مقدمـــة:
"رَفعت البندقية الآلية في اتجاه الرئيس، والماسورة مائلة إلى أسفل 20 درجة، وأطلقت الرصاص".
هكذا أجاب القناص حسين عباس محمد، أحد قَتَلَة الرئيس محمد أنور السادات، وصاحب الرصاصة الأولى، التي استقرت في عنق الرئيس. بعد ذلك، تتابع انهمار الرصاص على المنصة، وساد الهرج والمرج، وفي 35 ثانية، كان كل شيء قد انتهى. مات السادات، وانتهت فترة من تاريخ المنطقة، بما لها وما عليها.
كان حادث اغتيال السادات هو حادث القرن، في مصر والمنطقة العربية. وقبل أن نتناول تفاصيل وقائعه، يحسُن بنا أن نرجع إلى سيرة الرئيس محمد أنور السادات.
يمكن القول إن حياته مرت بعدة مراحل: الطفولة والصبا، ثم فترة الشباب والعمل السياسي، ثم العمل العسكري ودخول السجن، ثم الاشتراك في ثورة 23 يوليه، ثم فترة ما بعد الثورة إلى تولّي الرئاسة، ثم فترة رئاسته، حتى النهاية المروعة.
أولاً: مرحلة الطفولة
في يوم 25 ديسمبر عام 1918، ولد محمد أنور محمد السادات في قرية "ميت أبو الكوم"، إحدى قرى محافظة المنوفية بوسط دلتا مصر. وهي تبعد عن "شبين الكوم"، عاصمة المحافظة، مسافة 24 كيلومتراً، كما تبعد عن القاهرة مسافة 75 كيلومتراً. ولا يزال المنزل، الذي وُلِدَ وعاش فيه، باقياً إلى الآن، على الطريق المرصوف الذي يمر بتلك القرية.
وقد قضى السبع سنوات الأولى من حياته في هذه القرية، حيث أشرفت جَدته "أم محمد" على تربيته، وقد تعلق بجَدته هذه تعلقاً شديداً، وظلّ يذكرها دائماً. على الرغم من قِصر الفترة التي عاشها في قريته، إلاّ أنها تركت تأثيرها العميق في نفسه، وظلّ دائماً يتردد إلى هذه القرية، ويهتم بها اهتماماً ظاهراً. وليس أدل على ذلك من أنه خصص ريع كتابه "البحث عن الذات"، وقيمة جائزة "نوبل"، التي حصل عليها بعد معاهدة السلام، للإنفاق على قريته، وجعلها أفضل قرى مصر كلها.
كان والده، طوال فترة السنوات السبع الأولى من عمر ابنه، يعمل في السودان. ولدى عودته، انتقل للإقامة بالقاهرة عام 1925، حيث سكنت الأسرة في منزل من طابقين بحي كوبري القبة (وعنوانه 1 شارع محمود بدر). وهناك، التحق الابن بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية في حي الزيتون، وكانت مدرسة أهلية قليلة النفقات، تتناسب مع دخل الأسرة المحدود. ثم انتقل، في السنة الثالثة، إلى مدرسة السلطان حسين، التي تقع في الحي المعروف الآن بـ "حي مصر الجديدة"، حيث نال الشهادة الابتدائية عام 1930 .
ثانياً: مرحلة الشباب إلى التخرج
التحق السادات بمدرسة فؤاد الأول الثانوية، حيث حصل على شهادة الكفاءة. ويبدو أنه بدأ يمارس العمل السياسي خلال تلك الفترة. ومن المواقف الطريفة التي وقعت، آنئذٍ، ما رواه صلاح الشاهد، كبير ياوران رئيس الجمهورية في عهد عبدالناصر، إذ قال: "كان السادات شاباً وطنياً ثائراً، قام بتنظيم مظاهرة طلابية من مدرسة فؤاد الأول، احتجاجاً على إعلان الإنجليز بقاءهم في مصر. وخرجت هذه المظاهرة إلى مدرسة فنون الصنايع (وهي حالياً كلية الهندسة - جامعة عين شمس)، وتجمعت أعداد كبيرة من الطلبة. وصدر الأمر بفصله في اليوم التالي" .
ويكمل صلاح الشاهد:
"وكنت أنا وزميل لي، قد جهزنا عربة (كارو) ، وضعنا عليها معبداً فرعونياً، واخترنا أنور السادات ليرتدي الملابس الفرعونية، ويمسك بمفتاح النيل. وكان السادات، وهو يرتدي الملابس الفرعونية شبه عارٍ، ونحن في شهر فبراير في عِز البرد، فأصيب بالحمّى. ومضت السنون، ولما رأيته رئيساً، قلت له: "أنا تنبأت لك بهذا المنصب قبل عام 1935، عندما أعطيتك مفتاح النيل، وأنت ترتدي الملابس الفرعونية، هذا المفتاح لا يمسك به إلاّ الملوك، لقد حمله رمسيس الثاني ".
بعد انتهاء مدة الفصل، خمسة عشر يوماً، استأنف السادات دراسته في المدرسة نفسها، وحصل على شهادة الكفاءة. ولما أراد تحسين مجموعه في الشهادة نفسها، انتقل إلى مدرسة الأهرام الأهلية، فحصل منها، عام 1936، على المجموع المطلوب. ثم التحق بالكلية الحربية، الدفعة (37)، بعد الاستعانة بأحد "الصولات" ، الذي تعرف به والده أثناء خدمته في السودان، وكان لا يمكن القبول في الكلية إلاّ بالواسطة، بل كان يُنادَى على كل واحد من المتقدمين، فيقال اسمه فلان وواسطته فلان. وكان هذا "الصول" قد عمِل في خدمة إبراهيم باشا خيري، رئيس لجنة قبول طلبات الالتحاق . ولم يكن إبراهيم باشا هو الواسطة الوحيدة، بل لجأ والد السادات إلى الدكتور فيتس باتريك، رئيس القسم الطبي في مستشفيات الجيش البريطاني في القاهرة ، وكان والد السادات قد عمل معه موظفاً في الوحدة الطبية، التابعة للجيش البريطاني، بالقرب من شبين الكوم . ويقول السادات: وهكذا قُبلت بالكلية الحربية، وكان ترتيبي آخر المقبولين، وعددهم اثنان وخمسون، وذلك لأن واسطتي كانت أقلّ الوساطات شأناً. ففي ذلك الوقت، كانت الوساطات تتدرج من الأمير محمد علي، ولي العهد، إلى الباشوات والباكوات من ذوي النفوذ" .
ولم يمكث في الكلية الحربية إلا تسعة أشهر فقط. فقد كان الحظ حليفه، لأن الدفعة التي كان ضمن أفرادها، تخرجت بسرعة بسبب الحاجة الملحّة إلى أعداد كبيرة من الضباط، بعد سياسة توسيع الجيش.
ثالثاً: السادات والعمل السياسي
عُيّن السادات، عند تخرّجه، برتبة ملازم ثانٍ، في قرية "منقباد" في صعيد مصر. وكان بها المعسكر الرئيسي للجيش المصري، وقتذاك. وفي هذا المعسكر، التقى السادات الضابط جمال عبدالناصر، للمرة الأولى، وتم التعارف بينهما، ثم صداقة لم تدم، بسبب نقل جمال إلى مكان آخر. وقد أُلحق السادات بسلاح المشاة، ثم بسلاح الإشارة، ثم نُقل إلى القاهرة. وتدرج في الرتب العسكرية، حتى وصل إلى رتبة يوزباشي (نقيب حالياً)، وتعرف هناك بشخصيات كثيرة، أبرزها شخصية الضابط الطيار حسن عزت، الذي كان ذا نشاط كبير واتصالات وثيقة بالجمعيات السرية، وعلاقات وطيدة ببعض الضباط، الذين جمعهم الاهتمام بقضايا مصر، السياسية والعسكرية، مثل الفريق عزيز علي المصري . وكان محور هذه الاهتمامات مقاومة الاحتلال الإنجليزي، والوقوف في وجه الملك والحاشية، اللذين يسهلان بقاء هذه القوات، ثم العداء السافر للأحزاب السياسية الموجودة آنذاك . وقد أدّى حسن عزت دوراً بارزاً في بلوَرة نشاط السادات السياسي، إذ ساعده على الانضمام إلى كثير من الجمعيات السرية، والتعرف بنفرٍ من الضباط المهتمين بقضايا مصر، السياسية والعسكرية، مثل عبدالمنعم عبدالرؤوف وعبداللطيف محمود البغدادي وحسن إبراهيم السيد وخالد محمد أمين محيي الدين وغيرهم، ممّن ضمهم تنظيم الضباط الأحرار فيما بعد.
كما بدأ السادات الاتصال بجماعة "الإخوان المسلمين" في عام 1940. فتعرف بالشيخ حسن البنا ، مرشد الجماعة، الذي عرّفه بالفريق عزيز المصري. وفوجىء السادات، في عام 1941، بقرار نقله إلى مرسى مطروح، التي تبعد عن القاهرة نحو 500 كيلومتر، حيث عمل كضابط إشارة في آلاي مدفعية .
وكان السادات، كما شهد بذلك عدد كبير من زملاء الدفعة (37)، الذين زاملوه في خدمته العسكرية، دائم الصِّدام مع الضباط الإنجليز، وكانوا يسيئون معاملته، مما جعله يفكر، في عام 1941، أثناء الحرب العالمية الثانية، كما يذكر في مذكراته، في تدبير خطة انقلاب، إذ أقدم على الاتصال بقادة الوحدات المنسحبة من مرسى مطروح، في ذلك الوقت، ليتفق معهم على الالتقاء في وقت محدد، عند فندق "مينا هاوس"، في نهاية طريق الإسكندرية ـ القاهرة الصحراوي، ثم الاحتشاد هناك، والتحرك إلى القاهرة للاستيلاء على السلطة وضرب الإنجليز .
رابعاً: السادات وراء القضبان
دخل السادات السجن مرتين، الأولى عام 1942، والثانية عام 1946. كان سَجنه، في المرة الأولى، نتيجة تعاونه مع الجواسيس الألمان ضد الإنجليز، مما عرّضه للطرد من الخدمة العسكرية، في شهر أكتوبر عام 1942، بعد القبض على جاسوسين من الجواسيس الألمان واعترافهم بتعاون السادات معهم. ولم يكد يخلع السترة العسكرية، حتى قبضت عليه السلطات المدنية، وتم ترحيله إلى سجن الأجانب، ثم إلى معتقل "ماقوسة"، على أطراف المنيا في صعيد مصر. ثم نقل، في عام 1944، إلى معتقل الزيتون بالقاهرة. وقد تمكن من الهرب منه، ومعه حسن عزت، وأربعة آخرون، منهم موسى صبري، ومحسن فاضل . ومن الطريف أن السادات توجّه، ومعه محسن فاضل إلى قصر عابدين، ودخلا حجرة الاستقبال، وقيّدا اسميهما في دفتر التشريفات، وذكرا أنهما ضمن المحبوسين في معتقل الزيتون: "وقد حضرنا خصيصاً لكي نقول للملك، إن الحكومة يجب ألا تخضع للسلطة البريطانية، وإننا سنعود على الفور إلى المعتقل بمحض إرادتنا" . وقد عادا، بالفعل، إلى المعتقل، ومكثا به حتى نهاية عام 1944، حين تمكنا من الهرب مرة أخرى. وظل السادات مختفياً، متنكراً، إلى سبتمبر عام 1945، حتى انتهت الحرب العالمية الثانية، وأُعلن انتهاء الأحكام العرفية، فأصبح، بمقتضى ذلك، حراً طليقاً.
عاود السادات اتصاله بزملائه القدامى، وتعرف بشاب وطني، يُدعى حسين توفيق . وبدأ السادات وزملاء الجمعية السرية، في التخطيط لتنفيذ بعض الاغتيالات السياسية، ومنها محاولة اغتيال النحاس باشا، التي لم تنجح. ولكنهم نجحوا في اغتيال أمين عثمان ، وزير المالية، آنذاك، والذي وصف علاقة مصر ببريطانيا، بأنها زواج كاثوليكي. وكان حسين توفيق هو الذي تمكن من قتله، وقُبِض على السادات وأُودِع سجن "قرة ميدان" على ذمة تلك القضية. وقضى في السجن نحو سنتين إلى عام 1948، حين حُكم ببراءته. وفي السجن، استغل موهبته الصحفية؛ فأصدر صحيفة، أسماها "الهنكرة والمنكرة"، ثم أخرى باسم "ذات التاج الأحمر". وقد عانى السادات معاناة شديدة بين جدران الزنزانة (رقم 54) في هذا السجن، وأصابته عدة أمراض، ظل يعالج من جرائها إلى آخر حياته .
بعد الإفراج عنه، توسط له صديقه، الكاتب المعروف، إحسان عبدالقدوس ، فعمل صحفياً محترفاً في دار الهلال، حيث نشر مذكراته عن السجن. كما صار يحرر باباً أسبوعياً، يشكل مجلة قائمة بذاتها. وقد أثبت موهبة صحفية واضحة، وهذا يفسر لِمَ عيّنه جمال عبدالناصر، بعد الثورة، رئيساً لمجلس إدارة التحرير، التي أصدرت صحيفة الجمهورية الناطقة بلسان الثورة. وأخذ السادات يكتب في الجمهورية مقالاً سياسياً قصيراً، في الصفحة الأولى. كما أصدر أيضاً أربعة مؤلفات، تتضمن شيئاً من سِيرته الشخصية، وبعض فصول من قصة الثورة .
خامساً: السادات والثورة
عاد السادات، في 15 يناير 1950 ، إلى الخدمة في الجيش مرة أخرى. ذلك أنه التقى الدكتور يوسف رشاد، المقرّب من الملك فاروق، ورئيس الحرس الحديدي، وكالمه في التوسط له للرجوع إلى الجيش. فنصحه الدكتور رشاد بأن يحاول مقابلة الملك في مسجد الحسين، بعد صلاة الجمعة، ويسارع في تقبيل يده. وفعل السادات ذلك، وعندما سأله الملك عن حاجته، ذكر له رغبته في العودة إلى الخدمة العسكرية. فأمر الملك وزير الحربية، حيدر باشا ، بإرجاعه إلى الخدمة العسكرية. وقال حيدر لأحد الضباط: "رجّع الولد ده للجيش". وعاد السادات يستأنف اتصالاته برفاق التنظيمات السرية داخل القوات المسلحة، إلى أن التقى، مرة أخرى، جمال عبدالناصر، الذي وافق على ضمّه إلى تنظيم الضباط الأحرار، في أواخر عام 1951. ويقال أيضاً إن عبدالناصر، قد أسند إلى السادات رئاسة المجموعة السياسية داخل التنظيم .
وعند قيام الثورة، وفي مقر القيادة العسكرية بكوبري القبة، اتفق رجال الثورة على أن يكون السادات هو المتحدث الرسمي باسم الثورة. وانبعث صوت السادات، عبر أمواج الأثير، من الإذاعة المصرية، ليعلن بيان الثورة الأول، يوم الثالث والعشرين من يوليه 1952.
إلى المصريين والأجانب
اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير، من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم. وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون المغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين.
وأمّا فترة ما بعد الحرب، فقد تضافرت فيها عوامل الفساد، وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمره إمّا جاهل، أو خائن، أو فاسد، حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها. وعلى ذلك، فقد قمنا بتطهير أنفسنا، وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم، وفي خلقهم، وفي وطنيتهم. ولا بد أن مصر كلها، ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب.
أمّا مَن رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين، فهؤلاء لن ينالهم ضرر، وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب.
وإني أؤكد للشعب المصري، أن الجيش، اليوم، كله، أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور، مجرداً من أية غاية. وأنتهز هذه الفرصة، فأطلب من الشعب ألاّ يسمح لأحد من الخونة بأن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف، لأن هذا ليس في صالح مصر. وإن أي عمل من هذا القبيل، سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل، وسيلقى فاعله جزاء الخائن في الحال، وسيقوم الجيش بواجبه هذا، متعاوناً مع البوليس.
وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسؤولاً عنهم، والله وليّ التوفيق.
بعد أن فرض رجال الثورة سيطرتهم الكاملة على الأحوال في مصر، كاد السادات يكون غائباً عن الصورة؛ فلم يُسند إليه أي منصب، فظل بعيداً عن مجريات الأحداث المؤثرة في أحوال مصر. ونظراً إلى سابق اشتغاله بالصحافة، عُهد إليه بالإشراف على جريدة "الجمهورية"، التي كانت تُمثل وجهة نظر الثورة. وتولّى منصباً غير ذي أهمية، عام 1954، حين عُيّن وزير دولة بلا وزارة، إلى أن تكوّن أول مجلس نيابي، عام 1957، فأصبح وكيلاً للمجلس، تحت رئاسة عبداللطيف البغدادي. وعمل رئيساً لمجلس الأمة المشترك بين إقليمَي الجمهورية العربية المتحدة، بعد قيام الوحدة بين مصر وسورية، عام 1958، ثم رئيساً لمجلس الأمة المصري، بعد الانفصال. ثم أميناً عاماً للمؤتمر الإسلامي، وأصبح رئيساً لمجلس الأمة، بدءاً من عام 1964 إلى أواسط عام 1969.
وظل رئيساً لمجلس الأمة حتى اختاره عبدالناصر نائباً له، قبل رحيله بعدة أشهر، مما مكّن السادات من تولّي رئاسة مصر من بعده. وكان السادات، طوال الفترة السابقة، حريصاً كل الحرص على إرضاء عبدالناصر، فهو يقول:
"تساءل البعض، في حيرة، كيف قضيت هذه الفترة الطويلة مع عبدالناصر، من غير أن يقع بيننا ما وقع بينه وبين بقية زملائه؟ إمّا أنني كنت لا أساوي شيئاً على الإطلاق، وإما أنني كنت خبيثاً غاية الخبث، بحيث تحاشيت الصراع معه".
ولا شك أنه تحاشى الصراع تماماً مع جمال، فهو يقول:
"كنت أقابل كل ما يفعله عبدالناصر بالحب الخالص من جانبي. هذا ما جعلني أعيش مـع عبدالناصر 18 سنة دون صراع، فأنا إلى جانبه منتصراً أو مهزوماً ... ولعل هذا ما جعل عبدالناصر يتلفت حوله، بعد 17 سنة، ويتنبه إلى أن هناك إنساناً، لم تقُم بينه وبينه معركة في يوم ما" .
سادساً: السادات رئيســاً
وهذه المرحلة، هي أهم مراحل حياته. ففيها تبلورت كل تجارب المراحل السابقة. وفيها وقعت أحداث بارزة، غَيّرت وجه التاريخ المصري. وقد نهض السادات بدور تاريخي بارز في حياة مصر والمنطقة العربية. ولعل أبرز حدثين في تلك الفترة هما: حرب العاشر من رمضان (السادس من أكتوبر عام 1973)، وتوقيع اتفاق السلام مع إسرائيل.
وفي بادئ الأمر، ظهر السادات أمام الشعب رجلاً مجهول التاريخ، مجهول الهوية، لا يوحي بأي قدرات على الحكم أو العمل السياسي. كان في المقاعد الخلفية لرجال الثورة، ولم يكن عبدالناصر قد كلفه بمهامّ العمل التنفيذي، كما كلف الآخرين. حتى بعد أن عيّنه نائباً له، لم يكن يطلِعه على كثير من المعلومات المهمة، ولا يصارحه بما ينوي عمله. ولذا، عندما سافر عبدالناصر إلى موسكو، في زيارته الأخيرة إليها، وكان في نيته أن يقبَل مبادرة روجرز، التي طرحتها الولايات المتحدة، لم يكن السادات يعلم بذلك، لذا، جاهر برفض تلك المبادرة، فغضب عليه عبدالناصر، وأمره أن يذهب إلى قريته "ميت أبو الكوم" لبعض الوقت .
لمّا تولّى الرئاسة، أعلن السادات أنه سيسير على سياسة عبدالناصر. وأخذ كثير من الناس يسخرون من هذا الرجل، الذي يبدو ضعيفاً، وتنتشر حوله النكات الساخرة. وتوقع كثيرون أيضاً، أنه لن يبقى في مَوقعه بضعة أشهر. وكان السوفيت، آنذاك، مقتنعين بأن السادات شخصية ضعيفة، يمكن السيطرة الكاملة عليها، من خلال رجالهم من قيادات اللجنة المركزية في مصر. أمّا الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت في قلق من ناحية هذا الرجل، وهل في مقدرته أن يواصل الاتجاه الجديد، الذي كان عبدالناصر قد بدأ السير فيه، من قبول مبادرة روجرز، بعد اليأس من مساندة السوفيت له؟ خاصة بعد أن بدأت إسرائيل تضرب القرى والمدن، من دون أن تتمكن مصر من التصدي لطائرات إسرائيل، بسبب الحاجة الشديدة إلى صواريخ "سام" ، لتأمين سماء مصر وعمقها. وانتهت حسابات واشنطن إلى أن السادات، لن يحكم أكثر من أربعة أشهر، ثم يسقط.
وبعد أشهر قليلة، توالت المفاجآت التي أذهلت الجميع؛ إن الرئيس الجديد، يسير على سياسة الصدمات الكهربائية. فها هو يتصدى لرجال اللجنة المركزية وبعض الوزراء ، الذين كانوا ينظرون إليه في غرور، بل قدّموا استقالاتهم ليضعـوه في مأزق؛ فيسارع إلى التخلص منهم، ويودِع معظمهم السجون . وها هو يعلن مبادرة جديدة، في 4 فبراير 1971، تتضمن موافقة مصر على مد فترة وقف إطلاق النار، وبدء العمل في تطهير قناة السويس، وفتحها للملاحة الدولية، على أن تكون إسرائيل مستعدة للانسحاب الجزئي من سيناء، ضمن جدول زمني للانسحاب الكامل إلى الحدود الدولية .
ثم فاجأ العالم، في عام 1971 أيضاً، بقرارات تصفية الحراسات، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإغلاق المعتقلات. وطرَد الخبراء السوفيت من مصر في يوليه 1972. ثم توّج قراراته، في عام 1973، بقرار العبور. وكان نصر أكتوبر 1973 رائعاً بكل المقاييس، ويكمن الإسهام الرئيسي لأنور السادات في أنه أتاح لجيش مصر الفرصة، ليبدأ ويمتلك زمام المبادأة، للمرة الأولى في حروبه ضد إسرائيل. إذ في الساعة الثانية من بعد ظهر يوم 6 أكتوبر 1973، الموافق 10 رمضان 1393، عبَرت 240 طائرة، في موجات متواصلة، وعلى ارتفاع منخفض، الحدود إلى إسرائيل. واستمرت الطلعة عشرين دقيقة، وكانت مؤثّرة بشكل واضح. وبعد 15 دقيقة، طلب السادات تكرار الضربة. وانطلقت موجات الطيران، تُدَمّر منشآت العدو. وجاء أول بيان يعلن غرس العلم المصري على الضفة الشرقية. وانطلقت المدفعية المصرية، وتحت ستار طلقاتها، عبَرت قوات المشاة والقوات الخاصة بالصواريخ المضادة للدبابات، واقتحمت خط بارليف ، وتمكنت من صدّ الهجمات المضادة الإسرائيلية. وكسر الجيش المصري حاجز الخوف الإسرائيلي، وكان عبور القناة، واقتحام خط بارليف. وأثبت هذا الجيش زيف مقولة موشي ديانMoshe Dayan، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، الذي قال، ساخراً، عند دراسة احتمالات عبور الجيش المصري: "إن المصريين في حاجة إلى سلاحَي المهندسين، السوفيتي والأمريكي معاً، ليمكنهم النجاح في ذلك". وصرخت جولدا مائير Golda Meir، رئيسة مجلس الوزراء الإسرائيلي، آنذاك، تستنجد بالأمريكيين قائلة: "إن إسرائيل ستنتهي" . وكان هذا الحدث أعظم إنجازات أنور السادات، بلا شك. وتبع ذلك فتح قناة السويس، وإعادتها للملاحة الدولية في 5 يونيه عام 1975م.
سابعاً: أحداث 18 و 19 يناير 1977
إثر الانتفاضة الشعبية، التي كانت نقطة تحوّل مهمة في حكم السادات، اتُّخذت إجراءات عنيفة، ثم عدة قوانين استثنائية، انتهت بحملة اعتقالات ضخمة، في سبتمبر 1981، كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى حادث الاغتيال، والتعجيل به.
أســبابها : وقعت الانتفاضة في 18 و 19 يناير 1977. وكانت الصحف، قبل ذلك التاريخ، تبشّر الناس، على مدى شهور طويلة، بتثبيت الأسعار، وتحسين أحوال المعيشة. وتنشر تصريحات الرئيس بقرب قُدوم الرخاء، الذي سيعمّ الجميع. وفي الوقت نفسه، كانت الوزارة الجديدة، برئاسة ممدوح سالم، تعقد سلسلة من الاجتماعات، تدور فيها مناقشات حادّة وموسّعة حول ضرورة رفع الدعم عن بعض السلع، استجابة لقرار من البنك الدولي بعدم إقراض مصر مبلغ 200 مليون جنيه، ما لم يتم رفع الدعم نهائياً. وأمر السادات الوزراء بالاستجابة لقرار البنك الدولي، وصدرت قرارات رفع الأسعار. وكان ردّ الفعل الشعبي عنيفاً؛ ففي صباح 18 يناير، تحرّك عمال مصانع حلوان في مسيرة متجهة إلى مجلس الشعب. وفي الوقت نفسه، تجمّع الطلبة في جامعتَي القاهرة وعين شمس، كما تجمّع عمال الترسانة البحرية في الإسكندرية، بغرض تنظيم مسيرة في ميدان المنشية. وحدثت تجمعات أخرى في أسوان والمنصورة وبور سعيد. وتحوّل التظاهر إلى شغب وتحطيم وفوضى. واتجهت التجمعات الهائجة لمهاجمة مواقع السلطة، مثل أقسام الشرطة والمطافئ. وبذلت الشرطة جهوداً مستميتة للسيطرة على الموقف، ولم يكن هناك مناص من نزول القوات المسلحة. واتصل ممدوح سالم بالرئيس السادات في أسوان، الذي طَلب منه الإعلان، رسمياً، عن العدول عن قرارات رفع الأسعار.
واستمرت التظاهرات حتى الساعة الثالثة من الصباح التالي. وقد اشتعلت النار في مبنى مؤسسة "أخبار اليوم"، واحترقت مخازن الورق، وأُلغيت زيارة الرئيس اليوغسلافي، جوزيف بروز تيتو Josip Broz Tito، إلى أسوان، وعاد السادات إلى القاهرة. واستمرت التظاهرات يوم 19 يناير إلى الساعة التاسعة مساء، إلى أن تم فضّها تماماً، بمعاونة القوات المسلحة، إذ لم تستطع الشرطة وحدها تفريقها. ووصف راديو موسكو هذه التظاهرات بأنها انتفاضة شعبية. وكان السادات في قمة الألم والحزن مما جرى، ويبدو أنه بدأ يفكر في إجراءات صارمة، وكان كلّما تحدث عن هذه التظاهرات، بعد ذلك، يصفها بأنها انتفاضة "حرامية" .
ثامناً: زيارة القدس والتحول الكبير
أعلن السادات، في خطبته في مناسبة افتتاح الدورة الجديدة لمجلس الشعب، في 9 نوفمبر 1977، استعداده للذهاب إلى إسرائيل، بقوله: "إنني مستعدّ للذهاب إلى آخر العالم، بما في ذلك إسرائيل، إذا كان من شأن ذلك أن يجنّبنا جرح جندي واحد (ناهيك من قتل جندي أو ضابط واحد) ". وانتهز مناحم بيجن Menachem Begin، رئيس وزراء إسرائيل، في ذلك الوقت، الفرصة، فوجّه إليه الدعوة إلى تلك الزيارة. وبالفعل، تمّت تلك الزيارة، في 19 نوفمبر 1977. وفي اليوم التالي، ألقى السادات خطابه الشهير في الكنيست ، ثم عاد إلى مصر، وركب سيارة مكشوفة من مطار القاهرة، وفوجئ بالملايين من أبناء الشعب المصري في انتظاره، للترحيب به والهتاف له. وكم كان الفارق كبيراً بين هذا الاستقبال الحافل والتظاهرات الصاخبة يومَي 18 و19 يناير، والتي كادت تحطم القاهرة وعدداً من المدن الأخرى! ولعل الناس في مصر، كانوا قد سئموا الحروب، وتصوروا أن "توقيع اتفاقية سلام"، سوف يحل كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. لذا، كان هتافهم عالياً، واستقبالهم حافلاً إلى أقصى حد . وسُرّ السادات سروراً عظيماً، وأحس بارتياح كبير، بعد أن كاد يفقد الثقة برئاسته وأسلوب قيادته، وشعر بأنه رجع بطلاً ونجماً متألقاً. وأخذ إحساسه بالعظَمة يتنامى، وساعده على ذلك أبواق الدعاية، العالمية والصهيونية، التي أشعرته بأنه محطّ أنظار العالم، ومركز اهتمام وسائل الإعلام في كل أنحاء الدنيا. وجاء ترشيحه، ثم حصوله على جائزة نوبل للسلام ، وأصبحت صورته أمام الناس صورة نجم عالمي عظيم، تهتم وسائل الإعلام بملابسه، وطريقة كلامه، وتحركاته. وتنشر مجلة "شتيرن Stern" الألمانية، صورته على غلافها، وفي يده وردة، وتمنحه لقباً، وتعُده واحداً من أكثر الرجال أناقة في العالم. ويَلقَى المديح ومظاهر الإعجاب من كل جهة، حتى إن أحد أعضاء مجلس الشعب عن دائرة "ببا"، جنوب مدينة بني سويف بصعيد مصر، تقدم باقتراح مكتوب إلى مجلس الشعب، يرى فيه منح الرئيس لقب سادس الخلفاء الراشدين. وتم تحويل الاقتراح إلى لجنة الاقتراحات والشكاوى، بتاريخ 14/2/1981. واجتمعت اللجنة في 15/3/1981، برئاسة محمود أبو وافية ، ووافقت على الاقتراح، وحوّلته إلى لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، لإصدار القرار، ودعوة الناخبين إلى الاستفتاء على منح الرئيس ذلك اللقب. وقد جاء حادث الاغتيال ليئد مثل هذا الاستفتاء الغريب.
أمسى السادات لا يتحمل أي معارضة، وازداد عدد خصومه ومخالفيه في داخل مصر، وفي نطاق الأمة العربية. وحدثت قطيعة كبيرة مع أغلب الدول العربية، التي قطعت علاقاتها بمصر، باستثناء سلطنة عُمان، بعد مؤتمر بغداد (الملحق "ب")، ومقررات قمة الصمود والتصدي الثالثة في دمشق. وبدأت المعارضة في الداخل تزداد، وكان رد السادات عنيفاً. وصدرت قرارات سبتمبر 1981 ، التي شملت اعتقال قطاعات متعددة. وكان العدد، المعلن رسمياً للمقبوض عليهم، هو 1536 شخصاً، منهم فؤاد سراج الدين ، رئيس حزب الوفد، والأنبا شنودة، بطريرك الكرازة المرقسية في مصر، ومحمد حسنين هيكل، وعبدالعظيم أبو العطا، وزير الزراعة الأسبق، وأعداد كبيرة من كبار رجال الدين، والمثقفين، والسياسيين، وأساتذة الجامعات، والمحامين، ورجال الصحافة والفكر،مسلمين ومسيحيين. وقد تسببت قرارات سبتمبر بتصعيد الأزمة، ودفع قوى كثيرة إلى الوقوف في صف واحد ضد النظام.
وبعد أن نُفّذت إجراءات الاعتقال، أرسل المراسلون الأجانب إلى الصحف والإذاعات ومحطات التليفزيون العالمية، يصِفون الأحداث بأنها ضربة شديدة للديموقراطية. وكان بعض الصحف الغربية، خاصة صحيفة "الصنداي تايمز Sunday Times"، في غاية الحدّة، في انتقاد السادات. ونشرت موضوعاً يغطي صفحة كاملة، جعلت فيه رسماً لوجه السادات، يحمل ملامح حمار. وأصبح السادات في وسائل الإعلام الغربية دكتاتوراً باطشاً.
وكان الخطاب، الذي ألقاه السادات عشية قرارات الاعتقال، قد أثار استياء شديداً، خصوصاً عندما تعرّض بالإهانة لأحد علماء المسلمين، حين قال: "لن أرحمهم... لن أرحمهم... (قالها مرّات) التلمساني سامحته مراراً، ولن أرحمه هذه المرة. المحلاوي مرمي في السجن زي الكلب.." ، كررها ثلاثاً .
لم يكتفِ السادات بهذه العبارات، التي أثارت استنكاراً شديداً، بل تعرّض، في خطابه هذا، لرجال الدين المسيحي، واتّهم كبارهم بتدبير مخططات تآمرية، وبأنهم دبّروا المظاهرات الصاخبة ضده في الولايات المتحدة الأمريكية، أمام مقر إقامته في "البلير هاوس"، وأمام البيت الأبيض، وأمام مبنى الأمم المتحدة. وبدأت سُحُب السخط تتجمع وتتكثف، إلى أن بلغت المأساة ذروتها، وكانت النهاية الأليمة يوم 6 أكتوبر 1981، بحادث الاغتيال، الذي يعدّ أغرب حادث اغتيال في تاريخ الأمة العربية والشرق الأوسط، لأنه تمّ من قِبَل أفراد من القوات المسلحة، والسادات بينهم يظنّ أنه في غاية الأمان، وكان يصِفهم دائماً بأنهم أولاده.
تاسعاً: اغتيال الســادات
كان حادث الاغتيال مروعاً، مباغتاً، إذ تم في سرعة مذهلة، ولم يستغرق سوى 35 ثانية! وبعدها اهتز العالم كله. إن طلقة الرصاص، التي أصابت السادات، وأودت بحياته، سرعتها 735 متراً في الثانية، وأطلقت على بعد نحو 20 متراً، أي أن الطلقة أصابته، وأودت بحياته في 20/735 من الثانية!
قرّر المسؤولون عن الأمن أن هناك أكثر من 14 جهة، خارجية وداخلية، استهدفت اغتيال السادات، وتنفيذ أعمال تخريب ضخمة داخل مصر. وأنه تجمعت لدى أجهزة الأمن في مصر معلومات عن اتصالات بين رجال بعض التيارات المعارضة ومنظمات إرهابية دولية، مثل مجموعة كارلوس، وتنظيم الألوية الحمراء، وتنظيمات الإرهاب في ألمانيا الغربية. كما كان هناك اتصالات بتنظيم الجيش الأحمر الياباني.
وفي الحقيقة، تم اغتيال السادات على يد مجموعة من المنتمين إلى إحدى الجماعات الإسلامية، وهم:
- الملازم الأول خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، من سلاح المدفعية.
- والملازم الأول (سابقاً) عبدالحميد عبدالسلام (سبق أن استقال من الخدمة العسكرية، وكان ضابطاً في القوات الجوية).
- والملازم الأول المهندس الاحتياطي عطا طايل حميدة رحيل، من مركز تدريب المهندسين.
- والرقيب المتطوع حسين عباس محمد، من قوة الدفاع الشعبي.
تسلسـل الأحـداث كانت البداية يوم 23/9/1981، حين وقع الاختيار على الملازم الأول خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، للاشتراك في طابور العرض العسكري في أكتوبر القادم، ليحل محل زميل له، شاءت الأقدار أن تمنعه من المشاركة.
وفي اليوم التالي، توجّه خالد إلى أرض العرض، وحضر "البروفات". وهناك، راودته الفكرة، وألحّت عليه. فلم يستطع مقاومتها، فاختمرت في رأسه، وعقد العزم على تنفيذها . (يجدر بنا أن نذكر أن شقيقه، محمد الإسلامبولي، كان ضمن المعتقلين في أحداث سبتمبر).
بُعيد صلاة الجمعة، 25/9/1981، أسرع خالد الخطى إلى منزل صديقه المهندس محمد عبدالسلام فرج، وهو المتهم الخامس، ببولاق الدكرور، لزيارته. وبدأ يتجاذب معه أطراف الحديث حول الأوضاع السائدة في البلاد على وجه العموم، وحول ما يتعرض له المسلمون من ظلم، يحيق بهم وبعلمائهم، وأنه لا بد من تمكين شرع الله. وهنا، انتهز خالد الفرصة، فكاشفه بأمر تعيينه في طابور العرض، وبفكرته في اغتيال رئيس الجمهورية في منصة العرض، موضحاً أنه يحتاج إلى معاونة ثلاثة أو أربعة من "الإخوة"، لمساعدته على التنفيذ، وتدبير القنابل والذخيرة. فرحّب محمد عبدالسلام بالفكرة.
وفي المساء، استقبل خالد صديقه محمد عبدالسلام وزوجته، وفي صحبتهما كل من عبدالناصر عبدالعليم درة، المتهم الثالث عشر في قضية الاغتيال، وصفوت إبراهيم الأشوح، المتهم الثالث والعشرين. وكان اللقاء في منزل خالد، الذي تسكن فيه شقيقته وزوجها. ولما علم زوج شقيقته بحضورهم، اعترض على تلك الاستضافة، خشية أن يكون بينهم أحد من المطلوب القبض عليهم. بيد أن خالداً هدّأ من روعه، وطمأنه بأنه سيدبر لهم أمر مَبيتهم في مكان آخر، صبيحة اليوم التالي.
وفي اليوم التالي، انتقلوا إلى منزل عبدالحميد عبدالسلام (صديق خالد)، وهو المتهم الثاني في القضية، حيث تم تكليف صالح أحمد صالح جاهين، المتهم الثاني عشر، بأمر تدبير الذخائر والقنابل المطلوبة.
عرض الخطة على مجموعة الصعيد وفي يوم 28/9/1981، حضرت مجموعة من الصعيد، لمقابلة محمد عبدالسلام وخالد، اللذين عرضا خطة الاغتيال، التي نسج الأخير خيوطها. فوافقوا عليها، وانعقد عزمهم على تنفيذ الخطة، على أن تمدهم مجموعة الصعيد بالذخيرة اللازمة لتنفيذ عملية الاغتيال.
كما التقى خالد، في شقة عبدالحميد أيضاً، كلاًّ من عطا طايل حميدة، وحسين عباس محمد، وعرض عليهما خطته، فوافقا عليها، واتفقا معه على تنفيذها. ثم أرسل رسالة إلى عبود الزمر (مقدم استخبارات مفصول من القوات المسلحة) بتفاصيل الخطة. فرد عبود برسالة مفادها موافقته على الاغتيال، مُرفَقَة بتوجيهاته في كيفية دخول الأفراد إلى منطقة العرض، وتصوراته لما يمكن أن يحدث في حالة نجاح العملية.
تدبير الذخائر والأســلحة وفي يوم 2/10/1981، قبل الحادث بأربعة أيام، تم تدبير ما يزيد على مائة طلقة 7.62 × 39مم، أخذ منها خالد إحدى وثمانين طلقة، من بينها أربع طلقات "خارق حارق"، معلّمة بعلامة حمراء على المقذوف، وأعطاها لعبدالحميد عبدالسلام، الذي خبأها فوق سطح المنزل.
وفي مساء اليوم نفسه، انتقل محمد عبدالسلام من شقة عبدالحميد إلى عيادة أسنان، بحي الزيتون، ليتخذها مقراً لاجتماعاته مع أفراد جماعته. وخلال المدة من 2 إلى 4/10/1981، اكتمل تدبير باقي الذخيرة والقنابل اليدوية اللازمة ورشاش ومسدس. تسلمها خالد إضافة إلى ثلاث خزن بنادق آلية وخزنة رشاش قصير، وثلاث إبر ضرب نار.
وأخذ خالد إبر ضرب النار وخزن البنادق الآلية، وخزنة الرشاش، والقنابل، ووضعها في حقيبته "السمسونايت"، وانصرف بعد أن اتفق مع عبدالحميد على اللقاء أمام بوابة حديقة المريلاند، في الساعة العاشرة مساء ذلك اليوم.
الأحداث على أرض العــرض وفي الموعد المحدد، ذهب خالد إلى المكان المتفق عليه، ومعه حقيبته "السمسونايت"، وبها الذخيرة والقنابل اليدوية وإبر ضرب النار وخزن البنادق الآلية وخزنة الرشاش. فوجد عبدالحميد في انتظاره داخل سيارته، من نوع "فيات"، مرتدياً الزي العسكري، فقاد خالد السيارة، وعرّجا، في طريقهما إلى أرض العرض، على مقهى بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة، حيث انضم إليهما كلٌّ من عطا طايل، وحسين عباس، وكانا يرتديان الزي العسكري أيضاً، وتوجهوا جميعاً إلى أرض العرض. وعلى مقربة من تجمع آليات وحدة خالد وأفراده، نزل عبدالحميد وعطا وحسين، ومعهم خطاب مزوّر، مفاده أنهم ملحَقون من اللواء 118 مدفعية . وكان الاتفاق، أن يدخل هؤلاء الثلاثة ويسألوا عن خالد، الذي كان قد ترك خبراً مسبقاً في وحدته، أن ثلاثة من الجنود الملحَقين، سيصلون في تلك الليلة. وعقب دخولهم، بربع ساعة تقريباً، لحق بهم خالد، فوجدهم في انتظاره، يقفون إلى جوار خيمته. فطلب منهم مخالطة الجنود بالوحدة، بعد أن مزق الخطاب المزوّر، الذي كان معهم.
وفي صبيحة يوم الإثنين، الموافق 5/10/1981، عُين خالد ورفاقه عبدالحميد وعطا وحسين "خدمة على السلاح". وفور أن تسلم خالد الأمر بنزع إبر ضرب النار، من أحد الضباط، كلّف عبدالحميد بتمييز البنادق الآلية الثلاث، التي سيستخدمونها في عملية الاغتيال. فقام الأخير بتمييزها عن سواها بقطع صغيرة من القماش، دسّها في فوهاتها. وفي الوقت نفسه، ترك خالد حقيبته "السمسونايت" تحت سريره، بعد أن أخرج منها القنابل الأربع، ووضعها داخل خوذته، وعيّن حسين عباس حارساً لخيمته.
حادثة الاغتيال ما قبــل العمليــة كان السادات يعلم يقيناً أن رأسه مطلوب، وكان يطَّلع على الإجراءات الأمنية لحماية حياته. كما كانت جهات الأمن تبلِغه بما يصل إليها من معلومات، وكان قلقاً على أفراد أسرته، وكان دائماً يحذر زوجته وأولاده، ويأمرهم بالاحتياط.
وفي يوم 28 سبتمبر، أصرّ على زيارة المنصورة، في قطار مفتوح من الجانبين، ثم في سيارة مكشوفة، ورفض اقتراحاً بالسفر إلى المنصورة في الطائرة. وقبل وصوله إلى هناك، تلقّى فوزي عبدالحافظ، سكرتير الرئيس، رسالة لاسلكية من إحدى جهات الأمن، بوجود معلومات، تفيد أن أحد أفراد الجماعات الإسلامية، تقلّه سيارة "فولكس فاجن"، ينوي اغتيال السادات في المنصورة. وتحركت الطائرات العمودية تراقب الطريق، بحثاً عن هذه السيارة، وحلّقت في سماء المنصورة. ولكن لم يُعثر على شيء.
كان هذا الشخص، الذي يجري البحث عنه، هو عبود الزمر، ضابط الاستخبارات المفصول، الذي انضم إلى تنظيم الجهاد، وكان مطلوباً بشدة من أجهزة الأمن المصرية، وقد أخطر محمد نبوي إسماعيل، وزير الداخلية، وقتذاك، الرئيس السادات بأمره. وقد وجّه السادات إنذاراً إلى الزمر، يوم 28 سبتمبر، عبْر التليفزيون، قائلاً:
"إنني أعرف أن هناك ضابطاً منهم هارب، وربما يكون سامعني الآن، لقد اعتقلنا الآخرين جميعاً في خمس دقائق، وإذا كان هو قد تمكن من الفرار، فإنني أقول له إننا وراءه هو الآخر" .
ومن العجيب أن جهات الأمن، لم تكشف شيئاً عن وجود تنظيم سري مسلح لقلب نظام الحكم واغتيال السادات، إلاّ في أواخر سبتمبر 1981، وهذا ما سجلته حيثيات الحكم في القضية، التي عرفت باسم "قضية الجهاد رقم 48 لسنة 1982 أمن دولة عليا".
وفي يوم 30 سبتمبر، كان هناك مذكرة من وزارة الداخلية على مكتب الرئيس السادات. تقول المذكرة إن سائق سيارة أجرة، يُدعى صابر عبدالعظيم، تقدم إلى اللواء السماحي، مدير أمن القاهرة، وأبلَغه بأن هناك من يورطه في عملية شراء أسلحة والتدريب عليها. وكان مرفقاً بالمذكرة ثلاثة أفلام صوت وصورة: تصور ثلاثة لقاءات بين هذا السائق ونبيل المغربي، أحد أعضاء تنظيم الجهاد، منها فيلم يصور عملية تسليم مدفع. وتم القبض على نبيل المغربي، وحققت معه نيابة أمن الدولة. وكان المغربي، عند القبض عليه، يعلم بمخطط اغتيال السادات، ولكنه لم يفُه بعبارة واحدة في هذا الشأن.
ليلة العرض العسكري حدث أن توصل رجال الأمن إلى معلومات خطيرة، ليلة العرض العسكري، حيث التقى عبود الزمر أحد عملاء المباحث المندسّـين في التنظيم، في الساعة الثامنة مساء، في ميدان باب الحديد. وكان عبود في حالة هياج، ووصفه عميل المباحث بأنه كان "سعران" (مضطرباً)، وقال له: "لا بد من عملية كبيرة، إحنا ميتين .. ميتين" .
وقد اتصل نبوي إسماعيل، وزير الداخلية، بالرئيس السادات، وأبلَغه بذلك، ورجاه أن يعيد النظر في حضور العرض العسكري، ولكن السادات رفض، وهو يقول: "أنت هوّال وخوّاف، يا نبوي، العيال أصبحت خطوطهم مقطوعة، وأنا هدّدت الولد الزمر في خطابي" (يقصد خطاب 28 سبتمبر).
وكان هناك مفاجأة كبرى، ظهرت بعد العرض العسكري! لقد اتصل أحد قادة التنظيم بعميل للمباحث العامة، مدسوس في هذا التنظيم، وقال له: "لا تخرج من منزلك اليوم.. استمع إلى الراديو أو التليفزيون. وغداً الساعة 11 صباحاً، ستصلك تعليماتي" . وأدرك عميل المباحث، أن هناك عملية كبرى تتعلق بحياة السادات. وحاول الاتصال بالضابط الذي يرأسه، فلم يمكنه، وعندما استطاع الاتصال بغيره، كان السادات قد قُتل.
وفي تلك الليلة، جاءت التقارير إلى الرئيس، تُفيد أن الحرس الجمهوري تسلّم، في الصباح، منطقتين من الاستخبارات الحربية، وهما منصة العرض العسكري ومبنى وزارة الدفاع، حيث اعتاد الرئيس أن يزور القيادة العسكرية قبل العرض بنصف ساعة. وكان اجتماع قد عقد، ظهر يوم الخامس من أكتوبر، برئاسة اللواء أركان حرب محمد صبري زهدي، نائب رئيس قوات المنطقة العسكرية المركزية، وضمّ رجال رئاسة الجمهورية من جميع الأفرع، ورجال الاستخبارات الحربية والاستخبارات العامة، وقيادات المجموعة (75) استخبارات حربية، وهي على مستوى متقدم وكفاءة نادرة، وتم كتابة مذكرة "تنسيق" وقّعها الجميع.
وتأكد الرئيس بنفسه، قبل العرض بأربع وعشرين ساعة، من سيطرة أجهزة أمن رئاسة الجمهورية وقيادتها على منصة العرض العسكري، وأنه لمزيد من الحيطة، تم تركيب مائة وعشرين خطاً هاتفياً مباشراً داخل المنصة، التي لا تزيد مساحتها على تسعين متراً مربعاً. واطمأن الرئيس تمام الاطمئنان، ونام ليلته.
اليوم الدامي والنهاية الأليمة استيقظ السادات، كعادته، واهتزت أسلاك الهاتف، من الولايات المتحدة الأمريكية، بمكالمة من جمال السادات، ابن الرئيس، يهنىء أباه، كما تعود، في صباح السادس من أكتوبر، كل عام. ثم خابر الرئيس صهرَيه، المهندس عثمان أحمد عثمان، والمهندس سيد مرعي، ثم تحدث مع اللواء عبدالعزيز نصار، مدير المخابرات العامة، كما تلّقى مكالمة من نائبه، حسني مبارك، ثم من فؤاد محيي الدين، رئيس الوزراء في ذلك الوقت، ثم من نبوي إسماعيل. واعتذر السادات عن عدم تلّقي باقي المكالمات من رؤساء تحرير بعض الصحف المصرية. ثم دخل عليه الأطباء، لإجراء الفحوص اليومية المعتادة، وجاء خبير التدليك، وزاول السادات بعض التمرينات، واستحم بعدها بمياه فاترة.
كانت الصحف، في ذلك اليوم، تتحدث عن الأسلحة الغربية، التي ستظهر في العرض بنسبة كبيرة، تصل إلـى 50% من جملة الأسلحـة المشتركة، ومنها الطائرات الأمريكية من نوع "فانتوم PHANTOM"، والعمودية من نوع "شينوك CHINOOK"، والطائرات العمودية الفرنسية من نوع "جازيل GAZELLE"، والبريطانية من نوع "سي كينج SEA KING".
في العاشرة والنصف من صباح ذلك اليوم، كان السادات في مقر وزارة الدفاع، لالتقاط الصور التذكارية مع كبار القادة. وقد وقف إلى يمينه نائبه، حسني مبارك، وإلى يساره المشير محمد عبدالحليم أبو غزالة، وزير الدفاع. وكان السادات مرتدياً بدلته الهتلرية، التي صنعت في لندن، والتي كان مغرماً بها، ووصل غرامه بالزي الألماني، أن أمر أفراد الحرس الجمهوري بارتداء الخوذات العسكرية الألمانية. ورفض السادات أن يرتدي القميص الواقي من الرصاص على الرغم من إلحاح زوجته، السيدة جيهان، ووزير الداخلية. وكان سبب ذلك، أن البدلة الجديدة كانت ضيقة، ولا تسمح بارتداء القميص الواقي تحتها، ورفض السادات أن يلبس بدلة العام الماضي، وقال: "أنا رايح لأولادي، أنت هوّال وخوّاف، يا نبوي" . ثم توجّه الرئيس إلى أرض العرض، ليتبوأ مقعده من المنصة. وإلى يمينه نائبه، حسني مبارك، ثم الوزير العُماني شبيب بن تيمور، مبعوث السلطان قابوس. وإلى يساره المشير أبو غزالة، ثم سيد مرعي، ثم عبدالرحمن بيصار، شيخ الأزهر.
في ذلك الوقت، كان خالد الإسلامبولي قد توجّه إلى الخيمة، التي ينام فيها أصحابه، حسين عباس وعبدالحميد عبدالسلام وعطا طايل، وسلّمهم كيس الذخيرة، وأمرهم بالاستعداد. واستعد خالد الإسلامبولي بملابس العرض، وتناول خزنة الرشاش، بعد أن ملأها بالذخيرة، ووضعها في جَورَبه، ثم لف حولها (أستك) عريضاً حتى لا تسقط. وتحرك الجنود لتجهيز السيارات، وأمر الإسلامبولي بتسليم الأسلحة منزوعة إبر ضرب النار، إلى الجنود. وأخذ الإسلامبولي، وهو يتناول كوباً من الشاي، يتابع تسليم الأسلحة للجنود، إلى أن اطمأن إلى أن البنادق المعبأة بالذخيرة هي في حوزة عبدالحميد وعطا وحسين.
بدأ تحرك الجرارات، وخلفها المدافع، إلى ساحة العرض، كلٌّ في دوره المرسوم. وحمل الإسلامبولي الخوذة، التي سيرتديها في العرض، إلى السيارة التي سيركبها، ووضع تلك الخوذة أسفل المقعد. وأخذ يتفقد طاقم سيارته. وفي السادسة والنصف، ركبت الأطقم العربات الأربع، الخاصة بكتيبة خالد، وركب حسين وعبدالحميد وعطا العربة التي ركبها خالد، وكانت إلى اليمين من القطار الثاني لعربات اللواء المواجهة للمنصة، وجلس خالد إلى جوار السائق.
وفي حوالي الساعة الثامنة، وبينما كان الجنود منهمكين في أعمال النظافة للمدافع والعربات، أعطى خالد لعبدالحميد قنبلتَيْن يدويتَيْن دفاعيتَيْن. احتفظ عبدالحميد بواحدة، وأعطى الثانية لعطا طايل. وخبّأ خالد القنبلتين الأخريين في "تابلوه" العربة، ثم طلب من السائق عصام عبدالحميد، أن يذهب ليشتري "ساندوتشَيْن". وعند ذهاب السائق، انتهز خالد الفرصة، فغيّر خزنة الرشاش الخاص بالسائق، بخزنة أخرى مملوءة بالذخيرة، ووضع الخزنة الفارغة تحت الكرسي. ثم أعاد خالد ترتيب جلوس أفراد طاقم عربته، فأجلس عبدالحميد خَلْفه مباشرة في صندوق العربة، وظهره إلى المنصة، كما أجلس عباساً في آخر صندوق العربة، في الصف نفسه الذي يجلس فيه عبدالحميد، وظهره إلى المنصة كذلك، بينما أجلس عطا طايل في مواجهة عبدالحميد، ووَجْهه إلى المنصة.
وقبل تحرك السيارة لدخول طابور العرض، ظهر ضباط من رئاسة الجمهورية، يركبون دراجات نارية، أخذوا يفتشون السيارات واحدة بعد الأخرى. فألقى عبدالحميد نفسه فوق الرشاشات الثلاثة، ونام عليها، وجهز نفسه لتفجير واحدة من قنابل الصوت التي في حوزته، عند محاولة تفتيشه. ويقول خالد، في حديث إلى جريدة "الأنباء" الكويتية، ومجلة "الندوة" السعودية: نظرت إلى الخَلْف، فإذا هم ثلاثة ضباط كبار، منهم ضابط عمل معه عبدالحميد عبدالسلام، ويعرفونه جيداً، ويعرفون أنه فُصل من الخدمة. فأيقنت أن الأمر سينكشف، ولكن الله هيّأ من ينادي عليهم، أثناء تفتيش العربة السابقة لعربتنا، وهكذا شَق هؤلاء الضباط طريقهم بعيداً عن عربته، وقاموا بتفتيش العربة التي بعدها.
في ذلك الوقت، كان كل اهتمام الأمن منصرفاً إلى ما وراء منصة العرض، ظناً منهم أن عبود الزمر، قد يأتي من الخلف في هجمة انتحارية.
كان الحاضرون يستمتعون بمشاهدة العرض، خصوصاً طائرات "الفانتوم"، وهي تمارس ألعاباً بهلوانية في سماء العرض. ثم انطلق صوت المذيع الداخلي: "والآن تجيئ المدفعية". وتقدم قائد طابور المدفعية لتحية المنصة، وحوله عدد من راكبي الدّراجات النارية. وفجأة، توقفت إحدى الدّراجات، بعد أن أصيبت بعطل مفاجئ، ونزل الرجل من فوقها، وراح يدفعها أمامه. ومن حسن حظه، أن معدل سير باقي الدّراجات كان بطيئاً، يسمح له باللحاق بها. ولكن سرعان ما انزلقت قدَمه، ووقع على الأرض، والدّراجة فوقه، فتدخّل جندي، كان واقفاً إلى جوار المنصة، وأسعفه بقليل من الماء. كل هذا حدث أمام الرئيس والجميع. وأسهمت تشكيلات الفانتوم وألعابها في صرف نظر الحاضرين واهتمامهم. لذا، عندما توقفت سيارة الإسلامبولي، بعد ذلك، ظُنَّ أنها تعطّلت، كما تعطّلت الدّراجة النارية، خصوصاً أن أحداثاً كهذه، وقعت، قبل ذلك، في عروض كثيرة في عهدَي الرئيسين، عبدالناصر والسادات.
في تمام الساعة الثانية عشرة وعشرين دقيقة، كانت سيارة الإسلامبولي، وهي تجرّ المدفع الكوري الصنع عيار 130مم، قد أصبحت أمام المنصة تماماً. وبينما كان المذيع الداخلي يقول عن رجال المدفعية:إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ، وفي لحظات، وقف القناص حسين عباس، وأطلق دفعة من الطلقات، استقرت في عنق السادات، بينما صرخ خالد بالسائق، يأمره بالتوقف، فشد السائق كابح (فرملة) اليد، بصورة تلقائية، ونزل خالد مسرعاً من السيارة، وألقى قنبلة، ثم عاد إلى السيارة، وأخذ رشاش السائق، الذي سبق أن وضع فيه خزنة مملوءة، وطار مسرعاً إلى المنصة. كان السادات قد نهض واقفاً في اندفاع، بعد إصابته في عنقه، وهو يقول: "مش معقول"، بينما اختفى جميع الحضور على المنصة أسفل كراسيهم. وتحت ستار الدخان، وجّه الإسلامبولي دفعة الطلقات إلى صدر الرئيس، في الوقت نفسه الذي ألقى فيه كل من عطا طايل بقنبلة ثانية، لم تصل إلى المنصة، ولم تنفجر، وعبدالحميد بقنبلة ثالثة، ونسي أن ينزع فتيلها (صمام الأمان)، فوصلت إلى الصف الأول، ولم تنفجر . ثم قفز الثلاثة، وهم يصوّبون نيرانهم نحو الرئيس. وكانوا يلتصقون بالمنصة، يمطرون الرئيس بالرصاص. وكان عبدالحميد قريباً من نائب الرئيس، حسني مبارك، وقال له: "أنا مش عايزك، إحنا عايزين فرعون" . وتعطل رشاش الإسلامبولي بعد الطلقة السادسة، فألقى به أرضاً، وأخذ بندقية حسين عباس، وقال له: "بارك الله فيك، إجرِ إجرِ" . وكان عطا طايل آخر من وصل إلى المنصة، لأنه وقع أرضاً، فقام وتناول بندقيته، ولم يجد أحداً جالساً فوق المنصة، فوجّه نيرانه إلى الكرسي، الذي ظـن أن السادات قريب منه. وانطلق حسين عباس هارباً، إذ بات بلا سلاح، بعد أن أخذه منه خالد.
كان السادات قد سقط مضرجاً بدمائه، منبطحاً على وجهه. بينما كان سكرتيره الخاص، فوزي عبدالحافظ ملقياً بجسده عليه، محاولاً حمايته، رافعاً كرسياً، ليقيه وابل الرصاص. كان أقرب ضباط الحرس الجمهوري إلى السادات، عميد يدعى أحمد سرحان، صاح لدى سماعه طلقات الرصاص: "إنزل على الأرض، يا سيادة الرئيس، إنزل"، ولكن بعد فوات الأوان.
صعد عبدالحميد سلم المنصة من اليسار، وتوجّه إلى حيث ارتمى السادات، ورَكَله بقدَمه، فقلَبه على ظهره، ثم طعنه بالحربة (السونكي) ، وأطلق عليه عياراً نارياً. وارتفع صوت خالد، يؤكد لوزير الدفاع أنهم لا يقصدون أحداً، إلا السادات. بينما أفرغ عبدالحميد باقي ذخيرته في سقف المنصة. وانقضى نصف دقيقة دامٍ، وانتهت معه حياة السادات.
كان حسين عباس قد لاذ بالفرار. وها هم الثلاثة الآخرون، قد انطلقوا يركضون عشوائياً، في اتجاه حي رابعة العدوية (في مدينة نصر)، تطاردهم عناصر الأمن المختلفة، وهي تطلق النيران، فأصابتهم إصابات كثيرة.
كان الناس كلهم في ذهول، والشلل قد أصاب ألسنتهم، وسُمع صوت يصرخ معلناً أن الطيران سيضرب. وتم القبض على الجناة الثلاثة، أمّا حسين عباس، فلم يمكن القبض عليه، إلاّ في فجر يوم الجمعة، 9/10/1981.
أمّا على المنصة، فقد ارتفعت الصرخات، وصرخت السيدة جيهان السادات، تخاطب سكرتيرتها، "مدام" صادق: "دول مجانين، السادات إتقتل من الخلف" ، بينما السادات مطروح أرضاً، والدماء تنزف من فمه. وإلى جوار السيدة جيهان، وقفت فايدة كامل، المطربة، والمحامية، وعضو مجلس الشعب، وزوجة وزير الداخلية، وأخذت تصرخ، وجيهان تنهرها، وتأمرها بالسكوت، من دون جدوى، إذ ظلت تصرخ: "محمد، محمد، هاتوا لي محمد، يا خرابي يا محمد" ، وهي تقصد زوجها، محمد نبوي إسماعيل، وزير الداخلية .
كما سقط سبعة آخرون قتلى، هم: اللواء أركان حرب حسن علام، وخلفان ناصر محمد (عُماني الجنسية)، والمهندس سمير حلمي إبراهيم، والأنبا صموئيل، ومحمد يوسف رشوان (مصور)، وسعيد عبدالرؤوف بكر، وشانج لوي (صيني الجنسية). كما أصيب كل من: المهندس سيد مرعي، وفوزي عبدالحافظ، ومحمود حسين عبدالناصر، واللواء أركان حرب محمد نبيه السيد، واللواء المتقاعد عبدالمنعم محمد واصل، ودومينكو فاسيه، سفير كوبا لدى القاهرة، ورويل كولور، سفير بلجيكا لدى القاهرة، وكريستوفر برايان (أمريكي الجنسية)، وهاجن بردك (أمريكي الجنسية)، وبرك ماكلوسكي (أمريكي الجنسية)، وعبدالله خميس فاضل (عُماني الجنسية)، ولوجوفان وينج بينج وشين فان (صينيّي الجنسية)، وجوني دودز (أسترالي الجنسية)، والعميد وجدي محمد سعد، والعميد معاوية عثمان محمد، والعميد أحمد محمد سرحان (من الشرطة)، والعقيد نزيه محمد علي، والرائد عبدالسلام متولي السبع، وآخرون.
هبطت طائرة عمودية من نوع "جازيل"، حملت الرئيس إلى مستشفى المعادي. وتحركت سيارة جيب، تحمل الجناة الثلاثة حيث الإسلامبولي يئن من إصابته، وأسفل منه، عبدالحميد، وإلى جوارهما عطا طايل، إلى المستشفى العسكري، ثم إلى مستشفى المعادي، المستشفى نفسه الذي نُقل إليه الرئيس.
أصدر وزير الدفاع أمره بعودة كل القوات المشتركة في العرض إلى وحداتها القتالية. وفي مستشفى المعادي، كان حارس ضخم البُنية، يبدو أنه الحارس الخاص للنائب حسني مبارك، يتحدث في جهاز الإرسال: "الوزراء يتوجهون إلى مجلس الوزراء، والنواب إلى مجلس الشعب" .
كان سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى القاهرة، ألفريد آثرتونAlfred Atherton، أول من اتصل بالمشير أبي غزالة، وسأله عن الرئيس، فقال له: "أصيب. ولكن بجروح طفيفة" . وفي الساعة الثانية مساء، قطع راديو القاهرة إرساله، ليعلن بياناً رسمياً عن الحادث:
"في حوالي الساعة الثانية عشرة وأربعين دقيقة ظهر اليوم (الثلاثاء)، أثناء مرور طابور العرض العسكري، قامت مجموعة من الأفراد بإطلاق النار تجاه المنصة الرئيسية. وترتب على ذلك إصابة السيد رئيس الجمهورية وبعض مرافقيه. وقد تم نقل سيادته إلى حيث يُجرى علاجه الآن تحت إشراف الأطباء الإخصائيين، ويتابع السيد نائب رئيس الجمهورية شخصياً ما يتخذه الأطباء من إجراءات".
وهكذا جرى نمط حياة السادات على طريقة الصدمات الكهربائية. وكأن القدر قد شاء أن يكون موته "درامياً"، على نمط حياته. فكان اغتياله أكبر صدمة، وأغرب حادثة اغتيال في منطقتنا العربية.
نص التقرير الشرعي، الذي قدّمه كبار الأطباء الشرعيين إلى المحكمة عن اغتيال الرئيس، راجع الملحق"د".
إن المتفحص للتقرير الطبي الشرعي، عن اغتيال الرئيس السادات، يستطيع أن يستنتج أشياء كثيرة، أهمها كيف قُتل الرئيس، وما حجم إصاباته وأماكنها، وما هي الإصابات القاتلة، وماذا كان يرتدي الرئيس السادات، وما هي المحاولات المُضنية، التي قام بها الأطباء لإنقاذ حياته، ونقاط أخرى عديدة. ويشعر الإنسان، بعد أن يفرغ من قراءة التقرير، أن كل من عليها فانٍ، ولا يبقى إلا وجه الكريم المنان. وأنه لا عظمة، ولا خُلد إلاّ لله الواحد القهار، وأن الأجل إذا حان، لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وأن الموت يدركنا ولو كنّا في بروج مشيدة. فأي بروج أكثر منعة من وجود الرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلحة، بين قواته، وهو محاط بأكثر من أربع عشرة جهة، مكلفة بحمايته والدفاع عنه، ثم يُغتال على أيدي أناس تربوا في حجر هذه القوات. فعلى الإنسان أن يأخذ العِبرَ ويتعلم الدروس، من هذه الحادثة، وليعلم أن لا ملجأ من الله إلاً إليه، وأننا سنُعرض عليه،فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، ويَنقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا، ويَصْلَى سَعِيرًا. ولنتدبر قول العزيز الحكيم:إنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
كان كل شخص، داخل مصر وخارجها، يريد أن يعرف نتائج اغتيال السادات، قبل أن يعرف أسباب هذا الاغتيال. هل سيتحرك الجيش؟ هل ستتدخل الدول الأجنبية؟ هل ستستولي على الحكم سلطة جديدة؟ ولم تستقر الأحوال إلا عندما أعلن نائب الرئيس، حسني مبارك، مساء يوم الاغتيال، خبر مقتل السادات. وكان معنى ذلك الإعلان أن السلطة القائمة، ما زالت هي الحاكمة.
وعقب ذلك، وقعت حوادث العنف في أسيوط، وحاولت الجماعة الإسلامية السيطرة عليها، تمهيداً لإعلان الثورة الإسلامية. ولكن قوات الأمن المركزي، حاصرت أسيوط حصاراً شديداً، وفرضت حظر التجول بعد المغرب، إلى أن هدأت الأمور.
عاشراً: جنــازة الســـادات
شيعت جنازة السادات … في فتور، ولم يشترك فيها إلاّ القليل. فهل كان ذلك لدواعي الأمن المشددة؟ أو كان هناك دواعٍ أخرى؟ أو كان إعلان مناحم بيجن أنه سيحضر جنازة صديقه السادات عاملاً مساعداً على الفتور، لأن حضوره والوفد الإسرائيلي، معناه عدم حضور الملوك والرؤساء العرب؟ لعل هذه الأسباب جميعها، هي التي أدت إلى فتور الجنازة، وعدم تفاعل المصريين معها تفاعلهم مع جنازة عبدالناصر، على سبيل المثال، خاصة أن الاغتيال وقع بعد أحداث سبتمبر، التي ذُكر أنها سببت سخطاً شديداً في مختلف الأوساط.
يقول موسى صبري: "كنت أسير في جنازة السادات إلى جوار منصور حسن، وزير الإعلام الأسبق، وكنت أشعر بالمرارة لمشهد الجنازة، وقلت لمنصور حسن، عدة مرّات، وأنا أغالب دموعي: هل هذه جنازة أنور السادات؟ كيف يمكن أن تكون هزيلة بهذا القدر!!؟" .
وتم دفن السادات في مكان اغتياله، تحت حجر أسود، كُتب عليه: ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. "الرئيس المؤمن، محمد أنور السادات، بطل الحرب والسلام، عاش من أجل السلام، ومات من أجل المبادئ".
حادي عشر: محاكمــة الجنــاة
استمرت المحاكمة حوالي ثلاثة أشهر ونصف الشهر، منها تسعمائة ساعة استغرقتها المرافعات، شارك فيها نحو ستين محامياً من أشهر محامي مصر، يمثلون مختلف التيارات والأحزاب. وتحولت المحاكمة إلى محاكمة عصر السادات بأسره. وكان نجم الدفاع هو عبدالحليم رمضان، المحامي الأشهر، الذي ظل يدافع في حماس إلى أن أصابه الإعياء، فسمحت له المحكمة بالجلوس أثناء مرافعته. وكذلك المحامي الأشهر، فريد عبدالكريم، وغيرهما. ووصلت براعة الدفاع أن أوقعت المحكمة في حيرة، حين ساقت، من واقع المستندات والأقوال والتقارير الطبية، أن الإسلامبولي ورفاقه، ليسوا هم الذين اغتالوا السادات، بل إنهم وصلوا إلى المنصة، فوجدوا السادات مقتولاً، وأنهم أطلقوا الرصاص على جثته!! فسألتهم المحكمة: "من قتله، إذاً"؟ وردت هيئة الدفاع: "إنه ليس من اختصاصنا البحث عن القتلة". ولولا إصرار الإسلامبولي ورفاقه على اعترافهم، لكان للمسألة شأن آخر.
وكان الدفاع، طوال تلك الفترة، يدين فترة حكم السادات. ويركز على اعتقالات سبتمبر، وعلى الصلح مع اليهود. ويزعم أن بعض التصريحات، التي وردت على لسان السادات، في بعض خُطبه، تعَد استفزازاً للشعب كله، على حد تعبير الدفاع، مستشهداً بقول السادات عندما سُئل إن كان لديه 35 استراحة: "لا، أنا عندي مائة استراحة"!! وإهاناته لعلماء المسلمين ورجال الكنيسة، وسلخ مصر من أشقائها العرب، ومحاولة إعادة صبغتها الفرعونية القديمة.
وأصدرت المحكمة، في النهاية، حكمها، برئاسة اللواء سمير فاضل، بإعدام خالد الإسلامبولي وعبدالحميد عبدالسلام وعطا طايل وحسين عباس ومحمد عبدالسلام فرج.
ومن الجدير بالذكر، أن جهوداً مكثفة قد بُذلت، لدى الرئيس مبارك لتخفيف عقوبة الإعدام، بعد صدور الحكم. واشترك في هذه المحاولات كمال الدين حسين، عضو مجلس قيادة الثورة الأسبق، وفتحي رضوان، المحامي المعارض الشهير . ورفض الرئيس. كما تقدمت إحدى الجمعيات، التي تكونت في باريس، ويرأسها أحمد بن بيلا ، رئيس الجزائر الأسبق، بطلب الإذن بالحضور إلى القاهرة، لمقابلة الرئيس مبارك. واعتذر الرئيس عن عدم مقابلتهم، إذا كان اللقاء لهذا الشأن.
وفي السادس عشر من أبريل 1982، صدرت جريدة "الأهرام" تحمل خبر "تنفيذ حكم الإعدام في قاتلي السادات"، معلنة:
"تم في ساعة مبكرة، من صباح أمس (15 أبريل 1982)، تنفيذ حكم الإعدام في المحكوم عليهم الخمسة، في قضية اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بعد أن رفضت التماسات إعادة النظر، التي تقدموا بها خلال الفترة القانونية، وهى الخمسة عشر يوما، عقب تصديق السيد رئيس الجمهورية على الأحكام، التي أصدرتها المحكمة العسكرية ضدهم. وتضمنت الأحكام إعدام خمسة متهمين، وهم: خالد شوقي الاسلامبولى، وعبد الحميد عبدالسلام، وعطا طايل حميدة، وحسين عباس محمد، ومحمد عبدالسلام فرج. والأشغال الشاقة بين خمس سنوات وخمس وعشرين سنة على17 آخرين.
وقد تم أمس تنفيذ حكم الإعدام رميا بالرصاص على الأول والرابع، لخضوعهما لقانون الأحكام العسكرية، وحضر التنفيذ العقيد بحري محمود عبد القادر رئيس النيابة العسكرية. أمّا المحكوم عليهم الثلاثة الآخرون، فقد تم تسليمهم إلى إدارة سجن الاستئناف بالقاهرة، لتنفيذ الحكم الصادر ضدهم شنقاً. وتم تنفيذه صباح أمس، وسُمح لأقارب المحكوم عليهم الخمسة بزيارتهم نهار يوم الأربعاء.
وقد تم ترحيل المتهمين الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة إلى السجون لتنفيذ مدد العقوبة".
وهكذا أسدل الستار على أغرب حادثة اغتيال في المنطقة العربية وأشهرها، في هذا القرن. ومضى الرئيس محمد أنور السادات إلى أجله المحتوم، وكذلك مضى الذين قتلوه إلى أجلهم، وسوف يقضي الله بينهم بحكمه، فهو فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
نص قرار الاتهــــام
أعلن اللواء حامد حمودة، مدير القضاء العسكري، قرار الاتهام في قضية اغتيال الزعيم الراحل، أنور السادات. وقد حضر المؤتمر الصحفي، اللواء فؤاد خليل عبدالسلام، المدعي العام العسكري، واللواء مختار محمد حسين شعبان، نائب المدعي العسكري. وفيما يلي نص قرار الاتهام، الذي أعلنه مدير القضاء العسكري أمس (12 نوفمبر 1981، الموافق 15 محرم 1402):
بعد الاطلاع على محاضر التحقيق، ومحاضر الاستدلالات والمرفقات .. وبعد الاطلاع على قانون الأحكام العسكرية، وقانون العقوبات، والقوانين المكملة .. تتهم النيابة العسكرية الآتية أسماؤهم:
"رَفعت البندقية الآلية في اتجاه الرئيس، والماسورة مائلة إلى أسفل 20 درجة، وأطلقت الرصاص".
هكذا أجاب القناص حسين عباس محمد، أحد قَتَلَة الرئيس محمد أنور السادات، وصاحب الرصاصة الأولى، التي استقرت في عنق الرئيس. بعد ذلك، تتابع انهمار الرصاص على المنصة، وساد الهرج والمرج، وفي 35 ثانية، كان كل شيء قد انتهى. مات السادات، وانتهت فترة من تاريخ المنطقة، بما لها وما عليها.
كان حادث اغتيال السادات هو حادث القرن، في مصر والمنطقة العربية. وقبل أن نتناول تفاصيل وقائعه، يحسُن بنا أن نرجع إلى سيرة الرئيس محمد أنور السادات.
يمكن القول إن حياته مرت بعدة مراحل: الطفولة والصبا، ثم فترة الشباب والعمل السياسي، ثم العمل العسكري ودخول السجن، ثم الاشتراك في ثورة 23 يوليه، ثم فترة ما بعد الثورة إلى تولّي الرئاسة، ثم فترة رئاسته، حتى النهاية المروعة.
أولاً: مرحلة الطفولة
في يوم 25 ديسمبر عام 1918، ولد محمد أنور محمد السادات في قرية "ميت أبو الكوم"، إحدى قرى محافظة المنوفية بوسط دلتا مصر. وهي تبعد عن "شبين الكوم"، عاصمة المحافظة، مسافة 24 كيلومتراً، كما تبعد عن القاهرة مسافة 75 كيلومتراً. ولا يزال المنزل، الذي وُلِدَ وعاش فيه، باقياً إلى الآن، على الطريق المرصوف الذي يمر بتلك القرية.
وقد قضى السبع سنوات الأولى من حياته في هذه القرية، حيث أشرفت جَدته "أم محمد" على تربيته، وقد تعلق بجَدته هذه تعلقاً شديداً، وظلّ يذكرها دائماً. على الرغم من قِصر الفترة التي عاشها في قريته، إلاّ أنها تركت تأثيرها العميق في نفسه، وظلّ دائماً يتردد إلى هذه القرية، ويهتم بها اهتماماً ظاهراً. وليس أدل على ذلك من أنه خصص ريع كتابه "البحث عن الذات"، وقيمة جائزة "نوبل"، التي حصل عليها بعد معاهدة السلام، للإنفاق على قريته، وجعلها أفضل قرى مصر كلها.
كان والده، طوال فترة السنوات السبع الأولى من عمر ابنه، يعمل في السودان. ولدى عودته، انتقل للإقامة بالقاهرة عام 1925، حيث سكنت الأسرة في منزل من طابقين بحي كوبري القبة (وعنوانه 1 شارع محمود بدر). وهناك، التحق الابن بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية في حي الزيتون، وكانت مدرسة أهلية قليلة النفقات، تتناسب مع دخل الأسرة المحدود. ثم انتقل، في السنة الثالثة، إلى مدرسة السلطان حسين، التي تقع في الحي المعروف الآن بـ "حي مصر الجديدة"، حيث نال الشهادة الابتدائية عام 1930 .
ثانياً: مرحلة الشباب إلى التخرج
التحق السادات بمدرسة فؤاد الأول الثانوية، حيث حصل على شهادة الكفاءة. ويبدو أنه بدأ يمارس العمل السياسي خلال تلك الفترة. ومن المواقف الطريفة التي وقعت، آنئذٍ، ما رواه صلاح الشاهد، كبير ياوران رئيس الجمهورية في عهد عبدالناصر، إذ قال: "كان السادات شاباً وطنياً ثائراً، قام بتنظيم مظاهرة طلابية من مدرسة فؤاد الأول، احتجاجاً على إعلان الإنجليز بقاءهم في مصر. وخرجت هذه المظاهرة إلى مدرسة فنون الصنايع (وهي حالياً كلية الهندسة - جامعة عين شمس)، وتجمعت أعداد كبيرة من الطلبة. وصدر الأمر بفصله في اليوم التالي" .
ويكمل صلاح الشاهد:
"وكنت أنا وزميل لي، قد جهزنا عربة (كارو) ، وضعنا عليها معبداً فرعونياً، واخترنا أنور السادات ليرتدي الملابس الفرعونية، ويمسك بمفتاح النيل. وكان السادات، وهو يرتدي الملابس الفرعونية شبه عارٍ، ونحن في شهر فبراير في عِز البرد، فأصيب بالحمّى. ومضت السنون، ولما رأيته رئيساً، قلت له: "أنا تنبأت لك بهذا المنصب قبل عام 1935، عندما أعطيتك مفتاح النيل، وأنت ترتدي الملابس الفرعونية، هذا المفتاح لا يمسك به إلاّ الملوك، لقد حمله رمسيس الثاني ".
بعد انتهاء مدة الفصل، خمسة عشر يوماً، استأنف السادات دراسته في المدرسة نفسها، وحصل على شهادة الكفاءة. ولما أراد تحسين مجموعه في الشهادة نفسها، انتقل إلى مدرسة الأهرام الأهلية، فحصل منها، عام 1936، على المجموع المطلوب. ثم التحق بالكلية الحربية، الدفعة (37)، بعد الاستعانة بأحد "الصولات" ، الذي تعرف به والده أثناء خدمته في السودان، وكان لا يمكن القبول في الكلية إلاّ بالواسطة، بل كان يُنادَى على كل واحد من المتقدمين، فيقال اسمه فلان وواسطته فلان. وكان هذا "الصول" قد عمِل في خدمة إبراهيم باشا خيري، رئيس لجنة قبول طلبات الالتحاق . ولم يكن إبراهيم باشا هو الواسطة الوحيدة، بل لجأ والد السادات إلى الدكتور فيتس باتريك، رئيس القسم الطبي في مستشفيات الجيش البريطاني في القاهرة ، وكان والد السادات قد عمل معه موظفاً في الوحدة الطبية، التابعة للجيش البريطاني، بالقرب من شبين الكوم . ويقول السادات: وهكذا قُبلت بالكلية الحربية، وكان ترتيبي آخر المقبولين، وعددهم اثنان وخمسون، وذلك لأن واسطتي كانت أقلّ الوساطات شأناً. ففي ذلك الوقت، كانت الوساطات تتدرج من الأمير محمد علي، ولي العهد، إلى الباشوات والباكوات من ذوي النفوذ" .
ولم يمكث في الكلية الحربية إلا تسعة أشهر فقط. فقد كان الحظ حليفه، لأن الدفعة التي كان ضمن أفرادها، تخرجت بسرعة بسبب الحاجة الملحّة إلى أعداد كبيرة من الضباط، بعد سياسة توسيع الجيش.
ثالثاً: السادات والعمل السياسي
عُيّن السادات، عند تخرّجه، برتبة ملازم ثانٍ، في قرية "منقباد" في صعيد مصر. وكان بها المعسكر الرئيسي للجيش المصري، وقتذاك. وفي هذا المعسكر، التقى السادات الضابط جمال عبدالناصر، للمرة الأولى، وتم التعارف بينهما، ثم صداقة لم تدم، بسبب نقل جمال إلى مكان آخر. وقد أُلحق السادات بسلاح المشاة، ثم بسلاح الإشارة، ثم نُقل إلى القاهرة. وتدرج في الرتب العسكرية، حتى وصل إلى رتبة يوزباشي (نقيب حالياً)، وتعرف هناك بشخصيات كثيرة، أبرزها شخصية الضابط الطيار حسن عزت، الذي كان ذا نشاط كبير واتصالات وثيقة بالجمعيات السرية، وعلاقات وطيدة ببعض الضباط، الذين جمعهم الاهتمام بقضايا مصر، السياسية والعسكرية، مثل الفريق عزيز علي المصري . وكان محور هذه الاهتمامات مقاومة الاحتلال الإنجليزي، والوقوف في وجه الملك والحاشية، اللذين يسهلان بقاء هذه القوات، ثم العداء السافر للأحزاب السياسية الموجودة آنذاك . وقد أدّى حسن عزت دوراً بارزاً في بلوَرة نشاط السادات السياسي، إذ ساعده على الانضمام إلى كثير من الجمعيات السرية، والتعرف بنفرٍ من الضباط المهتمين بقضايا مصر، السياسية والعسكرية، مثل عبدالمنعم عبدالرؤوف وعبداللطيف محمود البغدادي وحسن إبراهيم السيد وخالد محمد أمين محيي الدين وغيرهم، ممّن ضمهم تنظيم الضباط الأحرار فيما بعد.
كما بدأ السادات الاتصال بجماعة "الإخوان المسلمين" في عام 1940. فتعرف بالشيخ حسن البنا ، مرشد الجماعة، الذي عرّفه بالفريق عزيز المصري. وفوجىء السادات، في عام 1941، بقرار نقله إلى مرسى مطروح، التي تبعد عن القاهرة نحو 500 كيلومتر، حيث عمل كضابط إشارة في آلاي مدفعية .
وكان السادات، كما شهد بذلك عدد كبير من زملاء الدفعة (37)، الذين زاملوه في خدمته العسكرية، دائم الصِّدام مع الضباط الإنجليز، وكانوا يسيئون معاملته، مما جعله يفكر، في عام 1941، أثناء الحرب العالمية الثانية، كما يذكر في مذكراته، في تدبير خطة انقلاب، إذ أقدم على الاتصال بقادة الوحدات المنسحبة من مرسى مطروح، في ذلك الوقت، ليتفق معهم على الالتقاء في وقت محدد، عند فندق "مينا هاوس"، في نهاية طريق الإسكندرية ـ القاهرة الصحراوي، ثم الاحتشاد هناك، والتحرك إلى القاهرة للاستيلاء على السلطة وضرب الإنجليز .
رابعاً: السادات وراء القضبان
دخل السادات السجن مرتين، الأولى عام 1942، والثانية عام 1946. كان سَجنه، في المرة الأولى، نتيجة تعاونه مع الجواسيس الألمان ضد الإنجليز، مما عرّضه للطرد من الخدمة العسكرية، في شهر أكتوبر عام 1942، بعد القبض على جاسوسين من الجواسيس الألمان واعترافهم بتعاون السادات معهم. ولم يكد يخلع السترة العسكرية، حتى قبضت عليه السلطات المدنية، وتم ترحيله إلى سجن الأجانب، ثم إلى معتقل "ماقوسة"، على أطراف المنيا في صعيد مصر. ثم نقل، في عام 1944، إلى معتقل الزيتون بالقاهرة. وقد تمكن من الهرب منه، ومعه حسن عزت، وأربعة آخرون، منهم موسى صبري، ومحسن فاضل . ومن الطريف أن السادات توجّه، ومعه محسن فاضل إلى قصر عابدين، ودخلا حجرة الاستقبال، وقيّدا اسميهما في دفتر التشريفات، وذكرا أنهما ضمن المحبوسين في معتقل الزيتون: "وقد حضرنا خصيصاً لكي نقول للملك، إن الحكومة يجب ألا تخضع للسلطة البريطانية، وإننا سنعود على الفور إلى المعتقل بمحض إرادتنا" . وقد عادا، بالفعل، إلى المعتقل، ومكثا به حتى نهاية عام 1944، حين تمكنا من الهرب مرة أخرى. وظل السادات مختفياً، متنكراً، إلى سبتمبر عام 1945، حتى انتهت الحرب العالمية الثانية، وأُعلن انتهاء الأحكام العرفية، فأصبح، بمقتضى ذلك، حراً طليقاً.
عاود السادات اتصاله بزملائه القدامى، وتعرف بشاب وطني، يُدعى حسين توفيق . وبدأ السادات وزملاء الجمعية السرية، في التخطيط لتنفيذ بعض الاغتيالات السياسية، ومنها محاولة اغتيال النحاس باشا، التي لم تنجح. ولكنهم نجحوا في اغتيال أمين عثمان ، وزير المالية، آنذاك، والذي وصف علاقة مصر ببريطانيا، بأنها زواج كاثوليكي. وكان حسين توفيق هو الذي تمكن من قتله، وقُبِض على السادات وأُودِع سجن "قرة ميدان" على ذمة تلك القضية. وقضى في السجن نحو سنتين إلى عام 1948، حين حُكم ببراءته. وفي السجن، استغل موهبته الصحفية؛ فأصدر صحيفة، أسماها "الهنكرة والمنكرة"، ثم أخرى باسم "ذات التاج الأحمر". وقد عانى السادات معاناة شديدة بين جدران الزنزانة (رقم 54) في هذا السجن، وأصابته عدة أمراض، ظل يعالج من جرائها إلى آخر حياته .
بعد الإفراج عنه، توسط له صديقه، الكاتب المعروف، إحسان عبدالقدوس ، فعمل صحفياً محترفاً في دار الهلال، حيث نشر مذكراته عن السجن. كما صار يحرر باباً أسبوعياً، يشكل مجلة قائمة بذاتها. وقد أثبت موهبة صحفية واضحة، وهذا يفسر لِمَ عيّنه جمال عبدالناصر، بعد الثورة، رئيساً لمجلس إدارة التحرير، التي أصدرت صحيفة الجمهورية الناطقة بلسان الثورة. وأخذ السادات يكتب في الجمهورية مقالاً سياسياً قصيراً، في الصفحة الأولى. كما أصدر أيضاً أربعة مؤلفات، تتضمن شيئاً من سِيرته الشخصية، وبعض فصول من قصة الثورة .
خامساً: السادات والثورة
عاد السادات، في 15 يناير 1950 ، إلى الخدمة في الجيش مرة أخرى. ذلك أنه التقى الدكتور يوسف رشاد، المقرّب من الملك فاروق، ورئيس الحرس الحديدي، وكالمه في التوسط له للرجوع إلى الجيش. فنصحه الدكتور رشاد بأن يحاول مقابلة الملك في مسجد الحسين، بعد صلاة الجمعة، ويسارع في تقبيل يده. وفعل السادات ذلك، وعندما سأله الملك عن حاجته، ذكر له رغبته في العودة إلى الخدمة العسكرية. فأمر الملك وزير الحربية، حيدر باشا ، بإرجاعه إلى الخدمة العسكرية. وقال حيدر لأحد الضباط: "رجّع الولد ده للجيش". وعاد السادات يستأنف اتصالاته برفاق التنظيمات السرية داخل القوات المسلحة، إلى أن التقى، مرة أخرى، جمال عبدالناصر، الذي وافق على ضمّه إلى تنظيم الضباط الأحرار، في أواخر عام 1951. ويقال أيضاً إن عبدالناصر، قد أسند إلى السادات رئاسة المجموعة السياسية داخل التنظيم .
وعند قيام الثورة، وفي مقر القيادة العسكرية بكوبري القبة، اتفق رجال الثورة على أن يكون السادات هو المتحدث الرسمي باسم الثورة. وانبعث صوت السادات، عبر أمواج الأثير، من الإذاعة المصرية، ليعلن بيان الثورة الأول، يوم الثالث والعشرين من يوليه 1952.
إلى المصريين والأجانب
اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير، من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم. وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون المغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين.
وأمّا فترة ما بعد الحرب، فقد تضافرت فيها عوامل الفساد، وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمره إمّا جاهل، أو خائن، أو فاسد، حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها. وعلى ذلك، فقد قمنا بتطهير أنفسنا، وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم، وفي خلقهم، وفي وطنيتهم. ولا بد أن مصر كلها، ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب.
أمّا مَن رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين، فهؤلاء لن ينالهم ضرر، وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب.
وإني أؤكد للشعب المصري، أن الجيش، اليوم، كله، أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور، مجرداً من أية غاية. وأنتهز هذه الفرصة، فأطلب من الشعب ألاّ يسمح لأحد من الخونة بأن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف، لأن هذا ليس في صالح مصر. وإن أي عمل من هذا القبيل، سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل، وسيلقى فاعله جزاء الخائن في الحال، وسيقوم الجيش بواجبه هذا، متعاوناً مع البوليس.
وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسؤولاً عنهم، والله وليّ التوفيق.
بعد أن فرض رجال الثورة سيطرتهم الكاملة على الأحوال في مصر، كاد السادات يكون غائباً عن الصورة؛ فلم يُسند إليه أي منصب، فظل بعيداً عن مجريات الأحداث المؤثرة في أحوال مصر. ونظراً إلى سابق اشتغاله بالصحافة، عُهد إليه بالإشراف على جريدة "الجمهورية"، التي كانت تُمثل وجهة نظر الثورة. وتولّى منصباً غير ذي أهمية، عام 1954، حين عُيّن وزير دولة بلا وزارة، إلى أن تكوّن أول مجلس نيابي، عام 1957، فأصبح وكيلاً للمجلس، تحت رئاسة عبداللطيف البغدادي. وعمل رئيساً لمجلس الأمة المشترك بين إقليمَي الجمهورية العربية المتحدة، بعد قيام الوحدة بين مصر وسورية، عام 1958، ثم رئيساً لمجلس الأمة المصري، بعد الانفصال. ثم أميناً عاماً للمؤتمر الإسلامي، وأصبح رئيساً لمجلس الأمة، بدءاً من عام 1964 إلى أواسط عام 1969.
وظل رئيساً لمجلس الأمة حتى اختاره عبدالناصر نائباً له، قبل رحيله بعدة أشهر، مما مكّن السادات من تولّي رئاسة مصر من بعده. وكان السادات، طوال الفترة السابقة، حريصاً كل الحرص على إرضاء عبدالناصر، فهو يقول:
"تساءل البعض، في حيرة، كيف قضيت هذه الفترة الطويلة مع عبدالناصر، من غير أن يقع بيننا ما وقع بينه وبين بقية زملائه؟ إمّا أنني كنت لا أساوي شيئاً على الإطلاق، وإما أنني كنت خبيثاً غاية الخبث، بحيث تحاشيت الصراع معه".
ولا شك أنه تحاشى الصراع تماماً مع جمال، فهو يقول:
"كنت أقابل كل ما يفعله عبدالناصر بالحب الخالص من جانبي. هذا ما جعلني أعيش مـع عبدالناصر 18 سنة دون صراع، فأنا إلى جانبه منتصراً أو مهزوماً ... ولعل هذا ما جعل عبدالناصر يتلفت حوله، بعد 17 سنة، ويتنبه إلى أن هناك إنساناً، لم تقُم بينه وبينه معركة في يوم ما" .
سادساً: السادات رئيســاً
وهذه المرحلة، هي أهم مراحل حياته. ففيها تبلورت كل تجارب المراحل السابقة. وفيها وقعت أحداث بارزة، غَيّرت وجه التاريخ المصري. وقد نهض السادات بدور تاريخي بارز في حياة مصر والمنطقة العربية. ولعل أبرز حدثين في تلك الفترة هما: حرب العاشر من رمضان (السادس من أكتوبر عام 1973)، وتوقيع اتفاق السلام مع إسرائيل.
وفي بادئ الأمر، ظهر السادات أمام الشعب رجلاً مجهول التاريخ، مجهول الهوية، لا يوحي بأي قدرات على الحكم أو العمل السياسي. كان في المقاعد الخلفية لرجال الثورة، ولم يكن عبدالناصر قد كلفه بمهامّ العمل التنفيذي، كما كلف الآخرين. حتى بعد أن عيّنه نائباً له، لم يكن يطلِعه على كثير من المعلومات المهمة، ولا يصارحه بما ينوي عمله. ولذا، عندما سافر عبدالناصر إلى موسكو، في زيارته الأخيرة إليها، وكان في نيته أن يقبَل مبادرة روجرز، التي طرحتها الولايات المتحدة، لم يكن السادات يعلم بذلك، لذا، جاهر برفض تلك المبادرة، فغضب عليه عبدالناصر، وأمره أن يذهب إلى قريته "ميت أبو الكوم" لبعض الوقت .
لمّا تولّى الرئاسة، أعلن السادات أنه سيسير على سياسة عبدالناصر. وأخذ كثير من الناس يسخرون من هذا الرجل، الذي يبدو ضعيفاً، وتنتشر حوله النكات الساخرة. وتوقع كثيرون أيضاً، أنه لن يبقى في مَوقعه بضعة أشهر. وكان السوفيت، آنذاك، مقتنعين بأن السادات شخصية ضعيفة، يمكن السيطرة الكاملة عليها، من خلال رجالهم من قيادات اللجنة المركزية في مصر. أمّا الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت في قلق من ناحية هذا الرجل، وهل في مقدرته أن يواصل الاتجاه الجديد، الذي كان عبدالناصر قد بدأ السير فيه، من قبول مبادرة روجرز، بعد اليأس من مساندة السوفيت له؟ خاصة بعد أن بدأت إسرائيل تضرب القرى والمدن، من دون أن تتمكن مصر من التصدي لطائرات إسرائيل، بسبب الحاجة الشديدة إلى صواريخ "سام" ، لتأمين سماء مصر وعمقها. وانتهت حسابات واشنطن إلى أن السادات، لن يحكم أكثر من أربعة أشهر، ثم يسقط.
وبعد أشهر قليلة، توالت المفاجآت التي أذهلت الجميع؛ إن الرئيس الجديد، يسير على سياسة الصدمات الكهربائية. فها هو يتصدى لرجال اللجنة المركزية وبعض الوزراء ، الذين كانوا ينظرون إليه في غرور، بل قدّموا استقالاتهم ليضعـوه في مأزق؛ فيسارع إلى التخلص منهم، ويودِع معظمهم السجون . وها هو يعلن مبادرة جديدة، في 4 فبراير 1971، تتضمن موافقة مصر على مد فترة وقف إطلاق النار، وبدء العمل في تطهير قناة السويس، وفتحها للملاحة الدولية، على أن تكون إسرائيل مستعدة للانسحاب الجزئي من سيناء، ضمن جدول زمني للانسحاب الكامل إلى الحدود الدولية .
ثم فاجأ العالم، في عام 1971 أيضاً، بقرارات تصفية الحراسات، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإغلاق المعتقلات. وطرَد الخبراء السوفيت من مصر في يوليه 1972. ثم توّج قراراته، في عام 1973، بقرار العبور. وكان نصر أكتوبر 1973 رائعاً بكل المقاييس، ويكمن الإسهام الرئيسي لأنور السادات في أنه أتاح لجيش مصر الفرصة، ليبدأ ويمتلك زمام المبادأة، للمرة الأولى في حروبه ضد إسرائيل. إذ في الساعة الثانية من بعد ظهر يوم 6 أكتوبر 1973، الموافق 10 رمضان 1393، عبَرت 240 طائرة، في موجات متواصلة، وعلى ارتفاع منخفض، الحدود إلى إسرائيل. واستمرت الطلعة عشرين دقيقة، وكانت مؤثّرة بشكل واضح. وبعد 15 دقيقة، طلب السادات تكرار الضربة. وانطلقت موجات الطيران، تُدَمّر منشآت العدو. وجاء أول بيان يعلن غرس العلم المصري على الضفة الشرقية. وانطلقت المدفعية المصرية، وتحت ستار طلقاتها، عبَرت قوات المشاة والقوات الخاصة بالصواريخ المضادة للدبابات، واقتحمت خط بارليف ، وتمكنت من صدّ الهجمات المضادة الإسرائيلية. وكسر الجيش المصري حاجز الخوف الإسرائيلي، وكان عبور القناة، واقتحام خط بارليف. وأثبت هذا الجيش زيف مقولة موشي ديانMoshe Dayan، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، الذي قال، ساخراً، عند دراسة احتمالات عبور الجيش المصري: "إن المصريين في حاجة إلى سلاحَي المهندسين، السوفيتي والأمريكي معاً، ليمكنهم النجاح في ذلك". وصرخت جولدا مائير Golda Meir، رئيسة مجلس الوزراء الإسرائيلي، آنذاك، تستنجد بالأمريكيين قائلة: "إن إسرائيل ستنتهي" . وكان هذا الحدث أعظم إنجازات أنور السادات، بلا شك. وتبع ذلك فتح قناة السويس، وإعادتها للملاحة الدولية في 5 يونيه عام 1975م.
سابعاً: أحداث 18 و 19 يناير 1977
إثر الانتفاضة الشعبية، التي كانت نقطة تحوّل مهمة في حكم السادات، اتُّخذت إجراءات عنيفة، ثم عدة قوانين استثنائية، انتهت بحملة اعتقالات ضخمة، في سبتمبر 1981، كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى حادث الاغتيال، والتعجيل به.
أســبابها : وقعت الانتفاضة في 18 و 19 يناير 1977. وكانت الصحف، قبل ذلك التاريخ، تبشّر الناس، على مدى شهور طويلة، بتثبيت الأسعار، وتحسين أحوال المعيشة. وتنشر تصريحات الرئيس بقرب قُدوم الرخاء، الذي سيعمّ الجميع. وفي الوقت نفسه، كانت الوزارة الجديدة، برئاسة ممدوح سالم، تعقد سلسلة من الاجتماعات، تدور فيها مناقشات حادّة وموسّعة حول ضرورة رفع الدعم عن بعض السلع، استجابة لقرار من البنك الدولي بعدم إقراض مصر مبلغ 200 مليون جنيه، ما لم يتم رفع الدعم نهائياً. وأمر السادات الوزراء بالاستجابة لقرار البنك الدولي، وصدرت قرارات رفع الأسعار. وكان ردّ الفعل الشعبي عنيفاً؛ ففي صباح 18 يناير، تحرّك عمال مصانع حلوان في مسيرة متجهة إلى مجلس الشعب. وفي الوقت نفسه، تجمّع الطلبة في جامعتَي القاهرة وعين شمس، كما تجمّع عمال الترسانة البحرية في الإسكندرية، بغرض تنظيم مسيرة في ميدان المنشية. وحدثت تجمعات أخرى في أسوان والمنصورة وبور سعيد. وتحوّل التظاهر إلى شغب وتحطيم وفوضى. واتجهت التجمعات الهائجة لمهاجمة مواقع السلطة، مثل أقسام الشرطة والمطافئ. وبذلت الشرطة جهوداً مستميتة للسيطرة على الموقف، ولم يكن هناك مناص من نزول القوات المسلحة. واتصل ممدوح سالم بالرئيس السادات في أسوان، الذي طَلب منه الإعلان، رسمياً، عن العدول عن قرارات رفع الأسعار.
واستمرت التظاهرات حتى الساعة الثالثة من الصباح التالي. وقد اشتعلت النار في مبنى مؤسسة "أخبار اليوم"، واحترقت مخازن الورق، وأُلغيت زيارة الرئيس اليوغسلافي، جوزيف بروز تيتو Josip Broz Tito، إلى أسوان، وعاد السادات إلى القاهرة. واستمرت التظاهرات يوم 19 يناير إلى الساعة التاسعة مساء، إلى أن تم فضّها تماماً، بمعاونة القوات المسلحة، إذ لم تستطع الشرطة وحدها تفريقها. ووصف راديو موسكو هذه التظاهرات بأنها انتفاضة شعبية. وكان السادات في قمة الألم والحزن مما جرى، ويبدو أنه بدأ يفكر في إجراءات صارمة، وكان كلّما تحدث عن هذه التظاهرات، بعد ذلك، يصفها بأنها انتفاضة "حرامية" .
ثامناً: زيارة القدس والتحول الكبير
أعلن السادات، في خطبته في مناسبة افتتاح الدورة الجديدة لمجلس الشعب، في 9 نوفمبر 1977، استعداده للذهاب إلى إسرائيل، بقوله: "إنني مستعدّ للذهاب إلى آخر العالم، بما في ذلك إسرائيل، إذا كان من شأن ذلك أن يجنّبنا جرح جندي واحد (ناهيك من قتل جندي أو ضابط واحد) ". وانتهز مناحم بيجن Menachem Begin، رئيس وزراء إسرائيل، في ذلك الوقت، الفرصة، فوجّه إليه الدعوة إلى تلك الزيارة. وبالفعل، تمّت تلك الزيارة، في 19 نوفمبر 1977. وفي اليوم التالي، ألقى السادات خطابه الشهير في الكنيست ، ثم عاد إلى مصر، وركب سيارة مكشوفة من مطار القاهرة، وفوجئ بالملايين من أبناء الشعب المصري في انتظاره، للترحيب به والهتاف له. وكم كان الفارق كبيراً بين هذا الاستقبال الحافل والتظاهرات الصاخبة يومَي 18 و19 يناير، والتي كادت تحطم القاهرة وعدداً من المدن الأخرى! ولعل الناس في مصر، كانوا قد سئموا الحروب، وتصوروا أن "توقيع اتفاقية سلام"، سوف يحل كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. لذا، كان هتافهم عالياً، واستقبالهم حافلاً إلى أقصى حد . وسُرّ السادات سروراً عظيماً، وأحس بارتياح كبير، بعد أن كاد يفقد الثقة برئاسته وأسلوب قيادته، وشعر بأنه رجع بطلاً ونجماً متألقاً. وأخذ إحساسه بالعظَمة يتنامى، وساعده على ذلك أبواق الدعاية، العالمية والصهيونية، التي أشعرته بأنه محطّ أنظار العالم، ومركز اهتمام وسائل الإعلام في كل أنحاء الدنيا. وجاء ترشيحه، ثم حصوله على جائزة نوبل للسلام ، وأصبحت صورته أمام الناس صورة نجم عالمي عظيم، تهتم وسائل الإعلام بملابسه، وطريقة كلامه، وتحركاته. وتنشر مجلة "شتيرن Stern" الألمانية، صورته على غلافها، وفي يده وردة، وتمنحه لقباً، وتعُده واحداً من أكثر الرجال أناقة في العالم. ويَلقَى المديح ومظاهر الإعجاب من كل جهة، حتى إن أحد أعضاء مجلس الشعب عن دائرة "ببا"، جنوب مدينة بني سويف بصعيد مصر، تقدم باقتراح مكتوب إلى مجلس الشعب، يرى فيه منح الرئيس لقب سادس الخلفاء الراشدين. وتم تحويل الاقتراح إلى لجنة الاقتراحات والشكاوى، بتاريخ 14/2/1981. واجتمعت اللجنة في 15/3/1981، برئاسة محمود أبو وافية ، ووافقت على الاقتراح، وحوّلته إلى لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، لإصدار القرار، ودعوة الناخبين إلى الاستفتاء على منح الرئيس ذلك اللقب. وقد جاء حادث الاغتيال ليئد مثل هذا الاستفتاء الغريب.
أمسى السادات لا يتحمل أي معارضة، وازداد عدد خصومه ومخالفيه في داخل مصر، وفي نطاق الأمة العربية. وحدثت قطيعة كبيرة مع أغلب الدول العربية، التي قطعت علاقاتها بمصر، باستثناء سلطنة عُمان، بعد مؤتمر بغداد (الملحق "ب")، ومقررات قمة الصمود والتصدي الثالثة في دمشق. وبدأت المعارضة في الداخل تزداد، وكان رد السادات عنيفاً. وصدرت قرارات سبتمبر 1981 ، التي شملت اعتقال قطاعات متعددة. وكان العدد، المعلن رسمياً للمقبوض عليهم، هو 1536 شخصاً، منهم فؤاد سراج الدين ، رئيس حزب الوفد، والأنبا شنودة، بطريرك الكرازة المرقسية في مصر، ومحمد حسنين هيكل، وعبدالعظيم أبو العطا، وزير الزراعة الأسبق، وأعداد كبيرة من كبار رجال الدين، والمثقفين، والسياسيين، وأساتذة الجامعات، والمحامين، ورجال الصحافة والفكر،مسلمين ومسيحيين. وقد تسببت قرارات سبتمبر بتصعيد الأزمة، ودفع قوى كثيرة إلى الوقوف في صف واحد ضد النظام.
وبعد أن نُفّذت إجراءات الاعتقال، أرسل المراسلون الأجانب إلى الصحف والإذاعات ومحطات التليفزيون العالمية، يصِفون الأحداث بأنها ضربة شديدة للديموقراطية. وكان بعض الصحف الغربية، خاصة صحيفة "الصنداي تايمز Sunday Times"، في غاية الحدّة، في انتقاد السادات. ونشرت موضوعاً يغطي صفحة كاملة، جعلت فيه رسماً لوجه السادات، يحمل ملامح حمار. وأصبح السادات في وسائل الإعلام الغربية دكتاتوراً باطشاً.
وكان الخطاب، الذي ألقاه السادات عشية قرارات الاعتقال، قد أثار استياء شديداً، خصوصاً عندما تعرّض بالإهانة لأحد علماء المسلمين، حين قال: "لن أرحمهم... لن أرحمهم... (قالها مرّات) التلمساني سامحته مراراً، ولن أرحمه هذه المرة. المحلاوي مرمي في السجن زي الكلب.." ، كررها ثلاثاً .
لم يكتفِ السادات بهذه العبارات، التي أثارت استنكاراً شديداً، بل تعرّض، في خطابه هذا، لرجال الدين المسيحي، واتّهم كبارهم بتدبير مخططات تآمرية، وبأنهم دبّروا المظاهرات الصاخبة ضده في الولايات المتحدة الأمريكية، أمام مقر إقامته في "البلير هاوس"، وأمام البيت الأبيض، وأمام مبنى الأمم المتحدة. وبدأت سُحُب السخط تتجمع وتتكثف، إلى أن بلغت المأساة ذروتها، وكانت النهاية الأليمة يوم 6 أكتوبر 1981، بحادث الاغتيال، الذي يعدّ أغرب حادث اغتيال في تاريخ الأمة العربية والشرق الأوسط، لأنه تمّ من قِبَل أفراد من القوات المسلحة، والسادات بينهم يظنّ أنه في غاية الأمان، وكان يصِفهم دائماً بأنهم أولاده.
تاسعاً: اغتيال الســادات
كان حادث الاغتيال مروعاً، مباغتاً، إذ تم في سرعة مذهلة، ولم يستغرق سوى 35 ثانية! وبعدها اهتز العالم كله. إن طلقة الرصاص، التي أصابت السادات، وأودت بحياته، سرعتها 735 متراً في الثانية، وأطلقت على بعد نحو 20 متراً، أي أن الطلقة أصابته، وأودت بحياته في 20/735 من الثانية!
قرّر المسؤولون عن الأمن أن هناك أكثر من 14 جهة، خارجية وداخلية، استهدفت اغتيال السادات، وتنفيذ أعمال تخريب ضخمة داخل مصر. وأنه تجمعت لدى أجهزة الأمن في مصر معلومات عن اتصالات بين رجال بعض التيارات المعارضة ومنظمات إرهابية دولية، مثل مجموعة كارلوس، وتنظيم الألوية الحمراء، وتنظيمات الإرهاب في ألمانيا الغربية. كما كان هناك اتصالات بتنظيم الجيش الأحمر الياباني.
وفي الحقيقة، تم اغتيال السادات على يد مجموعة من المنتمين إلى إحدى الجماعات الإسلامية، وهم:
- الملازم الأول خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، من سلاح المدفعية.
- والملازم الأول (سابقاً) عبدالحميد عبدالسلام (سبق أن استقال من الخدمة العسكرية، وكان ضابطاً في القوات الجوية).
- والملازم الأول المهندس الاحتياطي عطا طايل حميدة رحيل، من مركز تدريب المهندسين.
- والرقيب المتطوع حسين عباس محمد، من قوة الدفاع الشعبي.
تسلسـل الأحـداث كانت البداية يوم 23/9/1981، حين وقع الاختيار على الملازم الأول خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، للاشتراك في طابور العرض العسكري في أكتوبر القادم، ليحل محل زميل له، شاءت الأقدار أن تمنعه من المشاركة.
وفي اليوم التالي، توجّه خالد إلى أرض العرض، وحضر "البروفات". وهناك، راودته الفكرة، وألحّت عليه. فلم يستطع مقاومتها، فاختمرت في رأسه، وعقد العزم على تنفيذها . (يجدر بنا أن نذكر أن شقيقه، محمد الإسلامبولي، كان ضمن المعتقلين في أحداث سبتمبر).
بُعيد صلاة الجمعة، 25/9/1981، أسرع خالد الخطى إلى منزل صديقه المهندس محمد عبدالسلام فرج، وهو المتهم الخامس، ببولاق الدكرور، لزيارته. وبدأ يتجاذب معه أطراف الحديث حول الأوضاع السائدة في البلاد على وجه العموم، وحول ما يتعرض له المسلمون من ظلم، يحيق بهم وبعلمائهم، وأنه لا بد من تمكين شرع الله. وهنا، انتهز خالد الفرصة، فكاشفه بأمر تعيينه في طابور العرض، وبفكرته في اغتيال رئيس الجمهورية في منصة العرض، موضحاً أنه يحتاج إلى معاونة ثلاثة أو أربعة من "الإخوة"، لمساعدته على التنفيذ، وتدبير القنابل والذخيرة. فرحّب محمد عبدالسلام بالفكرة.
وفي المساء، استقبل خالد صديقه محمد عبدالسلام وزوجته، وفي صحبتهما كل من عبدالناصر عبدالعليم درة، المتهم الثالث عشر في قضية الاغتيال، وصفوت إبراهيم الأشوح، المتهم الثالث والعشرين. وكان اللقاء في منزل خالد، الذي تسكن فيه شقيقته وزوجها. ولما علم زوج شقيقته بحضورهم، اعترض على تلك الاستضافة، خشية أن يكون بينهم أحد من المطلوب القبض عليهم. بيد أن خالداً هدّأ من روعه، وطمأنه بأنه سيدبر لهم أمر مَبيتهم في مكان آخر، صبيحة اليوم التالي.
وفي اليوم التالي، انتقلوا إلى منزل عبدالحميد عبدالسلام (صديق خالد)، وهو المتهم الثاني في القضية، حيث تم تكليف صالح أحمد صالح جاهين، المتهم الثاني عشر، بأمر تدبير الذخائر والقنابل المطلوبة.
عرض الخطة على مجموعة الصعيد وفي يوم 28/9/1981، حضرت مجموعة من الصعيد، لمقابلة محمد عبدالسلام وخالد، اللذين عرضا خطة الاغتيال، التي نسج الأخير خيوطها. فوافقوا عليها، وانعقد عزمهم على تنفيذ الخطة، على أن تمدهم مجموعة الصعيد بالذخيرة اللازمة لتنفيذ عملية الاغتيال.
كما التقى خالد، في شقة عبدالحميد أيضاً، كلاًّ من عطا طايل حميدة، وحسين عباس محمد، وعرض عليهما خطته، فوافقا عليها، واتفقا معه على تنفيذها. ثم أرسل رسالة إلى عبود الزمر (مقدم استخبارات مفصول من القوات المسلحة) بتفاصيل الخطة. فرد عبود برسالة مفادها موافقته على الاغتيال، مُرفَقَة بتوجيهاته في كيفية دخول الأفراد إلى منطقة العرض، وتصوراته لما يمكن أن يحدث في حالة نجاح العملية.
تدبير الذخائر والأســلحة وفي يوم 2/10/1981، قبل الحادث بأربعة أيام، تم تدبير ما يزيد على مائة طلقة 7.62 × 39مم، أخذ منها خالد إحدى وثمانين طلقة، من بينها أربع طلقات "خارق حارق"، معلّمة بعلامة حمراء على المقذوف، وأعطاها لعبدالحميد عبدالسلام، الذي خبأها فوق سطح المنزل.
وفي مساء اليوم نفسه، انتقل محمد عبدالسلام من شقة عبدالحميد إلى عيادة أسنان، بحي الزيتون، ليتخذها مقراً لاجتماعاته مع أفراد جماعته. وخلال المدة من 2 إلى 4/10/1981، اكتمل تدبير باقي الذخيرة والقنابل اليدوية اللازمة ورشاش ومسدس. تسلمها خالد إضافة إلى ثلاث خزن بنادق آلية وخزنة رشاش قصير، وثلاث إبر ضرب نار.
وأخذ خالد إبر ضرب النار وخزن البنادق الآلية، وخزنة الرشاش، والقنابل، ووضعها في حقيبته "السمسونايت"، وانصرف بعد أن اتفق مع عبدالحميد على اللقاء أمام بوابة حديقة المريلاند، في الساعة العاشرة مساء ذلك اليوم.
الأحداث على أرض العــرض وفي الموعد المحدد، ذهب خالد إلى المكان المتفق عليه، ومعه حقيبته "السمسونايت"، وبها الذخيرة والقنابل اليدوية وإبر ضرب النار وخزن البنادق الآلية وخزنة الرشاش. فوجد عبدالحميد في انتظاره داخل سيارته، من نوع "فيات"، مرتدياً الزي العسكري، فقاد خالد السيارة، وعرّجا، في طريقهما إلى أرض العرض، على مقهى بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة، حيث انضم إليهما كلٌّ من عطا طايل، وحسين عباس، وكانا يرتديان الزي العسكري أيضاً، وتوجهوا جميعاً إلى أرض العرض. وعلى مقربة من تجمع آليات وحدة خالد وأفراده، نزل عبدالحميد وعطا وحسين، ومعهم خطاب مزوّر، مفاده أنهم ملحَقون من اللواء 118 مدفعية . وكان الاتفاق، أن يدخل هؤلاء الثلاثة ويسألوا عن خالد، الذي كان قد ترك خبراً مسبقاً في وحدته، أن ثلاثة من الجنود الملحَقين، سيصلون في تلك الليلة. وعقب دخولهم، بربع ساعة تقريباً، لحق بهم خالد، فوجدهم في انتظاره، يقفون إلى جوار خيمته. فطلب منهم مخالطة الجنود بالوحدة، بعد أن مزق الخطاب المزوّر، الذي كان معهم.
وفي صبيحة يوم الإثنين، الموافق 5/10/1981، عُين خالد ورفاقه عبدالحميد وعطا وحسين "خدمة على السلاح". وفور أن تسلم خالد الأمر بنزع إبر ضرب النار، من أحد الضباط، كلّف عبدالحميد بتمييز البنادق الآلية الثلاث، التي سيستخدمونها في عملية الاغتيال. فقام الأخير بتمييزها عن سواها بقطع صغيرة من القماش، دسّها في فوهاتها. وفي الوقت نفسه، ترك خالد حقيبته "السمسونايت" تحت سريره، بعد أن أخرج منها القنابل الأربع، ووضعها داخل خوذته، وعيّن حسين عباس حارساً لخيمته.
حادثة الاغتيال ما قبــل العمليــة كان السادات يعلم يقيناً أن رأسه مطلوب، وكان يطَّلع على الإجراءات الأمنية لحماية حياته. كما كانت جهات الأمن تبلِغه بما يصل إليها من معلومات، وكان قلقاً على أفراد أسرته، وكان دائماً يحذر زوجته وأولاده، ويأمرهم بالاحتياط.
وفي يوم 28 سبتمبر، أصرّ على زيارة المنصورة، في قطار مفتوح من الجانبين، ثم في سيارة مكشوفة، ورفض اقتراحاً بالسفر إلى المنصورة في الطائرة. وقبل وصوله إلى هناك، تلقّى فوزي عبدالحافظ، سكرتير الرئيس، رسالة لاسلكية من إحدى جهات الأمن، بوجود معلومات، تفيد أن أحد أفراد الجماعات الإسلامية، تقلّه سيارة "فولكس فاجن"، ينوي اغتيال السادات في المنصورة. وتحركت الطائرات العمودية تراقب الطريق، بحثاً عن هذه السيارة، وحلّقت في سماء المنصورة. ولكن لم يُعثر على شيء.
كان هذا الشخص، الذي يجري البحث عنه، هو عبود الزمر، ضابط الاستخبارات المفصول، الذي انضم إلى تنظيم الجهاد، وكان مطلوباً بشدة من أجهزة الأمن المصرية، وقد أخطر محمد نبوي إسماعيل، وزير الداخلية، وقتذاك، الرئيس السادات بأمره. وقد وجّه السادات إنذاراً إلى الزمر، يوم 28 سبتمبر، عبْر التليفزيون، قائلاً:
"إنني أعرف أن هناك ضابطاً منهم هارب، وربما يكون سامعني الآن، لقد اعتقلنا الآخرين جميعاً في خمس دقائق، وإذا كان هو قد تمكن من الفرار، فإنني أقول له إننا وراءه هو الآخر" .
ومن العجيب أن جهات الأمن، لم تكشف شيئاً عن وجود تنظيم سري مسلح لقلب نظام الحكم واغتيال السادات، إلاّ في أواخر سبتمبر 1981، وهذا ما سجلته حيثيات الحكم في القضية، التي عرفت باسم "قضية الجهاد رقم 48 لسنة 1982 أمن دولة عليا".
وفي يوم 30 سبتمبر، كان هناك مذكرة من وزارة الداخلية على مكتب الرئيس السادات. تقول المذكرة إن سائق سيارة أجرة، يُدعى صابر عبدالعظيم، تقدم إلى اللواء السماحي، مدير أمن القاهرة، وأبلَغه بأن هناك من يورطه في عملية شراء أسلحة والتدريب عليها. وكان مرفقاً بالمذكرة ثلاثة أفلام صوت وصورة: تصور ثلاثة لقاءات بين هذا السائق ونبيل المغربي، أحد أعضاء تنظيم الجهاد، منها فيلم يصور عملية تسليم مدفع. وتم القبض على نبيل المغربي، وحققت معه نيابة أمن الدولة. وكان المغربي، عند القبض عليه، يعلم بمخطط اغتيال السادات، ولكنه لم يفُه بعبارة واحدة في هذا الشأن.
ليلة العرض العسكري حدث أن توصل رجال الأمن إلى معلومات خطيرة، ليلة العرض العسكري، حيث التقى عبود الزمر أحد عملاء المباحث المندسّـين في التنظيم، في الساعة الثامنة مساء، في ميدان باب الحديد. وكان عبود في حالة هياج، ووصفه عميل المباحث بأنه كان "سعران" (مضطرباً)، وقال له: "لا بد من عملية كبيرة، إحنا ميتين .. ميتين" .
وقد اتصل نبوي إسماعيل، وزير الداخلية، بالرئيس السادات، وأبلَغه بذلك، ورجاه أن يعيد النظر في حضور العرض العسكري، ولكن السادات رفض، وهو يقول: "أنت هوّال وخوّاف، يا نبوي، العيال أصبحت خطوطهم مقطوعة، وأنا هدّدت الولد الزمر في خطابي" (يقصد خطاب 28 سبتمبر).
وكان هناك مفاجأة كبرى، ظهرت بعد العرض العسكري! لقد اتصل أحد قادة التنظيم بعميل للمباحث العامة، مدسوس في هذا التنظيم، وقال له: "لا تخرج من منزلك اليوم.. استمع إلى الراديو أو التليفزيون. وغداً الساعة 11 صباحاً، ستصلك تعليماتي" . وأدرك عميل المباحث، أن هناك عملية كبرى تتعلق بحياة السادات. وحاول الاتصال بالضابط الذي يرأسه، فلم يمكنه، وعندما استطاع الاتصال بغيره، كان السادات قد قُتل.
وفي تلك الليلة، جاءت التقارير إلى الرئيس، تُفيد أن الحرس الجمهوري تسلّم، في الصباح، منطقتين من الاستخبارات الحربية، وهما منصة العرض العسكري ومبنى وزارة الدفاع، حيث اعتاد الرئيس أن يزور القيادة العسكرية قبل العرض بنصف ساعة. وكان اجتماع قد عقد، ظهر يوم الخامس من أكتوبر، برئاسة اللواء أركان حرب محمد صبري زهدي، نائب رئيس قوات المنطقة العسكرية المركزية، وضمّ رجال رئاسة الجمهورية من جميع الأفرع، ورجال الاستخبارات الحربية والاستخبارات العامة، وقيادات المجموعة (75) استخبارات حربية، وهي على مستوى متقدم وكفاءة نادرة، وتم كتابة مذكرة "تنسيق" وقّعها الجميع.
وتأكد الرئيس بنفسه، قبل العرض بأربع وعشرين ساعة، من سيطرة أجهزة أمن رئاسة الجمهورية وقيادتها على منصة العرض العسكري، وأنه لمزيد من الحيطة، تم تركيب مائة وعشرين خطاً هاتفياً مباشراً داخل المنصة، التي لا تزيد مساحتها على تسعين متراً مربعاً. واطمأن الرئيس تمام الاطمئنان، ونام ليلته.
اليوم الدامي والنهاية الأليمة استيقظ السادات، كعادته، واهتزت أسلاك الهاتف، من الولايات المتحدة الأمريكية، بمكالمة من جمال السادات، ابن الرئيس، يهنىء أباه، كما تعود، في صباح السادس من أكتوبر، كل عام. ثم خابر الرئيس صهرَيه، المهندس عثمان أحمد عثمان، والمهندس سيد مرعي، ثم تحدث مع اللواء عبدالعزيز نصار، مدير المخابرات العامة، كما تلّقى مكالمة من نائبه، حسني مبارك، ثم من فؤاد محيي الدين، رئيس الوزراء في ذلك الوقت، ثم من نبوي إسماعيل. واعتذر السادات عن عدم تلّقي باقي المكالمات من رؤساء تحرير بعض الصحف المصرية. ثم دخل عليه الأطباء، لإجراء الفحوص اليومية المعتادة، وجاء خبير التدليك، وزاول السادات بعض التمرينات، واستحم بعدها بمياه فاترة.
كانت الصحف، في ذلك اليوم، تتحدث عن الأسلحة الغربية، التي ستظهر في العرض بنسبة كبيرة، تصل إلـى 50% من جملة الأسلحـة المشتركة، ومنها الطائرات الأمريكية من نوع "فانتوم PHANTOM"، والعمودية من نوع "شينوك CHINOOK"، والطائرات العمودية الفرنسية من نوع "جازيل GAZELLE"، والبريطانية من نوع "سي كينج SEA KING".
في العاشرة والنصف من صباح ذلك اليوم، كان السادات في مقر وزارة الدفاع، لالتقاط الصور التذكارية مع كبار القادة. وقد وقف إلى يمينه نائبه، حسني مبارك، وإلى يساره المشير محمد عبدالحليم أبو غزالة، وزير الدفاع. وكان السادات مرتدياً بدلته الهتلرية، التي صنعت في لندن، والتي كان مغرماً بها، ووصل غرامه بالزي الألماني، أن أمر أفراد الحرس الجمهوري بارتداء الخوذات العسكرية الألمانية. ورفض السادات أن يرتدي القميص الواقي من الرصاص على الرغم من إلحاح زوجته، السيدة جيهان، ووزير الداخلية. وكان سبب ذلك، أن البدلة الجديدة كانت ضيقة، ولا تسمح بارتداء القميص الواقي تحتها، ورفض السادات أن يلبس بدلة العام الماضي، وقال: "أنا رايح لأولادي، أنت هوّال وخوّاف، يا نبوي" . ثم توجّه الرئيس إلى أرض العرض، ليتبوأ مقعده من المنصة. وإلى يمينه نائبه، حسني مبارك، ثم الوزير العُماني شبيب بن تيمور، مبعوث السلطان قابوس. وإلى يساره المشير أبو غزالة، ثم سيد مرعي، ثم عبدالرحمن بيصار، شيخ الأزهر.
في ذلك الوقت، كان خالد الإسلامبولي قد توجّه إلى الخيمة، التي ينام فيها أصحابه، حسين عباس وعبدالحميد عبدالسلام وعطا طايل، وسلّمهم كيس الذخيرة، وأمرهم بالاستعداد. واستعد خالد الإسلامبولي بملابس العرض، وتناول خزنة الرشاش، بعد أن ملأها بالذخيرة، ووضعها في جَورَبه، ثم لف حولها (أستك) عريضاً حتى لا تسقط. وتحرك الجنود لتجهيز السيارات، وأمر الإسلامبولي بتسليم الأسلحة منزوعة إبر ضرب النار، إلى الجنود. وأخذ الإسلامبولي، وهو يتناول كوباً من الشاي، يتابع تسليم الأسلحة للجنود، إلى أن اطمأن إلى أن البنادق المعبأة بالذخيرة هي في حوزة عبدالحميد وعطا وحسين.
بدأ تحرك الجرارات، وخلفها المدافع، إلى ساحة العرض، كلٌّ في دوره المرسوم. وحمل الإسلامبولي الخوذة، التي سيرتديها في العرض، إلى السيارة التي سيركبها، ووضع تلك الخوذة أسفل المقعد. وأخذ يتفقد طاقم سيارته. وفي السادسة والنصف، ركبت الأطقم العربات الأربع، الخاصة بكتيبة خالد، وركب حسين وعبدالحميد وعطا العربة التي ركبها خالد، وكانت إلى اليمين من القطار الثاني لعربات اللواء المواجهة للمنصة، وجلس خالد إلى جوار السائق.
وفي حوالي الساعة الثامنة، وبينما كان الجنود منهمكين في أعمال النظافة للمدافع والعربات، أعطى خالد لعبدالحميد قنبلتَيْن يدويتَيْن دفاعيتَيْن. احتفظ عبدالحميد بواحدة، وأعطى الثانية لعطا طايل. وخبّأ خالد القنبلتين الأخريين في "تابلوه" العربة، ثم طلب من السائق عصام عبدالحميد، أن يذهب ليشتري "ساندوتشَيْن". وعند ذهاب السائق، انتهز خالد الفرصة، فغيّر خزنة الرشاش الخاص بالسائق، بخزنة أخرى مملوءة بالذخيرة، ووضع الخزنة الفارغة تحت الكرسي. ثم أعاد خالد ترتيب جلوس أفراد طاقم عربته، فأجلس عبدالحميد خَلْفه مباشرة في صندوق العربة، وظهره إلى المنصة، كما أجلس عباساً في آخر صندوق العربة، في الصف نفسه الذي يجلس فيه عبدالحميد، وظهره إلى المنصة كذلك، بينما أجلس عطا طايل في مواجهة عبدالحميد، ووَجْهه إلى المنصة.
وقبل تحرك السيارة لدخول طابور العرض، ظهر ضباط من رئاسة الجمهورية، يركبون دراجات نارية، أخذوا يفتشون السيارات واحدة بعد الأخرى. فألقى عبدالحميد نفسه فوق الرشاشات الثلاثة، ونام عليها، وجهز نفسه لتفجير واحدة من قنابل الصوت التي في حوزته، عند محاولة تفتيشه. ويقول خالد، في حديث إلى جريدة "الأنباء" الكويتية، ومجلة "الندوة" السعودية: نظرت إلى الخَلْف، فإذا هم ثلاثة ضباط كبار، منهم ضابط عمل معه عبدالحميد عبدالسلام، ويعرفونه جيداً، ويعرفون أنه فُصل من الخدمة. فأيقنت أن الأمر سينكشف، ولكن الله هيّأ من ينادي عليهم، أثناء تفتيش العربة السابقة لعربتنا، وهكذا شَق هؤلاء الضباط طريقهم بعيداً عن عربته، وقاموا بتفتيش العربة التي بعدها.
في ذلك الوقت، كان كل اهتمام الأمن منصرفاً إلى ما وراء منصة العرض، ظناً منهم أن عبود الزمر، قد يأتي من الخلف في هجمة انتحارية.
كان الحاضرون يستمتعون بمشاهدة العرض، خصوصاً طائرات "الفانتوم"، وهي تمارس ألعاباً بهلوانية في سماء العرض. ثم انطلق صوت المذيع الداخلي: "والآن تجيئ المدفعية". وتقدم قائد طابور المدفعية لتحية المنصة، وحوله عدد من راكبي الدّراجات النارية. وفجأة، توقفت إحدى الدّراجات، بعد أن أصيبت بعطل مفاجئ، ونزل الرجل من فوقها، وراح يدفعها أمامه. ومن حسن حظه، أن معدل سير باقي الدّراجات كان بطيئاً، يسمح له باللحاق بها. ولكن سرعان ما انزلقت قدَمه، ووقع على الأرض، والدّراجة فوقه، فتدخّل جندي، كان واقفاً إلى جوار المنصة، وأسعفه بقليل من الماء. كل هذا حدث أمام الرئيس والجميع. وأسهمت تشكيلات الفانتوم وألعابها في صرف نظر الحاضرين واهتمامهم. لذا، عندما توقفت سيارة الإسلامبولي، بعد ذلك، ظُنَّ أنها تعطّلت، كما تعطّلت الدّراجة النارية، خصوصاً أن أحداثاً كهذه، وقعت، قبل ذلك، في عروض كثيرة في عهدَي الرئيسين، عبدالناصر والسادات.
في تمام الساعة الثانية عشرة وعشرين دقيقة، كانت سيارة الإسلامبولي، وهي تجرّ المدفع الكوري الصنع عيار 130مم، قد أصبحت أمام المنصة تماماً. وبينما كان المذيع الداخلي يقول عن رجال المدفعية:إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ، وفي لحظات، وقف القناص حسين عباس، وأطلق دفعة من الطلقات، استقرت في عنق السادات، بينما صرخ خالد بالسائق، يأمره بالتوقف، فشد السائق كابح (فرملة) اليد، بصورة تلقائية، ونزل خالد مسرعاً من السيارة، وألقى قنبلة، ثم عاد إلى السيارة، وأخذ رشاش السائق، الذي سبق أن وضع فيه خزنة مملوءة، وطار مسرعاً إلى المنصة. كان السادات قد نهض واقفاً في اندفاع، بعد إصابته في عنقه، وهو يقول: "مش معقول"، بينما اختفى جميع الحضور على المنصة أسفل كراسيهم. وتحت ستار الدخان، وجّه الإسلامبولي دفعة الطلقات إلى صدر الرئيس، في الوقت نفسه الذي ألقى فيه كل من عطا طايل بقنبلة ثانية، لم تصل إلى المنصة، ولم تنفجر، وعبدالحميد بقنبلة ثالثة، ونسي أن ينزع فتيلها (صمام الأمان)، فوصلت إلى الصف الأول، ولم تنفجر . ثم قفز الثلاثة، وهم يصوّبون نيرانهم نحو الرئيس. وكانوا يلتصقون بالمنصة، يمطرون الرئيس بالرصاص. وكان عبدالحميد قريباً من نائب الرئيس، حسني مبارك، وقال له: "أنا مش عايزك، إحنا عايزين فرعون" . وتعطل رشاش الإسلامبولي بعد الطلقة السادسة، فألقى به أرضاً، وأخذ بندقية حسين عباس، وقال له: "بارك الله فيك، إجرِ إجرِ" . وكان عطا طايل آخر من وصل إلى المنصة، لأنه وقع أرضاً، فقام وتناول بندقيته، ولم يجد أحداً جالساً فوق المنصة، فوجّه نيرانه إلى الكرسي، الذي ظـن أن السادات قريب منه. وانطلق حسين عباس هارباً، إذ بات بلا سلاح، بعد أن أخذه منه خالد.
كان السادات قد سقط مضرجاً بدمائه، منبطحاً على وجهه. بينما كان سكرتيره الخاص، فوزي عبدالحافظ ملقياً بجسده عليه، محاولاً حمايته، رافعاً كرسياً، ليقيه وابل الرصاص. كان أقرب ضباط الحرس الجمهوري إلى السادات، عميد يدعى أحمد سرحان، صاح لدى سماعه طلقات الرصاص: "إنزل على الأرض، يا سيادة الرئيس، إنزل"، ولكن بعد فوات الأوان.
صعد عبدالحميد سلم المنصة من اليسار، وتوجّه إلى حيث ارتمى السادات، ورَكَله بقدَمه، فقلَبه على ظهره، ثم طعنه بالحربة (السونكي) ، وأطلق عليه عياراً نارياً. وارتفع صوت خالد، يؤكد لوزير الدفاع أنهم لا يقصدون أحداً، إلا السادات. بينما أفرغ عبدالحميد باقي ذخيرته في سقف المنصة. وانقضى نصف دقيقة دامٍ، وانتهت معه حياة السادات.
كان حسين عباس قد لاذ بالفرار. وها هم الثلاثة الآخرون، قد انطلقوا يركضون عشوائياً، في اتجاه حي رابعة العدوية (في مدينة نصر)، تطاردهم عناصر الأمن المختلفة، وهي تطلق النيران، فأصابتهم إصابات كثيرة.
كان الناس كلهم في ذهول، والشلل قد أصاب ألسنتهم، وسُمع صوت يصرخ معلناً أن الطيران سيضرب. وتم القبض على الجناة الثلاثة، أمّا حسين عباس، فلم يمكن القبض عليه، إلاّ في فجر يوم الجمعة، 9/10/1981.
أمّا على المنصة، فقد ارتفعت الصرخات، وصرخت السيدة جيهان السادات، تخاطب سكرتيرتها، "مدام" صادق: "دول مجانين، السادات إتقتل من الخلف" ، بينما السادات مطروح أرضاً، والدماء تنزف من فمه. وإلى جوار السيدة جيهان، وقفت فايدة كامل، المطربة، والمحامية، وعضو مجلس الشعب، وزوجة وزير الداخلية، وأخذت تصرخ، وجيهان تنهرها، وتأمرها بالسكوت، من دون جدوى، إذ ظلت تصرخ: "محمد، محمد، هاتوا لي محمد، يا خرابي يا محمد" ، وهي تقصد زوجها، محمد نبوي إسماعيل، وزير الداخلية .
كما سقط سبعة آخرون قتلى، هم: اللواء أركان حرب حسن علام، وخلفان ناصر محمد (عُماني الجنسية)، والمهندس سمير حلمي إبراهيم، والأنبا صموئيل، ومحمد يوسف رشوان (مصور)، وسعيد عبدالرؤوف بكر، وشانج لوي (صيني الجنسية). كما أصيب كل من: المهندس سيد مرعي، وفوزي عبدالحافظ، ومحمود حسين عبدالناصر، واللواء أركان حرب محمد نبيه السيد، واللواء المتقاعد عبدالمنعم محمد واصل، ودومينكو فاسيه، سفير كوبا لدى القاهرة، ورويل كولور، سفير بلجيكا لدى القاهرة، وكريستوفر برايان (أمريكي الجنسية)، وهاجن بردك (أمريكي الجنسية)، وبرك ماكلوسكي (أمريكي الجنسية)، وعبدالله خميس فاضل (عُماني الجنسية)، ولوجوفان وينج بينج وشين فان (صينيّي الجنسية)، وجوني دودز (أسترالي الجنسية)، والعميد وجدي محمد سعد، والعميد معاوية عثمان محمد، والعميد أحمد محمد سرحان (من الشرطة)، والعقيد نزيه محمد علي، والرائد عبدالسلام متولي السبع، وآخرون.
هبطت طائرة عمودية من نوع "جازيل"، حملت الرئيس إلى مستشفى المعادي. وتحركت سيارة جيب، تحمل الجناة الثلاثة حيث الإسلامبولي يئن من إصابته، وأسفل منه، عبدالحميد، وإلى جوارهما عطا طايل، إلى المستشفى العسكري، ثم إلى مستشفى المعادي، المستشفى نفسه الذي نُقل إليه الرئيس.
أصدر وزير الدفاع أمره بعودة كل القوات المشتركة في العرض إلى وحداتها القتالية. وفي مستشفى المعادي، كان حارس ضخم البُنية، يبدو أنه الحارس الخاص للنائب حسني مبارك، يتحدث في جهاز الإرسال: "الوزراء يتوجهون إلى مجلس الوزراء، والنواب إلى مجلس الشعب" .
كان سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى القاهرة، ألفريد آثرتونAlfred Atherton، أول من اتصل بالمشير أبي غزالة، وسأله عن الرئيس، فقال له: "أصيب. ولكن بجروح طفيفة" . وفي الساعة الثانية مساء، قطع راديو القاهرة إرساله، ليعلن بياناً رسمياً عن الحادث:
"في حوالي الساعة الثانية عشرة وأربعين دقيقة ظهر اليوم (الثلاثاء)، أثناء مرور طابور العرض العسكري، قامت مجموعة من الأفراد بإطلاق النار تجاه المنصة الرئيسية. وترتب على ذلك إصابة السيد رئيس الجمهورية وبعض مرافقيه. وقد تم نقل سيادته إلى حيث يُجرى علاجه الآن تحت إشراف الأطباء الإخصائيين، ويتابع السيد نائب رئيس الجمهورية شخصياً ما يتخذه الأطباء من إجراءات".
وهكذا جرى نمط حياة السادات على طريقة الصدمات الكهربائية. وكأن القدر قد شاء أن يكون موته "درامياً"، على نمط حياته. فكان اغتياله أكبر صدمة، وأغرب حادثة اغتيال في منطقتنا العربية.
نص التقرير الشرعي، الذي قدّمه كبار الأطباء الشرعيين إلى المحكمة عن اغتيال الرئيس، راجع الملحق"د".
إن المتفحص للتقرير الطبي الشرعي، عن اغتيال الرئيس السادات، يستطيع أن يستنتج أشياء كثيرة، أهمها كيف قُتل الرئيس، وما حجم إصاباته وأماكنها، وما هي الإصابات القاتلة، وماذا كان يرتدي الرئيس السادات، وما هي المحاولات المُضنية، التي قام بها الأطباء لإنقاذ حياته، ونقاط أخرى عديدة. ويشعر الإنسان، بعد أن يفرغ من قراءة التقرير، أن كل من عليها فانٍ، ولا يبقى إلا وجه الكريم المنان. وأنه لا عظمة، ولا خُلد إلاّ لله الواحد القهار، وأن الأجل إذا حان، لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وأن الموت يدركنا ولو كنّا في بروج مشيدة. فأي بروج أكثر منعة من وجود الرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلحة، بين قواته، وهو محاط بأكثر من أربع عشرة جهة، مكلفة بحمايته والدفاع عنه، ثم يُغتال على أيدي أناس تربوا في حجر هذه القوات. فعلى الإنسان أن يأخذ العِبرَ ويتعلم الدروس، من هذه الحادثة، وليعلم أن لا ملجأ من الله إلاً إليه، وأننا سنُعرض عليه،فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، ويَنقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا، ويَصْلَى سَعِيرًا. ولنتدبر قول العزيز الحكيم:إنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
كان كل شخص، داخل مصر وخارجها، يريد أن يعرف نتائج اغتيال السادات، قبل أن يعرف أسباب هذا الاغتيال. هل سيتحرك الجيش؟ هل ستتدخل الدول الأجنبية؟ هل ستستولي على الحكم سلطة جديدة؟ ولم تستقر الأحوال إلا عندما أعلن نائب الرئيس، حسني مبارك، مساء يوم الاغتيال، خبر مقتل السادات. وكان معنى ذلك الإعلان أن السلطة القائمة، ما زالت هي الحاكمة.
وعقب ذلك، وقعت حوادث العنف في أسيوط، وحاولت الجماعة الإسلامية السيطرة عليها، تمهيداً لإعلان الثورة الإسلامية. ولكن قوات الأمن المركزي، حاصرت أسيوط حصاراً شديداً، وفرضت حظر التجول بعد المغرب، إلى أن هدأت الأمور.
عاشراً: جنــازة الســـادات
شيعت جنازة السادات … في فتور، ولم يشترك فيها إلاّ القليل. فهل كان ذلك لدواعي الأمن المشددة؟ أو كان هناك دواعٍ أخرى؟ أو كان إعلان مناحم بيجن أنه سيحضر جنازة صديقه السادات عاملاً مساعداً على الفتور، لأن حضوره والوفد الإسرائيلي، معناه عدم حضور الملوك والرؤساء العرب؟ لعل هذه الأسباب جميعها، هي التي أدت إلى فتور الجنازة، وعدم تفاعل المصريين معها تفاعلهم مع جنازة عبدالناصر، على سبيل المثال، خاصة أن الاغتيال وقع بعد أحداث سبتمبر، التي ذُكر أنها سببت سخطاً شديداً في مختلف الأوساط.
يقول موسى صبري: "كنت أسير في جنازة السادات إلى جوار منصور حسن، وزير الإعلام الأسبق، وكنت أشعر بالمرارة لمشهد الجنازة، وقلت لمنصور حسن، عدة مرّات، وأنا أغالب دموعي: هل هذه جنازة أنور السادات؟ كيف يمكن أن تكون هزيلة بهذا القدر!!؟" .
وتم دفن السادات في مكان اغتياله، تحت حجر أسود، كُتب عليه: ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. "الرئيس المؤمن، محمد أنور السادات، بطل الحرب والسلام، عاش من أجل السلام، ومات من أجل المبادئ".
حادي عشر: محاكمــة الجنــاة
استمرت المحاكمة حوالي ثلاثة أشهر ونصف الشهر، منها تسعمائة ساعة استغرقتها المرافعات، شارك فيها نحو ستين محامياً من أشهر محامي مصر، يمثلون مختلف التيارات والأحزاب. وتحولت المحاكمة إلى محاكمة عصر السادات بأسره. وكان نجم الدفاع هو عبدالحليم رمضان، المحامي الأشهر، الذي ظل يدافع في حماس إلى أن أصابه الإعياء، فسمحت له المحكمة بالجلوس أثناء مرافعته. وكذلك المحامي الأشهر، فريد عبدالكريم، وغيرهما. ووصلت براعة الدفاع أن أوقعت المحكمة في حيرة، حين ساقت، من واقع المستندات والأقوال والتقارير الطبية، أن الإسلامبولي ورفاقه، ليسوا هم الذين اغتالوا السادات، بل إنهم وصلوا إلى المنصة، فوجدوا السادات مقتولاً، وأنهم أطلقوا الرصاص على جثته!! فسألتهم المحكمة: "من قتله، إذاً"؟ وردت هيئة الدفاع: "إنه ليس من اختصاصنا البحث عن القتلة". ولولا إصرار الإسلامبولي ورفاقه على اعترافهم، لكان للمسألة شأن آخر.
وكان الدفاع، طوال تلك الفترة، يدين فترة حكم السادات. ويركز على اعتقالات سبتمبر، وعلى الصلح مع اليهود. ويزعم أن بعض التصريحات، التي وردت على لسان السادات، في بعض خُطبه، تعَد استفزازاً للشعب كله، على حد تعبير الدفاع، مستشهداً بقول السادات عندما سُئل إن كان لديه 35 استراحة: "لا، أنا عندي مائة استراحة"!! وإهاناته لعلماء المسلمين ورجال الكنيسة، وسلخ مصر من أشقائها العرب، ومحاولة إعادة صبغتها الفرعونية القديمة.
وأصدرت المحكمة، في النهاية، حكمها، برئاسة اللواء سمير فاضل، بإعدام خالد الإسلامبولي وعبدالحميد عبدالسلام وعطا طايل وحسين عباس ومحمد عبدالسلام فرج.
ومن الجدير بالذكر، أن جهوداً مكثفة قد بُذلت، لدى الرئيس مبارك لتخفيف عقوبة الإعدام، بعد صدور الحكم. واشترك في هذه المحاولات كمال الدين حسين، عضو مجلس قيادة الثورة الأسبق، وفتحي رضوان، المحامي المعارض الشهير . ورفض الرئيس. كما تقدمت إحدى الجمعيات، التي تكونت في باريس، ويرأسها أحمد بن بيلا ، رئيس الجزائر الأسبق، بطلب الإذن بالحضور إلى القاهرة، لمقابلة الرئيس مبارك. واعتذر الرئيس عن عدم مقابلتهم، إذا كان اللقاء لهذا الشأن.
وفي السادس عشر من أبريل 1982، صدرت جريدة "الأهرام" تحمل خبر "تنفيذ حكم الإعدام في قاتلي السادات"، معلنة:
"تم في ساعة مبكرة، من صباح أمس (15 أبريل 1982)، تنفيذ حكم الإعدام في المحكوم عليهم الخمسة، في قضية اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بعد أن رفضت التماسات إعادة النظر، التي تقدموا بها خلال الفترة القانونية، وهى الخمسة عشر يوما، عقب تصديق السيد رئيس الجمهورية على الأحكام، التي أصدرتها المحكمة العسكرية ضدهم. وتضمنت الأحكام إعدام خمسة متهمين، وهم: خالد شوقي الاسلامبولى، وعبد الحميد عبدالسلام، وعطا طايل حميدة، وحسين عباس محمد، ومحمد عبدالسلام فرج. والأشغال الشاقة بين خمس سنوات وخمس وعشرين سنة على17 آخرين.
وقد تم أمس تنفيذ حكم الإعدام رميا بالرصاص على الأول والرابع، لخضوعهما لقانون الأحكام العسكرية، وحضر التنفيذ العقيد بحري محمود عبد القادر رئيس النيابة العسكرية. أمّا المحكوم عليهم الثلاثة الآخرون، فقد تم تسليمهم إلى إدارة سجن الاستئناف بالقاهرة، لتنفيذ الحكم الصادر ضدهم شنقاً. وتم تنفيذه صباح أمس، وسُمح لأقارب المحكوم عليهم الخمسة بزيارتهم نهار يوم الأربعاء.
وقد تم ترحيل المتهمين الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة إلى السجون لتنفيذ مدد العقوبة".
وهكذا أسدل الستار على أغرب حادثة اغتيال في المنطقة العربية وأشهرها، في هذا القرن. ومضى الرئيس محمد أنور السادات إلى أجله المحتوم، وكذلك مضى الذين قتلوه إلى أجلهم، وسوف يقضي الله بينهم بحكمه، فهو فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
نص قرار الاتهــــام
أعلن اللواء حامد حمودة، مدير القضاء العسكري، قرار الاتهام في قضية اغتيال الزعيم الراحل، أنور السادات. وقد حضر المؤتمر الصحفي، اللواء فؤاد خليل عبدالسلام، المدعي العام العسكري، واللواء مختار محمد حسين شعبان، نائب المدعي العسكري. وفيما يلي نص قرار الاتهام، الذي أعلنه مدير القضاء العسكري أمس (12 نوفمبر 1981، الموافق 15 محرم 1402):
بعد الاطلاع على محاضر التحقيق، ومحاضر الاستدلالات والمرفقات .. وبعد الاطلاع على قانون الأحكام العسكرية، وقانون العقوبات، والقوانين المكملة .. تتهم النيابة العسكرية الآتية أسماؤهم:
1. خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، ملازم أول بالقوات المسلحة، محبوس احتياطياً.
2. عبدالحميد عبدالسلام عبدالعال علي، صاحب مكتبة، محبوس احتياطياً.
3. عطا طايل حميدة رحيل، مهندس، محبوس احتياطياً.
4. حسين عباس محمد، رقيب متطوع بالقوات المسلحة بالدفاع الشعبي، محبوس احتياطياً.
5. محمد عبدالسلام فرج عطية، مهندس، محبوس احتياطياً.
6. كرم محمد زهدي سليمان، طالب بكلية الزراعة، جامعة أسيوط، محبوس احتياطياً.
7. فؤاد محمود أحمد أحمد حنفي، وشهرته فؤاد الدواليبي، تاجر أثاث، محبوس احتياطياً.
8. عاصم عبدالماجد محمد ماضي، طالب بكلية هندسة أسيوط، معتقل.
9. أسامة إبراهيم حافظ، طالب بكلية هندسة أسيوط، محبوس احتياطياً.
10. دكتور عمر أحمد علي عبدالرحمن، أستاذ بكلية أصول الدين، محبوس احتياطياً.
11. عبّود عبداللطيف حسن الزمر، مقدم بالقوات المسلحة، محبوس احتياطياً.
12. صالح أحمد صالح جاهين، مهندس، محبوس احتياطياً.
13. عبدالناصر عبدالعليم أحمد درة، طالب ثانوي، محبوس احتياطياً.
14. طارق عبدالموجود إبراهيم الزمر، طالب بكلية الزراعة، جامعة القاهرة، محبوس احتياطياً.
15. محمد طارق إبراهيم محمد، طبيب أسنان، محبوس احتياطياً.
16. أسامة السيد محمد قاسم، طالب بكلية الآداب، جامعة الزقازيق، محبوس احتياطياً.
17. صلاح السيد بيومي علي، نقّاش، محبوس احتياطياً.
18. علاء الدين عبدالمنعم محمد إبراهيم، طالب بكلية التربية، جامعة الزقازيق، محبوس احتياطياً.
19. أنور عبدالعظيم محمد محمد عكاشة، طالب بكلية التربية، جامعة الزقازيق، محبوس احتياطياً.
20. محمد طارق إسماعيل المصري، سائق، محبوس احتياطياً.
21. علي محمد فرّاج علي، نجّار بالزقازيق، محبوس احتياطياً.
22. عبدالله محمد محمد سالم، طالب بكلية أصول الدين، محبوس احتياطياً.
23. صفوت إبراهيم حامد الأشوح، صيدلي، محبوس احتياطياً.
24. السيد علي محمد إسماعيل السلاموني، معيد بكلية التربية، جامعة عين شمس، محبوس احتياطياً.
بأنهم في منطقة العرض العسكـري، بمدينة نصـر، وفي سائر أراضي جمهورية مصر العربية، يوم 6 أكتوبر 1981، وما قبل ذلك، ارتكبوا الجنايات التالية: أولاً: المتهمون من الأول إلى الرابع قتلوا، عمداً مع سبق الإصرار والترصد، رئيس جمهورية مصر العربية، الراحل محمد أنور السّادات. بأن بيّتوا النية، وعقدوا العزم على قتله غدراً، وغيلة، أثناء وجوده بالمنصة الرئيسية في العرض العسكري، يوم 6 أكتوبر 1981، لتكريم القوات المسلحة المصرية الباسلة، في ذكرى انتصارها في حرب رمضان المجيدة. إذ استغل المتهم الأول تعيينه مسؤولاً عن العناصر المشاركة في العرض من الوحدة العسكرية، التي يخدم بها، فتمكن، بطريق التحايل والتزوير، من استبدال المتهمين الثاني والثالث والرابع، بثلاثة من جنود الطاقم الأصلي للعربات قاطرة المدفع عيار 130مم. كما تمكن، بإساءة استغلال وظيفته أيضاً، من إدخال الذخائر، خاصة البنادق الآلية تسليح الطاقم، وكذا الرشاش القصير، تسليح السائق، إلى أرض العرض العسكري، ومن الاحتفاظ بإبر ضرب النار خاصة الأسلحة المذكورة، وذلك على الرغم من التعليمات، القاضية بسحب تلك الإبر، وعدم تواجد تلك الذخائر أثناء العرض العسكري.
كما تمكن من إدخال أربع قنابل يدوية، شديدة الخطورة، تحتوي كل منها على عدد كبير من الشظايا، إلى أرض العرض. احتفظ باثنتين منها، وسلّم الأخريين لكل من المتهمين الثاني والثالث.
وأثناء سير العربة قاطرة المدفع، التي يركبها، وكان جالساً بجوار السائق بالكابينة، بينما كان الجناة الثلاثة الآخرون، يجلسون وسط سائر الطاقم، أعلى العربة، تمكن من إكراه السائق على التوقف أمام المنصة الرئيسية مباشرة، وأسرع إلى النزول، ملقياً قنبلة يدوية. كما أسرع المتهمان، الثاني والثالث، بإلقاء قنبلتيْن أخريين في اتجاه المنصة، فانفجرتا قريباً منها. ثم قام المتهمان، الثالث والرابع، بإطلاق دفعة نيران من بندقيتيهما الآليتين، فأحدث ذلك مفاجأة شديدة للجالسين بالمنصة، وللقائمين على حراسة الرئيس، مما أدى إلى اضطرارهم لخفض رؤوسهم، وفي ثوانٍ معدودة، كان المتهم الأول قد اختطف الرشاش القصير، الخاص بالسائق، من "الكابينة". وقفز الجناة الثلاثة الآخرون فبلغوا جميعاً المنصة الرئيسية، حيث كانت لا تبعد عن موقع وقوف العربة بأكثر من خمسة وعشرين متراً فقط. وأمكنهم تصويب أسلحتهم من الاتصال القريب، سواء بالمواجهة أو من الجانبيْن، صعوداً على السلّميْن، الأيمن والأيسر للمنصة، وأفرغوا ذخائرهم كلها، مع التركيز على الموجودين بالصفوف الأولى، وخاصة الرئيس الراحل، مما أدى إلى إصابته بالإصابة الموضحة بالتقرير الطبي الشرعي، والتي أدت إلى وفاته.
وقد اقترنت الجناية المذكورة في نفس المكان والزمان بجنايات قتل عمد، وشروع في قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد لآخرين، كانوا بالمنصة الرئيسية وحولها، حيث كان الجناة قد بيّتوا النية وعقدوا العزم على قتل كل مَن يستطيعون قتله ممّن يعين الرئيس ويواليه، فأصيب كل من اللواء أ.ح حسن علاّم، وخلفان ناصر محمد (عُماني الجنسية)، ومهندس سمير حلمي إبراهيم، والأنبا صموئيل، ومحمد يوسف رشوان (مصور)، وسعيد عبدالرؤوف بكر، وشانج لوي (صيني الجنسية) .. بالإصابات الموضحة بالتقارير الطبية الشرعية، التي أدت إلى وفاتهم.
كما أصيب كل من السادة: المهندس سيد أحمد مرعي، وفوزي عبدالحافظ، ومحمود حسين عبدالناصر، ولواء أ.ح محمد نبيه السيد، ولواء متقاعد عبدالمنعم محمد واصل، وماهر محمد علي، ودومينكو فاسيه (سفير كوبا)، ورويل كولور (سفير بلجيكا)، وكريستوفر برايان (أمريكي الجنسية)، وهاجن بردك (أمريكي الجنسية)، وبرك ماكلوسكي (أمريكي الجنسية)، وعبدالله خميس فاضل (عُماني الجنسية)، ولوجوفان (صيني الجنسية)، وينج بينج (صيني الجنسية)، وشين فان (صيني الجنسية)، وجوني دودز (أسترالي الجنسية)، وعميد وجدي محمد سعد، وعميد معاوية عثمان محمد عثمان، وعميد شرطة مدنية أحمد محمد سرحان، وعقيد نزيه محمد علي، ورائد عبدالسلام متولي السبع، ورائد عباس مصطفى خليل بركات، ونقيب محمد إبراهيم محمد سليم، وجعفر علي محمود صالح، وبرعي محمد عوضين، وملازم أول محمد عبداللطيف عبدالعزيز زهران، ورقيب أول محمد علي علي عيد، وعريف محمد أحمد بدوي شاهين .. بالإصابات الموضحة بالتقارير الطبية وخاب أثر الجريمة لأسباب لا يد للجناة فيها إذ أُسعفوا بالعلاج وقدر لهم المولى ـ سبحانه ـ البقاء على قيد الحياة.
ثانياً: المتهم الخامس: محمد عبدالسلام فرج عطية اشترك، بطريق الاتفاق والتحريض والمساعدة، مع المتهمين، من الأول إلى الرابع، في الجنايات السالف بيانها في أولاً بعاليه، بأن حرّضهم على استباحة الدماء الزكية، بتأويلات خاطئة للأحكام الشرعية الإسلامية، أثبتها في كتيّب وضعه، أسماه "الفريضة الغائبة"، سقاهم سمَّه، وأشرب قلوبهم زيفه، فأطاعوه. وتلاقت إراداتهم الآثمة على تصميم قاطع على اغتيال الرئيس الراحل، ومَن يحيط به من رجالات الدولة، في المنصة الرئيسية، أثناء العرض العسكري. كما أعانهم على جنايتهم الغادرة بتدبير القنابل اليدوية والذخائر، فوقعت تلك الجنايات، بناء على تحريضه واتفاقه ومساعدته، على النحو الموضح تفصيلاً بمدونات التحقيق.
ثالثاً: المتهمون من السادس إلى التاسع اشتركوا مع المتهمين، من الأول إلى الرابع، في ارتكاب الجنايات المبيّنة في أولاً بعاليه، بطريق الاتفاق، حال كونهم من قادة المجموعات، التي تدين بالفكر المنحرف، الذي يدعو إليه المتهم الخامس، والذي ينادي بقتل وليّ أمر البلاد ومَن يواليه. فاتحدت إراداتهم، وتلاقت عزائمهم على وضع مناهجهم الدموية موضع التنفيذ، باغتيال الرئيس الراحل ومَن حوله، أثناء العرض العسكري. فحضروا من بلادهم في صعيد مصر، وتقابلوا مع المتهمين الأول والخامس، حيث عرض عليهم الأول خطته الإجرامية، فوافقوا عليها، ثم عادوا، مرة ثانية، قبيل يوم العرض العسكري، فتأكدوا من مضيّ العزم على تنفيذ ذلك العدوان الغادر. وقد وقعت الجنايات السالف بيانها في أولاً، بناء على ذلك الاتفاق.
رابعاً: المتهم العاشر اتفق، بطريق التحريض، مع المتهمين من الأول إلى التاسع، على ارتكاب الجنايات السالف بيانها في أولاً، بأن قبل الزعامة على جماعتهم الضالة، مع علمه بمنهاجهم الأثيم، الذي يستبيح الدماء الزكية والأموال المصونة. كما أفتى لهم الفتاوى، التي شجعتهم على تنفيذ ما عقدوا العزم عليه، فقارفوا جنايتهم الشنعاء بناء على ذلك، حسب ما كشف عنه التحقيق تفصيلاً.
خامساً: المتهمون من الحادي عشر إلى الرابع والعشرين اشتركوا، بطريق الاتفاق والمساعدة، مع المتهمين من الأول إلى الخامس، في ارتكاب الجنايات الموضحة في أولاً بعاليه. وذلك بعد اعتناقهم الفكر المنحرف، الذي يدعو إليه المتهم الخامس، والذي يحض على قتل رئيس البلاد ومَن يواليه. وحينما عرضت عليهم خطة مهاجمة المنصة الرئيسية، أثناء العرض العسكري، واغتيال الرئيس ومن مَعه، وافقوا جميعاً، وبادروا بتسخير أنشطتهم وأوقاتهم وإمكانياتهم، واضعين أنفسهم تحت إمرة المتهم الخامس، لتنفيذ ذلك المخطط الإجرامي، الذي كان يتولى قيادته. فأحضروا القنابل والذخائر، التي استخدمها الفاعلون الجناة، وقاموا بنقل التعليمات وتحقيق الاتصالات، وأعانوا ذلك المتهم الخامس على التنقل بسياراتهم والاختفاء في بيوتهم، حيث كان متخفياً عاجزاً عن الحركة الذاتية، لكسرٍ بساقه. وقد وقعت الجريمة بناء على ذلك الاتفاق وتلك المساعدة، على التحديد الذي كشف عنه التحقيق تفصيلاً.
سادساً: المتهمون جميعاً، ما عدا المتهم العاشر حازوا وأحرزوا الأسلحة والذخائر، بغير ترخيص قانوني. كما حازوا وأحرزوا واستخدموا المفرقعات، بغرض ارتكاب اغتيال سياسي، على التحديد الموضح بالتحقيقات.
وبناء عليـــــه تطلب النيابة العسكرية عقابهم بمقتضى المواد 39، 40، 41، 43، 45، 46، 102أ، 102ب، 230، 231، 232، 234/2، 235 من قانون العقوبات، والمواد 1، 6، 26/2، 4، 30 من القانون 364 لسنة 1954 وتعديلاته، والجدول رقم 3 الملحق به.
التوقيع: لواء مختار محمد حسين شعبان نائب المدعي العام العسكــري 10/11/1981
بأنهم في منطقة العرض العسكـري، بمدينة نصـر، وفي سائر أراضي جمهورية مصر العربية، يوم 6 أكتوبر 1981، وما قبل ذلك، ارتكبوا الجنايات التالية: أولاً: المتهمون من الأول إلى الرابع قتلوا، عمداً مع سبق الإصرار والترصد، رئيس جمهورية مصر العربية، الراحل محمد أنور السّادات. بأن بيّتوا النية، وعقدوا العزم على قتله غدراً، وغيلة، أثناء وجوده بالمنصة الرئيسية في العرض العسكري، يوم 6 أكتوبر 1981، لتكريم القوات المسلحة المصرية الباسلة، في ذكرى انتصارها في حرب رمضان المجيدة. إذ استغل المتهم الأول تعيينه مسؤولاً عن العناصر المشاركة في العرض من الوحدة العسكرية، التي يخدم بها، فتمكن، بطريق التحايل والتزوير، من استبدال المتهمين الثاني والثالث والرابع، بثلاثة من جنود الطاقم الأصلي للعربات قاطرة المدفع عيار 130مم. كما تمكن، بإساءة استغلال وظيفته أيضاً، من إدخال الذخائر، خاصة البنادق الآلية تسليح الطاقم، وكذا الرشاش القصير، تسليح السائق، إلى أرض العرض العسكري، ومن الاحتفاظ بإبر ضرب النار خاصة الأسلحة المذكورة، وذلك على الرغم من التعليمات، القاضية بسحب تلك الإبر، وعدم تواجد تلك الذخائر أثناء العرض العسكري.
كما تمكن من إدخال أربع قنابل يدوية، شديدة الخطورة، تحتوي كل منها على عدد كبير من الشظايا، إلى أرض العرض. احتفظ باثنتين منها، وسلّم الأخريين لكل من المتهمين الثاني والثالث.
وأثناء سير العربة قاطرة المدفع، التي يركبها، وكان جالساً بجوار السائق بالكابينة، بينما كان الجناة الثلاثة الآخرون، يجلسون وسط سائر الطاقم، أعلى العربة، تمكن من إكراه السائق على التوقف أمام المنصة الرئيسية مباشرة، وأسرع إلى النزول، ملقياً قنبلة يدوية. كما أسرع المتهمان، الثاني والثالث، بإلقاء قنبلتيْن أخريين في اتجاه المنصة، فانفجرتا قريباً منها. ثم قام المتهمان، الثالث والرابع، بإطلاق دفعة نيران من بندقيتيهما الآليتين، فأحدث ذلك مفاجأة شديدة للجالسين بالمنصة، وللقائمين على حراسة الرئيس، مما أدى إلى اضطرارهم لخفض رؤوسهم، وفي ثوانٍ معدودة، كان المتهم الأول قد اختطف الرشاش القصير، الخاص بالسائق، من "الكابينة". وقفز الجناة الثلاثة الآخرون فبلغوا جميعاً المنصة الرئيسية، حيث كانت لا تبعد عن موقع وقوف العربة بأكثر من خمسة وعشرين متراً فقط. وأمكنهم تصويب أسلحتهم من الاتصال القريب، سواء بالمواجهة أو من الجانبيْن، صعوداً على السلّميْن، الأيمن والأيسر للمنصة، وأفرغوا ذخائرهم كلها، مع التركيز على الموجودين بالصفوف الأولى، وخاصة الرئيس الراحل، مما أدى إلى إصابته بالإصابة الموضحة بالتقرير الطبي الشرعي، والتي أدت إلى وفاته.
وقد اقترنت الجناية المذكورة في نفس المكان والزمان بجنايات قتل عمد، وشروع في قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد لآخرين، كانوا بالمنصة الرئيسية وحولها، حيث كان الجناة قد بيّتوا النية وعقدوا العزم على قتل كل مَن يستطيعون قتله ممّن يعين الرئيس ويواليه، فأصيب كل من اللواء أ.ح حسن علاّم، وخلفان ناصر محمد (عُماني الجنسية)، ومهندس سمير حلمي إبراهيم، والأنبا صموئيل، ومحمد يوسف رشوان (مصور)، وسعيد عبدالرؤوف بكر، وشانج لوي (صيني الجنسية) .. بالإصابات الموضحة بالتقارير الطبية الشرعية، التي أدت إلى وفاتهم.
كما أصيب كل من السادة: المهندس سيد أحمد مرعي، وفوزي عبدالحافظ، ومحمود حسين عبدالناصر، ولواء أ.ح محمد نبيه السيد، ولواء متقاعد عبدالمنعم محمد واصل، وماهر محمد علي، ودومينكو فاسيه (سفير كوبا)، ورويل كولور (سفير بلجيكا)، وكريستوفر برايان (أمريكي الجنسية)، وهاجن بردك (أمريكي الجنسية)، وبرك ماكلوسكي (أمريكي الجنسية)، وعبدالله خميس فاضل (عُماني الجنسية)، ولوجوفان (صيني الجنسية)، وينج بينج (صيني الجنسية)، وشين فان (صيني الجنسية)، وجوني دودز (أسترالي الجنسية)، وعميد وجدي محمد سعد، وعميد معاوية عثمان محمد عثمان، وعميد شرطة مدنية أحمد محمد سرحان، وعقيد نزيه محمد علي، ورائد عبدالسلام متولي السبع، ورائد عباس مصطفى خليل بركات، ونقيب محمد إبراهيم محمد سليم، وجعفر علي محمود صالح، وبرعي محمد عوضين، وملازم أول محمد عبداللطيف عبدالعزيز زهران، ورقيب أول محمد علي علي عيد، وعريف محمد أحمد بدوي شاهين .. بالإصابات الموضحة بالتقارير الطبية وخاب أثر الجريمة لأسباب لا يد للجناة فيها إذ أُسعفوا بالعلاج وقدر لهم المولى ـ سبحانه ـ البقاء على قيد الحياة.
ثانياً: المتهم الخامس: محمد عبدالسلام فرج عطية اشترك، بطريق الاتفاق والتحريض والمساعدة، مع المتهمين، من الأول إلى الرابع، في الجنايات السالف بيانها في أولاً بعاليه، بأن حرّضهم على استباحة الدماء الزكية، بتأويلات خاطئة للأحكام الشرعية الإسلامية، أثبتها في كتيّب وضعه، أسماه "الفريضة الغائبة"، سقاهم سمَّه، وأشرب قلوبهم زيفه، فأطاعوه. وتلاقت إراداتهم الآثمة على تصميم قاطع على اغتيال الرئيس الراحل، ومَن يحيط به من رجالات الدولة، في المنصة الرئيسية، أثناء العرض العسكري. كما أعانهم على جنايتهم الغادرة بتدبير القنابل اليدوية والذخائر، فوقعت تلك الجنايات، بناء على تحريضه واتفاقه ومساعدته، على النحو الموضح تفصيلاً بمدونات التحقيق.
ثالثاً: المتهمون من السادس إلى التاسع اشتركوا مع المتهمين، من الأول إلى الرابع، في ارتكاب الجنايات المبيّنة في أولاً بعاليه، بطريق الاتفاق، حال كونهم من قادة المجموعات، التي تدين بالفكر المنحرف، الذي يدعو إليه المتهم الخامس، والذي ينادي بقتل وليّ أمر البلاد ومَن يواليه. فاتحدت إراداتهم، وتلاقت عزائمهم على وضع مناهجهم الدموية موضع التنفيذ، باغتيال الرئيس الراحل ومَن حوله، أثناء العرض العسكري. فحضروا من بلادهم في صعيد مصر، وتقابلوا مع المتهمين الأول والخامس، حيث عرض عليهم الأول خطته الإجرامية، فوافقوا عليها، ثم عادوا، مرة ثانية، قبيل يوم العرض العسكري، فتأكدوا من مضيّ العزم على تنفيذ ذلك العدوان الغادر. وقد وقعت الجنايات السالف بيانها في أولاً، بناء على ذلك الاتفاق.
رابعاً: المتهم العاشر اتفق، بطريق التحريض، مع المتهمين من الأول إلى التاسع، على ارتكاب الجنايات السالف بيانها في أولاً، بأن قبل الزعامة على جماعتهم الضالة، مع علمه بمنهاجهم الأثيم، الذي يستبيح الدماء الزكية والأموال المصونة. كما أفتى لهم الفتاوى، التي شجعتهم على تنفيذ ما عقدوا العزم عليه، فقارفوا جنايتهم الشنعاء بناء على ذلك، حسب ما كشف عنه التحقيق تفصيلاً.
خامساً: المتهمون من الحادي عشر إلى الرابع والعشرين اشتركوا، بطريق الاتفاق والمساعدة، مع المتهمين من الأول إلى الخامس، في ارتكاب الجنايات الموضحة في أولاً بعاليه. وذلك بعد اعتناقهم الفكر المنحرف، الذي يدعو إليه المتهم الخامس، والذي يحض على قتل رئيس البلاد ومَن يواليه. وحينما عرضت عليهم خطة مهاجمة المنصة الرئيسية، أثناء العرض العسكري، واغتيال الرئيس ومن مَعه، وافقوا جميعاً، وبادروا بتسخير أنشطتهم وأوقاتهم وإمكانياتهم، واضعين أنفسهم تحت إمرة المتهم الخامس، لتنفيذ ذلك المخطط الإجرامي، الذي كان يتولى قيادته. فأحضروا القنابل والذخائر، التي استخدمها الفاعلون الجناة، وقاموا بنقل التعليمات وتحقيق الاتصالات، وأعانوا ذلك المتهم الخامس على التنقل بسياراتهم والاختفاء في بيوتهم، حيث كان متخفياً عاجزاً عن الحركة الذاتية، لكسرٍ بساقه. وقد وقعت الجريمة بناء على ذلك الاتفاق وتلك المساعدة، على التحديد الذي كشف عنه التحقيق تفصيلاً.
سادساً: المتهمون جميعاً، ما عدا المتهم العاشر حازوا وأحرزوا الأسلحة والذخائر، بغير ترخيص قانوني. كما حازوا وأحرزوا واستخدموا المفرقعات، بغرض ارتكاب اغتيال سياسي، على التحديد الموضح بالتحقيقات.
وبناء عليـــــه تطلب النيابة العسكرية عقابهم بمقتضى المواد 39، 40، 41، 43، 45، 46، 102أ، 102ب، 230، 231، 232، 234/2، 235 من قانون العقوبات، والمواد 1، 6، 26/2، 4، 30 من القانون 364 لسنة 1954 وتعديلاته، والجدول رقم 3 الملحق به.
التوقيع: لواء مختار محمد حسين شعبان نائب المدعي العام العسكــري 10/11/1981
التوقيع: لواء فؤاد خليل عبدالسلام المدعي العام العسكــري 10/11/1981
الحكم في قضية اغتيال الرئيس محمد أنور السّادات
(6 مارس 1982)، أعلنت المحكمة العسكرية العليا حكمها في قضية اغتيال الرئيس الراحل، محمد أنور السّادات، بعد خمسة أشهر كاملة. فقد اغتيل الرئيس السادات في السادس من أكتوبر الماضي، وصدر الحكم في السادس من مارس 1982.
أعلنت المحكمة العسكرية حكمها، بعد جلسات طويلة، بدأت منذ 21 نوفمبر الماضي، بجلستين علنيتين. ثم قررت المحكمة عقد جلساتها سرية، حفاظاً على أسرار القوات المسلحة، حيث استمعت، في ست جلسات، إلى ثلاثة عشر شاهد إثبات، ثم إلى ثلاثة من شهود النفي. وأفردت المحكمة للدفاع عن المتهمين جلسات طويلة، قررت في نهايتها، يوم الأربعاء الماضي، قفل باب المرافعة، والنطق بالحكم في جلسة علنية، في الحادية عشرة من صباح أمس.
ومنذ الصباح الباكر، كان هناك نفس إجراءات الأمن المشددة، التي اتخذت منذ بداية المحاكمة، نظراً إلى أهميتها. وحملت سيارات الأتوبيس، التابعة للقوات المسلحة، أكثر من 150 من رجال الإعلام، بأجهزتهم، كانوا قد تجمعوا، منذ الثامنة صباحاً، بمبنى إدارة الشؤون المعنوية. وسارت بهم، في التاسعة والنصف صباحاً، إلى مبنى المحكمة، في طريق يحيط به رجال المظلات المدججون في السلاح. وظل الصحفيون ينتظرون في إحدى غرف المحكمة حتى الحادية عشرة إلاّ الربع، حينما سُمح لهم بدخول القاعة.
وكان المتهمون قد سبق وصولهم إلى داخل قفص الاتهام، حيث حاولوا، أمام ممثلي الصحافة، إشاعة جو من الضوضاء. وتسلّق بعضهم حديد قفص الاتهام.
وبعد مضيّ 25 دقيقة، على هذا الجو المشحون، ووسط هذه الضوضاء، انقطع التيّار الكهربي فجأة، ولم تفلح الجهود في إعادته، وأُخليت القاعة من الصحفيين وأجهزة الإعلام، حيث انتظروا في قاعة مجاورة، انتظاراً لإعادة التيار. وطال الانتظار، والتيار الكهربي لا يزال مقطوعاً. وفشلت المحاولات في توصيله للقاعة، من طريق محوّل كهربي. بعدها، تقرر إعداد قاعة جديدة، في ردهة المحكمة، تم نقل المنصة إليها على عجَل.
وفي الواحدة تماماً، أُعلن بدء الجلسة. وأحاط الصحفيون بالمنصة، داخل القاعة الجديدة، واعتلوا المقاعد، واشرأبت الأعناق. وفي الواحدة وعشر دقائق، صاح الحاجب، بندائه التقليدي: "محكمة"، لتدخل هيئة المحكمة العسكرية العليا، يتقدمها رئيسها، اللواء سمير فاضل، رئيس المحكمة، واللواءان مصطفى ماهر فاضل وعبدالعزيز مصطفى الشاعر، وممثلو الادعاء اللواء فؤاد خليل عبدالسلام، المدعي العام العسكري، واللواء مختار محمد حسين شعبان، نائب المدعي العسكري، واللواء الدكتور يحيى الشيمي، مساعد المدعي العسكري، والعقيد البحري محمود عبدالقادر، رئيس النيابة العسكرية.
رئيس المحكمة: "بسم الله تفتح الجلسة. نادِ على المتهمين". سكرتير الجلسة: "المتهم الأول، خالد شوقي الإسلامبولي". قائد أمن قاعة المحكمة: "يا افندم، المتهمين في القفص بيصيحوا داخل القاعة، وعاملين ضوضاء ودوشة، ولو جم حيعملوا شوشرة على المحكمة". رئيس المحكمة: المحكمة توافق على وجودهم خارج القاعة. ثم بدأ رئيس المحكمة في قراءة الأحكام.
القضية رقم 7 لسنة 1981 أمن دولة عسكرية عليا .. باسم الشعب
بعد الاطلاع على مواد الاتهام، والمادة 75 من قانون الأحكام العسكرية، والمواد 17، 30، 32 من قانون العقوبات، والمادة 604 من قانون الإجراءات الجنائية، وبعد المداولة قانوناً، حكمت المحكمة حضورياً: أولاً : بمعاقبة كل من المتهمين: الأول، الملازم أول خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، والثاني، عبدالحميد عبدالسلام عبدالعال علي، والثالث، عطا طايل حميدة رحيل، والرابع، رقيب متطوع حسين عباس محمد، والخامس، محمد عبدالسلام فرج عطية، بالإعدام بإجماع الآراء، نظير التهمتين المنسوبتين إلى كل منهم. ثانياً : بمعاقبة كل من المتهمين: الحادي عشر، المقدم عبود عبداللطيف حسن الزمر، والرابع عشر، طارق عبدالموجود الزمر، والخامس عشر، محمد طارق إبراهيم محمد، والسادس عشر، أسامة السيد محمد قاسم، والسابع عشر، صلاح السيد بيومي علي، بالأشغال الشاقة المؤبدة ، نظير التهمتين المنسوبتين إلى كل منهم. ثالثاً : بمعاقبة كل من المتهمين: السادس، كرم محمد زهدي سليمان، والسابع، فؤاد محمود أحمد أحمد حنفي، وشهرته فؤاد الدواليبي، والثامن، عاصم عبدالماجد محمد ماضي، والتاسع، أسامة إبراهيم حافظ، بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة ، نظير التهمة المنسوبة إلى كل منهم في البند ثالثاً من قرار الاتهام. وبراءة كل منهم من التهمة المنسوبة إليه في البند سادساً من قرار الاتهام. رابعاً : بمعاقبة كل من المتهمين الثاني عشر، صالح أحمد صالح جاهين، والثاني والعشرين، عبدالله محمد محمد سالم، والثالث والعشرين، صفوت إبراهيم حامد الأشوح، بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة، نظير التهم المنسوبة إلى كل منهم بالبند خامساً من قرار الاتهام، وبراءة كل منهم من التهمة المنسوبة إليه بالبند سادساً من قرار الاتهام. خامساً : بمعاقبة المتهم العشرين، محمد طارق إسماعيل المصري، بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة ، نظير التهمتين المنسوبتين إليه. سادساً : بمعاقبة كل من المتهمين، الثامن عشر، علاء الدين عبدالمنعم محمد إبراهيم، والتاسع عشر، أنور عبدالعظيم محمد محمد عكاشة، والحادي والعشرين، علي محمد فرّاج علي، بالأشغال الشاقة لمدة 10 سنوات ، نظير التهمة المنسوبة إلى كل منهم، في البند سادساً من قرار الاتهام، وبراءة كل منهم من التهمة المنسوبة إليه في البند خامساً من قرار الاتهام. سابعاً : معاقبة المتهم الثالث عشر، عبدالناصر عبدالعليم أحمد درة، بالأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات ، نظير التهمة المنسوبة إليه في خامساً من قرار الاتهام، وبراءته من التهمة المنسوبة إليه في البند سادساً من قرار الاتهام. ثامناً : ببراءة كل من المتهمَيْن، العاشر، الدكتور عمر أحمد علي عبدالرحمن، والرابع والعشرين، السيد علي محمد إسماعيل السلاموني، مما هو منسوب إلى كل منهما. تاسعاً : مصادرة المضبوطات والأسلحة والذخائر المضبوطة، على ذمة القضية. وقدّرت المحكمة أتعاب محاماة للسادة المحامين المنتدبين بواقع 100 جنيه عن كل متهم، تمّت المرافعة عنه.
وصـدر هذا الحكم، وتم النطق به علناً، في جهة الجبل الأحمر، بالقاهرة، في جلسة السبت الموافق 6 مارس 1982.
---------- ثم رفع رئيس المحكمة الجلسة ----------
الحكم في قضية اغتيال الرئيس محمد أنور السّادات
(6 مارس 1982)، أعلنت المحكمة العسكرية العليا حكمها في قضية اغتيال الرئيس الراحل، محمد أنور السّادات، بعد خمسة أشهر كاملة. فقد اغتيل الرئيس السادات في السادس من أكتوبر الماضي، وصدر الحكم في السادس من مارس 1982.
أعلنت المحكمة العسكرية حكمها، بعد جلسات طويلة، بدأت منذ 21 نوفمبر الماضي، بجلستين علنيتين. ثم قررت المحكمة عقد جلساتها سرية، حفاظاً على أسرار القوات المسلحة، حيث استمعت، في ست جلسات، إلى ثلاثة عشر شاهد إثبات، ثم إلى ثلاثة من شهود النفي. وأفردت المحكمة للدفاع عن المتهمين جلسات طويلة، قررت في نهايتها، يوم الأربعاء الماضي، قفل باب المرافعة، والنطق بالحكم في جلسة علنية، في الحادية عشرة من صباح أمس.
ومنذ الصباح الباكر، كان هناك نفس إجراءات الأمن المشددة، التي اتخذت منذ بداية المحاكمة، نظراً إلى أهميتها. وحملت سيارات الأتوبيس، التابعة للقوات المسلحة، أكثر من 150 من رجال الإعلام، بأجهزتهم، كانوا قد تجمعوا، منذ الثامنة صباحاً، بمبنى إدارة الشؤون المعنوية. وسارت بهم، في التاسعة والنصف صباحاً، إلى مبنى المحكمة، في طريق يحيط به رجال المظلات المدججون في السلاح. وظل الصحفيون ينتظرون في إحدى غرف المحكمة حتى الحادية عشرة إلاّ الربع، حينما سُمح لهم بدخول القاعة.
وكان المتهمون قد سبق وصولهم إلى داخل قفص الاتهام، حيث حاولوا، أمام ممثلي الصحافة، إشاعة جو من الضوضاء. وتسلّق بعضهم حديد قفص الاتهام.
وبعد مضيّ 25 دقيقة، على هذا الجو المشحون، ووسط هذه الضوضاء، انقطع التيّار الكهربي فجأة، ولم تفلح الجهود في إعادته، وأُخليت القاعة من الصحفيين وأجهزة الإعلام، حيث انتظروا في قاعة مجاورة، انتظاراً لإعادة التيار. وطال الانتظار، والتيار الكهربي لا يزال مقطوعاً. وفشلت المحاولات في توصيله للقاعة، من طريق محوّل كهربي. بعدها، تقرر إعداد قاعة جديدة، في ردهة المحكمة، تم نقل المنصة إليها على عجَل.
وفي الواحدة تماماً، أُعلن بدء الجلسة. وأحاط الصحفيون بالمنصة، داخل القاعة الجديدة، واعتلوا المقاعد، واشرأبت الأعناق. وفي الواحدة وعشر دقائق، صاح الحاجب، بندائه التقليدي: "محكمة"، لتدخل هيئة المحكمة العسكرية العليا، يتقدمها رئيسها، اللواء سمير فاضل، رئيس المحكمة، واللواءان مصطفى ماهر فاضل وعبدالعزيز مصطفى الشاعر، وممثلو الادعاء اللواء فؤاد خليل عبدالسلام، المدعي العام العسكري، واللواء مختار محمد حسين شعبان، نائب المدعي العسكري، واللواء الدكتور يحيى الشيمي، مساعد المدعي العسكري، والعقيد البحري محمود عبدالقادر، رئيس النيابة العسكرية.
رئيس المحكمة: "بسم الله تفتح الجلسة. نادِ على المتهمين". سكرتير الجلسة: "المتهم الأول، خالد شوقي الإسلامبولي". قائد أمن قاعة المحكمة: "يا افندم، المتهمين في القفص بيصيحوا داخل القاعة، وعاملين ضوضاء ودوشة، ولو جم حيعملوا شوشرة على المحكمة". رئيس المحكمة: المحكمة توافق على وجودهم خارج القاعة. ثم بدأ رئيس المحكمة في قراءة الأحكام.
القضية رقم 7 لسنة 1981 أمن دولة عسكرية عليا .. باسم الشعب
بعد الاطلاع على مواد الاتهام، والمادة 75 من قانون الأحكام العسكرية، والمواد 17، 30، 32 من قانون العقوبات، والمادة 604 من قانون الإجراءات الجنائية، وبعد المداولة قانوناً، حكمت المحكمة حضورياً: أولاً : بمعاقبة كل من المتهمين: الأول، الملازم أول خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، والثاني، عبدالحميد عبدالسلام عبدالعال علي، والثالث، عطا طايل حميدة رحيل، والرابع، رقيب متطوع حسين عباس محمد، والخامس، محمد عبدالسلام فرج عطية، بالإعدام بإجماع الآراء، نظير التهمتين المنسوبتين إلى كل منهم. ثانياً : بمعاقبة كل من المتهمين: الحادي عشر، المقدم عبود عبداللطيف حسن الزمر، والرابع عشر، طارق عبدالموجود الزمر، والخامس عشر، محمد طارق إبراهيم محمد، والسادس عشر، أسامة السيد محمد قاسم، والسابع عشر، صلاح السيد بيومي علي، بالأشغال الشاقة المؤبدة ، نظير التهمتين المنسوبتين إلى كل منهم. ثالثاً : بمعاقبة كل من المتهمين: السادس، كرم محمد زهدي سليمان، والسابع، فؤاد محمود أحمد أحمد حنفي، وشهرته فؤاد الدواليبي، والثامن، عاصم عبدالماجد محمد ماضي، والتاسع، أسامة إبراهيم حافظ، بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة ، نظير التهمة المنسوبة إلى كل منهم في البند ثالثاً من قرار الاتهام. وبراءة كل منهم من التهمة المنسوبة إليه في البند سادساً من قرار الاتهام. رابعاً : بمعاقبة كل من المتهمين الثاني عشر، صالح أحمد صالح جاهين، والثاني والعشرين، عبدالله محمد محمد سالم، والثالث والعشرين، صفوت إبراهيم حامد الأشوح، بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة، نظير التهم المنسوبة إلى كل منهم بالبند خامساً من قرار الاتهام، وبراءة كل منهم من التهمة المنسوبة إليه بالبند سادساً من قرار الاتهام. خامساً : بمعاقبة المتهم العشرين، محمد طارق إسماعيل المصري، بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة ، نظير التهمتين المنسوبتين إليه. سادساً : بمعاقبة كل من المتهمين، الثامن عشر، علاء الدين عبدالمنعم محمد إبراهيم، والتاسع عشر، أنور عبدالعظيم محمد محمد عكاشة، والحادي والعشرين، علي محمد فرّاج علي، بالأشغال الشاقة لمدة 10 سنوات ، نظير التهمة المنسوبة إلى كل منهم، في البند سادساً من قرار الاتهام، وبراءة كل منهم من التهمة المنسوبة إليه في البند خامساً من قرار الاتهام. سابعاً : معاقبة المتهم الثالث عشر، عبدالناصر عبدالعليم أحمد درة، بالأشغال الشاقة لمدة خمس سنوات ، نظير التهمة المنسوبة إليه في خامساً من قرار الاتهام، وبراءته من التهمة المنسوبة إليه في البند سادساً من قرار الاتهام. ثامناً : ببراءة كل من المتهمَيْن، العاشر، الدكتور عمر أحمد علي عبدالرحمن، والرابع والعشرين، السيد علي محمد إسماعيل السلاموني، مما هو منسوب إلى كل منهما. تاسعاً : مصادرة المضبوطات والأسلحة والذخائر المضبوطة، على ذمة القضية. وقدّرت المحكمة أتعاب محاماة للسادة المحامين المنتدبين بواقع 100 جنيه عن كل متهم، تمّت المرافعة عنه.
وصـدر هذا الحكم، وتم النطق به علناً، في جهة الجبل الأحمر، بالقاهرة، في جلسة السبت الموافق 6 مارس 1982.
---------- ثم رفع رئيس المحكمة الجلسة ----------
فقرات من التقرير الطبي الشرعي عن اغتيال الرئيس محمد أنور السادات
بعد مقدمة الأطباء المعتادة، وذكر رتبهم وصفاتهم، جاء في التقرير ما يلي:
... ثم فحصنا الملابس، التي كان يرتديها الرئيس وقت الاعتداء عليه، وأجرينا الفحوص والتجارب والمقارنات اللازمة، وتقرر الآتي:
أولاً: ظروف الحادث جاء في مذكرة إدارة المدعي العام العسكري، أن وجيز الواقعة كما كشف عنها التحقيق أنه في حوالي الساعة 30. 12 من يوم الثلاثاء 6 أكتوبر 1981، وأثناء مرور العربات (الكراز) قاطرات المدفع 130مم وسط ،أمام المقصورة الرئيسية للعرض العسكري، توقفت إحدى هذه العربات لتنفيذ مخطط إجرامي بواسطة أربعة أفراد من راكبيها، يستهدف اغتيال الرئيس محمد أنور السادات، رحمه الله، وهم الملازم أول خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، والملازم أول سابقاً عبدالحميد عبدالسلام (سبق أن استقال من الخدمة العسكرية، وكان ضابطاً عاملاً بالسلاح الجوي)، والملازم أول احتياطي (مهندس) عطا طايل حميدة رحيل، من مركز تدريب المهندسين، والرقيب متطوع حسين عبّاس محمد، من قوة الدفاع الشعبي، وتم التنفيذ على النحو التالي: ـ بدأ كل من عبدالحميد عبدالسلام وعطا طايل بالقاء قنبلتين يدويتين دفاعيتين من فوق العربة، وفي نفس الوقت أسرع خالد الإسلامبولي بالنزول من الكابينة وألقى قنبلة، ثم أسرع بالعودة مرة أخرى إلى الكابينة ليأخذ الرشاش تسليح السائق متجهاً للمنصة الرئيسية، وقفز عبدالحميد للأرض متجهاً للمنصة الرئيسية كذلك حاملاً بندقية آلية في الوقت الذي كان فيه كل من عطا طايل وحسين عباس يطلقان من فوق العربة دفعة من نيران بندقيتهما الآليتين في اتجاه منتصف تلك المنصة. ـ ثم قفزا من السيارة إلى الأرض وأسرعا بدورهما للمنصة، وأفرغ هؤلاء الأربعة ذخائر أسلحتهم وهي الرشاش القصير والثلاثة بنادق الآلية، من الاتصال القريب، سواء بالمواجهة أو من الأجناب في تلك المنصة الرئيسية، مع التركيز على منتصف الصف الأول موضع الرئيس الراحل، مما أدى إلى اغتياله ـ رحمه الله ـ وكذلك مصرع ستة آخرين. ـ وألقى خالد الإسلامبولي قنبلة يدوية دفاعية رابعة، وقعت على الصف الأول من المنصة ولم تنفجر، بحمد الله ورحمته، إذ لو انفجرت لكانت الخسائر أفدح مما وقع بكثير.
ثانياً: المعاينات التي أجريت لمكان الحادث جاء في معاينة النيابة العسكرية، التي تمت يوم 8/10/1981، بمعرفة السيد (...) رئيس النيابة العسكرية، ما يفيد أنه:
1 - تبين عند إجراء المعاينة، أن المنصة الرئيسية، كانت قد أُخليت من المقاعد والأثاثات. إلاّ أنه كان لا يزال بها بعض المصاطب الخشبية المثبتة على حوامل حديدية.
2 - كما أن مخلفات إطلاق الأعيرة النارية على المنصة، من أظرف فارغة وأسلحة، كان قد تم إزالتها.
3 - شوهدت آثار طلقات نارية بالحائط الأمامي للمقصورة الرئيسية، حيث كان يجلس السيد رئيس الجمهورية وكبار الزوار. كما شوهد كسر بالإفريز الرخامي الجرانيتي للحائط الأمامي للمقصورة.
4 - وشوهدت آثار طلقات نارية بالخلفية الرخامية السوداء، بصورة (صقر قريش) بخلفية المقصورة.
5 - وشوهدت آثار طلقات نارية بالباب الزجاجي، خلْف المقصورة الرئيسية. وكان زجاج أحد "ضلف" الباب مهشماً تماماً، كما كان زجاج "ضلفة" أخرى مهشماً بالمثل، وما زالت القطع الزجاجية متناثرة.
6 - وشوهدت آثار طلقات في مواضع مختلفة من سقف المنصة.
7 - وجدت المسافة بين الحد الأمامي للمقصورة وسيارة الجناة حوالي 30 خطوة.
وقد تمت المعاينة الثانية للنيابة العسكرية يوم 25/10/1981. وسيلي إثبات ما جاء بها في التقرير التالي عن المعاينات وفحص الأسلحة والذخائر ومخلّفات الإطلاق وغيرها.
وجاء في التقرير:
لقد رأينا إجراء معاينة لاستكمال بُعد الأبعاد والمظاهر، التي تتعلق بالناحية الطبية الشرعية، فانتقلنا، ومعنا الدكتور رمزي أحمد محمد، مساعد كبير الأطباء الشرعيين، يوم 9/11، ثم يوم 15/11/1981، ومعنا المصور لأخذ الصور اللازمة، وتبين من المعاينة ما يلي: ثبت لنا من هذه المعاينة، أنه يفصل الطريق المُعدّ لسيارة السيد الرئيس عن المنصة رصيف، ارتفاعه نحو 150 سم، وعرضه، في مقابل منتصف المنصة، موضع جلوس السيد الرئيس الراحل، حوالي 43. 8 أمتار.
وأن سور المنصة يرتفع عن مستوى الرصيف حوالي 150 سم. وهذا السور، يرتفع من الجهة الأخرى، عن أرضية المقصورة، حوالي 65 سم، أي أن أرضية المقصورة، ترتفع عن الرصيف بحوالي 85 سم فقط. وعلمنا من النيابة أن القاطرة (الكراز)، التي كان يجلس على سطحها المتهمون الثلاثة، ترتفع أرضيتها عن الشارع بحوالي 167 سم.
ثالثاً: موجز لوصف الأسلحة المضبوطة ومخلفات الإطلاق
أ- الأسلحة المضبوطة:
الأسلحة المضبوطة في الحادث وجدت عبارة عن:
1- ثلاث بنادق آلية مششخنة (محلزنة) ذات سونكي وقايش وخزان، وجدت متماثلة، وكلها من عيار 7.62 مم، وصالحة للاستعمال. وقد نجحت تجربة إطلاق كل منها للحصول على أظرف للمقارنة بالأظرف المطلقة، التي عُثر عليها في مكان الحادث، وللحصول على المقذوف المطلق لمعرفة مكوّناته.
2- رشاش قصير (بور سعيد) عيار 9مم، وجد صالحاً للاستعمال، ونجحت تجربة إطلاقه للحصول على نتائج الإطلاق من أظرف ومقذوفات.
ب- الطلقات الحية للبنادق عيار 7.62 مم:
وطلبنا طلقات كاملة حية، مما يُستعمل في القوات المسلحة في البنادق الآلية عيار 7.62مم. تبين من فحصها، أنها من طرازَيْن، روسي و ج.ع.م.
1 - وجدت الطلقة الحية الروسية مكونة من ظرف نحاسي، تحتوي الكبسولة التي يحيط بها دائرة حمراء، والطلقة معبأة ببارود عديم الدخان، والمقذوف (الرصاصة) مدببة القمة، ومسلوبة القاعدة، على هيئة ذورقية، وهي تتكون من غلاف نحاسي، عليه قرب القاعدة دائرة حمراء، وإلى داخله طبقة معدنية رصاصية لينة، تحيط بلب معدني أسطواني الشكل، وقمته نصف قِمعية (مبططة).
2 - أمّا الطلقة الحية الكاملة صناعة ج.ع.م.، فتتكون من ظرف نحاسي، والمقذوف معبأ بكمية واضحة من البارود عديم الدخان، قِمعي الشكل، مدبب القمة، وهو مغلف بغلاف نحاسي من الخارج والداخل، يبدو بينهما، في القطاع الطولي، طبقة معدنية رصاصية رفيعة، ويحتوي الغلاف على لبّ معدني أسطواني، قطره حوالي 7مم، وقمته قِمعية مدببة.
رابعاً: الأوراق الطبية صدر التقرير الطبي عن مستشفى القوات المسلحة بالمعادي.. وهو موقّع من السادة (...) .
- جاء بالتقرير أن سيادة رئيس الجمهورية، وصل إلى مستشفى المعادي الساعة الواحدة وعشرين دقيقة بعد ظهر يوم الثلاثاء 6/10/1981. وأظهر الكشف الطبي ما يلي:
1 - كان سيادته في حالة غيبوبة كاملة. النبض وضغط الدم غير محسوسين، وضربات القلب غير مسموعة، حَدَقَتَا العينين متسعتان، ولا يوجد بهما استجابة للضوء. فحص قاع العين أظهر وجود أوعية دموية خالية من الدماء، ولا توجد حركة بالأطراف، تلقائية أو بالإثارة، مع عدم وجود الانعكاسات ، الغائرة والسطحية، بجميع الأطراف.
2 - وجود فتحتَي دخول في الجهة اليسرى من مقدم الصدر، أسفل حلمة الثدي اليسرى.
3 - وجود جسم غريب محسوس، تحت الجلد في الرقبة، فوق الترقوة اليمنى.
4 - وجود فتحة دخول أعلى الركبة اليسرى من الأمام، وخروج بمؤخر الفخذ اليسرى، مع وجود كسر مضاعف في الثلث الأسفل لعظمة الفخذ اليسرى.
5 - جرح متهتك بالذراع الأيمن من الأمام، أسفل المرفق.
6 - إمفزيما جراحية بالصدر والرقبة وحول العين اليسرى.
7 - دم متدفق من الفم.
وقد تم نقل (سيادته) فوراً إلى قسم الرعاية المركزة لجراحة القلب والصدر بالمستشفى، وأجريت له الإسعافات العاجلة التالية:
1 - وضع أنبوبة قصبة هوائية بعد تفريغ البلعوم مما فيه من دماء متجلطة. وبدأ عمل تنفس صناعي بواسطة جهاز التنفس الصناعي.
2 - تدليك خارجي للقلب.
3 - إعطاء منشطات القلب، اللازمة لمثل هذه الحالات، بالحقن داخل القلب مباشرة.
4 - نقل دم من نفس فصيلة (سيادته) بكميات كافية، خلال عدد من الفتحات في الأوردة.
5 - وضعت أنبوبة داخل القفص الصدري بالجهة اليسرى، لتفريغ الهواء والدم المتجمع.
6 - تم توصيل (سيادته) على أجهزة مراقبة القلب على تسجيل مستمر للضغط والنبض ورسم القلب، وكذلك توصل بجهاز رسم المخ الكهربائي، لتسجيل نشاط المخ ودرجة حيويته.
7 - لم يستجب القلب للتدليك الخارجي، وتم عمل صدمات كهربائية، كمحاولة لتنشيطه.
8 - لمّا لم يستجب القلب لكل هذه الإجراءات، تم فتح التجويف الصدري الأيسر، لعمل تدليك داخلي للقلب، ووجد القلب متوقفاً وفي حالة ارتخاء كامل. وكان جزء الرئة اليسرى متهتكاً، بما فيه الأوعية الدموية الكبرى، مع تهتّك كامل بالرئة ، وتجمّع دموي متجلط داخل التجويف الصدري.
9 - استمر عمل التدليك الداخلي للقلب، مع إعطاء العقاقير المنشطة، واستمرار التنفس الصناعي.
10 - في خلال ذلك، تم عمل الأشعة التالية:
أ. أشعة على الصدر، أظهرت وجود شظايا متعددة داخل الجهة اليسرى من التجويف الصدري. وكذلك رصاصة أعلى الترقوة اليمنى، مع وجود إمفزيما جراحية وكسور بالضلوع، وتهتّك بالرئة اليسرى.
ب. أشعة على الفخذ اليسرى، أظهرت وجود كسـر متفتت بالثلث الأسفل من عظمة الفخذ.
ج. أشعة على الجمجمة، وكانت سليمة.
د. أشعة على الساعد الأيمن، وكانت عظامه سليمة.
11 - في تمام الساعة الثانية وأربعين دقيقة بعد ظهر يوم الثلاثاء 6/10/1981، أظهر رسم القلب عدم تسجيل أي نشاط للقلب. وأظهر رسم المخ توقفاً كاملاً له عن العمل، تأكيداً لحدوث الوفاة.
واعتبر سبب الوفاة صدمة عصبية شديدة، مع نزيف داخلي في تجويف الصدر، وتهتّك بالرئة والأوعية الدموية الكبرى في جدار الرئة اليسرى. (انتهى التقرير الرسمي الصادر عن مستشفى القوات المسلحة بالمعادي).
رسم القلب الكهربائي وجدناه معنوناً: "رسم القلب الخاص بالسيد رئيس الجمهورية، فور دخوله غرفة الإنعاش، قسم جراحة القلب والصدر، الساعة 1.30 يوم الثلاثاء 6 أكتوبر"، توقيع الأستاذ الدكتور (...). وبالاطّلاع على الرسم، تبيّن لنا أنه لم تظهر به ضربات تلقائية طوال فترة الفحص، ولم يثبت على الرسم أي تعليق.
رسم المخ الكهربائي
1- أورى (أظهر) الرسم في الساعة الثانية، بعد ظهر يوم 6/10/1981، أثناء عملية الإنعاش بالتدليك المباشر للقلب، حصول موجات كهربائية مخية.
2- وأورى الرسم، الساعة الثانية وخمساً وأربعين دقيقة، بعد ظهر يوم 6/10/1981، توقّف موجات المخ الكهربائية.
والرسم موقّع عليه من السادة الأطباء (...).
فحوص الأشــعة أجري للسيد الرئيس، أثناء الإنعاش، فحص بالأشعة على كل من منطقة الصدر والفخذ اليسرى والذراع الأيمن والرأس.
وجاء بالتقرير :
1- إن فحص الصدر بالأشعة، أظهر وجود إمفزيما جراحية متقدمة، بكل من جذر الصدر وجذر العنق.
2- كما أورى وجود ظلال لشظايا معدنية في منطقة النصف الأيسر من الصدر، مصحوبة بكسور بالأضلاع اليسرى وتهتك بالرئة.
3- كما أورى الفحص وجود ظل لرصاصة بمنطقة الكتف اليمنى، وأورى فحص منطقة الساعد الأيمن سلامة العظام من الكسور.
4- كما أورى فحص الجمجمة سلامة عظامها من الكسور.
وبمناظرتنا لأفلام الأشعة، تأيّد لنا ما جاء بالتقارير عنها. وبعرضها على السيد الأستاذ (...)، جاء بتقرير سيادته ما يلي:
1- بفحص صورة أشعة الصدر، تبيّن وجود جسمَيْن معدنيَّيْن رباعيَّي الشكل، حولهما فتات معدنية متعددة، متجهة إلى الأعلى والداخل، عبر سرّة الرئة اليسرى، ومنتشرة بالنصف الأيسر من أيسر الصدر. وكذا ظلٌّ معدني مستطيل (لب رصاص) بأعلى الترقوة اليمنى. وتُظهر الأشعة، كذلك، إمفزيما جراحية متقدمة بجدران الصدر على الناحيتين، ولا يوجد انزياح ظاهر بالقصبة الهوائية أو الشُّعب، ولكن يوجد ظلٌّ غير محدد، متاخم للحافة اليسرى للقلب، يوحي بتجمع داخل الرئة. وكذا إعتام بالزاوية الحجابية الضلعية اليسرى، مع عدم انتظام بالحجاب الحاجز تحتها، مما يوحي بوجود تهتك بمنطقة الحجاب الأيسر وأنزفة تحته.
2- أظهرت صورة الأشعة، التي عملت لأسفل الفخذ اليسرى، ظلال كسر مائل متفتت بالثلث الأسفل للفخذ، مع بعض الانزياح. كما ترى عتامتان خطيتان متراكبتان بمنطقة الكسر، يحتمل أنهما من فتات العظم، ولم تظهر بالصورة ظلال أجسام معدنية بمنطقة الكسر.
الكشف الظاهري واستخراج لب الرصاص عند وصولنا إلى مشرحة المستشفى، تبيّن لنا أن جثمان السيد الرئيس محمد أنور السادات، محفوظ بثلاجة المشرحة، بقصد تأخير ومنع ظهور التغيرات (الرمية) السيئة، التي تحدث، عادة، بعد الوفاة. وكان الجثمان ملفوفاً في ملاءتين بيضاوين وإلى كل من جانبي الرأس (مصحف شريف).
والجثمان عارٍ من الملابس، ومحتفظ بدرجة حرارة الثلاجة. وبسبب الاحتفاظ به فيها، فقد كان لا يزال في دور التيبس (الرمي) الكامل، ولم تبدأ به أية مظاهر للتعفن الرمّي. والجثمان باهت (شاحب) بدرجة متقدمة. وكذا الرسوب الرمي باهت جداً، ويظهر خفيفاً جداً بالجهة الخلفية.
ووجدنا غياراً طبياً كبيراً، يغطي معظم مقدم يسار الصدر وجانبه الأيسر، مثبتاً في مكانه بأشرطة من المشمع اللصّاق. كما وجدنا رباطاً من الشاش الطبي على أسفل الساق اليمنى، أعلى مفصل الكاحل، وآخر على أسفل الساق اليسرى في مكان الاستكشاف الوريدي، لإعطاء نقل الدم أثناء عملية الإسعاف التي أجريت بالمستشفى.
وشاهدنا وأحسسنا بـ "إمفزيما" جراحية كبيرة بالأنسجة الرخوة بجدار الصدر، على الجانبين تمتد إلى العنق.
كما أحسسنا بأنسية الكتف اليمنى عند قاعدة العنق، بجسم صلب مستقر بالأنسجة، تحت الجلد، هو لب المقذوف، الواضح في فيلم الأشعة. وتبيّن لنا أنه سهل الانزلاق من موضعه في اتجاه نحو القدمين واليسار، لمجرد الضغط الخفيف.
وبرفع الغيار الطبي عن جدار الصدر، والرباط الشاش عن أسفل كل من الساقين، تبيّن لنا أنه أجري لسيادته، في عملية إسعافه، ما يلي:
1- تحت الغيار الجراحي الكبير، على يسار الصدر، وجدنا شقاً جراحياً حديثاً، مخيطاً بغرز جراحية، يمتد بالمسافة الضلعية السابعة، من خلف مستوى اتصال الضلع بالغضروف إلى الأمام الخط الإبطي الخلفي . وواضح أن هذا الشق الجراحي، أجري بمعرفة الجراح، للإسعاف بالتدليك المباشر للقلب. ووجدنا أسفله الإصابات الحيوية الحديثة بالمقذوفات النارية، التي سيلي، فيما بعد، تفصيل وصفها.
2- وتحت الرباط الشاش الطبي على أسفل كل من الساقين، وجدنا شقاً جراحياً حديثاً، صغيراً، بطول حوالي 2 سم، مخيطاً بغرزة جراحية، يمتد في اتجاه مستعرض (أفقي) أعلى النتوء الأنسي لأسفل عظمة الساق، وكل منهما عُمل لإستكشاف وريدي، لإجراء عمليات نقل الدم.
وشاهدنا بالجثمان، من الإصابات الحيوية الحديثة بالمقذوفات النارية وفُتاتها، ما يلي:
1- إلى أسفل من الشق الجراحي بجدار الصدر الأيسر، الذي أجرى للإسعاف، مجموعة من ثلاثة جروح حيوية حديثة، تتميز بفقْد بالنسيج، وحوافيها (حافاتها) متسحجبة في الجزء الأسفل الوحش منها. كما أن حوافها جميعاً منقلبة إلى الداخل، العلوي منها يقع أسفل الشق الجراحي بحوالي 2 سم، وإلى خارج هالة الثدي الأيسر مباشرة شبه بيضاوي (بيضي) الشكل، أبعاده حوالي 1.5 × 1 سم بجرح، غوره وجد نافذاً إلى تجويف الصدر الأيسر، ومحدثاً في مساره كسراً مفتتاً بالضلع السابع، في مقابل خط نفاذه. والجرح الثاني، يقع في مستوى الخط الإبطي الأمامي الأيسر، أسفل مستوى الشق الجراحي للإنعاش بحوالي 3سم، غير منتظم الشكل، أبعاده 3 × 1سم. والجرح الثالث إلـى أسفـل الجرح السابق بحوالي 2 سم، أبعاده 2.5×1سم.
2- وشاهدنا بالطرف العلوي الأيمن، أعلى الساعد، جرحاً نارياً حيوياً حديثاً، فتحة دخول مقذوف ناري، بقطر حوالي 1 سم، حوافيه مستحجبة، ومنقلبة إلى الداخل، يمتد منه مسار نفقي تحت الجلد في اتجاه إلى الوحشية وأعلى، مسافة 2 سم، وينتهي بجرح فتحة خروج نفس المقذوف، على مقدم وحشية الساعد بنفس قطر الجرح فتحة الدخول، ومسار المقذوف سطحي، وأحس تحته بسلامة عظمتَي الساعد، وقد تأيّدت سلامتهما من فحص الأشعة، الذي أجري بالمستشفى.
3- وشاهدنا بأسفل الفخذ اليسرى جرحاً نارياً حيوياً، فتحة دخول بقطر حوالي 1سم، يقع على أسفل وحشية مؤخر الفخذ اليسرى. وجرحاً نارياً حيوياً، فتحة خروج نفس المقذوف، على مقدم أسفل الفخذ، أعلى حافة الرضفة مباشرة، أبعاده حوالي 1.5×1سم. وأحس في مسار المقذوف بكسر جسيم مفتت، بأسفل عظم الفخذ.
ولم نشاهد بالجثمان إصابات أخرى من عيارات نارية أو غيرها.
وبعد الحصول على موافقة الجهات المختصة، أجرينا ما يلي:
1- قمنا بعمل شق مستعرض بمنطقة أنسية أعلى الكتف اليمنى ، عند اتصاله بالعنق، طوله حوالي 3 سم، لاستخراج جزء المقذوف، الواضح بالأشعة. وتبيّن أثناء عمل الشق، أن ضغط المشرط لقطع الجلد والأنسجة تحته، يؤدي إلى زحزحة المقذوف بسهولة من موضعه إلى أسفل. وبعد عمل الاحتياط اللازم لتثبيته، أمكن استخراجه بسهولة، وسيأتي، فيما يلي، تفصيل وصفه.
2- قمنا برفع الغرز عن الشق الجراحي، الذي عُمل للإنعاش بيسار الصدر. وتبيّن لنا أن تجويف الصدر مملوء بنزيف دموي غزير، به جلط كبير، وأن الشق لا يكاد يسمح بإدخال يدي اليمنى. وبالمعالجة، أمكن الحس بأن القلب سليم بداخل التأمور ، وأن عضلته منقبضة، وأن الفص السفلي للرئة متكدم بشدة، ومتهتك، ويسهل تحريكه.
وتحت هذه الظروف، تعذّر استخراج أي من فتات المقذوفات، التي وضحت بتجويف الصدر الأيسر في فحص الأشعة، الذي أجري بالمستشفي.
جزء المقذوف، المستخرج بمعرفتنا وجدناه عبارة عن لبّ رصاصة أسطواني، مسلوب في جزئه العلوي، على هيئة نصف قِمع. وهذا الجزء به أثر انفراغ بقمته، وارتفاعه في حالته الراهنة حوالي 20 مم ... وقطر الجزء الأسطواني منه 5. 5 مم.
وبعمل المقارنة اللازمة، تبيّن أن هذا اللب المستخرج من الجثمان، يطابق مطابقة تامة، من جميع الوجوه، اللب الموجود في رصاص الطلقات الكاملة الحية، من الطراز الروسي، والتي تستعمل في البنادق الآلية من عيار 7.62 مم.
بعد مقدمة الأطباء المعتادة، وذكر رتبهم وصفاتهم، جاء في التقرير ما يلي:
... ثم فحصنا الملابس، التي كان يرتديها الرئيس وقت الاعتداء عليه، وأجرينا الفحوص والتجارب والمقارنات اللازمة، وتقرر الآتي:
أولاً: ظروف الحادث جاء في مذكرة إدارة المدعي العام العسكري، أن وجيز الواقعة كما كشف عنها التحقيق أنه في حوالي الساعة 30. 12 من يوم الثلاثاء 6 أكتوبر 1981، وأثناء مرور العربات (الكراز) قاطرات المدفع 130مم وسط ،أمام المقصورة الرئيسية للعرض العسكري، توقفت إحدى هذه العربات لتنفيذ مخطط إجرامي بواسطة أربعة أفراد من راكبيها، يستهدف اغتيال الرئيس محمد أنور السادات، رحمه الله، وهم الملازم أول خالد أحمد شوقي الإسلامبولي، والملازم أول سابقاً عبدالحميد عبدالسلام (سبق أن استقال من الخدمة العسكرية، وكان ضابطاً عاملاً بالسلاح الجوي)، والملازم أول احتياطي (مهندس) عطا طايل حميدة رحيل، من مركز تدريب المهندسين، والرقيب متطوع حسين عبّاس محمد، من قوة الدفاع الشعبي، وتم التنفيذ على النحو التالي: ـ بدأ كل من عبدالحميد عبدالسلام وعطا طايل بالقاء قنبلتين يدويتين دفاعيتين من فوق العربة، وفي نفس الوقت أسرع خالد الإسلامبولي بالنزول من الكابينة وألقى قنبلة، ثم أسرع بالعودة مرة أخرى إلى الكابينة ليأخذ الرشاش تسليح السائق متجهاً للمنصة الرئيسية، وقفز عبدالحميد للأرض متجهاً للمنصة الرئيسية كذلك حاملاً بندقية آلية في الوقت الذي كان فيه كل من عطا طايل وحسين عباس يطلقان من فوق العربة دفعة من نيران بندقيتهما الآليتين في اتجاه منتصف تلك المنصة. ـ ثم قفزا من السيارة إلى الأرض وأسرعا بدورهما للمنصة، وأفرغ هؤلاء الأربعة ذخائر أسلحتهم وهي الرشاش القصير والثلاثة بنادق الآلية، من الاتصال القريب، سواء بالمواجهة أو من الأجناب في تلك المنصة الرئيسية، مع التركيز على منتصف الصف الأول موضع الرئيس الراحل، مما أدى إلى اغتياله ـ رحمه الله ـ وكذلك مصرع ستة آخرين. ـ وألقى خالد الإسلامبولي قنبلة يدوية دفاعية رابعة، وقعت على الصف الأول من المنصة ولم تنفجر، بحمد الله ورحمته، إذ لو انفجرت لكانت الخسائر أفدح مما وقع بكثير.
ثانياً: المعاينات التي أجريت لمكان الحادث جاء في معاينة النيابة العسكرية، التي تمت يوم 8/10/1981، بمعرفة السيد (...) رئيس النيابة العسكرية، ما يفيد أنه:
1 - تبين عند إجراء المعاينة، أن المنصة الرئيسية، كانت قد أُخليت من المقاعد والأثاثات. إلاّ أنه كان لا يزال بها بعض المصاطب الخشبية المثبتة على حوامل حديدية.
2 - كما أن مخلفات إطلاق الأعيرة النارية على المنصة، من أظرف فارغة وأسلحة، كان قد تم إزالتها.
3 - شوهدت آثار طلقات نارية بالحائط الأمامي للمقصورة الرئيسية، حيث كان يجلس السيد رئيس الجمهورية وكبار الزوار. كما شوهد كسر بالإفريز الرخامي الجرانيتي للحائط الأمامي للمقصورة.
4 - وشوهدت آثار طلقات نارية بالخلفية الرخامية السوداء، بصورة (صقر قريش) بخلفية المقصورة.
5 - وشوهدت آثار طلقات نارية بالباب الزجاجي، خلْف المقصورة الرئيسية. وكان زجاج أحد "ضلف" الباب مهشماً تماماً، كما كان زجاج "ضلفة" أخرى مهشماً بالمثل، وما زالت القطع الزجاجية متناثرة.
6 - وشوهدت آثار طلقات في مواضع مختلفة من سقف المنصة.
7 - وجدت المسافة بين الحد الأمامي للمقصورة وسيارة الجناة حوالي 30 خطوة.
وقد تمت المعاينة الثانية للنيابة العسكرية يوم 25/10/1981. وسيلي إثبات ما جاء بها في التقرير التالي عن المعاينات وفحص الأسلحة والذخائر ومخلّفات الإطلاق وغيرها.
وجاء في التقرير:
لقد رأينا إجراء معاينة لاستكمال بُعد الأبعاد والمظاهر، التي تتعلق بالناحية الطبية الشرعية، فانتقلنا، ومعنا الدكتور رمزي أحمد محمد، مساعد كبير الأطباء الشرعيين، يوم 9/11، ثم يوم 15/11/1981، ومعنا المصور لأخذ الصور اللازمة، وتبين من المعاينة ما يلي: ثبت لنا من هذه المعاينة، أنه يفصل الطريق المُعدّ لسيارة السيد الرئيس عن المنصة رصيف، ارتفاعه نحو 150 سم، وعرضه، في مقابل منتصف المنصة، موضع جلوس السيد الرئيس الراحل، حوالي 43. 8 أمتار.
وأن سور المنصة يرتفع عن مستوى الرصيف حوالي 150 سم. وهذا السور، يرتفع من الجهة الأخرى، عن أرضية المقصورة، حوالي 65 سم، أي أن أرضية المقصورة، ترتفع عن الرصيف بحوالي 85 سم فقط. وعلمنا من النيابة أن القاطرة (الكراز)، التي كان يجلس على سطحها المتهمون الثلاثة، ترتفع أرضيتها عن الشارع بحوالي 167 سم.
ثالثاً: موجز لوصف الأسلحة المضبوطة ومخلفات الإطلاق
أ- الأسلحة المضبوطة:
الأسلحة المضبوطة في الحادث وجدت عبارة عن:
1- ثلاث بنادق آلية مششخنة (محلزنة) ذات سونكي وقايش وخزان، وجدت متماثلة، وكلها من عيار 7.62 مم، وصالحة للاستعمال. وقد نجحت تجربة إطلاق كل منها للحصول على أظرف للمقارنة بالأظرف المطلقة، التي عُثر عليها في مكان الحادث، وللحصول على المقذوف المطلق لمعرفة مكوّناته.
2- رشاش قصير (بور سعيد) عيار 9مم، وجد صالحاً للاستعمال، ونجحت تجربة إطلاقه للحصول على نتائج الإطلاق من أظرف ومقذوفات.
ب- الطلقات الحية للبنادق عيار 7.62 مم:
وطلبنا طلقات كاملة حية، مما يُستعمل في القوات المسلحة في البنادق الآلية عيار 7.62مم. تبين من فحصها، أنها من طرازَيْن، روسي و ج.ع.م.
1 - وجدت الطلقة الحية الروسية مكونة من ظرف نحاسي، تحتوي الكبسولة التي يحيط بها دائرة حمراء، والطلقة معبأة ببارود عديم الدخان، والمقذوف (الرصاصة) مدببة القمة، ومسلوبة القاعدة، على هيئة ذورقية، وهي تتكون من غلاف نحاسي، عليه قرب القاعدة دائرة حمراء، وإلى داخله طبقة معدنية رصاصية لينة، تحيط بلب معدني أسطواني الشكل، وقمته نصف قِمعية (مبططة).
2 - أمّا الطلقة الحية الكاملة صناعة ج.ع.م.، فتتكون من ظرف نحاسي، والمقذوف معبأ بكمية واضحة من البارود عديم الدخان، قِمعي الشكل، مدبب القمة، وهو مغلف بغلاف نحاسي من الخارج والداخل، يبدو بينهما، في القطاع الطولي، طبقة معدنية رصاصية رفيعة، ويحتوي الغلاف على لبّ معدني أسطواني، قطره حوالي 7مم، وقمته قِمعية مدببة.
رابعاً: الأوراق الطبية صدر التقرير الطبي عن مستشفى القوات المسلحة بالمعادي.. وهو موقّع من السادة (...) .
- جاء بالتقرير أن سيادة رئيس الجمهورية، وصل إلى مستشفى المعادي الساعة الواحدة وعشرين دقيقة بعد ظهر يوم الثلاثاء 6/10/1981. وأظهر الكشف الطبي ما يلي:
1 - كان سيادته في حالة غيبوبة كاملة. النبض وضغط الدم غير محسوسين، وضربات القلب غير مسموعة، حَدَقَتَا العينين متسعتان، ولا يوجد بهما استجابة للضوء. فحص قاع العين أظهر وجود أوعية دموية خالية من الدماء، ولا توجد حركة بالأطراف، تلقائية أو بالإثارة، مع عدم وجود الانعكاسات ، الغائرة والسطحية، بجميع الأطراف.
2 - وجود فتحتَي دخول في الجهة اليسرى من مقدم الصدر، أسفل حلمة الثدي اليسرى.
3 - وجود جسم غريب محسوس، تحت الجلد في الرقبة، فوق الترقوة اليمنى.
4 - وجود فتحة دخول أعلى الركبة اليسرى من الأمام، وخروج بمؤخر الفخذ اليسرى، مع وجود كسر مضاعف في الثلث الأسفل لعظمة الفخذ اليسرى.
5 - جرح متهتك بالذراع الأيمن من الأمام، أسفل المرفق.
6 - إمفزيما جراحية بالصدر والرقبة وحول العين اليسرى.
7 - دم متدفق من الفم.
وقد تم نقل (سيادته) فوراً إلى قسم الرعاية المركزة لجراحة القلب والصدر بالمستشفى، وأجريت له الإسعافات العاجلة التالية:
1 - وضع أنبوبة قصبة هوائية بعد تفريغ البلعوم مما فيه من دماء متجلطة. وبدأ عمل تنفس صناعي بواسطة جهاز التنفس الصناعي.
2 - تدليك خارجي للقلب.
3 - إعطاء منشطات القلب، اللازمة لمثل هذه الحالات، بالحقن داخل القلب مباشرة.
4 - نقل دم من نفس فصيلة (سيادته) بكميات كافية، خلال عدد من الفتحات في الأوردة.
5 - وضعت أنبوبة داخل القفص الصدري بالجهة اليسرى، لتفريغ الهواء والدم المتجمع.
6 - تم توصيل (سيادته) على أجهزة مراقبة القلب على تسجيل مستمر للضغط والنبض ورسم القلب، وكذلك توصل بجهاز رسم المخ الكهربائي، لتسجيل نشاط المخ ودرجة حيويته.
7 - لم يستجب القلب للتدليك الخارجي، وتم عمل صدمات كهربائية، كمحاولة لتنشيطه.
8 - لمّا لم يستجب القلب لكل هذه الإجراءات، تم فتح التجويف الصدري الأيسر، لعمل تدليك داخلي للقلب، ووجد القلب متوقفاً وفي حالة ارتخاء كامل. وكان جزء الرئة اليسرى متهتكاً، بما فيه الأوعية الدموية الكبرى، مع تهتّك كامل بالرئة ، وتجمّع دموي متجلط داخل التجويف الصدري.
9 - استمر عمل التدليك الداخلي للقلب، مع إعطاء العقاقير المنشطة، واستمرار التنفس الصناعي.
10 - في خلال ذلك، تم عمل الأشعة التالية:
أ. أشعة على الصدر، أظهرت وجود شظايا متعددة داخل الجهة اليسرى من التجويف الصدري. وكذلك رصاصة أعلى الترقوة اليمنى، مع وجود إمفزيما جراحية وكسور بالضلوع، وتهتّك بالرئة اليسرى.
ب. أشعة على الفخذ اليسرى، أظهرت وجود كسـر متفتت بالثلث الأسفل من عظمة الفخذ.
ج. أشعة على الجمجمة، وكانت سليمة.
د. أشعة على الساعد الأيمن، وكانت عظامه سليمة.
11 - في تمام الساعة الثانية وأربعين دقيقة بعد ظهر يوم الثلاثاء 6/10/1981، أظهر رسم القلب عدم تسجيل أي نشاط للقلب. وأظهر رسم المخ توقفاً كاملاً له عن العمل، تأكيداً لحدوث الوفاة.
واعتبر سبب الوفاة صدمة عصبية شديدة، مع نزيف داخلي في تجويف الصدر، وتهتّك بالرئة والأوعية الدموية الكبرى في جدار الرئة اليسرى. (انتهى التقرير الرسمي الصادر عن مستشفى القوات المسلحة بالمعادي).
رسم القلب الكهربائي وجدناه معنوناً: "رسم القلب الخاص بالسيد رئيس الجمهورية، فور دخوله غرفة الإنعاش، قسم جراحة القلب والصدر، الساعة 1.30 يوم الثلاثاء 6 أكتوبر"، توقيع الأستاذ الدكتور (...). وبالاطّلاع على الرسم، تبيّن لنا أنه لم تظهر به ضربات تلقائية طوال فترة الفحص، ولم يثبت على الرسم أي تعليق.
رسم المخ الكهربائي
1- أورى (أظهر) الرسم في الساعة الثانية، بعد ظهر يوم 6/10/1981، أثناء عملية الإنعاش بالتدليك المباشر للقلب، حصول موجات كهربائية مخية.
2- وأورى الرسم، الساعة الثانية وخمساً وأربعين دقيقة، بعد ظهر يوم 6/10/1981، توقّف موجات المخ الكهربائية.
والرسم موقّع عليه من السادة الأطباء (...).
فحوص الأشــعة أجري للسيد الرئيس، أثناء الإنعاش، فحص بالأشعة على كل من منطقة الصدر والفخذ اليسرى والذراع الأيمن والرأس.
وجاء بالتقرير :
1- إن فحص الصدر بالأشعة، أظهر وجود إمفزيما جراحية متقدمة، بكل من جذر الصدر وجذر العنق.
2- كما أورى وجود ظلال لشظايا معدنية في منطقة النصف الأيسر من الصدر، مصحوبة بكسور بالأضلاع اليسرى وتهتك بالرئة.
3- كما أورى الفحص وجود ظل لرصاصة بمنطقة الكتف اليمنى، وأورى فحص منطقة الساعد الأيمن سلامة العظام من الكسور.
4- كما أورى فحص الجمجمة سلامة عظامها من الكسور.
وبمناظرتنا لأفلام الأشعة، تأيّد لنا ما جاء بالتقارير عنها. وبعرضها على السيد الأستاذ (...)، جاء بتقرير سيادته ما يلي:
1- بفحص صورة أشعة الصدر، تبيّن وجود جسمَيْن معدنيَّيْن رباعيَّي الشكل، حولهما فتات معدنية متعددة، متجهة إلى الأعلى والداخل، عبر سرّة الرئة اليسرى، ومنتشرة بالنصف الأيسر من أيسر الصدر. وكذا ظلٌّ معدني مستطيل (لب رصاص) بأعلى الترقوة اليمنى. وتُظهر الأشعة، كذلك، إمفزيما جراحية متقدمة بجدران الصدر على الناحيتين، ولا يوجد انزياح ظاهر بالقصبة الهوائية أو الشُّعب، ولكن يوجد ظلٌّ غير محدد، متاخم للحافة اليسرى للقلب، يوحي بتجمع داخل الرئة. وكذا إعتام بالزاوية الحجابية الضلعية اليسرى، مع عدم انتظام بالحجاب الحاجز تحتها، مما يوحي بوجود تهتك بمنطقة الحجاب الأيسر وأنزفة تحته.
2- أظهرت صورة الأشعة، التي عملت لأسفل الفخذ اليسرى، ظلال كسر مائل متفتت بالثلث الأسفل للفخذ، مع بعض الانزياح. كما ترى عتامتان خطيتان متراكبتان بمنطقة الكسر، يحتمل أنهما من فتات العظم، ولم تظهر بالصورة ظلال أجسام معدنية بمنطقة الكسر.
الكشف الظاهري واستخراج لب الرصاص عند وصولنا إلى مشرحة المستشفى، تبيّن لنا أن جثمان السيد الرئيس محمد أنور السادات، محفوظ بثلاجة المشرحة، بقصد تأخير ومنع ظهور التغيرات (الرمية) السيئة، التي تحدث، عادة، بعد الوفاة. وكان الجثمان ملفوفاً في ملاءتين بيضاوين وإلى كل من جانبي الرأس (مصحف شريف).
والجثمان عارٍ من الملابس، ومحتفظ بدرجة حرارة الثلاجة. وبسبب الاحتفاظ به فيها، فقد كان لا يزال في دور التيبس (الرمي) الكامل، ولم تبدأ به أية مظاهر للتعفن الرمّي. والجثمان باهت (شاحب) بدرجة متقدمة. وكذا الرسوب الرمي باهت جداً، ويظهر خفيفاً جداً بالجهة الخلفية.
ووجدنا غياراً طبياً كبيراً، يغطي معظم مقدم يسار الصدر وجانبه الأيسر، مثبتاً في مكانه بأشرطة من المشمع اللصّاق. كما وجدنا رباطاً من الشاش الطبي على أسفل الساق اليمنى، أعلى مفصل الكاحل، وآخر على أسفل الساق اليسرى في مكان الاستكشاف الوريدي، لإعطاء نقل الدم أثناء عملية الإسعاف التي أجريت بالمستشفى.
وشاهدنا وأحسسنا بـ "إمفزيما" جراحية كبيرة بالأنسجة الرخوة بجدار الصدر، على الجانبين تمتد إلى العنق.
كما أحسسنا بأنسية الكتف اليمنى عند قاعدة العنق، بجسم صلب مستقر بالأنسجة، تحت الجلد، هو لب المقذوف، الواضح في فيلم الأشعة. وتبيّن لنا أنه سهل الانزلاق من موضعه في اتجاه نحو القدمين واليسار، لمجرد الضغط الخفيف.
وبرفع الغيار الطبي عن جدار الصدر، والرباط الشاش عن أسفل كل من الساقين، تبيّن لنا أنه أجري لسيادته، في عملية إسعافه، ما يلي:
1- تحت الغيار الجراحي الكبير، على يسار الصدر، وجدنا شقاً جراحياً حديثاً، مخيطاً بغرز جراحية، يمتد بالمسافة الضلعية السابعة، من خلف مستوى اتصال الضلع بالغضروف إلى الأمام الخط الإبطي الخلفي . وواضح أن هذا الشق الجراحي، أجري بمعرفة الجراح، للإسعاف بالتدليك المباشر للقلب. ووجدنا أسفله الإصابات الحيوية الحديثة بالمقذوفات النارية، التي سيلي، فيما بعد، تفصيل وصفها.
2- وتحت الرباط الشاش الطبي على أسفل كل من الساقين، وجدنا شقاً جراحياً حديثاً، صغيراً، بطول حوالي 2 سم، مخيطاً بغرزة جراحية، يمتد في اتجاه مستعرض (أفقي) أعلى النتوء الأنسي لأسفل عظمة الساق، وكل منهما عُمل لإستكشاف وريدي، لإجراء عمليات نقل الدم.
وشاهدنا بالجثمان، من الإصابات الحيوية الحديثة بالمقذوفات النارية وفُتاتها، ما يلي:
1- إلى أسفل من الشق الجراحي بجدار الصدر الأيسر، الذي أجرى للإسعاف، مجموعة من ثلاثة جروح حيوية حديثة، تتميز بفقْد بالنسيج، وحوافيها (حافاتها) متسحجبة في الجزء الأسفل الوحش منها. كما أن حوافها جميعاً منقلبة إلى الداخل، العلوي منها يقع أسفل الشق الجراحي بحوالي 2 سم، وإلى خارج هالة الثدي الأيسر مباشرة شبه بيضاوي (بيضي) الشكل، أبعاده حوالي 1.5 × 1 سم بجرح، غوره وجد نافذاً إلى تجويف الصدر الأيسر، ومحدثاً في مساره كسراً مفتتاً بالضلع السابع، في مقابل خط نفاذه. والجرح الثاني، يقع في مستوى الخط الإبطي الأمامي الأيسر، أسفل مستوى الشق الجراحي للإنعاش بحوالي 3سم، غير منتظم الشكل، أبعاده 3 × 1سم. والجرح الثالث إلـى أسفـل الجرح السابق بحوالي 2 سم، أبعاده 2.5×1سم.
2- وشاهدنا بالطرف العلوي الأيمن، أعلى الساعد، جرحاً نارياً حيوياً حديثاً، فتحة دخول مقذوف ناري، بقطر حوالي 1 سم، حوافيه مستحجبة، ومنقلبة إلى الداخل، يمتد منه مسار نفقي تحت الجلد في اتجاه إلى الوحشية وأعلى، مسافة 2 سم، وينتهي بجرح فتحة خروج نفس المقذوف، على مقدم وحشية الساعد بنفس قطر الجرح فتحة الدخول، ومسار المقذوف سطحي، وأحس تحته بسلامة عظمتَي الساعد، وقد تأيّدت سلامتهما من فحص الأشعة، الذي أجري بالمستشفى.
3- وشاهدنا بأسفل الفخذ اليسرى جرحاً نارياً حيوياً، فتحة دخول بقطر حوالي 1سم، يقع على أسفل وحشية مؤخر الفخذ اليسرى. وجرحاً نارياً حيوياً، فتحة خروج نفس المقذوف، على مقدم أسفل الفخذ، أعلى حافة الرضفة مباشرة، أبعاده حوالي 1.5×1سم. وأحس في مسار المقذوف بكسر جسيم مفتت، بأسفل عظم الفخذ.
ولم نشاهد بالجثمان إصابات أخرى من عيارات نارية أو غيرها.
وبعد الحصول على موافقة الجهات المختصة، أجرينا ما يلي:
1- قمنا بعمل شق مستعرض بمنطقة أنسية أعلى الكتف اليمنى ، عند اتصاله بالعنق، طوله حوالي 3 سم، لاستخراج جزء المقذوف، الواضح بالأشعة. وتبيّن أثناء عمل الشق، أن ضغط المشرط لقطع الجلد والأنسجة تحته، يؤدي إلى زحزحة المقذوف بسهولة من موضعه إلى أسفل. وبعد عمل الاحتياط اللازم لتثبيته، أمكن استخراجه بسهولة، وسيأتي، فيما يلي، تفصيل وصفه.
2- قمنا برفع الغرز عن الشق الجراحي، الذي عُمل للإنعاش بيسار الصدر. وتبيّن لنا أن تجويف الصدر مملوء بنزيف دموي غزير، به جلط كبير، وأن الشق لا يكاد يسمح بإدخال يدي اليمنى. وبالمعالجة، أمكن الحس بأن القلب سليم بداخل التأمور ، وأن عضلته منقبضة، وأن الفص السفلي للرئة متكدم بشدة، ومتهتك، ويسهل تحريكه.
وتحت هذه الظروف، تعذّر استخراج أي من فتات المقذوفات، التي وضحت بتجويف الصدر الأيسر في فحص الأشعة، الذي أجري بالمستشفي.
جزء المقذوف، المستخرج بمعرفتنا وجدناه عبارة عن لبّ رصاصة أسطواني، مسلوب في جزئه العلوي، على هيئة نصف قِمع. وهذا الجزء به أثر انفراغ بقمته، وارتفاعه في حالته الراهنة حوالي 20 مم ... وقطر الجزء الأسطواني منه 5. 5 مم.
وبعمل المقارنة اللازمة، تبيّن أن هذا اللب المستخرج من الجثمان، يطابق مطابقة تامة، من جميع الوجوه، اللب الموجود في رصاص الطلقات الكاملة الحية، من الطراز الروسي، والتي تستعمل في البنادق الآلية من عيار 7.62 مم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق