الأحد، 20 أبريل 2008

دراسات في الحقبة الناصرية (9)

التحرر الوطنى والقومى .. ثورة يوليو .. وحركات التحرر الوطنى
يعد أداء ثورة يوليو ، كحركة تحرر وطنى ، وفى علاقتها بحركة التحرر الوطنى العربية والعالمية ؛ أحد القضايا المركبة التى يصعب قراءتها من منظور واحد ؛ فهذا الأداء كنقيض للظاهرة الاستعمارية ، كان فى حالة تطور مستمر فى تفاعلاته على مستوى الفكر والممارسة ، تحول من حركة مواجهة للاستعمار التقليدى لقوات احتلال أجنبى على أرض البلاد باتفاقية الجلاء عام 1954 ، إلى مواجهة أشكال الاستعمار الجديد والهيمنة الاقتصادية اعتباراً من تأميم قناة السويس عام 1956 ، والسيطرة على مصادر الثروة الوطنية ، إلى أن تشكل هذا الأداء فى النهاية بمضمونه الاجتماعى بالتحول الاشتراكى فى مطلع الستينيات .تجاوز هذا الأداء فى تفاعله مع حركة التحرر الوطنى العربية مقاومة الظاهرة الاستعمارية على الأرض العربية ، إلى الالتحام بقضية الوحدة العربية ومقاومة التجزئة والتخلف ، وأخذ العديد من الأشكال وفق ما سمحت به إمكانات العمل القومى ، وموازين الصراع الدولى ، لكنه فى الوقت نفسه اشتق وجه مصر القومى من بين طبقات الهوية الوطنية المتعددة الأبعاد .وفى علاقة هذا الأداء بحركة التحرر الوطنى الأفريقيـة ، تجاوز أيضاً أشكال التضامن التقليدية فى مواجهة الاستعمار ، ليتحول إلى حركة تضامن فعـال على الساحة الأفريقيـة ، واكتسب بعداً إنسانياً عميقاً فى محاربة العنصرية ؛ أعمق أوجه القهر .وفى كل الأحوال لم تنغلق ثورة يوليو ، كحركة تحرر وطنى ، على بعدها الإقليمى بشقيه العربى والأفريقى ، بل تفاعلت وتبادلت التأثير مع حركة التحرر الوطنى العالمية بأبعادها المختلفة ، بدءاً من التفاعل الثنائى مع الحركات الوطنية المناهضة للتبعية الخارجية والقهر الداخلى ، مثل تلك التى تبلورت فى إيران وقبرص وغيرهما ، أو المساهمة فى التحالفات المناهضة للاستعمار ، والرامية إلى بناء كتلة دولية تحمى مصالح البلدان النامية وسط عواصف الحرب الباردة ، وتنافس الكتلتين الدوليتين الشرقيـة والغربيـة ، على غرار المساهمة فى بناء مجموعة عدم الانحياز .وعلى امتداد هذه المساحة الشاسعة من التفاعلات النشطة ، أنجزت ثورة يوليو العديد من الانتصارات ، وواجهت بالمثل العديد من الإخفاقات ، لكنها فـى إنجـازاتهـا وإخفـاقاتهـا حطمت " تابوهـات " فـى العـلاقات الدولية ما كان يمكـن تخطيها بغير هـذه التجربـة ، وأطلقـت طاقات إبداعية للنضال الوطنى لا زالت مصدر الهام للعديد من البلدان النامية .
وكان تراكم هذه التفاعلات إيذانا بالانتقال من نظام دولى إلى نظام دولى آخر ، لتحتل ثورة يوليو بجدارة موقعاً فريداً بين الثورات الكبرى للأمم الحية .لقد تغير وجه مصر ، ووجه العالم خلال العقود الثلاثة التى أعقبت رحيل جمال عبد الناصر ، زعيم هذه الثورة ، من النقيض إلى النقيض ، وخلال هذه الفترة حُشدت جهود جبارة لإهالة التراب على كل القيم والمعانى والانتصارات التى حققتها هذه المرحلة الخصبة من تاريخ البلاد ، وجرى تضخيم الإخفاقات والهزائم ، وتفسيرها بما يخدم الأهداف والرؤى الجديدة لاقتلاع كل ما له صلة بهذه المرحلة من مخيلة هذه الأمة . لكن ما تدعيه هذه الورقة أنه لا القوى التى حُشدت لإجهاض هذه التجربة الفريدة ، ولا عملية التشويـه المتعمـد التـى أعقبتهــا استطـاعت أن تجــد إجــابــات بـديلة لـلأسئلة " القديمة / الجديدة " التى طرحتها تجربة ثورة يوليو فى استجابتها لتحديات الأمن والتنمية والوحدة ، وبقيت المعادلات الثلاث التى طرحتها تجربة ثورية يوليو ، كحركة تحرر وطنى ، وفى علاقتها بحركة التحرر الوطنى العالمية ؛ تحدياً ماثلاً للذين يسعون لتكريس القطيعة معها ، بقدر ما هى تحد ماثل للذين يؤمنون بجدواها طريقاً للنهوض بهذه الأمة .وتتناول هذه الورقة موضوعها فى قسمين : يتعرض الأول لأبعاد التجربة فـى ضوء جدليات ثلاث هـى : العلاقـة بين الاستقلال الوطنى والقومى ، التحرر الوطنى والوحدة ، التحرر الوطنى والتنمية المستقلة .
ويتعرض الثانى لتحليل العلاقات بين ثورة يوليو وأطراف حركة التحرر الوطنى العربية والعالمية . وتناقش الخاتمة خبرة هذه التجربة فى ضوء التحديات التى واجهتها مصر على الصعيد الوطنى ، والإقليمى ، والدولى ، وكيف يمكن الاستفادة منها للإجابة على التحديات والأسئلة التى يطرحها الواقع الراهن .أولاً : أبعاد التجربة :تنطلق كثير مـن التحليلات حـول تفاعل ثـورة يوليو مع حركة التحرر الوطنى من فكرة الدوائر الثلاث التى ميزت أدبيات الثورة ، وهى الدوائر العربية، والأفريقية ، والإسلامية . كما تنطلق من تحليل المبادئ الستة التى أعلنتها الثورة عند قيامها ، وفى مقدمتها القضاء على الاستعمار ، وبناء جيش وطنى قوى .
وقد سعت التحليلات المبكرة إلى تأصيل تجذر فكر الثورة فى مناهضة الاستعمار كجزء من إضفاء المهابة على الثورة ، فى مواجهة التحليلات التى كانت تنتقص من قيمتها لأنها لم تقم على نظرية ثورية ، أو لم ترتكز على حزب ثورى يتسلح بمنهجية فى العمل ، أو استراتيجية لتحقيق أهدافه .والواقع أن الثورة لم تكن بحاجة للتحلى " بفضيلة " لم تكن لها ، فلم تقم كل الثورات الفاعلة متسلحة بنظريات ، بل سبق العمل أحياناً التنظير له ، فقد تم غزو الباستيل من حيث الزمن على التنظير له، وسبقت إضرابات العمال فى روسيا ، واستيلاء الفلاحين على الأرض قبل الإطاحة بالقيصر ، كما أن قضية مواجهة الاستعمار فى ذلك الوقت من مطلع النصف الثانى من القرن العشرين كانت واضحة بدرجة كافية ، حيث كان الاستعمار يتجسد بشكل صريح بجنوده وآلياته على أرض الوطن وحوله فى كل مكان تقريباً ، وبالمثل هدف إزاحته .يزيد من قدر عبد الناصر ، ولا يقلل منه ، أنه استمد من النضال عناصر الفكر ، وربط الفكر بالإنجاز المحدد ، واستوعب حركة المجتمع وسبقها، فتعلم من شعبه وعلمه واستلهم تجارب التاريخ وخبرة الشعوب ، فصدرت كل أفعاله عـن وعـى تـام بالنضال الدؤوب ضد الاستعمار بكل أشكاله ، وانحاز إلى تطلعات أمته .1- جدلية العلاقة بين الاستقلال الوطنى، والاستقلال القومى :واجهت الثورة امتحاناً عصيباً فى أول اختبار لها فى مواجهة الاستعمـار ، اختلفـت ولا تزال التقييمـات حـولـه ، وقـد جـاء هــذا الاختبــار فـى مواجهة تحديد مستقبل السودان ، الذى كان يحكم باتفاق الحكم الثنائى المصرى / البريطانى ، والذى كان فى حقيقة الأمر حكماً بريطانياً خالصاً بواجهة مشتركة ، فى الوقت الذى كانت فيه وحدة وادى النيل هدفاً مشتركاً للحركة الوطنية المصرية .
ومنذ البداية أصر عبد الناصر على أن تبدأ المفاوضات بشأن مستقبل السودان ، قبل أن يبدأ التفاوض بشأن جلاء القوات البريطانية عن أرض مصر ، وتوصل فى 12 فبراير/ شباط 1953 إلى اتفاق على فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات ، يتم خلالها تصفية الإدارة الثنائية ، وتأليف جمعية تأسيسية منتخبة لتقرير مصير السودان على أساس أحد اختيارين : إما ارتباط السودان بمصر على أيـة صورة ، أو الاستقلال التام ؛ أى الانفصال عن مصر . كما تقرر أن تنسحب القوات العسكرية البريطانية من السودان فوراً ، عندما يعلن البرلمان السودانى عن رغبته فى الشروع فى اتخاذ التدابير الخاصة بتقرير المصير . وبذلك خرج عبد الناصر عن الطريق الذى سار فيه جميع الزعماء الوطنيين ، والحكومات السابقة ، والأحزاب السياسية فى المطالبة بالسيادة على السودان ، أو حق ضمه إلى الأراضى المصرية ، والذى كان قد وصل إلى حد إعلان الملك فاروق نفسه ملكاً على مصر والسودان .فاجأ عبد الناصر الإنجليز أنفسهم عندما وافق على إجراء استفتاء عام فى السودان من أجل تقرير المصير بعد تهيئة الجو الحر المساعد له ، بعد أن كانوا هم أنفسهم يطالبون به كمناورة لتعطيل خروجهم من السودان ، لاعتقادهم بتمسك مصر بشعار وحدة وادى النيل الذى ترفعه ، وأن النظام الجديد لن يقبل بغيـر ذلـك بعـد أن أعلنت مصـر منـذ عهـد مـا قبـل الثـورة أن السودان جزء لا يتجزأ من أراضيها، فكان من الصعب عليهم أن يتراجعوا .كانت هـذه الخطوة جريئـة وواعية ، على حد وصف محمد فائق، " فهى جريئة لأن الرأى العام المصرى ، الذى ردد شعار وحدة وادى النيل لفترة طويلة من الزمن ، كان ينتظر من قادة الثورة العسكريين أن يكونوا أكثر تشدداً من الملك ، الذى أعلن ضم الأراضى السودانية إلى مملكته ، وكانت واعية لأن عبد الناصر ، بموافقته على أن يكون لشعب السودان الحق فى تقرير مصيره أثبت أنه يفكر ويتصرف بروح العصر ؛ فقد أراد عبد الناصر لأى رابطة مع السودان أن تكون منبثقة عن رغبة شعبه ، وليست استنادا إلى حقوق مكتسبة من التاريخ ، كما كان يطالب البعض ، ورأى أنه مهما كان اختيار الشعب السودانى فإن هذه الاتفاقية تضمن تصفية الوجود البريطانى فى السودان ، وأن هذا هدف كان يريده فى المقام الأول ، فبقاء القوات البريطانية فى القطر الشقيق يهدد أمن وسلامة مصر ، ولن يكون لجلاء هذه القوات من مصر معنى حقيقياً إذا كانت باقية فى السودان " .استقلال بلدان المغرب العربى :لم تكن مناهضة الاستعمار الفرنسى فى بلدان المغرب العربى ، تحظى بأسبقية أولى فى مساعى ثـورة يوليو للتخلص من الاستعمار فى البلدان العربية ، بل كانت – وفقا للأستاذ فتحى الديب – من " المناطق المغلقة " ؛ نتيجة للسيطرة الاستعمارية ، لكن تطور الأحداث ابتدءًا من إلقاء القبض على الملـك محمـد الخامس فـى 20 أغسطس 1953 ، ونفيــه وأسرتـه إلى جزيرة " كورسيكا " ، والتطور السريع والفعال لحركة التحرر الوطنى فى بلدان المغرب ، سرعان ما قلب هذه المعادلة ودفع بقضية تحرير المغرب العربى إلى صدارة اهتمامات ثورة يوليو .
ساندت ثورة يوليو انتفاضة الشعب المغربى ، وموقف الملك ، وشنت حملة مكثفة من إذاعة صوت العرب لدعم النضال الإيجابى ضد الاستعمار الفرنسى ، وتأييد النضال الشعبى على ساحة الشمال الأفريقى ، وكشف أساليب القهر والإرهاب الذى تمارسه السلطة الاستعمارية ضد شعوبها ، ونسقت مصر مع الجامعة العربية عقد مؤتمر لجميع الأحزاب المغاربية لتنسيق جهودها ، ولم يتخلف أى منها، وأسفر الاجتماع الذى عقد يومى 3 ، 4 أبريل / أنيسان 1954 عن تكوين " لجنة تحرير المغرب العربى " غايتها العمل على نيل أقطار المغرب العربى استقلالها التام ، والانضمام إلى الجامعة العربية ، مع رفض فكرة الدخول فى الاتحاد الفرنسى رفضاً باتاً .وقد أتاح هذا الاجتماع أول لقاء بين مسئولين مصريين، وأحمد بن بيلا الذى كان قد وصل حديثاً إلى القاهرة بعد هروبه من السجن ، إثر القبض عليه لرئاسته للتنظيم العسكرى السرى لحزب الشعب قبل انشقاقه ، وكان هذا التنظيم العسكرى السرى يرفض طـرفى النزاع فى حزب الشعب ، لميوعة موقفهما من تأييد المقاومة المسلحة .وبعد مباحثات مستفيضة مع بن بيلا حول خطط بدء الكفاح المسلح فى الجزائر، ورجوعه إلى قادة الداخل، وافق الـرئيس عبـد الناصر على دعم هذا الكفاح مادياً وأدبياً، وقرر قادة الداخل تحديد بدء الكفاح المسلح ليلة 30 أكتوبر 1954، كما قام بن بيلا بالاتصال بقادة المناضلين المغاربة للمشاركة فى بدء عمليات فدائية فى نطاق حرب العصابات بالمغرب ، وفى تنسيق متكامل مع التوقيت الذى سيحدده قادة الكفاح الجزائرى لتوسيع قاعدة المقاومة ، وتشتيت جهود القوات الفرنسية ، كما بدأت الاتصالات بالعناصر الوطنية فى ليبيا لتسهيل تهريب السلاح للجزائر عبر المنطقة الشرقية .
نجحت الضربة الأولى نجاحاً مبهراً ، إذ شملت معظم أنحاء البلاد طبقاً للخطة المتفق عليها ، ووجهت معظم الهجمات إلى مراكز البوليس وقوات الجيش المنعزلة ، وتم الاستيلاء على ما بها من أسلحة وذخائر وفرت قاعدة لاستمرار العمليات لحين وصول الإمدادات المصرية كما كان مخططاً . وتم تدمير الكثير من وسائل المواصلات ، والنقل ، ومحطات توليد الكهرباء مما شل حركة القوات الفرنسية ، واضطرتها لاستدعاء تعزيزات عاجلة لإخماد هذه الحركة ، لكن الكفاح ، الذى راهنت القوى الاستعمارية على إخماده ، سرعان ما استشرى فى مناطق عديدة من البلاد ، واستمر أكثر من سبع سنوات ، قدم خلالها الشعب الجزائرى تضحيات جسيمة على طريق نيل حريته واستقلاله فاقت المليون شهيد حتى أنجز أهدافه .شملت مساعدات ثورة يوليو للكفاح المسلح الجزائرى ؛ التسليح ، والتدريب ، والمساعدة المالية ، والدعم السياسى والدبلوماسى ، والمساندة الإعلامية ، وساندت مصر جمع كل القوى السياسية الجزائرية تحت لواء جبهة التحرير الوطنى الجزائرية ، واستضافت الحكومة المؤقتة التى انبثقت عن الجبهة ، ونأت بنفسها عن الصراعات التى نشبت داخل الجبهة فى مراحل تطورها المختلفة ، سواء بين قيادات الداخل والخارج ، أو بين قيادات الداخل أنفسهم على نحو ما وقع بين عبان رمضان وأحمد بن بيلا ، وانعكس فى مقررات وادى الصمام فى أغسطس / آب 1956 ، أو محاولة الانقلاب الفاشل التى قادها قادة ولايات الداخل فى شهر نوفمبر / تشرين ثان 1958 ، والخـلاف الـذى لحقهـا بيـن كريم بلقاسم مـن ناحيـة ، وعبد الله بن طوبال وعبد الحفيظ بوصوف من ناحية أخرى .كانت " بوصلة " القاهرة وسط كل الخلافات ، هى مدى التزام الأطـراف بمبادئ ميثاق جبهة التحرير فى فبراير 1954 حول عروبة الجزائر ، ورفض الانخراط فى مشاريع الاتحادات الفرنسـيـة ، وتؤكـد الوثائق التى نشـرها الأستاذ فتحى الديب (3) ، استمرار تدفق المساعدات العسكرية فى ظل كل الظروف السابقة لضمان استمرار الكفاح المسلح ، وتحملت مصر تبعات مساندتها للنضال الوطنى الجزائرى بصبر وثبات ، بدءاً من الحملات الدعائية إلى الضغوط السياسية والعسكرية ، التى بلغت ذروتها بمشاركة فرنسا فى مؤامرة العدوان الثلاثى على مصر فى العام 1956 .
وقـد تداخلت أبعاد مساندة ثورة يوليو لحركة التحرر الوطنى الجزائرية ، مع نظيراتها على الساحتين المغربية والتونسية ، ورغم أن محاولة التنسيق الأولى لانطلاق حركة الكفاح المسلح فى المغرب فى نفس وقت بدء الضربة الأولى فى الجزائر ، لم تنجح فى حينها ، فقد أمكن التنسيق بين الجبهتين اعتباراً من ليلة الثانى من أكتوبر 1955 ، حيث بدأ الكفاح بجبهتى وهران ومراكش فى الوقت نفسه بعد وصول شحنة من الأسلحة المصرية ، وتكبدت القوات الفرنسية خسائر جسيمة فى الأرواح والعتاد من جراء الضربات العنيفة التى تتابعت على يد " جيش تحرير المغرب العربى " على جبهتى مراكش ووهران ، واضطرت إلى إعادة السلطان محمد الخامس إلى عرشه ، بهدف وضع حد للكفاح المسلح ، إلا أن قيادة جيش التحرير أعلنت استمرار عملياتها حتى تنال مراكش استقلالها التام ، وإن قصرته عملياً على المناطق الجبلية بعد تفاهم سرى مع السلطان على إبعاد عمليات الجيش عن المدن ، واستمرارها فى المناطق الجبلية للضغط على السلطات الفرنسية . ومع استمرار ضغط العمليات المسلحة فى كل من مراكش والجزائر ، وبـدئها فى تـونس ، باشرت الحكومة الفرنسية التفاوض مع الحكومة المراكشية ، وصدر تصريح مشترك تضمن إعلان استقلال مراكش ، وإلغاء معاهدة الحماية المبرمة فى 30 مارس 1912، وتأييد الحكومية الفرنسية لحق مراكش فى وحـدة أراضيها ، وإن كان هـذا البروتوكول قد قيد استقلال مراكش بعدة قيود أمكن لشعب المغرب - فى وقت لاحق - التخلص منها ونيل استقلاله كاملاً .أما تونس التى كانت قد بدأت الكفاح المسلح منها عقب فشل مفاوضاتها مع فرنسا فى ديسمبر / كانون أول 1951 ، نتيجة إصرار فرنسا على إنكار مبدأ السيادة التونسيـة ، فقـد بـدأ بمظاهرات احتجاجية ، وتطور بعد إلقاء السلطة الفرنسية القبض على قادة الحزب الحر الدستورى بما فيهم بورقيبة ؛ إلى مقاومة شعبية ، وكفاح مسلح .
وترتب على قيام هذا الكفاح وامتداد ساحته عامى 1953 ، 1954 اتخاذ الحكومة الفرنسية قرارها بضرورة إيقاف القتال فى تونس سريعا للتفرغ للقضاء على المقاومة المسلحة فى مراكش ، وأعلن " منديس فرانس " فى 31 يوليو 1954 منح تونس الاستقلال الذاتى مع بعض التحفظات لحماية الجالية الفرنسية ، والاحتفاظ بشئون الدفاع والخارجية بيد فرنسا . وتشكلت إثر هذا الإعلان حكومة طاهر بن عمار ، وشارك فيها الحزب الحر الدستورى بأربعة وزراء ، وبدأت المفاوضات لتوقيع الاتفاق فى 14 أغسطس / آب 1954 . لكن أصر الجانب الفرنسى على إيقاف الكفاح المسلح وتسليم الفلاحة - المناضلون التونسيون - لأسلحتهم ، مع حماية السلطات الفرنسية أمنهم وحرياتهم . وأيدها حزب بورقيبة ، ومارست قيادة الحزب ضغوطاً عنيفة على المناضلين انتهت بوقف المقاومة المسلحة ، وتسليم حوالى 2500 قطعـة سلاح إلى السلطة الفرنسية بتونس ، وانتهت المفاوضات فى 23 مايو / آيار 1955 ، بتوقيع اتفاق فرنسى / تونسى .تزعم صالح بن يوسف ويوسف الرويسى حركة معارضة الاتفاق وطالبوا بضرورة عودة الكفاح المسلح ، لعدم رضاء أغلبية أبناء تونس عنه ، وانتقل بعض المناضلين من الفلاحة - الذين رفضوا تسليم أسلحتهم إلى الأراضى الجزائرية - لينضموا إلى حركة المقاومة الجزائرية ضد فرنسا العدو المشترك .كانت مصر تدعم الكفاح التونسى سياسياً وإعلامياً، كما قامت بتدريب 200 مواطن تـونسى بمعسكرات الحرس الوطنى ، وإعدادهم للمقاومة المسلحـة ، وتم ترحيلهم إلى طـرابلس بعد تزويدهم بالسلاح للتسلل داخل تونس ، لدعم القدرات القتالية للمقاومة التونسية خلال عام 1954 . كما شرعت إثر توقيع البروتوكول الفرنسى / التونسى فى التنسيق مع جماعة طاهر الأسود التى رفضت تسليم أسلحتها ، ودعمت جهود صالح بن يوسف الذى انتقل إلى الداخل لمعارضة الاتفاق .
احتـدم النزاع بين بورقيبة وبـن يوسف ، وأصر بورقيبة على فصله من الحزب ، كما حاول اغتياله ، لكن فشلت محاولة الاغتيال ، واستنكر الشعب تآمر بورقيبة ، واندلعت مظاهرات تضامنية مع بن يوسف ، ورفض الأخير الاعتراف بقرار فصله كأمين عام للحزب ، استناداً إلى هذا التأييد الشعبى والحزبى ، ولجأ بورقيبـة خشيـة مـن تجـدد الكفاح المسلح ، خاصة بعد اضطرار الحكومـة الفـرنسية منح مراكش حقهـا فـى الاستقـلال ، ولجأ إلى المطالبة بتعديل الاتفاقية حتى لا يفلـت الزمام مـن يـده ، وتوصل فى نهايـة المطاف إلى توقيع بروتوكول جديد مع فرنسا فى 20 مارس 1956 ؛ تضمن اعتـراف فـرنسا باستقلال تـونس ، وإلغاء معاهدة الحمايـة السابق عقدها عام 1881 ببوردو ، وتعديل الاتفاقية التونسية الفرنسية المبرمة فى يونيو / حزيران 1955 ، ومباشرة تونس مسئولياتها فى الشئون الخارجية والدفاع ، وتكوين جيش وطنى .ورغم المثالب التى تشوب الاتفاق الجديد ، فقد تأثرت القاعدة الشعبية المعارضة إلى حد بعيد بما حمله من مظاهر الاستقلال ، وتفككت صفوف المعارضة خاصة بعدما أصدر بن يوسف بياناً وصف فيه البروتوكول بأنه خطوة لا بأس بها نحو الاستقلال ، وإن كان قد أبدى تحفظه على شروط التكامل وحدوده ومداه بالنسبة لقوات الاحتلال ، وحصل مرشحو بورقيبة على أغلبية ساحقة فى انتخابات الجمعية التأسيسية فى 25 مارس 1956 نتيجة مقاطعة المعارضة .
معركة الأحلاف :رافق الاستراتيجية المبكرة لثورة يوليو تجاه تحقيق الاستقلال الوطنى معركة الأحلاف ، كانت القضية مطروحة من قبل قيام الثورة ، فى إطار رغبة بريطانيا فى إحلال شكل من أشكال الروابط يستبدل صيغة الاحتلال البريطانى لقناة السويس دون تغيير مضمونه لإخماد المقاومة المستمرة للشعب المصرى ، وكذا فى إطار سياسية الأحلاف التى شرعت فى تأسيسها مع الولايات المتحدة ، والدول المتحالفة معها لتطويق المعسكر الاشتراكى ، ووقف ما سمى حينذاك الخطر الشيوعى انطلاقاً من مبدأ ترومان عام 1947.وكانت استراتيجية التطويق هذه بحاجة إلى وصلة تربط حلف الأطلسى بحلف جنوب شرقى آسيا ربطاً جغرافياً ، وكان هذا يتطلب إنشاء حلف يضم تركيا وباكستان وما بينهما أى ؛ إيران والعراق، ويكون له عمق استراتيجى يشمل مصر ، وسوريا ، والأردن ، ولبنان ، ودول شبه الجزيرة العربية ، ثم يمتد غرباً حتى يضم سائر أجزاء الوطن العربى.
وهكذا نشأت فكرة الدعوة إلى إنشاء منظمة " الدفاع عن الشرق الأوسط " .وحينما سعت الحكومة المصرية فى مارس 1950 إلى إقناع إنجلترا بالجلاء ، ركزت الحكومة البريطانية على أمرين ؛
أولهما : مواجهة الحظر الشيوعى بإبقاء القوات البريطانية فى مصر، وإنشاء منظمة عسكرية من دول المنطقة تسيطر عليها إنجلترا ، وثانيهما : ضرورة إيجاد منطقة أمن فى الشرق الأوسط ، هو ما يوجب إيجاد ترابط بين العرب وإسرائيل ، ونشطت إنجلترا فى الضغط على مصر من أجل إنشاء " منظمة الدفاع المشترك " ، وقدمت إليها مشروعا بإنشاء قيادة متحالفة فى الشرق الأوسط ، تشترك فيها الدول القادرة على الدفاع عن المنطقة والراغبة فى المساهمة فيه ، كما قدمت مع حلفائها مذكرات مماثلة إلى الأردن ، والسعودية ، والعراق ، وسوريا ، ولبنان ، وإسرائيل . لكن رفضت حكومة الوفد بزعامة مصطفى النحاس هذا المشروع ، وأعلنت فى 8 أكتـوبر / تشريـن أول 1951 إلغاء معاهدة 1936، واتفاقيتى 1899 ، والامتيازات التى تمتعت بها القوات البريطانية فى مصر ، فيمـا قـررت بـريطانيـا عـدم الاعتـراف بقـرار الإلغـاء ، وإنكار أية قوة قانونية لـه .
وفى عهد الثورة جددت الولايات المتحدة الدعوة لسياسة الأحلاف ، لكن قيادة الثورة لم تكتف برفض هذه الدعوة فحسب ، بل سعت إلى مقاومة محاولة فرضها فى المنطقة من خلال حكومة نورى السعيد فى العراق ، والتى طرحت عدة صيغ بديلة لتحقيق ذات الهدف . فمن ناحية حشدت مصر جهودها لدعم ميثاق التضامن العربى ، وجعله أداة فعالة بديلاً لسياسة الأحلاف، ودعت لاجتماع وزراء الخارجية العربية لتحقق هذا الهدف ، ومن ناحية ثانية سعت القاهرة إلى دفع حكومة نورى السعيد فى العراق للتراجع عن الارتباط بالحلف ، أولاً من خلال الاتصال الثنائى ، ثم من خلال جامعة الدول العربية ، إلا أنه رفض العدول عن هذه السياسة ، ومن ناحية ثالثة سعت مصر لإبرام سلسلة من معاهدات الدفاع المشترك مع كل من سوريا والسعودية فى أكتوبر 1955 ، ومع اليمن عام 1956 ؛ لتكتيل قوى مضادة للحلف .وشنت ثورة يوليو حرباً على حلف بغداد بهدف منع انضمام دول عربية أخرى إليه وإسقاطه ، فشنت حملة إعلامية واسعة ركزت على طبيعته كأداة للاستعمار والإمبريالية ، هدفه تصفية المد القومى وحركة التحرر فى الوطن العربى . وجاءت استفادة بريطانيا من قواعدها فى العراق خلال العدوان الثلاثى على مصر ليدعم اتهاماتها، وهو ما أسهم فى تصاعد أعمال الاحتجاج المضادة للحلف فى كلٍ من العراق والأردن . كما قادت التطورات الداخلية فى سوريا خلال هذه الفترة إلى وصول جبهة جديدة معادية للغرب إلى سدة الحكم ؛ مما حسم الموقف لصالح عدم الانضمام إلى حلف بغداد ، وبالتالى لم تنضم إليه كل من لبنان ، والأردن ، وهو الأمر الذى شكل ضربة قوية للحلف ، وسجل نصراً لسياسة ثورة يوليو المناهضة للأحلاف ، وأدى إلى عزلة العراق فى النظام العربى ، حتى جاءت ثورة 1958 فى العراق وأفضت إلى انسحابه من الحلف .لكن ما أن تعثر حلف بغداد تحت ضغط مقاومة ثورة يوليو والرأى العام العربى ، حتى خرج أيزنهاور بمبدئه عن " الفراغ " الذى ضمنه رسالته إلى الكونجـرس فى ينايـر 1957 ، وخـلاصته أن انسحاب القوتين العالميتين - بريطانيا وفرنسا - من المنطقة ينجم عنه " فراغ " يمكن أن يستغله الاتحاد السوفييتى فيملؤه فى الشرق الأوسط ، وأن دول المنطقة بحاجة إلى قوة إضافية لضمان استمرار استقلالها . وحدد مبدأ أيزنهاور وسائله بمساعدة دول الشرق الأوسط على تنمية اقتصادياتها ، وتقديم مساعدات عسكرية لدول المنطقة ، واستخدام القوات المسلحة لحماية الدول التى تطلب المساعدة ضد العدوان المسلح من أى دولة تسيطر عليها الشيوعية العالمية.
وقد رأت مصر فى مبدأ أيزنهاور حلفاً عسكرياً يهدف إلى بعث الحياة فى حلف بغداد ، كما رأت سوريا فيه خروجاً على مبدأ الحياد وعدم الانحياز ، ونقل الحرب الباردة إلى المنطقة ، وكان من جراء ذلك أن اتهم الغرب سوريا بأنها تتجه نحو المعسكر الشرقى ، فحشدت تركيا قواتها على الحدود السورية فى سبتمبر 1957 بقصد العدوان عليها ، لكن أدى تدخل الأمم ا لمتحدة، وإسراع مصر بإرسال قوات إلى سوريا إلى عدول تركيا عن نياتها العدوانية ، وأيدت دول عربية مصر وسوريا فى موقفهما، وكذلك فعلت دول كثيرة من حركة عدم الانحياز ، وفشل مبدأ أيزنهاور فى تحقيق هدفيه الرئيسيين : ربط الوطن العربى بأحلاف الغـرب ، وخلـق مناخ ملائم لمناقشة الصلح بين العرب وإسرائيل .استقلال اليمن :عرف جنوب اليمن المحتل قبل الاستقلال العديد من التنظيمات السياسية والحزبية ، لكن لم تكن جميعها ذات غايات واحدة فى مواجهة الاستعمـار واستقلال الجنوب ، إذ وجدت تنظيمات دعت إلى شعار عدن للعدنانيين ، ومنها ما تعاون مع سلطات الاحتلال البريطانى ، وأيد مشروعاته فـى تكويـن اتحـاد فيدرالى مرتبط بالهيمنـة البريطانيـة ، كما وجـدت فى الوقت نفسه أحزاب وطنية قاومت الاستعمار البريطانى ، ورفضت وجود القواعد العسكرية على الأرض اليمنية ، ودافعت عن فكرة استقلال جنوب اليمن ، وربطه بالوحدة اليمنية .
يرصد الأستاذ فتحى الديب إرهاصات مبكرة لطلب القيادات الوطنية من أبناء الجنوب لدعم ثورة يوليو للكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطانى ، ومطالبتهم بتدخل الرئيس عبد الناصر للضغط على الإمام أحمد لقبول مرور سلاح من مصر عبر اليمن لمساعدتهم ، وقد طلب " الصاغ " صلاح سالم ذلك من الإمام أحمد ، خلال زيارته لليمن فى يوليو 1954 ، وأبدى الأخير استعداده ،إلا أنه اشترط أن يقوم بتسليمهم الأسلحة بمعرفة رجاله . ورغم قبول مصر وإرسالها كميات كافية من الأسلحة والذخائر ، فقد كان الإمام يحتجز معظمها ولا يسلم إلا كميات محدودة للمناضلين ، وقد أثر ذلك بشدة على قدرة انتفاضة 1955 على الاستمرار ، وتمكنت قوات الاستعمار البريطانى من إخمادها بسرعة ، كما نجحت فى إخماد المحاولات التالية ، ولم يتغير ذلك الوضع إلا بعد دخول القوات المصرية اليمن الشمالى لمساندة ثورة سبتمبر 1962 ، إذ شرعت على الفور فى تزويد ثوار الجنوب بالأسلحة بدءاً من أول يناير 1963 ، وأتاح ذلك اندلاع الشرارة الأولى لثورة الجنوب المحتل يوم 27 يناير 1963.
وقد تمتعت حركة التحرر فى جنوب اليمن بدعم مصر عسكرياً ودبلوماسيا ودعائياً ، واستمر هذا الدعم منذ بداية الكفاح المسلح عام 1963 ، وحتى هزيمة يونيو / حزيران 1967. وليس هناك خلاف حول الأهمية الحاسمـة لهـذا الـدعم كأحـد عوامل تحقــق الاستقــلال فـى جنـوب اليمـن ، وقـد اعتـرف طـرفـا الصراع الـرئيسيين ، وهمـا حـركـة التحـرر الوطنى بقيادة الجبهـة القوميــة ، والـدوائـر الاستعمـاريـة البريطانية بهذه الأهمية الحاسمة .
والـواقـع أن الدعم المصرى لم يكن له الفضل فى بدء المقاومة المسلحة المنظمة وتصعيد المقاومة السياسية ، ومن ثم التعجيل باستقلال جنوب اليمن فحسب ، بل أسهم فى تحديد نوعية هذا الاستقلال ؛ فقد كانت ثورة اليمن - فى الشمال - والمساندة المصرية عاملان حاسمان فى إحداث تغيير فى المناخ الإقليمى غير المواتى ، بتوفير قاعدة آمنة لتنظيم وتدريب وتسليح الثوار . ومن هنا فإن السياسة البريطانية بشأن الجنوب اليمنى وقاعدة عدن لم تتغير فى اتجاه منح الاستقلال فحسب ، بل اُجبرت فى فبراير شباط 1966 على إعلان عدم النية فى الاحتفاظ بقاعدة عدن بعد الجلاء .
فلسطـيــن :وقد تداخلت عوامل عديدة فى تحديد موقف ثورة يوليو من القضية الفلسطينية ؛
أولها : التحديات التى تمثلها إسرائيل ، كقاعدة استعمارية على الأمن القومى المصرى ، وتقديرها أن خروج الاستعمار البريطانى والفرنسى من المنطقة يعنى إضعاف إسرائيل ، وحرمانها من مساندة القوة الاستعمارية ، مصدر قوتها الحقيقية فى المنطقة ،
وثانيها : تطور المفهوم القومى لثورة يوليو حيث تحتل القضية الفلسطينية مكان الصدارة فـى قضايـا العمل القومى ،
وثالثها : غياب مرجعية مؤسسية فلسطينية تعبر عن الشعب الفلسطينى كله منذ فشل مشروع " حكومة عموم فلسطين " ، حتى قيام منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 ، مما جعل القضية تتدرج فى كل أوسع هو العلاقات المصرية العربية .ويلاحظ بعض الباحثين ، أن فلسطين غابت عن خطابات قادة ثورة يوليو ، ومنهم جمال عبد الناصر حتى عام 1954 لتلافى استفزاز إسرائيل ، كما يلاحظ باحثون آخرون ، أن ثورة يوليو استمرت ، وحتى العام 1955 ، تتبنى السياسة المصرية السابقة ، بالإصرار على أن تتضمن أية تسوية تخلى إسرائيل عن منطقة النقب ووضعها تحت السيادة العربية ؛ المصرية أو الأردنية ضماناً لاتصال مصر بالمشرق العربى جغرافياً ، وتطبيـق قـرار الجمعيـة العامـة للأمـم المتحـدة رقم 194 لسنة 1948 الخاص باللاجئين الفلسطينيين على أساس العودة ( و / أو ) التعويض .وخلال هذه الفترة لم يكن إدراك عبد الناصر لخطر التوسع الإسرائيلى كخطر حال ، وإنما كخطر محتمل، يتم الاستعداد لمواجهته عن طريق البناء الاقتصادى والاجتماعى أولاً ، ثم بناء القدرة العسكرية ثانياً . وقد وصف عبد الناصر بنفسه رؤيتـه لهذه المسألة " كنا فى ذلك الوقت نعتبر خطر إسرائيل هـو مشكلة سباقنا مـع الـوقت لبنـاء أوطاننـا ، كنـا نعتبـر أن خطـر إسرائيل فى حقيقة أمره هو ضعف العرب ، ولولا هـذا الضعف ما قامت إسرائيل ، وما استطاعت أن تغتصب من الوطن العربى بقعة من أقدس بقاعه ، كان اعتقادنا أننا إذا استطعنا أن نبنى فى مصر هذه الأمة الكبيرة التى نحلم ببنائها فإن خطر إسرائيل يتلاشى وعنادها يلين ، وكذلك كنا فى اندفاعنا إلى بناء مصر نتصور أننا فى الوقت نفسه ندفع الخطر الإسرائيلى عن تهديدنا ، ونحول دون تثبيت أقدامه على الأرض المقدسة التى انتزعها من أرضنا " .
لكن العـدوان الإسرائيلى على غـزة فى 28 فبراير / شباط 1955 بدل رؤية عبد الناصر تماماً ، إذ أصبح يدرك أن خطر التوسع الإسرائيلى بات أمراً واقعاً يستدعى إعطاء الأولوية الأولى لبناء القدرة العسكرية . وقد ذكر فى أكتوبر 1955 ، " إن شعورى بخطورة الموقف بدأ عندما شنت إسرائيل غارتها على غزة فى 28 فبراير / شباط ، لقد قلت مراراً أنى أريد أن أبنى بلادى ، ولكنى مضطر الآن أن أولى مسئوليات الدفاع اهتماماً أكبر". وبادر عبد الناصر باللجوء إلى الكتلة الشرقية للحصول على السلاح ، بعد أن باءت كل محاولاته السابقة - لشراء أسلحة من الولايات المتحدة - بالفشل بسبب معارضة بريطانيا فى ذلك الوقت ، ورغبة دالاس فى احتواء مصر ضمن مناطق النفوذ الغربى ، وتمت أول صفقة سلاح فى الشرق الأوسط مع الكتلة الشرقية عن طريق تشكيوسلوفاكيا . ودفعت هذه التطورات وتداعياتها ؛ من رفض الولايات المتحدة تمويل السد العالى ، ورد عبد الناصر بتأميم قناة السويس، بالصراع إلى أعتاب مرحلة جديدة بلغت ذروتها بالعدوان الثلاثى عام 1956.
وإزاء الأخطـار المتزايـدة على أرض فلسطيـن المحتلة واتجاه إسرائيل للقيام بخطـوات جـديـدة فـى مجال المـوارد المائية لنهر الأردن ، بادر عبـد الناصر يوم 23 يناير 1964 بدعوة الملوك والرؤساء العرب للاجتماع بالقاهرة لدراسة الأخطار التى تهدد المصير القومى برمته ، وليس قضية فلسطين وحدها ، وتعزيز إمكانات الدفاع العربى . واستجاب الملوك والرؤساء العرب ، وتم عقد أول مؤتمر قمة عربى بالقاهرة ، وتوصل إلى إنشاء قيادة عربية موحدة ، وقيام كيان فلسطينى يتمثل فى منظمة التحرير الفلسطينى وجيش فلسطين ، ووضع مشروعات عربية للاستفادة من مياه نهر الأردن ، ووضع خطة تجميع مخصصات مالية لتسليح الأردن وسوريا ولبنان على طريق استكمال القوى الدفاعية لدول المواجهة المحيطة بإسرائيل . وتابع مؤتمرا القمة بالإسكندرية فى 5 سبتمبر / أيلول من نفس العام ، والدار البيضاء فى 13 سبتمبر / أيلول 1965 ، تنفيذ وتعميق ما تم الإنفاق عليه .لكن شهدت الساحة العربية بعد مؤتمر القمة الثالث بالدار البيضاء العديد من أوجه القصور فى النظام العربى ، وفتور العلاقات داخل التيارات القائدة للحركة القومية ، ومحاولات التشكيك فى قدرة العمل العربى الموحد على مواجهة إسرائيل وحلفائها ، وبدأ بورقيبه يطرح أنه لا سبيل لحل القضية الفلسطينية إلا بالتعاون مع إسرائيل ، والتحذير من التورط فى حرب معها ، ثم طرحت السعودية مشروع " الحلف الإسلامى " الذى أثار العديد من الخلافات والتناقضات فى الصف العربى .
وترتب على تفكك العمل العربى الموحد مرة أخرى ، أن فرض الكفاح المسلح نفسه كطريق وحيد أمام الشعب الفلسطينى فلجأ إلى العمل الفدائى ، وشهدت هذه المرحلة ظهور العديد من المنظمات الفلسطينية ، وبدأت عمليات مقاومـة مسلحة ، باشرت عملها من أراضى الأردن ، وسوريا ، ولبنان ، وقطاع غزة ، وكبدت إسرائيل فى البداية خسائر كبيرة نتيجة عنصر المفاجأة ، إلا أن هذه الخطوة أقلقت النظام الأردنى الذى اعتبرها تهديداً مباشراً لسلطاته من ناحية ، وحافزاً على تعرض أراضيه لرد الفعل الإسرائيلى الانتقامى من ناحية أخرى .أيد عبد الناصر خطوة العمل الفدائى منذ اللحظة الأولى باعتباره الرد الحاسم على محاولات إسرائيل - ومن خلفها القوى الغربية - الحد من قدرات العمل العربى الموحد ، وترجم تأييده عملياً بدعم بعض فصائل المقاومة بالسلاح والتدريب ، وسمح لهم بممارسة العمل الفدائى من مصر ، وأصدر فى الوقت نفسه تعليماته لكافة أجهزة الإعلام المصرية لمناصرة العمل الفدائى ، ودعمه إعلامياً وعربياً ودولياً ، إحياء لقضية الشعب الفلسطينى وحقه المشروع فى استعادة حقوقه المسلوبة ، ومواجهة الإجراءات القمعية الإسرائيلية التى تستهدفه.وخلال هذه الفترة بدأت الاتصالات بين منظمة فتح ، وقيادة ثورة يوليو فى ربيع 1966 ، والتقى السيد ياسر عرفات والأستاذ فتحى الديب لتنسيق الجهود فى أكتوبر 1966 ، لكن آثر الرئيس عبد الناصر ، بعد يومين من هذا اللقاء ، أن يتولى بنفسه كافة شئون العمل الفدائى الفلسطينى بما فيه منظمة فتح ، وحاول عبد الناصر توحيد صفوف فصائل المقاومة لتفادى انعكاس الخلافات العربية على فعالية عملها ، لكن حالت ضغوط الأنظمة العربية على هذه الفصائل دون نجاح هذه المساعى .
وجاءت هزيمة 1967 بنتائج بعيدة المدى، فقد أدت إلى سقوط باقى فلسطين تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلى وصار التركيز على هدف إزالة آثار العدوان ، وقبلت مصر بالقرار 242 الذى لا يشير إلى القضية الفلسطينية إلا من زاوية بعدها الإنسانى المتمثل فى اللاجئين ، وأفضى هذا إلى خلاف علنى مع منظمة التحرير ، غير أن استمرار عبد الناصر فى التأكيد على أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ، وبدء حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية ، وانطلاق عمليات المقاومة المسلحة الفلسطينية من الجبهة الأردنية ، قد ساهم فى احتواء الخلاف وتحجيمه ، لكنه تجدد مرة أخرى إثر قبول عبد الناصر لمبادرة روجرز ، ووقف إطلاق النار على الجبهة المصرية . لم تتفهم منظمة التحرير هـدف عبد الناصر من قبول وقف إطلاق النار ، لبناء حائط الصواريخ الضرورى لصد الغارات الإسرائيلية على العمق المصرى ، فصعدت هجومها العلنى على عبد الناصر ، وهو ما أدى إلى أزمة حادة نشأ عنها قيام مصر بإغلاق إذاعة صوت فلسطين من القاهرة ، واغتنم النظام الأردنى الفرصة لتصفية حساباته مع المنظمات الفلسطينية بأحداث سبتمبر أيلول 1970 .إزاء فـداحـة الخسائر التى منيت بها المقاومة ، وغزارة الدماء المراقـة ، ومخاطر هـذه المواجهـة وتداعياتها ، بـادر عبد الناصر بالدعوة إلى اجتماع قمة عربى للوصول إلى قرار جماعى يتمشى والمصلحة القومية العليا ، وهو الاجتماع الذى انتهى إلى حقن دماء المقاومة . وفاضت روح الزعيم الراحل إثر توديع آخر ضيوف هذا الاجتماع ، ليكون آخر عمل نضالى له هو الذود عن المقاومة الفلسطينية ، رغم كل الالتباسات وسوء الفهم الذى كان يخيم على موقف الفصائل الفلسطينية تجاهه .
2 - جدلية العلاقة بين التحرر الوطنى والوحدة :لا تجسد ثورة يوليو فى علاقتها بحركة التحرر الوطنى قدر ما تجسد العلاقة الجدلية بين التحرر الوطنى والوحدة ، فقد كانت مساعى العمل الوحدوى دائماً مقرونة بمقاومة الاستعمار ، وتعظيم الاستقلال الوطنى ، ودعم قدرة الأمة على النهوض .ويدور نقاش متجدد فى مصر، وعلى الساحة العربية حول مدى تجذر الفكر القومى الوحدوى فى مصر قبل الثورة، ويذهب فريق إلى أن القضية كانت موضع نقاش ، بينما يذهب فريق آخـر إلى تـأكيد تجذر هذه الفكرة ، ويقع النقاش داخل المعسكر القومى وخارجه ، ويشحذ كل فريق حججه من وقائع النضال الوطنى المصرى ، والإسهامات الفكرية للعديد من الكتاب والمفكرين ، لكن ما لا يختلف عليه النقاش هو عمق مساهمة ثورة يوليو فى العمل والفكر القوميين ، وإن اختلفت التحليلات حول بدء انطلاق الثورة فى هذا الاتجاه ، البعض يؤقته بانتهاء مصر من إزاحة مشكلة الاحتلال العسكرى البريطانى باتفاقية الجلاء عام 1954 ، والبعض يؤقته بمعركة العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 .
ويستحضر القوميون العديد من أشكال التعبير التى تعبر عن تجذر الفكر الوحدوى العربى لدى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، ويجسد هذه الاستشهادات التى يجرى الاستدلال بها بشكل جلى حديث صحفى للرئيس فى أبريل 1957 " إن القومية العربية تهدف إلى استقلال العرب وضمان حريتهم وسلامتهم ، وقد تبلورت فى ذهنى فكرة القومية العربية كمذهب سياسى عندما كنا ندرس فى كلية أركان الحرب ، المشكلات الاستراتيجية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط ، وعرفت أنه عندما كان العرب وحدة متماسكة استطاعوا رد المعتديـن على أعقـابـهم كمـا حـدث أيـام الحـروب الصليبيـة ، لكن بعد أن فرق المستعمرون بين العرب أصبحوا عرضة للهزيمة ، وفريسة للسيطرة الأجنبية ، وكانت هذه الحقبة ماثلة أمام عينى طوال المناقشات التى كانت تدور حول وسائل الدفاع عن مصر ، ولأول وهلة اتضح أن مصر مثلها فى ذلك مثل كل أجزاء الوطن العربى ، لا يمكن أن تضمن سلامتها إلا مجتمعة مع كل شقيقاتها فى العروبة فى وحدة متماسكة قوية ، إن موقع مصر الجغرافى والاستراتيجى الهام كان دائماً هو نقطة الضعف بالنسبة لها ، فبسبب هذا الموقع كانت تسيطر على طرق التجارة والمواصلات إلى الشرق ، ولنفس هذا السبب احتلها نابليون عام 1798 ، ثم بريطانيا عام 1882 ؛ لذلك كان هدفنا منذ البداية أن نجعل من هذا الضعف قوة " .فى إطار هذا المفهوم العميق للمصالح الوطنية والقومية انطلق أداء ثورة يوليو مبكراً فى دعم حركة التحرر الوطنى العربية ، وتفاعل مع حركة الجماهير العربية المتطلعة للنهوض والأمن والوحدة ، لكنه فى تفاعله هذا لم يتوقف أداء ثورة يوليو عند شكل واحد من أشكال العمل ، وبينما اجتهد للحفاظ على الهدف ، فقد تراوح بين مقتضيات وحدة الهدف ووحدة الصف .
اتجه عبد الناصر فى البداية لخلق جبهة عربية موحدة ، فقام بالدعوة لعقد مؤتمر رؤساء الحكومات العربية فى 22 يناير/ كانون ثان 1955 ، وطالب فى هذا المؤتمر بتوحيد سياسة الدول العربية الخارجية ، وتنفيذ معاهدة الدفاع المشترك عن طريق وضع خطة عربية تضمن بموجبها تنفيذ المعاهدة . وأوضح أن الخطر الحقيقى الذى يهدد الدول العربية هو إسرائيل ، وأن مهمة العرب هى أن يخططوا سوياً لدرء العدوان الإسرائيلى ، لكن لم يستطع المؤتمر أن يصل إلى نتيجة بسبب إصرار نورى السعيد فى ذلك الوقت على الانضمام لحلف بغداد على نحو ما سبقت الإشارة إليه .وإزاء فشل القيام بعمل جماعى عربى فى هذا المؤتمر ، بدأت مصر تجربة جديدة فى العمل الموحد عن طريق الاتفاقيات الثنائية ، فوقعت اتفاقاً عسكرياً مع سوريا فى 20أكتوبر / تشرين أول 1955 ، سرعان ما انضمت إليه السعودية بعد أسبوع واحد ، وتقرر تشكيل قيادة عربية موحدة ، كما تم توقيع ميثاق عسكرى بين مصر واليمن والسعودية فى 27 أبريل / نيسان 1956 ، وفى 23أكتوبر / تشرين أول 1956 انضمت الأردن إلى هذه الاتفاقية ، بعد أن تخلص الملك حسين من القيادة العسكرية البريطانية ممثلة فى جلوب باشا . وهكذا أصبحت مصر طرفاً فى اتفاقيات عسكرية مع سوريا والسعودية واليمن والأردن ، وقد أطلق بن جوريون على هذه الاتفاقيات وصف " الطوق الحديدى " ، وأعلن أنه على إسرائيل أن تحطمه ، وكان ذلك من الأسباب الرئيسية التى دفعت بن جوريون إلى التواطؤ مع بريطانيا وفرنسا فى العدوان الثلاثى على مصر .
وما أن بدأت التهديدات البريطانية لمصر ، حتى بدأت الشعوب العربية فى التحرك لمؤازرتها مصر ، وتنادت القوى الوطنية فى كل مكان للوقوف بجانب مصر ، وعندما بدأ العدوان بالفعل ، تم نسف محطات ضخ البترول فى الأنـابيب التى تعبر سوريا وتنقل بترول العراق إلى البحر المتوسط ، وكان أحد المصادر الرئيسية لتزويد بريطانيا بالبترول ، وتقدم عشرات الألوف من المواطنين العرب بطلبات للتطوع دفاعاً عن مصر ، خاصة بعد أن ذاعت أخبار المقاومة الباسلة للعدوان فى منطقة القنال . وانتهى العدوان ، الذى أريد به إلحاق الهزيمة بعبـد الناصر وسياستـه التحرريـة فى المنطقـة بهزيمـة المعتديـن ، وأعلـن عبـد الناصر إلغاء اتفاقية الجلاء ، وأمم البنوك والشركات البريطانية والفرنسية ، وقام الملك حسين بخطوة حاسمة فألغى الاتفاق الأردنى / البريطانى فى 13مارس / آزار 1957 ، وقامت ثورة العراق فى السنة التالية فأنهت حلف بغداد، فخسرت بريطانيا قواعدها فى المنطقة .لكن سرعان ما بدأت القوى الاستعمارية مؤامرة جديدة ضد سوريا ، فدفعت الولايـات المتحدة تركيا للتحـرش بسوريـا ، فحشـدت قواتها على الحدود السورية فـى سبتمبر / أيلول 1957 ، وفى مواجهة هذا التحدى اتخذ عبد الناصر قراراً تاريخياً بإرسال قـوات مصرية لتشارك الجيش السورى فى الدفاع عن الحدود السورية ، ووصلت القوات المصرية يوم 13 أكتوبر / تشرين أول إلى اللاذقية ، وأدى صمود الشعب السورى ، والمساندة العملية من مصر ، ووقوف الدول العربية بجانب سوريا إلى أن تعيد الولايات المتحدة وتركيا حساباتهما ، وكان لذلك أثره الحاسم على زوال التهديد الذى تعرضت له سوريـا . كانت الأحـداث والمخاطر التى تعرضت لها كل من مصر وسوريا ، ومساندة كل بلد للآخر ، واتباعها سياسة خارجية وعربية موحدة أكبر دافع للتفكير الجدى لإبرام الوحدة .. وجاءت الوحدة .وتتوقف أدبيات الفكر القومى عند حدث الوحدة، على نحو لا يضاهيه أى حدث آخر فى هذه الحقبة ، وقد عبر عن ذلك أحد المفكرين القوميين بإيجاز بليغ : " منذ أن قامت تجربة الوحدة الأولى ، أصبح للصراع السياسى منطق جديد ، فرضت عليه جدلية الوحدة والانفصال ، هذه الجدلية أصبحت المقياس الأساسى والأعلى لتقويم الأفكار والأيديولوجيات ، مواقف الزعماء والحكام والدول والأحزاب ، بالنسبة له وحده تقاس التقويمات الأخرى ، الاستقلال والتبعية ، الوطنية والخيانة ، العدالة الاجتماعية والطبقية ، التقدم والتخلف ، فالمفهوم الوحدوى أصبح نظام الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية " .
ورغم أن الوحدة لم تعمر طويلاً تحت ضغط القوى الانفصالية فى الداخل ، التى نجحت فى استثمار وتوظيف بعض الأخطاء وأوجه القصور التى اعترت التجربة ، وكذلك الضغوط الاستعمارية من الخارج التى أقلقتها هذه العملية ، بما أفضى إلى انقلاب الانفصال فى سبتمبر 1961 ، فقد ظلت فكرة الوحدة قوة محركة للأحداث ، ليس فقط للقوى القومية الوحدوية ، ولكن أيضاً من جانب قوى أخرى عديدة ، رفعت الشعار لتوطيد مكانتها لدى الرأى العام ، وهكذا ما أن وقع انقلاب 14 رمضان فى العراق ( 8 فبراير 1963 ) فى إطار تحالف البعثيين ، وحركة القوميين العرب ، والناصرين المستقلين ، والذى أطاح بعبد الكريم قاسم ، وبعده بشهر واحد انقلاب 8 مارس / آزار فى سوريا فى إطار تحالف البعثيين والناصريين ، سرعان ما جدد النظامان الجديدان دعوتهما للوحدة مع مصر . وشهدت القاهرة خلال شهرى مارس وإبريل 1963 ، اتصالات واسعة لاقامة وحدة ثلاثية بين مصر وسوريا والعراق .رشدت خبرة تجربة الوحدة المصرية / السورية والانفصال - إلى حد ما - مسار المفاوضات ، وتمت فى إطار نقد موضوعى واسع لتجربة الوحدة المصرية / السورية ، ونقاش متأن لأبعاد المشروع الجديد ، وأخذت بالأسلوب الاتحادى - الفيدرالى - بدلاً من أسلوب الاندماج فى دولة بسيطة ، لكن أجهض مشروع الوحـدة الثلاثية بعد أيام قليلة من إعلانه ؛ نتيجة الصراعات الداخلية بين القـوى المتحالفة فى النظامين السورى والعراقى ، بينما أدى نجاح عبد السلام عارف فى حسم الصراع على السلطة لصالحه فى نوفمبر 1963 إلى مبادرته مجدداً لعقد اتفاق وحدة بين مصر والعراق ، وأدى ذلك إلى توقيع اتفاق جديد يوم 26 مايو / آيار 1964 ، نص على تشكيل مجلس رئاسة مشترك بين البلدين ، وتشكيل أمانة عامة ، انكبت على إعداد دراسات مفصلة لتوحيد البلدين .وباشرت القيادة الموحدة أول اجتماعاتها فى القاهرة فى مايو / آيار 1965 ، لكن التجربة لم تستمر طويلاً ، حيث لقى الرئيس عبد السلام عارف مصرعـه فى حـادث طائـرة فى أبـريـل 1966 ، وأطـاح انقـلاب بعثى فى 17 يوليو / تموز 1966 بشقيقه عبد الرحمن عارف الذى تولى السلطة من بعده ، وخاض القادة البعثيون سلسلة من التصفيات الدموية حتى آلت السلطة للرئيس صدام حسين .3- جدلية العلاقة بين التحرر الوطنى والتنمية :لم تكن مفاهيم التنمية المستقلة على النحو المتعارف عليه الآن قد برزت بعد عندما قامت ثورة يوليو ، لكن الثورة مارستها أحيانا تحت اسم الاستقلال الوطنى ، أو التحرر الوطنى ، وأحياناً أخرى تحت اسم مكافحة الاستعمار ، أو الاستعمار الجديد بكافة أشكاله .
ويذهب بعض المفكرين إلى أن العناصر التى تبلورت فيما بعد كمقومات أساسية لمفهوم التنمية المستقلة ؛ مثل القضاء على أوضاع التبعية الاقتصادية ، والاعتماد على النفس ، والترابط بين البلدان النامية لتحقيق التنمية وهيكلة الإنتاج على نحو يحقق أبعد مدى من إشباع الحاجات الأساسية للجماهير ، وتوزيع الدخل بما يتيح نصيبا كبيراً ومتزايدا للفئات التى عانت أكثر من غيرها من الحرمان والفقر ، كانت تمثل مرتكزات التنمية فى ثورة يوليو ، ويؤكد أحد هؤلاء المفكرين ، " أن ثورة يوليو / تموز كانت من أول الأنظمة الاقتصادية التى ظهرت فى عالم ما بعد الحرب الثانية ، والتى اتخذت توجهات وممارسات سياسية تترجم إلى درجة كبيرة هذه النقاط " .وتحفل أدبيات الفكر القومى بالعديد من الدراسات المفصلة عن أداء الثورة فى مجال التنمية المستقلة ، فى الفكر والممارسة ، وتعكس هذه الأدبيات العديد من المعارك الضارية التى خاضتها ثورة يوليو على طريق التنمية المستقلة ، لكن تركز هذه الأدبيات على أداء الثورة داخل مصر ، ولم يحظ البعد القومى فى معركة التنمية التى خاضتها ثورة يوليو بذات القدر من الاهتمام .وتعكس مناقشات ندوة مهمة عقدت فى القاهرة عام 1986 ، وضمت نخبة واسعة من قيادات الحـركة القومية " الناصرية " من مختلف الساحات العربية ؛ عدة إشكاليات لازالت تحدد أبعاد الجدل المطروح حول هذه القضية. فعندما انتقد بعض المشاركين غياب البعد القومى فى البحوث والدراسات التى تناولتها هذه الندوة عن أداء ثورة يوليو فى مجال التنمية ، علل أحد المفكرين الاقتصاديين المشاركين ذلك بأن خبرة هذه التجربة لم تأت بعائد يذكر ، ودلل على ذلك بأن حجم التجارة البينية بين البلدان العربية كان يمثل 9% فى بداية ثورة يوليو ، وبقى كذلك حتى رحيل عبد الناصر ، ومضى أبعد من ذلك بأن أعرب عن عدم اقتناعه بفكرة تأثير النموذج . وطرح مفكر اقتصادى آخر مفهوم عبد الناصر للتنسيق الصناعى بين البلدان العربية عبر تجربة عملية خلال العام 1964 ، إذ بيّن أنه عندما كان وزيراً للصناعة فى العراق ، علم بأن مشروعاً صناعياً مصرياً يجرى الأعداد لتنفيذه مع وجود مثيله فى العراق وبطاقة إنتاجية فائقة . فقد طرح على الزعيم الراحل تصوره للتكامل الصناعى بين مصر والعراق من منطلق مبدأ تقسيم العمل العربى ، والميزات النسبية فى توطين الصناعات العربية وفقاً للأدبيات الغربية .
لكن كان رأى عبد الناصر " أن مفهوم التصنيع يتجاوز الجانب الفنى والإنتاجى ، لأنها عملية تنموية أشمل لاكتساب المعرفة والتكنولوجيا ، وبناء الكوادر ، وتعزيز القدرة الذاتية ، وتحصين الاقتصاد ، وتوسيع قاعدته الإنتـاجية ، وتحسين الـوضع الاقتصادى ، إلى جانـب أبعـادها الاجتمـاعيـة والاقتصادية الأخرى ، وأن التكامل القومى فى هذه المرحلة لا يؤثر على التطبيق العشوائى لمبدأ تقسيم العمل العربى ، بل يتجاوز ذلك إلى تكامل عناصر الإنتاج العربية ، وتضافر الجهود العربية وإسهامها المشترك فى عملية التنمية ، وبحكم الهاجس الأمنى ، واحتمالات الخلافات السياسية ، فمن المفضل أن تنتشر الجزر الصناعية فى الأقطار العربية ، ضمن معايير اقتصادية واجتماعية وسياسية محددة ، بدلاً من تركيزها فى مجتمعات صناعية قد تتعرض للاختراق الأمنى والخلاف السياسى . والمهم أن نسعى لعدم التنافس بين هذه الصناعات ، بل العمل على تكاملها والتنسيق بينها ".
فى كل الأحوال أكد العديد من المفكرين الاقتصاديين القوميين على تأثير النموذج التنموى لثورة يوليو ، وأبرزوا تأثيرات ثورة يوليو فى إثارة الاهتمام بالقضية الاجتماعية على الساحة العربية ، والبعد الاجتماعى للتنمية ، ومسألـة عـدالة التوزيـع ، والتـى ظهرت بشكل محدد فى إقدام عدد من الأقطار العربية على الإصلاح الزراعى ، وتصفية الإقطاع ، والتصنيع ، والسيطرة علـى قطـاع التمويـل مـن بنـوك وشركات تأمين ، ومشاركة العمال فى الإدارة والأرباح ، وغير ذلك ، وذكر" إن كثيراً مما تم فى الأقطار العربية فى هذه المجالات ؛ ماكان ليحدث فى الوقت الذى حدث فيه لولا التجربة الناصرية " .
والواقع أن البعد القومى فى أداء ثورة يوليو تجاه التنمية لم يحظ بقدر كاف من التمحيص والتقييم . وهو لا يتوقف عند فكرة " إشعاع النموذج " ، ولكن يتخطاه إلى تفاعل أكثر عمقا . لكن المشكلة أن النماذج الأساسية لهذه الخبرة ، ما نجح منها وما أخفق ، كان يجرى توظيفها فى تحليلات تتعلق بموضوعات هى بطبيعتها أكثر جذبا للاهتمام داخل معسكر القوميين ، وبين خصومهم ، بينما كان نصيب هذه الخبرة يتوقف عند بعض الباحثين عند الاستخلاصات فحسب .من بين النماذج الناجحة التى يندر الحديث بشأنها اتفاقية مياه النيل بين مصر والسودان ، وقد نجحت هذه الاتفاقية التى نظمت الاستفادة بمياه النيل بين مصر والسودان فى أن تجعل البلدين طرفاً واحداً مقابل باقى الأطراف ، فى خطوة ذات أهمية بالغة للطرفين ، ترقى إلى مصاف أهم إنجازات ثورة يوليو فى واجباتها تجاه التنمية فى مصر ، وحماية مصالح مصر والسودان فى مياه النيل ، وفى تكامل التنمية بين البلدين .
أما النموذج الثانى الذى أستشهد بـه فى هـذا المجال ، وإن كانت القوى الاستعمارية قد نجحت فى إعاقته ، فهو تحويل مجرى نهر الأردن ؛ فرغم الانقسامات الحادة التى كانت سائدة على الساحة العربية من جراء نتائج الانفصال ، ومساندة مصر العسكرية لثورة اليمن ، فلم تتخلف ثورة يوليو عن التحرك من أجل حشد الجهد العربى لمواجهة هذا الخطر ، والحفاظ على الثروة المائية العربية من أجل التنمية . وإذا كان الباحثون عادة ما يدرجون هذه الخطوة المهمة فى إطـار قضايـا الصراع العربى / الصهيونى ، فإن هذا لا يخفى البعد القومى الذى تمثله فى أداء ثورة يوليو تجاه التنمية.لم يكن البعد القومى فى أداء ثورة يوليو تجاه التنمية شأناً عارضاً ، بل كان مفهوماً راسخاً ، فقد كان هناك اقتناع بـأن مصر بكل طاقاتهـا وإمكاناتها لا يمكنهـا وحـدهـا ، كما لا يمكـن لأى بلـد نام صغير ، أن يحقـق وحـده كل مـا تستهدفه من سياسة التحرر الوطنى ، ومن ثم ضرورة التعاون مع بلدان العالم الثالث لتحقيق استقلالها الوطنى ، بما فى ذلك تحقيق التنمية الاقتصادية فيها ، وأظهرت منذ نهاية الخمسينات اهتماماً عميقاً بالتعاون مع دول العالم الثالث ، بما فيها البلدان العربية ، وأسهمت فى تحقيق التحرر الاقتصادى ومواجهة الضغوط الخارجية . ويذكر محمد فائق تجربة ذات دلالة فى هذا الشأن ، عندما تعرضت حكومة الصومال لنوع من الضغط نتيجة اتجاه الحكومة إلى سياسية أكثر ارتباطا بحركة التحرر الوطنى ، إذ امتنعت إيطاليا عن شراء الموز الذى كان يمثل المحصول الرئيسى للبلاد ، وجاء رئيس الـوزراء عبـد الـرشيـد شيـرمـاركى إلى القاهـرة وعـرض المشكلة ، فقـرر عبد الناصر شراء كل محصول الصومال من الموز وطرحه للاستهلاك المحلى فى الأسواق المصرية ، وتصدير محصول الموز المصرى .
كان عبد الناصر يعلم أن وقوف مصر مع الصومال سوف يساعدها على المقاومة، وكان يعلم أيضاً أن هذه الصفقة لن تتم لأن الشركات الإيطالية لن تسمح بأن تحل مصر محلها ، وبعد 24 ساعة من إعلان هذا القرار أعلنت إيطاليا استعدادها لشراء محصول الموز الصومالى كله ، وباعته الصومال هذا العام بسعر يزيد عـن الأعـوام السابقة ، وهكذا لم تكن معركة التنمية المستقلة داخل مصر فقط، وإنما كان عبد الناصر يريد أن يعزز هذه الفكرة بشكل عملى فى الدول حديثة الاستقلال ، باعتبار أن ذلك هو الذى يؤكد استقلال القـرار .
ورغم تقدير ثورة يوليو لظروف العمل بالجامعة العربية فقد ظلت تعتبرها إحدى الساحات المهمة للتحرك ، ونجحت فى إنجاز العديد من الاتفاقيات الجماعية العربية ، أفضت إلى تغيير واقعى فى ميثاق الجامعة العربية ؛ لتحقيق التعاون والدعوة لهدف التكامل والوحدة فى المجالات الاقتصادية والثقافية . وبلورت الجامعة خلال هذه الفترة مفاهيم وقيم قومية مهمة للاعتماد الجماعى على الذات ، ورسخت قواعد للسلوك القومى كمبدأ التكامل القومى ، ومنحت المعاملة التفضيلية لعناصر الإنتاج والسلع العربيـة ، وطرحت الدعوة لتنويع العلاقـات الاقتصاديـة مـع العـالم الخـارجى وتكافؤها ، واستثمار المصالح الاقتصادية وتوظيفها ، ولا يقلل من شأن هذا الجهد تواضع حصيلته .
ثانياً : نمط التحالفات والتفاعلات :لا يكتمل تحليل أداء ثورة يوليو فى علاقتها بحركة التحرر الوطنى إلا بفحص علاقتها مع أطراف حركة التحرر الوطنى العربية والعالمية ، وتفاعلاتها معها ، ونمط علاقتها مع مختلف القوى الفاعلة .والواقع أنه كان هناك أكثر من مستوى من التفاعلات ، وتأثرت علاقة ثورة يوليو مع أطراف حركة التحرر الوطنى العربية والعالمية بشدة بأسبقيات العمل الوطنى والقومى ، ولم تتطابق هذه المستويات بالضرورة فى مختلف مراحل علاقات ثورة يوليو بحركة التحرر الوطنى ، كما تميز نمط هذه التفاعلات من ساحة إلى أخرى . وبرز من بينها نمط خاص بالتفاعل على الساحة العربية ، وتذهب هذه الورقة إلى أن هناك عاملان حاكمان أثرا فى علاقة الثورة بقوى التحرر الوطنى العربية أكثر من غيرهما ، وهما : نمط تفاعل الثورة مع القوى السياسية على الساحة الوطنية، وتطور أيديولوجية ثورة يوليو ومفهومها للتحرر الوطنى .
1- ثورة يوليو وحركة التحرر الوطنى العربية :كان نمط تفاعل الثورة مع القوى السياسية على الساحة الوطنية ذو تأثير بالغ على طبيعة علاقاتها بأطراف حركة التحرر الوطنى العربية، فعندما أقدمت الثورة على إلغاء الأحزاب والحزبية فى مصر وتكوين هيئة التحرير ؛ اعتبرت الأحزاب العربية أن هذا العمل يمثل تهديدا خطيراً لكيان الحزبية فى الوطن العربى ، ثم بدأت بوادر تحالفات حزبية ، وبدأ بعضها يهاجم ثورة يوليو / تموز .لم تتفهم الأحزاب التقدمية والقومية خلفية الأحداث التى أدت إلى إلغاء الحزبية فى مصر، واعتبرت تلك الخطوة ضربة موجهة للحزبية بكل فئاتها وتنظيماتها، ولذلك اتخذت منها فى البداية موقفا عدائيا ، وهاجمتها فى صحافتها ، وإن كانت الاتصالات التى باشرتها ثورة يوليو / تموز مع هذه الأحزاب ، خاصة حزب الشعب وفروعه ، والحزب العربى الاشتراكى بقيادة الحورانى ، والتقدمى الاشتراكى بلبنان بقيادة كمال جنبلاط ، وإيضاح حقيقة أهداف ومبادئ ثورة يوليو ونواياها ، حولت موقف هذه الأحزاب من الهجوم إلى الترقب ، فى انتظـار مـا سوف تقـدم عليـه ثـورة يوليو مـن خطوات جديدة وبالذات على المسرح العربى .من ناحية أخرى اتخذت تجمعات حركة الإخوان المسلمين بالوطن العـربى موقـف التأييـد للثـورة فـى البدايـة ، امتـداداً لموقـف قيـادة الحـركة فـى مصر ، لكن تأثر موقفها بشدة بعد صدام الثورة مع قادة حركة الإخوان فى مصر .
أمـا التجمعات الشيوعية ، فقد اتخذت موقفاً عدائياً من الثورة فى بدايتها ، خاصة بعد وضوح رفض قيادة ثورة يوليو لأى نشاط شيوعى علنى ، وتضييق الخناق على النشاط السرى نفسه ، استناداً إلى أن ما أعلنته الثورة ، وما أقدمت عليه من خطوات يتعدى ما رفعته الحركة الشيوعية فى مصر من شعارات ، وانطلاقاً من الارتباطات الدولية للحركة الشيوعية ، وتناقضها مع الدين الإسلامى ، ومن ثم بدأت كل الأحزاب الشيوعية على امتداد الساحة العربية تهاجم ثورة يوليو وتصفها بالدكتاتورية .وقد تفاقمت أزمة العلاقة بين ثورة يوليو والأحزاب الشيوعية بقيام الوحدة المصرية / السورية عام 1958،
أولاً : بموقف الحزب الشيوعى السورى ، والذى وقف صراحة ضد قيام الوحدة ، وهرب زعيمه من سوريا ، وانخرط فى حرب ضروس ضد الوحدة،
وثانياً : بموقف الحزب الشيوعى العراقى ، بعد ثورة 14 يوليو / تموز ودوره فى الإطاحة بالتيار القومى بقيادة عبد السلام عارف ، ومن ثم الحيلولة دون انضمام العراق لدولة الوحدة ، وقطع العلاقات مع الجمهورية العربية المتحدة فى مارس 1959 ، والقطيعة بين الطرفين .لكن الجدير بالذكر أن الحزب الشيوعى المصرى خرج لفترة من الفترات على هذا الاتجاه ، إثر اجتماع عقدته كل التنظيمات الشيوعية المصرية سراً تحت رعاية الحزب الشيوعى الإيطالى، وخرجت بتحليل إيجابى صدر فى منشور بتوقيع سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعى المصرى ، عبر عن رؤيته للقومية العربية كحركة وطنية معادية للاستعمار ، واختلافه مع رؤية الحزب الشيوعى السورى لها كتعبير عن مطامع حركة بورجوازية نامية نحو أسواق جديدة . لكن هذا الموقف المستقل لم يستمر طويلاً ، فما لبث أن عاد الحزب فى خريف سنة 1958 إلى صف الأحزاب الشيوعية العربية التى كانت تخوض حربها ضد دولة الوحدة تحت زعامة خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعى السورى.
وقـد انعكس النـزاع بيـن الشيوعيين وثـورة يـوليو علـى العلاقات بين الاتحـاد السوفييتـى ومصر ، خاصـة بعـد أن أظهـر الاتحـاد السوفييتى دعمـه للأحزاب الشيوعية العربية خـلال المؤتمر الحـادى والعشرين للحزب الشيوعى السوفييتى فى فبرايـر 1959، وتفاقم أعمال القمع والبطش التى شارك فيها الشيوعيون ضد القوميين فى العراق ، خاصة فى سحق تمرد قوات " عبـد الـوهاب الشواف " فى الموصـل فـى مـارس / آزار 1959 ، فتحـدث عبد الناصر عن الإرهاب الشيوعى فى بغداد ضد القوميين العرب ، ووصف الشيوعيين لأول مرة " بالعمالة " للأجنبى . ورد خرشوف بانتقاد القومية العربية وسياسية عبد الناصر ، وشهدت الساحة مشادة عقائدية مثيرة أظهر خلالها عبد الناصر بحسم أنه يرفض سيطرة الاتحاد السوفييتى بقدر ما يسعى لصداقته .
الملفت أن قرارات يوليو 1961 الإشتراكية ، لقيت بالمثل حملة انتقادات من جانب الأحزاب الشيوعية العربية ، فقد هاجمت هذه القرارات فى صحفها ومنشوراتها ، وانتقلت حملة الهجوم بعد ذلك إلى صحف وإذاعات الاتحاد السوفييتى ، وكان مجمل رأى الشيوعيين أن القرارات الاشتراكية هى لصالح الطبقة المتوسطة ، وأنها تكرس رأسمالية الدولة ، ولا يحقق سيطرة البروليتاريا على وسائـل الإنتـاج ، وأنها قصـدت تخفيف الضغط على الطبقات المستغلة ، وليس لتصفية هذه الطبقات .
لكن ساهمت فيما بعد عدة عوامل فى فض الاشتراك بين الأحزاب الشيوعية وثـورة يوليو ، كان فى مقدمتهـا تعمق الممارسات الاشتراكية فى مصـر ، وتطـور الأوضـاع فـى العـراق وسوريـا ، ومـراجعـة الاتحاد السوفييتـى لسياسة الربط بين علاقاته بثورة يوليو ، وعلاقة الأخيرة بالتنظيمات الشيوعية بعـد اجتمـاع الحـزب الشيـوعى السوفييتـى فى مايو / آيـار 1963 ، وزيـارة الزعيم السوفييتى خروشوف لمصر فى شهر مايو / آيار 1964 .لكن يظل المثير للجدل هو علاقة ثورة يوليو بالأحزاب القومية على الساحة العربية ، وخاصة تنظيمى حزب البعث العربى الاشتراكى ، وحركة القوميين العرب ، واللذان كانا يتقاسمان مع ثورة يوليو أيديولوجية قومية وحدوية .كان حزب البعث قد آخذ فى توطيد نفوذه السياسى فى سوريا ، وحصل فى الانتخابات البرلمانية التى تمت فى سبتمبر 1954 على 22 مقعداً مـن مجمـوع المقـاعـد البالغـة 123 مقعـداً ، مقارنـة بمقعـد واحد من بين 114 مقعداً فى العام 1949 ، كما كان نفوذه داخل الدولة يفوق كثيرا قوته الانتخابية ، خاصة داخل الجيش ، وساهم الضباط البعثيون فى إسقاط حكم أديب الشيشكلى عام 1954 ، وإعادة الحياة النيابية للبلاد ، وكان زعماء البعث هم الذين تقدموا فى البرلمـان السورى بالبيانـات والقـرارات التى تمهد السبيل إلى الوحدة ، كما ساهموا فى مبادرة قادة الجيش التى جسدت الإجراءات العملية لإنجاز الوحدة . ومع ذلك لم تصمد تجربة التحالف بين الجانبين ، وتحولت إلى شقاق كان بمثابة أحد التصدعات المؤثرة فى انفصام عرى الوحدة فيما بعد .كان للخلاف أسبابه الموضوعية بدءاً من اختلاف أسبقيات العمل الوطنى فى أيديولوجية كلا الطرفين ، إلى رؤية كل منهما لنمط التنظيم السياسى الواجب ، إلى دور القوات المسلحة فى العمل الوطنى ، وغير ذلك من أسباب ، يبرز من بينها سببان :
– حل الأحزاب : وقد نجم عن هذا الأمر توترات فى العلاقات بين القيادات المصرية والسورية ، كما أفضى بشكل خاص إلى توتر داخل صفوف البعث ذاته ؛ إذ برز اعتراض واسع لدى شباب البعث ؛ من عسكريين ومدنيين ، على قرار القيادة بحل الحزب .
– إبعاد الضباط الكبار المسيسين عن الجيش السورى تدريجياً عبر تسليمهم مناصب مـدنيـة ودبلوماسية ، أوعبر نقل العديد من صغارهم إلى مصر ، وكان أبرزهم الضباط البعثيين من ذوى الرتب الصغيرة ، الذين سيلعبون فيما بعد دوراً مهما فى حكم سوريا بعد الثامن من مارس / آزار ، ومن بينهم الضابط الطيار آنذاك ، ورئيس الجمهورية فيما بعد ، الرئيس حافظ الأسد .
لكن كان للخلاف أسبابه التنافسية أيضاً ، سواء بين أجنحة الحزب ، أو فى علاقته بثورة يوليو ، خاصة مع الإحباط الذى شعر به الحزب نتيجة تأثر دوره على الساحة التى كان يفترض أن تكون ميدان عمله الرئيسى ، أى دولة الوحدة ، والذى عبرت عنه انتخابات الاتحاد القومى فى منتصف العام 1959 ، ففى هذه الانتخابات التى جرت فى شهر يوليو 1959 كان مائتان فقط مـن بين المنتخبين البالغ عـددهـم 9445 أعضـاء فـى الحـزب ، أى أنـه لم يحـز إلا علـى 2% فقـط مقابـل 15% حـاز عليها فى الانتخابات البرلمانية عام 1954 .كذلك تظل علاقة ثـورة يوليو بحركة القوميين العـرب مثار جدل مماثل ، فعندمـا شرعت ثورة يوليو فى مساندة الحركة الوطنية فى جنوب اليمن ، كان يعمل على الساحة تنظيمان أساسيان فى مجال المقاومة هما : الجبهة القومية التى كانت قد تأسست كفرع لحركة القوميين العرب على نحو ما سبقت الإشارة ، ومنظمة تحرير جنوب اليمن المحتل الأكثر اعتدالاً والتى أنشئت فى فبراير / شباط 1965 ، وقد لعبت مصر دوراً أساسيا فى توحيد التنظيمين فى يناير / كانـون الثـانى 1966 تحت اسم جبهة تحرير جنوب اليمـن المحتـل ، وجـاء هـذا التوحيد على غيـر رغبـة القيـادات الميدانية للجبهة القومية التى لم تكن ترحب بالاتحاد مع منظمة التحرير لاتجاهاتها المعتدلة .وقـد اتسمت العلاقات التنظيمية داخل جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل بحالة من التوتر الدائم ، وانتهت بانسحاب الجبهة القومية منها فى ديسمبر / كانون أول 1966 ، وفسرت قرارها هذا بعدم قدرة الجبهة على أن تكون إطاراً صحيحا للقوى الوطنية ، وأداة ثورية لمجابهة مخططات العدو ، بل أدت إلى شل فاعلية الطرف القادر على التحرك والمواجهة بما أوجدته من مشاكل .وتذهب التحليلات إلى إظهار عدة أسباب للخلاف بين مصر والجبهة القومية ، أهمها توقيع مصر والسعودية اتفاقية جدة عام 1965 ، وظهور تطور ذاتى فى الجبهة باتجاه اليسار ، دعم من بوادر الخط الاستقلالى الذى كانت قد بدأت تتبعه تجاه مصر . وكان هذا هو الحد الفاصل فى علاقة مصر بالجبهة القومية ، ومنذ ذلك التاريخ شجعت مصر تكوين جناح عسكرى خاص بجبهة التحرير وأعطته دعمها الكامل .
على أى حال ، فقد اقترنت هذه العلاقات السلبية فى علاقة ثورة يوليو بالأحزاب والحزبية بظاهرتين آخرتين ، مثلتا مصدر قوة وضعف فى آن واحد لثورة يوليو فى علاقتها بأطراف حركة التحرر الوطنى العربية.
أولهما : هى تطلع التنظيمات السرية الوطنية والقومية داخل الجيوش العربية لقيادة ثورة يوليو / تموز ، فى إطار التفاعل حول أُطروحات الثورة القومية ، وتأسياً بالنموذج ، وأجرى قادة هذه المنظمات اتصالات بقيادة ثورة يوليو ، تفاعلت قيادة الثورة مع كثير منها ودعمتها .
وثانيهما : هى علاقة جمال عبد الناصر المباشرة بالجماهير ، والتى تجاوزت المؤسسات الحكومية والأطر الحزبية بفعل حركة المد القومى الذى ألهبتـه ثـورة يـوليو ، والشخصيـة الكاريـزمية للـزعيم الـراحل ، والتى بلغـت " درجة من المتانة جعلتها قوة محركة للأحداث ، ومؤسسة بذاتها لا تمر بحاكم ، ويحسب لها كل حاكم ألف حساب ، وكأنها بالنفس الشعبى الذى فيها ، وبالالتزام المتبادل بين عبد الناصر والمواطن العربى البسيط طراز خاص من العلاقة ، والدليل الأبرز عليها عدم فصل الواحد عن الآخر فى الهزائم والنكسات ، وخيار البقاء معاً فى المركب نفسه فى كل الظروف وحتى آخر الدرب ... " .
أما مصدر القوة فى هاتين الظاهرتين فهى أنهما عوضتا أوجه القصور فى علاقة ثورة يوليو بالأحزاب السياسية العربية، بل وعوضتا أيضاً عدم وجود حزب للثورة ، وهشاشة هيئة التحرير ثم الاتحاد القومى ، واعتماد الثورة على الأجهزة فى إدارة علاقاتها السياسية العربية ، وقد أدى ذلك إلى تسريع وتيرة التغيير فى العديد من الساحات العربية . أما مصدر الضعف فيها، فكان عدم تجذر هذه الإنجازات ، وسرعة التقلبات التى أحاطت ببعض جوانبها ، مما أثر على اطرادها ونموها . أما العامل الثانى الحاكم فى علاقة ثورة يوليو بحركة التحرر الوطنى العربية ؛ فهو تطور أيديولوجية ثورة يوليو ، وتظهر الدراسات ترابطاً واضحاً بين تطور أيديولوجية ثورة يوليو ، وتفاعلاتها على الساحة العربية .
ففى البداية تعاملت الثورة مع العرب ككل لا يتجزأ ، يشاركون فى الكفاح ضد الاستعمار ، لكن واجهت الثورة - اعتباراً من العام 1957 - واقع انقسام العرب من حيث نظمهم القطرية بين " محافظين " و " تقدميين " ، وتعمق هذا الفهم خاصة بعد انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة ، والقرارات الاشتراكية للثورة عام 1961 . وانعكس على ممارستها القومية ؛ فانتقلت إلى صيغة الترابط والتزامن بين اعتبارات الثورة السياسية ، واعتبارات الثورة الاجتماعية . ودعا " الميثاق الوطنى " فى العام 1962 إلى نبذ الشعار الذى جرى تحته مرحلة سابقة من النضال الوطنى ، هى مرحلة الثورة السياسية ضد الاستعمار ، وضرب الاستعمار والرجعية معاً ، بل وظهر بعد ذلك فى الخطاب الناصرى أسبقية الثورة الاجتماعية على هدف الاستقلال ، على الأقل فى مواجهة إسرائيل ، إذ رفض عبد الناصر فى خطبه مقولة أن المواجهة مع إسرائيل هى مواجهة بينها وبين كل العرب ، وأكد أنها مواجهة بينها وبين العرب التقدميين ، تقف فيها الرجعية العربية فى الموقع نفسه مع إسرائيل ، وبالتالى فإن العرب لن يكون بمقدورهم تحرير فلسطين إلا بعد تخليص جبهاتهم الداخلية من الرجعية المتآمرة مع الصهيونية والاستعمار الحليف الطبيعى لهما .غير أنه سرعان ما تم التخلى عن هذه الصيغة ، بل وعن صيغة التزامن بين الثورتين السياسية والاجتماعية بعد بروز الخطر الإسرائيلى على نهر الأردن فى العام 1963 ، وترجم هذا سياسياً فى دبلوماسية مؤتمرات القمة عام 1964 بصفة خاصة ، ثم عاد النشاط المعادى لثورة يوليو فى عام 1965 وبداية 1966 ، ليرد ثـورة يوليو إلى صيغة التزامن .
وبعد ذلك جاءت هزيمة يونيو / حزيران 1967 ، لتجبر الثورة مرة أخرى على التركيز على هدف الاستقلال الوطنى ، وتجسد فى هذه المرحلة فى هدف إزالة آثار العدوان (33) .يرجع د. أحمد يوسف أحمد (34) ، هذا التذبذب فى ترتيب أولويات أهداف ثورة يوليو إلى العديد من العوامل ، أبرزها عاملين :
أولهما : فكرى ينصرف إلى احتمال أن يكون العنصر الغالب فى فكر عبد الناصر نظرته إلى العرب بكل قواهم كأمة واحدة تواجه أخطاراً مشتركة ، تستدعى من ثم التصدى الجماعى لها ، وهو ما فرض بوضوح الصيغة الأولى ؛ أى هدف إعلاء الاستقلال الوطنى على الثورة الاجتماعية ، فيما يمكن أن يكون العامل الثانى ذو طبيعة " عملية " تتعلق بالضغوط الخارجية المنبثقة من بنية النظام الإقليمى العربى ، وبصفة خاصة إسرائيل ومن ورائها التحالف الاستعمارى . ويلاحظ د. أحمد يوسف أن التخلى عن الصيغتين الثانية والثالثة لترتيب أولويـات الأهـداف عربياً قـد تـم تحـت وطـأة تهديد إسرائيـل بصفـة أساسية فـى أواخـر عـام 1963 ، ثـم الهزيمة العسكرية شديدة الوطأة أمام إسرائيل عام 1967 .
2 – ثورة يوليو .. وحركة التحرر الوطنى الأفريقية :لم تعان ثورة يوليو فى علاقتها بحركة التحرر الوطنى الأفريقية من ذات المعضلات التى عانت منها على الساحة العربية ، رغم شدة ضراوة المعركة التى خاضتها ، وحدة رد الفعل الاستعمارى تجاهها ، حيث تمحورت السياسية المصرية حول قضية تصفية الاستعمار وحق تقرير المصير .فبعـد تجربتهـا الرائدة والواعية فى السودان ، توسعت حركة ثورة يوليو / تموز على الساحة الأفريقية وتعددت ممارساتها ، وتاريخياً كان الصومال أول البلاد التى اهتم بها عبد الناصر ، والتزمت مصر بمساعدة الحركة الوطنية بها ، ولم يكن ذلك فقط من أجل موقع الصومال الاستراتيجى الهام فى القرن الأفريقى وفى مواجهة ميناء عدن ، ولا من أجل التكوين الأنثروبولوجى للشعب الصومالى الذى يعتبر - شأنه شان الشعب الموريتانى - همزة الوصل بين عرب أفريقيا وزنوجها ، ولكن كان هناك سبب إضافى هو مسئولية مصر الدولية فى الصومال ، حيث كانت تشترك فى عضوية المجلس الاستشارى التابع للأمم المتحدة ، والذى كونته عام 1960 للإشراف على الإدارة فى الصومال ، والتأكد من قيادة البلاد نحو الاستقلال .ثـم امتدت حـركة ثـورة يوليو إلى مؤازرة حركة " الماوماو " فى كينيا ، ثم ثورة الكاميرون عام 1956 ، ثم الكونغو عام 1960 ، ثم ثورات أنجولا وموزمبيق وغينيا بيساو . كما وقفـت مصـر مـع نضال شعب زيمبابوى ( روديسا آنئذٍ ) وجزر القمر ، وكل مكان فى أفريقيا . وطبقاً لمحمد فائق" لم يحدث أن قامت حركة ثورية تحريرية فى أفريقيا بعد عام 1952 إلا وكان لها اتصال بالقاهرة ، وأيدها عبد الناصر ووقف معها " .
اتسمت علاقة ثورة يوليو بأطراف حركة التحرر الوطنى الأفريقية بطابع التعددية ، وشجعت القاهرة حركات التحرر الوطنى الأفريقية على فتح مكاتب سياسية دائمة فى القاهرة ، على غرار المكاتب التى كانت قد منحتها لجبهة التحرير الجزائرية أثناء الثورة فى القاهرة وفى أماكن أخرى بعد ذلك ، وتكفلت الدولة بتكاليف الإنفاق على هذه المكاتب .كان بعض هذه المكاتب يمثل تنظيمات سياسية معترف بها فى بلادها، وتمارس نشاطها هناك ، كالأحزاب السياسية التى كانت موجودة فى كثير من المستعمرات الإنجليزية ؛ مثل كينيا وزنزبار التى كانت أول مكاتب تفتح بالقاهرة ، وكان البعض الآخر يمثل منظمات لا تعترف بها السلطات الاستعمارية ، ولكنها تمارس نشاطها فى الداخل بشكل غير قانونى ، ويعيش زعماؤها كلاجئين سياسيين فى الخارج ، مثل اتحاد شعب الكاميرون (UPC ) قبل استقلال الكاميرون ، وحزب المؤتمر الوطنى الأفريقى (ANC ) ، وحزب مؤتمر بان أفريكان (PAC ) من جنوب أفريقيا .
كما كانت بعض هذه المكاتب تمثل ثورة مسلحة مثل الحركة الشعبية لتحرير أنجولا (MPLA ) ، وجبهة تحرير موزمبيق (FRELIMO ) .وكانت هذه المكاتب تمثل اتجاهات سياسية وعقائدية مختلفة : بعضها ماركسى مثل " اتحاد شعب الكاميرون " ، و" الحركـة الشعبيـة لتحريـر أنجولا " . وبعضها يؤمن بالنظـم الليبرالية مثل الأحـزاب التى كانت فى أوغندا وزنزبار قبل الاستقلال .وكان كثيراً ما يتواجد فى القاهرة مكاتب سياسية متعددة من الإقليم الواحد ، فكان يوجد على سبيل المثال مكتب لحزب الاتحاد الوطنى الأفريقى (KADU) ، ومكتب آخر للاتحاد الوطنى الديمقراطى (KANU ) ، وكلاهما من كينيا، كما كان يوجد حزب اتحاد شعب أفريقيا لزيمبابوى (ZAPU ) ، والاتحاد الـوطنـى الأفـريـقى لـزيمبـابـوى (ZANU ) ، وكلاهما من زيمبابوى ( روديسيا آنئذٍ ) .لكن كانت هذه التنظيمات جميعها تشترك فى أنها منظمات وطنية ذات فاعلية فى بلادها ، تنـاهض الاستعمـار وتعمل مـن أجـل الاستقـلال الـوطنى ، وكانت هذه هى الشروط لقبول أى حركة وطنية ومساندتها بغض النظر عن برنامجها وأسلوبها لتحقيق ذلك ، وكان مجرد اعتراف القاهرة بتنظيم حركة أفريقية ما ، ووجود مكتب لهذه الحركة بالقاهرة ؛ يفتح لها مجال التعامل مع الدول التقدمية الأخرى ، لأن فى ذلك الدليل على جديتها ووطنيتها .وقد التزمت ثورة يوليو فى جميع مراحل تعاملها مع الحركات والمنظمات الوطنية فى أفريقيا بعدم التدخل فى شئونها الداخلية بأى حال من الأحوال ، أو محاولة فرض أشخاص أو إبعاد آخرين ، ولذلك احتفظت بعلاقات طيبة مع جميع هذه المنظمات .
فقد كان الهدف الأساسى فى هذه المرحلة هو مقاومة الاستعمار التقليدى وتصفيته ، وكان المتبع هو وقف نشاط هذه المكاتب بمجرد حصول الدولة على استقلالها ، فإذا كان النظام الحاكم هو صاحب التمثيل فى المكتب السياسى الموجود من قبل فى القاهرة ؛ كان يستبدل هذا التمثيل بسفارة الدولة الجديدة ، كما حدث فى كثير من الحالات مثل زامبيا وزنزبار ، أما إذا كان المكتب الموجود فى القاهرة يمثل تنظيماً آخر ؛ فيتوقف نشاطه فوراً مع الاحتفاظ بحق أعضائه فى البقاء كلاجئين سياسين إذا كانت عودتهم تشكل خطورة على حياتهم ، ولكن بشرط وقف نشاطهم السياسى .كان الهدف من فتح هـذه المكاتب ؛ هو جعلها حلقة الاتصال الدائمة والسريعة بين مصر وحركات التحرير ، وتلقى المساعدات المصرية فى مختلف الميادين بما فيها المنح الدراسية واستجلاب الطلاب المؤهلين بها، وكانت تقوم أيضاً بالدعوة لقضاياها الوطنية ، بما فى ذلك إمداد الإذاعات الموجهة من القاهرة بالمعلومات والأخبار المؤثرة . وسهلت هذه المكاتب اتصال حركات التحرير بالعالم الخارجى ، وتلقى مساعدات الدول المناهضة للاستعمار ، والاتصال بأجهزة الإعلام العالمية .
فضلاً عن ذلك تبنت مصر قضايا التحرر ، وتقرير المصير ، وتصفية الاستعمار فى الأمم المتحدة، وهى فى ذلك لم تكن وحدها بطبيعة الحال ، فقد كانت هناك دول كثيرة مثل ؛ دول الكتلة الشرقية والهند وغيرها تهتم بنفس القضايا ، لكن كانت مصر هى الأقدر فى عرضها ، بحكم صلاتها بهذه الحركات الموجودة بالقاهرة ، واتبعت تقليداً جيداً بدعوة حركات التحرير لإرسال مندوبين عنها للتواجـد فـى نيويورك أثناء دورة انعقاد اجتماعات الأمم المتحدة فى كل عام ، وتكفلت بنفقات سفرهم وإقامتهم ، وساعدتهم فى الدعوة لقضاياهم ، سواء لــدى الـوفـود المختلفــة ، أو تقـديـم العرائض للجنة الرابعة ( لجنة الوصاية ) ، وكان ظهورهم بهذه الطريقة يضفى الكثير من الحيوية على مناقشات الأمم المتحدة عند نظر القضايا الأفريقية الخاصة بهم ، وجعل مصر قادرة على التعبير بصدق عن أمانى الشعوب الأفريقية وقضاياها .ولم تقتصر علاقة مصر بحركات التحرير الأفريقية على هذا الدعم السياسى والدبلوماسى ، بل قدمت مساعدات عسكرية مباشرة لحركات التحرير الأفريقيـة ، حـدث ذلك بالنسبة لحركات التحرير فـى زيمبابوى ( روديسيا آنئذٍ ) ، وأنجولا ، وموزمبيق ، وجنوب أفريقيا ؛ وهى المناطق التى كان الاستعمار فيهـا يـرفض مطالب التطـور الـدستورى ، وأصبـح من المسلم به أن أى تطور لصالح الوطنيين لن يتم إلا باستخدام القوة ، وكان التدريب يتم فى مدرسة الصاعقة التابعة للقوات المسلحة ، وهو نفس التدريب والأسلوب الذى سبق اتباعه مع مجموعات الفدائيين الجزائريين فى بداية الثورة الجزائرية .
وفتحت الكلية الحربية المصرية أبوابها أيضاً لاستيعاب أعداد من الأفريقيين المؤهلين سنوياً . وكان يتم اختيارهم بمعرفة الحركات الأفريقية ليكونوا نواة الجيوش الوطنية بعد الاستقلال ، حيث كانت الدول الاستعمارية فى معظم مستعمراتها تقصر وجود الوطنين فى الجيش على رتب الصف والجنود فقط، أما الضباط فكانوا دائماً من الأوروبيين ، وعندما قامت ثورة الصومال كان عدد كبير من أعضاء مجلس قيادة الثورة من بين الضباط الصوماليين ، الذين تخرجوا من الكلية الحربية بهذه الطريقة ، وكانوا قد دخلوا الجيش بمجرد استقلال الصومال .أما من حيث التسليح فقد كان مكتب الشئون الأفريقية برئاسة الجمهورية قـد تسلم مخـازن السلاح ، الذى كان يستخدم ضد القاعدة البريطانية ، وذلك بمجرد توقيع اتفاقية الجلاء . وبعد تسليح الجيش المصرى بأسلحة روسية أصبح هناك فائض كبير من الأسلحة الإنجليزيـة القديمـة ، التى كانت مناسبة لتسليح حركات التحرير حتى لا يُعـرف مصـدرها وهى فى أيدى الأفريقيين ، وكانت مصر بذلك هى أول دولة توفر السلاح لحركات التحرير الأفريقية وتتولى نقله بطرق مختلفة .لكن بعد أن كانت مصر فى البداية هى المصدر الوحيد لتسليح وتدريب حركات التحـرير الأفريقيـة ، عـرفت هـذه الحركات طريـق الاتصـال بدول الكتلة الشرقية ، ثم استقلت الجزائر وبدأت تساهم هى الأخرى فى هذا الاتجاه ، وبعد إنشاء لجنة التنسيق لتحرير أفريقيا التابعة لمنظمة الوحدة الأفريقية واتخاذ دار السلام مقراً لها ، فتح الرئيس جيوليوس نيريرى بلاده لتكون قاعدة لحركات التحرير ، فأقيمت المعسكرات.

ليست هناك تعليقات: