمرّ عـلى الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
والذين لا يدركون سر هذه اللغة الرمزية ولا يتذوقونها يتوهمون أن المسلمين يعبدون الحجر أو يقدسونه، والمسلمون أبعد أمم الأرض عن تقديس الأحجار. وقد قام دينهم على التوحيد الخالص: إفراد الله بالعبادة والاستعانة "إياك نعبد وإياك نستعين".
عدا ذلك يدعو الطائف بما يشاء من الأدعية ويتعبد بما يشاء من الأذكار وتلاوة القرآن.
وبعد الطواف صلينا خلف مقام إبراهيم ركعتين خفيفتين حسب السنة، قرأنا في الأولى: "قل يا أيها الكافرون" (الكافرون) وفي الثانية: "قل هو الله أحد" (الإخلاص)، وكان المقام قريبًا جدًّا من الكعبة، وكان يعوق حركة الطواف، ولم يكن قد نقل إلى مكانه الحالي، فقد كان العلماء مختلفين حول مشروعيه نقله، حتى ألهمهم الله الصواب، ونقلوه من مكانه ويسروا على الطائفين من الحجاج والمعتمرين.
ثم وقفنا عند (الملتزم) المكان الذي تسكب فيه العبرات، ويتضرع المتضرعون، ويندم التائبون، ويستغفر المستغفرون، ووقفنا نبكي مع الباكين على تفريطنا في جنب الله، فإن لم نجد بكاء تباكينا، وتشبهنا بالصالحين، كما قال القائل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح
ثم ذهبنا إلى زمزم، بعد أن أصبحت (حنفيات) ولم تَعُد بئرًا كما كانت من قبل يغترف الناس منها بالدِلاء.. ولكن قبل نقلها إلى شكلها الحالي، وشربنا من مائها في أوعيتها الفخّارية القديمة، ولم يكن مبردًا كما هو اليوم، ودعونا الله تعالى بالدعاء المأثور: اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وشفاء من كل داء. ومنها صعدنا إلى الصفا، ووقفنا على ربوتها، واتجهنا إلى الكعبة ناظرين إليها وقلنا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: وتلونا قول الله تعالى: "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ" نبدأ بما بدأ الله به، وبدأنا السعي بين الصفا والمروة -كما أمر الله ورسوله- سبعة أشواط داعين ذاكرين مسبحين مهللين مكبرين، أما التلبية فقد انقطعت عندما بدأنا الطواف عند الحجر الأسود.
وبعد أن انتهى الشوط السابع عند المروة، حلق منا من حلق، وقصّر منا من قصر، وكنت ممن قصّر، فأنا شديد الحساسية للبرد، وكنا في أواخر شهر يناير وأوائل شهر فبراير، صحيح أن مكة لا يُخشى فيها البرد ولكن أمامنا المدينة.
وهكذا كسبنا العمرة -وهي أول عمرة تطوّع لي بعد العمرة التي أديتها مع فريضة الحج متمتعًا- التي أسال الله أن تكون عمرة مبرورة، وكسبها طلاب المعهد، وعرفوا أحكام العمرة عمليًّا، وعرفوا معها أهم أعمال الحج وهي: الإحرام والطواف والسعي والحلق والتقصير، ولم يبق إلا الوقوف بعرفة، والنزول بمزدلفة، ورمي الجمار، وهي أمور سهلة.
أذكر كأنما أصابتني وعكة، ربما من برد الرياض، فقد قالوا: إن بردها شديد، كما أن حرها شديد، وقد كان المكان الذي نزلنا به ليس فيه تدفئة، فأحسسنا هناك بلذعة برد، قد يكون هذا من أثرها.
ويبدو أن هذه الوعكة حرمتني من الذهاب مع الشيخ عبد اللطيف والشباب إلى غار حراء، ثم غار ثور في اليوم الذي بعده، وقد تعب بعض الشباب من صعودهم إلى الغار، وبعضهم انقطع في منتصف الطريق، وقال لي الشيخ عبد اللطيف: إن طريق غار ثور أشد وعورة وصعوبة من غار حراء.
قلت: رضي الله عن خديجة بنت خويلد التي كانت تذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتحنث -أي يتعبد- في غار حراء قبل البعثة، وتأتي إليه بالطعام والزاد، وهي رضي الله عنها في حوالي الخمسين من العمر، ورضي الله عن ذات النطاقين أسماء بنت أبى بكر، التي كانت تذهب طيلة أيام اختفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في غار ثور، حاملة الطعام والأنباء إلى الرسول وأبيها "ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار" على حين يعجز شباب هذا القرن عن أن يصلوا إلى الغار.
كنا نود أن نعرف أين ولد الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ولكن إخواننا من المشايخ ضنوا علينا بذلك، مع أن المثل يقول: أهل مكة أدرى بشعابها. والظاهر أن إخواننا من المشايخ يحسبون أن البحث عن هذه الآثار قد يؤدي إلى تقديسها، وهذا ضرب من الشرك يجب سد الذريعة إليه؛ ولهذا طُمس كثير من الآثار التاريخية المهمة بسبب هذا الخوف المرضي أو شبه المرضي.
ولا أذكر أننا فعلنا شيئًا في مكة أكثر من ذلك غير الصلاة في المسجد الحرام، الذي جعل الله الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد العادية، ومثل ذلك عبادة الطواف كلما أتيحت الفرصة، وما أكثر ما تتاح في غير أوقات الزحام، والطواف هو نصف العمرة؛ إذ جوهر العمرة طواف وسعي.
إلى المدينة
بعد أن أنهينا أيامنا في مكة، وما أطيبها وأعذبها وأبركها، يممنا وجوهنا شطر المدينة المنورة، حيث مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثاني مساجد الإسلام التي لا تُشد الرحال إلا إليها، والروضة الشريفة التي جاء فيها الحديث "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، وحيث القبر الشريف الذي ضم أعظم صفوة خلق الله، وخاتم رسل الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والبشير النذير، والسراج المنير، محمد عليه أزكى الصلاة والتسليم.
محمد ســيد الكونين والثقلين والفريقين من عُرب ومن عجم
هو الحبيب الذي تُرجى شفاعته لكل هولٍ من الأهـوال مقتحم
ذهبنا إلى المدينة من مكة عن طريق البر، ركبنا حافلة (باصًا) أخذنا ما يقرب من يوم، فقد كان الطريق غير طريق اليوم، كان معظمه طريقًا واحدًا، وكان كثير التعاريج ولم يكن حسن الرصف، وكنا ننزل في الطريق للاستراحة أو للصلاة أو للغداء، أظننا تغدينا سمكًا في (مستورة) وكانت الاستراحات أو (المقاهي) على الطريق بدائية في تجهيزاتها، وفي دورات المياه التي بجوارها، الفارق كبير كبير بين الأمس واليوم، ولا يستطيع أن يعرف قيمة التطوير الحادث الآن إلا من رأى الوضع القديم وما كان عليه.
وبمجرد أن وصلنا إلى المدينة وحططنا رحالنا في المكان الذي أنزلونا فيه، لم نطق صبرًا أن نجلس في بيوتنا، إلا أن نذهب مسرعين للصلاة في الروضة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه.
إنه الحب والشوق والحنين إلى السلام على رسول الله، كأنما هو حي، وكأنما سنراه وجهًا لوجه، وكأننا سنصافحه بأيدينا، وشيء من هذا لا يحدث قطعًا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ميت، ولا نستطيع أن نراه ولا أن نصافحه، وقد قال تعالى له: "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ" (الزمر: 30) وقال: "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ" (الأنبياء: 34)، وقال: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ" (آل عمران: 144).
ولكن عاطفة الحب لا تعترف بهذه الحواجز المادية بين المحب والحبيب، بل لا تعتبر الموت حائلاً بين الحبيب وحبيبه، وقد يغلو بعضهم في هذا الجانب حتى زعموا أن أحد الصالحين وقف عند القبر النبوي، وأنشد بيتين من الشعر، يحيي بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمدّ الرسول الكريم إليه يديه من قبره يصافحه والآلاف ينظرون ذلك!.
وهذا بلا ريب من أوهام المحبين، وتهاويل العاطفيين، وشطحات المتصوفين، ولو جاز أن يحدث هذا لحدث لكبار الصحابة مثل أبي بكر وعمر، ولنسائه أمهات المؤمنين، ولآل بيته: علي وفاطمة أحب الناس إليه، وسبطيه: الحسن والحسين، رضي الله عن الجميع. ولا ريب أن شيئًا من ذلك لم يحدث لأحد منهم.
إلى جدة
ثم انتقلنا إلى (جدة) بالحافلة أيضًا (الباص) نستريح في الطريق من فترة إلى أخرى للصلاة والغداء، حتى وصلنا جدة آخر النهار، ونزلنا في (فندق الحرمين) من فنادق جدة القديمة. وكان شأن جدة شأن الرياض والدوحة، وسائر مدن الخليج في تلك الفترة، كلها تبدأ الخطوات الأولى في طريق التطور العمراني والحضاري. إنها جدة القديمة بشوارعها وحاراتها القديمة، وأسواقها القديمة، ومبانيها القديمة، وطرزها القديمة، ومساحتها المحدودة.
ولا أذكر الآن من الشخصيات التي زرناها غير شخصية واحدة، تُعَدّ في العلماء، وتُعدّ في الوجهاء، وتعدّ في أهل الخير، إنه الرجل الذي إذا ذُكرت جدة ذُكر معها. إنه الشيخ "محمد نصيف" الذي حرص على أن نزوره في الصباح لنتناول جميعًا الفطور عنده، وقد حدثنا عن تاريخ المنطقة، وما كانت تعانيه قديمًا، وفضل مصر على أهل هذه البلاد في أيام الضيق والعسرة، وارتباط مصر بالحجاز من زمن بعيد، وتصاهر كثير من العائلات في البلدين. وهذا صحيح وملحوظ؛ فأهل الحجاز أقرب في سلوكهم وعاداتهم بأهل مصر، حتى كثير من الكلمات والمصطلحات تجدها مشتركة بين الحجاز ومصر.
فتجد أهل الحجاز يسمون الخبز (العيش) كما يسميه المصريون، ولا يسمون الأرز (العيش) كما يسميه أهل نجد وغيرهم.
وقد أطلعنا الشيخ نصيف على مكتبته الحافلة بالكتب في شتى التخصصات، ولا سيما الشرعية واللغوية والأدبية والتاريخية، كما أنها حافلة بالمخطوطات التي كان للشيخ عناية خاصة بجمعها والحفاظ عليها، والمعاونة على نشرها.
كان بيت الشيخ "مَعْلمًا" في جدة، لا يكاد يمر عالم أو داعية أو شخصية ذات وجاهة في قومها إلا مرت بالشيخ وسلمت عليه.
وكان عند داره شجرة قديمة، يبدو أنها كانت الشجرة الوحيدة في جدة في وقتها؛ فكان المنزل يُعرف بالمنزل الذي أمامه الشجرة، حتى كان سعاة البريد يعرفونه بهذا، فلم تعرف جدة التشجير إلا بعد ذلك، وقد أصبح فيها اليوم ملايين الأشجار والنخيل وغيرها.
لم يقدر لي أن ألقى الشيخ محمد نصيف بعد ذلك إلا مرة واحدة في بيروت في منزل صديقه وصديقنا الشيخ زهير الشاويش الناشر والمحقق المعروف صاحب المكتب الإسلامي، وقد التُقطت لنا صورة تذكارية مع الشيخ في منزل الشاويش، أحسبه محتفظا بها؛ فقد كان يعتز بعلاقته بالشيخ نصيف، رحمه الله.
وبعد جدة عدنا –بحمد الله وتوفيقه- إلى قطر، حاملين معنا بعض التمر من المدينة، وبعض الأسوكة من مكة، وبعض ما يُشترى من الأسواق من جدة. وفوق ذلك ذكريات لا تنسى، ونفحات نحس آثارها في قلوبنا وأرواحنا؛ فعندنا -أهل السنة- أن عمل الصالحات يزيد في الإيمان. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الحج مع العائلة
وبعد سنتين من حجي الأول بمفردي اجتهدت أن أحج أنا والعائلة، وقد فكرت أنا ومجموعة من المدرسين وموظفي وزارة المعارف في قطر أن نخرج باعتبارنا بعثة من وزارة معارف قطر، وترسل الوزارة إلى وزارة معارف السعودية لتؤدي لنا بعض الخدمات، مثل إعطائنا مدرسة في مكة، وأخرى في المدينة. وكلمنا الوزارة في ذلك، فرحّبت بالفكرة، وكلفتني برئاسة البعثة، وخاطبت الجهات المسؤولة في معارف السعودية، ورحبوا بنا ووعدوا أن يقدموا لنا من التسهيلات ما يساعدنا على أداء مناسكنا بيسر وسهولة.
وكنا عددًا من المدرسين والموظفين الإداريين بالوزارة، كل واحد مع عائلته، أذكر منهم الإخوة: عبد اللطيف زايد، وعلي جمّاز، وعبد الرحمن الجبالي، ويوسف السطري، ومحمد عبد الظاهر، وغيرهم.
وقد استأجرنا طيارة خاصة (شاوتر) لتقوم بنقلنا إلى جدة، ثم تعود بنا من جدة إلى الدوحة، وكانت طائرة قديمة من طائرات الخليج العتيقة، تعمل بالمراوح، وأذكر أنها أخذت منا أكثر من أربع ساعات، وكانت معظم وقت الرحلة تهتز وتتأرجح، حتى وجدت أكثر ركاب الطائرة -وخصوصًا من النساء- يتقيئون، ولا سيما أن للإيحاء والمحاكاة والمشاركة الوجدانية أثرها في مثل هذا الأمر.
وقد نزلنا هناك في مدرسة قريبة نسبيًّا من الحرم، واقتسمناها بالسوية، كل حسب عياله وحاجته، وكثيرا ما تشترك عائلتان في حجرة واحدة، ينام الرجال متجاورين، والنساء متجاورات. وفق منطق الضرورات التي تبيح المحظورات.
وكانت معي زوجتي وبناتي الأربع الصغيرات، وأصغرهن "أسماء" التي كان عمرها نحو ستة أشهر، وكانت أمها تحملها على عاتقها في الطواف وفي السعي، وكان الأخ الشهم الكريم محمد عبد الظاهر -وهو رياضي فارع الجسم- كلما رآها خطفها منها، وحملها على عاتقه، رحمه الله وغفر له، وجزاه خيرًا.
كان هذا هو الحج الوحيد الذي عانيت فيه كما يعاني الناس، وربما أكثر من الناس في بعض الأحيان؛ فقد نمنا على البلاط في هذه المدرسة، وعانينا أحيانًا من قلة الماء، وفي منى وعرفات كنا مع أحد المطوفين ونزلنا في الخيام، ونمنا على الحصى، وشعرنا بمشقة الحج، كما يشعر الآخرون. وهذا من الحكم التي شرعت لها هذه العبادة العظيمة "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ".
وفي المدينة نزلنا في إحدى المدارس عدة أيام، ثم رأينا أن نرفه أنفسنا، فانتقلت أنا وأولادي إلى فندق التيسير القديم لعدة أيام أحسسنا فيها بالرفاهية والراحة.
لقاء مع الشيخ السباعي
مصطفى السباعي
في هذا الموسم لقيت عددًا من الشخصيات، لعل أبرزهم وأهمهم: العلامة الفقيه الداعية القائد: الشيخ مصطفى السباعي قائد الدعوة الإسلامية في سوريا.
وقد جلست معه طويلاً، وتحدث إليّ طويلاً وتحدثت إليه قليلاً، وأخص إليّ بذات نفسه، وأسمعني من قصائده العاطفية التي تفيض حبًّا وشوقًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قصيدته الشهيرة:
احملوني إلى الحبيب وروحوا واتركوني ببابه واستريحوا
وكان الشيخ ينشد هذه الأبيات ودموعه تسيل على خديه تأثرًا وحبًّا للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وذكر الشيخ لي معاناته وآلامه في المدة الأخيرة، وكيف ذهب إلى أوروبا للعلاج، وكيف وجد في كل مدينة يذهب إليها إخوة ينتظرونه، وقد رتبوا له كل شيء: الفندق الذي ينزل به، والمستشفى الذي سيعالج فيه، والطبيب الذي سيتولى فحصه والإشراف عليه، وكل ما يلزمه من دقائق الأمور وجلائلها، يقول: فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، وبدافع من الأخوة الإيمانية، وأنا والله لا أعرفهم، ولا هم من بلدي، ولكنه سر الدعوة التي أزالت الحواجز بين الناس، وقربت أهل الإيمان حتى كأنهم أسرة واحدة؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
كانت هذه هي المرة الثالثة التي ألقى فيها العلامة السباعي؛ فقد لقيته أول مرة عندما زارنا في مدينة المحلة سنة 1953م على ما أذكر، وألقى محاضرة رائعة شهدها جمهور كبير، واستمر نحو ساعتين، والناس مشدودون إلى المحاضر بأعينهم وعقولهم ومشاعرهم، لم يبرح أحد مكانه. وقلما يحدث هذا والداعية غير مصري.
والمرة الثانية كانت عندما جمعني به الأستاذ الدكتور محمد البهي على حفل شاي في فندق شبرد على ما أذكر، وأهداني كتابه (الاشتراكية في الإسلام).
والثالثة هذه المرة في رحاب المسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا. وكان هذا هو اللقاء الأخير بالأخ الكبير والأستاذ الجليل، وكانت أحاديثه معي كأنما هي أحاديث مودع، فما هي إلا أشهر قليلة حتى اختار الله الشيخ لجواره، ولحق بالملأ الأعلى راضيًا مرضيًّا إن شاء الله. أحوج ما تكون الأمة إلى مثله في علمه وفكره وإيمانه وخلقه وتوازنه، ولكنها سنة الله في خلقه "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت" (آل عمران: 185)، وكذا قال الله لخاتم رسله: "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون" (الزمر: 30).
ولكن عزاءنا فيه: أن العلماء الربانيين لا يموتون، تذهب أجسامهم، وتبقى آثارهم، في كتب تقرأ، أو أشرطة تسمع، أو مواقف تؤثر، أو تلاميذ يعلمون الناس. وبهذا يضيفون أعمارًا إلى أعمارهم، فإن عملهم موصول، وأثرهم لم ينقطع بالموت.
ففز بعلم تعش حيًّا به أبدا الناس موتى وأهل العلم أحياء!
كان الشيخ السباعي أحد الشخصيات الإسلامية النادرة: في علمها وفكرها، وفي عواطفها ومشاعرها، وفي أخلاقها وسلوكها، وفي دعوتها وجهادها. كان خطيبًا وسياسيًّا يهز أعواد المنابر، ومحاضرًا يأسر سامعيه بعميق فكره، وجميل أسلوبه، ومؤلفًا متمكنًا يوثق أقواله بالأدلة العلمية، وزعيمًا شعبيًّا يقود الجماهير بكياسة وحكمة، وقائدًا إسلاميًّا يقود سفينة الدعوة بوعي وصبر وثبات.
كان للشيخ السباعي عدة مؤلفات هامة في موضوعها، أصيلة في فكرتها. منها كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)، وقد رد فيها على خصوم السنة قديمًا وحديثًا، وفنّد شبهاتهم. رد على المستشرقين، وعلى أحمد أمين، وعلى أبو رية، وكتابه (أضواء على السنة المحمدية) الذي كشف زيفه، وعراه، وأسقطه مثخنًا بالجراح، بالبراهين العلمية، وبالرجوع إلى المصادر الموثقة لا إلى كتب الأدب والتاريخ ونحوها كما فعل أبو رية. وقد حدثني الشيخ السباعي: أن أبو رية زاره عندما جاء إلى مصر، وقال له: إنه كان شديد القسوة عليه، وأن ضرباته له كانت موجعة، وقال الشيخ: إني لم أحد عن المنطق العلمي قيد شعرة، ولم أعتمد على مصدر تافه، ولا على قول واهن السند، ولا على قول أحد مطعون في علمه أو دينه. وهل تريدني أن أرفق بك، وأنت لم ترفق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- ولا بأصحاب رسول الله، ومنهم أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة رواية عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا بأئمة المسلمين المتفق على جلالتهم وفضلهم وسعة علمهم وأمانتهم؟ هل تريد مع هذا أن أسميك (شيخ الإسلام)؟!!
ومن كتب الشيخ المهمة والذائعة الصيت (اشتراكية الإسلام) وهو كتاب علمي أصيل يعتمد على الأصول الإسلامية من القرآن والحديث وقواعد الشريعة ومقاصدها، وللشيخ فيه آراء عميقة، واجتهادات متميزة، وإن خالفها بعض مشايخ سوريا المعروفين مثل شيخ حماة وخطيبها محمد الحامد. ومن العلماء من لم يعترض على مضمون الكتاب، إنما اعترض على العنوان، وهو نسبة الاشتراكية للإسلام، ورسول الإسلام لم يكن اشتراكيًّا ولا رأسماليًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين.
وإنما اختار الشيخ هذا العنوان حين فتن الناس بالاشتراكية، وزعم من زعم أنها هي المذهب الذي حد من طغيان الأغنياء، ورفع من مستوى الفقراء، ووقف في صف الكادحين أمام جشع الرأسماليين المستغلين، فأراد أن يقول لهم: إن الإسلام سبق بهذه المبادئ التي تنصف الفئات الضعيفة، والطبقات المسحوقة، وتأخذ بأيديها، وتصون حقوقها، بل تشعل الحرب من أجلها، حتى إن الدولة الإسلامية هي أول دولة في التاريخ تجيش الجيوش، وتعلن القتال من أجل انتزاع حق الفقراء من براثن الأغنياء، "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه".
وهذه المبادئ في الإسلام على أحكم وجه، وأكمل صورة، وأقرب شيء إلى العدل والتوازن دون اشتراكية، مادية أو ملحدة أو مجحفة، بل الاشتراكية التي تقيم عدل الله في أرض الله، على جميع عباد الله، وهي الجديرة بأن تنسب إلى الإسلام. فهي اشتراكية مادية روحية، فردية اجتماعية، اقتصادية أخلاقية، إنسانية وربانية، واقعية مثالية، وليست مثل الاشتراكيات المقطوعة النسب بالله عز وجل.
وقد استغلت ثورة 23 يوليو في عهد عبد الناصر الكتاب، وطبعت منه عشرات الألوف، ترويجًا لاشتراكيتها الثورية الخاصة، ولعلّ هذا ما أساء إلى الكتاب؛ حيث استغل ما فيه من حق لتأييد ما عند القوم من باطل، وهو ما شكا منه الشيخ في أواخر حياته، غفر الله له ورحمه وتقبله في عباده الذين أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
ومن كتب الشيخ: (المرأة بين الفقه والقانون)، و(شرح قانون الأحوال الشخصية)، و(من روائع حضارتنا)، و(أخلاقنا الاجتماعية)، وغيرها من الكتب والرسائل التي أسهمت في وقتها في تثقيف الأمة، وتوعيتها وتنوير عقولها، وعونها إلى المنهج الوسط الذي لا غلو فيه ولا تفريط.
وكان من الآثار الطيبة التي تركها الشيخ: مجلة (حضارة الإسلام) أسسها الشيخ ليكون منبر (الإسلام الحضاري) الذي يدعو إليه الشيخ. وليس إسلام الدروشة أو الرهبنة، ولا إسلام العنف والنقمة، ولا إسلام التعصب والانغلاق. وإنما هو الإسلام الذي يقيم حضارة عالمية إنسانية ربانية أخلاقية، تصل الأرض بالسماء، والدنيا بالدين، والمخلوق بخالقه.
المشرفون على رسالتي: إما الموت أو السفر!!
عيّنت إدارة كلية أصول الدين مشرفًا جديدًا، يشرف على رسالتي من أساتذة الكلية بعد وفاة مشرفي الأول الشيخ أحمد علي رحمه الله، كان المشرف الجديد هو أحد شيوخي في الكلية، الذي درّسني مقرر التفسير في أكثر من سنة، وقد تحدثت عنه من قبل، ذلكم هو فضية الأستاذ الشيخ محمد أمين أبو الروس، فقرأ الرسالة بعناية، وأرسل لي كتابًا يتضمن بعض ملاحظاته، ومنها: ملاحظات لغوية، وبعضها ملاحظات علمية، وأخرى ملاحظات شخصية، اعتبرها الشيخ بمثابة مقترحات، إن شئت أخذت بها، وإن شئت لم آخذ.
ولقد سرّني من شيخنا أبي الروس اهتمامه بالرسالة وسرعة قراءته لها، وإبداء ملاحظاته عليها، وإن اختلفت معه في أكثرها، أو على الأقل في الكثير منها.
ومما أذكره من رسالته: أني كنت كتبت تمهيدًا عن (مشكلة الفقر) وموقف الديانات والفلسفات والأنظمة منها، وموقف الإسلام منها، وكيف تصدى الإسلام لعلاجها بوسائل عملية تشريعية وأخلاقية... إلخ.
وقد اعترض الشيخ أبو الروس على اعتباري الفقر مشكلة، وقال: إن الفقر ليس مشكلة، وإنما هو ابتلاء يبتلي الله به الإنسان، كما قد يبتليه بالغنى. وكان هذا من أثر النزعة الصوفية عند الشيخ أبي الروس، فإن الصوفية لا يعتبرون الفقر مشكلة، بل يعتبرون الغنى هو المشكلة وهو الداء والمرض، وقد أُثر عنهم قولهم: إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحبًا بشعار الصالحين! وإذا رأيت الغنى مقبلاً، فقل: ذنب عجلت عقوبته!.
وهو عكس ما ذهبت إليه في بحثي، فقد رأيت أن الإسلام اعتبر الفقر بلاء يُستعاذ بالله من شره، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من شر فتنة الفقر، ومن شر فتنة الغنى ونعوذ به من القلة والذلة.
وقال علي رضي الله عنه: لو تمثّل لي الفقر رجلاً لقتلته! وقال: أبو ذر رضي الله عنه: إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك، ولا سيما إذا كان الفقر ناشئًا من سوء توزيع الثروة، فالذين يعملون لا يملكون، والذين يملكون لا يعملون!.
واقترح الشيخ علي أن أحذف هذا التمهيد، وكان في اقتراحه الخير، فاستجبت له، وطورته وأضفت إليه، وأصدرته في كتاب خاص تحت عنوان: (مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام). وبحذف هذا التمهيد خففت حجم الكتاب الذي طال كثيرًا.
كما اقترح الشيخ أبو الروس عليّ أن أحذف معظم المقدمة التي تتضمن أشياء أكثر تعلقًا بعلم أصول الفقه مثل الحديث عن مقاصد الشريعة، والأخذ بالمصلحة، وغير ذلك، وقد أجبته إلى هذا الاقتراح أيضًا.
ولكن شاء الله أن ينتقل الشيخ أبو الروس إلى رحمة الله تعالى، قبل أن أكمل المشوار معه، مع ما لمسته فيه من جدية وإيجابية. وهذا هو حظي كالمرأة التي كلما تزوجت رجلاً وأنست به اختطفته المنية من بين يديها.
وكان على الكلية أن تختار لي مشرفًا آخر، يحل محل الشيخ أبي الروس، فاختارت في هذه المرة أستاذًا من أساتذة الحديث، فالقسم الذي سجلت فيه: يشمل التفسير والحديث معًا، ذلكم هو فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب البحيري رحمه الله.
ويبدو أن أستاذنا الشيخ البحيري قرأ نسخة الرسالة الموجودة بالكلية، فأزعجته إزعاجًا شديدًا، وكتب إلى فضيلة عميد الكلية شيخنا الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود رسالة يبلغه فيها اعتذاره عن عدم إشرافه على هذه الرسالة (لما تتضمنه من آراء دينية خطيرة لا يستطيع أن يتحمل مسئوليتها). وأرسل إليّ عميد الكلية -بواسطة مراقبة البحوث والثقافة بالأزهر- نص رسالة الشيخ البحيري. وحين قرأتها لم أملك إلا أن أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لقد اعتبر شيخنا اجتهاداتي في الأموال الجديدة: مثل الأسهم والسندات والمستغلات من العمارات والمصانع، ورواتب الموظفين التي أدخلتها ضمن المال المستفاد، ونحو ذلك.. (آراء دينية خطيرة) لا يحتمل تبعتها. مع أن المشرف -وفق التقاليد الجامعية- لا يتحمل مسؤولية آراء الطالب في رسالته لا قانونًا ولا عرفًا.
ولكن يبدو من سياق الأحداث: أن شيخنا عبد الحليم محمود كلّم الشيخ البحيري أن يقبل الإشراف على الرسالة، ويتفاهم مع مقدمها على ما يقترحه من تعديلات.
وهذا ما كان.. فعندما نزلت إلى القاهرة في صيف سنة 1964 أخطرتني الكلية أن ألقى الشيخ البحيري لأتفاهم معه على ما يريده من تعديل. وبالفعل سألت عن منزل الشيخ، وكان قريبًا مني في شارع شبرا الرئيسي، وزرته في بيته، فرحّب بي وأحسن استقبالي، وجلسنا نتحدث بمودة ومحبة، كما يتحدث الأستاذ مع تلميذه، وقال لي الشيخ البحيري: (اسمع يا شيخ يوسف، لقد سمعت عنك من الثناء الكثير ما يشجعني أن أتعاون معك لإنجاز رسالتك، ولكن أرجوك أن تستجيب لما أطرحه عليك. قلت له: تفضل يا مولانا، فكلي سمع وإصغاء إليك. قال: أقترح عليك أمرين:
الأول: أن تحذف هذه الفصول التي تحمل آراءك واجتهاداتك الجديدة؛ وذلك لسببين أحدهما: أن هذه الآراء والاجتهادات جريئة أكثر من اللازم، ومخالفة للمألوف في فقهنا التقليدي، وتحتاج إلى مجامع تقرها، وثانيهما: أنها ألصق ما تكون بعلم (الفقه) وليس بالتفسير ولا الحديث، وأنت طالب في شعبة التفسير والحديث في كلية أصول الدين، ولست طالبًا في شعبة الفقه وأصوله في كلية الشريعة.
قلت له: إذا كانت هذه الفصول هي العقبة، فلا مانع عندي من حذفها، رغم أن ذلك شاق على نفسي، ولكن حذفها لا يعني موتها وإعدامها، فأنا أستطيع أن أنشرها بطريقة أو أخرى.
قال لي: بقي الأمر الثاني، قلت وما هو؟ قال: أن نجلس معًا لنقرأ الرسالة قراءة مشتركة، فإذا وجدنا فيها ما يستحق التعديل عدلنا. وها هو بيتي مفتوح لك لتزورني في كل أسبوع مرة نجلس فيها ساعتين أو أكثر للقراءة. قلت له: وأنا أرحب بذلك، وأعتبر هذا فائدة كبيرة لي. فمن ذا الذي يتاح له أن يجد شيخًا يقرأ عليه ما كتب؟
قال: اتفقنا.
ونفذنا ما اتفقنا عليه بالفعل، وذهبت لزيارة الشيخ عدة مرات، نجلس فيها طويلاً للقراءة والمراجعة، وأشهد أني استفدت كثيرًا من علم الشيخ وملاحظاته وتدقيقاته في العبارات، وخصوصًا في هذه الموضوعات العلمية الدقيقة، ولم أكن أتردد في النزول على رأيه، وتغيير ما يطلب، من تقييد مطلق، أو تخصيص عام، أو ضبط مفهوم، أو شرح مصطلح، إلا فيما أعتقد أن الصواب معي فيه فكنت أناقشه وأحاوره حتى يقتنع أو يترك لي الخيار.
وقطعنا شوطًا لا بأس به في الرسالة، وقرب أوان السفر، والعودة إلى قطر، وقال لي: تستطيع أن تراجع الرسالة بنفسك على هذه الطريقة التي تفاهمنا عليها، وأنت أمين نفسك، ولديك من الإمكانات الذهنية والعلمية ما يمكنك من إتمام الرسالة على هذا النحو وحدك. والله معك. وودعت الشيخ شاكرًا له حسن استضافته لي، وصبره علي، وحرصه على معاونتي، داعيًا الله تعالى أن يجزيه عني وعن العلم خير ما يجزي العلماء الأخيار الصادقين.
وسافرت إلى قطر، ثم عرفت بعد فترة قصيرة: أن الشيخ البحيري أعير إلى العراق، ليدرّس الحديث في إحدى جامعات بغداد، ومعنى هذا: أنه لم يَعُد قادرًا على الإشراف على رسالتي! ولا بد لإدارة الكلية أن تبحث عن مشرف جديد.
مع المقدم أحمد راسخ
جرت عادة المقدم أحمد راسخ المسؤول عن إخوان القاهرة في المباحث العامة -مباحث أمن الدولة الآن- أن يطلبني لزيارته مرتين: مرة بعد قدومي من قطر، ومرة قبيل سفري إلى قطر.
وهذا ما فعله معي في هذه الإجازة، فقد طلبني للقائه بعد أيام من قدومي، وحدّد لي موعًدا لا أخلفه، فذهبت إليه في مكتبه بوزارة الداخلية في لاظوغلي ورحّب بي على العادة، وطلب أن أعطيه فكرة عن نشاطي خلال العامين الدراسيين المنصرمين، ولم أضنّ عليه بهذه الفكرة، وعاتبني كالعادة بأني أهملته، ولم أجب عليه ولو برسالة تهنئة في عيد الفطر وعيد الأضحى، وأجبته معتذرًا بأننا هناك بمجرد وصولنا نغرق في أعمالنا، والقلوب متصلة! وحاول أن يسأل عن بعض الأوضاع في قطر، وقلت له: إننا لا نعرف عن هذه الأوضاع شيئًا، ونحن ضيوف في هذه البلاد علينا أن نؤدي واجبنا بأمانة وإخلاص، وأن نكون خير رسل لبلادنا وديننا.
ولقد عرف راسخ من حديثي أني أديت الحج هذا العام، فالتقط الخيط، وقال لي: لا بد أنك لقيت عددًا من الشخصيات الإسلامية، التي يكون هذا الموسم فرصة للقائها؟
قلت له: لقد كانت معي زوجتي وبناتي الأربع، وهن صغيرات، وإحداهن رضيعة، فكنت جد مشغول بالعائلة وطلباتها، ولم يتح لي كثيرًا أن ألتقي بمن حضر الموسم من الشخصيات الإسلامية الكبيرة، إلا ما كان من لقائي بالأستاذ مصطفى السباعي.
قال: لا بد أنكما تحدثتما حديثًا مهمًّا فيما يخص العرب والمسلمين، وما يجري في مصر وسوريا والمنطقة.
قلت: الحقيقة كان حديثنا في الواقع بعيدًا عن هذه الموضوعات، كان كل حديث الشيخ عن حبه لرسول الله، وقصائده في مدحه والشوق إليه، ولم يتطرق إلى القضايا العامة إلا قليلاً.
قال: يهمني هذا القليل. وأريد أن تكتب لي عدة صفحات عن زيارتك للبلد الحرام. قلت له: ربنا ييسر الأمر.
وسلمت عليه وخرجت وقبيل سفري بأيام طلبني للقاء كالعادة، وقلت في نفسي: ترى هل سيسألني عن التقرير الذي طالبني بكتابته عن رحلة الحج، أو أنه نسي هذا الأمر؟
ومن باب الاحتياط كتبت صفحة ونصفًا عن هذه الرحلة، ليس فيها شيء يُذكر، كلام كله إنشاء، كما نقول. وقلت: لن أبادره بإعطاء هذه الوريقات، ما لم يطلبها مني.
وحينما ذهبت إليه ولقيته لم يحدثني فيما سبق الحديث فيه، ولم يطلب مني شيئًا، كل ما طلبه مني كالمعتاد ألا أنساه من الرسائل، ولو في المناسبات، وأن نخبره بأي شيء غير عادي يحدث يهم مصر أن تعرفه، وقلت له: إن شاء الله. وقد حفظت من مذهب الحنفية: أن من ذكر شيئًا ثم قال: إن شاء الله، لم يلزمه شيء بالحنث؛ لأن (إن شاء الله) إبطال لليمين عند محمد، وشرط لا يوقف عليه عند أبي يوسف، وهكذا نويت حينما قلت له: إن شاء الله!!
إلى لبنان في صيف 1965
بيروت
كان السفر إلى بيروت نقلة مهمة بالنسبة لي للخروج من قمقم قطر، والانفتاح نسبيًّا على العالم؛ فقد استفدت صحيًّا وجسميًّا من مصايف لبنان الجميلة، وما فيها من خضرة ونضرة ونعمة. واستفدت فكريًّا واجتماعيًّا بما لقيت من علماء ودعاة ومفكرين وناشرين.
في بيروت تعرفت على عدد من رجال الدعوة لأول مرة، مثل الأستاذ عصام العطار، الذي كان يقيم في بيروت في ذلك الوقت، وهو رجل أديب وشاعر وداعية من طراز ناضج، يجمع بين الفكر والعاطفة، ويتمتع بحاسة روحية عميقة، ورؤية سياسية واعية.
كما تعرفت لأول مرة على الدكتور حسن الترابي زعيم الحركة الإسلامية في السودان، والذي كان يزور بيروت في ذلك الوقت، وقد قاد الحركة الشعبية التي انتهت بإسقاط الحكم العسكري برئاسة عبود، وعودة الحكم المدني إلى السودان. وأذكر مما جرى بيني وبينه من حديث: أني قلت له: لعلكم تلتفتون إلى الجيش ونشر الدعوة فيه، حتى لا يقوم بانقلاب آخر ضدكم. فقال لي: نحن في الواقع لا نهتم بالجيش، وإنما نهتم بالشعب. وعندنا أن نكسب معلمًا في مدرسة خير من أن نكسب ضابطًا في الجيش. قلت: ولكن الجيوش الآن كثيرًا ما تنقلب على الحكم المدني، وتسيطر على مقدرات الشعوب. قال: لتنقلب، ونحن سنسقطها!.
ولكن بعد مدة من الزمن يبدو أن الدكتور الترابي غيَّر رأيه، وخطط لثورة الإنقاذ التي قام بها الجيش، وكان هو أباها الروحي والفكري والعملي، وظلّ يسيرها بوريقات منه، وهو في سجنه الذي دخله بأمر منه، وقد انتهت الثورة التي صنعها باتهامه ومعاداته واعتقاله، ولعله الآن نادم على أنه غيّر رأيه القديم الذي أفضى إليّ به في بيروت، ولله في خلقه شؤون.
وكذلك تعرفت على الإخوة رجال الدعوة في بيروت: الكاتب الداعية الأستاذ فتحي يكن، والقاضي الداعية الشيخ فيصل مولوي، والصحفي الداعية إبراهيم المصري، وقد اجتهد الإخوة أن ينتفعوا بي في بعض المحاضرات والدروس في بيروت، فكانت لقاءات طيبة بالإخوان خاصة، وبالجمهور اللبناني عامة.
وتعرفت أيضًا على عدد من العلماء، منهم عالم حلب ومحدثها العلامة المحقق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة. وقد كنت عرفته وأحببته قبل أن أراه، بما سمعته عنه من إخوانه وتلاميذه من أبناء سوريا، الذين لقيتهم في مصر، والذين لقيتهم في قطر. فلما لقيت الشيخ في بيروت صدَّق الخَبَرَ الخُبْرُ، وعرفت فيه العالم الفقيه المحدث اللغوي الأديب، التقي الورع، الذي يجمع إلى ورعه الظرف والفكاهة.
حسن الترابي
ومنهم محدث الشام العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وقد تعرفت عليه وعلى أبي غدة في منزل المحقق والناشر الإسلامي المعروف الشيخ زهير الشاويش، وكان منزله -ولا يزال- في حي (الحازمية) من بيروت. وقد كنت نشرت الطبعة الثانية من كتابي: (الحلال والحرام في الإسلام) عند الشيخ زهير، وكانت على نفقة الشيخ فهد بن علي آل ثاني من شيوخ قطر، كما نشرت عنده كتاب (الناس والحق)، ثم كتبًا أخرى بعد ذلك.
وقد تعرفت عنده على رجال فضلاء من زواره أذكر منهم الوجيه السلفي المعروف، أشهر رجال جدة في زمنه الشيخ محمد نصيف.
وكانت مزية بيت زهير الشاويش أنه يحوي مكتبة فيها من الكتب ما لا يوجد في غيرها، وقلّما يريد الإنسان كتابًا إلا وجده فيها، ناهيك بما فيها من مخطوطات ونوادر. فضلاً عن الكتب التي ينشرها، بالإضافة إلى أن الشيخ زهيرًا رجل كريم مضياف، فكثيرًا ما كانت تتغذى عقولنا على مكتبته، وتتغذى بطوننا على مائدته.
وبمناسبة الناشرين تعرفت على أكثر من واحد منهم في بيروت: بعضهم في هذه السنة، وبعضهم في السنين اللاحقة.
منهم الأستاذ عادل عاقل، صاحب (دار الإرشاد) للنشر، وهو الذي بدأت عنده نشر كتاب (الإيمان والحياة)، وكتاب (العبادة في الإسلام)، ثم نشر لي بعد ذلك (عالم وطاغية) و(درس النكبة الثانية)، ثم (فقه الزكاة)، وغيرها.
وقد أغراني وعددًا من الإخوة في قطر أن ندخل معه شركاء في (دار الإرشاد) واستجبنا بالفعل لهذه الدعوة، وساهمنا بما معنا من مدخرات قليلة. ولكن سرعان ما خسرت الدار وصفيت، وبيعت أصولها لأحد الإخوة في بيروت، وكان لي فيها من أسهمي ومن حقوق تأليفي نحو (15000) خمسة عشر ألف ليرة لبنانية. وكانت الليرة تقارب النصف دولار، وقد ضاع عليّ هذا المبلغ إلى اليوم، فلم يصلني منه نقير ولا قطمير، وكان هذا المبلغ في ذلك الوقت (1969) يُشترى به سيارتان من نوع (المارسيدس).
وقد أصبح هذا المبلغ الآن لا يساوي عشرة دولارات، مع هبوط القوة الشرائية للدولار نفسه.
وقد كنت في مناقشة يومًا مع زميلي وأخي الدكتور علي السالوس، حول العملة الورقية إذا هبطت قيمتها هبوطًا فاحشًا، مثل العملة اللبنانية، والعملة التركية، والعملة السودانية، والعملة العراقية، وغيرها. وكان رأي السالوس: أن الديون القديمة تسدد باسمها لا بقيمتها. قلت له: لو أن الرجل الذي لي عليه 15000 ليرة لبنانية قال: أريد أن أبرئ ذمتي وأدفع لك الدَّين الذي عليّ بسعر اليوم، فهل يجزئه أن يدفع لي ما لا يكفي لأن أتغدى به في مطعم؟ قال الشيخ: نعم يجزئه، كان عليه مبلغ معلوم معدود، وقد أعطاك المبلغ بنفس العدد!.
ومنهم الأستاذ سعيد العبار صاحب (دار العربية) التي نشرت الطبعة الأولى من كتابي (مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام)، وللأسف كانت طبعة مليئة بالأخطاء إلى حد مثير. والحقيقة أنه لا يزعجني في النشر شيء كما تزعجني كثرة الأخطاء، ومنها أخطاء لا تغتفر، وأخطاء تفسد المعنى، وتناقض مقصود المؤلف، ومنها ما يسقط كلمات أو سطرًا أو سطورًا، وهو ما جعل علماء تركيا قديمًا يتوقفون في قبول (المطبعة) وإجازتها؛ خوفًا من تشويه كتب العلم والدين، لجهل أكثر عمال الطباعة بخلاف الناسخين الذين كانوا ينسخون الكتب قديمًا، فقد كانوا من أهل العلم والمعرفة.
ولا شك أن توقف علماء تركيا مرفوض، ولا يجوز ترك هذه المصالح العظيمة التي تقوم بها المطبعة خشية مفسدة الأخطاء الطباعية، وعلينا أن نتفاداها بما يمكننا من الوسائل، وحسن اختيار العاملين في الطباعة، وتصحيح (البروفات) ومراجعتها مرة بعد أخرى، حتى تخرج الكتب أقرب ما تكون إلى السلامة.
ومنهم الأستاذ رضوان دعبول، صاحب (مؤسسة الرسالة) الذي قدم من الرياض بعد أن كان يعمل بها مدرسًا للرياضيات، وقد بدأ يدخل ميدان النشر بتؤدة، ولكن بقوة، وكنت من أوائل الذين تعاونوا معه، وعقد معي عقدًا بنشر سلسلة (حتمية الحل الإسلامي) وأولها: (الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا)، ثم توالت كتبي عنده، وتطورت المؤسسة وتوسعت، حتى أصبحت تنشر الموسوعات، ولا سيما في علم الحديث ورجاله، وأصبح لديها مكتب للتحقيق يضم رجالاً من خيرة المتخصصين في العالم العربي، وخصوصًا من بلاد الشام، على رأسهم المحدث العلامة الشيخ شعيب الأرناؤوط، الذي سعدت بلقائه عدة مرات في منزل الأخ رضوان -أبي مروان في عمان- وهو رجل عالم ثقة متثبت هادئ النفس، بعيد عن الغلو والتفريط.
(العبادة في الإسلام):
وفي بيروت اتفقت مع (دار الإرشاد) لنشر كتابين لي، هما: (العبادة في الإسلام) و(الإيمان والحياة).
كان كتابي الأول الذي دخلت به معترك التأليف أو التصنيف العلمي هو: كتاب (الحلال والحرام في الإسلام)، وكان الكتاب الثاني هو كتاب (العبادة في الإسلام).
والذي دفعني إلى كتابته: أن مجموعة من علماء الأزهر كان على رأسهم الأستاذ النابه النشيط الشيخ رشاد خليفة، قد أسسوا دارًا للنشر سموها: (دار الجميع للنشر والتوزيع ). وأرادوا أن يبدءوا نشاطها بكتاب علمي يخاطب العقل والقلب معًا، ليصدر في غرة شهر رمضان بعد أشهر قريبة، وطلبوا مني أن أكتب شيئًا عن (العبادة) وقيمتها ومكانتها وأثرها في الإسلام بمناسبة شهر الصيام والقيام.
واستجبت لدعوة الإخوة، وشرعت أكتب عن العبادة، لا عن أحكامها العملية، التي يتناولها علم الفقه، ولكن عن (فلسفة العبادة). ولهذا كان علي أن أضع أمامي أسئلة أجهد في الإجابة عنها: ما العبادة؟ ومن نعبد؟ فقد عبد الناس في مختلف الأزمنة آلهة شتى ضلوا بها عن عبادة الله الخالق المعلِّم؟ ولماذا نعبد الله؟ وبماذا نعبده إذا عبدناه؟ وما المجالات التي عبد الله فيها: أهي الشعائر التعبدية المعروفة وحدها أم تشمل مساحة أوسع من ذلك؟ وماذا أصاب العبادة في الأديان السابقة من خلل وفساد؟ وما الإصلاح الذي جاء به الإسلام في مجال العبادة؟ فقد حرّرها من رقّ الكهنوت وجعل قبولها منوطًا بروحها لا بشكلها وطقوسها، ورفض الابتداع والتزيد فيها فحماها من المسخ والتحريف.
ثم ما أثر العبادات الكبرى في الإسلام في حياة الفرد والمجتمع من الصلاة والزكاة والصيام والحج؟
ثم ما هو المنهج الأمثل لتعليم العبادة؟ فقد لاحظت أننا نسيء إلى عبادتنا بطريقة تعليمها للناس.
وقد أخرجت الطبعة الأولى من الكتاب مختصرة لاستعجال الإخوة الناشرين لي، ثم أضفت إليه ما يقرب من حجمه في طبعته الثانية التي صدرت في بيروت.
كان من الرجال الذين حرصت على أن أهديهم كتابي (العبادة في الإسلام) بمجرد ظهوره أستاذنا البهي الخولي، وقد قرأ الكتاب بعناية، وقال لي: إني وجدت في ثنايا الكتاب روحًا ربانية شفافة، طالما أخفيتها عنا بمناقشاتك العقلانية، لقد خدعنا عقل الفقيه فيك عن قلب الصوفي! قلت له: هذه الروح يا أستاذ لا شك أنك أحد مصادرها الأساسية؛ فمنك اقتبسنا، وعليك تتلمذنا. ولا أرى تعارضا بين التوجه الرباني والنقاش العقلاني.
قال: هذا صحيح، إذا وضع كل منهما في موضعه.
(الإيمان والحياة):
ثالث كتاب صدر لي بعد (الحلال والحرام) و(العبادة في الإسلام) كان (الإيمان والحياة). وهذا الكتاب لم يطلبه أحد مني مثل الكتابين السابقين. ولكن فكرته انبثقت مني ومن داخلي.
فقد رأيت جل الذين يتحدثون عن العقيدة يعنون بإثبات الأدلة على صحتها، ولا سيما العقيدتين الكبيرتين والأساسيتين للأديان وخصوصا الكتابية، وهما: وجود الله تعالى، وثبوت الوحي والنبوة.
وقد استخدم المتكلمون قديما بعض الأدلة التي لم تخلُ من اعتراض، مثل قولهم: العالم متغير، وكل متغير حادث، ولا بد له من محدث، وهو: الله. وركز الفيلسوف ابن رشد على دليل الإبداع في الكون ودليل العناية. وهما في الحقيقة دليلان قرآنيان.
واتخذ الفيلسوف الألماني (كانت) من (الأخلاق) أو (الوازع الأخلاقي) دليلا على وجود الله…
إلى آخر ما ذكره الأستاذ عباس العقاد في كتابه (الله).
وتوسع بعض رجال العلم الغربيين في تعميق الدليل الكوني، وهو ما يشتمل عليه الكون من إبداع ونظام يستحيل أن يكون هذا كله قد تم من باب المصادفة، كما ناقش ذلك أ. كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه (الإنسان لا يقوم وحده) الذي رد فيه على كتاب جوليان هيكسلي بعنوان: (الإنسان يقوم وحده) أي مستغنيا عن خالق مدبر. وقد ترجم كتابه إلى العربية تحت عنوان (العلم يدعو إلى الإيمان).
كما شارك 30 عالما أمريكيا في كتاب ينحو هذا المنحى، وهو: إثبات وجود الله تعالى عن طريق العلم، ونشرت مقالات هؤلاء العلماء تحت عنوان (الله يتجلى في عصر العلم).
كنت أرى أننا في حاجة لبحث يثبت صحة العقيدة في الله، وفي الآخرة من زاوية أخرى غير الزاوية التي أشرنا إليها، وهي: آثار العقيدة المباركة في حياة الإنسان فردا ومجتمعا؛ فإذا كانت هذه العقيدة تثمر السكينة النفسية للفرد، وتمنحه الرضا والأمل والأمن والحب، فيحيا في ظلال سعادة روحية لا توازيها مُلك القصور والقناطير المقنطرة، كما أن لها أثرها في تزكية نفسه، وإحياء ضميره، وتنمية وازعه الأخلاقي، وإعطائه القدرة على الانتصار على طغيان غرائزه وشهواته، وعلى أن يتحكم في نزعاته وعاداته.
كما أن العقيدة لها أثرها في حياة المجتمع، وما المجتمع إلا أفراد تربطهم روابط مشتركة، فإذا صلح الأفراد بالعقيدة صلح المجتمع كله، كما أن البناء لا يصلح إلا بصلاح لبناته.
ومن فضل العقيدة أنها تقوي نزعة الغيرية والإيثار عند الفرد، فيلتحم بغيره، ويتعاون معه على البر والتقوى، ويجعل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.
إذا كان للعقيدة الدينية هذه الآثار الطيبة التي قرأناها في التاريخ، ولمسناها في الواقع؛ فلا يمكن أن تكون هذه العقيدة باطلا؛ لأن الباطل لا يمكن أن يكون من ورائه منفعة للناس، ولو نفع قليلا منهم لكان يضر بأكثرهم، ولو نفع في وقت معين فلا يمكن أن ينفع في المدى الطويل.
فحتى لو أخذنا بمذهب القائلين بالمنفعة (البراجماتيين) كان هذا اللون من البحث نافعا من هذا الوجه.
وعلى هذا الأساس بدأت أكتب هذا البحث وأنشره أولا مقالات في مجلة (نور الإسلام) التي تصدر عن إدارة الوعظ والإرشاد بالأزهر، وقد شدت هذه المقالات إخواننا من علماء الأزهر النابهين من الدعاة والكتاب والباحثين، أذكر منهم: الواعظ الأديب الأستاذ أحمد عبد الجواد الدومي رحمه الله الذي قابلني وأصر على أن يقبلني؛ لما قرأه من مقالات عن (العقيدة والحياة) وشجعوني على الاستمرار فيها.
ولكني لم أصدر هذه المقالات في كتاب إلا بعد أن أعرت إلى قطر، وأضفت إلى هذه المقالات فصولا جديدة، وعمدت إلى نشرها بعنوان (الإيمان والحياة)؛ فقد رأيت أن القرآن يستخدم بدل كلمة (العقيدة) كلمة (الإيمان)، وهي أدل على مقصدي من كلمه العقيدة؛ فلماذا لا أستعمل الكلمة القرآنية؟
وهي أيضا كلمه نبوية؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
وصنف الحافظ البيهقي كتابا من عدة مجلدات سماه: (الجامع لشعب الإيمان).
فلا غرو أن اتجهت نيتي لتسمية كتابي (الإيمان والحياة)، وهكذا ظهر الكتاب، وعرفه الناس، وطبع ما لا يقل عن 40 مرة، ولله الحمد والمنة.
زيارة العسال في طريقه إلى لندن
وفي أواخر أيامنا في لبنان سعدت بزيارة الأخ أحمد العسال وأهله لنا في حمّانا، وهو في طريقه إلى لندن للالتحاق بجامعة كمبردج للحصول على درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية.
وكان الأخ أحمد قد حزم أمره، بعد أن ادخر مبلغا من المال خلال السنوات الخمس التي قضاها في قطر، وآثر أن يدع قطر وعمله فيها للذهاب إلى الغرب، والاحتكاك بالمستشرقين، والاستفادة من مناهج البحث عندهم، وساعد الأخ أحمد على اتخاذ قراره خفة حمله، فلم يرزقه الله بأولاد، والأولاد -وإن كانوا هبة ونعمة من الله من ناحية- فهم عبء وحاجز من ناحية أخرى. لهذا لم يكن من الصعوبة أن ينفذ ما عزم عليه، ويرحل إلى بلاد الفرنجة، ليتعلم اللغة الإنجليزية ويتقنها، ثم ليتعلم المنهج من القوم، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، وقد كانوا في الزمن الماضي يأتون إلى جامعاتنا في الأندلس وغيرها ليتعلموا منها؛ فآن لهم أن يقضوا بعض ديونهم لنا، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
كنت فكرت فيما فكر فيه الأخ أحمد، وكم تشاورنا وتداولنا الأمر، ولكن وجدت الأولاد عقبة بالنسبة لي؛ فقد أصبح عندي 4 بنات، وتحتاج أسرتي إلى نفقة كبيرة في بلاد الغرب لم أدخرها بعد. على أني كنت آمل أن أحصل على الدكتوراه أولا من الأزهر، ولم أقطع رجائي منه بعد.
بقي الأخ أحمد ضيفا عندنا في حمانا نحو 3 أيام، ثم شد الرحال إلى مدينة الضباب؛ لينضم إلى الجامعة العريقة كمبردج، إحدى الجامعتين الشهيرتين في عالم الغرب هي وأكسفورد. وعمل مع المستشرق ذي النزعة الصوفية، الذي عمل معه كثير من الدارسين من العرب والمسلمين.. الأستاذ آربري، وكانت رسالته عن الإمام المحدث الفقيه الزاهد المجاهد: عبد الله بن المبارك وكتابه (الزهد).
العودة من لبنان إلى الدوحة
وكان لا بد للإجازة أن تنتهي، وما أسرع ما انقضت؛ لكأن أيامها ساعات، ولكأن ساعاتها دقائق. وهذا أبدا شأن الأوقات الطيبة، تمر مر السحاب، وتذهب كالبرق الخاطف.
وودعت الإخوة في لبنان بعد أن قضيت هذا الشهر في ربوعه، وعدت بأسرتي إلى الدوحة، بعد أن متعت عيني بجمال لبنان، وأمتعت صدري بنسيم لبنان، وأمتعت بطني بطعام لبنان، وأمتعت عقلي بمكتبات لبنان. وحملت معي بعض الكتب التي اشتريتها من لبنان، كما حملت أسرتي ما اشترته من ملابس وأمتعة من لبنان.
وما إن عدت إلى الدوحة حتى قابلتني أخبار مهمة ومقلقة؛ فقد قبض على 10 من الإخوان الذين كانوا يعملون في قطر، والذين لهم صلة بي، وبعضهم أنزلوه من الطائرة وقد ركبها متوجها إلى الدوحة، مثل الأخ أحمد المنيب -رحمه الله- الذي كان يعمل معي سكرتيرا للمعهد الديني، ومثل الأخ عبد الحميد طه، الذي كان يعمل مشرفا على إحدى المناطق التعليمية.
وأكثرهم اختطفوه من بيته من بين أهله وذويه، مثل الأستاذ عبد الحليم أبو شقة، والأستاذ محمد المهدي البدري، والشيخ عبد اللطيف زايد، والأستاذ رشدي المصري.
وقد أخذوا إلى (السجن الحربي) الذي جربناه من قبل، وقد تطورت أدوات التعذيب فيه أكثر من قبل، نتيجة للتطور أو التقدم العام في التكنولوجيا، وأول ما يتجلى فيه التقدم عندنا هو فن التعذيب، أو علم التعذيب!
وكان الجيش هو الذي يشرف على الاعتقال والتحقيق، بإشراف وزير الحربية شمس بدران، ومَن وراءه من ضباط القوات المسلحة. التي خاضت معركة لا مبرر لها مع أبناء شعبها، بدل أن تتجه إلى العدو الذي يهدد وجودها على حدودها الشمالية.
وبالتحقيق مع الإخوة العاملين في قطر، وسؤالهم عن التنظيم الإخواني فيها.. اجتمعت كلمتهم -دون توافق- على أنه لم يوجد تنظيم في قطر، بل كان لقاء أسبوعيا بعد صلاة الفجر في كل يوم جمعة في بيت من بيوت الإخوة، نقرأ فيه الأدعية المأثورة، وقد تلقى كلمة روحية، ثم يتناول الجميع الفطور معا، وينصرفون بعد ذلك.
وقد سئلوا جميعا: من رئيس الجلسة؟ ومن الداعي إليها؟ فقالوا: القرضاوي والعسال، وأعادوا السؤال: أيهما الرئيس؟ فقالوا: لا رئيس.
وسألوا: هل طُلب منكم اشتراك مالي؟ فكان جواب الجميع: لا.
وصدقهم المحققون؛ إذ لا تنظيم بلا رئاسة ولا بيعة ولا اشتراك.
وأفرج عن عدد منهم، وسمح لهم بالرجوع إلى الدوحة في وسط المعمعة، والرحى دائرة، أذكر منهم الإخوة: عبد الحليم أبو شقة، وعبد الحميد طه، ورشدي المصري.
ولكنهم استبقوا آخرين لعدة سنوات، منهم: الشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ محمد المهدي البدري، والأستاذ أحمد المنيب.
ومما فوجئنا به كذلك اعتقال صهري شقيق زوجتي: الأستاذ سامي عبد الجواد، الذي أخذوه من عمله، وكان يرأس مأمورية الشهر العقاري بمدينة زفتى، وكان حديث العهد بالزواج، وقد رزق طفله الأول منذ أسابيع، وكان وقع اعتقاله شديدا على زوجته وعلى والدته، التي صدمها هذا الاعتقال صدمة عنيفة.
والحمد لله أني لم أكن بمصر، ولم أنزل إليها في ذلك الصيف، وعافاني الله من تلك المحنة التي كانت أقسى من محنة 1954م، والمؤمن يسأل الله العافية، ولا يتمنى البلاء؛ فإذا وقع استقبله بصبر المؤمنين، وإيمان الصابرين، تاليا قول الله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) النحل: 127، 128.
ولو كنت نزلت في تلك الإجازة لأُخذت كما أخذ إخواني، وتحقق ما كان يخشاه صهري والد زوجتي، حينما خطبتها، وقال لحماتي أم سامي: أتريدين أن يؤخذ ابنك وزوج ابنتك جميعا؟ فالحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين.
والواقع أن الأخ سامي والألوف من إخوانه أخذوا بلا سبب؛ فلم يكن له -كما لم يكن لغيره- أي نشاط، وكان مشغولا بعمله وبيته لا أكثر من ذلك، ولكن القرار صدر باعتقال كل من اعتقل مرة أخرى من قبل، سواء سنة 1948، أو 1954 أو ما بينهما.
وكان هذا من صنع الله للإخوان؛ فالكثير منهم كانوا قد هجروا العمل العام، وشغلوا بشأنهم الخاص، ولم تعد الدعوة أكبر همهم، ولا محور تفكيرهم، وملتقى آمالهم، كما كانت من قبل، كان كثير منهم يقول: نفسي نفسي، لا دعوتي دعوتي، وحسبوا أن هذا سيعفيهم من محن المستقبل، وابتلاءات الزمان، ثم اكتشفوا أن هذا لم يغنِ عنهم شيئا، ولم يردّ عنهم قليلا ولا كثيرا؛ فكان هذا درسا علمه لهم القدر.. أنهم جند الدعوة شاءوا أم أبوا، قربوا أم بعدوا، فليحملوها راضين حتى يكسبوا الأجر، بدل أن يحملوها ساخطين وعليهم الوزر.
أما محنة الإخوان في سنة 1965م التي نجانا الله منها، وعلم أن فينا ضعفا، وما فيها من أهوال وكروب تخر لها الجبال هدا، فحديثنا عنها إن شاء الله نرجئه إلى الجزء الثالث، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
د. يوسف القرضاوي
هكذا تمر اللحظات الرائعة سريعة كلمح البصر ولا نفيق من نشوة الانغماس بها إلا ونجدها قد انقضت.. ونحن في شوق إلى الجزء الثالث من المذكرات في رمضان القادم إن شاء الله بعد هذه الرحلة الشائقة الممتعة في عقل وفكر وقلب وذاكرة العلامة الكبير القرضاوي، ونسأل الله أن يعطيه الصحة والعافية والبركة، وأن يجزيه خيرا على مسيرته المباركة..
في إجازة نصف السنة الدراسية من سنة 1963م قمت برحلة مع طلاب المعهد الديني إلى المملكة العربية السعودية، فقد كانت وزارة المعارف في قطر توسع على الطلاب في إجازة نصف العام من كل سنة دراسية. وتبعث بالطلاب في رحلات علمية تخدم دراستهم، إلى البلاد المجاورة، وتختار من كل مدرسة عددًا يشاركون في هذه الرحلة، وقد كانت الجهات التي يذهبون إليها تستضيفهم، في حين تعطيهم الوزارة (مصاريف جيب) في يد كل واحد منهم.
وقد كنت مخيرًا بين دول الخليج، فاخترت المملكة العربية السعودية، فهي أليق بالمعهد الديني وطلابه، وطلبت من الوزارة أن يشترك أكبر عدد من طلاب المعهد في هذه الرحلة، باعتبار أن عددهم محدود، وباعتبار هذه الرحلة لونًا من التربية العملية المطلوبة؛ لما تشتمل عليه من أداء العمرة، ووافقت الوزارة مشكورة على ذلك. واخترت معي الأخ الكريم الشيخ عبد اللطيف زايد مرافقًا ومشاركًا في الإشراف على الطلاب. وكان حسن الصلة بهم، محببًا إليهم، يتعامل معهم بالرفق وبالحزم معًا، وهذا هو المطلوب. ثم هو قريب مني كما أني قريب منه، فهو ابن الدعوة، وابن الغربة، وهو من الناس الذين يؤثرون على أنفسهم. ومثل هذا يُربح في السفر، وقد قال الأقدمون: الرفيق قبل الطريق والجار قبل الدار. كما اخترت أيضًا أحد مدرسي المعهد المهذبين، وهو الأستاذ بشير عزام، مدرس المواد الاجتماعية، وهو فلسطيني الجنسية، وكان ذا خلق كريم، وحسن العلاقة بالطلاب.
وقد اشترك عدد كبير من طلاب المعهد في هذه الرحلة، لم أعد أذكر عددهم. وكان المقرر أن نزور أربع مدن: الرياض، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة، هكذا على الترتيب.
زيارة الرياض
د. العسال
وكانت البداية بالرياض، وهي أول مرة أزورها، وكانت في هذا الوقت صغيرة محدودة المساحة، لم يتطور عمرانها إلا قليلاً، مثل منطقة (الملزّ). وقد نزلنا بها في فندق.
وكان هناك عدد من المؤسسات والشخصيات يجب علينا زيارتها.
وأبرز الشخصيات التي لقيناها وأهمها هي شخصية سماحة العلامة الشيخ محمد إبراهيم آل الشيخ المفتي الأكبر للمملكة، وأشهر علمائها، وقد طلب منا أن نلقاه في مجلسه بمنزله القديم، ورحب بنا، وسألني عن المعهد فأعطيته فكرة موجزة عنه، وأنه يجمع بين القديم والحديث، وأن الطلبة يدرسون فيه ما يدرس زملاؤهم -تقريبًا- من العلوم والرياضيات واللغة الإنجليزية، ويزيدون على ذلك التوسع في العلوم الشرعية والعربية.
قال لي: ألا تعتقد أن دراسة الطالب الشرعي لهذه العلوم الحديثة تؤثر على مستواه الدراسي في علوم الشريعة واللغة؟
قلت: بلى، ولكننا مضطرون إلى ذلك؛ لئلا يعيش الطالب معزولاً عن عصره، وحتى إذا قدر له أن يشتغل بالدعوة أو بالفتوى كان عالمًا بواقع من يدعوهم ويخاطبهم بلسانهم؛ ليبين لهم، وعالمًا بواقع من يفتيهم، وتعلم سماحتكم أن المحقق ابن القيم قال: الفقيه الحق هو من يزاوج بين الواجب والواقع، وقد قال ذلك في شرح ما روي عن الإمام أحمد فيما يلزم المفتي، وهي خمس خصال، منها : معرفة الناس، وقد طور الأزهر معاهده، وأدخل فيها اللغة الأجنبية، وتوسع في العلوم الحديثة، ولا يسعنا إلا أن نعيش عصرنا، وفي الأقوال المأثورة: رحم الله امرأ عرف زمانه، واستقامت طريقته.
قال: ماذا تدرسون في العقيدة؟
قلت: ندرس (العقيدة الطحاوية).
قال: حسن، وماذا تدرسون في الفقه؟
قلت: ندرس كتاب (منار السبيل شرح الدليل).
قال: جيد.
وقد بقينا عند الشيخ ما يقرب من ساعة، ثم تكاثر طلاب الفتاوى وغيرها عليه، فطلبنا الإذن من سماحته، وأذن لنا في الانصراف، داعيًا لنا بالتوفيق، وشاكرين له حسن استقباله، وبعد أن حمّلنا أمانة السلام على مشايخ العلم في قطر.
ومن أهم المؤسسات التي زرناها: إدارة الكليات والمعاهد، فلم تكن (جامعة الإمام محمد بن سعود) قد أنشئت بعد، وقد كان مدير هذه الكليات هو فضيلة الشيخ عبد العزيز المسند، الذي تحدث إلينا وتحدثنا إليه حديثًا وديًّا، ثم هيأ لنا زيارة الشيخ مناع القطان المدرس بكلية الشريعة والذي أضحى له فيها قدم راسخة، وتلاميذ ومريدون، وقد أعير إلى الرياض منذ سنة 1954م ونجّاه الله من محن الإخوان في عهد الثورة، وقد استقر في الرياض، وعرفه كبار المسؤولين فيها، وكان له عندهم شأن ومقام، وحصل على الجنسية السعودية مع عدد من الإخوان، وأصبح هو الناطق الرسمي باسم الإخوان في المملكة، وكثيرًا ما حل الله على يديه مشكلات شتى لإخوان كثيرين من مختلف الأقطار.
وكانت فرصة اللقاء بالشيخ مناع لتجديد الذكريات، فقد كنا نسكن معًا في شقة واحدة أيام الكلية، وهي شقة راتب باشا الشهيرة، وكنا نعمل معًا في قسم الطلاب بالإخوان، وفي اتحاد كلية أصول الدين.
وقد زرنا أحد الفصول مع طلابنا، وكان المدرس كفيفًا، وفي أثناء جلوسنا لاستماع بعض الدروس سمع الشيخ صوتًا، فانتبه الشيخ، وقال: ما هذا؟ قالوا له: أحد الطلاب الضيوف، التقط صورة للفصل، فقال: يا سبحان الله طلبة علم وتستخدمون التصوير، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المصورين، وقال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون".
فتدخلت وقلت: يا فضيلة الشيخ، ما ورد في الحديث على أعيننا ورأسنا، ولكنه لا يعني هذا النوع من التصوير الذي يسميه أهل الخليج (عكس)؛ لأنه مجرد عكس للصورة كما تنعكس الصورة على المرآة، والأحاديث النبوية علّلت لعن المصورين بأنهم يضاهون خلق الله، وهذا التصوير الحديث هو خلق الله نفسه. وانصرفنا، وما أظنه اقتنع بكلامي.
وقد زرنا وزارة التربية والتعليم، وكان وزيرها الرجل الفاضل المعروف معالي الشيخ حسن عبد الله آل الشيخ، ولم تُتح لنا فرصة زيارته، أحسبه كان غائبًا عن الرياض. وقد زرنا مبنى الوزارة واستقبلنا وكيلها المعروف الأستاذ عبد الوهاب عبد الواسع، وتحدثنا معه حول التربية بصفة عامة، والتربية الإسلامية بصفة خاصة.
كما زرنا (معهد العاصمة النموذجي) الذي كان يسمى من قبل: (معهد الأنجال) أي أنجال الملك عبد العزيز، وتغير إلى هذا العنوان الجديد، وأريد بـ(العاصمة): الرياض، ويقصد بهذا تثبيت عاصميّتها في الأذهان، وكان مدير المعهد المربي الكبير الأستاذ عثمان الصالح، الذي كنا قد سعدنا بزيارته في قطر من قبل، وفي المعهد التقينا بالأخ الكريم المربي الفاضل الأستاذ علي فودة نيل (د. علي بعد ذلك) أستاذ اللغة العربية المتمكن.
إلى مكة المكرمة
ومن الرياض اتجهنا إلى مكة المكرمة، عن طريق الطائرة (فتَذْكرتنا: الدوحة – الرياض – جدة) مستعدين بملابس الإحرام التي صحبناها معنا من الدوحة، وعندما حاذينا الميقات: أحرمنا ونوينا العمرة، ولبّينا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك اللهم عمرة.
ونزلنا جدة في مطارها القديم، ولم نقم بجدة، بل توجهنا مباشرة إلى مكة المكرمة لأداء النسك: نسك العمرة، التي هي الحج الأصغر. وطول الطريق نلبي ونكبر ونسبح ونهلل ونحمد، وندعو الله تعالي، ونحن في حالة من الرقة والخشوع، تزداد كلما اقتربنا من مكة ومن البيت الحرام.
وقد أنزلتنا وزارة المعارف في إحدى مدارسها هناك، ومنها انطلقنا لتأدية مناسك العمرة، وما أعظم فرحتنا، وأعمق سعادتنا، حين يرى المسلم المسجد الحرام والبيت الحرام، وبعضنا يراه لأول مرة، لقد دخلنا المسجد قائلين: نعوذ بالله العظيم، ووجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، اللهم إني أسألك من فضلك، اللهم افتح لي أبواب رحمتك.
وطفنا بالكعبة سبعًا، بادئين من الحجر الأسود، الذي استطعنا أن نقبله في أكثر أشواط الطواف، فقد كان الوقت غير مزدحم، وفي بعض الأشواط أشرنا بأيدينا، وفي كل الأشواط التمسنا الركن اليماني، وقد عرفنا أنه لم يَرِد أدعية في الطواف غير ما كان يدعو به صلى الله عليه وسلم بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخر حسنة وقنا عذاب النار".
يا عجبًا! أي سر في هذا الحجر الأسود الذي يقبله المسلم كأنما يقبل شفتي حبيب بعد شوق وغياب طويل؟! وهو يقبله ويقول ما قال عمر: إني أقبلك وأنا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. هذا هو اعتقاد كل مسلم، ولكنه يعتبره رمزًا كالرموز التي عبّر عنها الشعراء قديمًا في شعرهم:
أمرّ عـلى الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
والذين لا يدركون سر هذه اللغة الرمزية ولا يتذوقونها يتوهمون أن المسلمين يعبدون الحجر أو يقدسونه، والمسلمون أبعد أمم الأرض عن تقديس الأحجار. وقد قام دينهم على التوحيد الخالص: إفراد الله بالعبادة والاستعانة "إياك نعبد وإياك نستعين".
عدا ذلك يدعو الطائف بما يشاء من الأدعية ويتعبد بما يشاء من الأذكار وتلاوة القرآن.
وبعد الطواف صلينا خلف مقام إبراهيم ركعتين خفيفتين حسب السنة، قرأنا في الأولى: "قل يا أيها الكافرون" (الكافرون) وفي الثانية: "قل هو الله أحد" (الإخلاص)، وكان المقام قريبًا جدًّا من الكعبة، وكان يعوق حركة الطواف، ولم يكن قد نقل إلى مكانه الحالي، فقد كان العلماء مختلفين حول مشروعيه نقله، حتى ألهمهم الله الصواب، ونقلوه من مكانه ويسروا على الطائفين من الحجاج والمعتمرين.
ثم وقفنا عند (الملتزم) المكان الذي تسكب فيه العبرات، ويتضرع المتضرعون، ويندم التائبون، ويستغفر المستغفرون، ووقفنا نبكي مع الباكين على تفريطنا في جنب الله، فإن لم نجد بكاء تباكينا، وتشبهنا بالصالحين، كما قال القائل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح
ثم ذهبنا إلى زمزم، بعد أن أصبحت (حنفيات) ولم تَعُد بئرًا كما كانت من قبل يغترف الناس منها بالدِلاء.. ولكن قبل نقلها إلى شكلها الحالي، وشربنا من مائها في أوعيتها الفخّارية القديمة، ولم يكن مبردًا كما هو اليوم، ودعونا الله تعالى بالدعاء المأثور: اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وشفاء من كل داء. ومنها صعدنا إلى الصفا، ووقفنا على ربوتها، واتجهنا إلى الكعبة ناظرين إليها وقلنا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: وتلونا قول الله تعالى: "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ" نبدأ بما بدأ الله به، وبدأنا السعي بين الصفا والمروة -كما أمر الله ورسوله- سبعة أشواط داعين ذاكرين مسبحين مهللين مكبرين، أما التلبية فقد انقطعت عندما بدأنا الطواف عند الحجر الأسود.
وبعد أن انتهى الشوط السابع عند المروة، حلق منا من حلق، وقصّر منا من قصر، وكنت ممن قصّر، فأنا شديد الحساسية للبرد، وكنا في أواخر شهر يناير وأوائل شهر فبراير، صحيح أن مكة لا يُخشى فيها البرد ولكن أمامنا المدينة.
وهكذا كسبنا العمرة -وهي أول عمرة تطوّع لي بعد العمرة التي أديتها مع فريضة الحج متمتعًا- التي أسال الله أن تكون عمرة مبرورة، وكسبها طلاب المعهد، وعرفوا أحكام العمرة عمليًّا، وعرفوا معها أهم أعمال الحج وهي: الإحرام والطواف والسعي والحلق والتقصير، ولم يبق إلا الوقوف بعرفة، والنزول بمزدلفة، ورمي الجمار، وهي أمور سهلة.
أذكر كأنما أصابتني وعكة، ربما من برد الرياض، فقد قالوا: إن بردها شديد، كما أن حرها شديد، وقد كان المكان الذي نزلنا به ليس فيه تدفئة، فأحسسنا هناك بلذعة برد، قد يكون هذا من أثرها.
ويبدو أن هذه الوعكة حرمتني من الذهاب مع الشيخ عبد اللطيف والشباب إلى غار حراء، ثم غار ثور في اليوم الذي بعده، وقد تعب بعض الشباب من صعودهم إلى الغار، وبعضهم انقطع في منتصف الطريق، وقال لي الشيخ عبد اللطيف: إن طريق غار ثور أشد وعورة وصعوبة من غار حراء.
قلت: رضي الله عن خديجة بنت خويلد التي كانت تذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتحنث -أي يتعبد- في غار حراء قبل البعثة، وتأتي إليه بالطعام والزاد، وهي رضي الله عنها في حوالي الخمسين من العمر، ورضي الله عن ذات النطاقين أسماء بنت أبى بكر، التي كانت تذهب طيلة أيام اختفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في غار ثور، حاملة الطعام والأنباء إلى الرسول وأبيها "ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار" على حين يعجز شباب هذا القرن عن أن يصلوا إلى الغار.
كنا نود أن نعرف أين ولد الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ولكن إخواننا من المشايخ ضنوا علينا بذلك، مع أن المثل يقول: أهل مكة أدرى بشعابها. والظاهر أن إخواننا من المشايخ يحسبون أن البحث عن هذه الآثار قد يؤدي إلى تقديسها، وهذا ضرب من الشرك يجب سد الذريعة إليه؛ ولهذا طُمس كثير من الآثار التاريخية المهمة بسبب هذا الخوف المرضي أو شبه المرضي.
ولا أذكر أننا فعلنا شيئًا في مكة أكثر من ذلك غير الصلاة في المسجد الحرام، الذي جعل الله الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد العادية، ومثل ذلك عبادة الطواف كلما أتيحت الفرصة، وما أكثر ما تتاح في غير أوقات الزحام، والطواف هو نصف العمرة؛ إذ جوهر العمرة طواف وسعي.
إلى المدينة
بعد أن أنهينا أيامنا في مكة، وما أطيبها وأعذبها وأبركها، يممنا وجوهنا شطر المدينة المنورة، حيث مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثاني مساجد الإسلام التي لا تُشد الرحال إلا إليها، والروضة الشريفة التي جاء فيها الحديث "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، وحيث القبر الشريف الذي ضم أعظم صفوة خلق الله، وخاتم رسل الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والبشير النذير، والسراج المنير، محمد عليه أزكى الصلاة والتسليم.
محمد ســيد الكونين والثقلين والفريقين من عُرب ومن عجم
هو الحبيب الذي تُرجى شفاعته لكل هولٍ من الأهـوال مقتحم
ذهبنا إلى المدينة من مكة عن طريق البر، ركبنا حافلة (باصًا) أخذنا ما يقرب من يوم، فقد كان الطريق غير طريق اليوم، كان معظمه طريقًا واحدًا، وكان كثير التعاريج ولم يكن حسن الرصف، وكنا ننزل في الطريق للاستراحة أو للصلاة أو للغداء، أظننا تغدينا سمكًا في (مستورة) وكانت الاستراحات أو (المقاهي) على الطريق بدائية في تجهيزاتها، وفي دورات المياه التي بجوارها، الفارق كبير كبير بين الأمس واليوم، ولا يستطيع أن يعرف قيمة التطوير الحادث الآن إلا من رأى الوضع القديم وما كان عليه.
وبمجرد أن وصلنا إلى المدينة وحططنا رحالنا في المكان الذي أنزلونا فيه، لم نطق صبرًا أن نجلس في بيوتنا، إلا أن نذهب مسرعين للصلاة في الروضة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه.
إنه الحب والشوق والحنين إلى السلام على رسول الله، كأنما هو حي، وكأنما سنراه وجهًا لوجه، وكأننا سنصافحه بأيدينا، وشيء من هذا لا يحدث قطعًا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ميت، ولا نستطيع أن نراه ولا أن نصافحه، وقد قال تعالى له: "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ" (الزمر: 30) وقال: "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ" (الأنبياء: 34)، وقال: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ" (آل عمران: 144).
ولكن عاطفة الحب لا تعترف بهذه الحواجز المادية بين المحب والحبيب، بل لا تعتبر الموت حائلاً بين الحبيب وحبيبه، وقد يغلو بعضهم في هذا الجانب حتى زعموا أن أحد الصالحين وقف عند القبر النبوي، وأنشد بيتين من الشعر، يحيي بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمدّ الرسول الكريم إليه يديه من قبره يصافحه والآلاف ينظرون ذلك!.
وهذا بلا ريب من أوهام المحبين، وتهاويل العاطفيين، وشطحات المتصوفين، ولو جاز أن يحدث هذا لحدث لكبار الصحابة مثل أبي بكر وعمر، ولنسائه أمهات المؤمنين، ولآل بيته: علي وفاطمة أحب الناس إليه، وسبطيه: الحسن والحسين، رضي الله عن الجميع. ولا ريب أن شيئًا من ذلك لم يحدث لأحد منهم.
إلى جدة
ثم انتقلنا إلى (جدة) بالحافلة أيضًا (الباص) نستريح في الطريق من فترة إلى أخرى للصلاة والغداء، حتى وصلنا جدة آخر النهار، ونزلنا في (فندق الحرمين) من فنادق جدة القديمة. وكان شأن جدة شأن الرياض والدوحة، وسائر مدن الخليج في تلك الفترة، كلها تبدأ الخطوات الأولى في طريق التطور العمراني والحضاري. إنها جدة القديمة بشوارعها وحاراتها القديمة، وأسواقها القديمة، ومبانيها القديمة، وطرزها القديمة، ومساحتها المحدودة.
ولا أذكر الآن من الشخصيات التي زرناها غير شخصية واحدة، تُعَدّ في العلماء، وتُعدّ في الوجهاء، وتعدّ في أهل الخير، إنه الرجل الذي إذا ذُكرت جدة ذُكر معها. إنه الشيخ "محمد نصيف" الذي حرص على أن نزوره في الصباح لنتناول جميعًا الفطور عنده، وقد حدثنا عن تاريخ المنطقة، وما كانت تعانيه قديمًا، وفضل مصر على أهل هذه البلاد في أيام الضيق والعسرة، وارتباط مصر بالحجاز من زمن بعيد، وتصاهر كثير من العائلات في البلدين. وهذا صحيح وملحوظ؛ فأهل الحجاز أقرب في سلوكهم وعاداتهم بأهل مصر، حتى كثير من الكلمات والمصطلحات تجدها مشتركة بين الحجاز ومصر.
فتجد أهل الحجاز يسمون الخبز (العيش) كما يسميه المصريون، ولا يسمون الأرز (العيش) كما يسميه أهل نجد وغيرهم.
وقد أطلعنا الشيخ نصيف على مكتبته الحافلة بالكتب في شتى التخصصات، ولا سيما الشرعية واللغوية والأدبية والتاريخية، كما أنها حافلة بالمخطوطات التي كان للشيخ عناية خاصة بجمعها والحفاظ عليها، والمعاونة على نشرها.
كان بيت الشيخ "مَعْلمًا" في جدة، لا يكاد يمر عالم أو داعية أو شخصية ذات وجاهة في قومها إلا مرت بالشيخ وسلمت عليه.
وكان عند داره شجرة قديمة، يبدو أنها كانت الشجرة الوحيدة في جدة في وقتها؛ فكان المنزل يُعرف بالمنزل الذي أمامه الشجرة، حتى كان سعاة البريد يعرفونه بهذا، فلم تعرف جدة التشجير إلا بعد ذلك، وقد أصبح فيها اليوم ملايين الأشجار والنخيل وغيرها.
لم يقدر لي أن ألقى الشيخ محمد نصيف بعد ذلك إلا مرة واحدة في بيروت في منزل صديقه وصديقنا الشيخ زهير الشاويش الناشر والمحقق المعروف صاحب المكتب الإسلامي، وقد التُقطت لنا صورة تذكارية مع الشيخ في منزل الشاويش، أحسبه محتفظا بها؛ فقد كان يعتز بعلاقته بالشيخ نصيف، رحمه الله.
وبعد جدة عدنا –بحمد الله وتوفيقه- إلى قطر، حاملين معنا بعض التمر من المدينة، وبعض الأسوكة من مكة، وبعض ما يُشترى من الأسواق من جدة. وفوق ذلك ذكريات لا تنسى، ونفحات نحس آثارها في قلوبنا وأرواحنا؛ فعندنا -أهل السنة- أن عمل الصالحات يزيد في الإيمان. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الحج مع العائلة
وبعد سنتين من حجي الأول بمفردي اجتهدت أن أحج أنا والعائلة، وقد فكرت أنا ومجموعة من المدرسين وموظفي وزارة المعارف في قطر أن نخرج باعتبارنا بعثة من وزارة معارف قطر، وترسل الوزارة إلى وزارة معارف السعودية لتؤدي لنا بعض الخدمات، مثل إعطائنا مدرسة في مكة، وأخرى في المدينة. وكلمنا الوزارة في ذلك، فرحّبت بالفكرة، وكلفتني برئاسة البعثة، وخاطبت الجهات المسؤولة في معارف السعودية، ورحبوا بنا ووعدوا أن يقدموا لنا من التسهيلات ما يساعدنا على أداء مناسكنا بيسر وسهولة.
وكنا عددًا من المدرسين والموظفين الإداريين بالوزارة، كل واحد مع عائلته، أذكر منهم الإخوة: عبد اللطيف زايد، وعلي جمّاز، وعبد الرحمن الجبالي، ويوسف السطري، ومحمد عبد الظاهر، وغيرهم.
وقد استأجرنا طيارة خاصة (شاوتر) لتقوم بنقلنا إلى جدة، ثم تعود بنا من جدة إلى الدوحة، وكانت طائرة قديمة من طائرات الخليج العتيقة، تعمل بالمراوح، وأذكر أنها أخذت منا أكثر من أربع ساعات، وكانت معظم وقت الرحلة تهتز وتتأرجح، حتى وجدت أكثر ركاب الطائرة -وخصوصًا من النساء- يتقيئون، ولا سيما أن للإيحاء والمحاكاة والمشاركة الوجدانية أثرها في مثل هذا الأمر.
وقد نزلنا هناك في مدرسة قريبة نسبيًّا من الحرم، واقتسمناها بالسوية، كل حسب عياله وحاجته، وكثيرا ما تشترك عائلتان في حجرة واحدة، ينام الرجال متجاورين، والنساء متجاورات. وفق منطق الضرورات التي تبيح المحظورات.
وكانت معي زوجتي وبناتي الأربع الصغيرات، وأصغرهن "أسماء" التي كان عمرها نحو ستة أشهر، وكانت أمها تحملها على عاتقها في الطواف وفي السعي، وكان الأخ الشهم الكريم محمد عبد الظاهر -وهو رياضي فارع الجسم- كلما رآها خطفها منها، وحملها على عاتقه، رحمه الله وغفر له، وجزاه خيرًا.
كان هذا هو الحج الوحيد الذي عانيت فيه كما يعاني الناس، وربما أكثر من الناس في بعض الأحيان؛ فقد نمنا على البلاط في هذه المدرسة، وعانينا أحيانًا من قلة الماء، وفي منى وعرفات كنا مع أحد المطوفين ونزلنا في الخيام، ونمنا على الحصى، وشعرنا بمشقة الحج، كما يشعر الآخرون. وهذا من الحكم التي شرعت لها هذه العبادة العظيمة "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ".
وفي المدينة نزلنا في إحدى المدارس عدة أيام، ثم رأينا أن نرفه أنفسنا، فانتقلت أنا وأولادي إلى فندق التيسير القديم لعدة أيام أحسسنا فيها بالرفاهية والراحة.
لقاء مع الشيخ السباعي
مصطفى السباعي
في هذا الموسم لقيت عددًا من الشخصيات، لعل أبرزهم وأهمهم: العلامة الفقيه الداعية القائد: الشيخ مصطفى السباعي قائد الدعوة الإسلامية في سوريا.
وقد جلست معه طويلاً، وتحدث إليّ طويلاً وتحدثت إليه قليلاً، وأخص إليّ بذات نفسه، وأسمعني من قصائده العاطفية التي تفيض حبًّا وشوقًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قصيدته الشهيرة:
احملوني إلى الحبيب وروحوا واتركوني ببابه واستريحوا
وكان الشيخ ينشد هذه الأبيات ودموعه تسيل على خديه تأثرًا وحبًّا للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وذكر الشيخ لي معاناته وآلامه في المدة الأخيرة، وكيف ذهب إلى أوروبا للعلاج، وكيف وجد في كل مدينة يذهب إليها إخوة ينتظرونه، وقد رتبوا له كل شيء: الفندق الذي ينزل به، والمستشفى الذي سيعالج فيه، والطبيب الذي سيتولى فحصه والإشراف عليه، وكل ما يلزمه من دقائق الأمور وجلائلها، يقول: فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، وبدافع من الأخوة الإيمانية، وأنا والله لا أعرفهم، ولا هم من بلدي، ولكنه سر الدعوة التي أزالت الحواجز بين الناس، وقربت أهل الإيمان حتى كأنهم أسرة واحدة؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
كانت هذه هي المرة الثالثة التي ألقى فيها العلامة السباعي؛ فقد لقيته أول مرة عندما زارنا في مدينة المحلة سنة 1953م على ما أذكر، وألقى محاضرة رائعة شهدها جمهور كبير، واستمر نحو ساعتين، والناس مشدودون إلى المحاضر بأعينهم وعقولهم ومشاعرهم، لم يبرح أحد مكانه. وقلما يحدث هذا والداعية غير مصري.
والمرة الثانية كانت عندما جمعني به الأستاذ الدكتور محمد البهي على حفل شاي في فندق شبرد على ما أذكر، وأهداني كتابه (الاشتراكية في الإسلام).
والثالثة هذه المرة في رحاب المسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا. وكان هذا هو اللقاء الأخير بالأخ الكبير والأستاذ الجليل، وكانت أحاديثه معي كأنما هي أحاديث مودع، فما هي إلا أشهر قليلة حتى اختار الله الشيخ لجواره، ولحق بالملأ الأعلى راضيًا مرضيًّا إن شاء الله. أحوج ما تكون الأمة إلى مثله في علمه وفكره وإيمانه وخلقه وتوازنه، ولكنها سنة الله في خلقه "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت" (آل عمران: 185)، وكذا قال الله لخاتم رسله: "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون" (الزمر: 30).
ولكن عزاءنا فيه: أن العلماء الربانيين لا يموتون، تذهب أجسامهم، وتبقى آثارهم، في كتب تقرأ، أو أشرطة تسمع، أو مواقف تؤثر، أو تلاميذ يعلمون الناس. وبهذا يضيفون أعمارًا إلى أعمارهم، فإن عملهم موصول، وأثرهم لم ينقطع بالموت.
ففز بعلم تعش حيًّا به أبدا الناس موتى وأهل العلم أحياء!
كان الشيخ السباعي أحد الشخصيات الإسلامية النادرة: في علمها وفكرها، وفي عواطفها ومشاعرها، وفي أخلاقها وسلوكها، وفي دعوتها وجهادها. كان خطيبًا وسياسيًّا يهز أعواد المنابر، ومحاضرًا يأسر سامعيه بعميق فكره، وجميل أسلوبه، ومؤلفًا متمكنًا يوثق أقواله بالأدلة العلمية، وزعيمًا شعبيًّا يقود الجماهير بكياسة وحكمة، وقائدًا إسلاميًّا يقود سفينة الدعوة بوعي وصبر وثبات.
كان للشيخ السباعي عدة مؤلفات هامة في موضوعها، أصيلة في فكرتها. منها كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)، وقد رد فيها على خصوم السنة قديمًا وحديثًا، وفنّد شبهاتهم. رد على المستشرقين، وعلى أحمد أمين، وعلى أبو رية، وكتابه (أضواء على السنة المحمدية) الذي كشف زيفه، وعراه، وأسقطه مثخنًا بالجراح، بالبراهين العلمية، وبالرجوع إلى المصادر الموثقة لا إلى كتب الأدب والتاريخ ونحوها كما فعل أبو رية. وقد حدثني الشيخ السباعي: أن أبو رية زاره عندما جاء إلى مصر، وقال له: إنه كان شديد القسوة عليه، وأن ضرباته له كانت موجعة، وقال الشيخ: إني لم أحد عن المنطق العلمي قيد شعرة، ولم أعتمد على مصدر تافه، ولا على قول واهن السند، ولا على قول أحد مطعون في علمه أو دينه. وهل تريدني أن أرفق بك، وأنت لم ترفق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- ولا بأصحاب رسول الله، ومنهم أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة رواية عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا بأئمة المسلمين المتفق على جلالتهم وفضلهم وسعة علمهم وأمانتهم؟ هل تريد مع هذا أن أسميك (شيخ الإسلام)؟!!
ومن كتب الشيخ المهمة والذائعة الصيت (اشتراكية الإسلام) وهو كتاب علمي أصيل يعتمد على الأصول الإسلامية من القرآن والحديث وقواعد الشريعة ومقاصدها، وللشيخ فيه آراء عميقة، واجتهادات متميزة، وإن خالفها بعض مشايخ سوريا المعروفين مثل شيخ حماة وخطيبها محمد الحامد. ومن العلماء من لم يعترض على مضمون الكتاب، إنما اعترض على العنوان، وهو نسبة الاشتراكية للإسلام، ورسول الإسلام لم يكن اشتراكيًّا ولا رأسماليًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين.
وإنما اختار الشيخ هذا العنوان حين فتن الناس بالاشتراكية، وزعم من زعم أنها هي المذهب الذي حد من طغيان الأغنياء، ورفع من مستوى الفقراء، ووقف في صف الكادحين أمام جشع الرأسماليين المستغلين، فأراد أن يقول لهم: إن الإسلام سبق بهذه المبادئ التي تنصف الفئات الضعيفة، والطبقات المسحوقة، وتأخذ بأيديها، وتصون حقوقها، بل تشعل الحرب من أجلها، حتى إن الدولة الإسلامية هي أول دولة في التاريخ تجيش الجيوش، وتعلن القتال من أجل انتزاع حق الفقراء من براثن الأغنياء، "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه".
وهذه المبادئ في الإسلام على أحكم وجه، وأكمل صورة، وأقرب شيء إلى العدل والتوازن دون اشتراكية، مادية أو ملحدة أو مجحفة، بل الاشتراكية التي تقيم عدل الله في أرض الله، على جميع عباد الله، وهي الجديرة بأن تنسب إلى الإسلام. فهي اشتراكية مادية روحية، فردية اجتماعية، اقتصادية أخلاقية، إنسانية وربانية، واقعية مثالية، وليست مثل الاشتراكيات المقطوعة النسب بالله عز وجل.
وقد استغلت ثورة 23 يوليو في عهد عبد الناصر الكتاب، وطبعت منه عشرات الألوف، ترويجًا لاشتراكيتها الثورية الخاصة، ولعلّ هذا ما أساء إلى الكتاب؛ حيث استغل ما فيه من حق لتأييد ما عند القوم من باطل، وهو ما شكا منه الشيخ في أواخر حياته، غفر الله له ورحمه وتقبله في عباده الذين أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
ومن كتب الشيخ: (المرأة بين الفقه والقانون)، و(شرح قانون الأحوال الشخصية)، و(من روائع حضارتنا)، و(أخلاقنا الاجتماعية)، وغيرها من الكتب والرسائل التي أسهمت في وقتها في تثقيف الأمة، وتوعيتها وتنوير عقولها، وعونها إلى المنهج الوسط الذي لا غلو فيه ولا تفريط.
وكان من الآثار الطيبة التي تركها الشيخ: مجلة (حضارة الإسلام) أسسها الشيخ ليكون منبر (الإسلام الحضاري) الذي يدعو إليه الشيخ. وليس إسلام الدروشة أو الرهبنة، ولا إسلام العنف والنقمة، ولا إسلام التعصب والانغلاق. وإنما هو الإسلام الذي يقيم حضارة عالمية إنسانية ربانية أخلاقية، تصل الأرض بالسماء، والدنيا بالدين، والمخلوق بخالقه.
المشرفون على رسالتي: إما الموت أو السفر!!
عيّنت إدارة كلية أصول الدين مشرفًا جديدًا، يشرف على رسالتي من أساتذة الكلية بعد وفاة مشرفي الأول الشيخ أحمد علي رحمه الله، كان المشرف الجديد هو أحد شيوخي في الكلية، الذي درّسني مقرر التفسير في أكثر من سنة، وقد تحدثت عنه من قبل، ذلكم هو فضية الأستاذ الشيخ محمد أمين أبو الروس، فقرأ الرسالة بعناية، وأرسل لي كتابًا يتضمن بعض ملاحظاته، ومنها: ملاحظات لغوية، وبعضها ملاحظات علمية، وأخرى ملاحظات شخصية، اعتبرها الشيخ بمثابة مقترحات، إن شئت أخذت بها، وإن شئت لم آخذ.
ولقد سرّني من شيخنا أبي الروس اهتمامه بالرسالة وسرعة قراءته لها، وإبداء ملاحظاته عليها، وإن اختلفت معه في أكثرها، أو على الأقل في الكثير منها.
ومما أذكره من رسالته: أني كنت كتبت تمهيدًا عن (مشكلة الفقر) وموقف الديانات والفلسفات والأنظمة منها، وموقف الإسلام منها، وكيف تصدى الإسلام لعلاجها بوسائل عملية تشريعية وأخلاقية... إلخ.
وقد اعترض الشيخ أبو الروس على اعتباري الفقر مشكلة، وقال: إن الفقر ليس مشكلة، وإنما هو ابتلاء يبتلي الله به الإنسان، كما قد يبتليه بالغنى. وكان هذا من أثر النزعة الصوفية عند الشيخ أبي الروس، فإن الصوفية لا يعتبرون الفقر مشكلة، بل يعتبرون الغنى هو المشكلة وهو الداء والمرض، وقد أُثر عنهم قولهم: إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحبًا بشعار الصالحين! وإذا رأيت الغنى مقبلاً، فقل: ذنب عجلت عقوبته!.
وهو عكس ما ذهبت إليه في بحثي، فقد رأيت أن الإسلام اعتبر الفقر بلاء يُستعاذ بالله من شره، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من شر فتنة الفقر، ومن شر فتنة الغنى ونعوذ به من القلة والذلة.
وقال علي رضي الله عنه: لو تمثّل لي الفقر رجلاً لقتلته! وقال: أبو ذر رضي الله عنه: إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك، ولا سيما إذا كان الفقر ناشئًا من سوء توزيع الثروة، فالذين يعملون لا يملكون، والذين يملكون لا يعملون!.
واقترح الشيخ علي أن أحذف هذا التمهيد، وكان في اقتراحه الخير، فاستجبت له، وطورته وأضفت إليه، وأصدرته في كتاب خاص تحت عنوان: (مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام). وبحذف هذا التمهيد خففت حجم الكتاب الذي طال كثيرًا.
كما اقترح الشيخ أبو الروس عليّ أن أحذف معظم المقدمة التي تتضمن أشياء أكثر تعلقًا بعلم أصول الفقه مثل الحديث عن مقاصد الشريعة، والأخذ بالمصلحة، وغير ذلك، وقد أجبته إلى هذا الاقتراح أيضًا.
ولكن شاء الله أن ينتقل الشيخ أبو الروس إلى رحمة الله تعالى، قبل أن أكمل المشوار معه، مع ما لمسته فيه من جدية وإيجابية. وهذا هو حظي كالمرأة التي كلما تزوجت رجلاً وأنست به اختطفته المنية من بين يديها.
وكان على الكلية أن تختار لي مشرفًا آخر، يحل محل الشيخ أبي الروس، فاختارت في هذه المرة أستاذًا من أساتذة الحديث، فالقسم الذي سجلت فيه: يشمل التفسير والحديث معًا، ذلكم هو فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب البحيري رحمه الله.
ويبدو أن أستاذنا الشيخ البحيري قرأ نسخة الرسالة الموجودة بالكلية، فأزعجته إزعاجًا شديدًا، وكتب إلى فضيلة عميد الكلية شيخنا الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود رسالة يبلغه فيها اعتذاره عن عدم إشرافه على هذه الرسالة (لما تتضمنه من آراء دينية خطيرة لا يستطيع أن يتحمل مسئوليتها). وأرسل إليّ عميد الكلية -بواسطة مراقبة البحوث والثقافة بالأزهر- نص رسالة الشيخ البحيري. وحين قرأتها لم أملك إلا أن أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لقد اعتبر شيخنا اجتهاداتي في الأموال الجديدة: مثل الأسهم والسندات والمستغلات من العمارات والمصانع، ورواتب الموظفين التي أدخلتها ضمن المال المستفاد، ونحو ذلك.. (آراء دينية خطيرة) لا يحتمل تبعتها. مع أن المشرف -وفق التقاليد الجامعية- لا يتحمل مسؤولية آراء الطالب في رسالته لا قانونًا ولا عرفًا.
ولكن يبدو من سياق الأحداث: أن شيخنا عبد الحليم محمود كلّم الشيخ البحيري أن يقبل الإشراف على الرسالة، ويتفاهم مع مقدمها على ما يقترحه من تعديلات.
وهذا ما كان.. فعندما نزلت إلى القاهرة في صيف سنة 1964 أخطرتني الكلية أن ألقى الشيخ البحيري لأتفاهم معه على ما يريده من تعديل. وبالفعل سألت عن منزل الشيخ، وكان قريبًا مني في شارع شبرا الرئيسي، وزرته في بيته، فرحّب بي وأحسن استقبالي، وجلسنا نتحدث بمودة ومحبة، كما يتحدث الأستاذ مع تلميذه، وقال لي الشيخ البحيري: (اسمع يا شيخ يوسف، لقد سمعت عنك من الثناء الكثير ما يشجعني أن أتعاون معك لإنجاز رسالتك، ولكن أرجوك أن تستجيب لما أطرحه عليك. قلت له: تفضل يا مولانا، فكلي سمع وإصغاء إليك. قال: أقترح عليك أمرين:
الأول: أن تحذف هذه الفصول التي تحمل آراءك واجتهاداتك الجديدة؛ وذلك لسببين أحدهما: أن هذه الآراء والاجتهادات جريئة أكثر من اللازم، ومخالفة للمألوف في فقهنا التقليدي، وتحتاج إلى مجامع تقرها، وثانيهما: أنها ألصق ما تكون بعلم (الفقه) وليس بالتفسير ولا الحديث، وأنت طالب في شعبة التفسير والحديث في كلية أصول الدين، ولست طالبًا في شعبة الفقه وأصوله في كلية الشريعة.
قلت له: إذا كانت هذه الفصول هي العقبة، فلا مانع عندي من حذفها، رغم أن ذلك شاق على نفسي، ولكن حذفها لا يعني موتها وإعدامها، فأنا أستطيع أن أنشرها بطريقة أو أخرى.
قال لي: بقي الأمر الثاني، قلت وما هو؟ قال: أن نجلس معًا لنقرأ الرسالة قراءة مشتركة، فإذا وجدنا فيها ما يستحق التعديل عدلنا. وها هو بيتي مفتوح لك لتزورني في كل أسبوع مرة نجلس فيها ساعتين أو أكثر للقراءة. قلت له: وأنا أرحب بذلك، وأعتبر هذا فائدة كبيرة لي. فمن ذا الذي يتاح له أن يجد شيخًا يقرأ عليه ما كتب؟
قال: اتفقنا.
ونفذنا ما اتفقنا عليه بالفعل، وذهبت لزيارة الشيخ عدة مرات، نجلس فيها طويلاً للقراءة والمراجعة، وأشهد أني استفدت كثيرًا من علم الشيخ وملاحظاته وتدقيقاته في العبارات، وخصوصًا في هذه الموضوعات العلمية الدقيقة، ولم أكن أتردد في النزول على رأيه، وتغيير ما يطلب، من تقييد مطلق، أو تخصيص عام، أو ضبط مفهوم، أو شرح مصطلح، إلا فيما أعتقد أن الصواب معي فيه فكنت أناقشه وأحاوره حتى يقتنع أو يترك لي الخيار.
وقطعنا شوطًا لا بأس به في الرسالة، وقرب أوان السفر، والعودة إلى قطر، وقال لي: تستطيع أن تراجع الرسالة بنفسك على هذه الطريقة التي تفاهمنا عليها، وأنت أمين نفسك، ولديك من الإمكانات الذهنية والعلمية ما يمكنك من إتمام الرسالة على هذا النحو وحدك. والله معك. وودعت الشيخ شاكرًا له حسن استضافته لي، وصبره علي، وحرصه على معاونتي، داعيًا الله تعالى أن يجزيه عني وعن العلم خير ما يجزي العلماء الأخيار الصادقين.
وسافرت إلى قطر، ثم عرفت بعد فترة قصيرة: أن الشيخ البحيري أعير إلى العراق، ليدرّس الحديث في إحدى جامعات بغداد، ومعنى هذا: أنه لم يَعُد قادرًا على الإشراف على رسالتي! ولا بد لإدارة الكلية أن تبحث عن مشرف جديد.
مع المقدم أحمد راسخ
جرت عادة المقدم أحمد راسخ المسؤول عن إخوان القاهرة في المباحث العامة -مباحث أمن الدولة الآن- أن يطلبني لزيارته مرتين: مرة بعد قدومي من قطر، ومرة قبيل سفري إلى قطر.
وهذا ما فعله معي في هذه الإجازة، فقد طلبني للقائه بعد أيام من قدومي، وحدّد لي موعًدا لا أخلفه، فذهبت إليه في مكتبه بوزارة الداخلية في لاظوغلي ورحّب بي على العادة، وطلب أن أعطيه فكرة عن نشاطي خلال العامين الدراسيين المنصرمين، ولم أضنّ عليه بهذه الفكرة، وعاتبني كالعادة بأني أهملته، ولم أجب عليه ولو برسالة تهنئة في عيد الفطر وعيد الأضحى، وأجبته معتذرًا بأننا هناك بمجرد وصولنا نغرق في أعمالنا، والقلوب متصلة! وحاول أن يسأل عن بعض الأوضاع في قطر، وقلت له: إننا لا نعرف عن هذه الأوضاع شيئًا، ونحن ضيوف في هذه البلاد علينا أن نؤدي واجبنا بأمانة وإخلاص، وأن نكون خير رسل لبلادنا وديننا.
ولقد عرف راسخ من حديثي أني أديت الحج هذا العام، فالتقط الخيط، وقال لي: لا بد أنك لقيت عددًا من الشخصيات الإسلامية، التي يكون هذا الموسم فرصة للقائها؟
قلت له: لقد كانت معي زوجتي وبناتي الأربع، وهن صغيرات، وإحداهن رضيعة، فكنت جد مشغول بالعائلة وطلباتها، ولم يتح لي كثيرًا أن ألتقي بمن حضر الموسم من الشخصيات الإسلامية الكبيرة، إلا ما كان من لقائي بالأستاذ مصطفى السباعي.
قال: لا بد أنكما تحدثتما حديثًا مهمًّا فيما يخص العرب والمسلمين، وما يجري في مصر وسوريا والمنطقة.
قلت: الحقيقة كان حديثنا في الواقع بعيدًا عن هذه الموضوعات، كان كل حديث الشيخ عن حبه لرسول الله، وقصائده في مدحه والشوق إليه، ولم يتطرق إلى القضايا العامة إلا قليلاً.
قال: يهمني هذا القليل. وأريد أن تكتب لي عدة صفحات عن زيارتك للبلد الحرام. قلت له: ربنا ييسر الأمر.
وسلمت عليه وخرجت وقبيل سفري بأيام طلبني للقاء كالعادة، وقلت في نفسي: ترى هل سيسألني عن التقرير الذي طالبني بكتابته عن رحلة الحج، أو أنه نسي هذا الأمر؟
ومن باب الاحتياط كتبت صفحة ونصفًا عن هذه الرحلة، ليس فيها شيء يُذكر، كلام كله إنشاء، كما نقول. وقلت: لن أبادره بإعطاء هذه الوريقات، ما لم يطلبها مني.
وحينما ذهبت إليه ولقيته لم يحدثني فيما سبق الحديث فيه، ولم يطلب مني شيئًا، كل ما طلبه مني كالمعتاد ألا أنساه من الرسائل، ولو في المناسبات، وأن نخبره بأي شيء غير عادي يحدث يهم مصر أن تعرفه، وقلت له: إن شاء الله. وقد حفظت من مذهب الحنفية: أن من ذكر شيئًا ثم قال: إن شاء الله، لم يلزمه شيء بالحنث؛ لأن (إن شاء الله) إبطال لليمين عند محمد، وشرط لا يوقف عليه عند أبي يوسف، وهكذا نويت حينما قلت له: إن شاء الله!!
إلى لبنان في صيف 1965
بيروت
كان السفر إلى بيروت نقلة مهمة بالنسبة لي للخروج من قمقم قطر، والانفتاح نسبيًّا على العالم؛ فقد استفدت صحيًّا وجسميًّا من مصايف لبنان الجميلة، وما فيها من خضرة ونضرة ونعمة. واستفدت فكريًّا واجتماعيًّا بما لقيت من علماء ودعاة ومفكرين وناشرين.
في بيروت تعرفت على عدد من رجال الدعوة لأول مرة، مثل الأستاذ عصام العطار، الذي كان يقيم في بيروت في ذلك الوقت، وهو رجل أديب وشاعر وداعية من طراز ناضج، يجمع بين الفكر والعاطفة، ويتمتع بحاسة روحية عميقة، ورؤية سياسية واعية.
كما تعرفت لأول مرة على الدكتور حسن الترابي زعيم الحركة الإسلامية في السودان، والذي كان يزور بيروت في ذلك الوقت، وقد قاد الحركة الشعبية التي انتهت بإسقاط الحكم العسكري برئاسة عبود، وعودة الحكم المدني إلى السودان. وأذكر مما جرى بيني وبينه من حديث: أني قلت له: لعلكم تلتفتون إلى الجيش ونشر الدعوة فيه، حتى لا يقوم بانقلاب آخر ضدكم. فقال لي: نحن في الواقع لا نهتم بالجيش، وإنما نهتم بالشعب. وعندنا أن نكسب معلمًا في مدرسة خير من أن نكسب ضابطًا في الجيش. قلت: ولكن الجيوش الآن كثيرًا ما تنقلب على الحكم المدني، وتسيطر على مقدرات الشعوب. قال: لتنقلب، ونحن سنسقطها!.
ولكن بعد مدة من الزمن يبدو أن الدكتور الترابي غيَّر رأيه، وخطط لثورة الإنقاذ التي قام بها الجيش، وكان هو أباها الروحي والفكري والعملي، وظلّ يسيرها بوريقات منه، وهو في سجنه الذي دخله بأمر منه، وقد انتهت الثورة التي صنعها باتهامه ومعاداته واعتقاله، ولعله الآن نادم على أنه غيّر رأيه القديم الذي أفضى إليّ به في بيروت، ولله في خلقه شؤون.
وكذلك تعرفت على الإخوة رجال الدعوة في بيروت: الكاتب الداعية الأستاذ فتحي يكن، والقاضي الداعية الشيخ فيصل مولوي، والصحفي الداعية إبراهيم المصري، وقد اجتهد الإخوة أن ينتفعوا بي في بعض المحاضرات والدروس في بيروت، فكانت لقاءات طيبة بالإخوان خاصة، وبالجمهور اللبناني عامة.
وتعرفت أيضًا على عدد من العلماء، منهم عالم حلب ومحدثها العلامة المحقق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة. وقد كنت عرفته وأحببته قبل أن أراه، بما سمعته عنه من إخوانه وتلاميذه من أبناء سوريا، الذين لقيتهم في مصر، والذين لقيتهم في قطر. فلما لقيت الشيخ في بيروت صدَّق الخَبَرَ الخُبْرُ، وعرفت فيه العالم الفقيه المحدث اللغوي الأديب، التقي الورع، الذي يجمع إلى ورعه الظرف والفكاهة.
حسن الترابي
ومنهم محدث الشام العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وقد تعرفت عليه وعلى أبي غدة في منزل المحقق والناشر الإسلامي المعروف الشيخ زهير الشاويش، وكان منزله -ولا يزال- في حي (الحازمية) من بيروت. وقد كنت نشرت الطبعة الثانية من كتابي: (الحلال والحرام في الإسلام) عند الشيخ زهير، وكانت على نفقة الشيخ فهد بن علي آل ثاني من شيوخ قطر، كما نشرت عنده كتاب (الناس والحق)، ثم كتبًا أخرى بعد ذلك.
وقد تعرفت عنده على رجال فضلاء من زواره أذكر منهم الوجيه السلفي المعروف، أشهر رجال جدة في زمنه الشيخ محمد نصيف.
وكانت مزية بيت زهير الشاويش أنه يحوي مكتبة فيها من الكتب ما لا يوجد في غيرها، وقلّما يريد الإنسان كتابًا إلا وجده فيها، ناهيك بما فيها من مخطوطات ونوادر. فضلاً عن الكتب التي ينشرها، بالإضافة إلى أن الشيخ زهيرًا رجل كريم مضياف، فكثيرًا ما كانت تتغذى عقولنا على مكتبته، وتتغذى بطوننا على مائدته.
وبمناسبة الناشرين تعرفت على أكثر من واحد منهم في بيروت: بعضهم في هذه السنة، وبعضهم في السنين اللاحقة.
منهم الأستاذ عادل عاقل، صاحب (دار الإرشاد) للنشر، وهو الذي بدأت عنده نشر كتاب (الإيمان والحياة)، وكتاب (العبادة في الإسلام)، ثم نشر لي بعد ذلك (عالم وطاغية) و(درس النكبة الثانية)، ثم (فقه الزكاة)، وغيرها.
وقد أغراني وعددًا من الإخوة في قطر أن ندخل معه شركاء في (دار الإرشاد) واستجبنا بالفعل لهذه الدعوة، وساهمنا بما معنا من مدخرات قليلة. ولكن سرعان ما خسرت الدار وصفيت، وبيعت أصولها لأحد الإخوة في بيروت، وكان لي فيها من أسهمي ومن حقوق تأليفي نحو (15000) خمسة عشر ألف ليرة لبنانية. وكانت الليرة تقارب النصف دولار، وقد ضاع عليّ هذا المبلغ إلى اليوم، فلم يصلني منه نقير ولا قطمير، وكان هذا المبلغ في ذلك الوقت (1969) يُشترى به سيارتان من نوع (المارسيدس).
وقد أصبح هذا المبلغ الآن لا يساوي عشرة دولارات، مع هبوط القوة الشرائية للدولار نفسه.
وقد كنت في مناقشة يومًا مع زميلي وأخي الدكتور علي السالوس، حول العملة الورقية إذا هبطت قيمتها هبوطًا فاحشًا، مثل العملة اللبنانية، والعملة التركية، والعملة السودانية، والعملة العراقية، وغيرها. وكان رأي السالوس: أن الديون القديمة تسدد باسمها لا بقيمتها. قلت له: لو أن الرجل الذي لي عليه 15000 ليرة لبنانية قال: أريد أن أبرئ ذمتي وأدفع لك الدَّين الذي عليّ بسعر اليوم، فهل يجزئه أن يدفع لي ما لا يكفي لأن أتغدى به في مطعم؟ قال الشيخ: نعم يجزئه، كان عليه مبلغ معلوم معدود، وقد أعطاك المبلغ بنفس العدد!.
ومنهم الأستاذ سعيد العبار صاحب (دار العربية) التي نشرت الطبعة الأولى من كتابي (مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام)، وللأسف كانت طبعة مليئة بالأخطاء إلى حد مثير. والحقيقة أنه لا يزعجني في النشر شيء كما تزعجني كثرة الأخطاء، ومنها أخطاء لا تغتفر، وأخطاء تفسد المعنى، وتناقض مقصود المؤلف، ومنها ما يسقط كلمات أو سطرًا أو سطورًا، وهو ما جعل علماء تركيا قديمًا يتوقفون في قبول (المطبعة) وإجازتها؛ خوفًا من تشويه كتب العلم والدين، لجهل أكثر عمال الطباعة بخلاف الناسخين الذين كانوا ينسخون الكتب قديمًا، فقد كانوا من أهل العلم والمعرفة.
ولا شك أن توقف علماء تركيا مرفوض، ولا يجوز ترك هذه المصالح العظيمة التي تقوم بها المطبعة خشية مفسدة الأخطاء الطباعية، وعلينا أن نتفاداها بما يمكننا من الوسائل، وحسن اختيار العاملين في الطباعة، وتصحيح (البروفات) ومراجعتها مرة بعد أخرى، حتى تخرج الكتب أقرب ما تكون إلى السلامة.
ومنهم الأستاذ رضوان دعبول، صاحب (مؤسسة الرسالة) الذي قدم من الرياض بعد أن كان يعمل بها مدرسًا للرياضيات، وقد بدأ يدخل ميدان النشر بتؤدة، ولكن بقوة، وكنت من أوائل الذين تعاونوا معه، وعقد معي عقدًا بنشر سلسلة (حتمية الحل الإسلامي) وأولها: (الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا)، ثم توالت كتبي عنده، وتطورت المؤسسة وتوسعت، حتى أصبحت تنشر الموسوعات، ولا سيما في علم الحديث ورجاله، وأصبح لديها مكتب للتحقيق يضم رجالاً من خيرة المتخصصين في العالم العربي، وخصوصًا من بلاد الشام، على رأسهم المحدث العلامة الشيخ شعيب الأرناؤوط، الذي سعدت بلقائه عدة مرات في منزل الأخ رضوان -أبي مروان في عمان- وهو رجل عالم ثقة متثبت هادئ النفس، بعيد عن الغلو والتفريط.
(العبادة في الإسلام):
وفي بيروت اتفقت مع (دار الإرشاد) لنشر كتابين لي، هما: (العبادة في الإسلام) و(الإيمان والحياة).
كان كتابي الأول الذي دخلت به معترك التأليف أو التصنيف العلمي هو: كتاب (الحلال والحرام في الإسلام)، وكان الكتاب الثاني هو كتاب (العبادة في الإسلام).
والذي دفعني إلى كتابته: أن مجموعة من علماء الأزهر كان على رأسهم الأستاذ النابه النشيط الشيخ رشاد خليفة، قد أسسوا دارًا للنشر سموها: (دار الجميع للنشر والتوزيع ). وأرادوا أن يبدءوا نشاطها بكتاب علمي يخاطب العقل والقلب معًا، ليصدر في غرة شهر رمضان بعد أشهر قريبة، وطلبوا مني أن أكتب شيئًا عن (العبادة) وقيمتها ومكانتها وأثرها في الإسلام بمناسبة شهر الصيام والقيام.
واستجبت لدعوة الإخوة، وشرعت أكتب عن العبادة، لا عن أحكامها العملية، التي يتناولها علم الفقه، ولكن عن (فلسفة العبادة). ولهذا كان علي أن أضع أمامي أسئلة أجهد في الإجابة عنها: ما العبادة؟ ومن نعبد؟ فقد عبد الناس في مختلف الأزمنة آلهة شتى ضلوا بها عن عبادة الله الخالق المعلِّم؟ ولماذا نعبد الله؟ وبماذا نعبده إذا عبدناه؟ وما المجالات التي عبد الله فيها: أهي الشعائر التعبدية المعروفة وحدها أم تشمل مساحة أوسع من ذلك؟ وماذا أصاب العبادة في الأديان السابقة من خلل وفساد؟ وما الإصلاح الذي جاء به الإسلام في مجال العبادة؟ فقد حرّرها من رقّ الكهنوت وجعل قبولها منوطًا بروحها لا بشكلها وطقوسها، ورفض الابتداع والتزيد فيها فحماها من المسخ والتحريف.
ثم ما أثر العبادات الكبرى في الإسلام في حياة الفرد والمجتمع من الصلاة والزكاة والصيام والحج؟
ثم ما هو المنهج الأمثل لتعليم العبادة؟ فقد لاحظت أننا نسيء إلى عبادتنا بطريقة تعليمها للناس.
وقد أخرجت الطبعة الأولى من الكتاب مختصرة لاستعجال الإخوة الناشرين لي، ثم أضفت إليه ما يقرب من حجمه في طبعته الثانية التي صدرت في بيروت.
كان من الرجال الذين حرصت على أن أهديهم كتابي (العبادة في الإسلام) بمجرد ظهوره أستاذنا البهي الخولي، وقد قرأ الكتاب بعناية، وقال لي: إني وجدت في ثنايا الكتاب روحًا ربانية شفافة، طالما أخفيتها عنا بمناقشاتك العقلانية، لقد خدعنا عقل الفقيه فيك عن قلب الصوفي! قلت له: هذه الروح يا أستاذ لا شك أنك أحد مصادرها الأساسية؛ فمنك اقتبسنا، وعليك تتلمذنا. ولا أرى تعارضا بين التوجه الرباني والنقاش العقلاني.
قال: هذا صحيح، إذا وضع كل منهما في موضعه.
(الإيمان والحياة):
ثالث كتاب صدر لي بعد (الحلال والحرام) و(العبادة في الإسلام) كان (الإيمان والحياة). وهذا الكتاب لم يطلبه أحد مني مثل الكتابين السابقين. ولكن فكرته انبثقت مني ومن داخلي.
فقد رأيت جل الذين يتحدثون عن العقيدة يعنون بإثبات الأدلة على صحتها، ولا سيما العقيدتين الكبيرتين والأساسيتين للأديان وخصوصا الكتابية، وهما: وجود الله تعالى، وثبوت الوحي والنبوة.
وقد استخدم المتكلمون قديما بعض الأدلة التي لم تخلُ من اعتراض، مثل قولهم: العالم متغير، وكل متغير حادث، ولا بد له من محدث، وهو: الله. وركز الفيلسوف ابن رشد على دليل الإبداع في الكون ودليل العناية. وهما في الحقيقة دليلان قرآنيان.
واتخذ الفيلسوف الألماني (كانت) من (الأخلاق) أو (الوازع الأخلاقي) دليلا على وجود الله…
إلى آخر ما ذكره الأستاذ عباس العقاد في كتابه (الله).
وتوسع بعض رجال العلم الغربيين في تعميق الدليل الكوني، وهو ما يشتمل عليه الكون من إبداع ونظام يستحيل أن يكون هذا كله قد تم من باب المصادفة، كما ناقش ذلك أ. كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه (الإنسان لا يقوم وحده) الذي رد فيه على كتاب جوليان هيكسلي بعنوان: (الإنسان يقوم وحده) أي مستغنيا عن خالق مدبر. وقد ترجم كتابه إلى العربية تحت عنوان (العلم يدعو إلى الإيمان).
كما شارك 30 عالما أمريكيا في كتاب ينحو هذا المنحى، وهو: إثبات وجود الله تعالى عن طريق العلم، ونشرت مقالات هؤلاء العلماء تحت عنوان (الله يتجلى في عصر العلم).
كنت أرى أننا في حاجة لبحث يثبت صحة العقيدة في الله، وفي الآخرة من زاوية أخرى غير الزاوية التي أشرنا إليها، وهي: آثار العقيدة المباركة في حياة الإنسان فردا ومجتمعا؛ فإذا كانت هذه العقيدة تثمر السكينة النفسية للفرد، وتمنحه الرضا والأمل والأمن والحب، فيحيا في ظلال سعادة روحية لا توازيها مُلك القصور والقناطير المقنطرة، كما أن لها أثرها في تزكية نفسه، وإحياء ضميره، وتنمية وازعه الأخلاقي، وإعطائه القدرة على الانتصار على طغيان غرائزه وشهواته، وعلى أن يتحكم في نزعاته وعاداته.
كما أن العقيدة لها أثرها في حياة المجتمع، وما المجتمع إلا أفراد تربطهم روابط مشتركة، فإذا صلح الأفراد بالعقيدة صلح المجتمع كله، كما أن البناء لا يصلح إلا بصلاح لبناته.
ومن فضل العقيدة أنها تقوي نزعة الغيرية والإيثار عند الفرد، فيلتحم بغيره، ويتعاون معه على البر والتقوى، ويجعل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.
إذا كان للعقيدة الدينية هذه الآثار الطيبة التي قرأناها في التاريخ، ولمسناها في الواقع؛ فلا يمكن أن تكون هذه العقيدة باطلا؛ لأن الباطل لا يمكن أن يكون من ورائه منفعة للناس، ولو نفع قليلا منهم لكان يضر بأكثرهم، ولو نفع في وقت معين فلا يمكن أن ينفع في المدى الطويل.
فحتى لو أخذنا بمذهب القائلين بالمنفعة (البراجماتيين) كان هذا اللون من البحث نافعا من هذا الوجه.
وعلى هذا الأساس بدأت أكتب هذا البحث وأنشره أولا مقالات في مجلة (نور الإسلام) التي تصدر عن إدارة الوعظ والإرشاد بالأزهر، وقد شدت هذه المقالات إخواننا من علماء الأزهر النابهين من الدعاة والكتاب والباحثين، أذكر منهم: الواعظ الأديب الأستاذ أحمد عبد الجواد الدومي رحمه الله الذي قابلني وأصر على أن يقبلني؛ لما قرأه من مقالات عن (العقيدة والحياة) وشجعوني على الاستمرار فيها.
ولكني لم أصدر هذه المقالات في كتاب إلا بعد أن أعرت إلى قطر، وأضفت إلى هذه المقالات فصولا جديدة، وعمدت إلى نشرها بعنوان (الإيمان والحياة)؛ فقد رأيت أن القرآن يستخدم بدل كلمة (العقيدة) كلمة (الإيمان)، وهي أدل على مقصدي من كلمه العقيدة؛ فلماذا لا أستعمل الكلمة القرآنية؟
وهي أيضا كلمه نبوية؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
وصنف الحافظ البيهقي كتابا من عدة مجلدات سماه: (الجامع لشعب الإيمان).
فلا غرو أن اتجهت نيتي لتسمية كتابي (الإيمان والحياة)، وهكذا ظهر الكتاب، وعرفه الناس، وطبع ما لا يقل عن 40 مرة، ولله الحمد والمنة.
زيارة العسال في طريقه إلى لندن
وفي أواخر أيامنا في لبنان سعدت بزيارة الأخ أحمد العسال وأهله لنا في حمّانا، وهو في طريقه إلى لندن للالتحاق بجامعة كمبردج للحصول على درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية.
وكان الأخ أحمد قد حزم أمره، بعد أن ادخر مبلغا من المال خلال السنوات الخمس التي قضاها في قطر، وآثر أن يدع قطر وعمله فيها للذهاب إلى الغرب، والاحتكاك بالمستشرقين، والاستفادة من مناهج البحث عندهم، وساعد الأخ أحمد على اتخاذ قراره خفة حمله، فلم يرزقه الله بأولاد، والأولاد -وإن كانوا هبة ونعمة من الله من ناحية- فهم عبء وحاجز من ناحية أخرى. لهذا لم يكن من الصعوبة أن ينفذ ما عزم عليه، ويرحل إلى بلاد الفرنجة، ليتعلم اللغة الإنجليزية ويتقنها، ثم ليتعلم المنهج من القوم، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، وقد كانوا في الزمن الماضي يأتون إلى جامعاتنا في الأندلس وغيرها ليتعلموا منها؛ فآن لهم أن يقضوا بعض ديونهم لنا، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
كنت فكرت فيما فكر فيه الأخ أحمد، وكم تشاورنا وتداولنا الأمر، ولكن وجدت الأولاد عقبة بالنسبة لي؛ فقد أصبح عندي 4 بنات، وتحتاج أسرتي إلى نفقة كبيرة في بلاد الغرب لم أدخرها بعد. على أني كنت آمل أن أحصل على الدكتوراه أولا من الأزهر، ولم أقطع رجائي منه بعد.
بقي الأخ أحمد ضيفا عندنا في حمانا نحو 3 أيام، ثم شد الرحال إلى مدينة الضباب؛ لينضم إلى الجامعة العريقة كمبردج، إحدى الجامعتين الشهيرتين في عالم الغرب هي وأكسفورد. وعمل مع المستشرق ذي النزعة الصوفية، الذي عمل معه كثير من الدارسين من العرب والمسلمين.. الأستاذ آربري، وكانت رسالته عن الإمام المحدث الفقيه الزاهد المجاهد: عبد الله بن المبارك وكتابه (الزهد).
العودة من لبنان إلى الدوحة
وكان لا بد للإجازة أن تنتهي، وما أسرع ما انقضت؛ لكأن أيامها ساعات، ولكأن ساعاتها دقائق. وهذا أبدا شأن الأوقات الطيبة، تمر مر السحاب، وتذهب كالبرق الخاطف.
وودعت الإخوة في لبنان بعد أن قضيت هذا الشهر في ربوعه، وعدت بأسرتي إلى الدوحة، بعد أن متعت عيني بجمال لبنان، وأمتعت صدري بنسيم لبنان، وأمتعت بطني بطعام لبنان، وأمتعت عقلي بمكتبات لبنان. وحملت معي بعض الكتب التي اشتريتها من لبنان، كما حملت أسرتي ما اشترته من ملابس وأمتعة من لبنان.
وما إن عدت إلى الدوحة حتى قابلتني أخبار مهمة ومقلقة؛ فقد قبض على 10 من الإخوان الذين كانوا يعملون في قطر، والذين لهم صلة بي، وبعضهم أنزلوه من الطائرة وقد ركبها متوجها إلى الدوحة، مثل الأخ أحمد المنيب -رحمه الله- الذي كان يعمل معي سكرتيرا للمعهد الديني، ومثل الأخ عبد الحميد طه، الذي كان يعمل مشرفا على إحدى المناطق التعليمية.
وأكثرهم اختطفوه من بيته من بين أهله وذويه، مثل الأستاذ عبد الحليم أبو شقة، والأستاذ محمد المهدي البدري، والشيخ عبد اللطيف زايد، والأستاذ رشدي المصري.
وقد أخذوا إلى (السجن الحربي) الذي جربناه من قبل، وقد تطورت أدوات التعذيب فيه أكثر من قبل، نتيجة للتطور أو التقدم العام في التكنولوجيا، وأول ما يتجلى فيه التقدم عندنا هو فن التعذيب، أو علم التعذيب!
وكان الجيش هو الذي يشرف على الاعتقال والتحقيق، بإشراف وزير الحربية شمس بدران، ومَن وراءه من ضباط القوات المسلحة. التي خاضت معركة لا مبرر لها مع أبناء شعبها، بدل أن تتجه إلى العدو الذي يهدد وجودها على حدودها الشمالية.
وبالتحقيق مع الإخوة العاملين في قطر، وسؤالهم عن التنظيم الإخواني فيها.. اجتمعت كلمتهم -دون توافق- على أنه لم يوجد تنظيم في قطر، بل كان لقاء أسبوعيا بعد صلاة الفجر في كل يوم جمعة في بيت من بيوت الإخوة، نقرأ فيه الأدعية المأثورة، وقد تلقى كلمة روحية، ثم يتناول الجميع الفطور معا، وينصرفون بعد ذلك.
وقد سئلوا جميعا: من رئيس الجلسة؟ ومن الداعي إليها؟ فقالوا: القرضاوي والعسال، وأعادوا السؤال: أيهما الرئيس؟ فقالوا: لا رئيس.
وسألوا: هل طُلب منكم اشتراك مالي؟ فكان جواب الجميع: لا.
وصدقهم المحققون؛ إذ لا تنظيم بلا رئاسة ولا بيعة ولا اشتراك.
وأفرج عن عدد منهم، وسمح لهم بالرجوع إلى الدوحة في وسط المعمعة، والرحى دائرة، أذكر منهم الإخوة: عبد الحليم أبو شقة، وعبد الحميد طه، ورشدي المصري.
ولكنهم استبقوا آخرين لعدة سنوات، منهم: الشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ محمد المهدي البدري، والأستاذ أحمد المنيب.
ومما فوجئنا به كذلك اعتقال صهري شقيق زوجتي: الأستاذ سامي عبد الجواد، الذي أخذوه من عمله، وكان يرأس مأمورية الشهر العقاري بمدينة زفتى، وكان حديث العهد بالزواج، وقد رزق طفله الأول منذ أسابيع، وكان وقع اعتقاله شديدا على زوجته وعلى والدته، التي صدمها هذا الاعتقال صدمة عنيفة.
والحمد لله أني لم أكن بمصر، ولم أنزل إليها في ذلك الصيف، وعافاني الله من تلك المحنة التي كانت أقسى من محنة 1954م، والمؤمن يسأل الله العافية، ولا يتمنى البلاء؛ فإذا وقع استقبله بصبر المؤمنين، وإيمان الصابرين، تاليا قول الله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) النحل: 127، 128.
ولو كنت نزلت في تلك الإجازة لأُخذت كما أخذ إخواني، وتحقق ما كان يخشاه صهري والد زوجتي، حينما خطبتها، وقال لحماتي أم سامي: أتريدين أن يؤخذ ابنك وزوج ابنتك جميعا؟ فالحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين.
والواقع أن الأخ سامي والألوف من إخوانه أخذوا بلا سبب؛ فلم يكن له -كما لم يكن لغيره- أي نشاط، وكان مشغولا بعمله وبيته لا أكثر من ذلك، ولكن القرار صدر باعتقال كل من اعتقل مرة أخرى من قبل، سواء سنة 1948، أو 1954 أو ما بينهما.
وكان هذا من صنع الله للإخوان؛ فالكثير منهم كانوا قد هجروا العمل العام، وشغلوا بشأنهم الخاص، ولم تعد الدعوة أكبر همهم، ولا محور تفكيرهم، وملتقى آمالهم، كما كانت من قبل، كان كثير منهم يقول: نفسي نفسي، لا دعوتي دعوتي، وحسبوا أن هذا سيعفيهم من محن المستقبل، وابتلاءات الزمان، ثم اكتشفوا أن هذا لم يغنِ عنهم شيئا، ولم يردّ عنهم قليلا ولا كثيرا؛ فكان هذا درسا علمه لهم القدر.. أنهم جند الدعوة شاءوا أم أبوا، قربوا أم بعدوا، فليحملوها راضين حتى يكسبوا الأجر، بدل أن يحملوها ساخطين وعليهم الوزر.
أما محنة الإخوان في سنة 1965م التي نجانا الله منها، وعلم أن فينا ضعفا، وما فيها من أهوال وكروب تخر لها الجبال هدا، فحديثنا عنها إن شاء الله نرجئه إلى الجزء الثالث، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
د. يوسف القرضاوي
هكذا تمر اللحظات الرائعة سريعة كلمح البصر ولا نفيق من نشوة الانغماس بها إلا ونجدها قد انقضت.. ونحن في شوق إلى الجزء الثالث من المذكرات في رمضان القادم إن شاء الله بعد هذه الرحلة الشائقة الممتعة في عقل وفكر وقلب وذاكرة العلامة الكبير القرضاوي، ونسأل الله أن يعطيه الصحة والعافية والبركة، وأن يجزيه خيرا على مسيرته المباركة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق