الأربعاء، 16 أبريل 2008

دراسات في الحقبة الناصرية (3)

مصادر التكوين الفكرى لقائد ثورة 23 يوليو 1952: جمال عبد الناصر
لا يزال أرشيف منشية البكرى - الذى يحوى الغالبية العظمى من وثائــق جمال عبد الناصر - يحتفــظ بالكثيـــــر من الأوامـر التى أصـدرها عبد الناصر منذ تولى السلطة لمساعديه بترجمة أو بتلخيص مؤلفات ودراسات ومراجع عديدة . ولا تزال الأوراق التى كان يعرضها عليه مديرو مكتبه تحوى الكثير من الرسائل التى وردت إليه ، من علماء ومفكرين؛ تناقشه فى فكرة معينة، أو تشرح له إشكالية نظرية بعينها . ولا تزال خطوطه وملاحظاته التى سجلها على ملخصات أمهات الكتب ، أو على هوامش هذا النوع من الرسائل موجودة كما كتبها.ولا يزال رفاق عبد الناصر ومعاصروه يتذكرون التوجهات التى أصدرها لهم " الزعيم " بضرورة الاطلاع على كتاب بعينه ، مع مداعبة رقيقة تحمل فى طياتها كثير من الجدية " بأنه سوف يناقشهم فيما ورد بين دفتى الكتاب.وكان الوزراء يبدون استغرابهم من هذه الظاهرة الغريبة ، فلقد أنهوا دراستهم منذ زمن بعيد ، وكثير منهم حصلوا على شهادة الدكتوراه، بل وعلى الأستاذية ، وبعضهم عمل بالجامعات المصرية ، وما كان يخطر ببالهم أنهم عينوا وزراء ليعودوا مرة ثانية إلى مقاعد الدرس ، ليطالعوا الكتب والمراجع والترجمات والملخصات، التى كان يوزعها عليهم رئيس الجمهورية .كانت بعض الدراسات تتناول تاريخ مصر الحديث ، وتاريخ قناة السويس ، وتاريخ الوطن العربى ، وكان البعض الآخر يتناول تاريخ حزب العمال البريطانى ، وتاريخ الاشتراكية، ومن ذلك أيضاً أحدث ما كُتب عن الأيديولوجيات المعاصرة؛ كالوجودية ، والماركسية ، والبرجماتية وغيرها .
لكن حالة الاستغراب التى كانت تنتاب الوزراء والمسئولين سرعان ما كانت تزول عندما يرون أعضاء مجلس قيادة الثورة ورفاق عبد الناصر القدامى يتقبلون الأمر ببساطة؛ لأن الظاهرة لم تكن جديدة بالنسبة لهم ، فقد تعودوا على ذلك منذ مرحلة ما قبل الثورة، عندما كان جمال عبد الناصر رئيساً للهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار .لقد كان من صفات عبد الناصر أنه كان قارئاً نهماً ودارساً متميزاً ، ويعده البعض بحق النموذج الفريد لرئيس الدولة الذى أكمل تعليمه وتثقيفه وهو فى السلطة ، رغم أن السلطة من شأنها أن تغنيه عن ذلك كله ، لأنه يستطيع أن يستأجر من يشاء من المثقفين والمتعلمين ، أما عبد الناصر فكانت رغبته الشديدة فى أن يعرف بنفسه كل شىء خطاً مستمراً فى حياته، تتعدد أشكاله وصوره ، وكانت قدرته على القراءة خارقة ، وقدرته على الاستيعاب والتذكر بنفس المستوى.وستحاول هذه الدراسة تتبع المصادر الفكرية المتعددة التى ساهمت فى التكوين الفكرى لجمال عبد الناصر ، وذلك بدراسة المراحل التاريخية المختلفة فى حياته ، بدايةً من مرحلة الطفولة ، وانتهاءً بمرحلة ما بعد نجاح ثورة يوليو ، ومروراً بمرحلة الدراسة الثانوية ، والدراسة فى الكلية الحربية، وكلية أركان الحرب . ولقد اهتمت الدراسة أيضاً برصد التيارات السياسية والإيديولوجية التى عايشها عبد الناصر، وانفعل بها، وتفاعل معها بعد نضجه فى أواخر الثلاثينيات وطوال الأربعينيات ؛ أى قبل وبعد تأسيس تنظيم الضباط الأحرار، وفى فترة الفوران السياسى العارم الذى عاشته مصر .وبهذا الصدد اهتمت الدراسة أساساً برصد مقولات الأحزاب الليبرالية التى كانت تعانى وقتئذ من انتكاسة كبيرة ، وكذا مقولات وطروحات جماعة "الإخوان المسلمين" ، وجماعة "مصر الفتاة " ، و " حزب أحمد حسين الاشتراكى " ، وكذا مقولات المنظمات الماركسية المصرية، والإشكاليات التى أثارتها وقتئذ . ولم يكن الهدف بالطبع التأريخ لهذه المنظمات ، وإنما لأن عبدالناصر عايشها وانفعل بأفكارها ووعى نشاطها ومراعاتها، وهو فى رحلة بحثه عن طريق ينقذ مصر من براثن الاستعمار والاستغلال قبل الثورة، وينقذها من سياسات الإمبريالية والصهيونية العالمية بعد نجاحها .أولاً : مصادر التكوين الفكرى لعبد الناصر فى مرحلة الطفولة وحتى البكالوريا :ولد جمال عبد الناصر يوم 15 يناير عام 1918 ، بالمنزل رقم 18 بشارع " أنواتى " بحى باكوس بالإسكندرية ، وهو الأبن الأكبر لأسرة عربية مصرية صميمة نشأت فى قرية صغيرة تبعد ثلاثة كيلومترات شمال شرق مدينة أسيوط ، تسمى " بنى مر " زمامها لا يتعدى ألفى فدان، وعدد سكانها وقتئذ كان حوالى خمسة آلاف نسمة .كان والده موظفاً صغيراً بمصلحة البريد لا يملك سوى راتبه الشهرى؛ لذا عاشت أسرته حياة متواضعة، لا تختلف كثيراً عن حياة مئات الآلاف من أبناء الكادحين فى قرى ومدن مصر .وكان رب الأسرة بحكم عمله دائم التنقل بين قرى ومدن ومديريات مصر، ولعل هذا - كما يرى البعض - قد مكن جمال عبد الناصر منذ الصغر من التعرف على واقع بلاده ، وعلى البؤس والشقاء الذى كان يعانى منه الشعب المصرى آنئذ.
التحق جمال عبد الناصر أولاً بمدرسة روضة الأطفال بحى محرم بك بالأسكندرية ، لكنه سرعان ما تركها إلى مدينة أسيوط ، بعد انتقال أبوه ، وظل بها لمدة سنتين 1923 - 1924 ، حيث تعلم القراءة والكتابة ، وبعد ذلك أرسله والده للإقامة بالقاهرة مع عمه خليل حسين الموظف بوزارة الأوقاف ، حيث أُلحق بمدرسة النحاسين الابتدائية ، التى كانت تواجه مجموعة من مساجد ومقابر سلاطين المماليك ، ولا تبعد كثيراً عن خان الخليلى ومسجد الحسين، وبقى بها ثلاث سنوات 1925 - 1928 .ويشير جورج فوشيه إلى أنه على الرغم من صغر سن جمال عبدالناصر ورفاقه تلاميذ مدرسة النحاسين الابتدائية ، ورغم جهلهم بالآثار الإسلامية ؛ فإنه كان لهذه المدرسة التى تقبع فى قلب القاهرة الإسلامية ، أثرها فى عقل " جمال عبد الناصر " ، حيث كان الإسلام يتراءى له كحقيقة تاريخية مجيدة.ويكاد يجمع كُتَّاب سيرة " جمال عبد الناصر" ، على أنه كان فى السابعة والثامنة من عمره قوى البنية ، أطول قامة من رفاقه ، وأنه كان رزيناً، يستأنس بالوحدة كثيراً ، ويشرد باله أحياناً ، وأنه كان غالباً ما يثير دهشة والديه بخواطره وإيماءاته الغريبة، كما يجمعون على أنه كان يتصف بالعناد والصلابة ، بالإضافة إلى الحساسية والمرونة ، كما عُرف عنه فى هذا السن المبكر اعتداده بنفسه.على أية حال ، أتم جمال عبد الناصر السنة الثالثة الابتدائية ، بمدرسة النحاسين فى صيف عام 1928 ، وتزوج الأب مرة أخرى بعد وفـاة والـدة عبد الناصر سنة 1926 ، ولقد أصابته وفاة أمه بحزن عميق ، كما أن مجىء زوجة أخرى إلى منزل الأب ، كان له أثره فى طفولته ، وبعد أن بدأ السنة الرابعة الابتدائية أرسله أبوه إلى الإسكندرية عند جده لوالدته ، حيث أتم السنة الدراسية فى مدرسة العطارين ، ثم أُلحق بمدرسة حلوان الثانوية الداخلية سنة 1929، لكنه عاد وُنقل إلى مدرسة رأس التين الثانوية بعد انتقال أبوه إلى الإسكندرية. ويذكر رفاق عبد الناصر وكتاب سيرته ، أنه فى الإسكندرية شارك فى إحدى المظاهرات ، وتلقى بضع ضربات بعصى غليظة على وجهه؛ الأمر الذى أخره عن تأدية امتحانات آخر العام ، وأن هذه المظاهرة كانت بداية اشتغاله بالسياسة، وهو لا يزال طالباً بالمدرسة الثانوية، حيث انفعل بحالة الغليان التى كانت تعانى منها مصر وقتئذ ، حيث كانت تناضل من ناحية لإلغاء التحفظات الأربعة التى ضمت تصريح 28 فبراير ، وجعلت الاستقلال الذى حصلت عليه مصر بمقتضاه مجرد حبر على ورق ، ومن ناحية أخرى كان الصراع محتدماً بين القصر والأحزاب المصرية حول دستور 1923 ، الذى عطله إسماعيل صدقى وأصدر بدلاً منه دستور 1930 .
على أية حال انتقل عبد الناصر بعد ذلك من مدرسة رأس التين إلى المدرسة الفريدية، حيث واصل دراسته عامين ، وفى سنة 1933 انتقل مرة أخرى إلى القاهرة ، بعد انتقال والده إليها ، حيث واصل دراسته فى مدرسة النهضة الثانوية بحى الظاهر التى أصبح رئيس اتحاد الطلاب بها، واستقرت الأسرة بحى باب الشعرية ، بجوار مسجد الشعرانى، وحسب رواية صديق طفولة عبد الناصر ، وأخوه فى الرضاعة، حسن النشار، فإن مكتبة هذا المسجـد ، وكـذا الكتـب التى كان يستعيرها جمال عبد الناصر من أساتذته ستمثل مصدراً مهماً مـــن المنابـــع التى نهـل منها عبد الناصر فى هذه المرحلة المهمة من تاريخه ، حيث كان يقضى بمسجد الشعرانى ساعات طويلة يقرأ ، وكانت مكتبة المسجد تضم العديد من كتب الدين والسير والتاريخ، أتى على معظمها عبد الناصر ، وكان ما يزال فى الخامسة عشرة من عمره .
ولم يكتف عبد الناصر بكتب مكتبة مسجد الشعرانى ، بل لجأ أيضاً إلى الاستعارة من مكتبة أساتذته فى مدرسة النهضة. ولقد تتبع " فوشيه" المؤلفات التى قرأها عبد الناصر، وهو لا يزال طالباً فى المرحلة الثانوية ، ورصد لنا كيف قام عبد الناصر بعملية تثقيف ذاتى صارمة ، ميزته عن رفاقه فى المدرسة الثانوية. لقد شكلت قراءات عبد الناصر وتأملاته فى هذه المرحلة المهمة من حياته النواة التى تمحورت حولها أفكاره ورؤاه ، فما هى أهم المؤلفات التى قرأها عبد الناصر فى مسجد الشعرانى ؟ ومن أساتذة مدرسة النهضة ؟كان فى مقدمة هذه الكتب ، مجموعة من المؤلفات التى تناولت تاريخ العرب والإسلام وسيرة الرسول ، من ذلك ، كتاب "المدافعون عن الإسلام" الذى نشره وقدم له الزعيم الوطنى مصطفى كامل، بهدف تذكير الأمة المصرية بمجدها الغابر، ووصف روعة الحضارة العربية، وأثرها فى الغرب، فضلاً عن دعوة معاصريه إلى العمل على إحياء تراث الإسلام.
وربما تجدر الإشارة إلى أن كتاب " المدافعون عن الإسلام " وصل فيما وصل إليه إلى أن الرسول محمد مثل وقدوة؛ حيث تمكن بعد عشرين عاماً فقط من بدء رسالته من إرساء قواعد النظام والعدل. واللافت للنظر أن جمال عبد الناصر أجاب على سؤال للكاتب الإنجليزى " ديزموند ستيوارت" حول أهم الشخصيات العظيمة التى أثرت فيه، واتخذها مثلاً له منذ أيام الصبا، بأن شخصيـة الرسـول " محمد بن عبد الله " كانت أعظمها جميعاً ، فهو عنده " القائد والزعيم والمجاهد الذى جاهد كثيراً من أجل إخراج الشعب العربى من الظلمات إلى النور ، فضلاً عن أنه جمع شملهم ، ووحد كلمتهم حول مبدأ وشريعة ، بالإضافة إلى أنه تعلم منه فضيلة الصبر والكفاح ". بالإضافة إلى كتاب " المدافعون عن الإسلام " ، قرأ عبد الناصر فى هذه المرحلة بعض المؤلفات عن حياة المناضل والزعيم الوطنى " مصطفى كامل " ، وكان حريصاً أيضاً على قراءة مقالاته الثورية ، ولقد اتضح مدى تأثره بـ " مصطفى كامل " من رسالة أرسلها لصديقه حسن النشار، فى سبتمبر 1935 ، حيث ورد فيها اسم مصطفى كامل ثلاث مرات، واستشهد فيها أيضاً ببعض عبارات مصطفى كامل الحماسية .
ومن المؤلفات المهمة التى قرأها عبد الناصر، كتاب "طبائع الاستبداد" للكاتب الوطنى السورى عبد الرحمن الكواكبى، الذى شن فيه ثورة عارمة على استبداد الأتراك، وطغيانهم ، ونهبهم لثروات الشعوب العربية ، كما تناول الكواكبى بالنقد العنيف الغرب وسياساته. وقرأ عبد الناصر أيضاً كتاب " أم القرى " الذى تخيل فيه مؤلِفُه مكة " أم القرى " وقد أصبحت مكاناً لاجتماع شاركت فيه جميع الشعوب الإسلامية، وحاول المجتمعون من خلاله اكتشاف الأسباب المسئولة عن تخلف المشرق الإسلامى ، والطريق للتحرر من الاستعمار ، وخلص الكتاب إلى الاعتراف بضعف وخمول وتخلف المسلمين ، وإلى أن الجهل هو العامل الرئيسى المسئول عن ذلك ، وإلى الافتقار إلى زعيم يقود الشعب وإلى ضعف الرأى العام ، كما خلص إلى أن العلاج يكمن فى تعليم الشعوب وبث الحماسة والرغبة فى التقدم فى نفوس الجيل الجديد ، كما انتهى إلى ضرورة اتخاذ مصر مركزاً للانطلاق؛ نظراً لتقدمها فى العلوم، ولدورها التاريخى.
وربما تجدر الإشارة ، إلى أن عبد الناصر، قد أشار فى فلسفة الثورة، إلى فكرة المؤتمر الإسلامى ، وفكرة الدائرة العربية، والدور المصرى فى قلبها. ولا نستبعد أن تكون قراءته لهذا الكتاب قد لفتت نظره إلى موقع مصر، وأهمية دورها فى المنطقة العربية ، وهو ما ستساعد المصادر الأخرى فى بلورته بعد ذلك . ومن المؤلفات التى قرأها عبد الناصر فى هذه الفترة أيضاً ، كتاب أحمد أمين عن "مجددى الإسلام" أمثال جمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده. وكذا كتاب " وطنيتى " لعلى الغاياتى الوطنى المصرى الذى هاجر من مصر إلى " جنيف " ، وأصدر جريدة " منبر الشرق " ، ليدافع من خلالها عن حقوق شعوب الشرق. ولقد ذكر عبد الناصر أن قراءاته فى هذه الفترة كانت مزيجاً من القصص والتاريخ، وأنه اهتم كثيراً بدراسة تاريخ مصر فى القرن التاسع عشر. كما أنه كان مولعاً بمتابعة المقالات السياسية والفكرية فى الصحف والمجلات الوطنية والحزبية ؛ كصحيفتى الوفد واللواء ، وكذا جريدة الأخبار التى كان يصدرها المناضل أمين الرافعى، أحد زعماء الحزب الوطنى والمعروف بعدائه لأى حل وسط مع المستعمر الإنجليزى.
ويشير حسن النشار إلى أن عبد الناصر كان معجباً بمقالات أمين الرافعى، خاصة تلك التى تناولت فضل الحضارة العربية على الحضارة الغربية ، وإنه آمن برأيه حول إمكانية استعادة العرب لدورهم بالعلم، والوحدة، والحرية. ومن الشخصيات التى قرأ لها عبد الناصر أيضاً ، الأمير شكيب أرسلان الذى كتب أيضاً عن الشرق ومجده السالف، وإبان المرحلة الثانوية أيضاً دفعه أستاذه أحمد حسنين القمرنى إلى القراءة فى تاريخ الثورة الفرنسية ؛ فقرأ حول " جان جاك روسو " و " فولتير" ، واستهواه الأخير ، حيـث أعجـب بثورته على فساد نظام الحكم والكنيسة ، وسجل ملاحظاته عن " فولتير " وعبر عن إعجابه به فى مقال نشره فى مجلة مدارس النهضة بعنوان " فولتير رجل الحرية " . وفى هذه الفترة أيضاً ، وكان قد أصبح رئيساً لاتحاد الطلاب ، اهتم بقراءة سيرة كل من ؛ نابليون بونابرت ، وغاندى ، والإسكندر الأكبر المقدونى ، ويوليوس قيصر. كما أعجبته القصة التى أبدعها " فيكتور هوجو " بائعة الخبز ، والتى صورت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية فى فرنسا قبل الثورة ، وكذا قرأ رائعة " شارلز ديكنز " قصة مدينتين، التى صورت بدقة أعمال القسوة والعنف والإرهاب التى سادت فرنسا فى النصف الأخير من القرن الثامن عشر، ولقد ذكر عبد الناصر أنه تعلم من رواية ديكنز كيف يمكن أن تكون الثورة بيضاء .
وليس بعيداً عن الصحة القول بأن "بائعة الخبز"، تركت هى الأخرى أثرها فى نفسه ، ولفتت نظره إلى معنى الظلم الاجتماعى وأبعاده ، وربما إلى قيم العدل والرحمة، فضلاً عن الحرية الاجتماعية .وثمة رواية مصرية بات معروفاً تأثر عبد الناصر بها ، بعد أن أعلن هو ذلك أكثر من مرة ، حيث أشار فى سبتمبر 1935، فى واحدة من رسائله إلى صديقه حسن النشار، إلى رواية " عودة الروح " لتوفيق الحكيم. وحسب ملاحظة " فوشيه " ، التى نقلها حرفياً عن روايات زملاء وأسـاتذة عبد الناصر ، عندما كان طالبـاً ، بمدرسـة النهضة الثانويـة ، فإن عبد الناصر ، وقف كثيراً عند الحوار الذى دار داخل مسرحية الحكيم بين الأثرى الفرنسى " فوكيه " ، ومفتش الرى الإنجليزى " مستر بلاك " الذى كان يستهين بالشعب المصرى ولا يقدر تاريخه ، وتأثر بتأكيد الأثرى الفرنسى على أن الشعب المصرى يمتلك قوة كامنة ، وهو شعب متماسك متجانس، مستعد للتضحية ، بل إنه يستعذبها ، وأنه شعب بإمكانه صنع معجزة أخرى غير أهرامات الجيزة . يقول "فوشيه" : " إن جمال عبد الناصر تأمل هذا الحوار طويلاً ، وفكر فى قرارة نفسه فى أن المعجزة التى حدثت سنة 1919 عندما جسد سعد زغلول الإرادة القومية فى مقاومة إنجلترا ؛ هذه المعجزة لابد وأن تتكرر إذا هب رجل يعرف كيف يوحد الأمة المنشقة على نفسها بأحزابها، الأمة التى خدعها رجال السياسة ، واستعبدتها أسرة أجنبية ، واحتلها الجيش الإنجليزى ...".
ولقد لخص عبد الناصر هذا الفهم لرواية الحكيم فى رسالة أرسلها إلى صديقه حسن النشار فى 2 سبتمبر 1935 ، حيث أخبره " بأن اليأس قد بلغ أشده ! ومن فى مقدرته أن يعيد بناء الوطن ؟ من يستطيع إيقاظ أولئك البائسين الذين يجهلون كل شىء عن حالتهم ؟ ومن يستطيع أن يقاوم اليوم ويقض مضاجع أمثال كرومر ؟ يقولون إن المصرى رعديد يخشى الضجة مهما كانت خفيفة، وإنه فى حاجة إلى زعيم يقوده فى معركة النضال والكفاح من أجل بلده، عندئذ نجد هذا المصرى كالصاعقة يُلقى الرعب فى أمنع معاقل الطغيان، وكل ما يحدث الآن هو فقط الاستعداد الطويل لبداية عمل أهم وله مغزى…". عند هذا الحد ، ونحن نتحدث عن قراءات عبد الناصر فى المرحلة الثانوية ، يجب أن نتوقف عند ملاحظة " فوشيه" ، حول وعى عبد الناصر بما كان يقـرأ ، وهى ملاحظة تستمد أهميتها من كونها وردت على لسان رفاق عبد الناصر وأساتذته الذين عاصروه فى مدرسة النهضة، وناقشوه وناقشهم فيما كان يقرأ ، فضلاً عن أنهم سمعوه وهو يردد ما تعلمه من الكتب فى التظاهـــرات التى شـارك فيها وتزعـم الكثير منها ، يؤكـــد " فوشــيه " أن عبد الناصر لم يكن يقرأ لمجرد القراءة ، أو كأى طالب يستذكر دروسه ليستعد لاجتياز اختباراته ، إنما كان يقرأ ليفهم الحياة ويدرس مجتمعه ، باحثاً عن حلول لمشكلاته؛ كان يتلفت حوله مثلاً فيجد العمال وعامة الشعب يعانون من الفقر والجهل والبؤس والمرض، بينما يجد الأغنياء من أجانب ومصريين غارقين فى الترف، لماذا التفاوت الطبقى؟! كان عليه أن يقرأ ليجد الإجابة .نفس الملاحظة أكـدها صديقه حسن النشار، عندما ذكر أن قراءات عبد الناصر كانت جادة ، ولم تكن سطحية ، وإنه كان يفكر فى فحواها، ويستوعب ما تعرضه من أفكار، وإنه كان يضع خطوطاً تحت الكلام الذى يثير مكنونات نفسه ، ويعلق عليها بكلمات. وربما تجدر الإشارة هنا إلى أن معاناة مصر من الاحتلال البريطانى - حالة الفوران التى عرفها الشارع المصرى فى الثلاثينات والأربعينات - ساعدت على النضج المبكر للطلاب المصريين الذين لعبوا دوراً مهماً فى تاريخ الحركة الوطنية المصرية .هكذا بدأ عبد الناصر وهو فى المرحلة الثانوية يثقف نفسه تثقيفاً ذاتياً ، فانكب على دراسة كتب التراث والتاريخ ، وخاصة تلك التى تناولت تاريخ مصر فى القرن التاسع عشر، وتاريخ العرب والإسلام ، وكذا سير الأبطال والعظماء . ولقـد أكـد رفاقـه ومعاصروه ولعه المبكر بدروس التاريخ حيث : " مال إلى التاريخ أكثر من الأدب ، لدرجة أنه لم تكن تفوته أبداً حصة من حصص التاريخ ، وكان يبدى انتباهاً شديداً لمدرس التاريخ ، ويحدق فيه النظر وذراعه اليسرى متكئة ، وقد اعتمد ذقنه براحة يده ، وغالباً ما كان يطلب شرحاً وافياً، وغالباً ما كان يثير المناقشات مع زملائه حول وقائع التاريخ والسياسة ، كان يترك كل شىء ليحضر درس التاريخ ... ".
وبديهى أن هذا الولع المبكر بالتاريخ قد كون لديه قاعدة متينة من المعرفة التاريخية والسياسية فى هذه الفترة المهمة من حياته ، فوضع يديه على عوامل ضعف وانتكاس الأمة العربية ، وأسباب الذل والهوان والبؤس والشقاء الذى تعانى منه بلاده على يد المستعمر البريطانى ، وفى ظل سيطرة طبقة كبار الملاك ، وكبار الرأسماليين المصريين ، والمتمصرين ، والأجانب، كما رسخ لديه أيضاً أهمية موقع مصر وأهمية دورها التاريخى فى الشرق الأوسط، فضلاً عن أهمية وضرورة وجود زعامة قوية مستنيرة تنقذها من عثرتها، ولعل هذا يفسر انخراطه فى العمل السياسى .
إلا أن عشقه وشغفه بالقراءة لم يتوقف ، ولم تشغله حركته السياسية عن برنامج التثقيف الذاتى ، سواء قبل أو بعد تأسيسه لتنظيم الضباط الأحرار، وبعد وصوله إلى قمة السلطة ، بل وحتى رحيله؛ حيث تلازمت حركته السياسية مع تثقيفه الذاتى لنفسه ، وبالتالى تعددت المصادر الفكرية التى غذت روحه قبل وبعد تأسيس تنظيم الضباط الأحرار . ثانياً : مصادر التكوين الفكرى لعبد الناصر خلال النصف الثانى من الثلاثينيات وحتى تأسيس تنظيم الضباط الأحرار :إذن فما هى الدراسات والمصادر الأخرى التى أثرت فى تكوينه الفكرى فى النصف الثانى من الثلاثينيات وطوال الأربعينيات وحتى ليلة 23 يوليو 1952 ؟ربما تجدر الإشارة قبل رصد مجموعة الدراسات والكتابات التى درسها جمال عبد الناصر فى الكلية الحربية إلى أنه قبل دخوله الكلية الحربية فى شهر مارس عام 1937 ؛ شارك فى المظاهرات الطلابية ، التى جمعت بين طلاب المدارس الثانوية وطلاب الجامعة ، وأن مشاركته فى هذه المظاهرات وقيادته لبعضها ؛ مثلت هى الأخرى مصدراً مهماً من مصادر تكوينه ، فبالإضافة إلى الممارسة السياسية فإن أذنه التقطت الكثير من الشعارات السياسية والمقولات التى كانت تتردد فى الشارع السياسى المصرى آنذاك، كما أنه اتصل بنفسه بالأحزاب المصرية المختلفة واحتك بفكرها – وكما سنرى – تأثر بطروحات مصر الفتاة، والحزب الوطنى، وجماعة الإخوان المسلمين، ومنظمات اليسار المصرى وغيرها ، إلا أنه وكما يتضح من رسائله إلى صديقه حسن النشار، لم يكن قد انتهى من إعداد نفسه ، والاستقرار على برنامج سياسى محدد ، كان تائهاً فى عالم السياسة المضطرب ، يروح ويغدو ويزور مراكز الأحزاب السياسية؛ أملاً منه فى أن يجد من بينها حزباً يستجيب لأهدافه.
وظل الأمر كذلك إلى أن حصل على البكالوريا ، وعندما دخل الكلية الحربية يوم 17 مارس 1937، كان قد بات مُسَيَّسَاً يتحرق شوقاً للكفاح فى سبيل تحقيق الاستقلال لبلاده . وكانت قراءاته فى المرحلة الثانوية عن سير العظماء وقادة الفتوح الإسلامية ، ومؤسسى الإمبراطوريات العظيمة كالإسكندر الأكبر المقدونى ، ويوليوس قيصر، ونابليون ، وكذا دراسته لدعوات المصلحين المحدثين من أمثال جمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده ، فضلاً عن سيرة سعد زغلول؛ قد ألهبت حماسته الوطنية ، وبثت فى روحه حب الوطن والتطلع إلى الأعمال العظيمة . ولا يوجد ما يمنع كما يقول " فوشيه " من أن تكون ذكرى عظماء سلاطين المماليك الذين تواجه مساجدهم مدرسة النحاسين الابتدائية؛ قد علقت فى هامش شعوره، ولا يوجد ما يمنع أيضاً من أن صور بؤس الفلاحين وذلهم فى قريته " بنى مر" قد علقت هى الأخرى بشعوره .ومع ذلك كانت رغبته فى المعرفة تدفعه دفعاً إلى مزيد من الدراسة ، ومرة ثانية يُجمع أساتذته ورفاقه فى الكلية الحربية على أنه لم يكن يشاهد إلا وفى يده كتاب ، وأنه كان يطلب من رفاقه قراءة كتب معينة ليناقشهم فيها. ومن المقطوع به أن قراءاته فى الكلية الحربية كانت أكثر أثراً فى نفسه لسببين؛ الأول: أنه بات أكثر نضجاً ، والثانى : أنه انفتح على القراءة باللغة الإنجليزية ، فهل تغيرت اهتمامات عبد الناصر ؟ وهل اختلفت موضوعات الكتب والدراسات التى اطلع عليها فى الكلية الحربية ؟فى الحقيقة لم تختلف كثيراً ، ولكنها تعددت وتنوعت ، فبالإضافة إلى الكتب الدراسية المقررة فى الكلية الحربية ، عاد جمال عبد الناصر بين عامى 1937 – 1938 إلى مطالعة الكتب التى تناولت سير العظماء، وكبار القادة العسكريين ، وكبار رجال السياسة ، نفس من قرأ لهم وعنهم من قبل باللغة العربية عاد يقرأ عنهم باللغة الإنجليزية ، بالإضافة إلى قراءة سير لشخصيات جديدة لم يكن قد قرأ عنها مثل غاريبالدى ، وبسمارك ، وهندنبرج، وونستون تشرشل ، وغوردون ، وفوشى ، ولورنس ، ومصطفى كمال أتاتورك وغيرهم. لكن لماذا كل هذا الاهتمام بسير العظماء ، وبما تركوه من أعمال ؟! يبدو أنه كان يبحث عن إجابة لسؤال آثار فضوله ، حول ما فعله هؤلاء حتى تمكنوا من فرض إرادتهم وتغيير مجرى التاريخ وفقاً لرؤاهم أو عقائدهم ولصالح بلدانهم، أو حتى وفقاً لأهوائهم ومطامعهم الشخصية .
إلا أنه بالإضافة إلى سير العظماء وكبار القادة العسكريين يمكن تقسيم القضايا التى اهتم بدراستها جمال عبد الناصر فى هذه المرحلة إلى ما يأتى : -
أولاً : المؤلفات التى تناولت الحملات العسكرية، والحروب، والمواقع الحربية الشهيرة ، كتلك التى تناولت حروب نابليون بونابرت فى أوروبا وحملته على مصر سنة 1798، وكذا حملة فلسطين ، وحملة غوردون على الخرطوم، والمؤلفات التى تناولت موقعة المارن ، وواترلو، ومعارك الحرب العالمية الأولى .
ثانياً : المؤلفات التى تناولت تاريخ الثورات كتلك التى تناولت تاريخ الثورة الفرنسية ، وتاريخ الثورة الاشتراكية ، وكذا تاريخ ثورة 1919 فى مصر ، والمؤلفات التى عالجت تاريخ الدول العربية الحديث ، سواء دول المشرق أم دول المغرب .
ثالثاً : المؤلفات التى تناولت الاستراتيجية ، من ذلك المؤلفات التى عالجت الاستراتيجية الألمانية فى الحرب العالمية الأولى ، والاستراتيجية الإنجليزية .
رابعاً : المؤلفات التى عالجت المشكلات الدولية ، خاصة مشكلات الدول المطلة على البحر المتوسط .
خامساً : المؤلفات الجغرافية ، خاصة التى اهتمت بالجغرافيا السياسية والعسكرية ، وجغرافية دول حوض البحر المتوسط. وربما تجــدر الإشـــارة ونحـن نتتبـع رحـلة التثقيـف الذاتى لجمال عبد الناصر، إلى أنه استغل السنوات الثلاث التى قضاها فى الكلية الحربية ، بعد أن عُين مدرساً بها 1943 - 1946، فى قراءة ما استجد من كتب فى مكتبة الكلية. واللافت للنظر أنه عاد خلال هذه الفترة إلى دراسة الكثير من الكتب التى قرأها أيام كان طالباً بالكلية ، لكن من بين الكتب الجديدة كتاب حول اليابان وأسـرار قوتهـا ، وآخـر حـول تألــق نجــم نابليـون بونابـرت ، وكتاب " كونارد هايدن " حول سيرة هتلر وحياته ، وكتاب حول الحملة البريطانية على مصر، والتى انتهت باحتلالها سنة 1882، وآخر حول اللنبى فى مصر .
وكذا كتب " ليدل هارت " الثلاثة حول الحروب الحاسمة فى التاريخ ، ومؤلف العالم تحت السلاح ، والحرب فى سبيل السلطة العالمية ، والحرب الخفيفة ، والحرب بغير مدافع، والحرب فى الجو، ومبادئ الحرب ، وكذا أطلس اكسفورد الحربى ، وحرب الغد الآلية ، وكتاب اللورد " كرومر" حول مصر الحديثة ، وكتاب " أرنولد ويلسون " حول قناة السويس ، و " أرنولد سيجفرد" حول السويس وبناما . ومؤكد أن اهتماماته كمدرس بالكلية الحربية دفعته إلى التركيز على الدراسات التى تناولت علوم الحرب ، ومع ذلك يجب الإشارة إلى اهتمامه فى هذه الفترة بقراءة كتاب عالم النفس الأمريكى " ديل كارنجى " كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر فى الناس "، وقراءة مثل هذا الكتاب ربما تشير إلى بداية اتجاهه إلى تجميع الضباط حوله وضمهم إلى تنظيم الضباط الأحرار الذى سيولد سنة 1946. كذلك اهتمامه بكتاب آخر لا يعالج الفن أو التاريخ العسكرى ، أقصد كتاب العالم الاقتصادى اليهودى " بون " الذى عالج قضايا تنمية الشرق الأوسط الاقتصادية ، وربما يشير ذلك إلى بدايات إدراكه لأهمية الاقتصاد، ودوره فى توجيه وصناعة تاريخ الشرق الأوسط . وفى هذه الفترة قرأ أيضاً رواية أخرى لـتوفيق الحكيم هى رواية أهل الكهف.
على أيــة حــال فإن هــذه المـؤلفــات زودت هــى الأخــرى جمال عبد الناصر بمعارف كثيرة جديدة ، وغذت روحه هى الأخرى بقيم وخبرات كثيرة ، وأجابت على الكثير من الأسئلة التى كانت تدور فى ذهنه فى مرحلة الفوران .. مرحلة المظاهرات ، أقصد المرحلة الثانوية .ولا نبالغ إذا قلنا أنها ساعدته على رسم خطواته المستقبلية ؛ حيث تأكدت قناعته التى توصل إليها فى سبتمبر 1935 بأن القوة هى التى تنقص الشباب الوطنى ، ليتمكنوا من القضاء على الاستعمار وأعوانه؛ لذا قام بتأسيس تنظيم الضباط الأحرار .ومع أنه حرص على إبعاد التنظيم الذى انتخب رئيساً لهيئته التأسيسية عن الأحزاب السياسية العلنية وتلك التى تعمل تحت الأرض - أقصد جماعة الإخوان المسلمين والمنظمات الشيوعية - إلا أن أفكار هذه الأحزاب ووقائع نضالها ضد الاستعمار والاستغلال ، مثلت مصدراً آخراً من المصادر الفكرية المهمة التى ساهمت فى التكوين الفكرى لجمال عبد الناصر .
ثالثاً : التيارات السياسية والإيديولوجية عشية الثورة وأثرها فى فكر عبد الناصر :
ما هى أهم التيارات السياسية والإيديولوجية التى سادت المجتمع المصرى عشية ثورة 23 يوليو؟ وإلى أى مدى أثرت فى التكوين الفكرى لمؤسس تنظيم الضباط الأحرار ، ومفجر وقائد الثورة ؟أعتقد أننا لا نبالغ إذا ما أشرنا إلى أن حياة جمال عبد الناصر قبل الثورة كانت جزءاً من نضال الشعب المصرى ضد الاستعمار البريطانى ، ومفاسد القصر والطبقات المستغلة المتحالفة معه، وليس بعيداً عن الصحة القول بأنه - جمال عبد الناصر- ولد فى لحظة التقت فيها ولادته مع بحث أمته عن زعيم فى لحظة من أشد لحظات نضالها قسوة وتعقيداً ، بل إن حياة جمال عبد الناصر نفسها قبل الثورة كانت محصلة ظروف موضوعية عاشها وهو فى محيط أسرته ، وفى قريته " بنى مر" ، وتفاعل معها على نطاق وطنه وأمته وعالمه ، فكان محصلة نضال الأمة العربية منذ غاب عنها صلاح الدين الأيوبى.
وبهذا الصدد يمكن رصد متغيرات مصرية وعربية وعالمية كبرى ، تزامن وقوعها مع مولده ، فقبل ولادته بسنة واحدة ، وتحديداً فى أكتوبر 1917 نجحت ثورة أكتوبر فى روسيا ، وظهرت على أثرها أول دولة شيوعية فى العالم ، وفى السنة التى ولد فيها انتهت الحرب العالمية الأولى، وبعد مولده بأربع سنوات استولى الفاشيون على السلطة فى إيطاليا 1922، واستتبع ذلك تعاظم المد الفاشى فى أوروبا، وبعد ذلك بسنتين قام مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة الإسلامية 1924 . ولقد كان لهذه المتغيرات أثرها الواضح على مصر، ففى 13 نوفمبر 1918 ذهب سعد زغلول ورفاقه لمقابلة السير " رونالد ونجت " وتداعت الحوادث بعد أن عرف الزعماء الوطنيون عزم إنجلترا على البقاء فى مصر، فانفجرت ثورة 1919 ، ومن ناحية أخرى كان لنجاح الثورة البلشفية وظهور أول دولة شيوعية انعكاسه على مصر، حيث تكون على أرض مصر الحزب الاشتراكى المصرى سنة 1920، ومُثل فى المؤتمر الشيوعى الرابع الذى عقد فى موسكو ، ثم غير الحزب اسمه ليصبح الحزب الشيوعى المصرى فى ديسـمبر 1922، واعتنـق أعضـاؤه مبـادئ " الكومنـترن " التـى نــادى بـــها " فلاديمير لينين " ، ثم تتابعت بعد ذلك المنظمات الشيوعية المصرية، وتصاعد نشاطها إلى ذروته فى الأربعينيات . وترتب أيضاً على تعاظم المد الفاشى بعد سيطرتهم على السلطة فى إيطاليا ظهور جماعة مصر الفتاه عام 1933، وهو عام استيلاء النازيين على السلطة فى ألمانيا كذلك . وكذا كان إلغاء الخلافة الإسلامية ، وفصل الدين عن الدولة على يد مصطفى كمال أتاتورك من بين أهم أسباب ظهور جماعة الإخوان المسلمين فى مصر سنة1928.
ومن ناحية أخرى ، كانت مشكلات مصر القومية وأزمتها الاجتماعية تتفاقم وتتجه نحو طريق مسدود ، حيث أفلست تجربتها الليبرالية ، التى تعد أحد أهم منجزات ثورتها الشعبية الكبرى ؛ ثورة 1919. ووقف النظام الليبرالى عاجزاً أمام تعاظم مشكلات مصر على كافة الأصعدة ؛ سياسياً، واقتصادياً ، واجتماعياً .وتتعـدد الاجتهادات حول أسباب إخفاق التجربة الليبرالية قبل ثورة 23 يوليو ، ويمكن بهذا الصدد رصد مجموعة من العوامل ؛ فى مقدمتها ما يرتبط بجوهر النظام الليبرالى ذاته، فالليبرالية فى مصر كانت شكلاً مستعاراً من أوروبا ، افتقدت المحتوى الاجتماعى ، فلم تحدث فى الحقيقة ثورة بورجوازية ضد الإقطاع ، ولم يحدث تكريس حقيقى لسلطة العقل والعقلانية، ولم تشهد مصر لا عصر إصلاح دينى ، ولا عصر نهضة حقيقية ، كما لم تشهد تغييراً جذرياً فى العلاقات والقيم القديمة المتوارثة ، بحيث تسود العلاقات والقيم الجديدة بطريقة شاملة وحاسمة، بل سادت التوفيقية ساحة الفكر بين العقل وما وراء العقل ، بين الطبيعة والقوى المجاوزة للطبيعة. ومن ناحية أخرى كان لوجود قوة الاحتلال البريطانى أثره الواضح فى إخفاق التجربة ، فكما هو معروف فإن هذه القوة تدخلت فى توجيه النظام السياسى المصرى، سواء بطريق مباشر أم غير مباشر، فى الاتجاه الذى يتفق ومصالح الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس ، ووصل الأمر إلى التهديد باستعمال القوة لفرض إرادتها كما حدث يوم 4 فبراير 1942.
وقد ينسب إخفاق التجربة الليبرالية أيضاً إلى طبيعة وشكل وممارسات الأحزاب المصرية التى شاركت فى اللعبة الليبرالية؛ فالقوى السياسية الحزبية التى شاركت فى صخب الحياة السياسية المصرية مهما تعددت مسمياتها ، ومهما بدا لنا على السطح من تفاوت بينها؛ سواء من حيث الأصول والتراكيب الاجتماعية التى أفرزت قيادتها وكوادرها ، أو من حيث برامجها السياسية والاجتماعية ، بل ربما أيضاً من حيث الممارسات والأساليب الحزبية والسياسية التى سلكتها ، أو سعت للتعبير عنها. كما يؤخذ عليها كذلك بقاء الجماهير العريضة من الشعب المصرى كماً مهملاً لا تشارك فى الحكم إلا مشاركة شكلية ، وذلك عندما تساق كالبهائم – على حد تعبير عبد الحميد جودة السحار – إلى صناديق الانتخابات .
أما بقية مؤسسات الحكم الرسمية والأحزاب السياسية فكانت تحت سيطرة كبار الملاك ، وكبار الرأسماليين المصريين ، والمتمصرين ، والأجانب . ورغم أن النظام السياسى فى ظل التجربة الليبرالية كان دستورياً ، إلا أن تلك الدستورية كانت هى الأخرى شكلاً ، أما من حيث الجوهر فقد ظلت سلطة الملك هى العليا ، حيث كان له حق حل مجلس النواب دون قيد أو شرط، وحق تعيين الوزراء وإقالتهم ، وقد تعسف الملك فاروق - كما هو معروف - فى استخدام سلطاته فى حل البرلمان ، وإقالة الوزارة ، وتعطيل الدستور. وربما تجدر الإشارة ونحن نتحدث عن انتكاس التجربة الليبرالية وأثرها على عبد الناصر، إلى أن حزب الوفد الذى ظل يتمتع بشعبية جماهيرية تكاد تكون كاسحة ؛ لم يقدر له أن يحكم - من خلال صراع حزبى وبرلمانى وتجربة دستورية - سوى سنوات سبع عجاف أو نحو ذلك ، أى بنسبة بلغت 25 % فقط من عمر التجربة بطولها بين عامى 1924- 1952. يرى لاشين - بحق - أن قصر مدة حكم الوفد عكس ما يرى البعـض لا يمكن أن تحسب له بل تحسب عليه ، فالوفد شأن غيره من الأحزاب المصرية الليبرالية الأخرى – وإن بتفاوت ضئيل بينها – كان يمثل حكم النخبة الإمبراطورية الكبيرة والمتوسطة ، ومن تشابكت مصالحها بمصالحه ومراميه، على الرغم من استمرار ارتباط الجماهير بشرائحها الدنيا فى القرية والمدينة معاً بعجلته، ربما لدوره التاريخى أو ولاءً وحباً لزعامته ، أو ربما لغير ذلك من عوامل ، ومن هنا فقد عجز - ربما لأسباب تاريخية - عن استثمار حركة الجماهير وثورتها وعنفها، ذلك لأنه - وبحكم كوادره وقياداته - ربما لم يكن ليعنيه كثيراً من أمر الجماهير غير أكفها وحناجرها وأصواتها ، وبعد أن كانت تمنحه إياها عبر صناديق الاقتراع ، واضعة بين يديه ثقتها الكاملة وغير المشروطة، كان يعمد إلى تشجيع سلبيتها ولا مبالاتها لأن تقدمها بعد ذلك خطوة أخرى ؛ كان أمراً سيؤثر ولا شك على مصالح قياداته.
على أية حال ، يكاد ينعقد الإجماع على أن المجتمع المصرى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية ، عانى من أزمة طاحنة على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأن هذه الأزمة جاءت كنتيجة حتمية للتناقضات التى تولدت من إدماج مصر - كمجتمع تابع - فى إطار النظام الرأسمالى العالمى ، وأن هذه الأزمة وصلت إلى ذروتها مع مطلع الخمسينات من القرن العشرين ، حيث ظل هيكل الاقتصاد المصرى ، هيكلاً متخلفاً يغلب عليه الطابع الزراعى ذو المحصول الواحد ، وظل النمو الرأسمالى سواء فى الريف أم فى المدينة نمواً مشوهاً ؛ بسبب استمرار سيطرة كبار الملاك على علاقات الإنتاج وإصرارهم على عدم تغييرها ، ونتيجة للتداخل العضوى بينهم وبين كبار الرأسماليين ، فضلاً عن قيامهم بإهدار جزء كبير من الفائض الاقتصادى فى الاستهلاك الترفى.
والمتتبع للأزمات التى تعرض لها المجتمع عشية ثورة 23 يوليو ، يلاحظ أن الأمر لم يعد أمر مشكلة تواجه حكومة بعينها ، بل إن تعاقب الأزمات ، وتعاقب فشل الحكومات المتتالية فى علاجها ؛ دل على أن الأزمة آخذة برقاب النظام السياسى والاجتماعى جميعه ، وأن أطر هذا النظام لم تعد قادرة على استيعاب ما يواجهه من أزمات، ولا على تجاوز ما يحيط به منها. لقد واجه المسألة الوطنية بالمفاوضات ففشل ، وواجها بالتحكيم الدولى ففشل أيضاً ، فانصرف عنها ملتفتاً إلى مشاكل الاقتصاد والتنمية ففشل كذلك، وعجز عن المواجهة ، ولم يستطع تقديم حلول للأزمة الاقتصادية التى كانت تفتك بالملايين من شعب مصر. وأتت حرب فلسطين 1948 فهُزم، وانطلقت حركة الكفاح المسلح فى القناة ، والتى كانت بمثابة محك اختبار حقيقى للأحزاب السياسية ، فكشفت عن عجزها جميعاً وعجز النظام برمته عن قيادة النضال الشعبى ضد المحتل ، وأخيراً كان إحراق القاهرة يوم 26 يناير 1952 أوضح دليل على تفسخ عرى النظام واهتراء كل مؤسساته ، وبعد إحراق القاهرة بدأت مصر كلها تشعر برجفات الزلزال ، وبدأ الكل يتوقع شروعه فى هز أديم مصر، واقتلاع النظام الملكى من جذوره .
يهمنا على أية حال ، أن جمال عبد الناصر، عاصر إخفاق تجربة مصر الليبرالية فى تحقيق الهدف القومى الأول ؛ أقصد تحقيق الاستقلال التام، وتحرير تراب مصر المقدس من النفوذ والسيطرة الأجنبية ، وبديهى وهو الطالب الذى لحقته يد السياسة مبكراً ، وشارك فى المظاهرات وهو لا يزال فى المرحلة الثانوية ؛ بديهى أنه تابع وهو طالب بالكلية الحربية ، ثم وهو ضابط بالجيش ومدرساً بالكلية الحربية ؛ إخفاق التجربة فى إقامة حكم دستورى يستند إلى ديمقراطية صحيحة ، فضلاً عن إحساسه ومعايشته اليومية لتفاقم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، وتجاهل النظام لقضية العدل الاجتماعى .ومع أننا نستبعد أن يكون عبد الناصر، قبل تأسيس تنظيم الضباط الأحرار سنة 1946، قد وصل إلى مثل هذا المستوى الأكاديمى فى التحليل التاريخى لأزمة التجربة الليبرالية ، وإخفاقات أكبر أحزابها : حزب الوفد ، إلا أن رفضه للتعاون مع حزب الوفد، وابتعاده عنه وعن الأحزاب التى انسلخت منه ، وكذا عن الأحزاب التى كانت تدور حيث يدور عرش فاروق، لا يخلو من دلالة ، كما أن دلالة الضربة العنيفة التى وجهتها الثورة إلى الأحزاب السياسية سنة 1953 واضحة لا تحتاج إلى تعليق .لقد عايش عبد الناصر التجربة الليبرالية المصرية فى انتكاستها ، وعاصر لحظات إخفاقها ، وعبَّر بعد ذلك فى فلسفة الثورة وفى الميثاق ، وعبر خطبه وتصريحاته وأحاديثه؛ عن فهمه لأسباب فشل ثورة 1919 والتجربة الحزبية قبل الثورة ؛ حيث اعتبرها حلقة من حلقات الحركة الوطنية المصرية فشلت فى تحقيق آمال الشعب المصرى .
وبالإضافة إلى التجربة الليبرالية وأحزابها ، عاصر عبد الناصر الجماعات الإيديولوجية السرية والعلنية التى ظهرت فى العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين ؛ تلك الجماعات التى ملأت الشارع السياسى المصرى صخباً وعنفاً ، والتى وقف بعضها على يمين النظام، والبعض الآخر وقف على يساره .وربما تجدر الإشارة إلى أن جميع الأحزاب والقوى المعارضة للنظام كانت قد اكتشفت بعد الحرب العالمية الثانية أن " جيش الملك " وأداته التى يستخدمها فى السيطرة على الجماهير قد أصبح قوة منظمة ومسلحة يمكن الاعتماد عليها ، واتجهت جميعها صوبه ، تحاول تسييس ضباطه واستقطابهم لتلوح بهم أو لتستخدمهم فى مواجهة خصومها، حاول حزب الوفد، لكن الضباط ابتعدوا عنه واتجهوا إلى الجماعات الأيديولوجية ، وإلى العناصر الراديكالية التى انفصلت عن الحزب الوطنى وشكلت ما سُمى " باللجنة العليا لشباب الحزب الوطنى " . كانت جماعة الإخوان المسلمين قد نشأت كرد فعل سلفى لحركة التغريب فى المجتمع المصرى ، وكرد فعل - كما سبق - لإلغاء الخلافة الإسلامية على يد " مصطفى كمال أتاتورك " سنة 1924 ، وتكاد تكون إيديولوجيا الجماعة منسوخة من مدرسة المنار التى أسسها رشيد رضا، والتى قامت على دعائم خمسة نقلها حسن البنا حرفياً ، حين دعا إلى شمولية الإسلام، وضـرورة الرجـوع إلى بساطتـه الأولـى ، كما نادى بفكرة الجامعة أو الرابطة الإسلامية ، وكذا التمسك بنظام الخلافة الإسلامية ، وضرورة إقامة الحكومة الإسلامية .ولم يكن فكر جماعة الإخوان بعيداً عن عبد الناصر، بل إن أيديولوجيا الجماعـة مثلـت بصــورة أو بأخــرى مصــدراً من مصادر الفكر السياسى لعبد الناصر ونفر من رفاقه الضباط، الذين انضموا معه وبعده إلى الجماعة فى عهد حسن البنا، لكنهم سرعان ما ابتعدوا عن الجماعة بعد تأسيس تنظيم الضباط الأحرار سنة 1946 ، حيث أصدر عبد الناصر توجيهاته أواخر نفس العام للضباط الأحرار بأن يحتفظوا باستقلال تفكيرهم ، ولا يرتبطوا كأفراد أو جماعات بأى هيئة أو جماعة خارج نطاق الجيش.
وتكمن أسباب ابتعاد عبد الناصر عن الجماعة ، حسب روايته ، ورواية رفاقه ، بل وحسب رواية بعض كوادر الإخوان ؛ فى فشل الإخوان فى تقديم إجابات شافية محـددة واضحـة حـول طبيعة النظـام وماهية السياسات ، أو البرامج التى سيحكمون بها مصر فى حالة توليهم زمام الأمور، بالإضافة إلى أن تأييد الإخوان لإسماعيل صدقى هز صورة الجماعة فى نظر الضباط. لكن الأهم أن عبد الناصر أدرك مبكراً - ربما قبيل وفاة مرشد الجماعة الأول - أمرين على درجة كبيرة من الأهمية :
الأول : هو مدى التقارب والالتقاء بين أهداف الجماعة وأهدافه .
أما الثانى : فهو مدى الافتراق بين أيديولوجيا الجماعة وأفكاره ، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتفاصيل المهمة والدقيقة ، أما الخطوط العامة فلم يكن هناك اختلاف كبير حولها .
ومن هذه الزاوية فلا يوجد ما يمنع من اعتبار فكر حسن البنا فى عموميته مصدراً من المصادر الفكرية التى تأثر بها جمال عبد الناصر، جنباً إلى جنب مع فكر محمد عبده، وجمال الدين الأفغانى، ورشيد رضا .ولعل هذا مسئول ، ويفسر فى نفس الوقت ، التزام الناصرية فيما يتعلق بقضية أصل الوجود ، بنظرة الدين ، فالله وحده هو مصدر الوجود وخالق الكون ، كما آمنت بمشيئته فى توجيه البشر وهدايتهم ، ومن ثم تفرق بين عالمين ، عالم الحياة البشرية المقيدة بحدود الزمان والمكان ، وعالم آخر مطلق يتعالى على أية صفة تحدد له مكاناً أو زماناً ، وبهذا الصدد رفضت الناصرية موضوعياً ذلك التناقض المفتعل الذى نسجته ولا تزال قوى الرجعية والإمبريالية من أجل وضع الدين فى مواجهة أية دعوة تستهدف تحرير الإنسان من الاستغلال والسيطرة ، كذلك رفضت وجهة النظر الماركسية فى الدين ، وأكدت أن الدين فى جوهره ومعناه يؤكد قيم التقدم والعدل والمساواة ، كما ينطوى على دعوة للإنسان بأن يكون عمله من أجل التقدم، وأن يكون كفاحه من أجل العدل .
واعتبرت الناصرية الدين قوة دافعة للشعوب ، ذات رسالة تقدمية تحارب الاستغلال، وتقف فى وجه الجشع، وتقاوم الاستبداد والطغيان ، ونتيجة لإيمان الناصرية بالدور الإيجابى الخلاق فلم تجد أى تناقض بين الاشتراكية وبين الحفاظ على الدين وتدعيمه ، فالتطبيق الاشتراكى لا يتعارض مع جوهر الإيمان بالله ورسله ، والأديان فى المحصلة النهائية ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته. ومن الأحزاب الأيديولوجية ، التى خبرها أيضاً جمال عبد الناصر، وانفعل بها وتفاعل معها ، جماعة أو حزب مصر الفتاة ، الذى بدأ باسم جمعية مصر الفتاة ، التى أسسها أحمد حسين وأعلن عن وجودها يوم 21 أكتوبر 1933؛ وهى جمعية استقت خطوطها النظرية الأساسية من منابع فاشية ونازية ، حيث طالبت ببعث مجد مصر الفرعونية ، وتأسيس إمبراطورية مصرية عظيمة تتكون من مصر والسودان ، وتحالف الدول العربية وتتزعم الإسلام أيضاً ، لتصبح كلمة مصر فى النهاية هى الأعلى ، وتصبح مصر فوق الجميع. كان أحمد حسين فى الحقيقة قومياً متطرفاً، دارت دعوته داخل الفكرة القومية ، وفى إطار فكرة الإمبراطورية المصرية ، وكان إحياء الإسلام وشعائره ، وإعادة الدين الإسلامى إلى سابق مجده وقوته؛ مقترنتين فى ذهنه بفكرة زعامة مصر. ولقد مثلت جماعة مصر الفتاة بأفكارها هذه وبشعاراتها الملتهبة ، منذ أن تكونت وإلى بداية الحرب العالمية الثانية ، تياراً من تيارات المعارضة الوطنية المتطرفة بين جماهير الشباب المصرى المتحمس ، تياراً اتسم بالصخب والتمرد على الظروف المتردية البائسة التى كانت تعيشها مصر. وتمكن الحزب قبيل الحرب العالمية الثانية أن يفرض وجوده فى الشارع السياسى المصرى ، إلا أنه عانى كثيراً بسبب فرض الأحكام العرفية إبان الحرب ومطاردة السلطات لشبابه المتحمس المعادى للحلفاء . وبعد الحرب تغيرت موازين القوى العالمية ، وانطلقت حركات التحرر الوطنى فى البلاد المستعمَرة ، وانتصرت الاشتراكية فى كثير من البلدان، وبدأ الفكر الاشتراكى ينتشر فى مصر، الأمر الذى أدى إلى تراجع نشاط الجماعة فى الشارع السياسى ، الذى سيطرت عليه جماعة الإخوان بدعوتها السلفية، ومنظمات اليسار الماركسى العديدة بأفكارها التقدمية ، فى نفس الوقت الذى كان الوفد لا يزال يحتفظ بوجوده ربما لأسباب تاريخية. إلا أنه فى سنة 1948، وضع حزب مصر الفتاة ، برنامجاً سياسياً اجتماعياً محافظاً أبقى أحمد حسين فيه على الشـعار التقليــدى للحــزب " الله - الوطن - الملك " ، ودعا للعمل فى إطار النظام القائم والعمل فى حدوده ، وأكد على أن الملكية الدستورية هى حجر الزاوية فى الدستور ، وتمثلت روح المحافظة أيضاً فى إغفاله للصراع الطبقى، الذى يعتبر الإقرار به أساس الفهم والعمل من أجل التحرر الاجتماعى ، ومع ذلك احتوى البرنامج الجديد على بعض الملامح التى دلت على تجاوزه لمفهومه الفكرى القديم ، حيث طالب بتحريم تملك واستئجار الأجانب للأراضى بكافة أنواعها، مع تصفية الشركات العقارية ، وتحريم تملك الأجانب للشركات ذات المنفعة العامة أو احتكار المرافق، مع تصفية شركات المياه والكهرباء ، والبترول، والمواصلات، ومع تحويل هذه المؤسسات إلى المنفعة العامة تحت إدارة الهيئات المحلية والبلديات، وكذا طالب بتصفية شركة قناة السويس باعتبار القناة مرفقاً عاماً مصرياً، وبوضع حد أعلى للملكية فى الأراضى البور التى تستصلح ، وأن تلغى الضرائب المباشرة وغير المباشرة عن الحاجات الأساسية للشعب، وتتدرج الضرائب على الدخل ، وتضمن البرنامج أيضاً بعض المطالب الاقتصادية للجماهير بدت أقرب إلى الأمانى منها إلى الأهداف الجادة والمطالب الموضوعية الممكنة ؛ مثل تحديد الحد الأدنى لأجور العمال الصناعيين والزراعيين.
وفى العام التالى 1949 ، حدث تحول كبير فى موقف حزب مصر الفتاة ، حيث استبدل شعاره إلى " الله ، الشعب "، وأسقط الملك ، وكان معنى ذلك أن الحزب سعى إلى تخطى النظام السياسى ، كما كان لاستبدال الشعب بلفظ الوطن دلالة اجتماعية تشير إلى اتجاه الحزب للانحياز للطبقات الشعبية، وبقبوله مبدأ الصراع الطبقى. وأجرى الحزب تغييراً شكلياً آخر حيث استبدل اسم مصر الفتاة بحزب مصر الاشتراكى الذى عرف حتى قيام الثورة بالحزب الاشتراكى. ولقد غزا الشارع السياسى هو الآخر بشعارات كثيرة، بعضها كان جيداً وعنيفاً؛ حيث طالب أحمد حسين بتحديد الملكية الزراعية بخمسين فداناً، وتوزيع الزائد على العاملين فيها ، وبتأميم مصادر الإنتاج الكبرى ، وتحديد دخل الفرد بما لا يزيد عن خمسمائة جنيه شهرياً ، وتعيين وزيراً للبلاط يكون مسئولاً عن تصرفات رجال الحاشية الملكية . كما طالب بتوزيع حاجات الشعب بالبطاقات التى تحدد الكمية المستحقة والثمن من الدخل ، وكذا بضرورة إيجاد عمل لكل مواطن، ومنع استيراد الكماليات، والقضاء على مظاهر الترف . وطالب كذلك بضرورة تقشف الحكام وخفض المرتبات ، وتقرير الضرائب المباشرة ، ونزع ملكية 11 ألف مالك ممن يمتلكون أكثر من خمسين فداناً لتوزع على المعدمين، وتقرير أسلوب الإنتاج التعاونى فى الريف ، وإمداد الدولة للفلاحين بالآلات، وتحديد إيجارات الأراضى الزراعية ، مع وضع برامج للسنوات الخمس تؤدى إلى كهربة مصر واستخراج المعادن ، وكذا طالب بتأميم الطب ، وتخطيط القرى، والقضاء على الأمية والبطالة. وفيما يتعلق بالمسألة الوطنية ، كرر الحزب الاشتراكى فى برنامجه ما طالبت به من قبل جماعة مصر الفتاة ، بضرورة تحرير وادى النيل من ربقة الاستعمار الأجنبى ، والمناداة بوحدة وادى النيل ، كما أعلن الحزب استمرار إيمانه بضرورة توحيد الشعوب العربية جميعها فى ظل دولة واحدة، أطلق عليها " الولايات المتحدة العربية " .
ولقد ميز الحزب الجديد بين النظام الاشتراكى الذى يدعو إليه عن الشيوعية بأن الشيوعية تنطوى على تنكر للماضى واختصام للأديان، فى حين ترى الاشتراكية التى نادى بها أحمد حسين أن أساسها هو الدين . على أية حال استطاع الحزب الاشتراكى بشعاراته الصارخة الرنانة اجتذاب قطاعات من الشباب المصرى الذين استهوتهم تنظيماته العسكرية وقمصانه الخضراء ، والذين ابتعدوا عن الوفد بعد أن خاب أملهم فيه . والمعروف أن جمال عبد الناصر وبعض رفاقه قد انضموا لمصر الفتاة ، قبل دخولهم الكلية الحربية، وأن جمال عبد الناصر نفسه شارك فى واحدة من مظاهرات مصر الفتاة فى الإسكندرية ، لكنه ورفاقه سرعان ما ابتعدوا عنها بعد التحاقهم بالجيش. وقد يفسر ابتعاد الضباط عن مصر الفتاة بالتوجيهات التى أصدرها عبد الناصر أواخر سنة 1946، إلا أن هناك عوامل أخرى يمكن أن تفسر ذلك منها ؛ وقوع حزب أحمد حسين فى سلسلة من الأخطاء ، كان أهمها مناصبته العداء لحزب الوفد ، مما دعا الحزب الكبير إلى تشكيل جماعات ذات نمط عسكرى أطلق عليها اسم أصحاب القمصان الزرقاء ، وتمكنت بسهولة من ضرب أصحاب القمصان الخضراء وإضعافها، ومن الأخطاء أيضاً تحالف مصر الفتاة مع القصر، واعتماد أيديولوجيات متناقضة واللجوء إلى الصخب السياسى أكثر من اعتمادها على برامج موضوعية . ومن ذلك أيضاً مراهنة أحمد حسين على الولايات المتحدة الأمريكية ، فى الوقت الذى كان فيه شعار الاستعمار الانجلو/ أمريكى يتردد فى وثائق بعض التيارات السياسية.
ومع ذلك مثلت أفكار مصر الفتاة والحزب الاشتراكى مصدراً من المصادر المهمة التى تفاعل معها جمال عبد الناصر وانفعل بها ، وتأثر بالكثير مما هو موضوعى من المقولات التى أعلنها الحزب الاشتراكى سنة 1949 . وجدير بالذكر أن بعض منشورات الضباط الأحرار حملت فيما حملت بعض من طروحات وشعارات مصر الفتاه ، ليس هذا فقط؛ بل إن بعض الضباط ظلوا على صلة بها حتى بعد انضمامهم لتنظيم الضباط الأحرار. والأهم من ذلك – كما لاحظ البعض – اقتراب الصياغات الفكرية لثورة يوليو، وكذا ممارستها فى السنوات الأولى من عمرها من برنامج الحزب الاشتراكى، من ذلك على سبيل المثال ؛ تأميم مصادر الإنتاج، وتأميم قناة السويس ، الأساس الدينى للاشتراكية ، الوحدة العربية ، مسألة تحديد الإيجارات الزراعية ، وكذا إلغاء الرتب والألقاب .وإن كنا نسلم بأن هذه المقولات لم تكن ملكاً للحزب الاشتراكى وحده، لكن يبقى أن مصر الفتاة مثلت هى الأخرى مصدراً مهماً من مصادر التكوين الفكرى لعبد الناصر .نفس الشىء ينسحب على الحزب الوطنى وهو حزب مصطفى كامل، الذى قرأ عن سيرته جمال عبد الناصر وهو فى المرحلة الثانوية، وتأثر به واستخدم عباراته فى رسائله إلى صديقه حسن النشار كما ذكرنا، فرغم الضعف والهزال الذى أصاب الحزب ، ورغم تراجع جماهيريته بعد الحرب العالمية الأولى؛ فإن أفكاره – خاصة بعد انتهاج جماعة الشباب التى تزعمها فتحى رضوان خطاً ثورياً فى أواخر الأربعينيات – مثلت هى الأخرى زاداً تـزود به جمـال عبد الناصر ، يقف دليلاً على ذلك أمرين ؛ الأول : ما ذكـره عبد الناصر ورفاقه من اهتمامهم بقراءة صحيفة " اللواء الجديد" التى أصدرها فتحى رضوان ، والتى نهجت نهجاً ثورياً واضحاً ما بين 1949 - 1952، أما الأمر الثانى : فيتمثل فى إشراك ستة من أعضاء الحزب فى الوزارة التى شكلها محمد نجيب فى سبتمبر 1952، من مجموع الوزراء البالغ عددهم ستة عشر وزيراً ، كان فى مقدمتهم بالطبع فتحى رضوان ونور الدين طراف.
ومن ناحية أخرى ، عاصر جمال عبد الناصر نشاط قادة العمل السرى الفدائى ، الذين كانوا ينتمون إلى الحزب الوطنى ، ويؤمنون بفكرة الاغتيالات السياسية ، فهى عندهم وسيلة مشروعة من وسائل النضال ضد الاستعمار البريطانى ، ووفقاً لما رواه عبد العزيز على أحد أهم عناصر جماعة "اليد السوداء" - وهو ما أكدته روايات بعض أعضاء تنظيم الضباط الأحرار - فإن عبد العزيز على قد اتصل بالضباط ونجح فى تشكيل خلية واحدة منهم ، إلا أن محاولته لتكوين جناح عسكرى لتنظيمه المدنى قد باءت بالفشل فى النهاية، ومع ذلك فإن اتصالاته بالضباط قد لعبت هى الأخرى دوراً، وأثرت بشكل أو بآخر فى جمال عبد الناصر . وربما ظهر هذا التأثير فى محاكاة عبد الناصر لجماعة اليد السوداء واتجاهه إلى انتهاج نهجها فى الاغتيال السياسى ، وذلك عندما فكر ودبر وخطط لاغتيال أحد أعداء تنظيم الضباط الأحرار. إلا أن أسلوب الاغتيال السياسى سرعان ما اختفى تماماً من فكر عبد الناصر، بل إنه اعترف بندمه على المحاولة التى لم تحقق هدفها على أية حال. ومع ذلك يبقى اختيار عبد العــزيـز علــى للمشــاركة فى وزارة 7 سـبتمبر 1952 التى رأسهــا محمد نجيب ؛ دليلاً واضحاً على تقدير نشاطه ورفاقه من قادة الحزب الوطنى، الذين لجئوا إلى أسلوب الاغتيالات ، كما أن خروجه من الوزارة فى أول تعديل وزارى تم يوم 9 ديسمبر من نفس العام ، لا يخلو هو الآخر من دلالة .ولقد عايش جمال عبد الناصر وانفعل وتفاعل أيضاً مع الأفكار التى طرحتها المنظمات الماركسية المصرية، التى عرفت طريقها إلى مجتمع المثقفين المصريين ، وكذا إلى الجيش المصرى بعد انتصار الثورة الاشتراكية فى روسيا سنة 1917 ، حيث ظهرت منظمات شيوعية عديدة بدأت بالأجانب ثم امتدت بعد ذلك إلى نفر من المصريين ، الذين أعلنوا فى أغسطس 1921، تأسيس ما عرف بالحزب الاشتراكى المصرى ليعبر عن أفكار الاشتراكيين المعتدلين ، والشيوعيين أيضاً.
لكن سرعان ما انحسر وتراجع النشاط الشيوعى فى مصر بعد ظهور جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، وجماعة مصر الفتاة عام 1933، وبسبب ملاحقات أجهزة الأمن لكوادر الحزب وعناصره ، ونجاحها فى توجيه الضربة تلو الأخرى للحركة الشيوعية وهى فى مهدها(87) . وقبيل الحرب العالمية الثانية وإبانها عادت الحركة الشيوعية فى مصر إلى الانتعاش مرة ثانية مستفيدة من ظروف الحرب وبروز الاتحاد السوفيتى كقوى عظمى ، فتعددت الجماعات والتنظيمات؛ فقبيل الحرب ظهرت " رابطة أنصار السلام " ، التى انضمت إليها بعض العناصر المصرية، ثم انسلخ عنها " النادى الديمقراطى " تحت قيادة " هنرى كورييل " وكانا هذين التجمعين أكبر تنظيمين ماركسيين عند قيام الحرب تفرعت عنهما وعاشت إلى جوارهما بعـض التجمعات الصغيـــرة ؛ مثــل منظمـة " تحـريـر الشعـب " التى أسسها " مارسيل إسرائيـــل " وتفــرعـت عنها منظمة " الخبز والحرية " ، وجماعة " ثقافة وفراغ " ، كما تفرع عن " النادى الديمقراطى " تجمع أطلق على نفسه " الفن والحرية " . وبعد الحرب غيرت جماعة " أنصار السلام " اسمها إلى " جماعة البحــــوث " ، ثم ظهــرت جماعـة " الفجـر الجديـد " التى حـولـت اسمها إلى " الطليعة الشعبية للتحرر" فى سبتمبر 1946 ، ثم إلى " طليعة العمل " كما انقسم " الاتحاد الديمقراطى " سنة 1942 إلى تنظيمين هامين ؛ الأول : عرف بـــ " الحـركـة المصريـة للتحــرر الوطنى " الذى عرف بـ " حمتو " ، بقيادة " هنرى كورييل " ، والثانى : هو تنظيم " أيسكرا " أو " الشرارة " بقيادة " هليل شوارتز".
وفـى عـام 1947 تمت الوحدة بين " الحركة المصرية للتحرر الوطنى " و " أيسكرا " واتخذت المنظمة الجديدة اسم " الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى " التى اشتهرت " بحدتو" والتى تعد هى ومنظمة " الحزب الشيوعى المصرى " الذى تأسس فى ديسمبر 1949 أهم التنظيمات الماركسية، وأكثرها نشاطاً حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952. ويهمنا ونحن نتتبع المصادر الفكرية لجمال عبد الناصر، أن الحركة الشيوعية المصرية قدمت مقولات وطروحات جديدة، كان من بين أهمها؛ مسألة الربط بين التحرر السياسى والتحرر الاجتماعى ، ومسألة الربط بين الاستعمار والاحتكارات ، وكذا المعالجة الجديدة للمسألة السودانية ، حيث طرح الفكر الماركسى فكرة الاتحاد الاختيارى مقابل فكرة السيادة ؛ بمعنى المطالبة للسودان بحق تقرير المصير على أن تترك مسألة الوحدة للحركة الوطنية السودانية . ومن المقولات الماركسية أيضاً ، إبراز أهمية المساندة السوفيتية لحركات التحرر الوطنى ، والتعويل على دور المعسكر الاشتراكى فى مكافحة الاستعمار . تتبلور إسهامات الفكر الماركسى فى برنامج الحزب الشيوعى المصرى الذى نادى بما يأتى :
1 - الاستقلال والتحرر من الاستعمار الأجنبى؛ الإنجليزى والأمريكى، وجلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان .
2 - الوقوف فى المعسكر الذى يضم جميع الشعوب المستعمرة التى تناضل عن حريتها واستقلالها تحت زعامة الاتحاد السوفيتى ، واعتبار الصين الشعبية قدوة لشعوب المستعمرات فى الكفاح من أجل التحرر والديمقراطية، والدفاع عن السلام .
3 - القضاء على نظام كبار ملاك الأراضى الإقطاعيين والرأسماليين.
4 - مصادرة الملكيات الزراعية الكبيرة ( ما يزيد على 50 فداناً ).
5 - تأميم الاحتكارات والبنوك والمرافق العامة والمؤسسات الاستعمارية، وإدارتها بواسطة العمال.
6 - إطلاق الحريات السياسية.
7 - بناء جيش شعبى ديمقراطى من جميع أبناء الشعب.
8 - تحسين مستوى معيشة العمال وفئات الشعب الأخرى ، وبخاصة الفلاحين والموظفين، وتأمين العمال ضد البطالة والمرض والشيخوخة، وجعل ساعات العمل أربعين ساعة فى الأسبوع.
9 - فرض الضرائب التصاعدية على الدخل والأرباح غير العادية، والتركات، وإعفاء العمال ، وفقراء الفلاحين ، وصغار الموظفين من الضرائب المباشرة، وإلغاء جميع الضرائب غير المباشرة التى تصيب المستهلكين الفقراء.
10 - جعل التعليم بجميع مراحله حقاً لكل مصرى بغير مقابل مع توفيره لجميع أبناء الشعب، وتحرير العلوم والثقافة من بقايا الأفكار الاستعمارية والاستبدادية الرجعية.
11 - تحرير المرأة من قيود الحريم الاستبدادية المتأخرة، ومساواتها بالرجل فى جميع الأمور.
12 - حرية الشعب السودانى وحق تقرير مصيره بنفسه، وتأمين كفاحه من أجل التحرر الكامل ، وجلاء جميع القوات الاستعمارية البريطانية والمصرية من أراضيه.
13 - حرية الشعب الفلسطينى وحقه فى تقرير مصيره بنفسه، وتكوين دولة فلسطين العربية الديمقراطية.
هذا عن المقولات والبرامج والأبعاد التى قدمتها الحركة الشيوعية المصرية، لكن ماذا عن علاقة جمال عبد الناصر بالمنظمات الشيوعية؟ وماذا عن تأثير الماركسية كمصدر من مصادر تكوينه الفكرى ؟تجدر الإشارة أولاً إلى أن الحركة الشيوعية المصرية - التى تسللت فى البداية إلى أوساط المثقفين والعمال - نجحت فى التسلل أيضاً إلى ضباط الجيش، حيث انجذب بعض الضباط إلى المنظمات المختلفة ، خاصة بعد تأييد الكتلة الاشتراكية لمصر فى هيئة الأمم المتحدة، وربما ساعد على ذلك أيضاً نجاح الماركسيين فى تقديم تصور فكرى شامل قدم إجابات جاهزة لكل ما كان يجـــول بخاطـر الضبـاط الشبان .
وحسب شهادات المعاصرين لجمال عبد الناصر، وحسب ما صرح به هو نفسه، فإنه اتجه فى الأربعينات نحو فكر المنظمات الشيوعية المصرية ليتعرف على مواقفهم وأهم مقولاتهم وطروحاتهم ، وسواء ثبت أنه كان يتردد باسم حركى " زغلول عبد القادر" أو " موريس " على إحدى الخلايا الماركسية، أم لم يثبت ، فالذى يهمنا أنه – ومجموعة من رفاقه – تأثروا بالفكر الماركسى، الأمر الذى يتضح بجلاء إذا ما أجرينا مطابقة أو مقارنة بين كثير من طروحات الحركة الشيوعية المصرية فى كثير من القضايا والإشكاليات، وبين سياسات عبد الناصر، والصياغات الفكرية للناصرية . من ذلك على سبيل المثال لا الحصر؛ موقفه من طبقة كبار ملاك الأراضى الزراعية، وإصدار قانون الإصلاح الزراعى فى التاسع من سبتمبر 1952، ومسألة تأميم الاحتكارات والبنوك فيما يتعلق بالسياسية الداخلية، وموقفه من المسألة السودانية ، ومؤامرات الاستعمار العالمى فيما يتعلق بالسياسة الخارجية .ومن ناحية أخرى، يمكن بيسر إثبات غلبة المفردات والمفاهيم الماركسية فى الخطاب السياسى الناصرى ، وفى الوثائق الفكرية الأساسية لثورة يوليو ( فلسفة الثورة ، الميثاق ، بيان 30 مارس ) ، بالإضافة إلى خطب وتصريحات وأحاديث عبد الناصر . على سبيل المثال أيضاً، ما جاء فى فلسفة الثورة حول " الثورة الاجتماعية التى تتصارع فيها الطبقات .."، وهى إشارة مبكرة للفكر الاشتراكى تلاها طرح شعار الاشتراكية لأول مرة فى خطاب الخامس من ديسمبر 1957، حيث ذكر عبد الناصر: " أن الثورة تريد أن يحل محل النظام الاستغلالى الاحتكارى؛ نظام اقتصادى اشتراكى ديمقراطى تعاونى، من أجل مصلحة الغالبية العظمى للشعب … ".
ثم تعددت بعد هذا التاريخ المقولات الاشتراكية والمفردات والمفاهيم الماركسية ، حتى كانت إجراءات يوليو 1961 الاشتراكية ، حيث حدد عبد الناصر مضمون الاشتراكية فى أنها " إلغاء استغلال الإنسان للإنسان ، وتصفية الفوارق بين الطبقات تمهيداً لإقامة مجتمع الكفاية والعدل … ". ومع أن هذه الدراسة ليست معنية فى المقام الأول بمناقشة أيديولوجيا الناصرية، وموقف عبد الناصر من الماركسية، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن عبد الناصر كان حريصاً على الإشارة فى مناسبات كثيرة إلى نقاط الاتفاق والاختلاف بين الفكر الاشتراكى العالمى، والاشتراكية التى نادى بها .ومع أننا قد انتهينا إلى أن الفكر الماركسى كان مصدراً مهماً هو الآخر من المصادر التى أسهمت فى التكوين الفكرى لقائد ثورة يوليو جمال عبد الناصر، إلا أنه لا بد من ملاحظة ما يلى : -
أولاً : إن الفكر الماركسى فرض نفسه عبر الصراع الدولى والمحلى، وبالتالى شاعت المقولات، والتعبيرات، والشعارات، والمفاهيم الماركسية فى العمل السياسى .
ثانياً : إن تأثر عبد الناصر بالمصطلحات والمفردات الماركسية أتى من المناخ العام السائد، ومن انفتاحه على الفكر الإنسانى ، وقراءاته المستمرة .
ثالثاً : إن عبد الناصر لم ينقل المصطلحات الماركسية كما هى ، بل كانت له مصطلحاته الخاصة ، ومفرداته التى عبرت عن الواقع والخصوصية المصرية والعربية .
رابعاً : يجب أن نفرق بين الماركسية كمذهب لنظام دولة ، وبين الفكر الماركسى وتفاعلاته ومعطياته؛ فالماركسية كمذهب تعنى سيطرة حزب شيوعى على الدولة بهدف فرض مقولاته، أما معطيات الفكر الماركسى فيقصد بها المحاولة والجهد النقدى والجدلى للواقع الاجتماعى، وللتاريخ، والأفكار، وهذا ما فعله عبد الناصر . وتبقى الإشارة أيضاً إلى أن عبد الناصر عايش وتفاعل وتأثر بسيادة وانتصار الفكرة العربية قبل وبعد تأسيـس جامعـة الدول العربية ، فلـم يكن عبد الناصر – وهو القارئ والدارس والمتابع السياسى النشط – بعيداً عن المعارك التى كانت تدور بين التيارات السياسية والأيديولوجية المختلفة حول هوية مصر، سواء تلك التى تبناها " الإخوان المسلمون "، حيث نادوا بفكرة الجامعة الإسلامية ، وكانت عندهم الوحدة العربية مقدمة لتحقيق الوحدة الإسلامية أو " القومية الإسلامية " على حد تعبير مرشد الجماعة الأول حسن البنا ، أو تلك التى تبناها نفر من المثقفين فى مقدمتهم طه حسين وسلامه موسى وغيرهم ، الذين تمسكوا بالقومية المصرية ، واعتبروا العرب من الأمم الغازية مثلهم مثل الفرس، واليونان، والترك، والفرنسيين، وغيرهم .
ولم يكن عبد الناصر بعيداً أيضاً عما كان يكتب عن المؤتمرات العربية والإسلامية التى كانت تعقد لبحث قضية فلسطين العربية ، وبديهى وهو القارئ المتابع للأحداث الجارية؛ أنه تابع ما كان يصدر من مقالات عديدة حول قضية العروبة، من ذلك ما كانت تصدره مجلة "الرابطة العربية" التى أصدرها أمين سعيد. وجدير بالذكر، أنه مع نهاية الحرب العالمية الثانية بات واضحاً أن المسألة الفلسطينية قد دخلت فى نسيج الحياة السياسية المصرية ، وأن الجانب العربى للسياسات المصرية قد أصبح من مجالات الصراع السياسى بين الأحزاب ومختلف القوى السياسية، الأمر الذى أصبحت معه الشئون العربية جزءاً لصيقاً ومكوناً رئيسياً من مكونات السياسات المصرية، والخطاب اليومى فى الشارع السياسى المصرى. لقد وجد عبد الناصر فى النصف الثانى من الأربعينات رصيداً هائلاً من الشعور بالانتماء العربى فى مصر ، وكان هذا الشعور ينمو ويتراكم فارضاً نفسه على أى سياسى مصرى منذ مطلع ثلاثينات القرن العشرين، وكما هو معروف فإن جمال عبد الناصر نجح بجدارة فى التفاعل مع الفكرة العربية، كما نجح فى توظيفها منذ أن بدأ يحدد مكانه من الحرب الباردة.
ومـع أنـه ليــس مـن أهــداف هـذه الدراسـة تتبـع السياسـة العربيـة لعبد الناصر، أو التأريخ لنمو الفكرة العربية عنده، إلا أنه من الضرورى الإشارة إلى أن الفكرة العربية تسللت إلى جمال عبد الناصر مبكراً، عندما شارك وهو فى المدرسة الثانوية فى التظاهرات التى كانت تخرج فى الثانى من شهر ديسمبر من كل سنة احتجاجاً على وعد بلفور، وهو يؤكد أن مشاركته فى هذه التظاهرات كانت نتيجة أو تحت تأثير " العاطفة "، أما فهمه للفكرة العربية، فقد تبلور عندما كان طالباً بالكلية الحربية، بعد دراسته لتاريخ حملات فلسطين، وفى كلية أركان الحرب، وبعد دراسته وقراءاته للمشكلات الاستراتيجية فى الشرق الأوسط تجسدت الفكرة العربية فى ذهنه كمذهب سياسى. ولقد أثرت هزيمة 1948 فى فكر عبد الناصر ، وجيل كامل من الضباط العرب الذين رأوا بأنفسهم أزمة نظم الحكم داخل بلادهم ، وتدنى أوضاع الشعوب العربية، وهزيمتهم أمام إسرائيل، ولعل أبرز مظاهر هذا التأثير، الاحتكاك والتقارب الذى وقع على أرض فلسطين بين الضباط العرب، الذين اقتنعوا بأن السبب الحقيقى وراء الهزيمة إنما هو دخولهم الحرب كسبع جيوش لا كجيش واحد، ولعل هذا يفسر سياسات عبد الناصر العربية التى بدأت مبكراً حتى قبل تأسيس إذاعة صوت العرب ، وهو الأمر الذى أشار إليه فى فلسفة الثورة؛ عندما اعتبر الدائرة العربية أهم الدوائر الثلاث التى تحيط بمصر.
وسـتظل قيمـة العروبـة مـن القيـم الرئيسيـة فى نظام القيم السياسية لعبد الناصر، والتى تشمل؛ مكافحة الاستعمار والهيمنة الغربية والاستغلال فى ممارسة السياسة الخارجية . وطوال الفترة الناصرية تحملت مصر ما أملته عليها حقائق التاريخ والجغرافيا من دور قيادى داخل الدائرة العربية ، وانعكس ذلك فى كل ممارستها الإقليمية والعالمية، وكان ذلك يعنى نجاح عبد الناصر فى الاستجابة لنبض الأمة، حيث كان وعيه بمسألة عروبة مصر هو المتغير فى حياة العرب وليس عروبة مصر ذاتها. ولقد تأثر عبد الناصر أيضاً، بمقولات حزب البعث العربى الاشتراكى، وبمقولة ميشيل عفلق أحد مؤسسى ومنظرى الحزب، بأن الاشتراكية العربية مستمدة من روح وحاجات المجتمع العربى ونهضته الحديثة، وأن هدفها هو إيجاد تنظيم اقتصادى عقلانى عادل، يحول دون الأحقاد والنزعات الداخلية، ودون استغلال طبقة لأخرى، وما ينتج عن هذا الاستغلال من فقر وجهل وشلل لنشاط أكثرية الشعب العربى، وأن الاشتراكية تقوم كخادمة للقومية العربية، وعنصراً هاماً فى بعثها وتحقيقها، والاشتراكية بهذه الصورة عند حزب البعث هى فرع خاضع للأصل الذى هو الفكرة القومية ، والنضال من أجل الاشتراكية جزء من حركة التحرر والوحدة فى الوطن العربى.
أما الأهداف والغايات الاقتصادية والاجتماعية التى تؤكد الهوية الاشتراكية ، فتشمل من وجهة نظر حزب البعث فى النظر إلى مصلحة المجموع باعتبارها فوق مصلحة الفرد والطبقة، وأن غاية الدولة هى إسعاد أكبر عدد من أفراد الشعب العربى، وإمدادهم بكل الوسائل، وإتاحة كل الفرص أمامهم ليحققوا عروبتهم على الوجه الأكمل، وهذه الاشتراكية مستمدة من روح الأمة العربية وحاجاتها العميقة وأخلاقها الأصيلة، ولا تستند إلى أية نظرية أجنبية . ولقد نادى البعث أيضاً بضرورة امتلاك الدولة للمؤسسات والموارد ذات النفع العام، وإخضاع جميع الصناعات والمشروعات الاقتصادية لرقابة الدولة تبعاً للسياسة العربية العليا من جهة، ووفق مبدأ الانسجام القومى من جهة أخرى، لمنع استغلال رأس المال لحق العمل، كما دعا البعث إلى ضرورة ضمان الدولة حق العمل، وقيامها بسن التشريعات الاجتماعية لحماية المواطنين من البطالة، والمرض، والعجز، وتعميم الخدمات الصحية والتعليمية.
وفى نفس الوقت تأثر عبد الناصر بكل من " نهرو" و "غاندى" وبالتجربة اليوغسلافية، ويرى البعض أن " نهرو" كان له تأثيراً كبيراً على أفكار عبد الناصر السياسية ، خاصة عندما كان عبد الناصر يبحث فى الخمسينات عن أيديولوجيا قومية ذات توجه اشتراكى ، وهو ما سيعبر عنه عبد الناصر بـ " الاشتراكية الديمقراطية التعاونية ". ولا يوجد ما يمنع فى الحقيقة من أن يكون عبد الناصر قد تأثر بالبرامج الهندية فى التنمية والتطور الاقتصادى، وهو الذى اطلع بعد الثورة وقبل حرب 1956 – حسب رواية على صبرى – على أيديولوجيا حزب المؤتمر الهندى، التى صاغتها مجموعة من الفلاسفة الهنود لتعبر عن أفكار نهرو حول ما سمى بـ " الطريق الوسط أو الخاص " الذى أكد على التنمية الاشتراكية والتخطيط القومى . ولقد أجاب عبد الناصر على سؤال "ديزفوند ستيوات" حول الأثر الذى تركه غاندى فى عبد الناصر، بأنه تعلم منه الكثير حول مفهوم السلم والمسالمة.
ومن ناحية أخرى ، أشار البعض إلى أن التجربة اليوغسلافية كانت مصدراً من مصادر إلهام عبد الناصر فيما يتعلق بقضية الاشتراكية، وذلك لنجاحها فى المزج بين القومية والماركسية، وإنجازها للاستقلال الوطنى، والتطور، والتنمية الاقتصادية فى آن واحد. وأخيراً يبدو من العرض السابق أن عبد الناصر انفتح على كل الأيديولوجيات والتيارات السياسية التى عاصرها، سواء فى مرحلة الدراسة أم بعد وصوله إلى السلطة، وسواء كانت وطنية بورجوازية، أم أصولية إسلامية، أم فاشية إيطالية ونازية، فضلاً عن الماركسية بطروحتها العديدة . وبديهى أن هذه الأيديولوجيات متناقضة بطبيعتها، لكن عبد الناصر حاول أن يقفز فوق التناقضات، كما حاول صهرها على أرض الواقع السياسى المصرى والعربى، والاستفادة منها كلما كان ذلك ممكناً ومناسباً لظروف بلاده.خاتمة : الناصرية لم تكن تجريبية عفوية : هكذا دأب جمال عبد الناصر منذ أن كان طالباً على محاولة استيعاب الفكر الإنسانى، وهى محاولة لم تتوقف إلا يوم رحيله فى الثامن والعشرين من سبتمبر 1970، ولم يكن هدف عبد الناصر بالطبع من وراء محاولته هذه، أن ينضم إلى قائمة الفلاسفة وأصحاب المذاهب الفكرية، بل كان هدفه الأساسى فهم الواقع المصرى والعربى فى صيرورته، وفهم القوانين والعوامل التى تحكمت، ولا تزال فى تاريخ الأمة العربية، حتى يتمكن من مواجهة قوى الاستعمار والإمبريالية، وعوامل التخلف والرجعية، وحتى يتمكن كذلك من استشراف المستقبل . إلا أن عملية تعبئة طاقات المجتمع المصرى والعربى لمواجهة الاستعمار والإمبريالية، وتحدى الواقع المتردى؛ لم تكن لتنجح بدون إطار فكرى تشكل عنده بالفعل، وامتلكه تحت التأثير المباشر للأحداث الجارية، ليس فى مصر وحدها، بل وفى العالم كله، وكذا بفضل عملية التثقيف الذاتى الواعية والصارمة والمستمرة .ولعل هذا يفسر تطويره لشعاراته ومقولاته، وتكييف تصوراته السياسية على ضوء ما كان يصل إليه من نتائج وقناعات، ولا يعيبه بالطبع - كمفكر سياسى - اتخاذه من التجربة محكاً للتثبت من صحة أفكاره، أو التحقق من صحة مبادئه .
ولعل هذا ما دفع البعض إلى اتهام عبد الناصر والناصرية بأنها تجريبية عفوية، وساقوا عدة مبررات لإثبات ذلك منها؛ أن الناصرية منذ بدايتها لم تستند إلى نظرية، كذلك من المبررات تلقائية الناصرية وعفويتها إزاء تأسيس التنظيمات السياسية، إلا إنه من اليسير فى ضوء الفهم الموضوعى للناصرية عبر تجربتها التاريخية الرد على هذا الاتهام، فالقول بغياب النظرية الثورية- وهو ما اعترف به عبد الناصر فى فلسفة الثورة- تعوزه الدقة؛ فثورة يوليو 1952 ليست أول ثورة فى التاريخ، فقد سبقتها عدة ثورات، وليس بالإمكان عزل الثورات الجديدة عن التى سبقتها، بل ليس فى إمكان الثورات الجديدة أن تكتفى بالرؤية التأملية تجاه ما سبقها من ثورات، لأنه لا يجوز النظر إلى المجتمعات البشرية فى تطورها، وكأنها فى عزلة عن بعضها البعض . ولقد رأينا عبر صفحات الدراسة كيف اهتم عبد الناصر بدراسة تاريخ الثورة الفرنسية، والثورة البلشفية، وثورة سنة 1919 وغيرها .فى الحقيقة إن تأمل الوثائق الفكرية للناصرية، خاصة الميثاق، يوضح مسألة تجاوز التجريب البرجماتى فى الفكر الناصرى، جاء فى الميثاق على سبيل المثال : " إن الثورة العربية، وهى تواجه هذا العالم، لا بد لها من أن تواجهه بفكر جديد ، لا يحبس نفسه فى نظريات مغلقة يقيد بها طاقته ، وإن كان فى نفس الوقت لا ينعزل عن التجارب الغنية التى حصلت عليها الشعوب المناضلة فى كفاحها ... " .
والنص يشرح نفسه بنفسه، فالناصرية ضد التقولب، ولكنها ليست بمعزل عن القوالب، ولعل هذه هى معضلة الناصرية، إلا أنها فى نفس الوقت تمثل ميزتها الأساسية.. ميزة الانفتاح، وهى سمة من أبرز سمات النصف الثانى من القرن العشرين. وهذا واضح من خلال رحلة التثقيف الذاتى والتكوين الفكرى لجمال عبد الناصر، كما أنه يعنى أن التجريب أو أسلوب المحاولة والخطأ - الذى أشار إليه الميثاق - لم يكن بمعزل عن أيديولوجية رجعية ممثلة فى سيطرة القوى الرأسمالية على باقى القوى الاجتماعية، ومعناه أيضاً أن الناصرية نقطة التقاء لأيديولوجيات، ولكنها فى ذات الوقت قوة استقطاب، وهى لذلك ليست متقولبة، وإنما هى منفتحة على ما هو متقولب .
على أية حال، حاول جمال عبد الناصر - حتى رحيله - فى سبيل الوصول إلى ما هو حق وصحيح؛ أن يبحث عن القواسم المشتركة بين أيديولوجيا عصره، مستخدماً منطق جدلى إنسانى متجدد، ومنظور عام ضابط، ساعده فى الوصول إلى الكليات وتجاوز الجزئيات، لكن ليس بطريقة ميكانيكية أو حسابية، بل بعملية تفاعلية ومتجاوزة حاول أن يصب هذا فى نهج استراتيجى، ومسار تاريخى وفق منهجية جدلية فى الممارسة، وبالتالى جاءت مقولاته الأساسية فى الميثاق وبيان 30 مارس ، وخطب ما قبل الرحيل؛ مختلفة فى أسسها الفلسفية عن كل من المادية الجدلية والفكر المثالى، فهى ترفض القول بأن التاريخ هو صراع أفكار فحسب، كما ترفض فى نفس الوقت اعتبار الواقع المادى وحده صانع المستقبل، وإنما ترى أن التاريخ الإنسانى هو تفاعل الإرادة الإنسانية مع كل من الفكرة والمادة؛ أى مع المثال والواقع . ومن هنا فإن نظرة الناصرية للتاريخ هى نظرة جدلية، ولكن الجدل هنا ليس جدلاً مادياً، وإنما هو جدل إنسانى لا يغفل الجانب المعنوى، باعتبار أن الإنسان الذى يمتلك الإرادة مركب من المادى والمعنوى . وعبر المحاولة وحتى الرحيل بـدا عبد الناصر كشخصية بشرية مركبة - وربما تراجيدية - تتمتع - كما رأينا - بعقلية سياسية حاذقة، كما بدا متأثراً بعمق بالإطار التاريخى والخلفية الثقافية الذى كان يعمل فى ظله، كان فى المحصلة النهائية مصرياً ومسلماً وعربياً، ثم كان أيضاً ثورياً من العالم الثالث، وكان نتاجاً ومحركاً للثورة المناهضة للاستعمار والسيطرة الإمبريالية، الثورة التى أنجبت نهرو، وماوتسى تونج ، وسوكارنو ، ونكروما، وكاسترو، وهوشى منه.
وأخيراً لقد أجاد جمال عبد الناصر قراءة التاريخ فصنعه ، وتبوأ قبل رحيله ولا يزال مكانة بارزة فى ذاكرة الأمة ، جنباً إلى جنب مع كل من قرأ عنهم فى شبابه من الزعماء والعظماء، الذين غيروا وجه التاريخ بإرادتهم الفولاذية .

ليست هناك تعليقات: