تقديم الطبعة الأولي:
على الرغم من صدور كتب كثيرة عن حرب اكتوبر 1973 بين العرب واسرائيل، إلا انه مازال هناك الكثير من الحقائق الخافية، التى لم يتعرض لها احد حتى الان، كما ان ثمة حقائق اخرى قام بعضهم بتشويهها، أحياناً عن جهل، واحياناً اخرى عن خطأ متعمد لاخفاء هذه الحقائق، ومن بين الموضوعات التى مازالت غامضة تبرز التساؤلات الاتية:
1- لماذا لم تقم القوات المصرية هجوما نحو الشرق بعد نجاحها فى عبور قناة السويس، ولماذا لم تستول على المضائق فى سيناء؟
2- هل حقاً كان ضمن تصور القيادة العامة لقوات المسلحة المصرية ان يقوم العدو بالاختراق فى منطقة الدفورسوار بالذات، وانها اعدت الخطة اللازمة لدحر هذا الاختراق فى حالة وقوعه؟ واذا كان هذا حقيقياً، فلماذا لم يقم المصريون بالقضاء على هذا الاختراق فور حدوثه؟
3- كيف تطور اختراق العدو فى منطقة الدفرسوار يوما بعد يوم، وكيف كانت الخطط التى يضعها العسكريون تنقض من قبل رئيس الجمهورية ووزير الحربية؟
4- من هو المسئول عن حصار الجيش الثالث؟ هل هم القادة العسكريون ام القادة السياسيون؟
5- كيف أثر حصار الجيش الثالث على نتائج الحرب سياسياً وعسكرياً، لا على مصر وحدها بل على العالم العربى بأسره؟
عندما قررت ان ابدأ فى كتابة مذكراتى فى اكتوبر 76 – اى بعد ثلاث سنوات من حرب اكتوبر73 – لم يكن هدفى فقط هو كشف اكاذيب السادات التى عمد الى تأليفها جزافا بعد ان وضعت الحرب اوزارها، بل كان هدفى الاول هو اعطاء صورة حقيقية للأعمال المجيدة والمشرفة التى قام بها الجندى المصرى فى هذه الحرب. ان من المؤسف حقاً ان السادات ورجاله لم يستطيعوا تقديم هذه الحرب فى الاطار الذى تستحقه كعمل من اروع الاعمال العسكرية فى العالم. لقد عمدوا الى الكلمات الانشائية والبلاغية دون الاستعانه بلغة الارقام والتحليل العلمى للعوامل المحيطة بها.لقد انحصر همهم فى اخفاء وطمس دور الفريق سعد الدين الشاذلى الذى كان يشغل منصب رئيس اركان حرب القوات المسلحة المصرية لمدة امتدت من مايو 71 (29 شهرا قبل بداية الحرب) وحتى 12 ديسمبر 73(سبعة اسابيع بعد وقف اطلاق النار)، ولم يعلم السادات انه بهذا الحقد على الفريق سعد الدين الشاذلى قد اساء إساءة بالغة للقوات المسلحة المصرية.
على الرغم من صدور كتب كثيرة عن حرب اكتوبر 1973 بين العرب واسرائيل، إلا انه مازال هناك الكثير من الحقائق الخافية، التى لم يتعرض لها احد حتى الان، كما ان ثمة حقائق اخرى قام بعضهم بتشويهها، أحياناً عن جهل، واحياناً اخرى عن خطأ متعمد لاخفاء هذه الحقائق، ومن بين الموضوعات التى مازالت غامضة تبرز التساؤلات الاتية:
1- لماذا لم تقم القوات المصرية هجوما نحو الشرق بعد نجاحها فى عبور قناة السويس، ولماذا لم تستول على المضائق فى سيناء؟
2- هل حقاً كان ضمن تصور القيادة العامة لقوات المسلحة المصرية ان يقوم العدو بالاختراق فى منطقة الدفورسوار بالذات، وانها اعدت الخطة اللازمة لدحر هذا الاختراق فى حالة وقوعه؟ واذا كان هذا حقيقياً، فلماذا لم يقم المصريون بالقضاء على هذا الاختراق فور حدوثه؟
3- كيف تطور اختراق العدو فى منطقة الدفرسوار يوما بعد يوم، وكيف كانت الخطط التى يضعها العسكريون تنقض من قبل رئيس الجمهورية ووزير الحربية؟
4- من هو المسئول عن حصار الجيش الثالث؟ هل هم القادة العسكريون ام القادة السياسيون؟
5- كيف أثر حصار الجيش الثالث على نتائج الحرب سياسياً وعسكرياً، لا على مصر وحدها بل على العالم العربى بأسره؟
عندما قررت ان ابدأ فى كتابة مذكراتى فى اكتوبر 76 – اى بعد ثلاث سنوات من حرب اكتوبر73 – لم يكن هدفى فقط هو كشف اكاذيب السادات التى عمد الى تأليفها جزافا بعد ان وضعت الحرب اوزارها، بل كان هدفى الاول هو اعطاء صورة حقيقية للأعمال المجيدة والمشرفة التى قام بها الجندى المصرى فى هذه الحرب. ان من المؤسف حقاً ان السادات ورجاله لم يستطيعوا تقديم هذه الحرب فى الاطار الذى تستحقه كعمل من اروع الاعمال العسكرية فى العالم. لقد عمدوا الى الكلمات الانشائية والبلاغية دون الاستعانه بلغة الارقام والتحليل العلمى للعوامل المحيطة بها.لقد انحصر همهم فى اخفاء وطمس دور الفريق سعد الدين الشاذلى الذى كان يشغل منصب رئيس اركان حرب القوات المسلحة المصرية لمدة امتدت من مايو 71 (29 شهرا قبل بداية الحرب) وحتى 12 ديسمبر 73(سبعة اسابيع بعد وقف اطلاق النار)، ولم يعلم السادات انه بهذا الحقد على الفريق سعد الدين الشاذلى قد اساء إساءة بالغة للقوات المسلحة المصرية.
فلكى يتاحشى هو ورجاله ذكر دور الفريق الشاذلى لم يستطيعوا ان يذكروا كيف تم اعداد القوات المسلحة وتجهيزها لهذه الحرب, ولم يستطيعوا ان يذكروا كيف قامت القوات المسلحة بعبور قناة السويس، ولم يستطيعوا ان يذكروا كيف وقع اول تصادم بين فريق الشاذلى والرئيس السادات يوم 16 من اكتوبر لخلاف فى الراى حول القضاء على العدو الذى اخترق منطقة الدفرسوار, ولم يستطيعوا ان يذكروا كيف تطور القتال غرب القناة يوماً بعد يوم، وكيف كانت آراء العسكريين تنقض من قبل السياسيين. لقد اعتقد السادات ورجاله انهم يستطيعون ان يحكوا قصة حرب اكتوبر, والا يكون نصيب رئيس اركان حرب القوات المسلحة المصرية سوى اربعة اسطر يلقون فيها عليه باللوم بصفته المسئول عن الثغرة! ما اتفه هذا التفكير! او يظن هؤلاء انهم يستطيعون ان يثبتوا ما يقولون؟ او يظن هؤلاء انه ليست لدينا الوثائق التى تثبت انهم كاذبون؟ ويل للكاذبين الذين يقولون الكذب وهم يعلمون.
لقد انتهيت من تسجيل مذكراتى فى اكتوبر 77, واخذت انتظر الوقت المناسب الذى اقوم فيه بنشرها, لأنه عامل مهم فى كسب ايه معركة سواء هذه المعركة سياسية ام عسكرية. ان مهاجمة رئيس نظام اوتوقراطى وفضح اكاذيبه وخداعه ليس بالامر السهل, فهو يحتاج الى الوثائق التى لا يتطرق اليها الشك، ويحتاج شهود دوليين، والى مناخ اعلامى مناسب. وبحلول اكتوبر 77 كان قد تم اعداد كل شئ، ولم يبق سوى انتظار المناخ الاعلامى المناسب، وفيما بين اكتوبر 77 ومايو1978 ارتكب السادات ثلاثة اخطاء كبيرة تسبب بمجموعها فى خفض شعبيته فى مصر والعالم العربى الى الحضيض، ففى نوفمبر 77 قام بزيارته المشئومة الى القدس، حيث اعطى الكثير لاسرائيل دون ان يحصل على شئ لقاء ما اعطى, وفى ابريل 78 مذكراته, وبذلك كان اول رئيس دولة فى العالم بنشر مذكراته وهو مايزال في السلطة لقد كان نشر هذا الكتاب عملا لا اخلاقيا استغل فيه السادات منصبه كرئيس دولة وحاكم بامره يملك وسائل الاعلام يعطي ويمنح يرقي ويفصل ، ينصر ويقهر ـ ليختلق الاكاذيب علي من يخالفه في الراي ، وفي مايو 78 ارتكب الخطا الثالث باجراءاته التعسفية لإسكات كل رأي حر في البلاد لقد كنت اراقب السادات وهو يقوم بتصرفاته الشاذة بألم وحسرة ، بصبر وتحفز ، في انتظار الوقت المناسب وبحلول شهر ينونيو 78 وجدت أن الصمت بعد ذلك قد يكون خيانة لعزة مصر وشرفها وقواتها المسلحة وفي يوم 19 من يونيو 1978 ومن مكتبي كسفير لمصر في البرتغال هاجمت السادات هجوما عنيفا وقلت كل ما يريد كل مصري حر ان يقوله ، كنت أعلم بانني اضحي بمنصبي الممتاز من اجل مبادئي وكنت سعيدا بذلك لقد ظن السادات أن حياة الأبهة التي أعيش فيها كسفير قد تنسيني حبي لمصر وحبي للكفاح من أجل مصر ، ولكنه اخطا في تقديره هذا خطاً جسيما . لعل السادات يري الناس من خلال نفسه إنه يستطيع بالمال والمناصب ان يشتري اي شخص، ولكن هيهات هيهات فليس الرجال كلهم سواسيه.
وها هى ذى مذكراتى عن حرب أكتوبر73 أهديها لكل ضابط وكل جندى فى القوات المسلحه المصريه، واننى فخور جدا بكل يوم وكل ساعه قضيتها كرئيس لأركان حرب القوات المسلحة المصرية. تلك الفتره التي تم خلالها تخطيط وتنفيذ اول عمليه هجوميه ناجحه ضد اسرائيل في الثلاثين سنه التي سبقتها، وإني انتهز هذه الفرصه لكي أشيد بكل ضابط وكل جندي شارك في تلك الحرب اللتي اعادت للجندي المصري كرامته وأنصفت تاريخه المجيد؛ لقد كانوا هم الأصحاب الحقيقيين لهذه المذكرات اللتي صنعوها بدمائهم وشجاعتهم، وكانوا شهود عيان لكل أحداثها، إن بعض الحوادث التي ذكرتها في هذه المذكرات يعلمها الألاف منهم وبعضها الأخر يعلمها المئات اوالعشرات فقط. إن مئات الالوف منهم سوف يستقبلون هذه المذكرات بحماس شديد ولكن قليلون-ممن باعوا انفسهم للسادات وربطوا مصيرهم بمصيره- سوف يجدون أنفسهم في كرب شديد، فإما ان يقولوا الحق وهم يعلمون أن ذلك سوف يعني فقدانهم لمناصبهم، وإما ان يقولوا الباطل وهم يعلمون الحقائق، فيفقدوا بذلك سمعتهم أمام الناس وأمام ابنائهم وأمام التاريخ، ناهيك عن حساب الله الذي يمهل ولا يهمل. اني ارثي لهؤلاء وادعو الله ان يوفقهم الي الصراط المستقيم, ولكني احذرهم بانني قادر علي اثبات كل ما كتبت في هذه المذكرات.
الحمد لله رب العالمين الذي وفقني في ان أقول كلمة الحق وأن ادافع عنها واللهم أهدنا وأنر الطريق لنا وانزل السكينة في قلوب المؤمنين حتي يستطيعوا ان يقفوا في وجه الطغيان وألا يكتموا كلمة الحق وهم يعلمون.
لقد انتهيت من تسجيل مذكراتى فى اكتوبر 77, واخذت انتظر الوقت المناسب الذى اقوم فيه بنشرها, لأنه عامل مهم فى كسب ايه معركة سواء هذه المعركة سياسية ام عسكرية. ان مهاجمة رئيس نظام اوتوقراطى وفضح اكاذيبه وخداعه ليس بالامر السهل, فهو يحتاج الى الوثائق التى لا يتطرق اليها الشك، ويحتاج شهود دوليين، والى مناخ اعلامى مناسب. وبحلول اكتوبر 77 كان قد تم اعداد كل شئ، ولم يبق سوى انتظار المناخ الاعلامى المناسب، وفيما بين اكتوبر 77 ومايو1978 ارتكب السادات ثلاثة اخطاء كبيرة تسبب بمجموعها فى خفض شعبيته فى مصر والعالم العربى الى الحضيض، ففى نوفمبر 77 قام بزيارته المشئومة الى القدس، حيث اعطى الكثير لاسرائيل دون ان يحصل على شئ لقاء ما اعطى, وفى ابريل 78 مذكراته, وبذلك كان اول رئيس دولة فى العالم بنشر مذكراته وهو مايزال في السلطة لقد كان نشر هذا الكتاب عملا لا اخلاقيا استغل فيه السادات منصبه كرئيس دولة وحاكم بامره يملك وسائل الاعلام يعطي ويمنح يرقي ويفصل ، ينصر ويقهر ـ ليختلق الاكاذيب علي من يخالفه في الراي ، وفي مايو 78 ارتكب الخطا الثالث باجراءاته التعسفية لإسكات كل رأي حر في البلاد لقد كنت اراقب السادات وهو يقوم بتصرفاته الشاذة بألم وحسرة ، بصبر وتحفز ، في انتظار الوقت المناسب وبحلول شهر ينونيو 78 وجدت أن الصمت بعد ذلك قد يكون خيانة لعزة مصر وشرفها وقواتها المسلحة وفي يوم 19 من يونيو 1978 ومن مكتبي كسفير لمصر في البرتغال هاجمت السادات هجوما عنيفا وقلت كل ما يريد كل مصري حر ان يقوله ، كنت أعلم بانني اضحي بمنصبي الممتاز من اجل مبادئي وكنت سعيدا بذلك لقد ظن السادات أن حياة الأبهة التي أعيش فيها كسفير قد تنسيني حبي لمصر وحبي للكفاح من أجل مصر ، ولكنه اخطا في تقديره هذا خطاً جسيما . لعل السادات يري الناس من خلال نفسه إنه يستطيع بالمال والمناصب ان يشتري اي شخص، ولكن هيهات هيهات فليس الرجال كلهم سواسيه.
وها هى ذى مذكراتى عن حرب أكتوبر73 أهديها لكل ضابط وكل جندى فى القوات المسلحه المصريه، واننى فخور جدا بكل يوم وكل ساعه قضيتها كرئيس لأركان حرب القوات المسلحة المصرية. تلك الفتره التي تم خلالها تخطيط وتنفيذ اول عمليه هجوميه ناجحه ضد اسرائيل في الثلاثين سنه التي سبقتها، وإني انتهز هذه الفرصه لكي أشيد بكل ضابط وكل جندي شارك في تلك الحرب اللتي اعادت للجندي المصري كرامته وأنصفت تاريخه المجيد؛ لقد كانوا هم الأصحاب الحقيقيين لهذه المذكرات اللتي صنعوها بدمائهم وشجاعتهم، وكانوا شهود عيان لكل أحداثها، إن بعض الحوادث التي ذكرتها في هذه المذكرات يعلمها الألاف منهم وبعضها الأخر يعلمها المئات اوالعشرات فقط. إن مئات الالوف منهم سوف يستقبلون هذه المذكرات بحماس شديد ولكن قليلون-ممن باعوا انفسهم للسادات وربطوا مصيرهم بمصيره- سوف يجدون أنفسهم في كرب شديد، فإما ان يقولوا الحق وهم يعلمون أن ذلك سوف يعني فقدانهم لمناصبهم، وإما ان يقولوا الباطل وهم يعلمون الحقائق، فيفقدوا بذلك سمعتهم أمام الناس وأمام ابنائهم وأمام التاريخ، ناهيك عن حساب الله الذي يمهل ولا يهمل. اني ارثي لهؤلاء وادعو الله ان يوفقهم الي الصراط المستقيم, ولكني احذرهم بانني قادر علي اثبات كل ما كتبت في هذه المذكرات.
الحمد لله رب العالمين الذي وفقني في ان أقول كلمة الحق وأن ادافع عنها واللهم أهدنا وأنر الطريق لنا وانزل السكينة في قلوب المؤمنين حتي يستطيعوا ان يقفوا في وجه الطغيان وألا يكتموا كلمة الحق وهم يعلمون.
الفريق سعد الدين الشاذلى
رئيس اركان حرب القوات المسلحه المصريه
خلال الفترة من 16 مايو 71 حتي 12 ديسمبر 73
رئيس اركان حرب القوات المسلحه المصريه
خلال الفترة من 16 مايو 71 حتي 12 ديسمبر 73
الفصل الأول : المشاريع الاستراتيجية
لم نكف عن التفكير في الهجوم على العدو الذي يحتل أراضينا حتى في أحلك ساعات الهزيمة في يونيو 1967، لقد كان الموضوع ينحصر فقط في متى يتم مثل هذا الهجوم وربط هذا التوقيت بإمكانات القوات المسلحة لتنفيذه وفي خريف 1968 بدأت القيادة العامة للقوات المسلحة تستطلع إمكان القيام بمثل هذا الهجوم على شكل "مشاريع استراتيجية" تنفذ بمعدل مرة واحدة في كل عام، وقد كان الهدف من هذه المشاريع هو تدريب القيـادة العامة للقوات المسلحة- بما في ذلك قيادات القوات الجوية والقوات البحرية وقوات الدفاع الجوي، وكذلك قيادات الجيوش الميدانية وبعض القيادات الأخرى- على دور كل منها في الخطة الهجومية. لقد اشتركت أنا شخصيا في ثلاثة من هذه المشاريـع قبل أن أعين رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة. لقد اشتركت في مشاريع عامي 1968 و1969 بصفتي قائداً للقوات الخاصة (قوات المظلات وقوات الصاعقة)، واشتركت في المرة الثالثة عام 1970 عندما كنت قائدا لمنطقة البحر الأحمر العسكرية. وقد جرت العادة على أن يكون وزير الحربية هو المدير لهذه المشاريع، وأن يدعى رئيس الجمهورية لحضور جزء منها، لكي يستمع إلى التقارير والمناقشـات التي تدور خلالها، وقد استمرت هذه المشاريع خلال عامي 1971 و1972أما المشروع الذي كان مقررا عقده عام 1973 فلم يكن إلا خطة حرب أكتوبر الحقيقية التي قمنا بتنفيذها في 6 أكتوبر 1973.
وحيث إن إسرائيل كـانت تتفوق علينا تفوقاً ساحقاً في كل شئ خلال عام 1968 والأعوام التـالية، فقد كان مديرو هذه المشاريع الاستراتيجية يفترضون امتـلاكنا لقوات مصرية ليست موجودة واقعياً، وذلك حتى يكون من الممكن تنفيذ مشروع الهجوم بأسلوب لا يتعارض مع العلم العسكري. وبمعنى آخر فإن المديرين كانوا يضعون الخطة الهجومية على أساس ما يجب أن يكون لدينا، إذا أردنا القيام بعملية هجوم ناجحة. ولا يمكن أن نعتبر هذا خطا كبيرا حيث إن مثل هذه الخطط وإن كانت غير واقعية، فإنها تظهر بوضوح حجم القوات المسلحة التي يجب توافرها لكي يمكن تنفيذ خطة هجوميـة ناجحة. وفي خـلال السنوات 69 وما بعدها أخذت قواتنا المصرية تزداد قوة، وأخذت خططنا في تلك المشاريع الإستراتيجية تبدو اقل طموحا- نتيجة ربط الأهداف بالإمكانات الواقعية- وبذلك أخذت الثغرة بين إمكاناتنا الهجومية وخططنا الهجومية في المشاريع الاستراتيجية تضيق شيئا فشيئا، حتى تم إغلاقها تماماً في أكتوبر1973. وهكذا أصبحت خطتنا الهجومية عام 73 مطابقة للإمكانات الفعلية لقواتنا المسلحة الإستراتيجية تبدو اقل طموحا- نتيجة ربط الأهداف بالإمكانات الواقعية- وبذلك أخذت الثغرة بين إمكاناتنا الهجومية وخططنا الهجومية في المشاريع الاستراتيجية تضيق شيئا فشيئا، حتى تم إغلاقها تماماً في أكتوبر 1973. وهكذا أصبحت خطتنا الهجومية عام 73 مطابقة للإمكانات الفعلية لقواتنا المسلحة.
الفصل الثاني : إمكاناتنا الهجومية
عندما عينت رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة المصرية (ر.ا.ح.ق.م.م) في 16 من مايو 71، لم تكن هناك خطة هجومية، وإنما كانت لدينا خطة دفاعية تسمى "الخطة 200"، وكانت هناك أيضا خطة تعرضيه أخرى تشمل القيام ببعض الغارات بالقوات على مواقع العدو في سيناء ولكنها لم تكن في المستوى الذي يسمح لنا بأن نطلق عليها خطة هجومية، وكانت تسمى "جرانيت".
بدأت عملي بدراسة إمكانات القوات المسلحة الفعلية ومقارنتها بالمعلومات المتيسرة عن العدو بهدف الوصول إلى خطة هجومية تتمشى مع إمكاناتنا الفعلية، وقد أوصلتني تلك الدراسة إلى النقط الرئيسية التالية:
1- إن قواتنا الجوية ضعيفة جداً إذا ما قورنت بقوات العدو الجوية. أنها لا تستطيع أن تقدم أي غطاء جوي لقواتنا البرية اذا ما قامت هذه القوات بالهجوم عبر أراضي سيناء المكشوفة، كما أنها لا تستطيع أن توجه ضربة جوية مركزة ذات تأثير على الأهداف المهمة في عمق العدو.
2- أن لدينا دفاعا جويا لا بأس به يعتمد أساساً على الصواريخ المضادة للطائرات SAM ولكن -وللأسف الشديد- هذه الصواريخ دفاعية وليست هجومية، إنها جزء من خطة الدفاع الجوي عن الجمهورية، وهي لذلك ذات حجم كبير ووزن ثقيل وتفتقر إلى حرية الحركة (لم يكن لدينا في هذا الوقت الصاروخ SAM6 الخفيف الحركة والذي يستطيع أن يتحرك ضمن تشكيلات القوات المهاجمة)، وبالتالي فأنها لا تستطيع أيضا أن تقدم غطاء جويا لأية قوات برية متقدمة عبر سيناء إنها سلاح مناسب في الدفاع حيث يمكن أن توفر لها الوقاية بوضعها في ملاجئ خرسانية يتم إنشاؤها خلال بضعة أشهر، أما إذا خرجت من هذه الملاجئ لترافق القوات البرية المهاجمة، فأنها تصبح فريسة سهلة لقوات العدو الجوية وقوات مدفعيته.
3- كانت قواتنا البرية تتعادل تقريبا مع قوات العدو. لقد كان لدينا بعض التفوق في المدفعية- في ذلك الوقت- ولكن العدو كان يختبئ وراء خط بارليف المنيع، والذي كانت مواقعه قادرة على أن تتحمل قذائف مدفعيتنا الثقيلة دون أن تتأثر بهذا القصف، وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت قناة السويس - بما أضافه العدو إليها من موانع صناعية كثيرة- تقف سداً منيعاً آخر بين قواتنا وقوات العدو (1).
4-أما قواتنا البحرية، فقد كان من الممكن أن نعتبرها أقوى من بحرية إسرائيل، ولكن ضعف قواتنا الجوية قلب الموازين وأحال تفوقنا البحري إلى عجز وعدم قدرة على التحرك بحراً.. لقد كان في استطاعة العدو أن يتجول في خليج السويس ببعض الزوارق الصغيرة وهي لا تحمل سوى بعض الرشاشات دون أن يكون في استطاعتنا أن نتحدى تلك القوارب الصغيرة بقطع بحرية هي أكثر قوة وافضل تسليحا. لقد كانت تلك القطع البحرية المعادية تعتمد على قوة الطيران الإسرائيلي الذي يستطيع أن يغرق أية قطعة بحرية مصرية تتعرض لها. ولم يقتصر تحدي العدو لبحريتنا على تقييد حركتها في أعالي البحار، بل انه استفاد من ضعف دفاعنا الجوي في منطقة البحر الأحمر، فكان يقوم بتوجيه عدة ضربات برية ضد قطعنا البحرية ونجح في عدد من الحالات في إغراق بعض قطعنا البحرية وهي راسية في الميناء . لم يكن بإمكاننا أن نحقق دفاعا جويا مؤثرا بواسطة الصواريخ عن جميع أهدافنا داخل الجمهورية، ولذلك فقد كانت هناك أسبقيات تنظم توزيع هذا الدفاع، وكانت جبهة قناة السويس والعمق يستحوذان على إمكاناتنا كلها تاركين منطقة البحر الأحمر شبه عارية من وسائل الدفاع الجوي، اللهم إلا بعض المدافع التقليدية المضادة للطائرات. والتي لا تشكل أي تهديد خطير للطائرات النفاثة الحديثة، والمجهزة بصواريخ جو ارض ذات مدى طويل يجعلها قادرة على أن تصيب أهدافها دون أن تدخل في مدى مدافعنا المضادة للطائرات وفي هذه الظروف استطاع العدو أن يحصل على السيطرة البحرية في خليج السويس والجزء الشمالي من البحر الأحمر بواسطة قواته الجوية، وذلك على الرغم من تفوقنا العددي والنوعي في القطع البحرية على إسرائيل.
ونتيجة لهذه الدراسة فقد ظهر لي انه ليس من الممكن القيام بهجوم واسع النطاق يهدف إلى تدمير قوات العدو وإرغامه على الانسحاب من سيناء وقطاع غزة، وان إمكاناتنا الفعلية قد تمكننا- إذا احسنا تجهيزها وتنظيمها- من أن نقوم بعملية هجومية محددة تهدف إلى عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف ثم التحول بعد ذلك للدفاع، وبعد إتمام هذه المرحلة يمكننا التحضير للمرحلة التالية التي تهدف إلى إحتلال ألمضائق، حيث أن المرحلة الثانية سوف تحتاج إلى أنواع أخرى من السلاح والى أسلوب آخر في تدريب قواتنا، وقد كانت فكرتي في القيام بهذا الهجوم المحدود متأثرة بالعوامل الرئيسية التالية:
1- كان العامل الأول هو ضعف قواتنا الجوية، كما سبق أن قلت. لقد كنت حريصا ألا نزج بقواتنا الجوية في معارك جوية غير متكافئة مع العدو. لقد دمرت قواتنا الجوية مرتين على الأرض. كانت المرة الأولى إبان العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي عام 1956، وكانت المرة الثانية إبان الهجوم الإسرائيلي المفاجئ عام 1967.
وفي خلال السنوات الأربع الماضية قمنا ببناء ملاجئ خرسانة لطائراتنا، كما أقمنا شبكة دفاع جوي بالصواريخ حول قواعدنا الجوية، وبذلك اصبح لدينا بعض الضمانات ضد تدمير قواتنا الجوية بضربة جوية مفاجئه، كما تم في الحالتين السابقتين ولكن بمجرد أن يقلع الطيار بطائرته في الجو فإنه سوف يعتمد اعتماداً كليا على مهارته وعلى كفاءة طائرته عند اشتباكه مع الطائرات المعادية، ومن خلال الاشتباكات المتعددة التي تمت بين طائراتنا وطائرات العدو بعد 1967 ظهر تفوق الطيران الإسرائيلي في هذه الاشتباكات بشكل واضح وحاسم، وقد دار كثير من الجدل والمناقشات حول هذا الموضوع: هل هو نقص في تدريب طيا رينا ومهارتهم؟ أم هو عدم كفاءة طائرة الميج 21 بالمقارنة مع طائرات العدو؟ كان طيارونا يلقون بأسباب فشلهم في هذه الاشتباكات على الطائرة، في حين كان الخبراء السوفيت يلقون باللوم علي الطيارين المصريين. وفي اعتقادي أن فشلنا في هذه الاشتباكات كان يعود إلى كل من الطيار والطائرة ،وكذلك إلى الظروف التي كان العدو يفرضها علينا في هذه الاشتباكات. فعندما كان العدو يخطط لمثل هذه الاشتباكات فإنه كان ينتقي لها افضل طياريه ويرسم لها خطة محكمة يبدأها عادة بأن يخترق أجواءنا في الوقت والمكان والاتجاه الذي إنتخبه ضمن خطته، وعندما نقوم نحن باعتراض تلك الطائرات المعادية، فإننا نعترضها بواسطة من يتصادف قيامهم بخدمة العمليات في أعلى درجات الاستعداد، وقد يكون من بينهم بعض الطيارين حديثي الخبرة وهؤلاء لا يمكن مقارنتهم بأي حال من الأحوال بالنخبة المختارة من الطيارين التي دفع بها العدو للتحرش بهم، وبالإضـافة إلى ذلك فإن طيارينا ينطلقون بطائراتهم ألإعتراضية إلى الجو دون أية خطة مرسومة معتمدين على ما سوف يحصلون عليه من معلومات من الموجهين الأرضيين، وحيث أن الموجهين الأرضيين هم الآخرون يقومون بدور خدمة عادي، فقد يكون منهم الموجه الجيد أو الموجه دون المستوى المطلوب.ونتيجة لذلك كله، فإن العدو يقابلنا بأفضل طياريه وبخطة مرسومة، بينما نقابله نحن بما هو متيسر لدينا في الخدمة من طيارين وموجهين ودون أية خطة، ولذلك فقد كانت النتائج دائماً في مصلحة العدو. في كثير من الحالات أفاد طيارونا بأنهم اسقطوا بعض طائرات العدو، ولكن لم يقم دليل قوي على ذلك في معظم الحالات. لم يكن طيارونا تنقصهم الشجاعة، ولكن كانت تنقصهم الخبرة والتجربة. لقد كانت الغالبية العظمى منهم تقل ساعات طيرانهم عن 1000 ساعة طيران، في حين كان متوسط ساعات طيران الطيارين الإسرائيليين يزيد على 2000 ساعة. لقد كانت القوات الجوية الإسرائيلية تسبق القوات الجوية المصرية بعشر سنوات على الأقل، وإذا أضفنا إلى ذلك كله أن طائراتنا كـانت اقل كفاءة من طائرات العدو، ولاسيما من حيث المدى وقوة التسليح والتجهيز بالأسلحة الإلكترونية وجدنا أن طيارينا كانوا يقاتلون عدوهم في ظروف غير متكافئة، ومن هنا بدا يتولد عندي أسلوب جديد في استخدام قواتنا الجوية يعتمد على مبدأين: المبدأ الأول، هو تحاشي المجابهة مع العدو في الوقت والمكان اللذين يختارهما هو. والمبدأ الثاني هو أن نستخدم قواتنا الجوية عندما تشتعل الحرب بتوجيه ضربات مفاجئة في الأوقات والأماكن التي نستبعد فيها أي تدخل من جـانب قوات العدو الجوية. وبمعنى أخر، فقد كنت اهدف إلى أن اجعل القوات البرية والأهداف الأرضية الإسرائيلية تتأثر نفسيا بهجمات قواتنا الجوية، وفي الوقت نفسه نحاول أن نتجنب أية معارك جوية. لقد كنت مقتنعا بأنه ما لم نستخدم قواتنا الجوية بحرص وذكاء فمن الممكن أن نخسر قواتنا الجوية للمرة الثالثة مع فارق بسيط هو أننا هذه المرة نخسرها وهي في الجو بدلا من خسـارتها وهي على الأرض، كـما تم في المرتين السابقتين.
2- كان العامل الثاني هو قدرات صواريخنا المضادة للطائرات SAMومداها في المعركة الهجومية. لقد أثبتت صواريخنا كفاءتها خلال حرب الاستنزاف ما بين 68 و70، وكذلك خلال الاشتباكات والتحرشات مع طيران العدو بعد وقف إطلاق النار في 7 من أغسطس 70 وحتى قيام حرب أكتوبر 73. إن إسرائيل لم تحترم قط وقف إطلاق النار، واستمر طيرانها يقوم باختراق مجـالنا الجوي كلما سنحت له الفرصة بذلك، ولكننا لاحظنا بكل فخر انه كان دائما يحاول أن يتفادى اختراق المناطق التي يعلم أنها تحت مظلة من صواريخ ٍ SAM، وقد كان ذلك في حد ذاته شهادة رسمية من العدو تنطق باحترامه وخشيته من صواريخنا. لقد كان أحد دروس حرب الاستنزاف هو أن القوات الجوية المعادية تكون ذات تأثير ضئيل ضد القوات ألمخندقة، وذات تأثير كبير ضد القوات الأرضية إذا ما هوجمت في العراء وهى خارج مدى مظلة دفاعنا الجـوى بالصواريخ SAM .ومن هنا كان علينا أن نقيد حركتنا شرق القناة في أية عمليـة هجومية، وان نربط هذه الحركة بقدرة دفاعنا الجوي على مدى الوقاية التي يستطيع أن يحققها لقواتنا البرية. وقد كانت إمكاناتنا في الدفاع الجوي - بعد القيام ببعض الإجراءات الخاصة- قادرة على تحقيق دفاع جوي مؤثر شرق القناة بمسافة تتراوح ما بين 10 و12 كيلومترا، وان أي هجوم بري يتجاوز هذه المسافة قد يقود إلى عواقب وخيمة.
3- لقد كان العامل الثالث هو الرغبة في أن نرغم إسرائيل على قتالنا تحت ظروف ليست مواتية لها. إن إسرائيل ذات الثلاثة ملايين نسمة تعبئ وقت الحرب حوالي 20% من قوتها البشرية للانضمام إلى القوات المسلحة وقوات الدفاع الإقليمي، وهي نسبة عالية جدا لم تستطع أية دولة في العالم أن تصل أليها. وإسرائيل نفسها لا تستطيع أن تتحمل مثل هذه التعبئة لمدة طويلة لأنها ترهق اقتصادها القومي وتصيب خدماتها وجميع نشاطاتها الأخرى بالشلل الكامل.
ونتيجة لهذا الموقف، فإن لإسرائيل مقتلين: المقتل الأول هو الخسائر في الأفراد، والمقتل الثاني هو إطالة مدة الحرب. إن إسرائيل لا تهتم كثيرا إذا هي خسرت الكثير من الأسلحة المتطورة Sophisticated من دبابات وطائرات ولكنها تصاب بالهلع إذا خسرت بضع مئات من الأفراد. إن لديها رصيدا هائلا من المعدات، وهناك من يقوم نيابة عنها بدفع ثمن فواتير السلاح، أما خسائر الأفراد، فإن رصيد الشعب اليهودي من البشر رصيد محدود، ومن الصعب تعويض هذه الخسائر. كذلك فإن إطالة الحرب هي السم الذي يضعف مقاومة إسرائيل يوما بعد يوم. إن الجندي الإسرائيلي الذي يستدعى في ألتعبئه هو نفسه العامل والمهندس في المصنع، وهو نفسه الأستاذ والطالب في الجامعة، وهو نفسه الذي يقوم بجميع النشاطات الأخرى في الدولة، فكيف يمكن لهذه الدولة أن تعيش لو امتدت الحرب ستة أشهر فقط ،وما بالك بأكثر من هذا؟ لقد كانت إسرائيل في جميع حروبها السـابقة تفضل أسلوب الحرب الخاطفة Blitzkrieg. لذلك فقد كان من صالحنا أن نفرض عليها حربا بأسلوب ليس في صالحها. فلو أننا توقفتا شرق القناة بمسافة تتراوح ما بين10 و 12 كم، فأننا سنخلق لها موقفا صعبا، فإذا هي قامت بالهجوم على مواقعنا شرق القناة فستكون لدينا الفرصة لأن نحدث في قواتها المهاجمة خسائر كبيرة سواء في القوات الأرضية أم القوات الجوية التي تساندها، نظرا لوجود تلك المنطقة تحت مظلة دفاعنا الجوي، وإذا هي عزفت عن الهجوم فسوف تضطر إلى الاستمرار في تعبئة قواتها المسلحة، وبذلك تستنزف قوتها الاقتصادية.
4 - أما العامل الرابع الذي اثر على تفكيري، فقد كان "تعلم الحرب بواسطة الحرب"، أو بمعنى أخر تدريب الضباط والجنود على الحرب الكبيرة -التي سوف تتم في مراحل قادمة- عن طريق الزج بهم في حرب محدودة يستطيعون فيها أن يكتشفوا ذواتهم وان يكتسبوا خبراتهم بأنفسهم. لقد تعلمت من خدمتي في القوات المسلحة واشتراكي في خمس حروب سابقة أن ميدان المعركة هو انسب الأماكن لتدريب الرجال على فنون الحرب. إننا مهما حاولنا خلال التدريب أن نخلق المناخ الذي يتشابه مع مناخ الحرب، فإننا لن نستطيع أن نخلق الأثر النفساني الذي تولده الحرب في الجنود، هذا الأثر الذي هو خليط من الخوف والشجاعة، خليط من الكبرياء وحب البقاء. هذه الآثار النفسية على المقاتل لا يمكن أن تكتشف إلا عن طريق الحرب الحقيقية. لقد كنت أتوقع أن يلعب نجاحنا في هذه الحرب المحدودة دورا مهماً في رفع معنويات قواتنا المسلحة بعد أن تكبدت ثلاث هزائم أمام إسرائيل خلال الخمس والعشرين سنة الماضية. لهذا كنت أرى أن الحرب القادمة يجب أن تكون مخاطرة محسوبة، ويجب ألا تكون بأي حـال من الأحوال نوعاً من أنواع المقامرة.
الفصل الثالث : تطور الخطة الهجومية
قبل مرور شهرين على تعييني رئيساً للأركان العامة، كنت قد أصبحت مقتنعاً بان معركتنا القادمة يجب أن تكون محدودة ويجب أن يكون هدفها هو "عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف واحتلاله ثم اتخاذ أوضاع دفاعية بمسافة تتراوح ما بين 10 و 12 كم شرق القناة" وأن نبقى في هذه الأوضاع الجديدة إلى أن يتم تجهيز القوات وتدريبها للقيام بالمرحلة التالية من تحرير الأرض. وعندما عرضت هذه الأفكار على الفريق أول محمد أحمد صادق بصفته وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة عارض هذه الفكرة بشده وقال إنها لا تحقق أي هدف سياسي أو عسكري، فهي من الناحية السياسية لن تحقق شيئاً. وسوف يبقي ما يزيد على 60000 كيلو متر مربع من سيناء، بالإضافة إلى قطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي. ومن الناحية العسكرية سوف تخلق لنا موقفا صعبا فبدلا من خطنا الدفاعي الحالي الذي يستند إلى مانع مائي جيد، فأن خطنا الدفاعي الجديد سوف يكون في العراء وأجنابه معرضة للتطويق. وبالإضافة إلى ذلك فسوف تكون خطوط مواصلاتنا عبر كباري القناة تحت رحمة العدو. لقد كانت فكرته في العملية الهجومية هي أن نقوم بتدمير جميع قوات العدو في سيناء، والتقدم السريع لتحريرها هي وقطاع غزة في عملية واحدة ومستمرة ! قلت له كم أود أن نقوم بتنفيذ ذلك، ولكن ليس لدينا الإمكانات للقيام بذلك سواء في الوقت الحالي أم في المستقبل القريب، رد قائلا: "لو أن السوفيت أعطونا الأسلحة التي نطلبها فإننا نستطيع أن نقوم بهجومنا هذا في خلال عام أو أقل". لم أوافقه على رأيه هذا وأخبرته أننا قد نحتاج إلى عدة سنين لكي نحصل ونتدرب على الأسلحـة اللازمة لمثل هذا الهجوم. واعدت ذكـر الأسباب التي تفرض علينا القيام بعملية هجومية محـدودة. وبعد مناقشات مطولة وعبر جلسات وأيام متعددة وصلنا إلى حل وسط وهو تجهيز خطتين: خطة تهدف إلى الاستيلاء على ألمضائق، وأخرى تهدف إلى الاستيلاء فقط على خط بارليف.
أطلقنا على الخطة الأولى اسم "العملية 41 "، وقمنا بتحضيرها بالتعاون مع المستشارين السوفيت بهدف إطلاعهم على ما يجب أن يكون لدينا من سلاح وقوات لكي نصبح قادرين على تنفيذ هذه الخطة. أما الخطة الثانية، فقد أطلقنا عليها الاسم الكودي"المآذن العالية"،وكنا نقوم بتحضيرها في سرية تامة. ولم يكن يعلم بها أحد من المستشارين السوفييت، كما أن عدد القادة المصريين الذين سمح لهم بالاشتراك في مناقشتها كان محدودا للغاية، وفي خلال يوليو وأغسطس 1971 كانت الخطتان قد تم استكمالهما. كانت الخطة 41 غير قابلة للتنفيذ إلا إذا توافرت أسلحة ووحدات افترضنا وجودها، أما خطة المآذن العالية فقد كانت أول خطة هجومية مصرية واقعية.
وبناء على الخطة 41، قمنا بتحرير كشوفات بالأسلحة والعتاد المطلوب الحصول عليهما من الاتحاد السوفيتي، وكالعادة دارت مناقشات مطولة بيننا وبين المستشارين الروس بخصوص هذه ألكشوفات ،فقد كان الروس يتهموننا دائماً بالمغالاة في مطالبنا، بينما كان الجانب المصري يتهم الروس دائما بعدم الاستجابة إلى مطالبنا العادلة والضرورية وفي أكتوبر 1971 سافر الرئيس السادات والفريق أول صادق إلى موسكو، حيث تم الاتفاق على صفقة أسلحة كانت تعتبر اكبر صفقة أسلحة مع السوفيت حتى ذلك الوقت ورغم ضخامة هذه الصفقة فأنها لم تغط جميع الأسلحة اللازمة لتنفيذ " ألخطة رقم 41". ورغم أن هذه الصفقة كانت تشمل 100 طائرة ميج 21 FM وفوج صواريخ كوادرات مضادة للطائرات خفيفة الحركة (سام 6)، فأن قدراتنا في الدفاع الجوي- حتى بعد التدعيم بهذه الأسلحة الجديدة- لم تكن بقادرة على حماية أي تقدم لقواتنا البرية في اتجاه المضائق طبقا لمتطلبات "الخطة رقم 41"، كما أن الأسلحة والمعدات التي تقرر وصولها قبل نهاية عام 71 لم يكن في استطاعتنا أن نستوعبها قبل إبريل 1972 في أحسن الظروف.
وعلى الرغم من هذه الحقائق ، فقد أخذ السادات يدق طبول الحرب بعد عودته من الاتحاد السوفيتي، ويصرح في كل مناسبة وأحيانا دون مناسبة بان عام 71 هو عام الحسم، ولكي يقنع الجميع بجديته في ذلك أعلن نفسه قائدا عاماً للقوات المسلحة اعتبارا من 31 من أكتوبر 71، وفي الوقت نفسه أخذت وسائل الإعلام المصرية -التي تسيطر عليها الدولة- تتحدث عن الحرب القادمة بحرية غريبة كأنها نوع من حفلات المبارزة التي يعلن مسبقا عن ميعادها ومكان انعقادها. لقد كان موقفاً غريباً وشاذاً مما اضطرني إلى أن أفاتح الفريق صادق في هذا الموضوع، حيث قلت له: "إن الرئيس يضعنا في موقف صعب إذا كنا حقاً سنخوض المعركة هذا العام فأن الرئيس يحرمنا من المفاجأة التي يمكن أن نحققها لو أنه ظل صامتاً، وإذا كنا لن نقوم بالمعركة هذا العام، فإنه بتصريحاته هذه يمكن أن يدفـع إسرائيل إلى أن تقوم بضربة إجهاض ضد قواتنا، أو على أقل تقدير فقد تأخذ هذه التصريحات ذريعة لطلب أسلحة جديدة من الولايات المتحدة!" قال لي أنه يتفق معي في وجهة نظري هذه، وإنه ناقش هذا الموضوع مع الرئيس وانه يعتقد أن الرئيس يلعب لعبة سياسية. لم اقتنع بمثل هذه الخدع السياسية وعكفت على تدقيق وتجهيز خطة "المآذن العالية" حتى لا أجد نفسي مفاجأ بقرار سياسي بالهجوم دون فترة إنذار معقولة.
وفي خلال عام 1972 أخذنا ندخل بعض التعديلات الطفيفة على كل من "الخطة رقم 41" و"خطة المآذن العالية"، وذلك بناء على التغير المستمر في حجم قواتنا وحجم قوات العدو، ولكن جوهر كل خطة بقي كما هو عليه، ولكن تم تغيير اسم "الخطة 41" لتكون "جرانيت 2"، وبنهاية عام 1972 بقيت "خطة المآذن العالية" هي الخطة الوحيدة الممكنة، بينما كانت الخطة جرانيت 2 هي خطة المستقبل التي يشترط لتنفيذها حدوث تغييرات أساسية في إمكانات قواتنا المسلحة. كان مازال هناك ثلاث نقط ضعف رئيسية تحد من قدراتنا على تنفيذ الخطة "جرانيت 2"، وكانت أولى هذه النقط هي ضعف قواتنا الجوية. فلم يكن لديها الإمكانات التي تمكنها من تصوير وتفسير وتسليم الصور الجوية في وقت يسمح بالاستفادة من هذه المعلومات. كذلك لم تكن القوات الجوية بقادرة على توفير الدفاع الجوي للقوات البرية أثناء تحركها. وكانت نقطة الضعف الثانية هي عدم توافر كتائب صواريخ SAM خفيفة الحركة بالقدر الذي يمكنها من أن تحل محل القوات الجوية في توفير الغطاء الجوي للقوات التي تتقدم شرقاً. وكانت نقطة الضعف الثالثة هي عدم قدرة غالبية عرباتنا على السير عبر الأراضي، أي خارج الطرق الممهدة وعبر الأراضي الرملية. لقد تعلمنا من خبراتنا السابقة في الحرب أن العربات ذات العجلات التي لا تتمتع بمقدرة مقبولة على السير في الرمال خـارج الطرق تشكل عبئا ثقيلا على كاهل القوات المقاتلة، فعند ما يقوم طيران العدو بتدمير بعض هذه العربات أثناء سيرها على الطرق المرصوفة، فإن هذه العربات تقوم بسد الطريق مما يدفع العربات اللاحقة- في محاولة لتفاديها- إلى الخروج عن الطريق المرصوف فتغرز في الرمال ويتكرر الأمر نفسه حتى يختنق الطريق تماماً بما يعادل حوالي 50 متراً من كل جانب بالعربات المعطلة أو المغروزة.
عندما عين الفريق أحمد إسماعيل وزيراً للحربية وقائداً عاماً للقوات المسلحة خلفاً للفريق صادق في نهاية شهر أكتوبر 1972، عرضت عليه خططنا الهجومية لمناقشتها معه. لقد كنت أعلم مسبقاً وجهة نظره عن الحرب من تقرير كان قد تقدم به بصفته مديرا للمخابرات العامة في النصف الأول من عام 1972، وفي هذا التقرير ذكر أن مصر ليست على استعداد للقيام بحرب هجومية، وحذر من أنه لو قامت مصر بشن الحرب تحت هذه الظروف فإن ذلك قد يقود إلى كارثة وكان هذا التقرير قد رفع إلى رئيس الجمهورية وأرسلت صورة منه إلى القيادة العامة للقوات المسلحة، وأيد رئيس الجمهورية هذا التقرير في مؤتمره الذي عقد في القناطر الخيرية (1) يوم 6 من يونيو 1972. وعندما كنت أناقش الموقف العسكري مع الفريق احمد إسماعيل بصفته الجديدة كوزير للحربية ذكرته بتقريره السابق وقلت له: "لم تحدث اختلافات كبيرة في القوات المسلحة منذ تقريرك، وبالذات فيما يتعلق بالدفاع الجوي، ولكنني أعتقد أنه بإمكاننا أن نقوم بعملية هجومية محدودة"، ثم عرضت عليه الخطة "جرانيت 2" وخطة "المآذن العالية"، وقد اقتنع بعدم قدرتنا على تنفيذ الخطة "جرانيت 2" وانه يجب علينا أن نركز على خطة "المآذن العالية " وتحدد ربيع 1973 كميعاد محتمل للهجوم.
عندما بدأت في وضع اللمسات النهائية على خطة "المآذن العالية" كان يتحتم علينا أن نوسع عدد القادة الذين يلمون بالخطة ومناقشة كافة المشكلات والاحتمالات المنتظرة وفي أثناء هذه المناقشات برز سؤال مهم "متى وكيف سيقوم العدو بهجومه المضاد؟". في جميع المشاريع الاستراتيجية السابقة كنا نفترض أن العدو سيقوم بهجومه المضاد التعبوي بواسطة لواءاته المدرعة والميكانيكية ضد رؤوس الكباري بعد فترة تتراوح ما بين 36 و 48 ساعة من بدء الهجوم.
لقد كنا طبعاً نتوقع بعض الهجمات المضادة الصغيرة بقوة تتراوح ما بين فصيلة وكتيبة دبابات خلال الساعتين الأوليين من الهجوم، ولكننا لم نكن نهتم كثيرا بمثل هذه الهجمات المضادة، حيث أن قواتنا كانت قادرة على صدها بسهولة. ولكن عند مناقشة تفصيلات الخطة قدرت هيئة العمليات أن الهجوم المضاد للعدو ينتظر وقوعه بعد 24 ساعة فقط من بدء الهجوم، لقد بني تقديرهم على أساس انه على الرغم من جميع ما نقوم به من إجراءات خداعية فأن العدو سيكتشف حتما استعداداتنا قبل بدء الهجوم بثلاثة أيام، وبالتالي يكون لديه الوقت اللازم لتعبئة قواته وحشدها في أماكن قريبة من القنال تسمح له بتوجيه ضربته بعد 24 ساعة فقط من بدء الهجوم. أما إدارة المخابرات الحربية، فقد كانت أكثر حذراً ولم تعترف بان خططنا الخداعية قادرة على خداع العدو، سوف يكشف نوايانا الهجومية بمجرد بدء العد التنازلي 15 يوما قبل المعركة، وان هذا الوقت الكافي سيسمح له بتعبئة قواته في سهولة ويسر، وانه سيتمكن من حشد 18 لواء في سيناء قبل أن نبدأ هجومنا. وبالتالي فأن مدير المخابرات الحربية أشار في تقريره إلى انه يتوقع أن يقوم العدو بتوجيه هجومه المضاد العام في خلال 6-8 ساعات من بدء هجوم قواتنا.
لقد كان واضحاً أن مدير المخابرات الحربية يبالغ في قدرات العدو حتى يؤمن نفسه فيما لو استطاع العدو أن يقوم بهذا الاحتمال البعيد، أما إذا لم يستطع العدو تنفيذ هجومه المضاد في خلال ثماني ساعات فلن يتوجه أحد باللوم لمدير المخابرات. لم اكن مقتنعاً برأي مدير المخابرات، ومع ذلك فلم يكن من الممكن إهمال هذا الرأي، وكان علينا أن ندخله في حسابنا على الرغم من المشكلات الكبيرة التي خلقها لنا. لقد كانت خطتنا في العبور تتلخص في عبور أفراد المشاة المترجلين في قوارب مطاطية حاملين معهم أسلحتهم الخفيفة التي يستطيعون حملها أو جرها على الشاطئ البعيد، وكنا ننتظر أن تبدأ المعديات في العمل ما بين سعت س+ 5 وسعت س+7، أما الكباري فكنا نعتقد أنها ستكون جاهزة ما بين سعت س+7 وسعت س + 9 (2)، وبحسابنا لقدرة جميع المعديات والكباري المنصوبة، فإن الدبابات والأسلحة الثقيلة الضرورية ستحتاج إلى حوالي 3 ساعات على الأقل للعبور والانضمام إلى المشاة أي أن قواتنا العابرة لن تكتمل إمكاناتها الدفاعية لكي تصبح قادرة على صد هجوم العدو المضاد الرئيسي قبل سعت س+12 ساعة وفي احسن الظروف سعت س+10 ساعة، فإذا قام العدو بهجومه المنتظر ما بين س+6 وسعت س+8 ، كما جاء في تقرير مدير المخابرات الحربية، فمعنى ذلك انه يسبقنا بحوالي 4 ساعات، وتكون لديه فرصة جيدة لتدمير مشاتنا قبل أن تصل إليها دباباتنا وأسلحتنا الثقيلة لزيادة إمكاناتها الدفاعية، ولمواجهة هذا الاحتمال اتخذنا الإجراءات التالية (3):
1- قمنا بزيادة عدد الصواريخ المضادة للدبابات التي يحملها المشاة معهم اثناء العبور، وقد تم ذلك على حساب التشكيلات غير المشتركة اشتراكا مباشراً في عملية العبور. وهكذا جردت تشكيلاتنا التي كانت في احتياطات الجيوش الميدانية كما جرد احتياطنا الاستراتيجي من جميع الصواريخ المضادة للدبابات مالوتكا Malotka بأطقمها، وذلك حتى يمكن أن ندعم بها قواتنا المشاة المكلفة بالعبور. لقد كانت مغامرة ولكنها كانت محسوبة على أساس أن هذه الأسلحة سوف تسحب هي وأطقمها وتعاد إلى تشكيلاتها الأصلية بعد أن تصل الدبابات والأسلحة الثقيلة إلى المشاة (4).
2- قررنا زيادة عدد القوات المكلفة بالعمل في عمق العدو، وذلك بهدف تأخير وصول قواته الاحتياطية المكلفة بالقيام بالهجوم المضاد، إلى أطول أجل ممكن.
3- فرضنا على وحدات المشاة المترجلين الذين يعبرون القناة ألا يتجاوز تقدمهم 5 كيلومترات شرق القناة، مع ضرورة استناد أجنابها على القناة حتى تؤمن نفسها ضد التطويق ثم تتقوقع مشاتنا داخل رؤوس الكباري هذه إلى أن تصل إليها الدبابات والأسلحة الثقيلة. وقد كان لفرض هذه القيود فوائد متعددة، حيث، أن صغر حجم رأس الكوبري إلى هذا الحد كان يعنى تقصير الخط الدفاعي، وبالتالي زيادة نسبة تركيز أعداد أسلحتنا المضادة للدبابات لكل كيلومتر من خط المواجهة.. كما أن توقف المشاة عند هذا الخط كان يعطى لنا الفرصة لأن نشرك معها قواتنا المتمركزة غرب القناة في معركة صد هجوم العدو المضاد، وذلك بواسطة مدفعيتنا الميدانية ودباباتنا وصواريخنا المضادة للدبابات الخ. كذلك فأن توقف المشاة عند هذا الخط يجعلها تتمتع بالعمل تحت مظلة دفاعنا الجوى التي تكون ما تزال على بعد حوالي 10 كيلومترات غرب القناة لتبقى خارج مرمى مدفعية العدو الميدانية.
الفصل الرابع: الخطة بـدر
كانت الخطوط العريضة لخطتنا الهجومية بعد أن أخذت صورتها النهائية وبعد أن تغير اسمها من "المآذن العالية"، إلى "بدر" (1) تتلخص فيما يلي:
1- تقوم خمس فرق مشاة بعد تدعيم كل منها بلواء مدرع وعدد إضافي من الصواريخ مالوتكا المضادة للدبابات - والتي تسحب من التشكيلات الأخرى غير المشتركة في عملية العبور- باقتحام قناة السويس من خمس نقاط.
2- تقوم هذه الفرق بتدمير خط بارليف ثم تقوم بصد الهجوم المضاد المتوقع من العدو.
3- ما بين سعت س+18 ساعة وسعت س+24 ساعة تكون كل فرقة مشاة قد عمقت ووسعت رأس الكوبري الخاص بها لتصبح قاعدته حوالي 16 كم وعمقه حوالي 8 كم.
4- بحلول سعت س+48 ساعة تكون فرق المشاة داخل كل جيش ميداني قد سدت الثغرات الموجودة بينها واندمجت مع بعضها في راس كوبري واحد لكل جيش. وبحلول سعت س+72 ساعة يكون كل من الجيشين الثاني والثالث قد وسع راس الكوبري الخاص به بحيث يندمج الاثنان في راس كوبري واحد يمتد شرق القناة على مسافة تتراوح ما بين10-15 كم.
5- بعد الوصول إلى هذا الخط تقوم الوحدات بالحفر واتخاذ أوضاع الدفاع.
6- يتم استخدام وحدات الإبرار الجوي والبحري على نطاق واسع لعرقلة تقدم احتياطات العدو من العمق وشل مراكز قيادته.
إن قرارنا بخصوص عبور قناة السويس على مواجهة واسعة هو عقيدة ثابتة استقرت في تفكيرنا العسكري في مصر منذ عام 1968، وقد تولدت هذه العقيدة لدينا للأسباب الآتية:
1-إذا نحن قمنا بتركيز هجومنا على مواجهة صغيرة- كما هو الحال في جميع عمليات العبور السابقة عبر التاريخ- فأن ذلك سوف يعرض قواتنا لضربات جوية شديدة سواء أثناء مرحلة تجمعها في اتجاه الاختراق أم أثناء عمليه عبورها الفعلي.
2- إذا ما استخدمنا فرق المشاة التي تقوم بالدفاع غرب القناة في القيام بالهجوم، بحيث تقوم كل فرقة مشاة من مواقعها الدفاعية بعبور القناة من القطاعات التي في مواجهتها، فأن ذلك سوف يقدم لنا المزايا التالية:
أ- سوف تبقى القوات المكلفة بالهجوم في خنادقها التي تضمن لها الاختفاء والوقاية لأطول مدة ممكنة قبل أن تغادر هذه المواقع وهي في طريقها للهجوم.
ب- سوف نستفيد من التجهيز الهندسي الموجود في منطقة كل فرقة لأغراض الدفاع للاستعانة به ضمن متطلبات التجهيز الهندسي الذي يستلزمه الهجوم، وبالتالي نوفر الكثير من أعمال التجهيز الهندسي.
ج-إن ذلك سيجعل أوضاع قواتنا في الهجوم تكاد تتطابق مع أوضاعها في الدفاع، وبالتالي لا تكون هناك حاجة لإجراء تحركات كبيرة بين قواتنا قبل الهجوم، مما قد يلفت نظر العدو فتضيع منا فرصة المفاجأة.
3- إذا اختار العدو أن يقوم بتوزيع هجماته المضادة على طول المواجهة فإنه سوف يضطر إلى توزيع مجهوداته وسوف تكون لدينا فرص ممتازة لصد هجماته الأرضية والجوية بواسطة دباباتنا وصواريخنا المضادة للدبابات وصواريخنا المضادة للطائرات المنتشرة على طول الجبهة. ولو أن العدو لجأ إلى هذا الأسلوب فأن فرصته في نجاح هجماته المضادة تكاد تكون معدومة (2). أما إذا قام بتركيز هجومه المضاد على قطاع واحد أو اثنين من قطاعات الاختراق، فأنه قد تكون لديه فرصة أفضل في تدمير راس كوبري لفرقة أو اثنين بعد تحمله خسائر جسيمة- ولكن ذلك سوف يتركنا شرق القناة برؤوس كباري سليمة لعدد ثلاث فرق على الأقل ، ومن خلال هذه الفرق يكون في إمكاننا استعادة الموقف في القطاعين اللذين يكون العدو قد نجح في تدميرهما.
في خلال شهر أبريل 73 اخبرني وزير الحربية بأنه يرغب في تطوير هجومنا في الخطة لكي يشمل الاستيلاء على المضائق، فأعدت له ذكر المشكلات المتعلقة بهذا الموضوع، وانه لم يطرأ أي تغيير على الموقف منذ أن ناقشنا هذه المشكلات معا في نوفمبر 72. وبعد نقاش طويل أخبرني بأنه إذا علم السوريون بان خطتنا هي احتلال 10-15 كم شرق القناة فإنهم لن يوافقوا على دخول الحرب معنا، فأخبرته بأنه بإمكاننا أن نقوم بهذه المرحلة وحدنا وأن نجاحنا سوف يشجع السوريين على الانضمام إلينا في المراحل التالية، ولكنه قال:إن هذا الرأي مرفوض سياسياً، وبعد نقاش طويل طلب إلى تجهيز خطة أخرى تشمل تطوير الهجوم بعد العبور إلى المضائق، وأخبرني بأن هذه الخطة سوف تعرض على السوريين لإقناعهم بدخول الحرب. ولكنها لن تنفذ إلا في ظل ظروف مناسبة ، ثم أضاف قائلا: "فلنتصور مثلا أن العدو تحمل خسائر جسيمة في قواته الجوية - وهو عنصر التهديد الأساسي- وأنه قرر سحب قواته من سيناء، فهل سنتوقف نحن على مسافة 10-15 كم شرق القناة لأنه ليس لدينا خطة لمواجهة مثل هذا الموقف؟".
لقد كنت اشعر بالاشمئزاز من هذا الأسلوب الذي يتعامل به السياسيون المصريون مع إخواننا السوريين، ولكني لم اكن لأستطيع أن أبوح بذلك للسوريين، وقد ترددت كثيرا وأنا اكتب مذكراتي هذه، هل احكي هذه القصة أم لا، وبعد صراع عنيف بيني وبين نفسي قررت أن أقولها كلمة حق لوجه الله والوطن. إن الشعوب تتعلم من أخطائها، ومن حق الأجيال العربية القادمة أن تعرف الحقائق مهما كانت هذه الحقائق مخجلة.
قمنا بتجهيز الخطة الجديدة التي لم تكن إلا الخطة "جرانيت 2" بعد إجراء بعض التعديلات الطفيفة، وبعد أن تم وضع هذه الخطة دمجت مع "الخطة بدر" -التي هي خطة العبور- في خطة واحدة أصبحنا نطلق على خطة العبور لفظ "المرحلة الأولى"، وخطة التطوير لفظ "المرحلة الثانية"، ولكي نعمق الفاصل بين المرحلتين فقد كنا عندما ننتقل من شرح المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، نقول. "وبعد وقفة تعبوية نقوم بتطوير كذا كذا - ". إن التعبير العسكري "وقفة تعبوية" يعني التوقف إلى أن تتغير الظروف التي أدت إلى هذا التوقف، وقد تكون الوقفة التعبوية عدة أسابيع، وقد تكون عدة شهور أو اكثر، كنا نشرح ونناقش خطة العبور بالتفصيل الدقيق ثم نمر مرورا سريعاً على المرحلة الثانية. لم أتوقع قط أن يطلب إلينا تنفيذ هذه المرحلة، وكان يشاركني هذا الشعور قادة الجيوش ويتظاهر بذلك على الأقل وزير الحربية.
في خلال شهر في خلال شهر سبتمبر 73 قال لي أحمد إسماعيل: " إننا سوف نقوم بالحرب، فإذا سارت الأمور على ما يرام، فإن أحدا لن يهتم بتوجيه كلمة شكر لنا، أما إذا تطورت الأمور إلى موقف سيئ فإنهم سيبحثون عن شخص يلقون عليه التبعة". لقد كان أحمد إسماعيل منزعجا، وكان يخشى وقوع الهزيمة ويريد أن يؤمن نفسه ضد هذا الاحتمال، لقد طرد من قبل الرئيس عبد الناصر مرتين: المرة الأولى عقب حرب 1967، حيث كان يشغل منصب رئيس أركان جبهة سيناء، والمرة الثانية في سبتمبر 1969،حيث كان يشغل منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة وقد أثرت هاتان الحادثتان على نفسيته تأثيرا كبيراً. لقد أصبح رجلا يخشى المسئولية، ويفضل أن يتلقى الأوامر ويخشى أن يصدرها، يفكر في احتمالات الهزيمة قبل أن يفكر في احتمالات النصر، قلت له: "أنا شخصيا لا يهمني أن أتلقى كلمة شكر أو لا أتلقى، إذ أن سعادتي في إرضاء نفسي، وإني لا أخشى كلمة لوم، لأني متيقن بأننا سننتصر بإذن الله". لم تطمئنه كثيرا كلماتي المتفائلة، وقال: "انه من الأفضل أن يصدر رئيس الجمهورية توجيهاً يحدد فيه واجب القوات المسلحة، حتى لا يكون هناك خلاف في المستقبل حول هذه الأمور، وانتهت مناقشاتنا على أساس انه سيطلب إلى الرئيس السادات إصدار هذا الأمر. وفي نهاية سبتمبر (قبل بدء العمليات بحوالي أسبوع) استدعاني الوزير إلى مكتبه، وسلمني كتاباً لقراءته فأخذت في قراءته فإذا هو توجيه بتوقيع السادات، يحدد واجب القوات المسلحة في العمليات بشكل عام، ولكن هناك جملة واحدة لفتت نظري وهي "حسب إمكانات القوات المسلحة". كانت هذه الجملة من الناحية النظرية تعني أن القيادة العامة للقوات المسلحة هي التي تملك القرار الأخير في تحديد ما هو ممكن وما هو غير ممكن. لقد كان أحمد إسماعيل سعيدا بهذه الجملة، وإن كـان تطور الأحداث فيما بعد قد اثبت أن الرئيس السادات كان اكثر ذكاء عندما كتب هذه الجملة، لأنها تعطيه حق التنصل النهائي من أي قرار تقوم به القوات المسلحة وهي تعلم انه ليس في طاقتها.
وبعد أن قرأت التوجيه قلت لأحمد إسماعيل ضاحكاً: "مبروك.. لقد حصلت على ما تريد"، وأعدت له الكتاب لأنه كان باسمه ولكن أحمد إسماعيل بطبيعته الحذرة أعاد الكتاب إلي مرة أخرى قائلاً: "أرجو أن توقع على هذا الكتاب بأخذ العلم "، فأخرجت قلمي دون تردد وكتبت عليه " علم وسننتصر بإذن الله"، ووقعت باسمي وتاريخ التوقيع على الوثيقة، ثم أعدته إلى الوزير. هذه هي قصة التوجيه الاستراتيجي التي ذكرها الرئيس السادات في الصفحة رقم 331 من مذكراته، بأسلوب روائي يقول فيه: "كنت قبل ذلك في سبتمبر 1973 قد أصدرت الأمر الاستراتيجي للقائد العام ووضعت فيه تصوري للهدف الإستراتيجي ، وقد كان هذا الأمر هو الأول من نوعه في تاريخ مصر الحديث". نعم لقد كان الأمر الأول من نوعه، ولكن لماذا؟ لأنه كانت هناك شكوك خفية- مهما حاول الطرفان إخفاءها- بين رئيس الدولة ووزير الحربية. وإن التناقض في أقوال السـادات واضح في هذه النقطة كما هو واضح في نقاط أخرى كثيرة، ففي كتابه في الصفحة رقم 331، يقول: انه حرر التوجيه الاستراتيجي في سبتمبر ووقع أمر القتال في 2 من أكتوبر ، في حين أن الصور الزنكوغرافية المنشورة في الكتاب نفسه- بعد استبعاد الأخطاء اللغوية- في صفحتي 443 و 444 تقول: إن تاريخ الوثيقتين هو أول أكتوبر و5 من أكتوبر على التوالي، بماذا يفسر لنا السادات هنا التناقض الغريب في وثيقتين تاريخيتين يقول عنهما أنهما قمة العمل العسكري؟! إني أعلن للملأ بان هاتين الوثيقتين مزورتان، ليس لأن الوثائق الرسمية عليها توقيعي الشخصي فحسب، بل لأن هذه الوثائق كتبت على أوراق يتناسب طولها وعرضها مع طول وعرض صفحات الكتاب الذي نشرت به مذكرات السادات.
الفصل الخامس: إنشاء خطوط جديدة للقيادة والسيطرة
إن السيطرة على قوات مسلحة قوامها حوالي المليون ضابط وجندي هي عمل صعب للغاية، فعندما شغلت منصب (ر.ا.ح.ق.م.م) كان حجم القوات المسلحـة حوالي 800000، وقبل اندلاع حرب أكتوبر 73 كانت القوات المسلحة قد بلغت 1,050,000 (مليونا وخمسين ألفا) في الجيش العامل، يضاف إلى ذلك 150000 كان قد تم تسريحهم وتنظيم استدعائهم خلال السنتين السابقتين للحرب، وبذلك وصل حجم القوات المسلحة إلى 1,200,000 (مليون ومائتي ألف ضابط وجندي)، كان حوالي 58% منهم لا ينخرطون ضمن الوحدات الميدانية، ولاشك أن هذه النسبة تعتبر نسبة عالية إذا ما قورنت بالنسب السائدة في القوات المسلحة الأجنبية، ولكننا اضطررنا إلى هذا الموقف نتيجة للعاملين التاليين:
1- إن تفوق العدو الجوي الساحق جعل بإمكانه توجيه جماعات منقولة جوا لتدمير وتخريب أهدافنا الحيوية المتناثرة في طول البلاد وعرضها، وإن البنية التحتية Infrastructure والأهداف الحيوية في مصر، هي أهداف مثالية لجماعات التخريب المعادية، فهناك مئات الكباري فوق النيل والرياحات والترع، وهناك خطوط أنابيب المياه والبترول التي تمتد مئات الكيلومترات عبر الصحراء وكذلك خزانات المياه والنفط ومحطات الضخ والتقوية وتوليد الكهرباء، الخ.
2- إن التوسع المستمر في حجم القوات المسلحة كان يفرض علينا زيادة طاقة المنشآت التعليمية حتى تستطيع أن تلبي مطالبنا المتزايدة في تدريب الكوادر المطلوبة لقواتنا المسلحة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك لا بمزيد من تدعيم هذه المنشات بضباط الصف المعلمين والإداريين الذين يرفعون من طاقة هذه المنشات.
إن هيئة أركان الحرب العامة (هـ .ا.ح.ع) هي جهاز مركب تركيبا غاية في التعقيد، إنها تضم حوالي 5000 ضابط و 20,000 من الرتب الأخرى، وعلى قمة هذا الجهاز يجلس (ر.ا.ح.ق.م.م) وتحت إمرته المباشرة 40 ضابطا برتبة لواء، كل منهم على قمة فرع أو تخصص أو إدارة لمعاونة (ر.ح.ق.م.م) في السيطرة على القوات ولتسهيل عملية السيطرة على تلك القوات ذات المليون جندي، فقد تم تجميعها تحت 14 قيادة هي (البحرية- الطيران- الدفاع الجوي- الجيش الثاني- الجيش الثالث- قوات المظلات- قوات الصاعقة- منطقة البحر الأحمر- المنطقة الشمالية- المنطقة الغربية- المنطقة المركزية- المنطقة الوسطى- المنطقة الجنوبية- قطاع بور سعيد). لقد تعودت في الماضي أن اخلق نوعا من الاتصال المباشر بيني وبين الرجال الذين أقودهم، لم اكن قط من ذلك الطراز من القادة الذين يستمعون إلى تقارير مرؤوسيهم المباشرين ويعتمدون عليها اعتمادا كلياً في اتخاذ قراراتهم.
كنت استمع دائماً إلى تقارير المرؤوسين المباشرين ولكني كنت في الوقت نفسه اكمل وأتحقق من هذه التقارير عن طريق الاتصال المباشر مع المستويات الصغرى، فعندما كنت قائدا لكتيبة مظلات كنت أزور الضباط والجنود وأتحدث معهم يوميا. وعندما أصبحت قائد لواء مشاة كنت أزور الوحدات الصغرى في كل أسبوع مرة على الأقل، وعندما أصبحت قائدا للقوات الخاصة (التي كانت تضم قوات المظلات وقوات الصاعقة) كنت أزور كل وحدة فرعية بمعدل مرة كل أسبوع تقريبا، وعندما توليت قيادة منطقة البحر الأحمر العسكرية المترامية الأطراف، والتي كانت مواجهتها حوالي 1000 كيلومتر كنت أزور جميع رجالي بمعدل مرة كل شهر تقريبا، وخلال هذه الزيارات المستمرة كنت أستطيع أن المس قدرات رجالي الحقيقية، وكنت أستطيع أن أعالج نقاط الضعف التي اكتشفها، وكنت أحقنهم بأفكاري وتعليماتي، وهاأنذا الآن (ر.ا.ح.ق.م.م)، فكيف يمكنني أن أحافظ على هذا الرباط التاريخي الذي يربطني دائماً بجنودي؟ كان من الواضح أن زيارة جميع الوحدات التابعة لي- كما اعتدت فيما سبق- ضرب من المحال. وفي الوقت نفسه إذا أنا اعتمدت على سلسلة القيادة التقليدية فإن التقارير التي ستعرض على لا يمكن أن تجعلني أحس بنبض الجنود وأفكارهم وقدراتهم، كذلك فإني لن أستطيع أن أضمن أن يستقبل الجنود تعليماتي بالحماس نفسه الذي أود أن أشعرهم به واستحثهم لتنفيذه. لقد كان بيني وبين كل جندي مقاتل سبع قيادات، فلو أن إحدى هذه القيادات السبع أهملت أو أخطأت في العمل كموصل جيد بين رؤسائها ومرءوسيها أو بين مرءوسيها ورؤسائها- وهذا احتمال لا يجب استبعاده- فأننا لن نضمن تنفيذ تعليماتنا بالأسلوب الذي نبتغيه، ولكي أتغلب على هذه المشكلة وبعد تفكير طويل قررت أن أدخل أسلوبا جديدا لكي اخلق اتصالا مباشراً بيني وبين الضبـاط والجنود يتناسب مع ظروف قواتنا المسلحة.كانت الوسيلة الأولى هي عقد مؤتمر شهري تحت رئاستي، وكان يحضر هذا المؤتمر جميع مساعدي (أربعون ضابطا برتبة لواء) وجميع القادة الرئيسيين (14 قائدا)، ومع كل منهم القادة المرؤوسون له مباشرة وعلى سبيل المثال كان يحضر هذا المؤتمر قائد الجيش ومعه قادة الفرق التي تحت قيادته، وهكذا كان عدد الحاضرين في هذا المؤتمر يتراوح ما بين 90 و 100 قائد ومدير. كان مؤتمرنا يمتد من الساعة التاسعة صباحاً حتى الرابعة أو الخامسة بعد الظهر ويتخلله غداء خفيف نتناوله معا في مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة. لقد كنت حريصا كل الحرص على عقد هذا المؤتمر الشهري مهما كانت الظروف، ومهما كانت مشاغلي نظرا لاقتناعي بضرورته وفائدته الكبيرة وقد كان أخر مؤتمر شهري عقدته قبل بدء حرب أكتوبر 73 هو المؤتمر رقم 26 الذي عقد بتاريخ 22 من سبتمبر 73، وكان ذلك قبل بدء الحرب بأسبوعين فقط، وهناك تسجيل كامل لكل من هذه المؤتمرات يشمل جميع المواضع التي نوقشت والقرارات التي اتخذت.
لقد كنت اعرف من خبرتي السابقة كضابط ميداني أنه توجد دائماً أزمة ثقة بين الضباط الميدانيين وضباط أركان الحرب في القيادات العليا؛ فالضباط ألميدانيون كانوا دائماً ينعتون ضباط أركان الحرب بالبيروقراطية وعدم الواقعية وانهم دائماً يريدون أن يفرضوا سلطاتهم على الضباط الميدانيين بواسطة تعليمات سخيفة وغير قابلة للتنفيذ أما ضباط أركان الحرب فإنهم يتهمون الضباط الميدانيين بالإسراف الشديد والتبذير وعدم مراعاة التعليمات الفنية والإدارية في استخدام المعدات مما يؤثر على كفاءتها وصلاحيتها، وان الضابط الميداني عندما يتلف سلاحه أو معداته فإنه يرمى بها إلى الخلف ويطالب بسرعة إصلاحها أو صرف أخرى جديدة بدلا منها، وان إمكانات الدولة لا تسمح لضباط أركان الحرب بتلبية مثل هذا الإسراف والتبذير الذي يمارسه الضباط الميدانيون. كان واجبي- وأنا على قمة الجهازين- أن اخلق جوا من الثقة بين المجموعتين حتى يتم التعاون بين الجميع بما فيه صالح القوات المسلحـة. لقد كان هذا المؤتمر يتم بأسلوب ديمقراطي سليم، كان أي قائد أو مدير يعرض مشكلته ويناقش جميع جوانبها ثم أدعو الجانب الآخر إلى الرد على وجـهة نظره، ويشترك الحاضرون في إبداء الرأي ثم نتخذ القرار في النهاية بعدا ن يكون الموضوع قد أشبع بحثا. ونتيجة لهذه اللقاءات اكتشف كل من الجانبين انه كان يغالي في عيوب الجانب الآخر، فأخذ القادة ألميدانيون يدركون أهمية القيود المفروضة عليهم، كما أن ضباط أركان الحرب والمديرين أصبحوا أكثر إلماما وتجاوبا مع مطالب القادة الميدإنيين، وفضلا عن هذا وذاك، فإن هذه اللقاءات وتناول الغداء معا وتجاذب الحديث في فترات الراحة بعيدا عن الرسميات خلق جوا من الصداقة بين الطرفين، مما كان له الأثر الأكبر في إذابة الثلوج التي كانت تفصل بين الطرفين. كانت هذه اللقاءات فرصة لحل معظم المشكلات التي تعرض علينا، أما المشكلات المعقدة التي كانت تحتاج إلى دراسة مطولة فكنت أشكل لجنة مشتركة من الطرفين تقوم بدراستها وتعرض علينا ما توصلت إليه في مؤتمرنا التالي.
وعن طريق هذه المؤتمرات الشهرية أمكنني أن اخلق اتصالا مباشرا بيني وبين مستويين من القيادة، ولكن هذا يعنى انه مازالت هناك خمسة مستويات في القيادة تفصل بيني وبين الجندي المقاتل، ولخلق هذا الاتصال قررت أن أصدر توجيهات مكتوبة تصل إلى مستوى قائد السرية (1)، وعن طريق هذه التوجيهات اصبح باستطاعتي أن أسمع صوتي إلى ثلاثة مستويات قيادية أخرى.
لم تكن هذه التوجيهات تصدر بطريقة دورية أو بأسلوب تقليدي، أو يكتبها شخص متخصص ثم يوقع عليها (ر.ا.ح.ق.م.م) لإعطائها الصورة الرسمية. لقد كنت اكتبها بنفسي و أصدرها طبقا للظروف والأحداث، كما أن كل توجيه أصدرته كانت وراءه قصة أو حادث أو أخطاء ارتكبت بواسطة بعضهم، ولا أريد لها أن تتكرر من قبل الآخرين، لا بمجرد القول بان هذا خطا بل بتحليل أسباب الخطأ وتعليم الآخرين كيف يتصرفون في مثل هذه الظروف. وعن طريق هذه التوجيهات وضعت أفكاري وبصماتي في عقول رجال القوات المسلحة، ليس بالكلام المنمق الإنشائي، ولكن بواسطة الكلمات العلمية الرزينة التي تصدر من ضابط مجرب إلى أشبال يتمنى أن يكونوا افضل منه في حمل راية الحرب والحرية. وكنت عندما ازور مختلف القوات أسأل الضباط والجنود عما ورد في توجيهاتي، وشيئا فشيئا وجدت أن الضباط الأصاغر والجنود قد ارتبطوا بي فكريا عن طريق هذه التوجيهات، وأنهم كانوا ينفذونها بدقة وحماس.
لقد كان يوم 8 من أكتوبر 73 من اسعد أيام حياتي، وذلك عندما كنت ازور وحداتنا في شرق القناة، وكان الضباط والجنود يهتفون ويصيحون كلما رأوني بينهم "عاش التوجيه رقم 41 "، "لقد اتبعنا تعليماتك في التوجيه رقم 41 بالحرف الواحد"، الخ (2). وفي خلال الفترة ما بين يوليو 71 وسبتمبر 1973 كنت قد أصدرت 48 توجيها، وفي خلال الحرب أصدرت توجيهات أخرى كان أولها هو التوجيه رقم 49، وكان عنوانه "خبرة الحرب في قتال المدرعات "، وقد صدر يوم 15 من أكتوبر بعد معركة الدبابات التي وقعت في اليوم السابق وخسرنا فيها 250 دبابة، وقد كان أخر توجيه أصدرته قبل أن يعزلني السادات (3) من منصبي هو التوجيه رقم 53 الصادر بتاريخ 30 من نوفمبر 73. لقد كانت هذه التوجيهات ذات فائدة كبيرة في تثقيف وتعليم القادة الأصاغر والجنود، لأن الكثير منها كان يعالج التكتيكات الصغرى التي كانت تعتبر من نقاط الضعف الرئيسية في قواتنا المسلحة.
كما سبق أن قلت كانت توجيهاتي تصل إلى مستوى قائد السرية، وبذلك استطعت أن اخلق ارتباطا مباشراً بيني وبين خمسة مستويات قيادية، ولكن كيف يمكنني أن أصل إلى الجندي وضابط الصف وقائد الفصيلة؟ في القوات المسلحة يعتبر قائد السرية هو المعلم الأول للسرية، ولكن في قواتنا - ذات المليون رجل- كان لدينا اكثر من عشرة آلاف قائد سرية أو ما يعادله، ولا يمكن أن نضمن- التوسع الكبير والسريع في القوات المسلحة- أن جميـع الأفراد في هذا العدد الضخم هم من القادة والمعلمين الأكفاء. إن أي ضعف أو تقصير من قائد السرية ينعكس مباشرة على الجنود، وهذه حقيقة نلمسها دائما في القوات المسلحة، فإذا كان القائد جيدا فأن الوحدة تكون دائماً جيدة وإذا كان سيئا فإن الوحدة تكون دائماً سيئة. ولمساعدة قائد السرية في مهمته قررت أن اصدر كتيبات صغيرة توزع على كل جندي تعالج بعض الأمور التي تخص الجندي بصفة مباشرة، وفي خـلال عملي (ر.ا.ح.ق.م.م) أصدرت 8 كتيبات: ستة منها قبل الحرب والاثنان الآخران أصدرتهما بعد وقف إطلاق النار، وكانت الكتيبات الستة الأولى هي: دليل الجندي- دليل السائق- دليل نقاط المراقبة الجوية -التقاليد العسكرية- دليل التائهين في الصحراء- عقيدتنا الدينية طريقنا للنصر. أما الكتيبان الآخران اللذان صدرا بعد وقف إطلاق النار، فكان الأول هو "دليل القادة الأصاغر لضباط المشاة والمشاة الميكانيكية" وصدر بتاريخ 5 من ديسمبر 73، وكان الثاني هو "دليل القادة الأصاغر في وحدات المدرعات"، وقد قمت بمراجعته للمرة الثالثة والأخيرة ودفعته للطباعة يوم 11 من ديسمبر 73.
لقد كانت هذه الكتيبات في حجم صغير يسمح بوضع الكتيب في الجيب حتى يستطيع الجندي أن يقرأه في الوقت الذي يحلو له، وقد قمنا بطبع مليون ومائتي ألف نسخة من كتيب "عقيدتنا الدينية طريقنا للنصر"، وكانت تعليماتي تنص على أن يحمله الجندي معه وهو في المعركة. وكان يوزع على كل فرد من أفراد الاحتياط عندما يذهب إلى مراكز ألتعبئة ، وقد حدث أن استولت إسرائيل على بعض نسخ هذا الكتيب الذي كان مع من وقعوا أسرى من رجالنا أثناء الحرب،فحاولت أن تسئ تفسير بعض فقراته وتدعي أنني أصدرت تعليماتي إلى الجنود بقتل الإسرائيليين إذا وقعوا أسرى في أيدينا، وقاموا بحملة كبيرة ضدي، ثم قاموا بوضع ترجمة ممسوخة لبعض صفحات هذا الكتيب مما يجعل المعاني تختلط على القارئ، ولم يتحرك النظام المصري للرد على هذه التهم، وكأن الأمر لا يعنيه، إلى أن عينت سفيرا لمصر في لندن فقمت بصفتي الشخصية بتكذيب هذه الادعاءات الباطلة لأنها تتعارض مع ديننا وتقاليدنا العربية. لقد لعبت هذه الكتيبات دورا مهماً في تثقيف الجنود والضباط الأصاغر وتوجيههم، ولكن مما لاشك فيه أن الكتيبين الأخيرين يعتبران ذوى قيمة كبيرة جداً؛ لقد بينت فيهما - على ضوء خبرة الحرب- كيف يمكن لقائد الفصيلة والسرية أن يتصرف في كثير من المشكلات التي تواجهه. لقد كان طبيعيا في قواتنا المسلحة المصرية أن نمد ضابطا برتبة ملازم أو نقيب يتكلم بطلاقة وعلم غزير كيف يقاتل اللواء أو كيف تقاتل الكتيبة، ولكنه في الوقت نفسه لا يعرف كيف يقاتل بفصيلته أو سريته إذا كان يعمل مستقلا بعيدا عن التشكيلات المتراصة للواء أو الفرقة فكانت هذه الكتيبات والكثير من التوجيهات التي أصدرتها خير علاج لهذا الموقف الخطير.
الفصل السادس : تشكيل وحدات جديدة
إن عملية بناء القوات المسلحة لم تتوقف قط منذ هزيمة يونيو 67 حتى أكتوبر 73، وعندما تسلمت منصب (ر.ا.ح.ق.م.م) كانت القوات المسلحة تضم حوالي 800000 رجل (36000 ضابط و 764000 رتبة أخرى)، وفي أكتوبر 73 كانت القوات المسلحة قد وصلت إلى 1,200,000 رجل (66000 ضابط و 1,134000 رتبة أخرى).
إن تجنيد وتدريب 400000 رجل (30000 ضابط و 370000 من الرتب الأخرى) في فترة تزيد قليلا على السنتين يعتبر عملا صعبا وشاقا، فكيف استطاعت مصر أن تقوم بهذا العمل الكبير؟
لقد كانت مشكلة الضباط هي مشكلة المشكلات؛ فقد كانت وحداتنا تشكو من النقص في الضباط بنسبة تتراوح بين 30% و 40%، وكان إجمالي النقص العام في القوات المسلحة يصل إلى حوالي 15000 ضابط فإذا أضفنا إلى هذا الرقم ما نحتاجه من ضباط للوحدات الجديدة التي سوف تنشأ خلال العامين التاليين، فقد قدرنا هذا الرقم بحوالي 15000 ضابط أخر، ومعنى ذلك أنه يتحتم علينا لكي نستكمل مرتبات الوحدات من الضباط إعداد 30000 ضابط في خلال سنتين، وبحساب طاقة كلياتنا العسكرية المتخصصة في تدريب الضباط، اتضح لي أن أقصى طاقة تعمل بها هذه الكليات هو 3000 ضابط بكل عام،وهذا يعني أننا نحتـاج لعـشر سنوات على الأقل إذا أردنا أن تحل هذه المشكلة بالوسـائل التقليدية (1)، ومن ناحية أخرى فإنه لا يجوز السكوت عن هذا الموقف، لأن العجز في كوادر الضباط يؤثر تأثيراً خطيرا على كفاءة القوات المسلحة. إن الضابط هو القائد والمعلم لجنوده، فمن الذي يعلم الجندي ومن الذي يقوده إذا لم يتوافر هذا الضابط؟ لكي أجد مخرجـا لهذا الموقف قررت أن أنشئ كوادر جديدة من الضباط يطلق عليها "ضابط حرب "، هذا الضابط يتم انتقاؤه من بين الجنود المثقفين ويجري تدريبه تدريبا مركزا لمدة تتراوح ما بين 4- 5 اشهر في تخصص واحد، بحيث يصبح على مستوى عال في تخصصه على أن تكون معلوماته العامة عن التخصصات الأخرى محدودة وبالقدر الذي يسمح له بالتعاون مع تلك التخصصات (2). إن تدريب هذا الضابط يهدف إلى تأهيله لتولي وحدة صغرى وأن يبقى بها إلى أن تنتهي الحرب فيتم تسريحه. وعند البحث عن المثقفين من بين الجنود اتضح لي وجود 25000 جندي أو ضابط صف حائز على درجة جامعية، فكان من البديهي أن يكون هؤلاء الجنود هم القاعدة التي يمكن أن ننتقي منها هؤلاء المرشحين للتأهيل لرتبة ضابط، وكنت متحمسا لهذا المشروع لأنه لم يكن يحل لنا مشكلة الضباط فحسب بل لأنه كان سوف يساعدنا على حل إحدى مشكلات الضبط والربط؛ فقد كان هؤلاء الجنود المثقفون دائمي الشجار مع قادتهم من الضباط الأصاغر الذين كانوا في كثير من الأحيان أقل منهم سنا وثقافة عامة، وكانت المشكلات تزداد بين الطرفين إذا تصادف وجود سابق معرفة بين الضابط والجندي قبل الانخراط في الجندية سواء عن طريق المدرسة أم عن طريق الانتماء إلى قرية واحدة أم حي واحد.
كان في اعتقادي أن الجنود المثقفين سيرحبون بهذه الخطوة ه ولكني فوجئت بعدم تحمسهم لهذا المشروع، فقد كانت الغالبية منهم تفضل البقاء بدرجة جندي أو ضابط صف. كانوا يتصورون إن ترقيتهم لرتبة ضابط قد تربطهم بالقوات المسلحة فلا يسرحون من الخدمة عندما يحين اجل تسريح دورتهم، وقد قمت بإجراء عدة لقاءات معهم لكي اشرح لهم الموقف والدوافع لهذا المشروع ووعدتهم بان تسريح الضابط منهم لن يتأخر يومً واحداً عن ميعاد تسريح الجندي من دفعته، وبعد الكثير من التوعية اقبل الكثيرون منهم على التطوع وأمكن تأهيل وترقية 15000 رجل منهم إلى رتبة الملازم، كما قمنا بتأهيل 10000 آخرين من بين خريجي الجامعات الذين جندوا في عامي 71 و 72، وبذلك كان لدينا قبل يونيو 73 "25000 ضابط حرب"، أضف إلى ذلك 5000 ضابط عادي تم تدريبهم وتأهيلهم في الكليات العسكرية، فاصبح إجمالي من تم تأهيلهم وتدريبهم خلال سنتين هو 30000 ضابط، وقبل بدء العمليات في أكتوبر 73 لم تكن القوات المسلحة استكملت كوادرها من الضباط فحسب، بل كان لدينا فائض يقدر بحوالي 1-2% في كل تخصص لمقابلة الخسائر المحتملة في أثناء القتال.
إن تجنيد الجـندي وتأهيله هي عملية أقل صعوبة من مشكلة انتقاء وتأهيل الضباط، ولكنها مع ذلك لم تكن عملية بسيطة. لقد جندنا ما بين يونيو 71 ويونيو 73 حوالي400000 شاب حتى يمكننا أن نستكمل وحداتنا التي كانت قائمه فعلا، ولكي نواجه المتطلبات المتعلقة بإنشاء وحدات جديدة. إن مصر ذات ال35 مليون كانت من الناحية الواقعية عاجزة عن إمداد قواتها المسلحة سنويا بحوالي 160000 شاب ذوي مستوى ثقافي وصحي يتناسب مع متطلبات القوات المسلحة. لقد كان عدد الشبان الذين يصلون إلى سن التجنيد سنويا هو حوالي 3500000 (ثلاثمائة وخمسون ألفا) ونظرا لانخفاض المستويين الثقافي والصحي بين المجندين لم نكن نستطيع أن نحصل من بينهم على أكثر من 1200000 شاب ممن ينطبق عليهم الحد الأدنى من المستويات الثقافية والصحية، وهكذا كانت احتياجاتنا الفعلية تفوق مواردنا بحوالي 40,000 رجل سنوياً، وأمام هذا الموقف وجدت نفسي مضطرا إلى قبول مستويات اقل ثقافياً وصحياً رغم المعارضة الشديدة التي أثارها رجال الخدمات الطبية حول خفض مستوى اللياقة الطبية، كذلك حاولت أن أفتـح مجال التطوع أمام المرأة للانضمام إلى القوات المسلحة، ولكن نظرا لأن مثل هذا القرار يعتبر من الأمور الاجتماعية التي تهم كل أسرة، فقد طرحت هذا الموضوع للمناقشة في أحد اجتماعاتي الشهرية فأثار اهتمام الجميع، وكانت الغالبية العظمى ضد أي اتجاه للتوسع في فتح الباب أمام المرأة للانضمام إلى القوات المسلحة، وأخيراً استقر الرأي على أن نفتح باب التطوع أمام المرأة لكي تشغل وظائف السكرتارية على أن تقتصر على العمل في القواعد الخلفية وألا ترسل إلى المناطق الأمامية أو المناطق النائية، وهكذا فتحنا باب التطوع للنساء في القوات المسلحة للقيام بأعمال السكرتارية، واستقبلنا الفوج الأول منهن خلال عام 73 وتخرجت الدفعة الأولى في نوفمبر 1973.
وبإضافة 30,000 ضابط و 370,000 رتبة أخرى إلى القوات المسلحة كان في استطاعتنا أن ننشئ مئات الوحدات خلال العامين ما قبل أكتوبر 73. وأنني لن أقوم بحصر هذه الوحدات وتعدادها نظرا لكثرتها، ولكنني سأذكر فقط بعضا من هذه الوحدات التي ارتبط تشكيلها بخطة العبور ارتباطا وثيقا، كاللواء البرمائي AMPHIBIOUS BRIGADE. لقد بدأنا نفكر في إنشاء هذا اللواء في أواخر عام 1971، واتخذ قرار إنشائه في يناير 1972. وكان الغرض من إنشاء هذا اللواء هو دفعه في عمق العدو عبر البحيرات أو البحر بمهمة شل مراكز قيادة العدو وتعطيل تقدم احتياطياته من العمق. لقد كنا نعلم أن المعديات التي ستقوم بنقل دباباتنا إلى الشاطئ الآخر لن تكون جاهزة للعمل قبل سعت س+ 5 ساعة في حين أن اللواء البرمائي يستطيع أن يعبر البحيرات في اقل من ساعة بأعداد كبيرة من الدبابات والعربات، مما يشكل تهديداً خطيرا لقيادات العدو وتحرك إحتياطياته. لقد شكلنا هذا اللواء على غرار الوحدات الخاصة وزودناه بحوالي 20 دبابة برمائية، و 80 مركبة برمائية لنقل المشاة الميكانيكية MICV. وفي 15 من يونيو 72 أصدرت التوجيه رقم 16 الذي ينظم عمل هذا اللواء، وكان هذا التوجيه ينظم الأسلوب الذي تعمل به الكتائب البرمائية عبر المسطحات المائية، وقد أتبعت هذا التوجيه ببيان عملي تم إجراؤه في 28 من أغسطس 72، وبحلول أكتوبر 72 كان اللواء قد أتم تدريبه وقام بأول مشروع تدريبي ليلي في ليلة 22/23 من أكتوبر 72، وفي خلال عام 1973 استمر اللواء في تدريباته بأسلوب أكثر عنفاً، وقد وصل مستواه إلى الحد الذي جعله يستطيع أن يبقى بمركباته في الماء لمدة تصل إلى 6 ساعات متتالية، وفي ليلة 18/19 من يوليو 73 قررت أن أختبر كفاءة هذا اللواء بمشروع تدريبي يكون اكثر صعوبة من الواجب الذي سوف نكلفه به أثناء العمليات، وقد كان المشروع يشمل النقاط التالية:
1- من منطق تجمع قريبة من شاطئ البحر الأبيض تنزل كتائب اللواء إلى الماء ليلا ثم تسبح لمسافة 30 كم ثم تخرج إلى الشاطئ عند نقاط محددة وفي توقيتات محددة.
2- تتقدم بعد ذلك في العمق، حيث تقوم بتدمير مواقع العدو كما تقوم بصد وعرقلة احتياطات العدو المتقدمة من العمق.
لقد كانت المهمة التدريبية لاختبار اللواء أكثر صعوبة من واجب العمليات، حيث كان واجب العمليات يتضمن عبور اللواء مسطحاً مائيا يتراوح ما بين 5-10 كم، بينما كان المشروع التكتيكي يتطلب منه عبور 30 كم، ولكني كنت دائماً ومازلت أؤمن بضرورة التدريب الشاق حتى لا يفاجأ الجنود بظروف لم يتهيأوا لمجابهتها، لقد بقيت مع عناصر اللواء طوال الليل، وقد نجحت إحدى الكتائب في تنفيذ مهمتها، بينما ضلت الكتيبة الأخرى اتجاهها واستطاعت بصعوبة أن تصل إلى الشاطئ في غير المكان المحدد لها بعد أن فقدت مركبتين وعشرة أفراد، وفي صباح اليوم التالي تمكنا من إنقاذ سبعة أفراد من العشرة المفقودين وثبت لدينا غرق الباقين وعلى الرغم من خسائرنا في الأفراد والمركبات، فقد تعلمنا دروساً جديدة وكسب الضباط والجنود ثقة اكبر بدباباتهم مركباتهم، وبعد أقل من 80 يوما عوضنا الله عن تلك الأرواح الثلاث عوضا كريما. لقد كان ثمن هذه الأرواح هو المجد والكبرياء لرجال اللواء البرمائي. الذي عبر البحيرات المرة يوم 6 من أكتوبر 73 في اقل من ساعة زمنية، وكان معه 20 دبابة و 80 مركبة برمائية، دون أية خسائر في المعدات أو الرجال، وعندما تلقيت هذا الخبر السعيد وأنا في غرفة العمليات حوالي الساعة 1500 يوم 6 من أكتوبر تذكرت الشهداء الثلاثة الذين فقدناهم في التدريب وصليت من أجلهم. لقد كان إنشاء وحدات المهندسين يحظى لدينا دائما بالأولوية؛ لأن عبور القناة هو في المقام الأول عملية مهندسين. إذ كان يتحتم على المهندسين طبقاً للخطة، أن يقوموا بتنفيذ المهام التالية:
1- فتح 70 ثغرة في الساتر الترابي على الجانب البعيد، كل منها 1500 متر مكعب.
2- انشاء 10 كباري ثقيلة لعبور الدبابات والمدافع والمعدات الثقيلة.
3- إنشاء 5 كباري خفيفة حتى يمكنها أن تجتنب نيران العدو، وبالتالي تخفف من هجوم العدو على الكباري الرئيسية، وكانت هذه الكباري تشبه الكباري الثقيلة تماما ولكن حمولتها كانت أربعة أطنان فقط.
4- بناء 10 كباري اقتحام لعبور المشاة (3).
5- تجهيز وتشغيل 35 معدية.
6- تشغيل 720 قاربا مطاطيا لعبور المشاة.
وكانت جميع هذه المهام تتم تقريبا في وقت واحد، فقد كنا نفترض أن يتم فتح هذه الثغرات خلال ما بين 5-7 ساعات وتبدأ المعديات في العمل فور إتمام فتح هذه الثغرات بينما يتم تركيب الكباري بعد ذلك بحوالي ساعتين، وبالإضافة إلى عظم حجم هذه الأعمال وقصر الوقت المخصص لإنجازها يجب ألا ننسى أن جميع هذه الأعمال كان يتم تحت نيران العدو وهجماته المتكررة لذلك كان من واجبنا أن نقوم بعملية حساب دقيقة نستطيع بها أن نحدد حجم الوحدات المطلوبة.
لقد كان عدد وحدات المهندسين التي ساهمت في عملية عبور القناة بطريق مباشر حوالي 35 كتيبة من مختلف التخصصات كان نجاح القوات المسلحة في تشكيل وتدريب وحدات المهندسين اللازمة لعملية العبور هو المفاجأة الكبرى في هذه الحرب لأن جميع دول العالم - الصديقة منها والعدوة- كان يعتقد باستحالة التغلب على هذه المشكلات. ولقد سعدت كثيرا عندما قرأت مذكرات الجنرال اليعازر (ر.ا.ح.ق.م) الإسرائيلية خلال حرب أكتوبر عندما تكلم عن هذه النقطة، حيث قال: أنه أثناء مناقشة على مستوى القيادة الإسرائيلية لدراسة احتمال عبور المصريين للقناة، قال دايان وزير الحربية: "لكي يعبر المصريون قناة السويس، فإنه يلزمهم سلاح المهندسين الأمريكي والسوفيتي مجتمعين لمساعدتهم في ذلك". إن هذه شهادة نعتز ونفخر بها، وإني لا ألوم دايان على المبالغة، لأني اعرف جيدا مدى المجهود الذي بذل لتحقيق هذه المفاجأة!
الفصل السابع : مشكلات العبور وكيف تم التغلب عليها
إن تحضير وتجهيز القوات المسلحة للمعركة الهجومية لم يكن مقصورا على إنشاء وتدريب وحدات جديدة تقليدية، حيث إن عبور قناة السويس يعتبر من العمليات العسكرية ذات الطابع الخاص. فالتنظيم العادي والتسليح العادي والعقائد العسكرية السائدة كل ذلك لم يكن ليقدم حلولا لعملية العبور التي تنتظرني لذلك كان يجب علينا أن نلجأ إلى خيالنا وخبراتنا في جميع المجالات لكي نوجد حلولا للمشكلات التي تواجهنا. لقد أدخلنا الكثير من التعديلات في تنظيمات بعض وحداتنا القائمة، كما قمنا بإنشاء وحدات جديدة ذات تنظيم معين لكي تكون قادرة على القيام بمهام محددة كذلك أدخلنا بعض المعدات الجديدة ضمن تنظيم وحداتنا، وكان بعضها من أحدث وأرقى المعدات المستخدمة في العالم، وفي الوقت نفسه لجأنا إلى بعض المعدات البدائية التي كانت تستخدم في العصور القديمة. وبينما كان كل ذلك يجري في وقت واحد كان علينا أن نختبر هذه التنظيمات والمعدات والمهمات والعقائد الجديدة اختبارا ميدانيا تحت ظروف اقرب ما تكون إلى الظروف الواقعية التي سوف تواجهنا. وقد أجرينا مئات التجارب وأدخلنا العديد من التعديلات على أفكارنا وتنظيماتنا ومعداتنا، قبل أن نستقر على قرار نهائي في أي من هذه المواضيع.
قناة السويس كمانع مائي:
لم تعد الأنهار والقنوات تشكل عائقاً كبيرا أمام الجيوش الحديثة بعد تطوير أسلحة القتال وإدخال الدبابات والمركبات البرمائية والدبابات التي تستطيع الغوص في الماء والسير على قاع المانع المائي ضمن تنظيم القوات البرية. لقد اصبح في مقدار القوات البرية أن تقتحم المانع المائي بالهجوم من الحركة وعلى مواجهة واسعة، وذلك بأن تدفع القوات الرئيسية أمامها بمفرزة برمائية تقوم بإنشاء راس كوبري، ويتبعها المهندسون الذين ينشئون الكوبري الذي تعبر عليه القوات الرئيسية عند وصولها إلى المانع المائي. وإذا كان ذلك ينطبق على جميع الموانع المائية، فإنه لا ينطبق من قريب أو بعيد على قناة السويس، حيث أنها مانع مائي من نوع فريد في طبيعته، وقد أضاف إليها العدو- علاوة على ذلك- كثيرا من العوائق الاصطناعية مما جعلها تبدو في أعين الكثيرين من العسكريين مانعاً مائياً لا يمكن اقتحامه. ويمكن وصف قناة السويس كمانع مائي - باختصار- بالنقاط التالية:
1- مانع مائي صناعي يتراوح عرضه بين 180 و 200 متر، وأجنابها حـادة الميل ومكسوة بالدبش والحجارة لمنع انهيار الأتربة والرمال إلى القاع، وهذا يجعل من الصعب على أية دبابة برمائية أن تعبرها إلا إذا تم نسف أكتاف الشاطئ وتجهيز منزل ومطلع تستطيع المركبة البرمائية أن تستخدمهما في النزول إلى الماء والخروج منه (الشكل رقم 1).
2- قيام العدو بإنشاء سد ترابي على الضفة الشرقية للقناة وبارتفاع يصل في الاتجاهات المهمة إلي 20 متراً مما يجعل من المستحيل عبور أية مركبة برمائية إلى الشاطئ الآخر إلا بعد إزالة هذا السد. وقد عمل الإسرائيليون بجد في تعلية هذا السد وزحزحته إلى القناة حتى أصبح ميله يتقابل مع ميل شاطئ القناة أي أنه لم تكن هناك أي مصطبة أو كتف ظاهر لشاطئ القناة من ناحية العدو، وكان ميل هذا السد يتراوح بين 45 و65 درجة طبقا لطبيعة التربة في كل قطاع (الشكل رقم 2).
3- وعلى طول هذا السد الترابي بنى الإسرائيليون خطاً دفاعياً قوياً أطلق عليه خط بارليف Barlev Line، وقد كان هذا الخط يتكون من 35 حصناً تتراوح المسافة بين كل منها ما بين كيلو متر واحد في الاتجاهات المهمة و5 كيلومترات في الاتجاهات غير المهمة على طول القناة. أما في منطقة البحيرات فقد كانت هذه الحصون اكثر تباعداً إذ وصلت إلى ما بين 10-15 كم بين كل حصن وثغر. كانت هذه الحصون مدفونة في الأرض وذات أسقف قوية تجعلها قادرة على أن تتحمل قصف المدفعية الثقيلة دون أن تتأثر بذلك، وكانت تحيط بها حقول الغام وأسلاك كثيفة، ويمكن غمر القناة من مزاغل ألدشم بنيران كثيفة، وبين هذه الحصون كانت هناك مرابض نيران للدبابات بمعدل مربض كل 100 متر. كان العدو لا يحتل هذه المرابض بصفة دائمة. كان يحتلها فقط في حالات التوتر، وكان في استطاعة دبابات العدو أن تتحرك بين مربض وأخر وهي مستورة تماما عن النظر والنيران من جـانبنا، وكانت حصون خط بارليف لديها الاكتفاء الذاتي لمدة 7 أيام، ولديها وسائل اتصال جيدة مع قيادتها الخلفية، وأما القوات المخصصة لاحتلال خط بارليف فكانت لواء مشاة وثلاثة ألوية مدرعة. كان لواء المشاة (حوالي2000-3000 رجل) يحتل الحصون، بينما كانت الألوية المدرعة (360 دبابة) تخصص حوالي ثلث قوتها للعمل كأحتياطيات قريبة تتمركز على مسافة 5-8 كيلومترات شرق القناة. أما باقي المدرعات، فكانت تتمركز على مسافة 25-30 كم شرق القناة. لقد قدرنا أنه لو أمكننا تحقيق المفاجأة التامة وبدأنا القتال دون أن يعدل العدو من أوضاعه فمن المنتظر أن يقوم بهجمات مضادة ضد قواتنا العابرة بواسطة سرايا أو كتائب دبابات في خلال 15-30 دقيقة من بدء الهجوم، وأن يقوم بهجوم مضاد بواسطة اللواءات المدرعة في حدود ساعتين أما إذا شعر العدو بتحضيراتنا للهجوم، فقد ينجح في احتلال الفراغات التي تفصل بين الحصون بواسطة دباباته، وبذلك يمكنه أن يكبدنا خسائر كبيرة أثناء عملية العبور. علاوة على إمكان قيامه بهجمات مضادة على قواتنا التي تنجح في العبور بعد فترات تقل كثيراً عما سبق ذكره.
4- كان كل هذه الموانع والعوائق لم تكف لكي تبعث الطمأنينة في نفوس الإسرائيليين والرهبة في نفوس أعدائهم فأرادوا أن يبعثوا اليأس في نفوسنا، فأدخلوا سلاحاً جديداً رهيباً هو النيران المشتعلة فوق سطح الماء لكي تحرق كل من يحاول عبور القناة. ولتنفيذ هذه الفكرة الجهنمية بنوا مستودعات ملأوها بهذا السائل ووصلوا هذه المستودعات بأنابيب تنقل السائل إلى سطح الماء، ونظرا لأن كثافة هذا السائل اقل من كثافة الماء فأنه يطفو على سطح الماء، فإذا اشتعل بطريقة الية أو بواسطة قنبلة فسفورية تحول سطح الماء إلى جحيم. ومع استمرار التغذية بالسائل تستمر النيران المشتعلة. (الشكل رقم 3).
تلك هي قناة السويس، وهذا هو المانع المائي الذي كان علينا اقتحامه، وللتغلب على هذه المشكلة الكبيرة قمنا بتجزئتها إلى مجموعة من المشكلات الأصغر حجما، وأخذنا نعمل على حل كل مشكلة على حدة إلى أن تم التغلب عليها جميعا فكان العبور العظيم في أكتوبر 1973.
فتح الثغرات في الساتر الترابي:
كانت المشـكلة الأولى والرئيسية هي فتوح ثغرات في السد الترابي حتى يمكن من خلالها عبور الدبابات وأسلحتنا الثقيلة سواء عبر المعديات أم الكباري.
لم نكف عن التفكير في الهجوم على العدو الذي يحتل أراضينا حتى في أحلك ساعات الهزيمة في يونيو 1967، لقد كان الموضوع ينحصر فقط في متى يتم مثل هذا الهجوم وربط هذا التوقيت بإمكانات القوات المسلحة لتنفيذه وفي خريف 1968 بدأت القيادة العامة للقوات المسلحة تستطلع إمكان القيام بمثل هذا الهجوم على شكل "مشاريع استراتيجية" تنفذ بمعدل مرة واحدة في كل عام، وقد كان الهدف من هذه المشاريع هو تدريب القيـادة العامة للقوات المسلحة- بما في ذلك قيادات القوات الجوية والقوات البحرية وقوات الدفاع الجوي، وكذلك قيادات الجيوش الميدانية وبعض القيادات الأخرى- على دور كل منها في الخطة الهجومية. لقد اشتركت أنا شخصيا في ثلاثة من هذه المشاريـع قبل أن أعين رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة. لقد اشتركت في مشاريع عامي 1968 و1969 بصفتي قائداً للقوات الخاصة (قوات المظلات وقوات الصاعقة)، واشتركت في المرة الثالثة عام 1970 عندما كنت قائدا لمنطقة البحر الأحمر العسكرية. وقد جرت العادة على أن يكون وزير الحربية هو المدير لهذه المشاريع، وأن يدعى رئيس الجمهورية لحضور جزء منها، لكي يستمع إلى التقارير والمناقشـات التي تدور خلالها، وقد استمرت هذه المشاريع خلال عامي 1971 و1972أما المشروع الذي كان مقررا عقده عام 1973 فلم يكن إلا خطة حرب أكتوبر الحقيقية التي قمنا بتنفيذها في 6 أكتوبر 1973.
وحيث إن إسرائيل كـانت تتفوق علينا تفوقاً ساحقاً في كل شئ خلال عام 1968 والأعوام التـالية، فقد كان مديرو هذه المشاريع الاستراتيجية يفترضون امتـلاكنا لقوات مصرية ليست موجودة واقعياً، وذلك حتى يكون من الممكن تنفيذ مشروع الهجوم بأسلوب لا يتعارض مع العلم العسكري. وبمعنى آخر فإن المديرين كانوا يضعون الخطة الهجومية على أساس ما يجب أن يكون لدينا، إذا أردنا القيام بعملية هجوم ناجحة. ولا يمكن أن نعتبر هذا خطا كبيرا حيث إن مثل هذه الخطط وإن كانت غير واقعية، فإنها تظهر بوضوح حجم القوات المسلحة التي يجب توافرها لكي يمكن تنفيذ خطة هجوميـة ناجحة. وفي خـلال السنوات 69 وما بعدها أخذت قواتنا المصرية تزداد قوة، وأخذت خططنا في تلك المشاريع الإستراتيجية تبدو اقل طموحا- نتيجة ربط الأهداف بالإمكانات الواقعية- وبذلك أخذت الثغرة بين إمكاناتنا الهجومية وخططنا الهجومية في المشاريع الاستراتيجية تضيق شيئا فشيئا، حتى تم إغلاقها تماماً في أكتوبر1973. وهكذا أصبحت خطتنا الهجومية عام 73 مطابقة للإمكانات الفعلية لقواتنا المسلحة الإستراتيجية تبدو اقل طموحا- نتيجة ربط الأهداف بالإمكانات الواقعية- وبذلك أخذت الثغرة بين إمكاناتنا الهجومية وخططنا الهجومية في المشاريع الاستراتيجية تضيق شيئا فشيئا، حتى تم إغلاقها تماماً في أكتوبر 1973. وهكذا أصبحت خطتنا الهجومية عام 73 مطابقة للإمكانات الفعلية لقواتنا المسلحة.
الفصل الثاني : إمكاناتنا الهجومية
عندما عينت رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة المصرية (ر.ا.ح.ق.م.م) في 16 من مايو 71، لم تكن هناك خطة هجومية، وإنما كانت لدينا خطة دفاعية تسمى "الخطة 200"، وكانت هناك أيضا خطة تعرضيه أخرى تشمل القيام ببعض الغارات بالقوات على مواقع العدو في سيناء ولكنها لم تكن في المستوى الذي يسمح لنا بأن نطلق عليها خطة هجومية، وكانت تسمى "جرانيت".
بدأت عملي بدراسة إمكانات القوات المسلحة الفعلية ومقارنتها بالمعلومات المتيسرة عن العدو بهدف الوصول إلى خطة هجومية تتمشى مع إمكاناتنا الفعلية، وقد أوصلتني تلك الدراسة إلى النقط الرئيسية التالية:
1- إن قواتنا الجوية ضعيفة جداً إذا ما قورنت بقوات العدو الجوية. أنها لا تستطيع أن تقدم أي غطاء جوي لقواتنا البرية اذا ما قامت هذه القوات بالهجوم عبر أراضي سيناء المكشوفة، كما أنها لا تستطيع أن توجه ضربة جوية مركزة ذات تأثير على الأهداف المهمة في عمق العدو.
2- أن لدينا دفاعا جويا لا بأس به يعتمد أساساً على الصواريخ المضادة للطائرات SAM ولكن -وللأسف الشديد- هذه الصواريخ دفاعية وليست هجومية، إنها جزء من خطة الدفاع الجوي عن الجمهورية، وهي لذلك ذات حجم كبير ووزن ثقيل وتفتقر إلى حرية الحركة (لم يكن لدينا في هذا الوقت الصاروخ SAM6 الخفيف الحركة والذي يستطيع أن يتحرك ضمن تشكيلات القوات المهاجمة)، وبالتالي فأنها لا تستطيع أيضا أن تقدم غطاء جويا لأية قوات برية متقدمة عبر سيناء إنها سلاح مناسب في الدفاع حيث يمكن أن توفر لها الوقاية بوضعها في ملاجئ خرسانية يتم إنشاؤها خلال بضعة أشهر، أما إذا خرجت من هذه الملاجئ لترافق القوات البرية المهاجمة، فأنها تصبح فريسة سهلة لقوات العدو الجوية وقوات مدفعيته.
3- كانت قواتنا البرية تتعادل تقريبا مع قوات العدو. لقد كان لدينا بعض التفوق في المدفعية- في ذلك الوقت- ولكن العدو كان يختبئ وراء خط بارليف المنيع، والذي كانت مواقعه قادرة على أن تتحمل قذائف مدفعيتنا الثقيلة دون أن تتأثر بهذا القصف، وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت قناة السويس - بما أضافه العدو إليها من موانع صناعية كثيرة- تقف سداً منيعاً آخر بين قواتنا وقوات العدو (1).
4-أما قواتنا البحرية، فقد كان من الممكن أن نعتبرها أقوى من بحرية إسرائيل، ولكن ضعف قواتنا الجوية قلب الموازين وأحال تفوقنا البحري إلى عجز وعدم قدرة على التحرك بحراً.. لقد كان في استطاعة العدو أن يتجول في خليج السويس ببعض الزوارق الصغيرة وهي لا تحمل سوى بعض الرشاشات دون أن يكون في استطاعتنا أن نتحدى تلك القوارب الصغيرة بقطع بحرية هي أكثر قوة وافضل تسليحا. لقد كانت تلك القطع البحرية المعادية تعتمد على قوة الطيران الإسرائيلي الذي يستطيع أن يغرق أية قطعة بحرية مصرية تتعرض لها. ولم يقتصر تحدي العدو لبحريتنا على تقييد حركتها في أعالي البحار، بل انه استفاد من ضعف دفاعنا الجوي في منطقة البحر الأحمر، فكان يقوم بتوجيه عدة ضربات برية ضد قطعنا البحرية ونجح في عدد من الحالات في إغراق بعض قطعنا البحرية وهي راسية في الميناء . لم يكن بإمكاننا أن نحقق دفاعا جويا مؤثرا بواسطة الصواريخ عن جميع أهدافنا داخل الجمهورية، ولذلك فقد كانت هناك أسبقيات تنظم توزيع هذا الدفاع، وكانت جبهة قناة السويس والعمق يستحوذان على إمكاناتنا كلها تاركين منطقة البحر الأحمر شبه عارية من وسائل الدفاع الجوي، اللهم إلا بعض المدافع التقليدية المضادة للطائرات. والتي لا تشكل أي تهديد خطير للطائرات النفاثة الحديثة، والمجهزة بصواريخ جو ارض ذات مدى طويل يجعلها قادرة على أن تصيب أهدافها دون أن تدخل في مدى مدافعنا المضادة للطائرات وفي هذه الظروف استطاع العدو أن يحصل على السيطرة البحرية في خليج السويس والجزء الشمالي من البحر الأحمر بواسطة قواته الجوية، وذلك على الرغم من تفوقنا العددي والنوعي في القطع البحرية على إسرائيل.
ونتيجة لهذه الدراسة فقد ظهر لي انه ليس من الممكن القيام بهجوم واسع النطاق يهدف إلى تدمير قوات العدو وإرغامه على الانسحاب من سيناء وقطاع غزة، وان إمكاناتنا الفعلية قد تمكننا- إذا احسنا تجهيزها وتنظيمها- من أن نقوم بعملية هجومية محددة تهدف إلى عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف ثم التحول بعد ذلك للدفاع، وبعد إتمام هذه المرحلة يمكننا التحضير للمرحلة التالية التي تهدف إلى إحتلال ألمضائق، حيث أن المرحلة الثانية سوف تحتاج إلى أنواع أخرى من السلاح والى أسلوب آخر في تدريب قواتنا، وقد كانت فكرتي في القيام بهذا الهجوم المحدود متأثرة بالعوامل الرئيسية التالية:
1- كان العامل الأول هو ضعف قواتنا الجوية، كما سبق أن قلت. لقد كنت حريصا ألا نزج بقواتنا الجوية في معارك جوية غير متكافئة مع العدو. لقد دمرت قواتنا الجوية مرتين على الأرض. كانت المرة الأولى إبان العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي عام 1956، وكانت المرة الثانية إبان الهجوم الإسرائيلي المفاجئ عام 1967.
وفي خلال السنوات الأربع الماضية قمنا ببناء ملاجئ خرسانة لطائراتنا، كما أقمنا شبكة دفاع جوي بالصواريخ حول قواعدنا الجوية، وبذلك اصبح لدينا بعض الضمانات ضد تدمير قواتنا الجوية بضربة جوية مفاجئه، كما تم في الحالتين السابقتين ولكن بمجرد أن يقلع الطيار بطائرته في الجو فإنه سوف يعتمد اعتماداً كليا على مهارته وعلى كفاءة طائرته عند اشتباكه مع الطائرات المعادية، ومن خلال الاشتباكات المتعددة التي تمت بين طائراتنا وطائرات العدو بعد 1967 ظهر تفوق الطيران الإسرائيلي في هذه الاشتباكات بشكل واضح وحاسم، وقد دار كثير من الجدل والمناقشات حول هذا الموضوع: هل هو نقص في تدريب طيا رينا ومهارتهم؟ أم هو عدم كفاءة طائرة الميج 21 بالمقارنة مع طائرات العدو؟ كان طيارونا يلقون بأسباب فشلهم في هذه الاشتباكات على الطائرة، في حين كان الخبراء السوفيت يلقون باللوم علي الطيارين المصريين. وفي اعتقادي أن فشلنا في هذه الاشتباكات كان يعود إلى كل من الطيار والطائرة ،وكذلك إلى الظروف التي كان العدو يفرضها علينا في هذه الاشتباكات. فعندما كان العدو يخطط لمثل هذه الاشتباكات فإنه كان ينتقي لها افضل طياريه ويرسم لها خطة محكمة يبدأها عادة بأن يخترق أجواءنا في الوقت والمكان والاتجاه الذي إنتخبه ضمن خطته، وعندما نقوم نحن باعتراض تلك الطائرات المعادية، فإننا نعترضها بواسطة من يتصادف قيامهم بخدمة العمليات في أعلى درجات الاستعداد، وقد يكون من بينهم بعض الطيارين حديثي الخبرة وهؤلاء لا يمكن مقارنتهم بأي حال من الأحوال بالنخبة المختارة من الطيارين التي دفع بها العدو للتحرش بهم، وبالإضـافة إلى ذلك فإن طيارينا ينطلقون بطائراتهم ألإعتراضية إلى الجو دون أية خطة مرسومة معتمدين على ما سوف يحصلون عليه من معلومات من الموجهين الأرضيين، وحيث أن الموجهين الأرضيين هم الآخرون يقومون بدور خدمة عادي، فقد يكون منهم الموجه الجيد أو الموجه دون المستوى المطلوب.ونتيجة لذلك كله، فإن العدو يقابلنا بأفضل طياريه وبخطة مرسومة، بينما نقابله نحن بما هو متيسر لدينا في الخدمة من طيارين وموجهين ودون أية خطة، ولذلك فقد كانت النتائج دائماً في مصلحة العدو. في كثير من الحالات أفاد طيارونا بأنهم اسقطوا بعض طائرات العدو، ولكن لم يقم دليل قوي على ذلك في معظم الحالات. لم يكن طيارونا تنقصهم الشجاعة، ولكن كانت تنقصهم الخبرة والتجربة. لقد كانت الغالبية العظمى منهم تقل ساعات طيرانهم عن 1000 ساعة طيران، في حين كان متوسط ساعات طيران الطيارين الإسرائيليين يزيد على 2000 ساعة. لقد كانت القوات الجوية الإسرائيلية تسبق القوات الجوية المصرية بعشر سنوات على الأقل، وإذا أضفنا إلى ذلك كله أن طائراتنا كـانت اقل كفاءة من طائرات العدو، ولاسيما من حيث المدى وقوة التسليح والتجهيز بالأسلحة الإلكترونية وجدنا أن طيارينا كانوا يقاتلون عدوهم في ظروف غير متكافئة، ومن هنا بدا يتولد عندي أسلوب جديد في استخدام قواتنا الجوية يعتمد على مبدأين: المبدأ الأول، هو تحاشي المجابهة مع العدو في الوقت والمكان اللذين يختارهما هو. والمبدأ الثاني هو أن نستخدم قواتنا الجوية عندما تشتعل الحرب بتوجيه ضربات مفاجئة في الأوقات والأماكن التي نستبعد فيها أي تدخل من جـانب قوات العدو الجوية. وبمعنى أخر، فقد كنت اهدف إلى أن اجعل القوات البرية والأهداف الأرضية الإسرائيلية تتأثر نفسيا بهجمات قواتنا الجوية، وفي الوقت نفسه نحاول أن نتجنب أية معارك جوية. لقد كنت مقتنعا بأنه ما لم نستخدم قواتنا الجوية بحرص وذكاء فمن الممكن أن نخسر قواتنا الجوية للمرة الثالثة مع فارق بسيط هو أننا هذه المرة نخسرها وهي في الجو بدلا من خسـارتها وهي على الأرض، كـما تم في المرتين السابقتين.
2- كان العامل الثاني هو قدرات صواريخنا المضادة للطائرات SAMومداها في المعركة الهجومية. لقد أثبتت صواريخنا كفاءتها خلال حرب الاستنزاف ما بين 68 و70، وكذلك خلال الاشتباكات والتحرشات مع طيران العدو بعد وقف إطلاق النار في 7 من أغسطس 70 وحتى قيام حرب أكتوبر 73. إن إسرائيل لم تحترم قط وقف إطلاق النار، واستمر طيرانها يقوم باختراق مجـالنا الجوي كلما سنحت له الفرصة بذلك، ولكننا لاحظنا بكل فخر انه كان دائما يحاول أن يتفادى اختراق المناطق التي يعلم أنها تحت مظلة من صواريخ ٍ SAM، وقد كان ذلك في حد ذاته شهادة رسمية من العدو تنطق باحترامه وخشيته من صواريخنا. لقد كان أحد دروس حرب الاستنزاف هو أن القوات الجوية المعادية تكون ذات تأثير ضئيل ضد القوات ألمخندقة، وذات تأثير كبير ضد القوات الأرضية إذا ما هوجمت في العراء وهى خارج مدى مظلة دفاعنا الجـوى بالصواريخ SAM .ومن هنا كان علينا أن نقيد حركتنا شرق القناة في أية عمليـة هجومية، وان نربط هذه الحركة بقدرة دفاعنا الجوي على مدى الوقاية التي يستطيع أن يحققها لقواتنا البرية. وقد كانت إمكاناتنا في الدفاع الجوي - بعد القيام ببعض الإجراءات الخاصة- قادرة على تحقيق دفاع جوي مؤثر شرق القناة بمسافة تتراوح ما بين 10 و12 كيلومترا، وان أي هجوم بري يتجاوز هذه المسافة قد يقود إلى عواقب وخيمة.
3- لقد كان العامل الثالث هو الرغبة في أن نرغم إسرائيل على قتالنا تحت ظروف ليست مواتية لها. إن إسرائيل ذات الثلاثة ملايين نسمة تعبئ وقت الحرب حوالي 20% من قوتها البشرية للانضمام إلى القوات المسلحة وقوات الدفاع الإقليمي، وهي نسبة عالية جدا لم تستطع أية دولة في العالم أن تصل أليها. وإسرائيل نفسها لا تستطيع أن تتحمل مثل هذه التعبئة لمدة طويلة لأنها ترهق اقتصادها القومي وتصيب خدماتها وجميع نشاطاتها الأخرى بالشلل الكامل.
ونتيجة لهذا الموقف، فإن لإسرائيل مقتلين: المقتل الأول هو الخسائر في الأفراد، والمقتل الثاني هو إطالة مدة الحرب. إن إسرائيل لا تهتم كثيرا إذا هي خسرت الكثير من الأسلحة المتطورة Sophisticated من دبابات وطائرات ولكنها تصاب بالهلع إذا خسرت بضع مئات من الأفراد. إن لديها رصيدا هائلا من المعدات، وهناك من يقوم نيابة عنها بدفع ثمن فواتير السلاح، أما خسائر الأفراد، فإن رصيد الشعب اليهودي من البشر رصيد محدود، ومن الصعب تعويض هذه الخسائر. كذلك فإن إطالة الحرب هي السم الذي يضعف مقاومة إسرائيل يوما بعد يوم. إن الجندي الإسرائيلي الذي يستدعى في ألتعبئه هو نفسه العامل والمهندس في المصنع، وهو نفسه الأستاذ والطالب في الجامعة، وهو نفسه الذي يقوم بجميع النشاطات الأخرى في الدولة، فكيف يمكن لهذه الدولة أن تعيش لو امتدت الحرب ستة أشهر فقط ،وما بالك بأكثر من هذا؟ لقد كانت إسرائيل في جميع حروبها السـابقة تفضل أسلوب الحرب الخاطفة Blitzkrieg. لذلك فقد كان من صالحنا أن نفرض عليها حربا بأسلوب ليس في صالحها. فلو أننا توقفتا شرق القناة بمسافة تتراوح ما بين10 و 12 كم، فأننا سنخلق لها موقفا صعبا، فإذا هي قامت بالهجوم على مواقعنا شرق القناة فستكون لدينا الفرصة لأن نحدث في قواتها المهاجمة خسائر كبيرة سواء في القوات الأرضية أم القوات الجوية التي تساندها، نظرا لوجود تلك المنطقة تحت مظلة دفاعنا الجوي، وإذا هي عزفت عن الهجوم فسوف تضطر إلى الاستمرار في تعبئة قواتها المسلحة، وبذلك تستنزف قوتها الاقتصادية.
4 - أما العامل الرابع الذي اثر على تفكيري، فقد كان "تعلم الحرب بواسطة الحرب"، أو بمعنى أخر تدريب الضباط والجنود على الحرب الكبيرة -التي سوف تتم في مراحل قادمة- عن طريق الزج بهم في حرب محدودة يستطيعون فيها أن يكتشفوا ذواتهم وان يكتسبوا خبراتهم بأنفسهم. لقد تعلمت من خدمتي في القوات المسلحة واشتراكي في خمس حروب سابقة أن ميدان المعركة هو انسب الأماكن لتدريب الرجال على فنون الحرب. إننا مهما حاولنا خلال التدريب أن نخلق المناخ الذي يتشابه مع مناخ الحرب، فإننا لن نستطيع أن نخلق الأثر النفساني الذي تولده الحرب في الجنود، هذا الأثر الذي هو خليط من الخوف والشجاعة، خليط من الكبرياء وحب البقاء. هذه الآثار النفسية على المقاتل لا يمكن أن تكتشف إلا عن طريق الحرب الحقيقية. لقد كنت أتوقع أن يلعب نجاحنا في هذه الحرب المحدودة دورا مهماً في رفع معنويات قواتنا المسلحة بعد أن تكبدت ثلاث هزائم أمام إسرائيل خلال الخمس والعشرين سنة الماضية. لهذا كنت أرى أن الحرب القادمة يجب أن تكون مخاطرة محسوبة، ويجب ألا تكون بأي حـال من الأحوال نوعاً من أنواع المقامرة.
الفصل الثالث : تطور الخطة الهجومية
قبل مرور شهرين على تعييني رئيساً للأركان العامة، كنت قد أصبحت مقتنعاً بان معركتنا القادمة يجب أن تكون محدودة ويجب أن يكون هدفها هو "عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف واحتلاله ثم اتخاذ أوضاع دفاعية بمسافة تتراوح ما بين 10 و 12 كم شرق القناة" وأن نبقى في هذه الأوضاع الجديدة إلى أن يتم تجهيز القوات وتدريبها للقيام بالمرحلة التالية من تحرير الأرض. وعندما عرضت هذه الأفكار على الفريق أول محمد أحمد صادق بصفته وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة عارض هذه الفكرة بشده وقال إنها لا تحقق أي هدف سياسي أو عسكري، فهي من الناحية السياسية لن تحقق شيئاً. وسوف يبقي ما يزيد على 60000 كيلو متر مربع من سيناء، بالإضافة إلى قطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي. ومن الناحية العسكرية سوف تخلق لنا موقفا صعبا فبدلا من خطنا الدفاعي الحالي الذي يستند إلى مانع مائي جيد، فأن خطنا الدفاعي الجديد سوف يكون في العراء وأجنابه معرضة للتطويق. وبالإضافة إلى ذلك فسوف تكون خطوط مواصلاتنا عبر كباري القناة تحت رحمة العدو. لقد كانت فكرته في العملية الهجومية هي أن نقوم بتدمير جميع قوات العدو في سيناء، والتقدم السريع لتحريرها هي وقطاع غزة في عملية واحدة ومستمرة ! قلت له كم أود أن نقوم بتنفيذ ذلك، ولكن ليس لدينا الإمكانات للقيام بذلك سواء في الوقت الحالي أم في المستقبل القريب، رد قائلا: "لو أن السوفيت أعطونا الأسلحة التي نطلبها فإننا نستطيع أن نقوم بهجومنا هذا في خلال عام أو أقل". لم أوافقه على رأيه هذا وأخبرته أننا قد نحتاج إلى عدة سنين لكي نحصل ونتدرب على الأسلحـة اللازمة لمثل هذا الهجوم. واعدت ذكـر الأسباب التي تفرض علينا القيام بعملية هجومية محـدودة. وبعد مناقشات مطولة وعبر جلسات وأيام متعددة وصلنا إلى حل وسط وهو تجهيز خطتين: خطة تهدف إلى الاستيلاء على ألمضائق، وأخرى تهدف إلى الاستيلاء فقط على خط بارليف.
أطلقنا على الخطة الأولى اسم "العملية 41 "، وقمنا بتحضيرها بالتعاون مع المستشارين السوفيت بهدف إطلاعهم على ما يجب أن يكون لدينا من سلاح وقوات لكي نصبح قادرين على تنفيذ هذه الخطة. أما الخطة الثانية، فقد أطلقنا عليها الاسم الكودي"المآذن العالية"،وكنا نقوم بتحضيرها في سرية تامة. ولم يكن يعلم بها أحد من المستشارين السوفييت، كما أن عدد القادة المصريين الذين سمح لهم بالاشتراك في مناقشتها كان محدودا للغاية، وفي خلال يوليو وأغسطس 1971 كانت الخطتان قد تم استكمالهما. كانت الخطة 41 غير قابلة للتنفيذ إلا إذا توافرت أسلحة ووحدات افترضنا وجودها، أما خطة المآذن العالية فقد كانت أول خطة هجومية مصرية واقعية.
وبناء على الخطة 41، قمنا بتحرير كشوفات بالأسلحة والعتاد المطلوب الحصول عليهما من الاتحاد السوفيتي، وكالعادة دارت مناقشات مطولة بيننا وبين المستشارين الروس بخصوص هذه ألكشوفات ،فقد كان الروس يتهموننا دائماً بالمغالاة في مطالبنا، بينما كان الجانب المصري يتهم الروس دائما بعدم الاستجابة إلى مطالبنا العادلة والضرورية وفي أكتوبر 1971 سافر الرئيس السادات والفريق أول صادق إلى موسكو، حيث تم الاتفاق على صفقة أسلحة كانت تعتبر اكبر صفقة أسلحة مع السوفيت حتى ذلك الوقت ورغم ضخامة هذه الصفقة فأنها لم تغط جميع الأسلحة اللازمة لتنفيذ " ألخطة رقم 41". ورغم أن هذه الصفقة كانت تشمل 100 طائرة ميج 21 FM وفوج صواريخ كوادرات مضادة للطائرات خفيفة الحركة (سام 6)، فأن قدراتنا في الدفاع الجوي- حتى بعد التدعيم بهذه الأسلحة الجديدة- لم تكن بقادرة على حماية أي تقدم لقواتنا البرية في اتجاه المضائق طبقا لمتطلبات "الخطة رقم 41"، كما أن الأسلحة والمعدات التي تقرر وصولها قبل نهاية عام 71 لم يكن في استطاعتنا أن نستوعبها قبل إبريل 1972 في أحسن الظروف.
وعلى الرغم من هذه الحقائق ، فقد أخذ السادات يدق طبول الحرب بعد عودته من الاتحاد السوفيتي، ويصرح في كل مناسبة وأحيانا دون مناسبة بان عام 71 هو عام الحسم، ولكي يقنع الجميع بجديته في ذلك أعلن نفسه قائدا عاماً للقوات المسلحة اعتبارا من 31 من أكتوبر 71، وفي الوقت نفسه أخذت وسائل الإعلام المصرية -التي تسيطر عليها الدولة- تتحدث عن الحرب القادمة بحرية غريبة كأنها نوع من حفلات المبارزة التي يعلن مسبقا عن ميعادها ومكان انعقادها. لقد كان موقفاً غريباً وشاذاً مما اضطرني إلى أن أفاتح الفريق صادق في هذا الموضوع، حيث قلت له: "إن الرئيس يضعنا في موقف صعب إذا كنا حقاً سنخوض المعركة هذا العام فأن الرئيس يحرمنا من المفاجأة التي يمكن أن نحققها لو أنه ظل صامتاً، وإذا كنا لن نقوم بالمعركة هذا العام، فإنه بتصريحاته هذه يمكن أن يدفـع إسرائيل إلى أن تقوم بضربة إجهاض ضد قواتنا، أو على أقل تقدير فقد تأخذ هذه التصريحات ذريعة لطلب أسلحة جديدة من الولايات المتحدة!" قال لي أنه يتفق معي في وجهة نظري هذه، وإنه ناقش هذا الموضوع مع الرئيس وانه يعتقد أن الرئيس يلعب لعبة سياسية. لم اقتنع بمثل هذه الخدع السياسية وعكفت على تدقيق وتجهيز خطة "المآذن العالية" حتى لا أجد نفسي مفاجأ بقرار سياسي بالهجوم دون فترة إنذار معقولة.
وفي خلال عام 1972 أخذنا ندخل بعض التعديلات الطفيفة على كل من "الخطة رقم 41" و"خطة المآذن العالية"، وذلك بناء على التغير المستمر في حجم قواتنا وحجم قوات العدو، ولكن جوهر كل خطة بقي كما هو عليه، ولكن تم تغيير اسم "الخطة 41" لتكون "جرانيت 2"، وبنهاية عام 1972 بقيت "خطة المآذن العالية" هي الخطة الوحيدة الممكنة، بينما كانت الخطة جرانيت 2 هي خطة المستقبل التي يشترط لتنفيذها حدوث تغييرات أساسية في إمكانات قواتنا المسلحة. كان مازال هناك ثلاث نقط ضعف رئيسية تحد من قدراتنا على تنفيذ الخطة "جرانيت 2"، وكانت أولى هذه النقط هي ضعف قواتنا الجوية. فلم يكن لديها الإمكانات التي تمكنها من تصوير وتفسير وتسليم الصور الجوية في وقت يسمح بالاستفادة من هذه المعلومات. كذلك لم تكن القوات الجوية بقادرة على توفير الدفاع الجوي للقوات البرية أثناء تحركها. وكانت نقطة الضعف الثانية هي عدم توافر كتائب صواريخ SAM خفيفة الحركة بالقدر الذي يمكنها من أن تحل محل القوات الجوية في توفير الغطاء الجوي للقوات التي تتقدم شرقاً. وكانت نقطة الضعف الثالثة هي عدم قدرة غالبية عرباتنا على السير عبر الأراضي، أي خارج الطرق الممهدة وعبر الأراضي الرملية. لقد تعلمنا من خبراتنا السابقة في الحرب أن العربات ذات العجلات التي لا تتمتع بمقدرة مقبولة على السير في الرمال خـارج الطرق تشكل عبئا ثقيلا على كاهل القوات المقاتلة، فعند ما يقوم طيران العدو بتدمير بعض هذه العربات أثناء سيرها على الطرق المرصوفة، فإن هذه العربات تقوم بسد الطريق مما يدفع العربات اللاحقة- في محاولة لتفاديها- إلى الخروج عن الطريق المرصوف فتغرز في الرمال ويتكرر الأمر نفسه حتى يختنق الطريق تماماً بما يعادل حوالي 50 متراً من كل جانب بالعربات المعطلة أو المغروزة.
عندما عين الفريق أحمد إسماعيل وزيراً للحربية وقائداً عاماً للقوات المسلحة خلفاً للفريق صادق في نهاية شهر أكتوبر 1972، عرضت عليه خططنا الهجومية لمناقشتها معه. لقد كنت أعلم مسبقاً وجهة نظره عن الحرب من تقرير كان قد تقدم به بصفته مديرا للمخابرات العامة في النصف الأول من عام 1972، وفي هذا التقرير ذكر أن مصر ليست على استعداد للقيام بحرب هجومية، وحذر من أنه لو قامت مصر بشن الحرب تحت هذه الظروف فإن ذلك قد يقود إلى كارثة وكان هذا التقرير قد رفع إلى رئيس الجمهورية وأرسلت صورة منه إلى القيادة العامة للقوات المسلحة، وأيد رئيس الجمهورية هذا التقرير في مؤتمره الذي عقد في القناطر الخيرية (1) يوم 6 من يونيو 1972. وعندما كنت أناقش الموقف العسكري مع الفريق احمد إسماعيل بصفته الجديدة كوزير للحربية ذكرته بتقريره السابق وقلت له: "لم تحدث اختلافات كبيرة في القوات المسلحة منذ تقريرك، وبالذات فيما يتعلق بالدفاع الجوي، ولكنني أعتقد أنه بإمكاننا أن نقوم بعملية هجومية محدودة"، ثم عرضت عليه الخطة "جرانيت 2" وخطة "المآذن العالية"، وقد اقتنع بعدم قدرتنا على تنفيذ الخطة "جرانيت 2" وانه يجب علينا أن نركز على خطة "المآذن العالية " وتحدد ربيع 1973 كميعاد محتمل للهجوم.
عندما بدأت في وضع اللمسات النهائية على خطة "المآذن العالية" كان يتحتم علينا أن نوسع عدد القادة الذين يلمون بالخطة ومناقشة كافة المشكلات والاحتمالات المنتظرة وفي أثناء هذه المناقشات برز سؤال مهم "متى وكيف سيقوم العدو بهجومه المضاد؟". في جميع المشاريع الاستراتيجية السابقة كنا نفترض أن العدو سيقوم بهجومه المضاد التعبوي بواسطة لواءاته المدرعة والميكانيكية ضد رؤوس الكباري بعد فترة تتراوح ما بين 36 و 48 ساعة من بدء الهجوم.
لقد كنا طبعاً نتوقع بعض الهجمات المضادة الصغيرة بقوة تتراوح ما بين فصيلة وكتيبة دبابات خلال الساعتين الأوليين من الهجوم، ولكننا لم نكن نهتم كثيرا بمثل هذه الهجمات المضادة، حيث أن قواتنا كانت قادرة على صدها بسهولة. ولكن عند مناقشة تفصيلات الخطة قدرت هيئة العمليات أن الهجوم المضاد للعدو ينتظر وقوعه بعد 24 ساعة فقط من بدء الهجوم، لقد بني تقديرهم على أساس انه على الرغم من جميع ما نقوم به من إجراءات خداعية فأن العدو سيكتشف حتما استعداداتنا قبل بدء الهجوم بثلاثة أيام، وبالتالي يكون لديه الوقت اللازم لتعبئة قواته وحشدها في أماكن قريبة من القنال تسمح له بتوجيه ضربته بعد 24 ساعة فقط من بدء الهجوم. أما إدارة المخابرات الحربية، فقد كانت أكثر حذراً ولم تعترف بان خططنا الخداعية قادرة على خداع العدو، سوف يكشف نوايانا الهجومية بمجرد بدء العد التنازلي 15 يوما قبل المعركة، وان هذا الوقت الكافي سيسمح له بتعبئة قواته في سهولة ويسر، وانه سيتمكن من حشد 18 لواء في سيناء قبل أن نبدأ هجومنا. وبالتالي فأن مدير المخابرات الحربية أشار في تقريره إلى انه يتوقع أن يقوم العدو بتوجيه هجومه المضاد العام في خلال 6-8 ساعات من بدء هجوم قواتنا.
لقد كان واضحاً أن مدير المخابرات الحربية يبالغ في قدرات العدو حتى يؤمن نفسه فيما لو استطاع العدو أن يقوم بهذا الاحتمال البعيد، أما إذا لم يستطع العدو تنفيذ هجومه المضاد في خلال ثماني ساعات فلن يتوجه أحد باللوم لمدير المخابرات. لم اكن مقتنعاً برأي مدير المخابرات، ومع ذلك فلم يكن من الممكن إهمال هذا الرأي، وكان علينا أن ندخله في حسابنا على الرغم من المشكلات الكبيرة التي خلقها لنا. لقد كانت خطتنا في العبور تتلخص في عبور أفراد المشاة المترجلين في قوارب مطاطية حاملين معهم أسلحتهم الخفيفة التي يستطيعون حملها أو جرها على الشاطئ البعيد، وكنا ننتظر أن تبدأ المعديات في العمل ما بين سعت س+ 5 وسعت س+7، أما الكباري فكنا نعتقد أنها ستكون جاهزة ما بين سعت س+7 وسعت س + 9 (2)، وبحسابنا لقدرة جميع المعديات والكباري المنصوبة، فإن الدبابات والأسلحة الثقيلة الضرورية ستحتاج إلى حوالي 3 ساعات على الأقل للعبور والانضمام إلى المشاة أي أن قواتنا العابرة لن تكتمل إمكاناتها الدفاعية لكي تصبح قادرة على صد هجوم العدو المضاد الرئيسي قبل سعت س+12 ساعة وفي احسن الظروف سعت س+10 ساعة، فإذا قام العدو بهجومه المنتظر ما بين س+6 وسعت س+8 ، كما جاء في تقرير مدير المخابرات الحربية، فمعنى ذلك انه يسبقنا بحوالي 4 ساعات، وتكون لديه فرصة جيدة لتدمير مشاتنا قبل أن تصل إليها دباباتنا وأسلحتنا الثقيلة لزيادة إمكاناتها الدفاعية، ولمواجهة هذا الاحتمال اتخذنا الإجراءات التالية (3):
1- قمنا بزيادة عدد الصواريخ المضادة للدبابات التي يحملها المشاة معهم اثناء العبور، وقد تم ذلك على حساب التشكيلات غير المشتركة اشتراكا مباشراً في عملية العبور. وهكذا جردت تشكيلاتنا التي كانت في احتياطات الجيوش الميدانية كما جرد احتياطنا الاستراتيجي من جميع الصواريخ المضادة للدبابات مالوتكا Malotka بأطقمها، وذلك حتى يمكن أن ندعم بها قواتنا المشاة المكلفة بالعبور. لقد كانت مغامرة ولكنها كانت محسوبة على أساس أن هذه الأسلحة سوف تسحب هي وأطقمها وتعاد إلى تشكيلاتها الأصلية بعد أن تصل الدبابات والأسلحة الثقيلة إلى المشاة (4).
2- قررنا زيادة عدد القوات المكلفة بالعمل في عمق العدو، وذلك بهدف تأخير وصول قواته الاحتياطية المكلفة بالقيام بالهجوم المضاد، إلى أطول أجل ممكن.
3- فرضنا على وحدات المشاة المترجلين الذين يعبرون القناة ألا يتجاوز تقدمهم 5 كيلومترات شرق القناة، مع ضرورة استناد أجنابها على القناة حتى تؤمن نفسها ضد التطويق ثم تتقوقع مشاتنا داخل رؤوس الكباري هذه إلى أن تصل إليها الدبابات والأسلحة الثقيلة. وقد كان لفرض هذه القيود فوائد متعددة، حيث، أن صغر حجم رأس الكوبري إلى هذا الحد كان يعنى تقصير الخط الدفاعي، وبالتالي زيادة نسبة تركيز أعداد أسلحتنا المضادة للدبابات لكل كيلومتر من خط المواجهة.. كما أن توقف المشاة عند هذا الخط كان يعطى لنا الفرصة لأن نشرك معها قواتنا المتمركزة غرب القناة في معركة صد هجوم العدو المضاد، وذلك بواسطة مدفعيتنا الميدانية ودباباتنا وصواريخنا المضادة للدبابات الخ. كذلك فأن توقف المشاة عند هذا الخط يجعلها تتمتع بالعمل تحت مظلة دفاعنا الجوى التي تكون ما تزال على بعد حوالي 10 كيلومترات غرب القناة لتبقى خارج مرمى مدفعية العدو الميدانية.
الفصل الرابع: الخطة بـدر
كانت الخطوط العريضة لخطتنا الهجومية بعد أن أخذت صورتها النهائية وبعد أن تغير اسمها من "المآذن العالية"، إلى "بدر" (1) تتلخص فيما يلي:
1- تقوم خمس فرق مشاة بعد تدعيم كل منها بلواء مدرع وعدد إضافي من الصواريخ مالوتكا المضادة للدبابات - والتي تسحب من التشكيلات الأخرى غير المشتركة في عملية العبور- باقتحام قناة السويس من خمس نقاط.
2- تقوم هذه الفرق بتدمير خط بارليف ثم تقوم بصد الهجوم المضاد المتوقع من العدو.
3- ما بين سعت س+18 ساعة وسعت س+24 ساعة تكون كل فرقة مشاة قد عمقت ووسعت رأس الكوبري الخاص بها لتصبح قاعدته حوالي 16 كم وعمقه حوالي 8 كم.
4- بحلول سعت س+48 ساعة تكون فرق المشاة داخل كل جيش ميداني قد سدت الثغرات الموجودة بينها واندمجت مع بعضها في راس كوبري واحد لكل جيش. وبحلول سعت س+72 ساعة يكون كل من الجيشين الثاني والثالث قد وسع راس الكوبري الخاص به بحيث يندمج الاثنان في راس كوبري واحد يمتد شرق القناة على مسافة تتراوح ما بين10-15 كم.
5- بعد الوصول إلى هذا الخط تقوم الوحدات بالحفر واتخاذ أوضاع الدفاع.
6- يتم استخدام وحدات الإبرار الجوي والبحري على نطاق واسع لعرقلة تقدم احتياطات العدو من العمق وشل مراكز قيادته.
إن قرارنا بخصوص عبور قناة السويس على مواجهة واسعة هو عقيدة ثابتة استقرت في تفكيرنا العسكري في مصر منذ عام 1968، وقد تولدت هذه العقيدة لدينا للأسباب الآتية:
1-إذا نحن قمنا بتركيز هجومنا على مواجهة صغيرة- كما هو الحال في جميع عمليات العبور السابقة عبر التاريخ- فأن ذلك سوف يعرض قواتنا لضربات جوية شديدة سواء أثناء مرحلة تجمعها في اتجاه الاختراق أم أثناء عمليه عبورها الفعلي.
2- إذا ما استخدمنا فرق المشاة التي تقوم بالدفاع غرب القناة في القيام بالهجوم، بحيث تقوم كل فرقة مشاة من مواقعها الدفاعية بعبور القناة من القطاعات التي في مواجهتها، فأن ذلك سوف يقدم لنا المزايا التالية:
أ- سوف تبقى القوات المكلفة بالهجوم في خنادقها التي تضمن لها الاختفاء والوقاية لأطول مدة ممكنة قبل أن تغادر هذه المواقع وهي في طريقها للهجوم.
ب- سوف نستفيد من التجهيز الهندسي الموجود في منطقة كل فرقة لأغراض الدفاع للاستعانة به ضمن متطلبات التجهيز الهندسي الذي يستلزمه الهجوم، وبالتالي نوفر الكثير من أعمال التجهيز الهندسي.
ج-إن ذلك سيجعل أوضاع قواتنا في الهجوم تكاد تتطابق مع أوضاعها في الدفاع، وبالتالي لا تكون هناك حاجة لإجراء تحركات كبيرة بين قواتنا قبل الهجوم، مما قد يلفت نظر العدو فتضيع منا فرصة المفاجأة.
3- إذا اختار العدو أن يقوم بتوزيع هجماته المضادة على طول المواجهة فإنه سوف يضطر إلى توزيع مجهوداته وسوف تكون لدينا فرص ممتازة لصد هجماته الأرضية والجوية بواسطة دباباتنا وصواريخنا المضادة للدبابات وصواريخنا المضادة للطائرات المنتشرة على طول الجبهة. ولو أن العدو لجأ إلى هذا الأسلوب فأن فرصته في نجاح هجماته المضادة تكاد تكون معدومة (2). أما إذا قام بتركيز هجومه المضاد على قطاع واحد أو اثنين من قطاعات الاختراق، فأنه قد تكون لديه فرصة أفضل في تدمير راس كوبري لفرقة أو اثنين بعد تحمله خسائر جسيمة- ولكن ذلك سوف يتركنا شرق القناة برؤوس كباري سليمة لعدد ثلاث فرق على الأقل ، ومن خلال هذه الفرق يكون في إمكاننا استعادة الموقف في القطاعين اللذين يكون العدو قد نجح في تدميرهما.
في خلال شهر أبريل 73 اخبرني وزير الحربية بأنه يرغب في تطوير هجومنا في الخطة لكي يشمل الاستيلاء على المضائق، فأعدت له ذكر المشكلات المتعلقة بهذا الموضوع، وانه لم يطرأ أي تغيير على الموقف منذ أن ناقشنا هذه المشكلات معا في نوفمبر 72. وبعد نقاش طويل أخبرني بأنه إذا علم السوريون بان خطتنا هي احتلال 10-15 كم شرق القناة فإنهم لن يوافقوا على دخول الحرب معنا، فأخبرته بأنه بإمكاننا أن نقوم بهذه المرحلة وحدنا وأن نجاحنا سوف يشجع السوريين على الانضمام إلينا في المراحل التالية، ولكنه قال:إن هذا الرأي مرفوض سياسياً، وبعد نقاش طويل طلب إلى تجهيز خطة أخرى تشمل تطوير الهجوم بعد العبور إلى المضائق، وأخبرني بأن هذه الخطة سوف تعرض على السوريين لإقناعهم بدخول الحرب. ولكنها لن تنفذ إلا في ظل ظروف مناسبة ، ثم أضاف قائلا: "فلنتصور مثلا أن العدو تحمل خسائر جسيمة في قواته الجوية - وهو عنصر التهديد الأساسي- وأنه قرر سحب قواته من سيناء، فهل سنتوقف نحن على مسافة 10-15 كم شرق القناة لأنه ليس لدينا خطة لمواجهة مثل هذا الموقف؟".
لقد كنت اشعر بالاشمئزاز من هذا الأسلوب الذي يتعامل به السياسيون المصريون مع إخواننا السوريين، ولكني لم اكن لأستطيع أن أبوح بذلك للسوريين، وقد ترددت كثيرا وأنا اكتب مذكراتي هذه، هل احكي هذه القصة أم لا، وبعد صراع عنيف بيني وبين نفسي قررت أن أقولها كلمة حق لوجه الله والوطن. إن الشعوب تتعلم من أخطائها، ومن حق الأجيال العربية القادمة أن تعرف الحقائق مهما كانت هذه الحقائق مخجلة.
قمنا بتجهيز الخطة الجديدة التي لم تكن إلا الخطة "جرانيت 2" بعد إجراء بعض التعديلات الطفيفة، وبعد أن تم وضع هذه الخطة دمجت مع "الخطة بدر" -التي هي خطة العبور- في خطة واحدة أصبحنا نطلق على خطة العبور لفظ "المرحلة الأولى"، وخطة التطوير لفظ "المرحلة الثانية"، ولكي نعمق الفاصل بين المرحلتين فقد كنا عندما ننتقل من شرح المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، نقول. "وبعد وقفة تعبوية نقوم بتطوير كذا كذا - ". إن التعبير العسكري "وقفة تعبوية" يعني التوقف إلى أن تتغير الظروف التي أدت إلى هذا التوقف، وقد تكون الوقفة التعبوية عدة أسابيع، وقد تكون عدة شهور أو اكثر، كنا نشرح ونناقش خطة العبور بالتفصيل الدقيق ثم نمر مرورا سريعاً على المرحلة الثانية. لم أتوقع قط أن يطلب إلينا تنفيذ هذه المرحلة، وكان يشاركني هذا الشعور قادة الجيوش ويتظاهر بذلك على الأقل وزير الحربية.
في خلال شهر في خلال شهر سبتمبر 73 قال لي أحمد إسماعيل: " إننا سوف نقوم بالحرب، فإذا سارت الأمور على ما يرام، فإن أحدا لن يهتم بتوجيه كلمة شكر لنا، أما إذا تطورت الأمور إلى موقف سيئ فإنهم سيبحثون عن شخص يلقون عليه التبعة". لقد كان أحمد إسماعيل منزعجا، وكان يخشى وقوع الهزيمة ويريد أن يؤمن نفسه ضد هذا الاحتمال، لقد طرد من قبل الرئيس عبد الناصر مرتين: المرة الأولى عقب حرب 1967، حيث كان يشغل منصب رئيس أركان جبهة سيناء، والمرة الثانية في سبتمبر 1969،حيث كان يشغل منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة وقد أثرت هاتان الحادثتان على نفسيته تأثيرا كبيراً. لقد أصبح رجلا يخشى المسئولية، ويفضل أن يتلقى الأوامر ويخشى أن يصدرها، يفكر في احتمالات الهزيمة قبل أن يفكر في احتمالات النصر، قلت له: "أنا شخصيا لا يهمني أن أتلقى كلمة شكر أو لا أتلقى، إذ أن سعادتي في إرضاء نفسي، وإني لا أخشى كلمة لوم، لأني متيقن بأننا سننتصر بإذن الله". لم تطمئنه كثيرا كلماتي المتفائلة، وقال: "انه من الأفضل أن يصدر رئيس الجمهورية توجيهاً يحدد فيه واجب القوات المسلحة، حتى لا يكون هناك خلاف في المستقبل حول هذه الأمور، وانتهت مناقشاتنا على أساس انه سيطلب إلى الرئيس السادات إصدار هذا الأمر. وفي نهاية سبتمبر (قبل بدء العمليات بحوالي أسبوع) استدعاني الوزير إلى مكتبه، وسلمني كتاباً لقراءته فأخذت في قراءته فإذا هو توجيه بتوقيع السادات، يحدد واجب القوات المسلحة في العمليات بشكل عام، ولكن هناك جملة واحدة لفتت نظري وهي "حسب إمكانات القوات المسلحة". كانت هذه الجملة من الناحية النظرية تعني أن القيادة العامة للقوات المسلحة هي التي تملك القرار الأخير في تحديد ما هو ممكن وما هو غير ممكن. لقد كان أحمد إسماعيل سعيدا بهذه الجملة، وإن كـان تطور الأحداث فيما بعد قد اثبت أن الرئيس السادات كان اكثر ذكاء عندما كتب هذه الجملة، لأنها تعطيه حق التنصل النهائي من أي قرار تقوم به القوات المسلحة وهي تعلم انه ليس في طاقتها.
وبعد أن قرأت التوجيه قلت لأحمد إسماعيل ضاحكاً: "مبروك.. لقد حصلت على ما تريد"، وأعدت له الكتاب لأنه كان باسمه ولكن أحمد إسماعيل بطبيعته الحذرة أعاد الكتاب إلي مرة أخرى قائلاً: "أرجو أن توقع على هذا الكتاب بأخذ العلم "، فأخرجت قلمي دون تردد وكتبت عليه " علم وسننتصر بإذن الله"، ووقعت باسمي وتاريخ التوقيع على الوثيقة، ثم أعدته إلى الوزير. هذه هي قصة التوجيه الاستراتيجي التي ذكرها الرئيس السادات في الصفحة رقم 331 من مذكراته، بأسلوب روائي يقول فيه: "كنت قبل ذلك في سبتمبر 1973 قد أصدرت الأمر الاستراتيجي للقائد العام ووضعت فيه تصوري للهدف الإستراتيجي ، وقد كان هذا الأمر هو الأول من نوعه في تاريخ مصر الحديث". نعم لقد كان الأمر الأول من نوعه، ولكن لماذا؟ لأنه كانت هناك شكوك خفية- مهما حاول الطرفان إخفاءها- بين رئيس الدولة ووزير الحربية. وإن التناقض في أقوال السـادات واضح في هذه النقطة كما هو واضح في نقاط أخرى كثيرة، ففي كتابه في الصفحة رقم 331، يقول: انه حرر التوجيه الاستراتيجي في سبتمبر ووقع أمر القتال في 2 من أكتوبر ، في حين أن الصور الزنكوغرافية المنشورة في الكتاب نفسه- بعد استبعاد الأخطاء اللغوية- في صفحتي 443 و 444 تقول: إن تاريخ الوثيقتين هو أول أكتوبر و5 من أكتوبر على التوالي، بماذا يفسر لنا السادات هنا التناقض الغريب في وثيقتين تاريخيتين يقول عنهما أنهما قمة العمل العسكري؟! إني أعلن للملأ بان هاتين الوثيقتين مزورتان، ليس لأن الوثائق الرسمية عليها توقيعي الشخصي فحسب، بل لأن هذه الوثائق كتبت على أوراق يتناسب طولها وعرضها مع طول وعرض صفحات الكتاب الذي نشرت به مذكرات السادات.
الفصل الخامس: إنشاء خطوط جديدة للقيادة والسيطرة
إن السيطرة على قوات مسلحة قوامها حوالي المليون ضابط وجندي هي عمل صعب للغاية، فعندما شغلت منصب (ر.ا.ح.ق.م.م) كان حجم القوات المسلحـة حوالي 800000، وقبل اندلاع حرب أكتوبر 73 كانت القوات المسلحة قد بلغت 1,050,000 (مليونا وخمسين ألفا) في الجيش العامل، يضاف إلى ذلك 150000 كان قد تم تسريحهم وتنظيم استدعائهم خلال السنتين السابقتين للحرب، وبذلك وصل حجم القوات المسلحة إلى 1,200,000 (مليون ومائتي ألف ضابط وجندي)، كان حوالي 58% منهم لا ينخرطون ضمن الوحدات الميدانية، ولاشك أن هذه النسبة تعتبر نسبة عالية إذا ما قورنت بالنسب السائدة في القوات المسلحة الأجنبية، ولكننا اضطررنا إلى هذا الموقف نتيجة للعاملين التاليين:
1- إن تفوق العدو الجوي الساحق جعل بإمكانه توجيه جماعات منقولة جوا لتدمير وتخريب أهدافنا الحيوية المتناثرة في طول البلاد وعرضها، وإن البنية التحتية Infrastructure والأهداف الحيوية في مصر، هي أهداف مثالية لجماعات التخريب المعادية، فهناك مئات الكباري فوق النيل والرياحات والترع، وهناك خطوط أنابيب المياه والبترول التي تمتد مئات الكيلومترات عبر الصحراء وكذلك خزانات المياه والنفط ومحطات الضخ والتقوية وتوليد الكهرباء، الخ.
2- إن التوسع المستمر في حجم القوات المسلحة كان يفرض علينا زيادة طاقة المنشآت التعليمية حتى تستطيع أن تلبي مطالبنا المتزايدة في تدريب الكوادر المطلوبة لقواتنا المسلحة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك لا بمزيد من تدعيم هذه المنشات بضباط الصف المعلمين والإداريين الذين يرفعون من طاقة هذه المنشات.
إن هيئة أركان الحرب العامة (هـ .ا.ح.ع) هي جهاز مركب تركيبا غاية في التعقيد، إنها تضم حوالي 5000 ضابط و 20,000 من الرتب الأخرى، وعلى قمة هذا الجهاز يجلس (ر.ا.ح.ق.م.م) وتحت إمرته المباشرة 40 ضابطا برتبة لواء، كل منهم على قمة فرع أو تخصص أو إدارة لمعاونة (ر.ح.ق.م.م) في السيطرة على القوات ولتسهيل عملية السيطرة على تلك القوات ذات المليون جندي، فقد تم تجميعها تحت 14 قيادة هي (البحرية- الطيران- الدفاع الجوي- الجيش الثاني- الجيش الثالث- قوات المظلات- قوات الصاعقة- منطقة البحر الأحمر- المنطقة الشمالية- المنطقة الغربية- المنطقة المركزية- المنطقة الوسطى- المنطقة الجنوبية- قطاع بور سعيد). لقد تعودت في الماضي أن اخلق نوعا من الاتصال المباشر بيني وبين الرجال الذين أقودهم، لم اكن قط من ذلك الطراز من القادة الذين يستمعون إلى تقارير مرؤوسيهم المباشرين ويعتمدون عليها اعتمادا كلياً في اتخاذ قراراتهم.
كنت استمع دائماً إلى تقارير المرؤوسين المباشرين ولكني كنت في الوقت نفسه اكمل وأتحقق من هذه التقارير عن طريق الاتصال المباشر مع المستويات الصغرى، فعندما كنت قائدا لكتيبة مظلات كنت أزور الضباط والجنود وأتحدث معهم يوميا. وعندما أصبحت قائد لواء مشاة كنت أزور الوحدات الصغرى في كل أسبوع مرة على الأقل، وعندما أصبحت قائدا للقوات الخاصة (التي كانت تضم قوات المظلات وقوات الصاعقة) كنت أزور كل وحدة فرعية بمعدل مرة كل أسبوع تقريبا، وعندما توليت قيادة منطقة البحر الأحمر العسكرية المترامية الأطراف، والتي كانت مواجهتها حوالي 1000 كيلومتر كنت أزور جميع رجالي بمعدل مرة كل شهر تقريبا، وخلال هذه الزيارات المستمرة كنت أستطيع أن المس قدرات رجالي الحقيقية، وكنت أستطيع أن أعالج نقاط الضعف التي اكتشفها، وكنت أحقنهم بأفكاري وتعليماتي، وهاأنذا الآن (ر.ا.ح.ق.م.م)، فكيف يمكنني أن أحافظ على هذا الرباط التاريخي الذي يربطني دائماً بجنودي؟ كان من الواضح أن زيارة جميع الوحدات التابعة لي- كما اعتدت فيما سبق- ضرب من المحال. وفي الوقت نفسه إذا أنا اعتمدت على سلسلة القيادة التقليدية فإن التقارير التي ستعرض على لا يمكن أن تجعلني أحس بنبض الجنود وأفكارهم وقدراتهم، كذلك فإني لن أستطيع أن أضمن أن يستقبل الجنود تعليماتي بالحماس نفسه الذي أود أن أشعرهم به واستحثهم لتنفيذه. لقد كان بيني وبين كل جندي مقاتل سبع قيادات، فلو أن إحدى هذه القيادات السبع أهملت أو أخطأت في العمل كموصل جيد بين رؤسائها ومرءوسيها أو بين مرءوسيها ورؤسائها- وهذا احتمال لا يجب استبعاده- فأننا لن نضمن تنفيذ تعليماتنا بالأسلوب الذي نبتغيه، ولكي أتغلب على هذه المشكلة وبعد تفكير طويل قررت أن أدخل أسلوبا جديدا لكي اخلق اتصالا مباشراً بيني وبين الضبـاط والجنود يتناسب مع ظروف قواتنا المسلحة.كانت الوسيلة الأولى هي عقد مؤتمر شهري تحت رئاستي، وكان يحضر هذا المؤتمر جميع مساعدي (أربعون ضابطا برتبة لواء) وجميع القادة الرئيسيين (14 قائدا)، ومع كل منهم القادة المرؤوسون له مباشرة وعلى سبيل المثال كان يحضر هذا المؤتمر قائد الجيش ومعه قادة الفرق التي تحت قيادته، وهكذا كان عدد الحاضرين في هذا المؤتمر يتراوح ما بين 90 و 100 قائد ومدير. كان مؤتمرنا يمتد من الساعة التاسعة صباحاً حتى الرابعة أو الخامسة بعد الظهر ويتخلله غداء خفيف نتناوله معا في مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة. لقد كنت حريصا كل الحرص على عقد هذا المؤتمر الشهري مهما كانت الظروف، ومهما كانت مشاغلي نظرا لاقتناعي بضرورته وفائدته الكبيرة وقد كان أخر مؤتمر شهري عقدته قبل بدء حرب أكتوبر 73 هو المؤتمر رقم 26 الذي عقد بتاريخ 22 من سبتمبر 73، وكان ذلك قبل بدء الحرب بأسبوعين فقط، وهناك تسجيل كامل لكل من هذه المؤتمرات يشمل جميع المواضع التي نوقشت والقرارات التي اتخذت.
لقد كنت اعرف من خبرتي السابقة كضابط ميداني أنه توجد دائماً أزمة ثقة بين الضباط الميدانيين وضباط أركان الحرب في القيادات العليا؛ فالضباط ألميدانيون كانوا دائماً ينعتون ضباط أركان الحرب بالبيروقراطية وعدم الواقعية وانهم دائماً يريدون أن يفرضوا سلطاتهم على الضباط الميدانيين بواسطة تعليمات سخيفة وغير قابلة للتنفيذ أما ضباط أركان الحرب فإنهم يتهمون الضباط الميدانيين بالإسراف الشديد والتبذير وعدم مراعاة التعليمات الفنية والإدارية في استخدام المعدات مما يؤثر على كفاءتها وصلاحيتها، وان الضابط الميداني عندما يتلف سلاحه أو معداته فإنه يرمى بها إلى الخلف ويطالب بسرعة إصلاحها أو صرف أخرى جديدة بدلا منها، وان إمكانات الدولة لا تسمح لضباط أركان الحرب بتلبية مثل هذا الإسراف والتبذير الذي يمارسه الضباط الميدانيون. كان واجبي- وأنا على قمة الجهازين- أن اخلق جوا من الثقة بين المجموعتين حتى يتم التعاون بين الجميع بما فيه صالح القوات المسلحـة. لقد كان هذا المؤتمر يتم بأسلوب ديمقراطي سليم، كان أي قائد أو مدير يعرض مشكلته ويناقش جميع جوانبها ثم أدعو الجانب الآخر إلى الرد على وجـهة نظره، ويشترك الحاضرون في إبداء الرأي ثم نتخذ القرار في النهاية بعدا ن يكون الموضوع قد أشبع بحثا. ونتيجة لهذه اللقاءات اكتشف كل من الجانبين انه كان يغالي في عيوب الجانب الآخر، فأخذ القادة ألميدانيون يدركون أهمية القيود المفروضة عليهم، كما أن ضباط أركان الحرب والمديرين أصبحوا أكثر إلماما وتجاوبا مع مطالب القادة الميدإنيين، وفضلا عن هذا وذاك، فإن هذه اللقاءات وتناول الغداء معا وتجاذب الحديث في فترات الراحة بعيدا عن الرسميات خلق جوا من الصداقة بين الطرفين، مما كان له الأثر الأكبر في إذابة الثلوج التي كانت تفصل بين الطرفين. كانت هذه اللقاءات فرصة لحل معظم المشكلات التي تعرض علينا، أما المشكلات المعقدة التي كانت تحتاج إلى دراسة مطولة فكنت أشكل لجنة مشتركة من الطرفين تقوم بدراستها وتعرض علينا ما توصلت إليه في مؤتمرنا التالي.
وعن طريق هذه المؤتمرات الشهرية أمكنني أن اخلق اتصالا مباشرا بيني وبين مستويين من القيادة، ولكن هذا يعنى انه مازالت هناك خمسة مستويات في القيادة تفصل بيني وبين الجندي المقاتل، ولخلق هذا الاتصال قررت أن أصدر توجيهات مكتوبة تصل إلى مستوى قائد السرية (1)، وعن طريق هذه التوجيهات اصبح باستطاعتي أن أسمع صوتي إلى ثلاثة مستويات قيادية أخرى.
لم تكن هذه التوجيهات تصدر بطريقة دورية أو بأسلوب تقليدي، أو يكتبها شخص متخصص ثم يوقع عليها (ر.ا.ح.ق.م.م) لإعطائها الصورة الرسمية. لقد كنت اكتبها بنفسي و أصدرها طبقا للظروف والأحداث، كما أن كل توجيه أصدرته كانت وراءه قصة أو حادث أو أخطاء ارتكبت بواسطة بعضهم، ولا أريد لها أن تتكرر من قبل الآخرين، لا بمجرد القول بان هذا خطا بل بتحليل أسباب الخطأ وتعليم الآخرين كيف يتصرفون في مثل هذه الظروف. وعن طريق هذه التوجيهات وضعت أفكاري وبصماتي في عقول رجال القوات المسلحة، ليس بالكلام المنمق الإنشائي، ولكن بواسطة الكلمات العلمية الرزينة التي تصدر من ضابط مجرب إلى أشبال يتمنى أن يكونوا افضل منه في حمل راية الحرب والحرية. وكنت عندما ازور مختلف القوات أسأل الضباط والجنود عما ورد في توجيهاتي، وشيئا فشيئا وجدت أن الضباط الأصاغر والجنود قد ارتبطوا بي فكريا عن طريق هذه التوجيهات، وأنهم كانوا ينفذونها بدقة وحماس.
لقد كان يوم 8 من أكتوبر 73 من اسعد أيام حياتي، وذلك عندما كنت ازور وحداتنا في شرق القناة، وكان الضباط والجنود يهتفون ويصيحون كلما رأوني بينهم "عاش التوجيه رقم 41 "، "لقد اتبعنا تعليماتك في التوجيه رقم 41 بالحرف الواحد"، الخ (2). وفي خلال الفترة ما بين يوليو 71 وسبتمبر 1973 كنت قد أصدرت 48 توجيها، وفي خلال الحرب أصدرت توجيهات أخرى كان أولها هو التوجيه رقم 49، وكان عنوانه "خبرة الحرب في قتال المدرعات "، وقد صدر يوم 15 من أكتوبر بعد معركة الدبابات التي وقعت في اليوم السابق وخسرنا فيها 250 دبابة، وقد كان أخر توجيه أصدرته قبل أن يعزلني السادات (3) من منصبي هو التوجيه رقم 53 الصادر بتاريخ 30 من نوفمبر 73. لقد كانت هذه التوجيهات ذات فائدة كبيرة في تثقيف وتعليم القادة الأصاغر والجنود، لأن الكثير منها كان يعالج التكتيكات الصغرى التي كانت تعتبر من نقاط الضعف الرئيسية في قواتنا المسلحة.
كما سبق أن قلت كانت توجيهاتي تصل إلى مستوى قائد السرية، وبذلك استطعت أن اخلق ارتباطا مباشراً بيني وبين خمسة مستويات قيادية، ولكن كيف يمكنني أن أصل إلى الجندي وضابط الصف وقائد الفصيلة؟ في القوات المسلحة يعتبر قائد السرية هو المعلم الأول للسرية، ولكن في قواتنا - ذات المليون رجل- كان لدينا اكثر من عشرة آلاف قائد سرية أو ما يعادله، ولا يمكن أن نضمن- التوسع الكبير والسريع في القوات المسلحة- أن جميـع الأفراد في هذا العدد الضخم هم من القادة والمعلمين الأكفاء. إن أي ضعف أو تقصير من قائد السرية ينعكس مباشرة على الجنود، وهذه حقيقة نلمسها دائما في القوات المسلحة، فإذا كان القائد جيدا فأن الوحدة تكون دائماً جيدة وإذا كان سيئا فإن الوحدة تكون دائماً سيئة. ولمساعدة قائد السرية في مهمته قررت أن اصدر كتيبات صغيرة توزع على كل جندي تعالج بعض الأمور التي تخص الجندي بصفة مباشرة، وفي خـلال عملي (ر.ا.ح.ق.م.م) أصدرت 8 كتيبات: ستة منها قبل الحرب والاثنان الآخران أصدرتهما بعد وقف إطلاق النار، وكانت الكتيبات الستة الأولى هي: دليل الجندي- دليل السائق- دليل نقاط المراقبة الجوية -التقاليد العسكرية- دليل التائهين في الصحراء- عقيدتنا الدينية طريقنا للنصر. أما الكتيبان الآخران اللذان صدرا بعد وقف إطلاق النار، فكان الأول هو "دليل القادة الأصاغر لضباط المشاة والمشاة الميكانيكية" وصدر بتاريخ 5 من ديسمبر 73، وكان الثاني هو "دليل القادة الأصاغر في وحدات المدرعات"، وقد قمت بمراجعته للمرة الثالثة والأخيرة ودفعته للطباعة يوم 11 من ديسمبر 73.
لقد كانت هذه الكتيبات في حجم صغير يسمح بوضع الكتيب في الجيب حتى يستطيع الجندي أن يقرأه في الوقت الذي يحلو له، وقد قمنا بطبع مليون ومائتي ألف نسخة من كتيب "عقيدتنا الدينية طريقنا للنصر"، وكانت تعليماتي تنص على أن يحمله الجندي معه وهو في المعركة. وكان يوزع على كل فرد من أفراد الاحتياط عندما يذهب إلى مراكز ألتعبئة ، وقد حدث أن استولت إسرائيل على بعض نسخ هذا الكتيب الذي كان مع من وقعوا أسرى من رجالنا أثناء الحرب،فحاولت أن تسئ تفسير بعض فقراته وتدعي أنني أصدرت تعليماتي إلى الجنود بقتل الإسرائيليين إذا وقعوا أسرى في أيدينا، وقاموا بحملة كبيرة ضدي، ثم قاموا بوضع ترجمة ممسوخة لبعض صفحات هذا الكتيب مما يجعل المعاني تختلط على القارئ، ولم يتحرك النظام المصري للرد على هذه التهم، وكأن الأمر لا يعنيه، إلى أن عينت سفيرا لمصر في لندن فقمت بصفتي الشخصية بتكذيب هذه الادعاءات الباطلة لأنها تتعارض مع ديننا وتقاليدنا العربية. لقد لعبت هذه الكتيبات دورا مهماً في تثقيف الجنود والضباط الأصاغر وتوجيههم، ولكن مما لاشك فيه أن الكتيبين الأخيرين يعتبران ذوى قيمة كبيرة جداً؛ لقد بينت فيهما - على ضوء خبرة الحرب- كيف يمكن لقائد الفصيلة والسرية أن يتصرف في كثير من المشكلات التي تواجهه. لقد كان طبيعيا في قواتنا المسلحة المصرية أن نمد ضابطا برتبة ملازم أو نقيب يتكلم بطلاقة وعلم غزير كيف يقاتل اللواء أو كيف تقاتل الكتيبة، ولكنه في الوقت نفسه لا يعرف كيف يقاتل بفصيلته أو سريته إذا كان يعمل مستقلا بعيدا عن التشكيلات المتراصة للواء أو الفرقة فكانت هذه الكتيبات والكثير من التوجيهات التي أصدرتها خير علاج لهذا الموقف الخطير.
الفصل السادس : تشكيل وحدات جديدة
إن عملية بناء القوات المسلحة لم تتوقف قط منذ هزيمة يونيو 67 حتى أكتوبر 73، وعندما تسلمت منصب (ر.ا.ح.ق.م.م) كانت القوات المسلحة تضم حوالي 800000 رجل (36000 ضابط و 764000 رتبة أخرى)، وفي أكتوبر 73 كانت القوات المسلحة قد وصلت إلى 1,200,000 رجل (66000 ضابط و 1,134000 رتبة أخرى).
إن تجنيد وتدريب 400000 رجل (30000 ضابط و 370000 من الرتب الأخرى) في فترة تزيد قليلا على السنتين يعتبر عملا صعبا وشاقا، فكيف استطاعت مصر أن تقوم بهذا العمل الكبير؟
لقد كانت مشكلة الضباط هي مشكلة المشكلات؛ فقد كانت وحداتنا تشكو من النقص في الضباط بنسبة تتراوح بين 30% و 40%، وكان إجمالي النقص العام في القوات المسلحة يصل إلى حوالي 15000 ضابط فإذا أضفنا إلى هذا الرقم ما نحتاجه من ضباط للوحدات الجديدة التي سوف تنشأ خلال العامين التاليين، فقد قدرنا هذا الرقم بحوالي 15000 ضابط أخر، ومعنى ذلك أنه يتحتم علينا لكي نستكمل مرتبات الوحدات من الضباط إعداد 30000 ضابط في خلال سنتين، وبحساب طاقة كلياتنا العسكرية المتخصصة في تدريب الضباط، اتضح لي أن أقصى طاقة تعمل بها هذه الكليات هو 3000 ضابط بكل عام،وهذا يعني أننا نحتـاج لعـشر سنوات على الأقل إذا أردنا أن تحل هذه المشكلة بالوسـائل التقليدية (1)، ومن ناحية أخرى فإنه لا يجوز السكوت عن هذا الموقف، لأن العجز في كوادر الضباط يؤثر تأثيراً خطيرا على كفاءة القوات المسلحة. إن الضابط هو القائد والمعلم لجنوده، فمن الذي يعلم الجندي ومن الذي يقوده إذا لم يتوافر هذا الضابط؟ لكي أجد مخرجـا لهذا الموقف قررت أن أنشئ كوادر جديدة من الضباط يطلق عليها "ضابط حرب "، هذا الضابط يتم انتقاؤه من بين الجنود المثقفين ويجري تدريبه تدريبا مركزا لمدة تتراوح ما بين 4- 5 اشهر في تخصص واحد، بحيث يصبح على مستوى عال في تخصصه على أن تكون معلوماته العامة عن التخصصات الأخرى محدودة وبالقدر الذي يسمح له بالتعاون مع تلك التخصصات (2). إن تدريب هذا الضابط يهدف إلى تأهيله لتولي وحدة صغرى وأن يبقى بها إلى أن تنتهي الحرب فيتم تسريحه. وعند البحث عن المثقفين من بين الجنود اتضح لي وجود 25000 جندي أو ضابط صف حائز على درجة جامعية، فكان من البديهي أن يكون هؤلاء الجنود هم القاعدة التي يمكن أن ننتقي منها هؤلاء المرشحين للتأهيل لرتبة ضابط، وكنت متحمسا لهذا المشروع لأنه لم يكن يحل لنا مشكلة الضباط فحسب بل لأنه كان سوف يساعدنا على حل إحدى مشكلات الضبط والربط؛ فقد كان هؤلاء الجنود المثقفون دائمي الشجار مع قادتهم من الضباط الأصاغر الذين كانوا في كثير من الأحيان أقل منهم سنا وثقافة عامة، وكانت المشكلات تزداد بين الطرفين إذا تصادف وجود سابق معرفة بين الضابط والجندي قبل الانخراط في الجندية سواء عن طريق المدرسة أم عن طريق الانتماء إلى قرية واحدة أم حي واحد.
كان في اعتقادي أن الجنود المثقفين سيرحبون بهذه الخطوة ه ولكني فوجئت بعدم تحمسهم لهذا المشروع، فقد كانت الغالبية منهم تفضل البقاء بدرجة جندي أو ضابط صف. كانوا يتصورون إن ترقيتهم لرتبة ضابط قد تربطهم بالقوات المسلحة فلا يسرحون من الخدمة عندما يحين اجل تسريح دورتهم، وقد قمت بإجراء عدة لقاءات معهم لكي اشرح لهم الموقف والدوافع لهذا المشروع ووعدتهم بان تسريح الضابط منهم لن يتأخر يومً واحداً عن ميعاد تسريح الجندي من دفعته، وبعد الكثير من التوعية اقبل الكثيرون منهم على التطوع وأمكن تأهيل وترقية 15000 رجل منهم إلى رتبة الملازم، كما قمنا بتأهيل 10000 آخرين من بين خريجي الجامعات الذين جندوا في عامي 71 و 72، وبذلك كان لدينا قبل يونيو 73 "25000 ضابط حرب"، أضف إلى ذلك 5000 ضابط عادي تم تدريبهم وتأهيلهم في الكليات العسكرية، فاصبح إجمالي من تم تأهيلهم وتدريبهم خلال سنتين هو 30000 ضابط، وقبل بدء العمليات في أكتوبر 73 لم تكن القوات المسلحة استكملت كوادرها من الضباط فحسب، بل كان لدينا فائض يقدر بحوالي 1-2% في كل تخصص لمقابلة الخسائر المحتملة في أثناء القتال.
إن تجنيد الجـندي وتأهيله هي عملية أقل صعوبة من مشكلة انتقاء وتأهيل الضباط، ولكنها مع ذلك لم تكن عملية بسيطة. لقد جندنا ما بين يونيو 71 ويونيو 73 حوالي400000 شاب حتى يمكننا أن نستكمل وحداتنا التي كانت قائمه فعلا، ولكي نواجه المتطلبات المتعلقة بإنشاء وحدات جديدة. إن مصر ذات ال35 مليون كانت من الناحية الواقعية عاجزة عن إمداد قواتها المسلحة سنويا بحوالي 160000 شاب ذوي مستوى ثقافي وصحي يتناسب مع متطلبات القوات المسلحة. لقد كان عدد الشبان الذين يصلون إلى سن التجنيد سنويا هو حوالي 3500000 (ثلاثمائة وخمسون ألفا) ونظرا لانخفاض المستويين الثقافي والصحي بين المجندين لم نكن نستطيع أن نحصل من بينهم على أكثر من 1200000 شاب ممن ينطبق عليهم الحد الأدنى من المستويات الثقافية والصحية، وهكذا كانت احتياجاتنا الفعلية تفوق مواردنا بحوالي 40,000 رجل سنوياً، وأمام هذا الموقف وجدت نفسي مضطرا إلى قبول مستويات اقل ثقافياً وصحياً رغم المعارضة الشديدة التي أثارها رجال الخدمات الطبية حول خفض مستوى اللياقة الطبية، كذلك حاولت أن أفتـح مجال التطوع أمام المرأة للانضمام إلى القوات المسلحة، ولكن نظرا لأن مثل هذا القرار يعتبر من الأمور الاجتماعية التي تهم كل أسرة، فقد طرحت هذا الموضوع للمناقشة في أحد اجتماعاتي الشهرية فأثار اهتمام الجميع، وكانت الغالبية العظمى ضد أي اتجاه للتوسع في فتح الباب أمام المرأة للانضمام إلى القوات المسلحة، وأخيراً استقر الرأي على أن نفتح باب التطوع أمام المرأة لكي تشغل وظائف السكرتارية على أن تقتصر على العمل في القواعد الخلفية وألا ترسل إلى المناطق الأمامية أو المناطق النائية، وهكذا فتحنا باب التطوع للنساء في القوات المسلحة للقيام بأعمال السكرتارية، واستقبلنا الفوج الأول منهن خلال عام 73 وتخرجت الدفعة الأولى في نوفمبر 1973.
وبإضافة 30,000 ضابط و 370,000 رتبة أخرى إلى القوات المسلحة كان في استطاعتنا أن ننشئ مئات الوحدات خلال العامين ما قبل أكتوبر 73. وأنني لن أقوم بحصر هذه الوحدات وتعدادها نظرا لكثرتها، ولكنني سأذكر فقط بعضا من هذه الوحدات التي ارتبط تشكيلها بخطة العبور ارتباطا وثيقا، كاللواء البرمائي AMPHIBIOUS BRIGADE. لقد بدأنا نفكر في إنشاء هذا اللواء في أواخر عام 1971، واتخذ قرار إنشائه في يناير 1972. وكان الغرض من إنشاء هذا اللواء هو دفعه في عمق العدو عبر البحيرات أو البحر بمهمة شل مراكز قيادة العدو وتعطيل تقدم احتياطياته من العمق. لقد كنا نعلم أن المعديات التي ستقوم بنقل دباباتنا إلى الشاطئ الآخر لن تكون جاهزة للعمل قبل سعت س+ 5 ساعة في حين أن اللواء البرمائي يستطيع أن يعبر البحيرات في اقل من ساعة بأعداد كبيرة من الدبابات والعربات، مما يشكل تهديداً خطيرا لقيادات العدو وتحرك إحتياطياته. لقد شكلنا هذا اللواء على غرار الوحدات الخاصة وزودناه بحوالي 20 دبابة برمائية، و 80 مركبة برمائية لنقل المشاة الميكانيكية MICV. وفي 15 من يونيو 72 أصدرت التوجيه رقم 16 الذي ينظم عمل هذا اللواء، وكان هذا التوجيه ينظم الأسلوب الذي تعمل به الكتائب البرمائية عبر المسطحات المائية، وقد أتبعت هذا التوجيه ببيان عملي تم إجراؤه في 28 من أغسطس 72، وبحلول أكتوبر 72 كان اللواء قد أتم تدريبه وقام بأول مشروع تدريبي ليلي في ليلة 22/23 من أكتوبر 72، وفي خلال عام 1973 استمر اللواء في تدريباته بأسلوب أكثر عنفاً، وقد وصل مستواه إلى الحد الذي جعله يستطيع أن يبقى بمركباته في الماء لمدة تصل إلى 6 ساعات متتالية، وفي ليلة 18/19 من يوليو 73 قررت أن أختبر كفاءة هذا اللواء بمشروع تدريبي يكون اكثر صعوبة من الواجب الذي سوف نكلفه به أثناء العمليات، وقد كان المشروع يشمل النقاط التالية:
1- من منطق تجمع قريبة من شاطئ البحر الأبيض تنزل كتائب اللواء إلى الماء ليلا ثم تسبح لمسافة 30 كم ثم تخرج إلى الشاطئ عند نقاط محددة وفي توقيتات محددة.
2- تتقدم بعد ذلك في العمق، حيث تقوم بتدمير مواقع العدو كما تقوم بصد وعرقلة احتياطات العدو المتقدمة من العمق.
لقد كانت المهمة التدريبية لاختبار اللواء أكثر صعوبة من واجب العمليات، حيث كان واجب العمليات يتضمن عبور اللواء مسطحاً مائيا يتراوح ما بين 5-10 كم، بينما كان المشروع التكتيكي يتطلب منه عبور 30 كم، ولكني كنت دائماً ومازلت أؤمن بضرورة التدريب الشاق حتى لا يفاجأ الجنود بظروف لم يتهيأوا لمجابهتها، لقد بقيت مع عناصر اللواء طوال الليل، وقد نجحت إحدى الكتائب في تنفيذ مهمتها، بينما ضلت الكتيبة الأخرى اتجاهها واستطاعت بصعوبة أن تصل إلى الشاطئ في غير المكان المحدد لها بعد أن فقدت مركبتين وعشرة أفراد، وفي صباح اليوم التالي تمكنا من إنقاذ سبعة أفراد من العشرة المفقودين وثبت لدينا غرق الباقين وعلى الرغم من خسائرنا في الأفراد والمركبات، فقد تعلمنا دروساً جديدة وكسب الضباط والجنود ثقة اكبر بدباباتهم مركباتهم، وبعد أقل من 80 يوما عوضنا الله عن تلك الأرواح الثلاث عوضا كريما. لقد كان ثمن هذه الأرواح هو المجد والكبرياء لرجال اللواء البرمائي. الذي عبر البحيرات المرة يوم 6 من أكتوبر 73 في اقل من ساعة زمنية، وكان معه 20 دبابة و 80 مركبة برمائية، دون أية خسائر في المعدات أو الرجال، وعندما تلقيت هذا الخبر السعيد وأنا في غرفة العمليات حوالي الساعة 1500 يوم 6 من أكتوبر تذكرت الشهداء الثلاثة الذين فقدناهم في التدريب وصليت من أجلهم. لقد كان إنشاء وحدات المهندسين يحظى لدينا دائما بالأولوية؛ لأن عبور القناة هو في المقام الأول عملية مهندسين. إذ كان يتحتم على المهندسين طبقاً للخطة، أن يقوموا بتنفيذ المهام التالية:
1- فتح 70 ثغرة في الساتر الترابي على الجانب البعيد، كل منها 1500 متر مكعب.
2- انشاء 10 كباري ثقيلة لعبور الدبابات والمدافع والمعدات الثقيلة.
3- إنشاء 5 كباري خفيفة حتى يمكنها أن تجتنب نيران العدو، وبالتالي تخفف من هجوم العدو على الكباري الرئيسية، وكانت هذه الكباري تشبه الكباري الثقيلة تماما ولكن حمولتها كانت أربعة أطنان فقط.
4- بناء 10 كباري اقتحام لعبور المشاة (3).
5- تجهيز وتشغيل 35 معدية.
6- تشغيل 720 قاربا مطاطيا لعبور المشاة.
وكانت جميع هذه المهام تتم تقريبا في وقت واحد، فقد كنا نفترض أن يتم فتح هذه الثغرات خلال ما بين 5-7 ساعات وتبدأ المعديات في العمل فور إتمام فتح هذه الثغرات بينما يتم تركيب الكباري بعد ذلك بحوالي ساعتين، وبالإضافة إلى عظم حجم هذه الأعمال وقصر الوقت المخصص لإنجازها يجب ألا ننسى أن جميع هذه الأعمال كان يتم تحت نيران العدو وهجماته المتكررة لذلك كان من واجبنا أن نقوم بعملية حساب دقيقة نستطيع بها أن نحدد حجم الوحدات المطلوبة.
لقد كان عدد وحدات المهندسين التي ساهمت في عملية عبور القناة بطريق مباشر حوالي 35 كتيبة من مختلف التخصصات كان نجاح القوات المسلحة في تشكيل وتدريب وحدات المهندسين اللازمة لعملية العبور هو المفاجأة الكبرى في هذه الحرب لأن جميع دول العالم - الصديقة منها والعدوة- كان يعتقد باستحالة التغلب على هذه المشكلات. ولقد سعدت كثيرا عندما قرأت مذكرات الجنرال اليعازر (ر.ا.ح.ق.م) الإسرائيلية خلال حرب أكتوبر عندما تكلم عن هذه النقطة، حيث قال: أنه أثناء مناقشة على مستوى القيادة الإسرائيلية لدراسة احتمال عبور المصريين للقناة، قال دايان وزير الحربية: "لكي يعبر المصريون قناة السويس، فإنه يلزمهم سلاح المهندسين الأمريكي والسوفيتي مجتمعين لمساعدتهم في ذلك". إن هذه شهادة نعتز ونفخر بها، وإني لا ألوم دايان على المبالغة، لأني اعرف جيدا مدى المجهود الذي بذل لتحقيق هذه المفاجأة!
الفصل السابع : مشكلات العبور وكيف تم التغلب عليها
إن تحضير وتجهيز القوات المسلحة للمعركة الهجومية لم يكن مقصورا على إنشاء وتدريب وحدات جديدة تقليدية، حيث إن عبور قناة السويس يعتبر من العمليات العسكرية ذات الطابع الخاص. فالتنظيم العادي والتسليح العادي والعقائد العسكرية السائدة كل ذلك لم يكن ليقدم حلولا لعملية العبور التي تنتظرني لذلك كان يجب علينا أن نلجأ إلى خيالنا وخبراتنا في جميع المجالات لكي نوجد حلولا للمشكلات التي تواجهنا. لقد أدخلنا الكثير من التعديلات في تنظيمات بعض وحداتنا القائمة، كما قمنا بإنشاء وحدات جديدة ذات تنظيم معين لكي تكون قادرة على القيام بمهام محددة كذلك أدخلنا بعض المعدات الجديدة ضمن تنظيم وحداتنا، وكان بعضها من أحدث وأرقى المعدات المستخدمة في العالم، وفي الوقت نفسه لجأنا إلى بعض المعدات البدائية التي كانت تستخدم في العصور القديمة. وبينما كان كل ذلك يجري في وقت واحد كان علينا أن نختبر هذه التنظيمات والمعدات والمهمات والعقائد الجديدة اختبارا ميدانيا تحت ظروف اقرب ما تكون إلى الظروف الواقعية التي سوف تواجهنا. وقد أجرينا مئات التجارب وأدخلنا العديد من التعديلات على أفكارنا وتنظيماتنا ومعداتنا، قبل أن نستقر على قرار نهائي في أي من هذه المواضيع.
قناة السويس كمانع مائي:
لم تعد الأنهار والقنوات تشكل عائقاً كبيرا أمام الجيوش الحديثة بعد تطوير أسلحة القتال وإدخال الدبابات والمركبات البرمائية والدبابات التي تستطيع الغوص في الماء والسير على قاع المانع المائي ضمن تنظيم القوات البرية. لقد اصبح في مقدار القوات البرية أن تقتحم المانع المائي بالهجوم من الحركة وعلى مواجهة واسعة، وذلك بأن تدفع القوات الرئيسية أمامها بمفرزة برمائية تقوم بإنشاء راس كوبري، ويتبعها المهندسون الذين ينشئون الكوبري الذي تعبر عليه القوات الرئيسية عند وصولها إلى المانع المائي. وإذا كان ذلك ينطبق على جميع الموانع المائية، فإنه لا ينطبق من قريب أو بعيد على قناة السويس، حيث أنها مانع مائي من نوع فريد في طبيعته، وقد أضاف إليها العدو- علاوة على ذلك- كثيرا من العوائق الاصطناعية مما جعلها تبدو في أعين الكثيرين من العسكريين مانعاً مائياً لا يمكن اقتحامه. ويمكن وصف قناة السويس كمانع مائي - باختصار- بالنقاط التالية:
1- مانع مائي صناعي يتراوح عرضه بين 180 و 200 متر، وأجنابها حـادة الميل ومكسوة بالدبش والحجارة لمنع انهيار الأتربة والرمال إلى القاع، وهذا يجعل من الصعب على أية دبابة برمائية أن تعبرها إلا إذا تم نسف أكتاف الشاطئ وتجهيز منزل ومطلع تستطيع المركبة البرمائية أن تستخدمهما في النزول إلى الماء والخروج منه (الشكل رقم 1).
2- قيام العدو بإنشاء سد ترابي على الضفة الشرقية للقناة وبارتفاع يصل في الاتجاهات المهمة إلي 20 متراً مما يجعل من المستحيل عبور أية مركبة برمائية إلى الشاطئ الآخر إلا بعد إزالة هذا السد. وقد عمل الإسرائيليون بجد في تعلية هذا السد وزحزحته إلى القناة حتى أصبح ميله يتقابل مع ميل شاطئ القناة أي أنه لم تكن هناك أي مصطبة أو كتف ظاهر لشاطئ القناة من ناحية العدو، وكان ميل هذا السد يتراوح بين 45 و65 درجة طبقا لطبيعة التربة في كل قطاع (الشكل رقم 2).
3- وعلى طول هذا السد الترابي بنى الإسرائيليون خطاً دفاعياً قوياً أطلق عليه خط بارليف Barlev Line، وقد كان هذا الخط يتكون من 35 حصناً تتراوح المسافة بين كل منها ما بين كيلو متر واحد في الاتجاهات المهمة و5 كيلومترات في الاتجاهات غير المهمة على طول القناة. أما في منطقة البحيرات فقد كانت هذه الحصون اكثر تباعداً إذ وصلت إلى ما بين 10-15 كم بين كل حصن وثغر. كانت هذه الحصون مدفونة في الأرض وذات أسقف قوية تجعلها قادرة على أن تتحمل قصف المدفعية الثقيلة دون أن تتأثر بذلك، وكانت تحيط بها حقول الغام وأسلاك كثيفة، ويمكن غمر القناة من مزاغل ألدشم بنيران كثيفة، وبين هذه الحصون كانت هناك مرابض نيران للدبابات بمعدل مربض كل 100 متر. كان العدو لا يحتل هذه المرابض بصفة دائمة. كان يحتلها فقط في حالات التوتر، وكان في استطاعة دبابات العدو أن تتحرك بين مربض وأخر وهي مستورة تماما عن النظر والنيران من جـانبنا، وكانت حصون خط بارليف لديها الاكتفاء الذاتي لمدة 7 أيام، ولديها وسائل اتصال جيدة مع قيادتها الخلفية، وأما القوات المخصصة لاحتلال خط بارليف فكانت لواء مشاة وثلاثة ألوية مدرعة. كان لواء المشاة (حوالي2000-3000 رجل) يحتل الحصون، بينما كانت الألوية المدرعة (360 دبابة) تخصص حوالي ثلث قوتها للعمل كأحتياطيات قريبة تتمركز على مسافة 5-8 كيلومترات شرق القناة. أما باقي المدرعات، فكانت تتمركز على مسافة 25-30 كم شرق القناة. لقد قدرنا أنه لو أمكننا تحقيق المفاجأة التامة وبدأنا القتال دون أن يعدل العدو من أوضاعه فمن المنتظر أن يقوم بهجمات مضادة ضد قواتنا العابرة بواسطة سرايا أو كتائب دبابات في خلال 15-30 دقيقة من بدء الهجوم، وأن يقوم بهجوم مضاد بواسطة اللواءات المدرعة في حدود ساعتين أما إذا شعر العدو بتحضيراتنا للهجوم، فقد ينجح في احتلال الفراغات التي تفصل بين الحصون بواسطة دباباته، وبذلك يمكنه أن يكبدنا خسائر كبيرة أثناء عملية العبور. علاوة على إمكان قيامه بهجمات مضادة على قواتنا التي تنجح في العبور بعد فترات تقل كثيراً عما سبق ذكره.
4- كان كل هذه الموانع والعوائق لم تكف لكي تبعث الطمأنينة في نفوس الإسرائيليين والرهبة في نفوس أعدائهم فأرادوا أن يبعثوا اليأس في نفوسنا، فأدخلوا سلاحاً جديداً رهيباً هو النيران المشتعلة فوق سطح الماء لكي تحرق كل من يحاول عبور القناة. ولتنفيذ هذه الفكرة الجهنمية بنوا مستودعات ملأوها بهذا السائل ووصلوا هذه المستودعات بأنابيب تنقل السائل إلى سطح الماء، ونظرا لأن كثافة هذا السائل اقل من كثافة الماء فأنه يطفو على سطح الماء، فإذا اشتعل بطريقة الية أو بواسطة قنبلة فسفورية تحول سطح الماء إلى جحيم. ومع استمرار التغذية بالسائل تستمر النيران المشتعلة. (الشكل رقم 3).
تلك هي قناة السويس، وهذا هو المانع المائي الذي كان علينا اقتحامه، وللتغلب على هذه المشكلة الكبيرة قمنا بتجزئتها إلى مجموعة من المشكلات الأصغر حجما، وأخذنا نعمل على حل كل مشكلة على حدة إلى أن تم التغلب عليها جميعا فكان العبور العظيم في أكتوبر 1973.
فتح الثغرات في الساتر الترابي:
كانت المشـكلة الأولى والرئيسية هي فتوح ثغرات في السد الترابي حتى يمكن من خلالها عبور الدبابات وأسلحتنا الثقيلة سواء عبر المعديات أم الكباري.
وعندما شغلت منصب(ر.ا.ح.ق.م.م) كانت العقيدة السائدة لفتح الثغرات في الساتر الترابي تتلخص فيما يلي:
1- يقوم المهندسون بالعبور في قواربهم المطاطية بمجرد أن تتمكن موجات المشاة من تحقيق الحد الأدنى من الوقاية لهم.
2- يقوم المهندسون بشق حفرة داخل السد الترابي مستخدمين في ذلك أدوات الحفر اليدوية (لاستحالة استخدام أدوات الحفر الميكانيكية نظراً لتهايل التربة) ثم تملا هذه الحفر بالمتفجرات ويتم تفجيرها بعد أن ينسحب المهندسون إلى مسافة 200 متر بعيدا عن مكان التفجير. قد يبدو من الناحية النظرية أنه كلما عمق المهندسون الحفر داخل السد الترابي، وكلما زادت كمية المتفجرات المدفونة في السد زادت كمية الأتربة المزاحة، أما من الناحية العملية فقد كان الموقف مختلفاً؛ إذ كانت طبيعة التربة التي يتكون منها السد الترابي متهايلة، وكان ذلك يجعل من الصعب تعميق أي حفرة في جسم السد. وكانت الأتربة والرمال على أجناب الحفرة تتهايل إلى داخلها مع كل محاولة لتعميقها، وبالتالي فقد كانت المتفجرات التي نقوم بدفنها داخل السد ليست على عمق كاف يسمح بإزاحة كمية كبيرة من الأتربة. كانت النتائج غير مشجعة وكانت كمية الأتربة المزاحة نتيجة التفجير تصل إلى حوالي 200- 300 متر مكعب تاركة ما يقرب من 1200 متر مكعب أخرى تجب علينا إزاحتها بواسطة العمل اليدوي والميكانيكي.
3- يستأنف العمل اليدوي لتجهيز مطلع للبولدوزر BULLDOZER الذي يتم نقله على معدية ثم يبدأ البولدوزر في العمل لاستكمال عملية فتح الثغرة.
في خلال شهري مايو ويونيو 71 حضرت عدة بيانات عملية قامت إدارة المهندسين بتنظيمها لإظهار الأسلوب المتبع في فتح الثغرات في السد الترابي نهارا أو ليلا. كان يعيب هذا الأسلوب النقاط التالية:
1- أن عملية التنسيق بين المهندسين الذين يقومون بالتفجير، والمشاة التي تعبر أو التي عبرت وأصبحت على الشاطئ الآخر، قد لا تسير على الوجه الأكمل مما قد تترتب عليه إصابة بعض جنودنا نتيجة هذه التفجيرات.
2- إن تخصيص عدد كبير من المهندسين للقيام بأعمال الحفر اليدوي بعد عملية التفجير قد تترتب عليه زيادة خسائرنا في أفراد المهندسين فيما لو وقعت هذه المجموعة تحت نيران العدو المباشرة أو غير المباشرة.
3- إن إرسال بلدوزر للعمل في استكمال فتح الثغرة مبكراً قد يعرضه للتدمير بواسطة نيران دبابات العدو، نظرا لكبر حجمه واضطراره للظهور في كثير من الأحيان على خط السماء وإذا تأخرنا في إرساله فسوف يتأخر فتح الثغرات، وبالتالي يتأخر تشغيل المعديات وبناء الكباري فتزداد فترة تعرض مشاتنا لهجمات العدو المضادة.
4- كان فتح الثغرات بهذا الأسلوب يعتبر باهظ التكاليف في الأفراد والمعدات والمواد، فقد كان فتح الثغرة الواحدة يحتاج إلى 60 فردا وبلدوزر و200 كغم من المتفجرات وعمل يستمر من 5-6 ساعات دون حساب لأي تدخل من العدو.
لم يكن أمامي إلا أن أقبل العمل بهذا الحل إلى أن نجد ما هو افضل منه، ولكني أخبرت اللواء جمال على مدير إدارة المهندسين بضرورة البحث والتفكير في أسلوب أخر لفتح هذه الثغرات. وفي خلال يونيو من العام نفسه اخبرني اللواء جمال علي أن أحد ضباط المهندسين يقترح فتح الثغرة في الساتر الترابي بأسلوب ضغط المياه، وأنه قد مارس هذا العمل عندما كان يعمل في السد العالي وكانوا يفتتون الصخر بقوة اندفاع المياه كانت الفكرة سهلة وبسيطة ولا ينقص إلا تجربتها، وقبل انتهاء شهر يونيو حضرت أول تجربة لاختبار هذه الفكرة. استخدم المهندسون في هذا البيان ثلاث مضخات مياه صغيرة إنجليزية الصنع وكانت النتيجة رائعة. كان واضحاً انه كلما زاد ضغط الماء زادت سرعة تهايل الرمال وبالتالي سرعة فتح الثغرة وبعد عدة تجارب اتضح لنا أن كل متر مكعب من المياه يزيح متراً مكعباً من الرمال، وان العدد المثالي في كل ثغرة هو خمس مضخـاته وفي يوليو 71 تقرر أن يكون أسلوبنا في فتح الثغرات في الساتر الترابي هو أسلوب التجريف (ضغط المياه)، وقررنا شراء 300 مضخة مياه إنجليزية وصل قسم منها قبل نهاية العام، والقسم الباقي وصل في أوائل عام 72. وفي خلال عام 72 قررنا شراء 150 مضخة أخرى ألمانية الصنع واكثر قوة من المضخة الإنجليزية، وبتخصيص 3 مضخات إنجليزية ومضختين ألمانيتين لكل ثغرة كان من الممكن إزاحة 1500 متر مكعب من الأتربة خلال ساعتين فقط وبعدد من الأفراد يتراوح ما بين 10-15 فردا فقط.
في خلال شهري مايو ويونيو كان هذا حلا رائعا وسهلا ويتلافى جميع العيوب التي كان يتسم بها الأسلوب السابق، فشكرا للمهندس الشاب صاحب الاقتراح وشكرا لجميع رجال المهندسين الذين قاموا بتطوير الفكرة وتهذيبها إلى أن أخذت لونها النهائي قبل حرب أكتوبر 73. ومن الأحداث الغريبة حقا أنه على الرغم من عشرات التجارب التي أجريت بهذا الأسلوب خلال الأعوام 71 و 72 و73 إلا أن الإسرائيليين لم يعرفوا اكتشافنا لهذا الأسلوب في فتح الثغرات في السد الترابي، وقد تحققنا من ذلك عندما وقع في أيدينا أحد جواسيسهم قبل بدء الحرب بشهرين.
التغلب على النيران المشتعلة:
كانت المشكلة الثانية التي وجبت علينا مجابهتها هي مشكلة النيران المشتعلة فوق سطح الماء وفي شهر يونيو 71 حضرت بيانا عمليا عن أسلوب التغلب على هذه النيران المشتعلة، وقد تم تنفيذ المشروع كما يلي:
1- يقوم بعض الجنود الذين يلبسون ملابس واقية ضد الحريق بركوب أحد القوارب ومع كل منهم واحدة من سعف النخل (جريدة)، ثم يبدأون بمهاجمة جزر النيران المشتعلة وضربها بالجريد فتنقسم عادة الجزيرة الكبيرة إلى عدة جزر صغيرة، ثم تتكرر العملية، وهكذا
2- أقترح على خلال هذا البيان أن نستبدل القوارب المطاطية بمركبات برمائية وان يستبدل سعف النخل بمواد كيماوية أو بمعنى أخر تشكيل قوة مطافئ بحرية.
لم أقتنع بأنه يمكن إطفاء هذه النيران بسعف النخل إذ كنا نستخدم في تجربتنا عشرة أطنان من السائل المشتعل، ولكن يجب أن نتصور ماذا يمكن أن يحدث لو أن العدو قذف بخمسين طنا من هذا السائل ثم أخذ يغذيها باستمرار. لاشك أن النيران ستكون اكثر قوة واكثر تماسكا بحيث لا تسمح بوجود جزر عائمة من النيران يمكن لقواتنا المكلفة بالإطفاء أن تهاجمها واحدة بعد الأخرى، كما أن تشكيل وحدات إطفاء بحرية سيشغلنا عن واجبنا الأصلي، فبدلا من أن نعبر ونقتحم فإن مجهودنا سوف يتحول إلى عملية إطفاء حريق وبهذا يتحقق هدف العدو، وبعد دراسة الموضوع من جميع جوانبه قررت أن تكون عقيدتنا فيما يتعلق بهذه المشكلة هي كما يلي:
1- يجب أن نحرم العدو من فرصة استخدام هذا السلاح الذي يعتمد على ثلاثة أجزاء: خزانات يسع الواحد منها 200 طن من المواد المشتعلة، أنبوبة تصل ما بين هذه الخزانات وسطح مياه القناة ثم وسيلة سيطرة تشمل الفتح والإشعال. فلو أمكـننا إفساد أي من هذه الأجزاء لفشل العدو في استخدام هذا السلاح. كانت الخزانات مدفونة دفناً جيداً في الرمال ومن المشكوك فيه إمكان تدميرها بواسطة المدفعية. وكانت الأنابيب التي تنقل السائل هي الأخرى مدفونة ومن الصعب الوصول إليها، ولكن فتحات هذه المواسير كان يمكن رؤيتها بوضوح من جانبنا. وكانت فتحه هذه الأنابيب تختفي تحت سطح المياه عندما يكون هناك "مد" وتظهر فوق سطح المياه عندها يكون هناك "جزر" فلو أمكننا أن نسد هذه الفتحات قبل بدء العمليات لفسدت خطة العدو في استخـدام هذا السلاح تماما. لذلك يحب علينا- كجزء من التخطيط- أن نغلق هذه الفتحات وان نضرب الخزانات بالمدفعية أثناء فترة تحضيرات المدفعية التي تسبق عملية الهجوم، وبالإضافة إلى ذلك فإنه يمكننا إرسال جماعات تخريب لتدمير هذه الخزانات قبل المعركة وخلالها.
2- كان علينا عند انتخاب نقط العبور أن نختارها بحيث تكون فوق اتجاه التيار، حيث أن هذا السائل المحترق يعوم مع التيار، وبالتالي فأنه يعتبر عديم المفعول ضد أي قوات تعبر من فوق اتجاه التيار.
3- إذا حدث واضطررنا لانتخاب قطاع العبور بحيث يكون تحت التيار، ثم فشلت جميع محاولاتنا في إبطال مفعول هذا السلاح ونجح العدو في تشغيله، فإننا نوقف عملية العبور إلى أن ينتهي تأثير هذه النيران. قد يتراوح الوقت اللازم لاحتراق هذا السائل ما بين 15- 30 دقيقة طبقا لكمية السائل المسكوب وليس أمامنا إلا أن نتعامل معه كأنه أحد أسلحة القتال: نحاول أن نتحاشاه إذا كان مؤثرا ونتجاهله إذا ضعف تأثيره، مثله في ذلك مثل منطقة مغمورة بنيران المدفعية: إذا كان الضرب كثيفا ومؤثرا تحاشيناه وإذا كان دون تركيز عبرنا المنطقة بخسائر طفيفة.
أحمال جندي المشاة:
كان في تقديرنا- كما سبق أن قلت- أن تبدأ المعديات في العمل بعد حوالي من 5-7 ساعات من بدء الهجوم، وان تبدأ الكباري في العمل بعد ذلك بحوالي ساعتين، ونتيجة لذلك فإن الدبابات والأسلحة الثقيلة لن تعبر إلى الشاطئ الآخر بأعداد مؤثرة تسمح بتدعيم المشاة في قتالها إلا بعد حوالي 12 ساعة من بدء عبور المشاة أما الوحدات والعناصر الإدارية فإنها لن تصل إلى وحدات المشاة إلا بعد حوالي 18 ساعة من بدء الهجوم. إن هذا الموقف يشبه إلى حد ما موقف وحدات المظلات التي يتم إنزالها في عمق العدو، حيث تبقى هناك لمدة يوم أو يومين إلى أن تتصل بها القوات الرئيسية الصديقة، وهي في خلال هذه الفترة تعتمد اعتمادا كليا ومصيريـا على ما تستطيع حمله معها من أسلحة وعتاد وغذاء وماء. وللحقيقة فإن موقف جندي المشاة المكلف بعبور القناة كان اصعب من موقف جندي المظلات الذي ينزل في العمق، لأن جندي العبور سيواجه بهجمات مضادة مدرعة بمجرد أن يضع قدمه على الشاطئ الآخر، لذلك كان يجب علينا أن نجهز هذا الجندي تجهيزا يسمح له بمقابلة هذه التحديات التي تنتظره، ولتحقيق ذلك كان يجب على هذا الجندي أن يحمل معه عددا كافيا من الأسلحة المضادة للدبابات ولاسيما الصواريخ مالوتكا ATGW حتى يمكنه أن يدمر الدبابات التي تهاجمه، وكان عليه أن يحمل الصواريخ المضادة للطائرات SAM-7 STRELLA حتى يمكنه أن يدمر الطائرات التي تهاجمه من ارتفاعات منخفضة، وكان عليه أن يحمل ما يكفيه من ذخيرة وطعام ومياه لمدة يوم كامل، وكان عليه علاوة على ذلك أن يحمل ألغاما مضادة للدبابات حتى تساعده في الدفاع عن مواقعه المكتسبة ضد هجمات الدبابات. كانت المشكلة الرئيسية هي تحديد عدد ونوعية الأسلحة وكمية الذخائر التي يحملها جندي المشاة (المترجل). علما بأن أقصى ما يستطيع الجندي المقاتل حمله هو 25 كيلوجراما، فكيف نحقق التوازن بين هذه الطلبات الضرورية جميعها؟ هنا أطلقت شعار جنود المظلات بين الجنود المشاة المكلفين بالعبور "أقصى ما يمكن من السلاح والذخيرة وأقل ما يمكن من الاحتياجات الإدارية الأخرى".
كان يلزم كل جندي 2 كجم من الطعام مع 2,5 لتر من المياه، فإذا أضفنا إلى ذلك من الحد الأدنى من الملابس والشدة الميدانية والخوذة، فأن وزن جميع هذه الأصناف يصل إلى حوالي 10 كجم، وبذلك يتبقى لدينا 15 كجم لجميع أنواع الأسلحة والذخيرة والمعدات العسكرية. لم يكن هذا الموقف يشكل أية مشكلة بالنسبة لجندي المشاة العادي المسلح ببندقية أوتوماتيكية ومعها 300 رصاصة و 2 قنبلة يدويه حيث أن وزن جميع هذه الأصناف كان يقل عن 15 كجم. ولكن كانت المشكلة الحقيقية تكمن في تلك الأحمال التي يتحتم على أطقم أسلحـة الدعم حملها (المدفع عديم الارتداد ب 10، والمدفع عديم الارتداد ب 11، والمالوتكا، والـRPG والـ STRELLA، ومدافع الماكينة المتوسطة 7,62 مم، ومدافع الماكينة الثقيلة 12,7 مم، وقواذف اللهب، الخ). إن هذه الأسلحة ولو أنها تدخل تحت نطاق الأسلحة الخفيفة التي يمكن حملها فإن أوزانها -إذا أضيف إليها الحد الأدنى من الذخيرة التي يجب أن ترافقها- تصبح كبيرة وتجعل من المستحيل على طاقمها أن يتحمل وحده عبء حملها هي وذخيرتها. لذلك كان من الواجب علينا أن نوزع هذه الأحمال على باقي أفراد المشاة بطريقة تجمع بين عدالة التوزيع في الأحمال وسهولة الحصول على هذه الأحمال بطريقة لا تؤثرعلى كفاءة الاستخدام التكتيكي للسلاح. وحيث أن عدالة التوزيع في الأحمال تتعارض مع كفاءة الاستخدام التكتيكي للسلاح والمهام المكلف بها كل جندي، فقد قمنا بعمل كشوفات تفصيلية تشمل كشفا خاصا لكل جندي في فرقة المشاة طبقا لوظيفته وفي هذا الكشف حددنا ما يتحتم على كل جندي أن يحمل. وكانت الأحمال تتراوح بين 23 و30 كجم للفرد وفي أحوال نادرة كان يحمل بعض الجنود ما يزيد على 30 كجم (1).
لقد بدا واضحا أن الشدة الميدانية (البل) التي كان معمولا بها في القوات المسلحة في ذلك الوقت أصبحت لا تتناسب مع الظروف الجديدة، إن تثبيت الأحمال على جسم الجندي المقاتل هو موضوع بالغ الأهمية. أن هذه الأحمال إذا ما ثبت بجسم الجندي بحيث تصبح وكأنها جزء من أعضائه فإنه يمكنه أن يتحرك بها في يسر وسهولة دون أن تعوق حركته أو تؤثر على كفاءته، أما إذا لم تثبت هذه الأحمال بطريقة جيدة فأنها سوف تؤثر تأثيرا كبيرا على أداء الجنود، وذلك علاوة على احتمال سقوط وفقد بعض هذه الأحمال دون أن يشعر بها الجندي. إن الشدة الميدانية المثالية هي تلك التي تستطيع أن تستوعب جميع أحمال الجندي بطريقة جيدة، ولكن الظروف التي خلقتها مشكلة عبور قناة السويس قد فرضت علينا ضرورة ابتكار شدة ميدانية تتناسب مع تلك الأحمال الخاصة. كان أمامنا عشرات الأحمال المختلفة، وكان الحل المثالي هو إيجاد شدة خاصة لكل حمل من هذه الأحمال، ولكن ذلك كان كفيلا بان يخلق لنا مشكلات إدارية ضخمة، وقد قامت إدارة المهمات بالكثير من التجارب حول هذا الموضوع إلى أن توصلنا إلى خمس عينات مختلفة، بحيث تستطيع كل منها أن تخدم عدة أحمال. في 12 من يوليو 72 تمت الموافقة على هذه العينات وقبل نهاية أكتوبر 72 كان قد تم عمل 50000 شدة ميدانية من هذه الأنواع الجديدة (2).
كذلك قمنا بتغيير زمزمية المياه التي يحملها جنود العبور. كانت الزمزمية المستخدمة في القوات المسلحة تسع ثلاثة أرباع اللتر من المياه فاستبدلناها بأخرى تسع 2,5 لتر حتى يكون مع جندي العبور ما يكفيه من المياه لمدة يوم كامل (هذه الكمية هي الحد الأدنى من المياه التي يحتاج إليها الفرد)، وقد أمكن إنتاج 50000 من هذه الزمزميات قبل نهاية عام 1971.
عربة الجر اليدوي:
وعلى الرغم من الأحمال الثقيلة التي كلفنا جنود المشاة بحملها، إلا أني لم أكن مطمئنا بالقدر الكافي على قدرة مشاتنا في الاستمرار في المعركة لمدة طويلة. لقد كانت الذخيرة التي يحملونها قليلة جدا ومن الممكن أن تستهلك في قتال عنيف خلال ساعة زمنية واحدة وعلاوة على ذلك فإنهم لا يحملون ألغاما أو كاشفات الغام، أو وسائل مواصلات كافية، أو علامات إرشاد الخ، وكان الحل الأمثل لكل هذه المشكلات هو إدخال عربة جر يدوية يمكن جرها بواسطة فرد ين بعد تحميلها بحوالي 150 كجم من الذخائر أو المعدات العسكرية. كيف صنعنا وادخلنا هذه العربة ضمن خطة عبور قناة السويس؟ إنها قصة طريفة سوف ارويها للتاريخ.
عندما عينت قائدا لمنطقة البحر الأحمر العسكرية في يناير 1970 كان أول عمل قمت به هو دراسة العمليات العسكرية السابقة التي قام بها العدو في هذه المنطقة على الطبيعة، وكان من ضمن هذه العمليات قيام العدو بقصف ميناء سفاجة بالمدفعية ليلا وذلك قبل أن أتولى قيادة المنطقة ببضعة أشهر. عندما ذهبت إلى سفاحة عاينت الحفر المتخلفة من قصف المدفعية فاتضح لي أنها لابد أن تكون نتيجة قصف هاون من عيار 120 ملليمتر، وبحساب مدى الهاون 120، وانسب الأماكن للهبوط بطائرة الهليوكوبتر سالت نفسي"لو أني مكان العدو لنزلت في هذا المكان أو ذاك المكان؟". انتقلت إلى المكانين اللذين تصورت أن يكون العدو قد عمل من أي منهما، فوجدت في أحدهما جميع الشواهد التي تؤكد صدق تخميني. لقد كانت بقايا ومخلفات القصف مازالت في مكانها وبجوارها عربة صغيرة ذات أربع عجلات، ولها ذراع طويلة للجر وكان واضحا أن طاقم الهاون الإسرائيلي قد نقل طلقات الهاون في هذه العربة إلى مربض النيران الذي كان يبعد حوالي 400 متر من مكان هبوط الطائرات لقد أعجبت كثيرا بهذه العربة وأخذتها عند عودتي إلى مركز قيادتي واستدعيت رئيس الشؤون الفنية بالمنطقة وعرضت عليه العربة وقلت له: "أريد أن تصنع لي 6 عربات مثل هذه العربة"، وبعد أن فحصها قال لي إنه يستطيع أن يصنع افضل منها ولكن المشكلة الوحيدة هي العجـلات، حيث إن القوات المسلحة لا تستخدم عجـلات من هذا النوع الصغير، ولكنه أضاف أن أنسب العجلات التي يمكن استخدامها هي عجلات الدراجة النارية الإيطالية الصنع VESPA . قام رئيس الشؤون الفنية بشراء العجلات المطلوبة (24 عجلة) من سوق الكانتو في القاهرة (3). لقد صممنا أن نصنع عربة جر افضل من العربة الإسرائيلية، وهكذا قمنا بعدة درا سات وتجارب ميدانية على العينتين الأوليين حتى يمكننا أن نحدد انسب الأبعاد و أقصى الحمولة، وبعد عدة تجارب وجدنا أن أقصى حمولة يمكن جرها بواسطة فردين فوق ارض غير ممهدة ولمسافة 5 كيلومترات هي 150 كجم. كما قمنا بتعديل في طولها حتى يمكن تحميل صواريخ القاذف الصـاروخي جراد ـ ب الذي كان ضمن تسليحنا في منطقة البحر الأحمر، وكانت عملية حملها بواسطة الأفراد تعتبر مشكلة صعبة، وفي نهاية الأمر أصبحت لدينا في منطقة البحر الأحمر 6 عربات جر تستطيع الواحدة منها أن تحمل 150 كجم من الأسلحة والعتاد ويمكن جرها بواسطة فردين لمسافة 5 كم عبر ارض غير ممهدة.
وبينما كنت أفكر في مشكلات عبور القناة وأنا (ر.ا.ح.ق.م.م) تذكرت عربات الجر الست التي تركتها في البحر الأحمر، استدعيت اللواء جمال صدقي مدير إدارة المركبات في القوات المسلحة في 21 من يوليو 1971 وعرضت عليه واحدة من هذه العربات ، وقلت له: "أريد أن تصنع لي 1000 عربة مثل هذه العربة"، وبعد عدة أيام عاد إلي ليخـبرني انه لو اشترى جميع العجـلات المتيسرة في السوق المحلية فإنه لن يستطيع أن يصنع اكثر من 100 عربة، أما إذا أعطيته مهلة 6 اشهر، فإنه سيكون قادرا على تصنيع جميع هذه العربات بعد أن يكون قد استورد العجلات المطلوبة من الخارج. وافقت على مهلة الأشهر الستة، ووفى اللواء جمال صدقي بوعده فكان لدينا خـلال يناير 72 ألف عربة من هذا النوع، طلبت منه تصنيع ألف عربة أخرى فكانت جـاهزة قبل أكتوبر 72، ثم طلبت ألفا ثالثا فكانت جاهزة في إبريل 1973، وعندما اقتحمت مشاتنا قناة السويس في أكتوبر 73 كانت تجر معها 2240 عربة من هذه العربات محملة بذخائر وألغام ومعدات عسكرية يبلغ وزنها 336 طنا. شكرا للعدو الإسرائيلي صاحب الفكرة، وشكرا لجميع رجال إدارة المركبات الذين قاموا بتصنيع هذه العربة. لقد سبق لنا أن علمنا أن الرجل العادي يستطيع أن يحمل 15 كجم زيادة على ما يحمله من طعام ومياه ومهمات عسكرية وهذا يعني إننا كنا سوف نحتـاج إلى 22400 (اثنين وعشرين ألفا وأربعمائة) من الحمالين غير المسلحين حتى يستطيعوا حمل ما قامت بنقله هذه العربات.
تجهيز أفراد المشاة بمعدات خاصة:
لقد جهزنا جندي المشاة أيضا بالكثير من المعدات الحديثة، فبحلول يوليو 72 كان قد تم تجهيز جـميع وحداتنا من المشاة بأجهزة الرؤية الليلية، فمنها ما كان يعمل بنظرية الأشعة تحت الحمراء ومنها ما كان يعمل بنظرية تقوية وتكبير ضوء النجوم STAR LIGHTER، وإلى جانب هذه الأجهزة الحديثة كانت هناك أجهزة ومعدات بدائية وغاية في البساطة، ومن بين ذلك النظارات السوداء المعتمة وسلالم الحبال. فأما النظارات السوداء فهي مصنوعة من زجاج سميك معتم من نوع الزجاج الذي يستخدمه عمال لحام الاوكسجين وذلك حتى يلبسه الأفراد عندما يستخدم العدو أشعة Zenon البالغة القوة في تعميتهم. لقد تعلمنا هذا الدرس خلال حرب الاستنزاف عندما كنا نبعث برجال الصاعقة لاصطياد دبابات العدو، وبعد عدة لقاءات ناجحة استخدم العدو الضوء المجهر المركب على دباباته في شل إبصار جنودنا، فكان ردنا على ذلك هو أن يلبس الجندي هذه النظارة ثم يوجه قذيفته إلى مصدر الضوء فيدمره. أما سلم الحبال فهو يشبه السلالم المستخدمة في الوحدات البحرية، أجنابه من الحبال ولكن درجاته من الخشب، يسهل طيه وحمله ثم فرده على السد الترابي وبذلك يستطيع جندي المشاة أن يتسلق الساتر الترابي دون أن تغوص قدماه في التراب، كما أنه بوضع سلمين متجاورين نستطيع أن نجر مدافعنا وعربات الجر التي ترافقنا فوق هذا الساتر دون أن تغوص عجلاتها في الرمال.
توقف المشاة انتظارا لوصول أسلحة الدعم:
والآن وبعد أن تم تجهيز جندي المشاة بأفضل الأسلحة والمعدات وبعد أن تم تحميله بأقصى ما يستطيع أن يحمل، فقد زادت قدراته القتالية زيادة كبيرة واصبـح خصما قويا وعنيدا للدبابة والطائرات ولكن بقى سؤال أخير: هل يستطيع 32,000 ضابط وجندي من المشاة- يعبرون في 12 موجة على مدى ثلاث ساعات- أن يتحدوا قوة العدو التي تتكون من ثلاثة الويه مدرعة ولواء مشاة متحصنة بخط بارليف وأمامهم قناة السويس بعوائقها كلها وإذا جاز لنا أن نتصور انهم قادرون على ذلك، فهل في استطاعتهم بعد ذلك أن يصدوا الهجوم المضاد الكبير الذي حذر مدير المخابرات الحربية من أن العدو سوف يقوم به بعد 6-8 ساعات من بدء الهجوم؟ لقد كانت حساباتنا تدعي إلى الاطمئنان بأن مشاتنا إذا قاتلت بعناد فإنها تستطيع أن تهزم قوة العدو التكتيكية (لواء مشاة+3 ألوية مدرعة) التي تدافع عن القناة أما إذا دفع العدو باحتياطه التعبوي الذي قدرته إدارة مخابراتنا بأربعة ألوية مدرعة و أربعة ألوية مشاة ميكانيكية بعد 6-8 ساعات من بدء الهجوم- فأن الموقف يصبح جدا خطيرا، لذلك كان لابد من اتخاذ إجراءات معينة لمقابلة هذا الموقف كان الإجراء الأول هو تقديم المعاونة بالنيران لقواتنا شرق القناة بجميع الأسلحة الثقيلة المتيسرة في غرب القناة أما الإجراء الثاني فكان يتلخص في فرض قيود مشددة على سرعة تقدم المشاة وذلك لضمان وجودها دائما في مدى المعاونة بالنيران من الضفة الغربية ولتقصير خطوطها الدفاعية، وبذلك تزداد إمكاناتها في صد هجوم الدبابات وتطبيقا لذلك كان راس الكوبري لكل فرقة مشاة يصل تدريجيا إلى عمق 5 كم وقاعدة 8 كم بعد 4 ساعات من بدء الهجوم وعند الوصول إلى هذا الخط يجب على المشاة أن تتوقف إلى أن تصلها أسلحـة الدعم التي تعبر على المعديات والكباري والتي ينتظر أن تبدأ في الوصول حوالي س+ 10 سـاعة، وبعد وصول أسلحة الدعم وإعادة التنظيم تستأنف المشاة تقدمها بحيث يصبح راس كوبري الفرقة 8 كم في العمق و 16 كم في القاعدة بحلول س+18 ساعة، وإذا سارت الأمور طبقا للسيناريو الذي تصورناه فإنه يمكن القول بان معركة العبور تكون قد تأكدت بعد 18 ساعة من بدء الهجوم (4).
السيطرة على عملية العبور:
أن عبور مانع مائي شبيه بقناة السويس هو عملية بالغة التعقيد وتحتاج إلى إجراءات دقيقة وتفصيلية، وإذا لم تتم هذه الإجراءات طبقا لنظام دقيق وتحت سيطرة حاسمة من الانضباط فإن العملية بأكملها قد تتحول إلى فوضى عارمة. لقد قسمنا وحدات المشاة المكلفة بالعبور إلى مجموعتين: المجموعة الأولى هي مجموعة المترجلين الذين يقتحمون القناة في قوارب مطاطية ثم يعتمدون على أرجلهم في التحرك بعد وصولهم إلى الشاطئ الآخر، أما المجموعة الثانية فتشمل الوحدات والأطقم ذات الأسلحة الثقيلة التي تنتظر على الجانب الغربي إلى أن يتم فتح الممرات في السد الترابي وتشغيل المعديات والكباري. كان العبور على المعديات والكباري لا يتم بالوحدات المتكاملة بل كان يتم تبعا لأهمية كل مركبة ومدى حاجة المشاة إليها، ومن اجل ذلك تم تقسيم مركبات كل فرقة مشاة إلى 6 أسبقيات.
كانت الأسبقية الأولى تشمل الدبابات وعربات القتال وعربات اللاسلكي والهاونات الثقيلة وعددا محـدودا من العربات التي تنقل الذخيرة، وتبلغ هذه المجموعة 200 دبابة و 750 مركبة. وكانت الأسبقية الثانية تشمل وحدات المدفعية ووحدات الدفاع الجوي وعددا إضافيا من العربات التي تحمل الذخيرة لكي يصل إجمالي الذخيرة التي مع المشاة المترجلة إلى وحدة نارية، وتبلغ هذه المجموعة 700 مركبة.
أما الأسبقية الثالثة فكانت تشمل باقي العناصر الإدارية التابعة لكتائب المشـاة وكتائب المدفعية المضادة للطائرات، وكان مجموع هذه الأسبقية 600 مركبة. وكانت الأسبقية الرابعة تتكون من الوحدات الإدارية التي على مستوى الأولوية وتصل في مجموعها إلى 400 مركبة. والأسبقيـة الخامسة تشمل الوحدات الإدارية التي على مستوى الفرقة وتصل في مجموعها إلى 250 مركبة. والأسبقية السادسة تشمل العربات المخصصة لركوب أفراد المشاة الذين عبروا في القوارب وتبلغ هذه المجموعة 80 مركبة، وقد كانت الأوامر صريحة بعدم السماح بعبور أية عربة من عربات هذه المجموعة قبل مرور 48 ساعة من بدء الهجوم. كانت هذه الأسبقيات تعني أن كل كتيبة مشاة تقوم بتقسيم مركباتها إلى 4 مجموعات (6,3,2,1)، وان كل مجموعة من تلك المجموعات عليها أن تقابل المجموعات ذات الأسبقية الواحدة في مكان ووقت محددين وبترتيب معين ثم تسير على طريق معين إلى معبر معين وفي وقت محدد وان تعبر بسرعة معينة وبعد أن يتم عبورها فإنها تسلك طريقا محددا وتصل إلى وحدتها الأم في مكان ووقت معينين. أما وحدات الدبابات والمدفعية فقد كانت افضل حالا من وحدات المشاة حيث أنها تقسم إلى أسبقيتين فقط (1و3 بالنسبة للدبابات و 2 و3 بالنسبة للمدفعية). إن عبور32,000 رجل في القوارب، وعلى مدى 12 رحلة خلال ثلاث ساعات ثم تدعيمهم بعد ذلك بحوالي 1000 دبابة و13500 مركبة خلال 6 ساعات من بدء تشغيل المعديات والكباري بينما المعركة تدور على اشدها- لهو عمل شاق يحتاج إلى الكثير من المهارة وإلى قدر كبير من الانضباط ومستوى عال من السيطرة.
1- يقوم المهندسون بالعبور في قواربهم المطاطية بمجرد أن تتمكن موجات المشاة من تحقيق الحد الأدنى من الوقاية لهم.
2- يقوم المهندسون بشق حفرة داخل السد الترابي مستخدمين في ذلك أدوات الحفر اليدوية (لاستحالة استخدام أدوات الحفر الميكانيكية نظراً لتهايل التربة) ثم تملا هذه الحفر بالمتفجرات ويتم تفجيرها بعد أن ينسحب المهندسون إلى مسافة 200 متر بعيدا عن مكان التفجير. قد يبدو من الناحية النظرية أنه كلما عمق المهندسون الحفر داخل السد الترابي، وكلما زادت كمية المتفجرات المدفونة في السد زادت كمية الأتربة المزاحة، أما من الناحية العملية فقد كان الموقف مختلفاً؛ إذ كانت طبيعة التربة التي يتكون منها السد الترابي متهايلة، وكان ذلك يجعل من الصعب تعميق أي حفرة في جسم السد. وكانت الأتربة والرمال على أجناب الحفرة تتهايل إلى داخلها مع كل محاولة لتعميقها، وبالتالي فقد كانت المتفجرات التي نقوم بدفنها داخل السد ليست على عمق كاف يسمح بإزاحة كمية كبيرة من الأتربة. كانت النتائج غير مشجعة وكانت كمية الأتربة المزاحة نتيجة التفجير تصل إلى حوالي 200- 300 متر مكعب تاركة ما يقرب من 1200 متر مكعب أخرى تجب علينا إزاحتها بواسطة العمل اليدوي والميكانيكي.
3- يستأنف العمل اليدوي لتجهيز مطلع للبولدوزر BULLDOZER الذي يتم نقله على معدية ثم يبدأ البولدوزر في العمل لاستكمال عملية فتح الثغرة.
في خلال شهري مايو ويونيو 71 حضرت عدة بيانات عملية قامت إدارة المهندسين بتنظيمها لإظهار الأسلوب المتبع في فتح الثغرات في السد الترابي نهارا أو ليلا. كان يعيب هذا الأسلوب النقاط التالية:
1- أن عملية التنسيق بين المهندسين الذين يقومون بالتفجير، والمشاة التي تعبر أو التي عبرت وأصبحت على الشاطئ الآخر، قد لا تسير على الوجه الأكمل مما قد تترتب عليه إصابة بعض جنودنا نتيجة هذه التفجيرات.
2- إن تخصيص عدد كبير من المهندسين للقيام بأعمال الحفر اليدوي بعد عملية التفجير قد تترتب عليه زيادة خسائرنا في أفراد المهندسين فيما لو وقعت هذه المجموعة تحت نيران العدو المباشرة أو غير المباشرة.
3- إن إرسال بلدوزر للعمل في استكمال فتح الثغرة مبكراً قد يعرضه للتدمير بواسطة نيران دبابات العدو، نظرا لكبر حجمه واضطراره للظهور في كثير من الأحيان على خط السماء وإذا تأخرنا في إرساله فسوف يتأخر فتح الثغرات، وبالتالي يتأخر تشغيل المعديات وبناء الكباري فتزداد فترة تعرض مشاتنا لهجمات العدو المضادة.
4- كان فتح الثغرات بهذا الأسلوب يعتبر باهظ التكاليف في الأفراد والمعدات والمواد، فقد كان فتح الثغرة الواحدة يحتاج إلى 60 فردا وبلدوزر و200 كغم من المتفجرات وعمل يستمر من 5-6 ساعات دون حساب لأي تدخل من العدو.
لم يكن أمامي إلا أن أقبل العمل بهذا الحل إلى أن نجد ما هو افضل منه، ولكني أخبرت اللواء جمال على مدير إدارة المهندسين بضرورة البحث والتفكير في أسلوب أخر لفتح هذه الثغرات. وفي خلال يونيو من العام نفسه اخبرني اللواء جمال علي أن أحد ضباط المهندسين يقترح فتح الثغرة في الساتر الترابي بأسلوب ضغط المياه، وأنه قد مارس هذا العمل عندما كان يعمل في السد العالي وكانوا يفتتون الصخر بقوة اندفاع المياه كانت الفكرة سهلة وبسيطة ولا ينقص إلا تجربتها، وقبل انتهاء شهر يونيو حضرت أول تجربة لاختبار هذه الفكرة. استخدم المهندسون في هذا البيان ثلاث مضخات مياه صغيرة إنجليزية الصنع وكانت النتيجة رائعة. كان واضحاً انه كلما زاد ضغط الماء زادت سرعة تهايل الرمال وبالتالي سرعة فتح الثغرة وبعد عدة تجارب اتضح لنا أن كل متر مكعب من المياه يزيح متراً مكعباً من الرمال، وان العدد المثالي في كل ثغرة هو خمس مضخـاته وفي يوليو 71 تقرر أن يكون أسلوبنا في فتح الثغرات في الساتر الترابي هو أسلوب التجريف (ضغط المياه)، وقررنا شراء 300 مضخة مياه إنجليزية وصل قسم منها قبل نهاية العام، والقسم الباقي وصل في أوائل عام 72. وفي خلال عام 72 قررنا شراء 150 مضخة أخرى ألمانية الصنع واكثر قوة من المضخة الإنجليزية، وبتخصيص 3 مضخات إنجليزية ومضختين ألمانيتين لكل ثغرة كان من الممكن إزاحة 1500 متر مكعب من الأتربة خلال ساعتين فقط وبعدد من الأفراد يتراوح ما بين 10-15 فردا فقط.
في خلال شهري مايو ويونيو كان هذا حلا رائعا وسهلا ويتلافى جميع العيوب التي كان يتسم بها الأسلوب السابق، فشكرا للمهندس الشاب صاحب الاقتراح وشكرا لجميع رجال المهندسين الذين قاموا بتطوير الفكرة وتهذيبها إلى أن أخذت لونها النهائي قبل حرب أكتوبر 73. ومن الأحداث الغريبة حقا أنه على الرغم من عشرات التجارب التي أجريت بهذا الأسلوب خلال الأعوام 71 و 72 و73 إلا أن الإسرائيليين لم يعرفوا اكتشافنا لهذا الأسلوب في فتح الثغرات في السد الترابي، وقد تحققنا من ذلك عندما وقع في أيدينا أحد جواسيسهم قبل بدء الحرب بشهرين.
التغلب على النيران المشتعلة:
كانت المشكلة الثانية التي وجبت علينا مجابهتها هي مشكلة النيران المشتعلة فوق سطح الماء وفي شهر يونيو 71 حضرت بيانا عمليا عن أسلوب التغلب على هذه النيران المشتعلة، وقد تم تنفيذ المشروع كما يلي:
1- يقوم بعض الجنود الذين يلبسون ملابس واقية ضد الحريق بركوب أحد القوارب ومع كل منهم واحدة من سعف النخل (جريدة)، ثم يبدأون بمهاجمة جزر النيران المشتعلة وضربها بالجريد فتنقسم عادة الجزيرة الكبيرة إلى عدة جزر صغيرة، ثم تتكرر العملية، وهكذا
2- أقترح على خلال هذا البيان أن نستبدل القوارب المطاطية بمركبات برمائية وان يستبدل سعف النخل بمواد كيماوية أو بمعنى أخر تشكيل قوة مطافئ بحرية.
لم أقتنع بأنه يمكن إطفاء هذه النيران بسعف النخل إذ كنا نستخدم في تجربتنا عشرة أطنان من السائل المشتعل، ولكن يجب أن نتصور ماذا يمكن أن يحدث لو أن العدو قذف بخمسين طنا من هذا السائل ثم أخذ يغذيها باستمرار. لاشك أن النيران ستكون اكثر قوة واكثر تماسكا بحيث لا تسمح بوجود جزر عائمة من النيران يمكن لقواتنا المكلفة بالإطفاء أن تهاجمها واحدة بعد الأخرى، كما أن تشكيل وحدات إطفاء بحرية سيشغلنا عن واجبنا الأصلي، فبدلا من أن نعبر ونقتحم فإن مجهودنا سوف يتحول إلى عملية إطفاء حريق وبهذا يتحقق هدف العدو، وبعد دراسة الموضوع من جميع جوانبه قررت أن تكون عقيدتنا فيما يتعلق بهذه المشكلة هي كما يلي:
1- يجب أن نحرم العدو من فرصة استخدام هذا السلاح الذي يعتمد على ثلاثة أجزاء: خزانات يسع الواحد منها 200 طن من المواد المشتعلة، أنبوبة تصل ما بين هذه الخزانات وسطح مياه القناة ثم وسيلة سيطرة تشمل الفتح والإشعال. فلو أمكـننا إفساد أي من هذه الأجزاء لفشل العدو في استخدام هذا السلاح. كانت الخزانات مدفونة دفناً جيداً في الرمال ومن المشكوك فيه إمكان تدميرها بواسطة المدفعية. وكانت الأنابيب التي تنقل السائل هي الأخرى مدفونة ومن الصعب الوصول إليها، ولكن فتحات هذه المواسير كان يمكن رؤيتها بوضوح من جانبنا. وكانت فتحه هذه الأنابيب تختفي تحت سطح المياه عندما يكون هناك "مد" وتظهر فوق سطح المياه عندها يكون هناك "جزر" فلو أمكننا أن نسد هذه الفتحات قبل بدء العمليات لفسدت خطة العدو في استخـدام هذا السلاح تماما. لذلك يحب علينا- كجزء من التخطيط- أن نغلق هذه الفتحات وان نضرب الخزانات بالمدفعية أثناء فترة تحضيرات المدفعية التي تسبق عملية الهجوم، وبالإضافة إلى ذلك فإنه يمكننا إرسال جماعات تخريب لتدمير هذه الخزانات قبل المعركة وخلالها.
2- كان علينا عند انتخاب نقط العبور أن نختارها بحيث تكون فوق اتجاه التيار، حيث أن هذا السائل المحترق يعوم مع التيار، وبالتالي فأنه يعتبر عديم المفعول ضد أي قوات تعبر من فوق اتجاه التيار.
3- إذا حدث واضطررنا لانتخاب قطاع العبور بحيث يكون تحت التيار، ثم فشلت جميع محاولاتنا في إبطال مفعول هذا السلاح ونجح العدو في تشغيله، فإننا نوقف عملية العبور إلى أن ينتهي تأثير هذه النيران. قد يتراوح الوقت اللازم لاحتراق هذا السائل ما بين 15- 30 دقيقة طبقا لكمية السائل المسكوب وليس أمامنا إلا أن نتعامل معه كأنه أحد أسلحة القتال: نحاول أن نتحاشاه إذا كان مؤثرا ونتجاهله إذا ضعف تأثيره، مثله في ذلك مثل منطقة مغمورة بنيران المدفعية: إذا كان الضرب كثيفا ومؤثرا تحاشيناه وإذا كان دون تركيز عبرنا المنطقة بخسائر طفيفة.
أحمال جندي المشاة:
كان في تقديرنا- كما سبق أن قلت- أن تبدأ المعديات في العمل بعد حوالي من 5-7 ساعات من بدء الهجوم، وان تبدأ الكباري في العمل بعد ذلك بحوالي ساعتين، ونتيجة لذلك فإن الدبابات والأسلحة الثقيلة لن تعبر إلى الشاطئ الآخر بأعداد مؤثرة تسمح بتدعيم المشاة في قتالها إلا بعد حوالي 12 ساعة من بدء عبور المشاة أما الوحدات والعناصر الإدارية فإنها لن تصل إلى وحدات المشاة إلا بعد حوالي 18 ساعة من بدء الهجوم. إن هذا الموقف يشبه إلى حد ما موقف وحدات المظلات التي يتم إنزالها في عمق العدو، حيث تبقى هناك لمدة يوم أو يومين إلى أن تتصل بها القوات الرئيسية الصديقة، وهي في خلال هذه الفترة تعتمد اعتمادا كليا ومصيريـا على ما تستطيع حمله معها من أسلحة وعتاد وغذاء وماء. وللحقيقة فإن موقف جندي المشاة المكلف بعبور القناة كان اصعب من موقف جندي المظلات الذي ينزل في العمق، لأن جندي العبور سيواجه بهجمات مضادة مدرعة بمجرد أن يضع قدمه على الشاطئ الآخر، لذلك كان يجب علينا أن نجهز هذا الجندي تجهيزا يسمح له بمقابلة هذه التحديات التي تنتظره، ولتحقيق ذلك كان يجب على هذا الجندي أن يحمل معه عددا كافيا من الأسلحة المضادة للدبابات ولاسيما الصواريخ مالوتكا ATGW حتى يمكنه أن يدمر الدبابات التي تهاجمه، وكان عليه أن يحمل الصواريخ المضادة للطائرات SAM-7 STRELLA حتى يمكنه أن يدمر الطائرات التي تهاجمه من ارتفاعات منخفضة، وكان عليه أن يحمل ما يكفيه من ذخيرة وطعام ومياه لمدة يوم كامل، وكان عليه علاوة على ذلك أن يحمل ألغاما مضادة للدبابات حتى تساعده في الدفاع عن مواقعه المكتسبة ضد هجمات الدبابات. كانت المشكلة الرئيسية هي تحديد عدد ونوعية الأسلحة وكمية الذخائر التي يحملها جندي المشاة (المترجل). علما بأن أقصى ما يستطيع الجندي المقاتل حمله هو 25 كيلوجراما، فكيف نحقق التوازن بين هذه الطلبات الضرورية جميعها؟ هنا أطلقت شعار جنود المظلات بين الجنود المشاة المكلفين بالعبور "أقصى ما يمكن من السلاح والذخيرة وأقل ما يمكن من الاحتياجات الإدارية الأخرى".
كان يلزم كل جندي 2 كجم من الطعام مع 2,5 لتر من المياه، فإذا أضفنا إلى ذلك من الحد الأدنى من الملابس والشدة الميدانية والخوذة، فأن وزن جميع هذه الأصناف يصل إلى حوالي 10 كجم، وبذلك يتبقى لدينا 15 كجم لجميع أنواع الأسلحة والذخيرة والمعدات العسكرية. لم يكن هذا الموقف يشكل أية مشكلة بالنسبة لجندي المشاة العادي المسلح ببندقية أوتوماتيكية ومعها 300 رصاصة و 2 قنبلة يدويه حيث أن وزن جميع هذه الأصناف كان يقل عن 15 كجم. ولكن كانت المشكلة الحقيقية تكمن في تلك الأحمال التي يتحتم على أطقم أسلحـة الدعم حملها (المدفع عديم الارتداد ب 10، والمدفع عديم الارتداد ب 11، والمالوتكا، والـRPG والـ STRELLA، ومدافع الماكينة المتوسطة 7,62 مم، ومدافع الماكينة الثقيلة 12,7 مم، وقواذف اللهب، الخ). إن هذه الأسلحة ولو أنها تدخل تحت نطاق الأسلحة الخفيفة التي يمكن حملها فإن أوزانها -إذا أضيف إليها الحد الأدنى من الذخيرة التي يجب أن ترافقها- تصبح كبيرة وتجعل من المستحيل على طاقمها أن يتحمل وحده عبء حملها هي وذخيرتها. لذلك كان من الواجب علينا أن نوزع هذه الأحمال على باقي أفراد المشاة بطريقة تجمع بين عدالة التوزيع في الأحمال وسهولة الحصول على هذه الأحمال بطريقة لا تؤثرعلى كفاءة الاستخدام التكتيكي للسلاح. وحيث أن عدالة التوزيع في الأحمال تتعارض مع كفاءة الاستخدام التكتيكي للسلاح والمهام المكلف بها كل جندي، فقد قمنا بعمل كشوفات تفصيلية تشمل كشفا خاصا لكل جندي في فرقة المشاة طبقا لوظيفته وفي هذا الكشف حددنا ما يتحتم على كل جندي أن يحمل. وكانت الأحمال تتراوح بين 23 و30 كجم للفرد وفي أحوال نادرة كان يحمل بعض الجنود ما يزيد على 30 كجم (1).
لقد بدا واضحا أن الشدة الميدانية (البل) التي كان معمولا بها في القوات المسلحة في ذلك الوقت أصبحت لا تتناسب مع الظروف الجديدة، إن تثبيت الأحمال على جسم الجندي المقاتل هو موضوع بالغ الأهمية. أن هذه الأحمال إذا ما ثبت بجسم الجندي بحيث تصبح وكأنها جزء من أعضائه فإنه يمكنه أن يتحرك بها في يسر وسهولة دون أن تعوق حركته أو تؤثر على كفاءته، أما إذا لم تثبت هذه الأحمال بطريقة جيدة فأنها سوف تؤثر تأثيرا كبيرا على أداء الجنود، وذلك علاوة على احتمال سقوط وفقد بعض هذه الأحمال دون أن يشعر بها الجندي. إن الشدة الميدانية المثالية هي تلك التي تستطيع أن تستوعب جميع أحمال الجندي بطريقة جيدة، ولكن الظروف التي خلقتها مشكلة عبور قناة السويس قد فرضت علينا ضرورة ابتكار شدة ميدانية تتناسب مع تلك الأحمال الخاصة. كان أمامنا عشرات الأحمال المختلفة، وكان الحل المثالي هو إيجاد شدة خاصة لكل حمل من هذه الأحمال، ولكن ذلك كان كفيلا بان يخلق لنا مشكلات إدارية ضخمة، وقد قامت إدارة المهمات بالكثير من التجارب حول هذا الموضوع إلى أن توصلنا إلى خمس عينات مختلفة، بحيث تستطيع كل منها أن تخدم عدة أحمال. في 12 من يوليو 72 تمت الموافقة على هذه العينات وقبل نهاية أكتوبر 72 كان قد تم عمل 50000 شدة ميدانية من هذه الأنواع الجديدة (2).
كذلك قمنا بتغيير زمزمية المياه التي يحملها جنود العبور. كانت الزمزمية المستخدمة في القوات المسلحة تسع ثلاثة أرباع اللتر من المياه فاستبدلناها بأخرى تسع 2,5 لتر حتى يكون مع جندي العبور ما يكفيه من المياه لمدة يوم كامل (هذه الكمية هي الحد الأدنى من المياه التي يحتاج إليها الفرد)، وقد أمكن إنتاج 50000 من هذه الزمزميات قبل نهاية عام 1971.
عربة الجر اليدوي:
وعلى الرغم من الأحمال الثقيلة التي كلفنا جنود المشاة بحملها، إلا أني لم أكن مطمئنا بالقدر الكافي على قدرة مشاتنا في الاستمرار في المعركة لمدة طويلة. لقد كانت الذخيرة التي يحملونها قليلة جدا ومن الممكن أن تستهلك في قتال عنيف خلال ساعة زمنية واحدة وعلاوة على ذلك فإنهم لا يحملون ألغاما أو كاشفات الغام، أو وسائل مواصلات كافية، أو علامات إرشاد الخ، وكان الحل الأمثل لكل هذه المشكلات هو إدخال عربة جر يدوية يمكن جرها بواسطة فرد ين بعد تحميلها بحوالي 150 كجم من الذخائر أو المعدات العسكرية. كيف صنعنا وادخلنا هذه العربة ضمن خطة عبور قناة السويس؟ إنها قصة طريفة سوف ارويها للتاريخ.
عندما عينت قائدا لمنطقة البحر الأحمر العسكرية في يناير 1970 كان أول عمل قمت به هو دراسة العمليات العسكرية السابقة التي قام بها العدو في هذه المنطقة على الطبيعة، وكان من ضمن هذه العمليات قيام العدو بقصف ميناء سفاجة بالمدفعية ليلا وذلك قبل أن أتولى قيادة المنطقة ببضعة أشهر. عندما ذهبت إلى سفاحة عاينت الحفر المتخلفة من قصف المدفعية فاتضح لي أنها لابد أن تكون نتيجة قصف هاون من عيار 120 ملليمتر، وبحساب مدى الهاون 120، وانسب الأماكن للهبوط بطائرة الهليوكوبتر سالت نفسي"لو أني مكان العدو لنزلت في هذا المكان أو ذاك المكان؟". انتقلت إلى المكانين اللذين تصورت أن يكون العدو قد عمل من أي منهما، فوجدت في أحدهما جميع الشواهد التي تؤكد صدق تخميني. لقد كانت بقايا ومخلفات القصف مازالت في مكانها وبجوارها عربة صغيرة ذات أربع عجلات، ولها ذراع طويلة للجر وكان واضحا أن طاقم الهاون الإسرائيلي قد نقل طلقات الهاون في هذه العربة إلى مربض النيران الذي كان يبعد حوالي 400 متر من مكان هبوط الطائرات لقد أعجبت كثيرا بهذه العربة وأخذتها عند عودتي إلى مركز قيادتي واستدعيت رئيس الشؤون الفنية بالمنطقة وعرضت عليه العربة وقلت له: "أريد أن تصنع لي 6 عربات مثل هذه العربة"، وبعد أن فحصها قال لي إنه يستطيع أن يصنع افضل منها ولكن المشكلة الوحيدة هي العجـلات، حيث إن القوات المسلحة لا تستخدم عجـلات من هذا النوع الصغير، ولكنه أضاف أن أنسب العجلات التي يمكن استخدامها هي عجلات الدراجة النارية الإيطالية الصنع VESPA . قام رئيس الشؤون الفنية بشراء العجلات المطلوبة (24 عجلة) من سوق الكانتو في القاهرة (3). لقد صممنا أن نصنع عربة جر افضل من العربة الإسرائيلية، وهكذا قمنا بعدة درا سات وتجارب ميدانية على العينتين الأوليين حتى يمكننا أن نحدد انسب الأبعاد و أقصى الحمولة، وبعد عدة تجارب وجدنا أن أقصى حمولة يمكن جرها بواسطة فردين فوق ارض غير ممهدة ولمسافة 5 كيلومترات هي 150 كجم. كما قمنا بتعديل في طولها حتى يمكن تحميل صواريخ القاذف الصـاروخي جراد ـ ب الذي كان ضمن تسليحنا في منطقة البحر الأحمر، وكانت عملية حملها بواسطة الأفراد تعتبر مشكلة صعبة، وفي نهاية الأمر أصبحت لدينا في منطقة البحر الأحمر 6 عربات جر تستطيع الواحدة منها أن تحمل 150 كجم من الأسلحة والعتاد ويمكن جرها بواسطة فردين لمسافة 5 كم عبر ارض غير ممهدة.
وبينما كنت أفكر في مشكلات عبور القناة وأنا (ر.ا.ح.ق.م.م) تذكرت عربات الجر الست التي تركتها في البحر الأحمر، استدعيت اللواء جمال صدقي مدير إدارة المركبات في القوات المسلحة في 21 من يوليو 1971 وعرضت عليه واحدة من هذه العربات ، وقلت له: "أريد أن تصنع لي 1000 عربة مثل هذه العربة"، وبعد عدة أيام عاد إلي ليخـبرني انه لو اشترى جميع العجـلات المتيسرة في السوق المحلية فإنه لن يستطيع أن يصنع اكثر من 100 عربة، أما إذا أعطيته مهلة 6 اشهر، فإنه سيكون قادرا على تصنيع جميع هذه العربات بعد أن يكون قد استورد العجلات المطلوبة من الخارج. وافقت على مهلة الأشهر الستة، ووفى اللواء جمال صدقي بوعده فكان لدينا خـلال يناير 72 ألف عربة من هذا النوع، طلبت منه تصنيع ألف عربة أخرى فكانت جـاهزة قبل أكتوبر 72، ثم طلبت ألفا ثالثا فكانت جاهزة في إبريل 1973، وعندما اقتحمت مشاتنا قناة السويس في أكتوبر 73 كانت تجر معها 2240 عربة من هذه العربات محملة بذخائر وألغام ومعدات عسكرية يبلغ وزنها 336 طنا. شكرا للعدو الإسرائيلي صاحب الفكرة، وشكرا لجميع رجال إدارة المركبات الذين قاموا بتصنيع هذه العربة. لقد سبق لنا أن علمنا أن الرجل العادي يستطيع أن يحمل 15 كجم زيادة على ما يحمله من طعام ومياه ومهمات عسكرية وهذا يعني إننا كنا سوف نحتـاج إلى 22400 (اثنين وعشرين ألفا وأربعمائة) من الحمالين غير المسلحين حتى يستطيعوا حمل ما قامت بنقله هذه العربات.
تجهيز أفراد المشاة بمعدات خاصة:
لقد جهزنا جندي المشاة أيضا بالكثير من المعدات الحديثة، فبحلول يوليو 72 كان قد تم تجهيز جـميع وحداتنا من المشاة بأجهزة الرؤية الليلية، فمنها ما كان يعمل بنظرية الأشعة تحت الحمراء ومنها ما كان يعمل بنظرية تقوية وتكبير ضوء النجوم STAR LIGHTER، وإلى جانب هذه الأجهزة الحديثة كانت هناك أجهزة ومعدات بدائية وغاية في البساطة، ومن بين ذلك النظارات السوداء المعتمة وسلالم الحبال. فأما النظارات السوداء فهي مصنوعة من زجاج سميك معتم من نوع الزجاج الذي يستخدمه عمال لحام الاوكسجين وذلك حتى يلبسه الأفراد عندما يستخدم العدو أشعة Zenon البالغة القوة في تعميتهم. لقد تعلمنا هذا الدرس خلال حرب الاستنزاف عندما كنا نبعث برجال الصاعقة لاصطياد دبابات العدو، وبعد عدة لقاءات ناجحة استخدم العدو الضوء المجهر المركب على دباباته في شل إبصار جنودنا، فكان ردنا على ذلك هو أن يلبس الجندي هذه النظارة ثم يوجه قذيفته إلى مصدر الضوء فيدمره. أما سلم الحبال فهو يشبه السلالم المستخدمة في الوحدات البحرية، أجنابه من الحبال ولكن درجاته من الخشب، يسهل طيه وحمله ثم فرده على السد الترابي وبذلك يستطيع جندي المشاة أن يتسلق الساتر الترابي دون أن تغوص قدماه في التراب، كما أنه بوضع سلمين متجاورين نستطيع أن نجر مدافعنا وعربات الجر التي ترافقنا فوق هذا الساتر دون أن تغوص عجلاتها في الرمال.
توقف المشاة انتظارا لوصول أسلحة الدعم:
والآن وبعد أن تم تجهيز جندي المشاة بأفضل الأسلحة والمعدات وبعد أن تم تحميله بأقصى ما يستطيع أن يحمل، فقد زادت قدراته القتالية زيادة كبيرة واصبـح خصما قويا وعنيدا للدبابة والطائرات ولكن بقى سؤال أخير: هل يستطيع 32,000 ضابط وجندي من المشاة- يعبرون في 12 موجة على مدى ثلاث ساعات- أن يتحدوا قوة العدو التي تتكون من ثلاثة الويه مدرعة ولواء مشاة متحصنة بخط بارليف وأمامهم قناة السويس بعوائقها كلها وإذا جاز لنا أن نتصور انهم قادرون على ذلك، فهل في استطاعتهم بعد ذلك أن يصدوا الهجوم المضاد الكبير الذي حذر مدير المخابرات الحربية من أن العدو سوف يقوم به بعد 6-8 ساعات من بدء الهجوم؟ لقد كانت حساباتنا تدعي إلى الاطمئنان بأن مشاتنا إذا قاتلت بعناد فإنها تستطيع أن تهزم قوة العدو التكتيكية (لواء مشاة+3 ألوية مدرعة) التي تدافع عن القناة أما إذا دفع العدو باحتياطه التعبوي الذي قدرته إدارة مخابراتنا بأربعة ألوية مدرعة و أربعة ألوية مشاة ميكانيكية بعد 6-8 ساعات من بدء الهجوم- فأن الموقف يصبح جدا خطيرا، لذلك كان لابد من اتخاذ إجراءات معينة لمقابلة هذا الموقف كان الإجراء الأول هو تقديم المعاونة بالنيران لقواتنا شرق القناة بجميع الأسلحة الثقيلة المتيسرة في غرب القناة أما الإجراء الثاني فكان يتلخص في فرض قيود مشددة على سرعة تقدم المشاة وذلك لضمان وجودها دائما في مدى المعاونة بالنيران من الضفة الغربية ولتقصير خطوطها الدفاعية، وبذلك تزداد إمكاناتها في صد هجوم الدبابات وتطبيقا لذلك كان راس الكوبري لكل فرقة مشاة يصل تدريجيا إلى عمق 5 كم وقاعدة 8 كم بعد 4 ساعات من بدء الهجوم وعند الوصول إلى هذا الخط يجب على المشاة أن تتوقف إلى أن تصلها أسلحـة الدعم التي تعبر على المعديات والكباري والتي ينتظر أن تبدأ في الوصول حوالي س+ 10 سـاعة، وبعد وصول أسلحة الدعم وإعادة التنظيم تستأنف المشاة تقدمها بحيث يصبح راس كوبري الفرقة 8 كم في العمق و 16 كم في القاعدة بحلول س+18 ساعة، وإذا سارت الأمور طبقا للسيناريو الذي تصورناه فإنه يمكن القول بان معركة العبور تكون قد تأكدت بعد 18 ساعة من بدء الهجوم (4).
السيطرة على عملية العبور:
أن عبور مانع مائي شبيه بقناة السويس هو عملية بالغة التعقيد وتحتاج إلى إجراءات دقيقة وتفصيلية، وإذا لم تتم هذه الإجراءات طبقا لنظام دقيق وتحت سيطرة حاسمة من الانضباط فإن العملية بأكملها قد تتحول إلى فوضى عارمة. لقد قسمنا وحدات المشاة المكلفة بالعبور إلى مجموعتين: المجموعة الأولى هي مجموعة المترجلين الذين يقتحمون القناة في قوارب مطاطية ثم يعتمدون على أرجلهم في التحرك بعد وصولهم إلى الشاطئ الآخر، أما المجموعة الثانية فتشمل الوحدات والأطقم ذات الأسلحة الثقيلة التي تنتظر على الجانب الغربي إلى أن يتم فتح الممرات في السد الترابي وتشغيل المعديات والكباري. كان العبور على المعديات والكباري لا يتم بالوحدات المتكاملة بل كان يتم تبعا لأهمية كل مركبة ومدى حاجة المشاة إليها، ومن اجل ذلك تم تقسيم مركبات كل فرقة مشاة إلى 6 أسبقيات.
كانت الأسبقية الأولى تشمل الدبابات وعربات القتال وعربات اللاسلكي والهاونات الثقيلة وعددا محـدودا من العربات التي تنقل الذخيرة، وتبلغ هذه المجموعة 200 دبابة و 750 مركبة. وكانت الأسبقية الثانية تشمل وحدات المدفعية ووحدات الدفاع الجوي وعددا إضافيا من العربات التي تحمل الذخيرة لكي يصل إجمالي الذخيرة التي مع المشاة المترجلة إلى وحدة نارية، وتبلغ هذه المجموعة 700 مركبة.
أما الأسبقية الثالثة فكانت تشمل باقي العناصر الإدارية التابعة لكتائب المشـاة وكتائب المدفعية المضادة للطائرات، وكان مجموع هذه الأسبقية 600 مركبة. وكانت الأسبقية الرابعة تتكون من الوحدات الإدارية التي على مستوى الأولوية وتصل في مجموعها إلى 400 مركبة. والأسبقيـة الخامسة تشمل الوحدات الإدارية التي على مستوى الفرقة وتصل في مجموعها إلى 250 مركبة. والأسبقية السادسة تشمل العربات المخصصة لركوب أفراد المشاة الذين عبروا في القوارب وتبلغ هذه المجموعة 80 مركبة، وقد كانت الأوامر صريحة بعدم السماح بعبور أية عربة من عربات هذه المجموعة قبل مرور 48 ساعة من بدء الهجوم. كانت هذه الأسبقيات تعني أن كل كتيبة مشاة تقوم بتقسيم مركباتها إلى 4 مجموعات (6,3,2,1)، وان كل مجموعة من تلك المجموعات عليها أن تقابل المجموعات ذات الأسبقية الواحدة في مكان ووقت محددين وبترتيب معين ثم تسير على طريق معين إلى معبر معين وفي وقت محدد وان تعبر بسرعة معينة وبعد أن يتم عبورها فإنها تسلك طريقا محددا وتصل إلى وحدتها الأم في مكان ووقت معينين. أما وحدات الدبابات والمدفعية فقد كانت افضل حالا من وحدات المشاة حيث أنها تقسم إلى أسبقيتين فقط (1و3 بالنسبة للدبابات و 2 و3 بالنسبة للمدفعية). إن عبور32,000 رجل في القوارب، وعلى مدى 12 رحلة خلال ثلاث ساعات ثم تدعيمهم بعد ذلك بحوالي 1000 دبابة و13500 مركبة خلال 6 ساعات من بدء تشغيل المعديات والكباري بينما المعركة تدور على اشدها- لهو عمل شاق يحتاج إلى الكثير من المهارة وإلى قدر كبير من الانضباط ومستوى عال من السيطرة.
ولتحقيق هذه السيطرة قمنا باتخاذ الإجراءات التالية:
1- ترقيم القوارب المخصصة لنقل المشاة بأرقام متسلسلة من اليمين إلى اليسار داخل الفرقة من رقم 1 إلى رقم 144.
2- تحديد نقطة انطلاق كل قارب من ناحيتنا ونقطة وصوله إلى الجانب الآخر بعلامة إرشاد كبيرة يمكن رؤيتها وتمييز رقمها نهارا أو ليلا من الجانب الآخر، وذلك حتى يعرف كل قارب وجهته في الذهاب والعودة.
3- تم تخطيط طرق طولية تسلكها الوحدات في طريقها إلى نقط العبور، وأعطي لكل طريق رقم ولون مميز.
4- تم تخطيط طرق عرضية تربط بين الطرق الطولية وأعطيت لها أسماء( أ.ب.ج.. الخ).
5- قمنا بعمل رسم تخطيطي لمنطقة شرق القناة حتى عمق 6 كم، ورسمنا عليه خطوطا طولية تتقابل مع الخطوط الطولية التي في ناحيتنا، وتحمل الرقم واللون نفسيهما.
6- تم تمييز كل وحدة ووحدة فرعية بعلامة مميزة توضع على خوذة الجندي.
مشكلات العبور وكيف تم التغلب عليها ، صفحه رقم 36
7- تقوم وحدات الشرطة العسكرية التي تعبر مع المشاة بحمل علامات التمييز والفوانيس التي تمكنها من تحديد الطرق شرق القناة طبقا للمخطط الذي سبقت الإشارة إليه (البند 5 الصفحة السابقة) وبالألوان المحددة نفسها.
8- قمنا بطبع علامات مميزة تحدد أسبقية العبور، ويتم لصق هذه العلامة على زجاج العربات.
9- أعطى لكل مركبة رقم مسلسل (طباشيري) يحدد أسبقية عبورها داخل وحدتها.
10- قمنا بصنع جداول تفصيلية تحدد الوقت الذي تفرج فيه عربات كل وحدة من منطقة التجمع والطريق الذي تسلكه والمعبر المحدد لها والتوقيت الذي تبدأ فيه بالعبور (جميع التوقيتات تم تقديرها على أساس ساعة الصفر مضافة إليها كذا.. دقيقة).
11- كان تلقين المعلومات يصل إلى مستوى الجندي وسائق المركبة، فقد كان كل فرد يعرف ما يخصه بالتفصيل ويترك الباقي لقائدة ، كان الجندي مثلا مطلوبا منه أن يعرف رقم قاربه والأفراد الذين يركبون معه في القارب وترتيب الركوب وترتيب النزول ومن هو الجندي الذي يكون على يمينه ومن هو الجندي الذي يكون على يساره أثناء ركوب القارب الخ. أما السائق فكان يجب عليه أن يعرف رقمه (الطباشيري)، والوقت الذي يجب عليه أن يخرج فيه من حفرة الوقاية، والطريق الذي يسلكه، وأسبقيته داخل رتل وحدته، وأسبقيته في العبور، ورقم المعبر الذي يعبر عليه، وسرعة العبور، ثم رقم ولون الطريق الذي يسلكه بعد عبوره والاسم والعلامة المميزة للوحدة الفرعية التي سوف ينضم إليهما إلخ.
12- تم تشكيل قيادة خاصة للسيطرة على عملية العبور.
قد يتساءل القارئ، ماذا يمكن أن يحدث لو تدخل العدو وانقلبت هذه التوقيتات رأسا على عقب؟ أليس من الممكن أن يتحول هذا العبور المنظم إلى فوضى عارمة ؟ وللإجابة عن ذلك أود أن أوضح أن جميع توقيتاتنا قد أدخلت في حسـابها مثل هذا التدخل، وان التوقيتات التي ذكرنا تزيد كثيرا على التوقيتات التي أمكن تحقيقها في التدريب كما أن توقيتات العمليات حسبت على أساس حوالي ضعف التوقيتـات التي يمكننا تحقيقها في التدريب نهارا وحوالي 50% زيادة على التوقيتات التي يمكننا تحقيقها في التدريب ليلا، وبالتالي فإن توقيتاتنا المحسوبة تستطيع أن تستوعب مثل هذا التدخل ما لم يتطور مثل هذا التدخل في بعض القطاعات إلى أعمال غير متوقعة.ومع ذلك فلكي نقابل مثل هذا الاحتمال أنشأنا قيادة خاصة لتنظيم عملية العبور وزودناها بكل ما تحتاجه من إمكانات وكان على قمة هذه القيادة في كل فرقة رئيس أركان الفرقة، كما كان رئيس أركان كل جيش هو المسئول الأول عن السيطرة على عملية العبور. كانت هذه القيادة تسيطر على 40 نقطة عبور للمشاة في كل 18 قاربا و35 معبر معدية في كل 2-3 معدية و 15 كوبريا (10 ثقيل و 5 خفيف)، ولكي تستطيع الوحدات الفرعية الوصول إلى هذه النقط فإنه يتحتم عليها أن تمر في سلسلة من نقط المراجعة التي تملك سلطة السماح لها بالمرور أو إيقافها وذلك طبقا لخطة العبور وسير العمليات وقد أعطيت هذه القيادة سلطة التعديل في خطة العبور طبقا للموقف، فلو فرضنا مثلا انه تم تدمير أحد الكباري تدميراً كبيراً وأنه لن يمكن إصلاحه إلا بعد بضع ساعات فإنه يمكن تحويل العبور إلى كوبري آخر بالأسبقية نفسها التي كانت لها على الكوبري المدمر، وحتى نضمن السيطرة الكاملة على عملية العبور فقد خصصنا لهذه المهمة 500 ضابط و1000 ضابط صف وجندي ومعهم 500 جهاز لاسلكي و200 هاتف ميداني وما يزيد على 750 كيلومترا من أسلاك الهاتف الميدانية.
الفصل الثامن: إدخال عقائد جديدة
التصرف تجاه القنابل الزمنية:
كانت العقيدة السائدة في القوات المسلحة عند التعامل مع القنابل التي لم تنفجر تتلخص في أن نقوم بإخلاء المنطقة من جميع الأفراد ثم نتعامل مع القنبلة بعد 24 ساعة سواء برفعها أو تفجيرها، كان ذلك يعني أن القنبلة التي لا تنفجر تعتبر اكثر وابعد تأثيراً من القنبلة التي تنفجر فعلا. أن العدو في ظل هذه العقيدة يستطع أن يسقط قنابل زمنية فوق الكباري وممرات الإقلاع في المطارات ضمن مجموعة أخرى من القنابل شديدة الانفجار، فإذا أصاب هذه الأهداف إصابات مباشرة فانه سوف يضمن أن إصلاح هذه الأهداف لن يبدأ إلا بعد مرور 24 ساعة، وإذا ما فشل في إصابة هذه الأهداف فإنه سوف يضمن أيضا تعطيل استخدام هذه الأهداف لمدة 24 ساعة على الأقل. وتصحيحا لهذا الوضع أصدرت تعليماتي بتعديل هذه العقيدة لتكون كما يلي:
1- القنابل التي لم تنفجر يتم التعامل معها بواسطة المهندسين فورا وفي أقصر وقت ممكن. وكنت أعلم أن هذه القنبلة قد تكون قنبلة زمنية وإنها قد تنفجر في أية لحظة طبقا للتوقيت الذي حدده العدو لها، ومع ذلك فان من واجبنا أن نقبل هذه المخاطرة.
2- إذا سقطت إحدى القنابل أثناء المعركة بجوار أحد الكباري ولم تنفجر فإن تدفق قواتنا عبر الكوبري يستمر، كما لو انه لم يحدث شئ. ومما لاشك فيه أن هناك احتمالا أن تنفجر مثل هذه القنبلة قبل أن ينجح المهندسون في تأمينها، ولكن حتى لو حدث ذلك فأن خسائرنا في الأفراد قد تتراوح ما بين 5-20 رجلا، فإذا تصورنا انه خلال ساعة زمنية واحدة يمكن أن تعبر حوالي 200 عربة قتال وقارنا بين تعطل عبور هذه القوة المقاتلة ومن احتمال - قد لا يحدث مطلقا- أن نخسر حياة عدد من الرجال اتضح لنا أن المخاطرة التـي ركبناها هي مخاطرة محسوبة. إنها الحرب وليست هناك حرب دون خسائر، وواجب القادة في النهاية هو الاختيار بين أخف الضررين.
3- إذا ما سقطت قنبلة زمنية على أحد ممرات الطائرات من مطاراتنا العسكرية فان الإقلاع والهبوط يستمران في المطارات مادام إن ذلك لا يعوقهما عمليا، بينما يقوم المهندسون بإبطال مفعول القنبلة.
العبور نهاراً:
من العقائد الأخرى التي قمنا بتغييرها في القوات المسلحة هو استمرار العبور على الكباري نهاراً. لقد كانت عقيدتنا حتى أوائل 1973 تقضى بالا يتم العبور إلا ليلا، وقبل بزوغ الفجر نكون قد قمنا بفك الكباري وإخفائها ، ويستمر الحال على ذلك طوال النهار. فإذا جاء وقت العشاء (آخر ضوء) نبدأ في تركيب الكباري مرة أخرى لكي تعمل ليلا وهكذا. كان الهدف الأساسي من هذا الإجراء هو تلافى القصف الجوى المعادي ولكنني عندما بدأت في إجراء الحسابات التفصيلية للعبور اتضح لي انه لن يمكننا- طبقا لهذا الأسلوب- إتمام العبور إلا على مدى ثلاث ليال، وهذا موقف خطير لا يمكن قبوله.
لقد كـان كل تفكيرنا قبل أن نتفق مع إخواننا السوريين هو أن نبدأ عملياتنا ليلا. إن ساعات الظلام بين العشاء والفجر هي تقريبا 8 ساعات فإذا انقصنا من هذه المدة 4 ساعات لتركيب وفك الكوبري فإن الوقت المتبقي للعبور يكون 4 ساعات فقط أما الليلة الأولى للهجوم فسوف تستنفد في فتح الممرات في السد الترابي الذي يحتاج إلى 5-7 ساعات بعد بدء الهجوم، وبالتالي لن يكون هناك وقت لتركيب الكباري، معنى ذلك أن نبدأ في تركيب الكباري خـلال الليلة الثانية ونستخدمها في احسن الظروف لمدة 4 ساعات ثم نستخدمها في الليلة الثالثة لمدة 4 ساعات أخرى، أي إن العبور يتم على مدى ثلاث ليال متتالية . إن عبورا بهذا الأسلوب لا يمكن أن نضمن له النجاح، واعتبارا من منتصف عام 1972 قررنا أن يستمر عبور قواتنا على الكباري نهارا إلى أن يتم عبور جميع القوات. هذا ويمكن الإقلال من تأثير القصف الجوى المعادى سلبيا عن طريق استخدام الدخان والكباري الهيكلية، وإيجابيا عن طريق تقوية الدفاع الجوى عن الكباري.
تخصيص كوبريين لكل فرقة:
إن تخصيص كوبريين لكل فرقة من فرق النسق الأول كان من أهم القرارات التي اتخذت خـلال فترة التخطيط والتحضير للعمليات. لقد كانت خططنا حتى عام 1972 هي أن نخصص كوبريا واحد، لكل فرقة من فرق النسق الأول، ولكنى عندما كنت أقوم بتجهيز"التوجيه رقم 41" خلال الربع الأخير من عام 72 اتضح لي أن تخصيص كوبري واحد للفرقة لن يكون كافيا. لقد كانت المعلومات المتيسرة لدينا في هذا الوقت هي أن العدو سوف يقوم بضربته المضادة التعبوية بعد 12 ساعة من بدء الهجوم.
كنا نتوقع أن يوجه العدو ضرباته إلى ثلاثة رؤوس كباري من الخمسة التي قمنا بإنشائها بمعدل 2-3 ألوية مدرعة في كل اتجاه، لذلك قمنا بإجراء حساباتنا على أساس أن يكون لدى كل فرقة الأسلحة الكافية التي تمكنها من صد مثل هذا الهجوم، ولكن اتضح لنا أن كوبريا واحد لن يسمح بعبور جميع هذه الأسلحة في الوقت المناسب الذي يتيـح لها الاشتراك في معركة صد الهجـوم المضاد، لذلك كان لابد لنا من تخصيص كوبريين لكل فرقة وهنا يجب أن نتوقف قليلا، حيث إن جميع الكباري الثقيلة التي كانت متيسرة لدينا -بما في ذلك المتفق على استيرادها- هو 12 كوبريا ، ولاشك أن استخدام عشرة كباري في اليوم الأول من الحرب بينما كل ما نملكه هو 12 فقط كان يعتبر نوعا من المخاطرة ولكنها كانت مخاطرة محسوبة. لقد كنت مقتنعا بأنه كلما أسرعنا في العبور زادت فرصتنا في النجاح.
قامت جميع هيئات وإدارات القوات المسلحة بالعديد من البحوث التي كانت تهدف إلى البحث عن الحلول للمشكلات التي تتعلق بالمعركة الهجومية بصفة عامة وبمعركة العبور بصفة خاصة. كانت هذه البحوث تتعلق بالتنظيم، والتسليـح، والمعدات الفنية والإدارية، وما يرتديه الجندي من ملابس ومهمات، وما يأكله أثناء المعركة الخ. كانت هذه البحوث تحاول أن تبتكر أسلحة ومعدات جديدة أو أن تقوم بتحسين وتطوير الأداء بالنسبة للأسلحة والمعدات المتيسرة وقد اشتركت معنا في عدد من هذه البحوث وزارة البحث العلمي وبعض الإدارات الحكومية الأخرى، وقد بلغ مجموع هذه البحوث ما بين يوليو 71 ويوليو 73 اكثر من مائة بحثا ولعل أكثرها طموحـا هو البحث الخاص بـ" الرجل الطائر"، وقد نجحت بعض هذه البحوث بينما فشل بعضها الآخر في التوصل إلى حلول للمشكلات التي كانت تعالجها. وسوف اذكر هنا بعضا من تلك البحوث التي تمت خلال السنتين اللتين سبقتا حرب أكتوبر73.
القاهر والظافر:
لقد قيل الكثير عن امتلاك مصر لصواريخ يطلق عليها اسم "القاهر" ويصل مداها إلى حوالي 200 كيلومتر أو اكثر، ويبدو أن السلطات المصرية كان يسعدها تشجيع هذه الأقوال وتغذيتها، وقد كان الصـاروخ القاهر دائما في جميع الاستعراضات العسكرية المصرية قبل حرب 1967، وبعد هزيمة يونيو 1967اخذ المصريين يتهامسون "أين القاهر؟ هل استخدم في هذه الحرب أم لا؟" ولم تكن هناك أية إجابة عن هذه التساؤلات إلا الصمت الرهيب من السلطات المختصة جميعها.
وعندمـا استلمت أعمال (ر.ا.ح.ق.م.م) لم يتطوع أحد ليخبرني بشيء عن "القاهر" أو "الظافر" ولكني تذكرتهما فجأة وأخذت أتقصى أخبارهما إلى أن عرفت القصة بأكملها. لن أقص كيف بدأت الحكاية، وكيف أنفقت ملايين الجنيهات على هذا المشروع، وكيف توقف، وكيف ساهم الإعلام المصري في تزوير الحقائق وخداع شعب مصر. إني اترك ذلك كله للتاريخ ولكني سأتكلم فقط عن الحالة التي وجدت فيها هذا السلاح وكيف حاولت أن استفيد- بقدر ما أستطيع- من المجهود والمال اللذين أنفقا فيه. لقد وجدت أن المشروع قد شطب نهائيا وتم توزيع الأفراد الذين كانوا يعملون فيه على وظائف الدولة المختلفة، أما القاهر، والظافر، فكانت هناك عدة صواريخ منهما ترقد راكدة في المخازن. لقد كانت عيوبهما كثيرة وفوائدهما قليلة ولكني قررت أن استفيد منهما بقدر ما تسمح به خصائصهما، وقد حضرت بيانا عمليا لإطلاق "القاهر" يوم 3 من سبتمبر 1971. لقد كانت قذيفته تزن 2,5 طن وتحدث حفرة في الأرض المتوسطة الصلابة بقطر 27 مترا وعمق 12 مترا، وتبلغ كمية الأتربة المزاحة حوالي 2300 متر مكعب وكما يبدو فإن القوة التدميرية لهذا السلاح تعتبر رائعة ولكن كفاءة السلاح الميداني لا تقاس فقط بقوة التدمير، فقد كانت هناك عيوب جوهرية في هذا السلاح تجعله اقرب ما يكون إلى المقلاع أو المنجنيق اللذين كانا يستخدمان خلال القرون الوسطى.
يطلق بالتوجيه العام، حيث انه ليست لديه أية وسيلة لتحديد الاتجاه سوى توجيه القاذف في اتجاه الهدف قبل تحميل المقذوف على القاذف ، أقصى مدى يمكن أن يصل إليه هو ثمانية كيلومترات ولا يمكن التحكم في المسافة إلا في حدود ضيقة وعن طريق رفع زاوية الإطلاق أو خفضها. وفي أثناء التجربة أطلقنا 4 مقذوفات بالاتجاه نفسه والزاوية نفسـها فكانت نسبة الخطأ تصل إلى 800 متر، وعلى الرغم من ذلك كله فقد قررت أن أستهلك هذه الصواريخ خلال حرب أكتوبر وشكلت وحدة خاصة لهذا السلاح، وأطلقنا عليه اسم "التين"، ولم يكن في استطاعتنا طبعا أن نستخدمه ضد أي هدف يقع شرق القناة مباشرة لأن عدم دقة السلاح قد يترتب عليها سقوط القذيفة على مواقعنا التي تقع غرب القناة ولا يفصلها عن مواقع العدو سوى 200 متر فقط ولم يكن في وسعنا أن نبعث به إلى الجبهة قبل بدء العمليات، حيث إنه لو حدث واكتشف العدو وجوده فقد يعتقد الإسرائيليين- بناء على ضخامة حجمه- أنه قادر على ضرب تل أبيب، لذلك أجلنا تحركـه حتى ليلة الهجوم، أي انه تحرك إلى الجبهة خلال ليلة 5/6 من أكتوبر 73.
لم تكن نتائج استخدامه طيبة، ولكننا- كما سبق أن قلت- حصلنا عليه من بين الأصناف الراكدة ولم نكن لنخسر شيئا نتيجة لاستخدامه، ولكني فوجئت بان الرئيس السادات يعلن صباح يوم 23 من أكتوبر 73 إننا أطلقنا "القاهر" على العدو الذي يحتل منطقة الدفرسوار قبل وقف إطلاق النار مساء يوم 23 من أكتوبر ببضع دقائق، وإني أعلن وأقرر أن هذا الادعاء باطل ولم يحدث مطلقا. ان كل ما حدث هو إطلاق ثلاث قذائف سوفيتية الصنع بواسطة R-17-E . (1)، وأنى لأتعجب! من الذين يريد السادات خداعهم: أمريكا ام إسرائيل ام شعب مصر؟ ان من السذاجة ان يعتقد السادات انه يستطيع ان يخدع أمريكا او إسرائيل بمثل هذا القول. حيث أن إمكانات أمريكا الاستطلاعية بواسطة الأقمار الصناعية وطائرات الاستطلاع التي تطير خارج مدى صواريخنا، ووسائل الاستطلاع الإلكتروني، كل ذلك كفيل بأن يجعل مثل هذا الادعاء مثارا للضحك. إذن فالمقصود هو شعب مصر الذي لا يسمع ولا يقرا إلا ما يقوله حاكم مصر. لا أعرف كيف سيرد السادات على هذه الكذبة، وأن كنت لا أستبعد ان يرد عليها بان يرتكب كذبة أخرى.
أما صاروخ الظافر، فهو الأخ الأصغر للقاهر، لقد كان اصغر حجما واقصر مدى. وقد قامت الكلية الفنية العسكرية بتطويره بحيث يمكن إطلاق 4 قذائف دفعة واحدة. لقد كان اكثر دقة من القاهر ولكنه مع ذلك لا يمكن اعتباره بين الأسلحة الدقيقة. ولقد حضرت أيضا بيانا عمليا عن إطلاقه يوم 23 من سبتمبر 71، ثم حضرت عدة بيانات عملية أخرى لإطلاقه بعد ذلك وقررت استهلاك الموجود منه خلال حرب أكتوبر 73. وفعلا تم تشكيل وحدة خاصة به و أعيدت تسميته لتكون "الزيتون". وقمنا بدفعه إلى الجبهة خلال الليالي الثلاث الأخيرة قبل المعركة. لقد كانت نتائجه فى العمليات الحربية أفضل من أخيه القاهر، وكانت حرب أكتوبر هي الفرصة التي أمكن بها إسدال الستار نهائيا على "القاهر" والظافر" او- طبقا لاسميهما الجديدين- "التين والزيتون ".
ألحوامات hovercraft:
وفي مجال البحث عن المعدات الحديثة التي يمكن الاستفادة منها في عملية العبور فكرت في ألحوامات hovercraft استقبلت مندوب الشركـة الإنجليزية في مكتبي يوم 21 من يوليو 72، ولكنى بعد ان درست معه خصائص جميع الأنواع المتيسرة لديهم لم أجد ان أيا منها يمكن ان يقدم حلولا جذرية لما يجول بخاطري. كانت اكبر هذه ألحوامات ذات حمولة 17 طنا وسرعة 60 عقدة في الساعة، و أخيرا قلت لمندوب "الشركة، هل تستطيع ان تصنع لي حوامة ذات حمولة 50 طنا، ولا يهمني السرعة العالية، فإن 30 عقدة تعتبر كافية حيث إنني أريد ان استخدمها لنقل الدبابات، بحيث تستطيع الواحدة منها ان تنقل دبابة واحدة في كل مرة؟ أجاب مندوب الشركة بأنه يعتقد ان هذه المشكلة يمكن حلها فنيا، وانه سيبحث الموضوع مع شركته ثم يخبرني بالنتيجة. وفي خلال سبتمبر من العام نفسه عاد إلي ليبلغني بان الشركة قد قامت بصنع التصميم اللازم طبقا للطلبات التي حددتها لهم، وانه فى استطاعة الشركة القيام بإنتاج ألحوامات المطلوبة. لم يكن ذلك فحسب، بل انه احضر معه نموذجا مصغرا لهذه الحوامة، و لقد كان النموذج رائعا ويحقق كل ما كنت أفكر فيه. ولكن للأسف الشديد فإن ثمن خمس حوامات كنت أود الحصول عليها لم يكن متيسرا ولم أستطع الحصول عليه وهكذا وضع المشروع على الرف. لقد كان هدفي هو ان أستخدم هذه ألحوامات فى نقل عدد من الدبابات عبر بحيرة التمساح والبحيرات المرة لقد عبرنا تلك البحيرات خلال حرب اكتوبر بواسطة الدبابات والمركبات البرمائية، ولكن شتان ما بين الدبابة البرمائية ذات الدرع الحفيف والمدفع عيار 76 مم والدبابة ت 54 او ت 55 ذات المدفع 100 مم أو الدبابة ت 62 ذات المدفع 115 مم. لو إننا كنا نملك هذه ألحوامات قبل حرب أكتوبر 73 لأمكننا ان نزيد من عدد دباباتنا التي ندفع بها فى مؤخرة العدو. وبالتالي كان من الممكن ان نحصل على نتائج افضل، أنى أقول هذه القصة لألفت النظر إلى ان هذه ألحوامات سوف تلعب دورا مهما فى نقل الدبابات فى حروب المستقبل.
كوبري مروان :
اتصل بي اللواء طلاس وزير الدفاع السوري خلال شهر مايو 73، وأخبرني ان أحد ضباط سلاح الهندسة فى الجيش السوري قد أخطره بأن لديه أفكارا جديدة فيما يتعلق بالكباري التي نقيمها على قناة السويس، وان هذه الكباري الجديدة يمكن ان توفر لنا الكثير من الوقت، وانه على استعداد لإرسال هذا الضابط إلى مصر ليكون تحت تصرفنا لأية فترة. رحبت بالفكرة حيث ان توفير ساعة زمنية واحدة كان يعنى بالنسبة لنا عبور حوالي 1200 دبابة او 3000 مركبة (كانت حساباتنا على أساس ان طاقة كل كوبري فى الساعة هي عبور حوالي 120 دبابة او 200 مركبة. فإذا ضربنا هذا الرقم في 10 كباري ،فإن توفير ساعة زمنية واحدة تعنى عبور 1200 دبابة او 2000 مركبة). استقبلت الرائد السوري المهندس مروان فى مكتبي يوم 30 من مايو 73، وحضر المقابلة كل من مدير إدارة المهندسين في القوات المسلحة والمدير العام لشركة التمساح التى كان عليها ان تقوم بصنع العينة الأولى من الكباري بعد الاستماع إلى الفكرة.
كانت فكرة المهندس مروان تعتمد على أساس ان يتفادى فتح ممرات فى الساتر الترابي، وذلك بان يكون نصف الكوبري الذي من ناحية قواتنا عائما على الماء ثم يرتفع النصف الآخر، بحيث يستند طرفه البعيد على قمة الساتر الترابي، إلى حوالي 20 مترا- كما سبق ان ذكرنا- فقد كان هذا يعني أن زاوية ميل الجزء المعلق من الكوبري ستكون كبيرة إذا بدأ الجزء المعلق فى الارتفاع داخل السدس الأخير من القناة أما إذا بدأ الجزء المعلق في الارتفاع عن سطح المياه قبل ذلك فسوف تقل زاوية الارتفاع ولكن مقابل التضحية بقوة تحمل الكوبري وثباته. لم يتحمس مهندسونا للفكرة وأثاروا الكثير من نقاط التشكيك ولو انهم اعترفوا بأنه من الممكن تنفيذها هندسيا وأنا أيضا كنت أرى ان تطبيق الفكرة سوف يخلق لنا الكثير من المشكلات من وجهة نظر العمليات. إن عبور كوبري بهذا الميل سوف يحتاج إلى تدريب خاص ومستوى عال فى قيادة المركبات قد يكون من الصعب توافره بين جميع السائقين. ماذا يحدث لو ان إحدى الدبابات أو العربات الثقيلة تراجعت للخلف فصدمت ودمرت المركبة التى خلفها؟ ماذا يحدث لو أن الجزء المعلق من الكوبري دمر بواسطة العدو؟ ان إصلاح الكوبري العائم باستبدال جزء أخر يتم فى سهولة ويسر اما بالنسبة للكوبري المعلق فأن الوضع يختلف، كما ان فرصة العدو في إصابة الكوبري المعلق او المركبة التى تعبر عليه افضل بكثير من فرصة إصابة المركبة وهى تعبر على الكوبري العائم (انظر شكل رقم 4).
وعلى الرغم من هذه المشكلات كلها، فقد وافقت على ان نقوم بعمل عينة للكوبري، وبعد عمل العينة حضرت إجراء تجربتها ولكن النتائج لم تكن مشجعة.اقترح المهندس مروان ان نرسي طرف الكوبري على نقطة متوسطة من الساتر الترابي ثم نرسل بولدوزر الى الشاطئ الآخر يقوم بالعمل في الساتر الترابي إلى ان ينفض ارتفاعه إلى مستوى معقول يستقر عليه طرف الكوبري ثم نبدأ في العبور فوق الكوبري كان هذا التعديل الجديد يزيد العملية تعقيدا ومع ذلك تركت المهندس مروان في تجاربه كنوع من استمرار الدراسة وكعمل من أعمال الخداع (2) . كانت آخر تجربة حضرتها عن كوبري مروان يوم 23 من سبتمبر 73، وبعد حضور هذه التجربة طلب مني الرائد مروان ان يعود إلى بلاده فوافقت بعد ان شكرته على المجهودات الضخمة التى بذلها خلال أربعة اشهر متتالية، وعلى الرغم من ان كوبري مروان لم يكتب له النجاح إلا ان القصة تدل على ان العقول المصرية والسورية لم تتوان عن التعاون معا لحل المشكلات التي تعترضها مهما كانت التحديات والتضحيات.
الاستشعار من بعد:
في خلال شهر مايو 73 وصلني خطاب من الدكتور عبد الهادي-الأستاذ المصري في جامعة أوكلاهوما في الولايات المتحدة-أبلغني فيه انه يريد أن يطلعني على نظام جديد يمكن بمقتضاه اكتشاف أية معادن أو مياه تحت سطح الأرض بموجب معدات خاصـة يتم تركيبها في الطائرات وانه يعتقد انه من الممكن ان نستفيد من تطبيق هذه النظرية في النواحي العسكريـة، كما أخطرني بأنه قد سبق له ان أرسل عدة خطابات إلى العديد من المسئولين لعرض هذا الموضوع، ولكن لم يستجب إليه أحد.وفي خلال أيام كان الدكتور عبد الهادي في مكتبي يشرح لي النظرية الجديدة التي قال عنها إن شركات
البترول تستخدمها الآن في البحث عن حقول البترول، إن النظرية تعتمد أساسا على ان كل مادة لها درجة حرارة تختلف عن درجة حرارة المواد الأخرى التى تتواجد معها في المحيط نفسه. ونتيجة لذلك، فإن المياه الجوفية أو النفط في باطن الأرض تكون درجـة حرارته مختلفة عن درجـة حرارة الأرض التي تحيط به، كذلك فإن الدبابة أو العربة إن وضعت داخل جراج فإن درجة حرارتها تكون مختلفة عن درجـة حرارة حوائط وسقف الجراج. وتطبيقا لهذه النظرية فإنه إذا أمكن قياس درجات حرارة هذه الأجسـام على شكل نبضات تلتقطها أجهزة الطائرات فإنه يمكن تسجيل هذه النبضات وتفسيرها على شكل صورة، وإذ ا كان الفرق في درجات الحرارة بين الجسم الذي نرغب في اكتشافه وبين الأجسـام التى تحيط به يزيد على 2،. من الدرجة المئوية. وقد أطلعني على إحدى المجـلات العلمية، وكان بها مقالة عن الدول التي تستخدم هذه النظرية وكانت إسرائيل من بين تلك الدول، لقد كان كلام الدكتور عبد الهادي واضحا ومنطقيا ولم يكن ينقصني إلا التجربة العملية لكي نتحقق مما يقول فوافق على ذلك. وفي أثناء مناقشاتنا علمت منه أن هناك أجهزة للالتقاط وهي أجهزة سهلة وبسيطة وهي معه حاليا في مصر، أما أجهزة التفسير فهي أجهزة معقدة ثقيلة ولا توجد معه ولذلك يجب أن يرسل الأفلام الملتقطة إلى الجامعة في أوكلاهوما لتفسيرها، وهنا كانت المشكلة. فقد كنا في مصر في ذلك الوقت سواء على المستوى الشعبي أم على المستوى الرسمي- لا نفرق بين أمريكا وإسرائيل، فكل سر تعرفه أمريكا عنا نفترض- بطريقة آلية أنه قد انتقل إلى العدو. أبديت شكوكي وتخوفي من هذه النقطة فأراد أن يطمئنني بأن أنتخب مكان التصوير لأغراض التجربة بحيث يكون بعيدا عن أي هدف عسكري، وبعد ان اقتنع بالتجربة فإننا نعمل على تدبير أجهزة التفسير الخاصة بنا. وبالتالي يصبح لدينا جهاز مستقل للالتقاط والتفسير، فوافقت على ذلك.
بعد هذه المقابلة استدعيت بعض مساعدي لبحث الموضوع معهم، ولكنى فوجئت بمدير إدارة المخابرات الحربية يقول لي. لقد ذهلت عندما علمت بان سيادتكم قد قابلتم الدكتور عبدالهادي. إنه معروف لدينا بأنه عميل لوكالةالمخابرات الأمريكية سي.اَي.أيه (3). سألته عما إذا كانت لديه أية اتهامات محددة يمكن ان يوجهها إليه، فأفاد بالنفي، فقلت له: "لحسن الحظ فإن أخلاقي وطباعي تختلف عن طبيعة رجال الخدمة السرية، أنى أتعامل مع كل وطني على أنه رجل شريف إلى أن يثبت العكس، أما أنتم فإنكم تشككون في كل فرد إلىأن يثبت العكس. أنا لا اعتقد ان الدكتور عبد الهادي هو جـاسوس لمجـرد انه أمريكي الميول والاتجاهات". وفي النهاية اتفقنا على أن نسير في إجراء التجـربة مع اتخاذ الإجراءات التي تضمن عدم تسرب المعلومات.
في يوم 16 من يوليو 73 استقبلت الدكتور عبد الهادي مرة أخرى بحضور اللواءين إبراهيم عبد الفتاح ومصطفى كمال، حيث تم الاتفاق معه على الإجراءات الخاصة بالتجربة، وخصصنا إحدى الطائرات وحددنا القطاع الذي يتم تصويره ليلا، وتمت التجـربة وجاءت نتائج تفسير الفيلم رائعة وتدل على سلامة النظرية في التطبيق العملي. كان الوقت يقترب بسرعة من موعد حرب اكتوبر ولم استطع تمصير جهاز الاستشعار من بعد قبل الحرب، ولكنني نجحت في وضع النواة التي آمل ان تنمو وتكبر على مر الأيام (4).
العلاقة بين التكلفة وقدرة الأداء Cost Effectiveness:
في ذات يوم من عام 1973 استدعيت رئيس هيئة الشئون المالية في القوات المسلحة وسألته عن تكلفة إنشاء وإدامة كل وحدة من وحدات القوات المسلحة، ولكنه أخبرني بأنه لا توجد لديه إجابة حاضرة وسريعة عن هذا السؤال، فإن تحضيره يحتاج إلى مجهود ووقت طويلين، لماذا ؟ لأن ميزانية القوات المسلحة يتم تحضيرها على أسـاس الصنف وليس على أساس الوحدة المتكاملة، أي أن هناك ميزانية للتسليح وميزانية للمركبات وميزانية للمباني والمعسكرات وميزانية للملابس وهكذا. وحيث إن كل وحدة هي في الواقع خليط من كل هذا، فإنه للإجابة عن سؤالي يجب ان يأخذ كل وحدة ويقوم بتحليلها إلى تلك العناصر ثم يقوم بإجـراء حسـاب التكاليف لكل عنصر من هذه العناصر داخل الوحدة الواحـدة ثم يقوم بتجميع حساب على الرقم الإجمالي لحساب تكلفة هذه العناصر لكي يحصل على الرقم الإجمالي لتكلفة الوحدة. قلت له: كيف يمكنني أن أفضل بين لواء صواريخ مضادة للطائرات وبين سرب من المقاتلات إذا لم أكن على علم بمعرفة تكلفة إنشاء إدامة كل منهما حتى تكون الأفضلية على أساس ثمن التأثير "cost effectiveness". أجـاب بأنه يقدر أهمية هذا الموضوع وأنه سوف يقوم بتشكيل مجموعة عمل لتنفيذ هذه المهمة، ولكنه حذر مقدما من أن ذلك سوف يحتاج إلى وقت طويل وانه لا يستطيع ان يضمن الدقة التامة لهذه التقديرات.وكخطوة مبدئية طلبت معرفة نسب توزيع الميزانية العسكرية على أوجه الأنفاق الرئيسية، فاتضح لي ان ميزانية القوات المسلحة عن عام 73 كانت موزعة طبقا لما يلي:
رواتب وأجور وإيواء 68%
تسليح 13%
صيانة أسلحة ومعدات 9%
تحصينات 6%
أصناف أخرى متنوعة 4%
أجمالي 100%
في البلاد المتطورة- حيث لا تكون هناك أية قيود على شراء السلاح- يبدأ تسليح القوات المسلحة بالقرار الذي تتخذه الدولة من حيث تحديد المبالغ المخصصـة لشئون الدفاع، وعلى أثر ذلك يشرع المختصون بشئون الدفاع في بحث افضل الطرق لاستخدام هذه الاعتمادات الماليـة- ومع أن القرار الأصل هو قرار سياسي في المقام الأول والقرار الثاني هو قرار عسكري في المقام الأول، فإن صانعي القرار في كلتا الحالتين يتأثرون بالحوار الذي يجرى بين الطرفين قبل اتخاذ هذه القرارات. هذا ما يحدث في البلاد المتطورة اما في البلاد التي مازالت في مرحلة التطوير-أو بكلمة اعم في دول العالم الثالث- فإن الموقف ليس بهذه السهولة. ان سوق السلاح تسيطر عليها الكتلتان الكبريان: الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، إن قرار أي من أمريكا أو الاتحاد السوفيتي إمداد إحدى دول العالم الثالث بالسلاح يخضع لعوامل كثيرة اهمها الحفاظ على توازن القوى بين مصالح الدولتين العظميين في المنطقة، والتقدم الفني والتكنولوجي ومدى القدرة على استيعاب الأسلحة المتقدمة، ومقدرة الدولة على دفع ثمن السلاح، ومدى التزام الدولة التى تشتري السلاح بالخط السياسي الذي لا يتعارض مع مصالح الدولة المصدرة له. وهكذا فإن صانعي القرار في دول العالم الثالث ليست لديهم الكلمة الأخيرة في تحديد واختيار السلاح الذي يريدونه.
الفصل العاشر: تطور الدفاع الجوي في مصر
انهيار الدفاع الجوي عام 1969:
لقد بدأنا في بناء القوات المسلحة المصرية بعد هزيمة يونيو 1967 بجد وحماس شديدين، وبحلول سبتمبر 68 كانت قواتنا البرية قد وصلت إلى مستوى يسمح لها بتعدي الوجود الإسرائيلي شرق القناة، وهكذا بدأت حرب الاستنزاف. لقد كان الهدف العسكري من هذه الحرب هو رفع معنويات جنودنا التي اهتزت نتيجة هزيمة 67 النكراء وفي الوقت نفسه إرهاق العدو وتكبيده اكبر ما يمكن من الخسائر في الأرواح، وقد كان أسلوبنا في ذلك هو قصف مواقع العدو شرق القناة بالمدفعية وإرسال الدوريات عبر الشـاطئ الآخر للقيام بأعمال الكمائن والإغارة ليلا، والتي كان يقع عبثها الأكبر على عاتق رجال الصاعقة وكانت القيادة العامة للقوات المسلحة قد قررت إيقاف هذه العمليات بعد أن قامت إسرائيل بدفع جماعات التخريب المنقولة جوا إلى أعماق مصر وقامت بنسف بعض الأهداف الحيوية ومنها محطة كهرباء نجع حماد، وبعد توقف دام حوالي أربعة أشهر إستؤنفت حرب الاستنزاف مرة أخرى في مارس 69 ورد العدو على ذلك بتصعيد عمليات إغارته على أهدافنا في العمق.
وفي خلال يوليو 69 دفع العدو بقواته الجوية في معارك الاستنزاف وقام بتدمير دفاعنا الجوى في القطاع الشمالي من القناة وبذلك فتح ثغرة واسعة في وسط الدفاع الجوي ما بين بور سعيد شمالا والإسماعيلية جنوبا، وأصبح في استطاعته أن يعبر بطيرانه من خلال هذه الثغرة إلى قلب الدلتا. وفي صباح 9 من سبتمبر عبرت قوة إسرائيلية خليج السويس وأنزلت 9 دبابات، وعددا من عربات القتال الأخرى في منطقة الزعفرانة، حيث قامت هذه القوة- تحت حماية الطائرات الإسرائيلية- بمهاجمة وتدمير بعض أهدافنا الأرضية الموجودة في المنطقة ثم انسحبت دون أي تدخل من قواتنا الجوية أو البحرية، حيث أن طيران العدو كان يسيطر على سماء المنطقة طول فترة الإغارات لقد كانت هذه الإغارة دليلا ساطعا على مدى ما يستطيع أن يفعله العدو في ظل سيطرة جوية كاملة. لقد اختار العدو منطقة الزعفرانة لهذه العملية بعناية فائقة. فقد كانت هذه المنطقة من وجهة نظر القيادة العامة للقوات المسلحة ذات أهمية ثانوية وبالتالي فإن القوات التي خصصت لها كانت قليلة ومنتشرة وضعيفة التسليح فقد كان واجبهم الأساسي هو المراقبة والعمل ضد جماعات التخريب الصغيرة التي تتسلل إلى المنطقة ولكن ليس لقتال قوة مدرعة. لقد كانت لديهم بعض الأسلحة المضادة للدبابات التي يصل أقصى مداها إلى 600 متر، بينما كانت دبابات العدو تستطيع أن تدمر هذه الأسلحة وهي على مسافة 2000 متر دون أن يكون في ذلك أية مغامرة.
وقد بلغت مشكلة الدفاع الجوي في مصر أقصاها عندما كثف العدو غاراته في العمق، فدمر دفاعنا الجوي ثم بدا يوجه غاراته على الأهداف المدنية من مصانع وكباري ومدارس الخ. ولكي يستعرض العدو إمكاناته وسيطرتة الجوية قام بعملية فريدة في نوعها غريبة في طبيعتها. إذ قام بعملية إغارة على محطة رادار في منطقة البحر الأحمر ثم قام بفك الجهاز وتحميله في إحدى طائرات الهيليكوبتر وعاد به من حيث أتى، وبنهاية عام 1969 كان دفاعنا الجوي قد انهار تماما و أصبحت سماء مصر مفتوحة أمام الطائرات الإسرائيلية تمرح فيها مثلما تشاء وحيث تشاء.
عناصر الدفاع الجوي:
إن أي نظام للدفاع الجوي المتكامل يجب أن يشتمل على أربعة عناصر رئيسية، ودونها فإن هذا النظام يعتبر نظاما هيكليا يسهل اختراقه وتدميره جزءاً جزءاً إلى أن يتم الإجهاز عليه نهائيا بواسطة الخصم. واصل هذه العناصر هو اكتشاف ومتابعة الطائرات المعادية على مسافة بعيدة تسمح لوسائل الدفاع الجوي الإيجابي والسلبي بان تتخذ الإجراءات المناسبة لمقابلة الطائرات المغيرة والعنصر الثاني هو توافر طائرة مقاتلة تكون في مستوى افضل من الطائرات المغيرة أو على اقل تقدير في مستواها حتى يمكنها أن تعترض الطائرات المغيرة وتشتبك معها وتطاردها إلى خارج الحدود. أما العنصر الثالث فهو شبكة متكاملة من الصواريخ المضادة للطائرات التي تقوم بالدفاع الثابت عن الأهداف الحيوية مثل المطارات والسدود والكباري والمناطق الصناعية والمناطق المأهولة بالسكان الخ، ويجب أن تكون شبكة الصواريخ هذه في تطور مستمر يتمشى مع تطور طائرات العدو وقذائفه جو ارض SAM إن أية شبكة دفاع جوي حديثة يمكن أن تصبح عديمة القيمة بمجرد حصول العدو على نوع متطور من القذائف جو ارض، وعلى سبيل المثال فإن شبكة الدفاع الجوى المصري التي كانت تعتبر من أكفأ شبكات الدفاع الجوى في العالم في أكتوبر71، والتي كان في استطاعتها ان تصيب أهدافها وهي على مسافة حوالي 20000 متر قد أصبحت الآن عديمة القيمة تماما بعد ان امتلكت إسرائيل القذائف جو ارض الأمريكية condor وبعد ان طورت القذيفة الإسرائيلية Gabriel لكي تطلق من الجو وبعد ان قررت إسرائيل تصنيع القذيفة LOZ محليا في إسرائيل على ان تكون فى خدمة جيشها فى أوائل الثمانينيات وتعتبر هذه القذيفة الأخيرة افضل من القذيفتين السابقتين حيث ان مداها يصل إلى80 كم- ان طائرات إسرائيل تستطيع ان تدمر شبكة الصواريخ المصرية بالقذائف Gabriel من مسافة 40 كم او بواسطة القذائف LOZ من مسافة 80 كم دون أن تعطى الفرصة لشبكة الصواريخ المصرية ان تطلق قذيفة واحدة أما العنصر الرابع من عناصر الدفاع الجوي فهو الأجهزة الإلكترونية، ان اكتشاف طائرات العدو المغيرة يعتمد عليها. كما أن القذائف جو جو AAM والقذائف جو ارض ASM التي تطلقها الطائرات على أهدافها تعتمد على الأجهزة الإلكترونية، وكذلك القذائف التي تطلق من الأرض إلى الجو SAM على الطائرات المغيرة تعتمد أيضا على الأجهزة الإلكترونية، فضلا عن التقدم العلمي ليس له حدود يتوقف عندها. ان أي جهاز إلكتروني يمكن إبطال مفعوله بإجراء إلكتروني مضاد، وهذا الإجراء الإلكتروني المضاد يمكن إبطاله مرة أخرى بإجراء مضاد للمضاد، وهذا الإجراء المضاد للمضاد يمكن إبطاله مرة أخرى بإجراء مضاد للمضاد المضاد وهكذا دواليك. لذلك فان نجاح واستمرار أي دفاع جوى يتوقف على ارتباطه الوثيق بالتقدم الإلكتروني والتطوير المستمر في الأجهزة الإلكترونية المستخدمة.
ان الدفاع الجوي هو عملية باهظة التكاليف، ولكنه لا يقبل أنصاف الحلول فإما ان يكون هناك دفاع جوي متكامل ودائم التطور بحيث يستطيع ان يتمشى مع تطور القوات الجوية المعادية، و إما ان توفر الدولة أموالها ومجهودها وتبني سياستها على أساس انه ليس لديها دفاع جوي. انه من الغباء والإسفاف ان تنفق مئات الملايين على دفاع جوي يستطيع العدو ان يدمره دون ان يخسر طائرة واحدة ودون ان تكون هناك أي فرصة لرجال الدفاع الجوي ان يطلقوا مقذوفا واحدا.
السوفيت يشاركون في الدفاع الجوي:
في نهاية ديسمبر 1969 استطاع الرئيس جمال عبد الناصر بواقعيته وحسه المرهف ان يلم بهذه الحقائق. لقد أدرك جمال عبد الناصر ان دفاعنا الجوي يخوض معركة غير متكافئة ضد عدو يتفوق تفوقا ساحقا في إمكاناته. كان جمال عبد الناصر يعرف ان رجال الدفاع الجوي في مصر لم يكن تنقصهم الشجاعة او الرغبة في الفداء، بل كان ينقصهم السلاح الذي يستطيعون به ان يواجهوا هذه الهجمات الضارية. لذلك سافر عبد الناصر إلى موسكو في يناير 70 لكي يطلب من الروس ان يشاركوا بقواتهم في الدفاع الجوي عن مصر، وقد استجاب الاتحاد السوفيتي لطلب عبد الناصر وبدأت الإمدادات الروسية تصل إلى مصر خلال فبراير ومارس في سرية تامة، وبحلول شهر أبريل كانت الوحدات السوفيتية قد أصبحت جاهزة للقيام بمهامها القتالية. كانت هذه الوحدات تشمل جميع العناصر الرئيسية الأربعة في الدفاع الجوي، وكانت معها معدات حديثة لم يسبق لمصر ان حصلت عليها (1). كان معها الرادارات والطائرات والصواريخ المضـادة للطائرات SAM ومن بينها SAM6 والوحدات الإلكترونيـة. وفي يوم 18 من أبريل 70 عرف العالم بوجود قوات سوفيتية في مصر، وذلك بعد ان قام بعض الطيارين السوفيت بمطاردة بعض الطائرات الإسرائيلية المغيرة حتى خارج الحدود، وقد كانت جميع محادثاتهم اللاسلكية أثناء هذه العملية تتم باللغة الروسية، وبعد هذا التاريخ أوقفت إسرائيل غاراتها في العمق وبذلك أعطت الفرصة لعناصر الدفاع الجوي المصري التي كانت قد أنهكت تماما لكي تعيد بناء نفسها من جديد. لقد قام العدو ما بين يناير وأبريل 1970 بالعديد من الغارات بلغت في مجموعها 3300 ساعة، واسقط خـلالها 8800 طن من المتفجرات، وفي أواخر يوليو 70 تحركت كتائب الصواريخ المصريةSAM بوثبات من العمق وفي اتجاه الجبهة، وفي خـلال الأسبوع الأول من شهر يوليو 70 تمكنا من إسقاط 10 طائرات معادية سقطت سبع منها فوق أرضنا، فأطلق على هذا الأسبوع لقب "أسبوع تسـاقط الطائرات"، وقد اصبح عيدا سنويا لوحدات الدفاع الجوي المصري. ان يوم 30 من يوليو 70 الذي تم فيه إسقاط أول طائرتين من طراز F4 بواسطة صواريخنا SAM يعتبر يوما مشهودا في حياتنا، انه يعلن بعث الحياة من جديد في دفاعنا الجوي ويمثل فتحا جديدا لعصر الصراع بين القذيفة SAM وبين الطائرة ،لقد كان الصراع بين الطائرة والقذيفة صراعا مريرا خلال حرب أكتوبر دون ان يستطيع أي منهما ان يدعي بان له التفوق على الآخر، ففي بعض الأحيان انتصرت الطائرة ودمرت او أبطلت بعض قواعد الصواريخ، وفي أحيان أخرى انتصرت قواعد الصواريخ ودمرت الطائرات المغيرة وقد كانت الأجهزة الإلكترونية التي يستخدمها كل من الطرفين هي العامل الحاسم في تحديد نتائج المعركة، وسوف يستمر الصراع في الحروب القادمة بين الطائرة والقذيفة. ولن يستطيع أي منهما أن يلغي وجود الطرف الآخر. وليست هناك إجابة مطلقة تحدد من سينتصر ومن سينهزم- سينتصر من يملك الأفضل نوعا.. ستنتصر الطائرة إذا سلحت بقذائف جو ارض SAM أبعد مدى من قذائف SAM وكانت تملك أجهزة إلكترونية تستطيع بها ان تبطل عمل الأجهزة الإلكترونية المعادية عموما والتي تساعد في توجيه القذائف SAM بصفة خاصة. وستنتصر القذائف SAM على الطائرات المعادية إذا كانت هذه الطائرات غير مسلحة بقذائف جو ارض SAM ذات مدى يزيد على مدى القذائف ارض جو وإذا كان لدى الدفاع الجوي أجهزة إلكترونية تستطيع ان تبطل مفعول الأجهزة الإلكترونية المعادية سواء الإيجابي منها ام السلبي.
تطور قواتنا الجوية بعد هزيمة يوليو 67:
كانت خسائرنا في الطيارين خلال حرب يوليو 67 قليلة، حيث إننا خسرنا قواتنا الجوية في هذه الحرب بينما كانت ما تزال رابضة على ارض المطارات مما وضعنا في موقف يسمح لنا بإعادة بناء قواتنا الجوية في وقت أسرع مما لو كنا قد فقدنا الكثير من طيارينا. ومع ذلك فلم يكن من السهل إعادة بناء قواتنا الجوية بشكل يسمح لها باللحاق بمستوى قوات العدو او تضييق الفجوة بين القوات الجوية الإسرائيلية والقوات الجوية المصرية، كانت القوات الجوية الإسرائيلية تسبقنا بعشر سنوات على الأقل. كان طيارينا اقل عددا واقل خبرة حيث ان خلق الطيار الكف عمل اكثر صعوبة من شراء الطائرات لأنه يحتاج إلى 5 سنوات على الأقل، ثم يحتاج بعد ذلك إلى 5 سنوات أخرى لكي يصل إلى قمة كفاءته. في خلال عام 1971 كان عدد الطائرات ميج 21 التي لدينا يزيد على عدد الطيارين، وذلك علاوة على قيام الروس بتشغيل 80 طائرة ميج 21 مصرية بطيارين سوفييت .
لقد بدأت عملية إعادة بناء القوات الجوية في الأسابيع الأولى بعد هزيمة 67 تحت ظروف بالغة الصعوبة، فقد كان على الطيارين القدامى ان يكونوا على استعداد دائم للإقلاع بطائراتهم كواجب من واجبات الدفاع الجوي، وكان عليهم في الوقت نفسه ان يقوموا ببعض الرحلات التدريبية لتدريب أنفسهم أو لتدريب الطيارين البدء ونتيجة لإرهاقهم زادت نسبة الحوادث بينهم أثناء التدريب زيادة كبيرة مما اضطر القيادة العامة إلى التخفيف من الواجبات الملقاة على عاتقهم سواء بالنسبة لواجب العمليات أم بالنسبة لسـاعات التدريب وبينما كانت قواتنا الجوية تمر بهذه الظروف الصعبة كانت القوات الجوية المعادية تتطور تحت ظروف مواتية بل مثالية. لقد كانوا في وضع يسمح لهم بالاطمئنان وعدم الخوف من أية هجمة جوية معاديه، وبالتالي فلم تكن هناك ضغوط على طياريهم للقيام بأعمال المناوبة المستمرة في الدفاع الجوي وكانت لديهم الخبرة والفن، وكانوا يأخذون الوقت الكافي في التدريب وتدريب طيارين جدد، وبالإضافة إلى ذلك كله كانت لديهم الطائرة الفضلى والأسلحة والأجهزة الإلكترونية الفضلى. تحت كل هذه التحديات بدأت القيادة العامة للقوات المسلحة في إعادة بناء القوات الجوية منذ الأسابيع الأولى لهزيمة يونيو67. كان البناء يتم في جميع الاتجاهات استعدادا للمعركة التالية: كان تدريب الطيارين يجرى على قدم وساق، كانت القواعد الجوية يجرى بناؤها في أماكن متفرقة من القطر، كانت الملاجئ الخرسانية تبنىّ في القواعد لحماية الطائرات والطيارين من أي هجوم جوي مفاجئ، كانت عملية الدفاع الجوي والأرضي عن المطارات في تطور مستمر، كانت المجهودات تبذل في كل اتجاه بإعادة بناء قواتنا الجوية.
المهندسون وتامين الدفاع الجوي:
أن تطوير وبناء الدفاع الجوى في مصر قد ألقى بمشكلات ومسئوليات جديدة على عاتق المهندسين، فقد قاموا ما بين عامي 68 و 73 بأعمال ضخمة لصالح الدفاع الجوي إذ بنوا للقوات الجوية حوالي 500 ملجأ من ملاجئ الطائرات في حوالي 20 قاعدة جوية عسكرية وذلك علاوة على ملاجئ الطيارين وغرف العمليات والمستشفيات وجميع الخدمات الأخرى داخل تلك القواعد الجوية.
أما قوات الدفاع الجوي فقد حظيت بالنصيب الأكبر من مجهودات المهندسين، حيث تم بناء المئات من مواقع الصواريخ ارض جو SAM ومهدت مئات الكيلومترات من الطرق لربط هذه الشبكة داخليا وخارجيا. أما القوات البحرية والقوات البرية، فقد كانت متطلباتهما من الدفاع الجوي اقل بكثير من متطلبات القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي، حيث إنها كانت تعتمد أساسا على الملاجئ الخفيفة، ان من الصعوبة بمكان حصر الأعمال الهندسية التفصيلية التي قام بها المهندسون لتأمين القوات المسلحة المصرية ضد الهجمات الجوية المعادية بين 67 و 73، ولكن من الممكن تصورها من حجم الأعمال التالية التي تم تنفيذها خلال هذه الفترة:
30 مليون متر مكعب من أعمال الردم والحفر
3 ملايين متر مكعب من الخرسانة
2000 كيلومتر من الطرق
100 ألف ملجأ من الملاجئ الخفيفة 2×4 أمتار أو ما يعادلها.
سحب الوحدات السوفيتية وأثره على الدفاع الجوي:
بحلول منتصف عام 1972 كان من الممكن القول ان الدفاع الجوي قد وصل إلى مستوى مقبول، وفجأة وقع ما لم يكن في الحسبان عندما قرر الرئيس السادات دون ان يستشير أحدا من رجال القوات المسلحة طرد جميع الوحدات السوفيتية الموجودة في مصر في يوليو 72. كانت جميع الوحدات الروسية التي في مصر هي وحدات تقوم بواجب الدفاع الجوي، حيث كان السوفيت يقومون بتشغيل 30% من الطائرات ميج 21 التي تقوم بالدفاع الجوي وكانوا يقومون بتشغيل 20% من كتائب الصواريخ ارض جوSAM، كما كانوا يقومون بتشغيل الغالبية العظمى من الوحدات الإلكترونية وكانت بعض المعدات الإلكترونية ممتلكات سوفيتية متطورة لم يوافق السوفيت على بيعها لنا على اعتبار إنها على درجة عالية من السرية. وهكذا غادرت هذه المعدات الإلكترونية مصر مع الوحدات السوفيتية، وقد اثر قرار سحب هذه القوات السوفيتية على قدراتنا في الدفاع الجوي تأثيرا كبيرا، ومع ذلك كان من الواجب علينا ان نعمل بجد لتخفيف هذا الأثر بقدر المستطاع. لقد استطاعت قوات الدفاع الجوي (أقصد وحدات الصواريخ ارض جو SAM) ان تهيئ الأفراد المدربين اللازمين لتشغيل كتائب الصواريخ التي كان يقوم الروس بتشغيلها وذلك بحلول نهاية 72، أما القوات الجوية فقد عانت مرة أخرى من المشكلة القديمة وهي زيادة عدد الطائرات على عدد الطيارين، وقد دفعني هذا الموقف لأن اطلب من كوريا الشمالية ان تمدنا بعدد من الطيارين المدربين على قيادة طائرات الميج 21 فاستجابت لهذا الطلب وأرسلت لنا 20 طيارا وصلوا إلى مصر في شهر يوليو 73، ولهذا الموضوع قصة.
الطيارون الكوريون في مصر:
في خلال مارس 73 كان نائب رئيس جمهورية كوريا الديمقراطية في زيارة رسمية لمصر، وكان يرافقه في الزيارة الجنرال زانج زونـج Zang Zong نائب وزير الدفاع الكوري. الذي أبدى رغبته في أن يزور جبهة قناة السويس، وفي يوم 6 من مارس توجهت معه إلى الجبهة وفي خـلال الرحلة أخذنا نتناقش ونتبادل الرأي في الموضوعات العسكرية، وقد تحدثت له عن متاعبنا بخصوص إعداد الطيارين وان لدينا ميج 21 اكثر مما نستطيع تشغيله، ولاسيما بعد ان سحب السوفيت حوالي 100 طيار كانوا يقومون بتشغيل 75 طائرة، ثم انتهزت الفرصة وقلت له "ترى هل يمكنكم ان تمدونا بعدد من طياري الميج 21؟ أن ذلك سيكون ذا فائدة مشتركة للطرفين من ناحيتنا فإنكم ستحلون لنا مشكلة النقص في الطيارين وتسهمون في الدفاع الجوي، ومن ناحيتكم فأن طياريكم سيكتسبون خبرة قتالية ميدانية لأن الإسرائيليين يستخدمون نفس الطائرات ويتبعون نفس التكتيكات التي ينتظر من عدوكم المنتظر في المنطقة أن يستخدمها ويتبعها". سألني عن عدد الطيارين الذين نحتاج إليهم، فقلت له: إننا لا نتوقع منكم ان تملأوا الفراغ الذي تركه السوفيت ولو أنكم أرسلتم سربا واحدا لكان كافيا. وإذا احتاج الأمر مستقبلا لإرسال سرب آخر، فإنه يمكن بحث ذلك فيما بعد. كنا نتناقش كعسكريين ولكن كنا نعلم جيدا أن هذا الموضوع يحتاج إلى قرار سياسي من الطرفين، وقد وعد كل منا الآخر ان يبذل جهده في إقناع الجانب السياسي عنده لاتخاذ القرار المطلوب.
لم أجد أنا أية صعوبة في إقناع وزير الحربية ولكنه أخبرني بأنه سوف يستأذن أولا رئيس الجمهورية ، وبعد ذلك بعدة أيام وافق الرئيس السادات على الفكرة وجلست انتظر الرد الكوري بعد حوالي أسبوعين من رحيل الوفد الكوري عاد الجنرال زانـج زونـج مرة أخرى إلى مصر واخبرني بأن الرئيس الكوري كيم أيل سونج Kim IL Song وافق هو الآخر، ولكنهم يدعونني إلى زيارة رسمية إلى كوريا لمعاينة الطيارين بنفسي قبل إرسالهم إلى مصر، وفي يوم 2 من ابريل 73 بدأت رحلتي إلى بيونج يانج Piong Yang عاصمة كوريا الشمالية.
كانت رحلتي تمر بشنغهاي في الصين نظرا لعدم وجود أية خطوط جوية مبـاشرة إلى بيونـج يانج، ولذلك قررت الحكومة الصينية مشكورة أن تستضيفني لمدة ثلاثة أيام قبل أن اصل إلى بيونـج يانج يوم 6 من أبريل. لم تكن زيارتي للصين زيارة رسمية ومع ذلك فقد احتفي الجـانب الصيني بي وبالوفد المرافق لي احتفاء كبيرا، فقد أقام رئيس أركان حرب القوات المسلحة الصينية حفل عشاء على شرفي تبادلنا خلاله الآراء حول بعض الموضوعات العسكرية والسيـاسية، كما نظمت لي بعض الرحلات الترفيهية، فقمت بزيارة سور الصين العظيم في أقصى الشمال، وزرت الملاجئ العديدة التي أعدتها الصـين لمقاومة أي هجوم نووي، كما زرت مترو أنفاق بكين الجديد والعديد من المتاحف. إن البساطة والاعتماد على النفس وإنكار الذات التي لمستها في الشعب الصيني وفي قيادته السياسية خلال إقامتي القصيرة في الصين ستبقى دائما من الذكريات الحية التي لا يستطيع الزمن أن يمحوها من الذاكرة.
استقبلت في بيونج يانج استقبالا حماسيا وأحيطت الزيارة بهالة كبيره من التكريم والتشريف كنت أينما ذهبت- سواء أكان مؤسسة عسكرية او مصنعا في مغارة داخل الجبل الخ- أقابل بآلاف من الناس يرحبون ويغنون ويلوحون بالأعلام، وبعد هذا الاستقبال الحار يبدأ الأفراد في استعراض خبراتهم وفنهم الذي كان يزيدني إثارة وفي إحدى الزيارات حضرت بيانا عمليا عن ضرب نار تقوم به وحدة من وحدات الحرس الوطني المكلفة بأعمال الدفاع الجوي، كانت الوحدة جميعها من الشابات الصغيرات، كن صغيرات الحجم حتى اعتقدت إنهن دون الخامسة عشرة ولكن قيل لي إنهن في الثامنة عشرة او اكثر، كانت نتائج تدريبهن ممتازة وعندما قمت بتفقدهن بعد انتهاء المشروع التدريبي قلت لهن: "أني أشكركن على ما اظهرتنه من كفاءة في ضرب النار وليس عندي ما أستطيع ان اعبر به عن تقديري سوى ان أهديكن تلك "البيريه" التي ألبسها ثم خلعت "البيريه" القرمزية الخاصة برجال المظلات والتي كنت البسها أثناء الزيارة وسلمتها إلى قائد الوحدة".
هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن كوريا الشمالية وعن رئيسها IL Song Kim إن ما أمكن تحقيقه خلال السنوات العشرين الماضية في هذه البلاد يعتبر شيئا من الصعب تصديقه، انهم لم يعيدوا بناء بلادهم فقط بعد ان هدمتها الحرب الأهلية، بل استطاعوا أن يعتمدوا على أنفسهم في كل شئ، انهم اصبحوا قادرين على إنتاج الغالبية العظمى مما يحتاجون إليه عسكريا ومدنيا، انهم ينتجون الدبابة والمدفع والجرار والماكينة الخ.. وإذا كانت الصين بمواردها الطبيعية الهائلة وبعدد سكانها الكبير قد استطاعت ان تعتمد على نفسها في تطوير نفسها دون عون خارجي من الدول المتقدمة (2)، فإن كوريا الشمالية التي كان تعدادها 15 مليون نسمة فقط تعتبر مثالا فريدا لما يمكن ان تقوم به دولة صغيرة من عمل نحو تطوير نفسها دون الاعتماد على أي عون خارجي. إن الشعب الكوري بأكمله قد نظم وكأنه في ثكنة عسكرية كبيرة، ففي الساعة السابعة صباحا نرى التلاميذ الصغار وهم يحملون الفؤوس وأدوات الحفر الصغيرة التي تتناسب مع أحجامهم وهم يغنون أثناء سيرهم إلى منطقة العمل التي سوف يعملون فيها. إن كل فرد في الدولة سواء أكان كبيرا أم صغيرا يتحـتم عليه ان يؤدي ساعات محددة من العمل اليدوي لمصلحـة الدولة دون اجر. وتطبيقا لذلك فإن رصف الطرق وصيانتها وإنشاء الأنفاق والملاجئ إلى غير ذلك من المنافع العامة يتم إنشاؤها طبقا لجدول عمل ينظم هذا المجهود البشري الضخم، وقد استـفاد الكوريون من طبيعة بلادهم الجبلية ومن وفرة الأيدي العامة في بناء الأنفاق الواقية من القنابل الذرية، وقد نقلوا إلى هذه الأنفاق مصانعهم وحتى مطاراتهم، فقد شاهدت اكثر من مصنع في باطن الجبل كما شاهدت مطارا كاملا لا يظهر منه سوى ممر الإقلاع، أما جميع المنشات الأخرى، فقد كانت في باطن الجبل، لقد كان عملا رائعا يدعو إلى الانبهار حقا. عندما قابلت الرئيس Kim IL Song قلت له: "سيادة الرئيس.. إذا قامت حرب نووية فأخشى ان يدمر العالم بأجمعه وألا يبقى سوى كوريا الديمقراطية". ضحك الرئيس وقال: "اسمع يا سيادة الفريق.. أنا أعرف تماما أنني لا أستطيع ان أتحدى الأمريكيين في الجو، لذلك فإن الحل الوحيد الباقي هو تلافي ضرباتهم الجوية ببناء الأنفاق ثم بعد ذلك نقوم بغمر سمائنا بنيران المدافع والرشاشات". (3)
قمت بالتفتيش ومعاينة الطيارين الذين تقرر سفرهم إلى مصر، لقد كانوا من الطيارين ذوي الخبرة الجيدة وكان الكثيرون منهم لديه ما يزيد على 2000 ساعة طيران، وتم الاتفاق على ان تصرف لهم مرتبات بالجنيه المصري تتطابق تماما مع رواتب الطيارين المصريين. وقد وعدت الرئيس كيم إل سونج بأني شخصيا سأشرف على راحتهم وأننا لن نزج بهم في معركة داخل إسرائيل او فوق الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وأن عملهم سيقتصر على الدفاع الجوي عن العمق، وقد طلبت من الرئيس الكوري أن يبعث لنا ببعض الخبراء في الأنفاق حتى يمكننا الاستفادة من خبراتهم فوافق على ذلك، وعدت إلى مصر يوم 15 من أبريل بعد رحلة من أمتع الرحلات التي قمت بها.
وبمجرد عودتي إلى القاهرة، قمت بتشكيل مجموعة من المهندسين ليكونوا نواة لفرع جديد في الهندسة يطلق عليه "فرع الأنفاق" وفي أول مايو وصل الفريق الكوري من خبراء الأنفاق حيث مكث في مصر لمدة ثمانية أيام قام خلالها بإجراء دراسات ميدانية مع فريق المهندسين المصريين، وعندما زارني الوفد للتحية قبل العودة إلى بلاده قال لي رئيسه: "إن رئيس مجموعة المهندسين المصريين لديه خبرة نظرية ممتازة في الأنفاق ولكن تنقصه الخبرة العملية". كانت الدراسات والتوجيهات التي قدمها خبراء الأنفاق الكوريون مفيدة للغاية، وبعد سفرهم مباشرة قمت بتشكيل مجموعة عمل هدفها وضع التصميم الخاص ببناء مطار في باطن الجبل. كنت ألتقي مع هذه المجموعة مرة كل اسبوع او كل أسبوعين لأناقشهم فيما أمكن التوصل إليه. وعندها قامت حرب أكتوبر 73 كانت المجموعة مازالت تعمل في رسم المشروع ووضع تفصيلاته، وكنا قد أحرزنا تقدما كبيرا في هذا الصدد. كنت احرص على الاجتماع الدوري بهذه المجموعة لسببين: السبب الأول هو اهتمامي بالموضوع،والسبب الثاني هو لون من ألوان الخداع بأن الحرب ليست وشيكة الوقوع، إذ يمكن أن يتصور أن يضيع (ر.ا.ح.ق.م م) جزءا من وقته لوضع تصميم مطار قد يحتاج إنشاؤه إلى خمس سنوات بينما تكون الحرب وشيكة الوقوع. كان من ضمن مجموعة العمل هذه أحد ضباط فرع العمليات في قيادة القوات الجوية. وعندما شاهده اللواء حسني مبارك مشغولا بجمع المعلومات وصنع الرسومات وكان ذلك قبل بدء العمليات بأقل من أسبوعين، نهره وقال له: أليس عندك ما هو أهم من ذلك. فرد عليه قائلا: ان الفريق الشاذلي هو الذي طلب منه ذلك، فتعجب حسني مبارك وقال له سوف أسال رئيس الأركان لأتحقق مما تقول، وعندما قابلني حسني مبارك بعد ذلك بيومين حكى لي القصة وضحكنا نحن الاثنين.
في أوائل يوليو 73 بدا الطيارون الكوريون في الوصول، وقد اكتمل تشكيل السرب الذي يعملون به خـلال شهر يوليو، وفي 15 من أغسطس أذاع راديو إسرائيل ان هناك طيارين كوريين في مصر، فاتصل بي الدكتور اشرف غربال المستشار الصحفي لرئيس الجمهورية، وسألني عن صحة الخبر، فأخبرته بأن الخبر صحيح ولكن إذاعته وعدم إذاعته هو قرار سياسي ولاسيما ان هناك دولة أجنبية أخرى يجب استطلاع رأيها قبل إعلانه، والآن وبعد مرور خمس سنوات على هذه القصة وبعد ان عاد الكوريون واصبح تدعيمهم لنا وقت الحرب جزا من التاريخ، فقد قررت ان أحكي القصة بكاملها حتى يعرف شعب مصر كل من وقفوا معه وقت الشدة ان أمريكا وإسرائيل والاتحـاد السوفيتي يعلمون حقائق الدعم الكوري، ان الطيارين اثناء تدريبهم اليومي يتحدثون باللاسلكي باللغة الكورية مع أعضاء التشكيل ومع الموجهين الأرضيين، وفي استطاعة أية إدارة مخابرات أجنبية ان تسجل هذه المحادثات، وإذا كان كل من يهمهم الأمر يعرفون، فلماذا نخفي هذه الحقائق عن شعب مصر وعن الشعب العربي؟
إن التجريدة الكورية التي أرسلتها كوريا الشمالية الى مصر تعتبر من اصغر التجريدات التي أرسلتها دولة إلى دولة صـديقة أخرى في تاريخ الحروب. لقد كان عدد هذه التجريدة 30 طيارا و 8 موجهين جويين، و5 مترجمين و 3 عناصر للقيادة والسيطرة وطبيبا وطباخا، كانت القاعدة التي خدموا بها تضم 3000 مصري، وكان المصريون يديرون شبكات الرادار والدفاع الجوي والدفاع الأرضي عن القاعدة وجميع الشئون الإدارية الخاصة بالسرب، وقد زرت تلك القاعدة عدة مرات لأتأكد من عدم وجود مشكلات ولكني كنت دائما أجد ان كل شئ يسير على ما يرام،كانت العلاقة بين الكوريين والمصريين تسير على احسن ما يرام. كان الكوريون بالنسبة لرجالنا شخصيات غريبة، فقد كان الطيارون يعتمدون على أنفسهم في كل شئ، انهم ينظفون أماكن سكنهم بأنفسهم ويشغلون أنفسهم دائما بشيء ما. فأحدهم إما ان يكون في مهمة تدريبية او انه يقوم بالدراسة او بأعمال رياضية.. ليس لديهم أي وقت للفراغ، وليست لديهم أية متاعب ادارية يشكون منها، وقد وقع اشتباكان او ثلاثة بين الطيارين الكوريين والإسرائيليين قبل حرب أكتوبر ووقع الكثير خلال الحرب نفسها.
نصب كمين دفاع جوي لطائرة إسرائيلية:
ان إسرائيل لم تحترم قط أي قرار لوقف إطلاق النار فيما يتعلق باستخدام قواتها الجوية، انهم كانوا يودون ان يذكرونا دائما بتفوقهم الجوي فكانوا يتعمدون دائما ان يخترقوا مجالنا الجوي، كانوا ينتخبون قطاعات اختراقهم بعناية فائقة بحيث يتفادون دائما الدخول ضمن مرمى نيران صواريخنا المضاد للطائرات وبالتالي فقد كانوا دائما يدخلون ويخرجون دون ان ينالوا أي عقاب، وقد ضقت ذرعا بهذه اللعبة وقررت ان ألقنهم درسأ في ذلك.
لقد كانت مواقع صواريخنا ارض جو تبعد حوالي 15-20 كم غرب القناة لكي تكون خارج مرمى مدفعية ميدان العدو، وقد كان ذلك يحد من مدى قدرتنا على إسقاط الطائرات التي تطير شرق القناة وكان العدو يقوم بعملية استطلاع إلكتروني بصفة دورية بواسطة طائرة ستراتو كروزر محملة بأجهزة إلكترونية بالغة الدقة والحساسية. كانت هذه الطائرة ترصد وتحـدد جميع مواقع صواريخنا وراداراتنا وأجهزتنا الإلكترونية وهي تطير على ارتفاع متوسط في خط مواز للقناة وشرقها بحوالي 3 كم، وكانت بذلك تضمن ان تكون خارج مدى صواريخنا. وباتفاق سري بيني وبين اللواء محمد علي فهمي قائد الدفاع الجوي قررنا أن ننصب كمينا لهذه الطائرة وذلك بأن ننقل ليلا إحدى كتائب الصواريخ إلى موقع متقدم يقع غرب القناة بحوالي 5 كم. ثم يقتنص الطائرة الإسرائيلية عند مرورها المعتاد، تم تجهيز الكمين واتصل بي اللواء محمد علي فهمي يوم 16 من سبتمبر ليؤكد استعداده لتنفيذ المهمة ويطلب التصديق النهائي على تنفيذ المهمة فصدقت عليها.
وفي تمام الساعة 1511 يوم 17 من سبتمبر 71 كانت طائرة الاستطلاع الإلكتروني، ذلك الهدف الثمين، قد أصبحت أشلاء صغيرة متناثرة جنوب البحيرات (4) انسحب الكمين بسرعة بعد إسقاط الطائرة المعادية، وأخذت أعد العدة لمقابلة الانتقام المنتظر من العدو فرفعت درجات الاستعداد في القوات الجوية والدفاع الجوي وبعض عناصر القوات الأرضية والبحريه. كان رد فعل العدو سريعا وفوريا، فقد جاء في اليوم التالي مباشرة أي في يوم 18 من سبتمبر، ولكن كان واضحا ان رد العدو يتميز بالعصبية وسوء التقدير. لقد قامت طائراته بإطلاق قذائفها جو أرض SAM طراز شرايك من مسافة 10 كم شرق القناة على مواقع راداراتنا التي كانت على بعد حوالي 20 كم غرب القناة فلم تتمكن أية قذيفة من الوصول إلى هدفها. لقد كان واضحا ان الطيارون كانوا يخشون الاقتراب من القناة إلى مسافة تقل عن 10 كم خوفا من وجود كمين أخر، فكان ذلك في حد ذاته يعتبر نصرا لنا، كما ان استخدامه للقذائف Shrike كانت فرصة جيدة لتدريب قواتنا، كنا نعلم ان العدو لديه هذه القذائف وكانت لدينا خطط لمقاومتها، وكنا ننتظر الفرصة لتجربة هذا الأسلوب في مقاومة القذائف "شرايك" فأعطانا العدو هذه الفرصة مما أكد لنا نجاح الأسلوب الذي كنا قد أعددناه لذلك.
العدو ينصب لنا كمينا جوياً:
في يوم 13 من يوليو 72 وفي تمام الساعة 1619 اخترقت طائرتان إسرائيليتان من طراز فانتوم مجالنا الجوي في منطقة راس العش وتوغلت في اتجاه الدلتا، و أقلعت طائرتان مصريتان من طراز ميج 21 من مطار المنصورة لاعتراض الطائرتين الإسرائيليتين. هربت الطائرتان المعاديتان في اتجاه البحر بينما استمرت طائرتانا في مطاردتهما، وفجأة وقعت طائرتانا في الكمين الجوي الذي اعد لهما والذي لعبت فيه الطائرتان المعاديتان دور الطعم لسحبهما إلى منطقة الكمين، وفي الوقت الذي اكتشف فيه القائد المناوب في غرفة العمليات وجود الكمين المعادي على شبكة الرادار كان الوقت قد فات لتحذيرهما او لتدعيمهما، دفعنا ثماني طائرات ميج 21 أخرى لتعزيز طائرتينا السابقتين ولكن العدو كان قد أسقطهما وغادر المكان قبل وصول تعزيزاتنا إلى المنطقة.
إن هذه القصة تبين المشكـلات التي تعترض المسئولين عن الدفاع الجوي. أن العدو يستطيـع دائما ان يخترق أجواءنا، فإذا لم نقم باعتراضه فإنه سيزداد غرورا وصلفا، وإذا نحن أردنا ان نقوم باعتراضه بسرعة فإننا ندفع بطيارينا إلى السماء دون أية خطة لمقابلة خصم قد خطط وجهز واعد لكل شئ عدته. ولتلافي وقوع مثل هذه الأحداث مرة أخرى اصدرت تعليمات جديدة تنظم الخطوات التي تتبع في حالة الاختراقات الجوية المعادية، وكانت هذه التعليمات تشمل النقاط الأساسية التالية:
1- تتخذ طائراتنا أوضاعها على شكل مظلات جوية في المناطق السابق تحديدها.
2- يتم تقييم الموقف بهدوء وتفكير بدلا من مجرد مطاردة طائرات العدو دون أية خطة.
3- لا يسمح بالدخول في معركة جوية من موقف غير متكافئ.
وقد أراد العدو أن يكرر الأسلوب نفسه بعد ذلك بيومين فقام باختراقات على طول منطقة البحر الأحمر بعد ظهر يوم 15 من يوليو، ولكن تعليماتي السابقة كانت نافذة ولم تبتلع قواتنا الجوية الطعم الذي كان يعرض عليها.
دفاعنا الجوي يسيطر على سماء القناة:
في يوم 24 من يوليو 72 حاول العدو ان يستفيد من الأنباء الخاصة بطرد الخبراء السوفيت من مصر، فاقترب بطائراته من القناة بأكثر مما كان يسمح به لنفسه في الماضي فأسقطنا له في الساعة 1645 من هذا اليوم إحدى طائراته التي كانت تطير على مسافة 10 كيلومترات شرق القناة ومنذ ذلك الحين اصبح لا يقترب بطائراته إلى مسافة تقل عن 14 كم من القناة وفي يوم 10 من أكتوبر 72 حاول ان يكسر هذه القاعدة فاقترب بأحد تشكيلاته من القناة فأطلقنا عليه قذيفتي ارض جو. فطاشت إحداهما وأسقطت الثانية إحدى الطائرات كان يبدو أن العدو يحاول اختبار أسلوب جديد في الهجوم لأنه حاول في الوقت نفسه ان يعوق عن العمل راداراتنا المخصصة للإنذار وراداراتنا المخصصة لإدارة النيران، لقد كانت فرصة تدريبية لكلا الطرفين.
وفي يوم 28 من يوليو 73 حاول العدو الطيران مرة أخرى فوق المنطقة غير المسموح بها، فاسقطنا له في الساعة 1612 إحدى طائراته ومنذ ذلك الوقت وحتى حرب أكتوبر في العام نفسه لم يحاول طيران العدو قط أن يقترب إلى القناة مسافة تقل عن عشرة كيلومترات لقد فرضنا سيطرتنا الجوية فوق هذه الشقة من الأرض بواسطة صواريخنا ارض جو. وهكذا مهدنا الظروف لعملية العبور التي كنا نعد لها.
الفصل الحادي عشر: موقف القوات البحرية
لم تتحمل قواتنا البحرية خسائر تذكر خلال حرب يوليو 67 وبعد أقل من أربعة أشهر من وقف إطلاق النار خلال تلك الحرب قامت قواتنا البحرية بتـوجيه ضربة قوية إلى القوات البحرية الإسرائيلية وذلك بإغراقها المدمرة إيلات، لقد كانت إيلات تقوم بأعمال الدورية على السواحل الشمالية لسيناء المواجهة لبور سعيد. وكـانت خلال مهمتها تقترب أحيانا حتى مسافـة 5 و 6 أميال من بور سعيد، وقد صدرت الأوامر إلى سرب بحري زوارق الصواريخ بإغراق هذه السفينة إذا تجاوزت حدود 12 ميلا. وفي يوم 21 من أكتوبر 67 قامت السفينة باختراقها المعهود، فظل سرب الصواريخ صامتا إلى أن أصبحت على مسافة 9 أميال فأطلق عليها مقذوفين سطح سطح SSM فأغرقها، ويعتبر هذا التاريخ ذا أهمية كبيرة في تطور الحروب البحرية بصفة عامة وفي تاريخ بحريتنا بصفة خاصة، فعلى الرغم من أن القوارب كومار والقذيفتين اللتين استخـدمتا في إغراق إيلات كـانت جميعها سوفيتية الصنع إلا ان المصريين كانوا أول من يستخدم هذه الصواريخ في الحروب البحرية في تاريخ العالم.
لقد احدث إغراق ايلات- وهي قطعة بحرية كبيرة بواسطة قارب صغير- تغييرا كبيرا في تصور المفكرين بالنسبـة للحروب البحرية القادمة، وقد كان التأثير كبيرا في إسرائيل نفسها" فمنذ هذا التاريخ أخـذت إسرائيل تبنى قواتها على أساس أن القوارب الصغـيرة السريعة والمسلحـة بالصواريخ سطح سطح هي أساس القوة الضاربة البحـرية الإسرائيلية، وقد بدأت إسرائيل بشراء 13 قاربا من طراز سعر SAAR من فرنسا وسلحـته بصواريخ جبريل التي قامت بتصنيعها محليا، وفي الوقت نفسه بدءوا في بناء نوع جديد من القوارب السريعة في ترسانة حيفا، واطلقوا عليه اسم Reshef وقد قامت إسرائيل بتدشين أول قارب من هذا النوع يوم 19 من فبراير 73، ومنذ ذلك التاريخ وهي مستمرة في بناء هذه القوارب بمعدل قاربين في كل عام، وبنهاية عام 78 أصـبح لديها 12 قاربا من هذا النوع، وقد تم تطوير القذيفة جبريل SSM. بحيث يصل مداها إلى40 ميـلا. وسلح كل من القوارب سعر وريشيف وتبلغ حمولة القارب ريشيف 413 طنا ويحمل 7 قذائف جبريل. ومداه 1500 ميل. و أقصى سرعة له هي 32 عقدة في الساعة، وطاقمه 45 رجلا، وقد قامت إسرائيل أيضا ببناء قوارب أخرى صغيرة حمولة إحداها 35 طنا وطاقمه 6 أفراد وأطلقوا عليه اسم الدبور Dabur ،تجهيز هذا القارب لأغراض مختلفة، فمنها ما يجهز بأنابيب لإطلاق الطوربيد، ومنها ما يجهز بالرشاشات، ومن مزايا هذه القوارب أنها صممت على أساس إمكان نقلها برا. وهكذا فإن إسرائيل تستطيع نقلها من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر والعكس باستخدام ناقلات برية (1).
وعلى الرغم من قوارب سعر التي اشترتها إسرائيل من فرنسا وعلى الرغم أيضا من خطة إسـرائيل لبناء القوارب، فقد كانت قواتنا البحرية متفوقة على القوات البحـرية الإسرائيليـة من حيث الكم والكيف خلال الفترة ما بين 67 و 73، ولكن نظرا للتفوق الجوي الإسرائيلي فقد أصبحت قواتنا البحرية عاجزة عن الحركة بل وأحيانا كنا عاجزين عن توفير الحماية الجوية لها، وهي داخل موانئها. ومن هنا فلم تكن هناك حاجة ماسة لتطوير وتدعيم قواتنا البحـرية، ما الفائدة التي يمكن ان نجنيها من زيادة قدرة قواتنا البحـرية في الكم والكيف إذا كـانت هذه القوات لا تسـتطيع أن تعمل في ظل تفوق جوي مضاد إن النظرة الواعية من وجهة نظر مصـر هي التركـيز أولا على الدفاع الجوي والقوات الجوية قبل الانتقال إلى مرحلة تقوية القوات البحرية، ونتيجة لهذا التفكير المنطقي فإن القوات البحرية المصرية لم تتطور خلال تلك الفترة إلا نادرا وبالنسبة فقط لبعض المعدات التكميلية، ولا أعتقد أنه من الحكمة العمل على تطوير القوات البحرية الآن إلا بعد حل مشكلة الدفـاع الجوي، لقد كنا حتى أكتوبر 73 نستطيع أن نتحرك ليلا، حـيث يقل تأثير القوات الجوية المعادية. أمـا بالنسبة لحروب المستقبل، فإن القوات الجوية الإسرائيلية تستطيع أن تحرم قواتـنا البحـرية حتى من التحرك ليـلا. إن الطائرات الإسرائيلية طراز F4 ، وكفير و F16 المسلحة بقذائف جو ارض SAM تستطيع أن تصيب أية سفينة معاديـة نهارا او ليلا وهي على مسـافة 110 كم إذا استخدمت قذيفة هاربون Harpoon ومن مسـافة 60- 80 كم إذا استخدمت Condor الأمريكية أو قذيفة LOZ الإسرائيلية، وليس هناك من وسيلة لمقابلة هذا التهديد سوى باعتراض الطائرات المعادية وإسقاطها قبل أن تصبح مقذوفاتها جو سطح في مدى قطعنا البحرية (حوالي 110 كم) ونظرا لضيق الرقعة التي تفصل إسرائيل عن مصر فإن هذا الوضع لا يمكن ان يتحـقق إلا إذا حصلت مصر على السـيطرة الجوية، وهذا سوف يعيدنا مرة أخرى إلى ان تقوية الدفاع الجوي والقوات الجوية يجب أن تأتي في المقام الأول قبل التفكير في تقوية وتطوير القوات البحرية.
الفصل الثاني عشر: تطور خطة التعبئة العامة
يمكن القول أن خطة التعبئة العامة في مصر حتى منتصف 1972 كانت تعتبر من أسوأ خطط التعبئة في العالم، وأني لا ألقي اللوم في ذلك على أحد، وذلك لعدة أسباب: السبب الأول هو عدم توافر السلاح، فقد كان السلاح دائما من القلة بحيث لا يكاد يكفي احتياجات القوات العاملة، وتحت هذه الظروف فإن بناء جيش كبير من الاحتياطي دون ان يكون لدى الدولة السلاح التي تستطيع ان تسلح به هذا الجيش، يعتبر مجهودا ضائعا. أما السبب الثاني، فهو اضطرارنا في مصر- نتيجة السيطرة الجوية للعدو- إلى الاحتفاظ بقوات أرضية كبيرة في الجيش العامل، وذلك لحماية أهدافنا المتعددة في العمق ضد جماعات العدو المنقولة جوا او المنقولة بحـرا، ونتيجة لهذا فإنه لا يمكننا كما هو الحال في إسرائيل مثلا- أن نحتفظ بنسبة قليلة من قواتنا المسلحة في الجيش العامل وان نبقى الجزء الأكبر من قواتنا المسلحة في الاحتياط، ففي إسرائيل تمثل القوات العاملة حوالي 30ـ40% من حجم قواتها المسلحة وتستطيع ان تعبئ قواتها المسلحة الآن (1978) في خلال 24 ساعة، وتعتمد إسرائيل على قواتها الجوية المتفوقة في ستر وحماية عملية التعبئة العامة إذا ما فوجئت بهجوم مباغت كما حدث خـلال حرب أكتوبر 073 أما بالنسبـة إلى مصر فنظرا لضعف قواتها الجوية فإنها إذا ما فوجئت بهجوم مباغت وكان حوالي 60% من قواتها المسلحة في الاحتياط فقد تجـد نفسها في موقف صعب للغاية، وقد يتم حسم المعركة قبل ان تكتمل التعبئة. أما السبب الثالث والأخير الذي دعا المصريين إلى عدم الاهتمام الكبير بموضوع التعبئة فهو القرار الخاص بإيقاف النقل إلى الاحتياط (عدم تسريح الجنود عند قيامهم بإتمام مدة الخدمة الإلزامية) اعتبـارا من عام 1967 واستمرار سريان هذا الأمر حتى منتصف يوليو 1972، وبالتالي فقد اختفي العنصر الأساسي لتكوين القوات الاحتياطية. عندما وصلت قواتنا المسلحة العاملة خلال النصف الأول من عام 72 إلى حوالي مليون رجل بدأت الحكومة تطالب بضرورة تسريح جزء من القوات المسلحـة ممن طالت مدة تجنيدهم التي وصل بعضها إلى ما يزيد على 6 سنوات وكانت الحكومة ترمي من وراء ذلك إلى ثلاثة أهداف. كان الهدف الأول هو التوفير، والهدف الثاني هو الاستفادة من الكثير من عناصر المثقفين المجندين في القوات المسلحة، فقد كان من بينهم الكثيرون من الأطباء والمهندسين والمعلمين الخ.. ممن تحتاج إليهم الدولة سواء للخدمة داخل مصر أو لإعارتهم للدول العربية التي كانت في حاجة ماسة إلى خدماتهم. أما الهدف الثالث، فقد كان يرمى إلى رفع معنويات المجندين- ولا سيما خريجي الجامعات- الذين طالت مدة خدمتهم دون أن يعرفوا متى سوف تنتهي. كان الكثيرون منهم يتوقون إلى أن يبنوا مستقبلهم أو يؤسسوا أسراً وكانوا يؤجلون ذلك عاما بعد عام والآن اصبحوا يقولون لنا بصراحة "متى؟حددوا لنا تاريخ انتهاء خدمتنا في القوات المسلحة حتى نستطيع أن نرتب حياتنا"، وهكذا اتخذ القرار خلال شهر يوليو 72 بأن نقوم بتسريح 30000 رجل من القوات المسلحة في الأول من يوليو 72.
في ظل هذه الظروف الجديدة وجدت نفسي مضطرا لدراسة خطط التعبئة في مصر وفي البلاد الأخرى المشهورة بكفاءة خطط تعبئتها وهي السويد وسويسرا وإسرائيل، وقد اتضح لي أن خطة التعبئة المصرية مليئة بالعيوب ويمكن تلخيص العيوب الرئيسية فيما يلي:
1- كان تسجيل البيانات سيئا للغاية، وكان نتيجة ذلك التسجيل السيئ أنه عندما يستدعى أحد جنود الاحتياط فإنه كثيرا ما طلب إليه العمل في وظيفة لم يؤهل لها وأن يستخدم سلاحا لم يسبق له أن تدرب عليه.
2- كانت تذاكر التسجيل وحفظها وبالتالي استدعاء جندي الاحتياط يتم على أساس مكان ميلاد الشخص ولا يحدد طبقا لمكان سكن الفرد بعد تسريحه من الخدمة، وبالتالي فلم يكن من السهل العثور على الفرد والاتصال به لاستدعائه.
3- لم تستخدم الأجهزة الحديثة مثل العقل الإلكتروني (الكمبيوتر Computer)، بل كانت التعبئة تتم بواسطة الأعمال اليدوية وهو عمل شاق ويحتاج إلى وقت طويل، ونتيجة لذلك- وتحت ضغط عامل الوقت- كـان يتم الاستدعاء بأعداد اقل مما هو مطلوب بالنسبة لبعض التخصصات وبأعداد اكثر مما هو مطلوب بالنسبة لتخصصات أخرى.
4- كانت خطة التعبئة المصرية- نظرا لعدم حبك أطرافها- تعتمد على المركزية الشديدة فقد كان على كل جندي احتياطي أن يصل إلى مركز التعبئة في القاهرة حيث تصرف له البندقية كسـلاح شخصي وتصرف له مهماته العسكرية ثم يرحل بعد ذلك إلى مراكز تدريب الأسلحة المختلفة (مشاة مدرعات مدفعية .. الخ) وبعد قضاء فترة تدريب مركزة في مراكز التدريب هذه يتم ترحيله إلى الوحدة التي سيخدم فيها (1)، وهكذا يجد الفرد نفسه في وحدة لا يعرف فيها أحدا ولا يربطه بها أي نوع من الحب او الذكريات انه غريب بين مجموعة من الغرباء.
5- كان الضباط العاملون الذين يشكلون كوادر هذه الوحدات الاحتياطية ينتخبون من أضعف المستويات وكانت الغالبية العظمى منهم من الضباط المشاغبين أو ذوي المستوى الضعيف في التدريب أو الانضباط العسكري ممن رفضتهم وحداتهم رغبة في التخلص منهم، وهكذا فإن هؤلاء الضباط يذهبون إلى تلك الوحدات الاحتياطية بقلوب كسيرة وبمعنويات منخفضة فيضيفون مشكلات جديدة لهذه الوحدات بدلا من العمل على حل مشكلاتها.
وبعد دراسة خطة التعبئة السويسرية استبعدتها لسببين: السبب الأول هو أن الحكومة السويسرية تسمح للجندي المسرح بأن يحتفظ بملابسه وسلاحه الشخصي في مسكنه، وهذا موضـوع لا يمكن أن تسمح به القيادة السياسية المصرية،أما السبب الآخر فهو أن الأغلبية العظمى في القوات البرية السويسرية- نتيجة لطبيعة أرضها الجبلية- هي من جنود المشاة الذين يمثلون اسهل المشكلات في موضوع التعبئة، وبدراسة تفاصيل خطة التعبئة الإسرائيلية اتضح لي إنها تعتمد أساسا على أسلوب التعبئة السويدية بعد إدخال بعض التعديلات إليها لكي تتمشى مع طبيعة إسرائيل العدوانية.
كانت خطة التعبئة السويدية تعكس الفكر العسكري السويدي. كانت خطة التعبئة تخدم خطة دفاعية ثابتة، أن جميع الأسلحة الثقيلة من دبابات ومدافع وعربات الخ في مخازن متفرقة في المناطق التي سوف تعمل فيها طبقا للخطة، كان جميع الأفراد الذين سيقومون بتشغيل هذه الأسلحة يعيشون فعلا في المناطق التي سيعملون فيها وعلى مسافات قريبة من أماكن تخزين الأسلحة والمعدات التي سوف يقومون بتشغيلها، ويجري باستمرار تعديل أفراد الوحدة طبقا لانتقال الفرد من مكان لآخر. فلو فرضنا مثلا إن شخصا ما كان يعمل في شمال البلاد، وكان بالتالي ينتمي إلى وحدة ستعمل في الشمال، ثم نقل هذا الفرد إقامته الدائمة إلى الجنوب فإنه يتم نقله من كشوفات وحدته في الشمال إلى وحدة قريبة من مقر عمله. ومما لا شك فيه أن هذا الأسلوب يعتبر أسلوبا رائعا في كثير من مظاهره، إنه يخفض وقت التعبئة إلى اقل وقت ممكن ويخفف الضغط على وسائل المواصلات المطلوبة لنقل كل فرد من مكان إقامته إلى وحدته. إن معظم أفراد الوحدة يعرفون بعضهم بعضاً لأنهم جميعاً يعيشون بصفة دائمة في منطقة واحدة. ومن الممكن استدعاؤهم سنويا للتدريب في يسر وسهولة نظرا لقرب الأفراد من مكان الاستدعاء كما انه يمكن توقيت الاستدعاء في التوقيتات المناسبة، بحيث لا يؤثر على الإنتاج (2). وأخيرا فإن هذا الأسلوب يثبت في ذهن الفرد بأنه لا يقاتل في سبيل وطنه فقط، بل إنه يدافع أيضا عن كيانه الشخصي. أنه يدافع عن منزله وعن أسرته وأرضه، وإذا اكتسحها العدو فإنه سوف يخسر كل شئ، وبالتالي فإنه يكون أكثر حماسا وأكثر إقبالا على الفداء. وعلى الرغم من هذه المزايا كلها فإن خطة التعبئة السويدية كان بها بعض العيوب، إذ تنقصها المرونة وتظهر بوضوح خطة البلاد الدفاعية مما يمكن العدو المهاجم من استغلال نقاط الضعف فيها.
وبعد هذه الدراسات قررت أن تعتمد خطة تعبئتنا أساسا على بعض أفكار الخطة السويدية مع إدخال بعض التعديلات التي تتمشى مع ظروفنا الحربيـة والسـيـاسيـة والاقتصـادية، فلم يكن من الممكن أن تتم التعبئـة جغرافيا وأن يدافع كل فرد في إقليمه لأن الهجمة الصهيونية التي تتعرض لها مصر تأتي من اتجاه سيناء ولذلك يجب علينا أن نحشد جميع مواردنا في هذا الاتجـاه أما بخصوص إنشاء الوحدات الاحتيـاطية، فقد رأيت أن من الأفضل أن تشكل هذه الوحدات من دفعات متعدد ة على مدى 9 سنوات وهى المدة التي يحددها قانون التجنيد المصري للخدمة في الاحتياط أي أن حجم القوات الاحتياطية في نهاية 9 سنوات من بدء تنفيذ الخطة يصل إلى ما يعادل حجم المسرحين في خلال 9 سنوات أي ما يعادل حوالي 1,5 مليون رجل، ثم يجري بعد ذلك تغيير تسع هذه القوة سنويا، وذلك بإنهاء خدمة القدامى نهائيا من الخدمة في وحدات الاحتياط على أن تحل محلهم عناصر جديدة من الجنود المسرحين حديثا من الخـدمة في القوات العاملة. وكمرحلة انتـقالية تسبق تشكيل الوحدات الاحتياطية وجدنا انه يمكن للوحدات العاملة أن تعمل بنسبة استكمال 85-90% من مرتباتها من الأفراد بعد نقل بعض أفرادهـا إلى الاحتياط ، أي أنه في حالة نقل عدد من أفراد من وحدات الجـيش العامل إلى الاحـتيـاط فان هذه الوحدة العاملة تحتفظ بوظائف هؤلاء المجندين المنقولين إلى الاحـتياط شـاغرة طالما كان هذا النقص يتراوح ما بين 10-15% من قوة الوحدة في كل تخصص. وعند التعبئة يعود الفرد إلى وحدتـه التي كان يعمل بها وإلى وظيفته التي كان يشغلها، وكأنه كان في إجازة طويلة من الوحدة.
وتطبيقا لهذه الأفكار الجديدة اتخذنا الإجراءات التالية:
1- قمنا بإدخال تعديلات جوهرية في أسلوب التسجيل بحيث أمكن به تلافي جميع العيوب السابقة.
2- أدخلنا نظام الميكنة والكمبيوتر ووضعنا البرامج التي تخدم جميع مطالبنا، وبذلك أصبح بإمكاننا أن نستدعي أي عدد محدد نطلبه، سواء أكان ذلك طبقا للوظيفة أم طبقا للوحدة أم تاريخ التجنيد أم التخصص أو السلاح. الخ..
3- افتتحنا 100 مركز تعبئة (الهدف النهائي هو إنشاء 350-400 مركز تعبئة بحيث يتوافر مركز واحد لخدمة كل تجـمع سكاني يبلغ 000, 100 نسمـة، وبحيث لا تزيد المسافة بين المركز وبين أبعد منطقة يخدمها على 10 كيلومترات أيهما أفضل).
4- عندما ينقل أي فرد إلى الاحتياط فإنه يذهب إلى مركز التعبئة المخصص له، حيث يقوم بتسليم مهماته العسكرية وينهي جميع علاقاته بالقوات المسلحة.
5- يتم استدعاء الفرد عن طريق مركـز التعبئـة، وفي هذه الحالة يتوجه الفرد إلى المركز حيث يتسلم مهماته العسكرية ويترك ملابسه المدنية ثم يسافر فورا إلى وحدته طبقا لما يلي:
أ- خلال المرحلة الانتقالية فإنه يتوجه مباشرة إلى وحـدته الأصلية في القوات العاملة، حيث يستلم العمل نفسه الذي كان يقوم به قبل النقل إلى الاحتياط.
ب- بعد أن تنتهي الفترة الانتقالية فإنه ينتقل من مركز التعبئة إلى منطقة حشد الوحدة، حيث تكون الأسلحة والمعدات الخـاصة بالوحـدات الاحتيـاطية في التخزين، ويتم تشكيل الوحدة في هذا المكان قبل أن تتحرك لتنفيذ واجبها في العمليات. ويلاحظ هنا أن نظامنا يختلف عن الأسلوب السويدي الذي يعتمد أساسا على التعبئة جغرافيا في حين أننا نجمـع بين الأساس الجغرافي واتجاه العمليـات المستـقبلة، فقد أخذنا بالمبدأ الجغرافي فيما يتعلق بالفرد وأخـذنا بمبدأ اتجاه العمليات بالنسـبة للأسلحة والمعدات الثـقيلة، لأن نقل الفرد أسهل بكثـير من نقل الأسلحة والمعدات ولاسيما الثقيل منها.
وبمحض الصدفـة كان رئيس أركان حرب القوات المسلحـة السويدية في زيارة خـاصة لمصر في أواخر شهر يونيو، فلما علمت بوجوده دعوته للغداء يوم 26 من يونيو 72 في نادي الضباط، وفي أثناء تناول الغداء تحدثت معه عن أسلوب التعبئة في السويد وأخبرته أني قرأته وأعجبت به ولكن هناك بعض التساؤلات التي أريد أن استطلعها والتمست منه الموافقة على أن أرسل ضابطين مصريين إلى السويد لإجراء دراسة ميدانيـة على هذا الأسلوب لاستيضاح النقاط التي مازالت خـافية علينا.
إعتذر (ر.ا.ح.ق.م) السويدية بأدب جم وقال إنه يخشى إن هو قبل ذلك أن يكون هذا التصرف خرقا لموقف السـويد الحيادي الذي تحرص عليه كل الحرص، وقد سارعت بالاعتذار له لأنني فاتحته في هذا الموضوع ورجوته أن يعتبر الموضوع منتهيا. وفي 4 من أغسطس من العام نفسه وصلني منه كتاب من السويد مرفق بمطبوعات كثيرة عن نظام التعبئة في السويد، يعلمني فيه بأنه يوافق على حضور ضابطين مصـريين لاستكمال الدراسة الميـدانية في السويد لمدة أسبوعين. وعلى الفور قمنا بدراسة المطبوعات الجديدة بعناية وأعلنت عن مسابقة لاختيار هذين الضابطين، وفي 14 من أكتوبر 72 أقلعا إلى استكهولم ، وبعد عودتهما ناقشتهما فيما شاهداه ورأياه فازددت يقينا من أننا كنا نسير في الاتجاه السليم.
تم تطبيق الخطة الجديدة للتعبئة على كل من ينقل إلى الاحتياط اعتبـارا من شهر يونيو 1972 ، وكان عددهم 30,000 (3)، ولكن للأسف لم نتمكن من تطبيق هذا النظام على تلك الدفـعة بنسـبة 100% نظرا لأننا لم نتمكن من إنشـاء مراكز التعبئـة المائة التي كنا نريد إنشاءها قبل الأول من يونيو 72، أما الدفعات التاليـة، فقد تم تطبيق النظام الجديد عليـها 100%. ولتصـحيح وضع دفعة يونيو 72 قمنـا باستدعائها في الفترة ما بين 5-10 من أكتوبر 72، وتم تصحيح أوضاعها طبقا للنظام الجديد. كان أجمالي المسرحين من دفـعة يونيو 72 ودفعة ديسمبر 72 ودفعة يونيو 73 حوالي 100,000 رجل وأصبح في إمكاننا استدعاء هذا العدد الضخم و إشراكه في القتال في فترة تتراوح بين 24 و 48 ساعة فقط.
أعلنا أن الاستدعاء لمدة أسبوع واحد التزمنا بما وعدنا به وهكذا تولدت الثقة بين الجميع، وأصبحت فترات الاستدعاء هذه فرصة طيبة لتدريب جهاز التعبئة وإعادة تدريب وصقل جنود الاحتياط والأهم من ذلك كله تعود العدو على عمليات التعبئة لأغراض التدريب دون أن يشعر بالقلق. وفي يوم 27 من سبتمبر بدأنا عملية التعبئة الحقيقية بطلب استدعاء 70,000 رجل، وفى يوم 30 من سبتمبر طلبنا استدعاء 50,000 رجل أخر، ولكي نخدع العناصر العميلة التي تراقب أعمالنا قمنا بتسريح 20,000 رجل يوم 4 من أكتوبر من الدفعة الأولى التي استدعيناها يوم 27 سبتمبر، وهكذا سارت الأمور في يسر وسهولة وابتلع العدو الطعم الذي كنا نقوم بإعداده منذ مدة طويلة وفوجئ بالحرب يوم 6 من أكتوبر دون أن يشـعر بتعبئة 100,000 رجل. والآن يجب أن نتساءل: لو لم يكن لدينا هذا الأسلوب المحكم في التعبئة، هل كان من الممكن أن نستدعي هذا العدد الضخـم من الأفراد دون أن يشعر العدو وبالتالي تضيع منا المفاجأة التي لعبت دورا مهما في تحقيق نجاح عبور قناة السويس ؟ ".
الفصل الثالث عشر: تدريب القوات
التدريب العام والخاص:
بالإضافة إلى مسئولية (ر.ا.ح.ق.م.م) بصفة عامة عن مستوى التدريب في القوات المسلحة فهو مسئول بصفة خاصة عن تدريب القيادات التي تليه مباشرة (1)، وابتداء من هزيمة يوليو 67 أعطى الاسم الكودي (تحرير) متبوعا برقم لكل مشروع يقوم به (ر.1.ح. ق.م.م) لتدريب أية قيادة من تلك القيادات سواء أكانت مجتمعة أم كـان المشروع يخص إحداها، وقد كان أول مشروع أتولى إدارته بموجب منصبي هو "تحرير 18" الذي بدأ في 21 من مايو 71، وكان آخرها هو "تحرير 35" الذي بدا في 24 من يونيو 73، وهذا يعنى أنني قمت بإدارة 18 مشروعا تدريبيا لهذه القيادات خلال 25 شهراً، وكان كل مشروع يستغرق حوالي 3-6 أيام، وكان يفترض مواقف من المنتظر أن يواجهها القادة خلال الحرب الفعلية، وكنت أعيش هذه الفترة بين القوات والقيادات واقطع صلتي بالأعمال الروتينية الكثيرة التي كـانت تفرضها على واجبات وظيفتي. كنت اشعر بالسعادة العظيمة خلال تلك الأيام لأني كنت أعيش الحياة التي أحببتها دائما وهي حياة الضابط الميداني وأتخلص -و لو مؤقتا- من الأعمال الروتينية المتعددة.
لقد كنت دائما واحدا من القادة الميدانيين الذين يهتمون اهتماما كبيرا بالتكتيكات الصغرى. إن افضل الخطط ليس من الممكن تنفيذها إذا عجز الجندي أو الضابط الصغير عن تنفيذ الجزء الخاص به، لذلك فإن كل قائد- مهما كان حجم القوات التي تحت قيادته- يجب ألا يفقد الاتصال بينه وبين الجندي الفرد الذي هو أساس القوات المسلحـة: إنه الحجر الذي يمكن به أن نبني اضخم بناء إذا صلح الجوهر، ولا نستطيع أن نبني به أي شئ إذا كـان الجـوهر سيئا، وإن هؤلاء القادة الذين إذا علت مراتبهم اعتمدوا على القادة المرؤوسين واكتفوا بقيادة قواتهم عن طريق الهاتف والخريطة هم اعجز أنواع القادة. كنت عن طريق زياراتي الكثيرة للوحدات وحديثي مع الجنود وتوجيه بعض الأسئلة إليهم أستطيع أن ألمس نقاط الضعف لديهم وبالتالي اتخذ الإجراءات اللازمة لإصلاحها، وللتغلب على نقاط الضعف هذه أصدرت 8 كتيبات و 53 توجيهاً خلال فترة عملي (ر.أ.ح.ق.م.م) إن التجربة العملية هي الحكم الفصل في صلاحية أية فكرة ولم يحدث قط إن اعتمدنا أي سلاح جديد أو فكرة جديدة دون أن يمرا في مرحلتين كانت المرحلة الأولى هي اخـتبار السلاح أو المعدة أو الفكرة، وتكرار هذه التجارب عدة مرات، وإجراء الكثير من التعديلات بغرض الوصول إلـى افضل النتائج قبل أن نعتمدها بصفة نهائية. أما المرحلة الثـانية فهي قيامنا بإجراء بيان عملي ندعو إليه مئات من المختصين لحضور التجربة لتعليمهم الأسلوب الصحيح لهذا الاستخدام، وقد حضرت مئات التجـارب ومئات البيانات العملية التي كانت تجري تحت ظروف مشابهة لما ينتظر أن نقابله خلال العمليات الحربية. وفيما يلي بعض الموضوعات المهمة التي قمنا بعمل الكثير من التجارب عليها والكثير من البيانات العملية (2).
1- فتح الممرات في السـد الترابي، بناء الكباري وتشغيل المعديات نهارا وليلا (أعوام 71 و 72 و 73).
2- تأثير النيران العائمة على العبور (الأعوام 71 و 72).
3- كتيبة مشاة تقوم باقتحـام مانع مائي في القوارب وتتسلق السـاتر الترابي ومعها أسلحتها ومعداتها (الأعوام 71 و 72 و 73).
4- أثر المدفعية المتوسطة والهاونات الثقيلة على التحصينات الشبيهة بخط بارليف (الأعوام 71 و72 و73).
5- اختبار وتطوير القاهر والظافر (الأعوام 71 و 72).
6- كتيبة برمائية ولواء برمائي يعبر مسطحا مائيا (الأعوام 72 و 73).
7- اسـتخـدام أجهزة الرؤية الليليـة تحت الحمـراء، وضوء النجوم، والزيتون، والأنوار الكاشفة (ألأعوام 72 و 73).
8- استخدام أشعة الليزر في تقدير المسافة، وقد تمت هذه التجربة قبل بدء العمليات ببضعة أشهر، ولم نتمكن من إدخال هذا الأسلوب في دباباتنا قبل بدء القتال في أكتوبر 73.
9- القاذفات TU-16 تقوم بإطلاق قذائف على أهداف من بعد 100 كم (مايو 73).
التدريب بالمغامرة Adventure Training:
التدريب بالمغامرة هو اصطلاح معروف في بعض الجيوش الغربية، ولاسيما القوات البريطانية، ولكنه موضوع لم يكن معروفا في القوات المسلحة المصرية، إلى أن أدخلت هذا الأسلوب التدريبي في قواتنا المسلحة خلال عام 1972 وكان قد سبق لي أن تعلمت هذا الأسلوب عندما كنت ملحقا عسكريا في لندن خلال الأعوام 61-63. وتتلخص فكرة هذا النوع من التدريب في النقاط التالية:
1- قيام القادة الأصاغر مع جنودهم ببعض الرحلات بعيدا عن وحداتهم وقادتهم يولد فيهم روح الاعتماد على النفس والابتكار واتخاذ القرارات.
2- إن التحرك خارج الثكنات العسكرية أو المعسكرات المستديمة سوف يولد نوعا من الألفة بين الضابط وجنوده ويساعد على إظهار الأخلاق الحقيقية التي قد تبقى كامنة أو مختفية في ظل التجمعات الكبيرة.
3- أن هذه الرحلات يجب أن تكون محببة للنفس وليست جافة فهي تجمع ما بين التدريب والترفيه مثل زيارة جهات نائية بها بعض الآثار أو زيارة بعض المناطق السياحية والترفيهية.
أصدرت توجيها ينظم هذا النوع من التدريب وبموجبه اصبح من حق الوحدة القائمة بهذا النوع من التدريب أن تستخدم الحملة العسكرية وان تصرف لها التعيينات والإسعافات الأولية، وكان على قائد كل فصيلة تقوم بهذا النوع من التدريب أن يقدم تقريرا مكتوبا عن الرحلة وان تمنح مكافآت تشجيعية لأفضل تقرير يقدم في كل تشكيل. ولكي أعطي أهمية كبيرة لهذا المشروع أعلنت أنني شخصيا سأطلع على تقارير الدفعة الأولى التي تقوم بهذا النوع من التدريب وكان افضل التقارير التي قدمت ألي هو تقرير الملازم أول عاطف عبد الباقي السيد، وقد طلبت حضوره إلى مكتبي يوم 25 من سبتمبر 72، ومعه قائد فرقته حيث شكرته وقدمت له جائزة على تقريره.
الفصل الرابع عشر: رفع الروح المعنوية للقوات المسلحة
الروح المعنوية بعد هزيمة يونيو 67:
إن رفع الروح المعنوية لجيش مهزوم هو عملية شاقة ولاسيما إن كـانت أسباب الهزيمة غير معروفة. لم تكن الحقائق عن أسباب هزيمة يونيو 67 معروفة للشعب المصري، فقد كان الشعب حائرا بين ما يسمعه من أقوال متناقضة، فقد كـانت القيادة السياسية تلقى باللوم على القيادة العامة للقوات المسلحة، بينما كانت القيادة العامة للقوات المسلحة تشيع سرا أن القيادة السياسية هي المسئولة عن الهزيمة لأنها حرمت على القيادة العسكرية القيام بتوجيه الضربة الأولى وترتب على ذلك قيام إسرائيل بتوجيه الضربة الأولى وتدمير قواتنا الجوية. ومن وجهة نظري فأني اعتقد إن قواتنا المسلحة كـانت سوف تنهزم في عام 67 حتى لو قامت بتوجيه الضـربة الأولى. لقد أخطأت القيادة السياسية والقيـادة العامة للقوات المسلحة كلتاهما في حساباتهما.
وبينما كـان الشعب المصري حائرا بين الآراء المتعارضة حول اسـباب الهزيمة لم يجد صورة يعبر بها عن سخطه سوى أن يلقى باللوم على كل رجل عسكري يراه. كان الناس يستهـزئون من كل رجل يمر في الطريق العام مرتديا ملابس عسكرية وينكتون عليه، وكانت الهزيمة قد أثرت في الروح المعنوية للجنود فجاءت هذه الأستهزاءات من الشعـب لتزيدها هبوطا، وفي ظل هذه الظروف القاسية أخذت القيادة العامة الجديدة للقوات المسلحة على عاتقها رفع الروح المعنوية للرجـال ما بين يونيو 67 وأكتوبر 73. لقد كانت معركة رأس العش دارت يوم أول يوليو 67 هي أول عمل عسكري يعيد الثقة إلى النفوس. سواء على مستوى القوات المسلحـة أم على مستوى الشعب، ففي هذه المعركة قـام رجال الصاعقة المصريون باعتراض قوة إسرائيلية كانت تتقدم شمالا في اتجاه بور فؤاد لاحتلالها فهزموها واضطروها إلى الفرار وبعد اكثر من ثلاثة أشهر وعلى وجه التحديد بتاريخ 21 من أكتوبر 67 قام رجال البـحرية المصرية بإغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات التي كانت تقوم بأعمال الدورية أمام بور سعيد، ثم بدأت حـرب الاستنزاف في سبتمبر 68، ومـا صاحب ذلك من عمليات عبور جريئة قام بها رجال الصاعقة، حيث نصبوا الكمائن وأثاروا الذعر بين صفوف الإسرائيليين واستعادت القوات المسلحة ثقتها الكاملة بنفسها في يونيو 1970 عندما نجحت قوات الدفاع الجوي في إسقاط عشر طائرات إسرائيلية خلال الأسبوع الأول من شهر يوليو عام 1970.
العناصر الأساسية لارتفاع الروح المعنوية:
عندما توليت منصب (ر.ا.ح. ق.م.م) في مايو 71 كانت الروح المعنوية للقوات المسلحة جيدة ومع ذلك فقد كان هناك الكثير مما يمكن عمله في هذا المجال، كان أسلوبي في رفع معنويات الجنود يعتمد على ثلاثة عناصر: العنصر الأول هو المعرفة، والعنصر الثاني هو الإلمام بالقدرات الحقيقية للفرد أما العنصر الأخير فهو أن يكتسب القادة ثقة جنودهم.
العلم والمعرفة:
إن العلم والمعرفة لا حدود لهما فكلما ازداد الشخص معرفة ازداد إلمامه بما يمكن أن يفعله عندما تعترضه المشكلات وعلى سبيل المثال فإن أي سلاح مهما كان حديثا فإنه لا يمكن أن يخلوا من بعض نقاط الضعف. فلو استطاع الفرد أن يعرف نقاط القوة والضعف لكل سلاح من أسلحة العدو فإنه يستطيع بهذه المعرفة أن يتحاشى نقاط القوة وان يهاجم نقاط الضعف وبالتالي فإنه يستطيع أن يحقق افضل النتائج. وينطبق ذلك على أسلوب العدو في القتال وعلى موضوعات أخرى كثيرة، ولتحقيق هذا الهدف اتخذت الخطوات التالية:
1- إجراء 26 "مؤتمر شهري " مع القادة حتى مستوى قائد الفرقة.
2- إجراء 18 "مشروع تحرير" لتدريب القيادات على المشكلات التي ينتظر أن تواجههم أثناء العمليات.
3- إصدار 53 توجيها ثم توزيع الجزء الأكبر منها حتى مستوى سرية.
4- إصدار 8 كتيبات توزع على مستوى الجنود.
5- تنظيم مئات البيانات العملية توضح للقادة والجنود الأسلوب الصحيح للتغلب على مشاكل معينة.
6- إصدار تعليمات إلى هيئة البحوث العسكرية في القوات المسلحة لكي تصدر نشرة شهريه عن أحداث المخترعات الحربية وأن توزع هذه النشرة حتى مستوى كل وحدة.
تقويم القدرات الذاتية:
"رحم الله امرأ عرف قدر نفسـه" هذا هو العنصـر الثاني من عنـاصر القوة والروح المعنوية، فما من أحد يستطيع أن يفعل كل شئ. إن كل شخص له قدرات محـدودة يقف عاجـزا إذا حاول اجتيازها، وان تكليف الفرد بما لا يطيق خطأ بليغ، لأنه سوف يفشل في تحقيق ما يطلب منه وسوف يؤثر هذا الفشل على روحه المعنوية. قال تعالى: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" فكيف ننسى نحن البشر هذه النصيحة الربانية إن المبالغة في القدرات هي غرور قاتل، كان التقليل المتعمد من القدرات الحقيقيـة هو تصرف سيئ أيضا، لذلك يجب أن نقدر لنفسنا وجنودنا وطاقاتنا حق قدرها إذا أردنا النجاح في أعمالنا. ومن هنا فقد كنت دائما أشجع الصراحـة والمناقشة الحرة والنقد الذاتي حتى يمكننا أن نعرف الحقـائق والقدرات، وما كان يدور خلال المؤتمرات الشهرية من مناقشات يوضح لنا كيف كانت الآراء المتضاربة تتصارع بحثـا عن الحقيقة وبحثا عن معرفة حقيقة القدرات سواء بالنسبة لنا أم بالنسبـة للعدو، وإذا كنت قد نجـحت في خلق هذا الشعور بالمسئولية في جميع القيادات المرؤوسة في القوات المسلحة، فأنني لم استطع أن أحقق ما أصبو إليه بالنسبة للقيادات السياسية، وقد كان ذلك من الأسباب الرئيسية للخلاف الذي دار بيني من ناحية، وبين كل من رئيس الجمهورية ووزير الحربية من الناحية الأخرى، كما سوف نرى في الباب السابع من هذا الكتاب.
رفع الروح المعنوية للقوات المسلحة ، صفحه رقم 68
الثقة بين الرئيس والمرؤوس:
إن القائد لا يستطيع أن يكتسب ثقة جنوده بمجـرد الشعارات البراقة أو عن طريق إصدار التعليمات والتوجيهات والنداءات، وإنما عن طريق القدوة الحسنة والعلاقات المتبادلة التي أساسها الصراحـة واحترام الذات إن القائد يستطيع أن يكتـسب ثقة واحترام جنوده إذا توافرت فيه الصفات التي تجتذب الجندي، وأهمها: المعرفة، والشجاعة، والخشونة، والصدق في القول. والعدل بين المرؤوسين، وعدم المحابـاة على أساس القرابة والصداقة. إن الجندي لا يهتم بما يسـمع فهو يعلم بغريزته أن ليس كل مـا يقال حقيقة، ولكنه يرى ويحس بما يدورحوله. إنه لمن السذاجة أن يطلب القائد من جنوده التقشف بينما هو يعيش عيشة مرفهة، انهم سيسمعون، وأدبا سيسكتون، ولكنهم فيما بينهم سينتقدون ويستهزئون. لقد حاولت طوال مدة خدمتي في القوات المسلحة أن اغرس المثل العليا في نفوس الضباط والجنود. فعندما كنت قائداً لمنطقة البحر الأحمر العسكرية 70-71 كنت اسكن في ملجأ 2 متر×4 متر. لقد كان في استطاعتي أن اسكن في فيلا جميلة ولكني فضلت أن أعيش في المستوى نفسه الذي يعيش فيه ضابط برتبة ملازم أو نقيب في القوات المسلحة، لم يحدث قط أن اشتكى لي أحد الضباط أو الجنود من الحياة الشاقة التي يعيشونها لأنهم كانوا يرون بأعينهم كيف أعيش وكيف أشاركهم حياتهم.
وعندما توليت منصب (ر.ا.ح. ق.م.م) حاولت أن اثبت المثل العليا التي كنت أؤمن بها في جميع أرجاء القوات المسلحة لكي اخلق جو الثقة بين الجنود والقائد لم اكن اهتم في ذلك بشخصي لأن خدمتي في القوات المسلحة لمدة 30 سنة سابقة كانت كافية لكـي يعرف الضباط والجنود أخلاقي ومبادئي، فكثيرون منهم إما أن يكونوا قد خدموا تحت قيادتي أو سمعوا من بعض زملائهم الذين خدموا تحت قيادتي. كان همي أن اخلق روح الثقة هذه بين القادة على مختلف المستويات وبين الجنود وبصفة أساسية بين آلاف الضباط الأصاغر وبين جنودهم، ومن بين الإجراءات التي اتخذتها في هذا الاتجاه. موضوع "التدريب بالمغامرة" الذي سبـق الحديث عنه، وكذلك إعادة إدخال الرياضة والمنافسات الرياضية في القوات المسلحة بعد أن كـانت قد أوقفت منذ يوليو 1967. واعتبارا من يناير عام 1972 بدأت المنافسات الرياضية بين 14 قيادة عسكرية رئيسية في 7 العاب. أي انه طوال العام تتم اكثر من 450 مقابلة رياضية، وقد استقبل القادة والجنود هذه المنافسات بحماس شديد، وحققت أكثر من هدف: فقد حطمت الحواجز بين الضباط والجنود، وخلقت روح الفريق، وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت توفر مناسبة ترفيهية لآلاف الضباط والجنود الذين يحضرونها لتشجيع فرقهم الرياضية، لم تتوقف المنافسات الرياضية خلال عام 73 بل ازداد عدد الألعاب التي يجري عليها التنافس وازدادت العلاقة بين الضباط والجنود عمقاً.
بنك الدم الاشتراكي:
كانت مصارف الدم في القوات المسلحة تعتمد في الحصول على الدم على المتطوعين من الجنود والمدنيين لقاء اجـر معلوم مقابل كل زجاجة دم، وكان من الطبيعي ألا يلجأ إلى ذلك إلا الجندي الفقير الذي يضطر إلى أن يبيع دمه لقاء ما يحصل عليه من اجر. لقد شعرت بالخجل والـلاإنسانية عندما علمت مصـادفة بهذا الوضع. وفي عام 73 بينما كنت أبحث موضوع تخزين احتياطي الدم قبل دخول المعركة أصدرت أوامري بإلغاء هذا النظام فوراً، وفرضت على كل ضابط وجندي دون الأربعين من العمر أن يتبرع بزجـاجتين من الدم مرة واحدة خلال فترة خدمته في القوات المسلحة إذا ما كانت حالته الصحية والطبيـة تسمح بذلك. لقد كـانت حساباتي قبل إصدار هذا الأمر تثبت أن هذه الكمية ليسـت كافية لتـغطية احتيـاجاتنا الاعتيادية فقط، بل إنها تكفي أيضاً لخلق احتياطي من "الدم" يكفي ويزيد على كل ما قد نحتاجه خلال المعركة، وحيث إن الدم الطازج يجب أن يحول إلى بلازما بعد مضى 30 يوما، فقد كان مطلوباً منا أن نحصل على الدم يومياً وطبقاً لجدول زمني دقيق على مدار السنة، وهذا ما فعلناه فقد أصدرت "التوجيه رقم 39" وكان عنوانه هو "القوات المسلحة لا تبيع دماءها وإنما تضـحي به من اجل الوطن"، ومع أن التوجيه كان يفرض التبرع على كل من هو دون أل 40 سنة، ومع أني كنت في الخـمسين من عمري، فقد قررت- طبقـا لمبادئي التي تلزمني بان أشارك رجالي في كل شئ- أن افتتح الحمـلة بأن تبرعت بزجـاجتين من دمي يوم 31 من مارس 1973، وقبل أن تبدأ عملياتنا في 6 من أكتوبر كان لدينا 20000 زجاجة من الدم كاحتياطي عمليات.
أن الروح المعنوية للجندي هي محـصلة لمئات العوامل الكبيرة التي لا مـجال لذكرها الآن ولكني أود أن أركز بصـفة خاصة على العناصـر التي سبق أن ذكرتها وهي المعـرفة والإلمام بالقدرات والقدوة الحـسنة. يجب أن يعلم كل جندي بقدراته الحقيقيـة لا أكثر ولا اقل، يجب أن يكون فخوراً في حدود قدراته الحقيقيـة لا قدرات أجداده وأسلافه. إن التفاخر بأن آباءنا قد بنوا الأهرام منذ أكثر من 5 آلاف سنة شئ جميل إذا كان ذلك مقرونا بالتفاخر بقدراتنا الحالية، كما أن التفاخر بأننا عبرنا قناة السويس في أكتوبر 73 شئ عظيم، ولكن بشرط ألا تكون قوتنا العـسكرية اليوم في 78 اقل مما كانت عليه منذ 5 سنوات. إن من يتكلم عن الماضي فقط دون الحاضر هم الضعفاء الذين يريدون أن يعيشوا في أحـلام الماضي ولا يستطيـعون أن يحـسنوا حاضرهم ومستقبلهم. والقدوة الحسنة هي أسـاس النجاح. إن الجندي المصري إذا وجد القدوة الحسنة فإنه يستطيـع أن يحقق العجائب وقد بذلنا الكثير قبل حـرب أكتوبر لخلق هذه القدوة الحسنة على جميع المستويات، ولقد أثبتت الحرب أن مجهوداتنا في هذا الاتجاه قد حققت نجاحاً كبيراً فقد قاتل الجندي المصري، كما لم يقاتل من قبل في تاريخه الحديث، قاتل بشجاعة وروح معنوية عاليـة وأعاد إلى الأذهان قول رسول الله "إذا فتح الله عليكم بمصر فاتخذوا منها جنداً كثيفاً فإن بها خير أجناد الأرض".
الفصل الخامس عشر: أكتوبر 70 حتى مايو 71
مؤتمر الرئيس في ديسمبر 70:
بعد ان تم انتخاب السادات رئيسا للجمهورية في 14 من اكتوبر 70 دعا الى اجتماع مع قادة القوات المسلحة يوم 19 من اكتوبر، وفي هذا الاجتماع أثنى على المرحوم جمال عبد الناصر، ووعدنا بأنه سيسير على هدى خطواته وفى 30 من ديسمبر من العام نفسه حضر اجتماعا أخر مع القادة، ولكن فى هذا الاجتماع كان المتكلم الرئيسي هو الفريق فوزي - وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة- الذي استعرض في تقريره موقف القوات المسلحة المصرية وقدراتها القتالية، وبعد ان أتم الفريق فوزي قراءة تقريره تكلم الرئيس السادات فأكـد انه لن يكون هناك تمديد لوقف إطلاق النار عندما ينتهي اجله في 4 من فبراير 71، وطلب إلينا ان نكون على أهبة الاستعداد لاستئناف العمليات العسكرية بالأسلحة التى في أيدينا (1)، وكان مما قاله السادات "لا تصدقوا الدعاية الأمريكية والإسرائيلية التى تقول إن علاقتنا مع الاتحاد السوفيتي سيئة إنهم يريدونها كذلك ولكنها ليست كما يتمنون ".
مؤتمر الرئيس مارس 71:
في 23 من مارس 1971 عقد الرئيس مؤتمرا عاما للضباط وقد طلب إلى ان أحضر معي 4 ضباط من مختلف الرتب من منطقة البحر الأحمر العسكرية لحضور هذا المؤتمر، وقد بدا الرئيس حديثه بشرح الأسباب التى دعته الى تمديد فترة وقف إطلاق النار التى انتهت فى 4 من فبراير الماضي فقال: "إن جهود مصر الدبلوماسية قد نجحت فى عزل إسرائيل عن العالم فقد تم عزلها عن أمريكا وبريطانيا ودول أوروبا الغربية وإسبانيا وإيران "، وعن موقف إسرائيل قال السادات: "لأول مرة تعترف إسرائيل فى وثيقة رسمية أرسلتها الى السكرتير العام للأمم المتحدة بتاريخ 21 من فبراير 71 بأنها لن تنسحب الى خطوط 4 من يونيو 67، وبذلك وضحت نواياها أمام العالم اجمع "، وعن علاقاتنا مع أمريكا قال: "نحن لا نثق بأمريكا فقد وعدتنا كثيرا ولكنها لم تف بوعودها، وقد أخطرت نيكسون بأننا لا نثق بوعود أمريكا ولكننا على استعداد لأن نثق بالأفعال "، وعن المعركة مع إسرائيل قال السادات: " إن المعركة القادمة هي معركة شعب وليست معركة القوات المسلحة، و يجب علينا أن نحصل على التوازن الدقيق بين مزايا بدء المعركة الآن وبين مزايا الانتظار، وأني أعدكم بأننا لن نقدم ميعاد المعركة يوما واحدا ولن نؤخرها يوما واحدا عن توقيتها الصحيح "، وفى خلال قيام الرئيس بإلقاء كلمته وزع على الحاضرين خريطة تبين الأراضي التي تريد إسرائيل أن تحتفظ بها، والأراضي التي هي مستعدة لإعادتها إلى العرب وقد علق الرئيس على هذه الخريطة وهو يستثير حماس الضباط هل تريدون أن تقبلوا هذا الهوان ؟" ، وكان الرد حماسيا من الجميع "لا- لا لن يكون هذا" (انظر الخريطة رقم 1).
وفي سياق حديثه عن علاقة مصر بالدول العربية هاجم السادات بعنف جميع الدول العربية وخص بهجومه الرئيس هواري بومدين الذي قال عنه " إن الرئيس هواري بومدين قد باع نفسه للأمريكيين، لا سياسيا فحسب بل اقتصاديا. لقد وقع أخيرا مع الشركات الأمريكية عقدا يضمن إمداد أمريكا بالبترول والغاز السائل لعشرات السنين وبذلك سوف يصبح اقتصاد بلاده معتمدا اعتمادا كليا على أمريكا".
مؤتمر وزير الحربية في أبريل 71:
في يوم 18 من أبريل 71 اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحـت رئاسة الفريق فوزي. لم تكن وظيفتي التي أشغلها كقائد لمنطقة البحر الأحمر العسكرية تؤهلني لعضوية هذا المجلس، ولكنى دعيت لحـضور هذا المؤتمر، وقد كان الموضوع الرئيسي لهذا المؤتمر هو بحث موضوع "اتحاد الجمهوريات العربية"، وقد بدأ الفريق فوزي حديثه بمقدمة مفادها عدم علمه المسبق بهذا الإعلان وانه علم به رسميا حوالي الساعة الواحدة صباحا أي قبل إذاعته في الصحف بخمس ساعات فقط، وتساءل عن الفوائد التي يمكن أن نجنيها من هذا الاتحاد ولاسيما أن علاقتنا الحالية مع سوريا طيبة جدا واخبرنا بأنه يوجد اتفاق سري بين مصر وسوريا تم في نوفمبر 70 وبموجبه أصبحت لوزير الحربية المصري سلطة قيادة القوات السورية أيضا، كما اخبرنا بأنه لا يوافق على الحل المقترح بانسحاب إسرائيل الجزئي من الضفة الشرقية (2)، ثم أنهى حديثه قائلا إن آراء الفريق صادق (الذي كان يشغل منصب "ر.ا.ح.ق.م.م " في ذلك الوقت) متفقة تماما مع آرائه وانه طلب حضورنا لكي يستمع إلى وجهة نظرنا في هذا الموضوع.
كان المؤتمر يضم 16 ضابطا بالإضافة إلى سكرتير المجلس الذي يقوم بإجراء التسجيل الرسمي دون أن يطلب إليه إبداء الرأي، وكان ترتيبي في سلم الأقدمية بين الحاضرين هو الثاني عشر. وعلى الرغم من أن هناك تقليدا عسكريا هو أن يستمع لرأى الضابط الأحدث قبل الضابط الأقدم حتى لا يتأثر الضابط الأحدث برأي من هو أقدم منه أو من هو رئيسه، فقد خالف الفريق فوزي هذا التقليد عندما أعلن رأيه قبل أن يستمع إلى أقوالنا، ثم خالفه مرة أخرى عندما بدأ بالاستماع لرأى الأقدم قبل الأحدث ثم خالفه مرة ثالثة عندما تخطى الفريق صادق وسأل من يليه في الأقدمية وذلك ليقنع الجميع أن الفريق صادق متفق معه في الرأي تماما، كما سبق أن قال . هاجم المتحدثون الذين سبقوني جميعهم انضمام مصر إلى هذا الاتحاد وبذلك كانت معركة التصويت قد حسمت فلو أنني والأربعة الذين من بعدي عارضنا هذا الاتفاق فإن ذلك لم يكن ليغير من الأمر شيئا، وعندما جاء دوري في الكلام أيدت الاتحاد وفندت الأسباب المختلفة التي اعتمد عليها الآخرون في معارضتهم له، وشرحت لهم المواد الخاصة بالاتحاد وخرجت بخلاصة وهي "إذا لم يكن هناك نفع لمصر من هذا الاتحاد فإنه ليس هناك أي غرم، ولذلك فأنى أباركه ".
كان تصرفي هذا تصرفا يمليه المبدأ والاقتناع، وان كان يبدو في أعين بعضهم نوعا من الجهل بأصول اللعبة السياسية. لقد كان الجميع في مصر وفي خارج مصر يعلمون أن الرئيس السـادات هو رئيس لا سلطات له وان السلطة الحقيقية كانت في أيدي اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وقد لمح الفريق فوزي في حديثه معنا إلى أن الجهات السياسية العليا ترفض هذه الاتفاقية وانه بعد أن ينتهي من اجتماعه معنا فإنه سوف يتوجه لحضور اجتماع سياسي على أعلى مستوى، وأنه سوف يقوم بإبلاغ هذه الجهات السياسية برأي القوات المسلحة، ومع هذه الإيضاحات كلها ومع وقوف غالبية القادة في القوات المسلحة ضد هذا الاتحاد فقد اخترت أن أقف إلى جانب ما أعتقد الحق مهما سبب ذلك لي من مشكلات. وبينما كنت أقوم بشرح وجهة نظري هاجمني أحد الأعضاء القدامى، ولكن الوزير تدخل وطلب منه عدم مقاطعتي. لقد كانت لفتة كريمة من الوزير ولكنها لم تغير من الحقيقة وهي أني قد اخترت أن أسير في الطريق الصعب، ولكنه كان طريقاً أعتقد أنه كان في صالح مصر. بعد أن أنهيت حديثي تكلم الأربعة الآخرون، فعارضوا الاتفاقية. كان الفريق فوزي سعيداً بهذه النتيجة، وقد عقب قائلاً:"والآن فإنني أستطيع القول بأنكم جميعاً فيما عدا اللواء الشاذلي تعارضون هذا الاتحاد، وسوف أنقل خلاصة رأيكم هذه إلى الاجتماع السياسي المهم الذي سوف اذهب الآن لحضوره. وفى هذه اللحظة تدخل العضو نفسه الذي هاجمني وقال: "أننا لم نسمع رأي السيد رئيس الأركان، ونود أن نعرف رأيه قبل أن ننصرف من هذا المكان ". نظر الوزير إلى الفريق صادق وطلب إليه أن يبدي رأيه، تكلم الفريق صادق بحذر شديد، نظرا لأن طبيعة الشك التي تولدت عند الفريق صادق عندما كان مديرا للمخابرات الحربية قد لازمته عندما اصبح (ر.أ.ح.ق. م.م) كما ظلت تلازمه وهو وزير للحربية كما سنرى فيما بعد. قال الفريق صادق: " إني قلق من نقطتين رئيسيتين: النقطة الأولى هي قيام الاتحاد السوفيتي بتأييد هذا الاتحاد وهذا عمل غير منطقي يثير الشكوك، والنقطة الثانية هي انضمام سوريا إلى الاتحاد بعد التجربة المريرة التي مررنا بها في عام 1958، ثم انفصمت عراها في 1961، ولولا هاتان النقطتان لكنت من المؤيدين لهذا الاتحاد "فرد عليه العضو نفسه الذي طلب منه أن يبدي رأيه قائلا: "إننا نريد إجابة صريحة بنعم أو لا على الاتحـاد في صورته المعروضة،، فرد الفريق صادق بأنه يعارض الاتحاد، وهكذا انتهت المناقشات بان اصبح 15 عضوا في المجلس الأعلى يعارضون الاتحاد وعضو واحد فقط هو الذي يؤيد- وهو أنا- علما بأني لم اكن عضوا دائما في المجلس.
سافرت صباح اليوم التالي إلى مقر عملي في البحر الأحمر، ولكني أخذت اعد نفسي لأسوأ الاحتمالات، كان الصراع على السلطة في مصر قد أصبح يتخذ شكلا حادا. ففي 2 من مايو أذيع بيان جاء فيه أن الرئيس السادات أقال السيد علي صبري من وظيفته كنائب لرئيس الجمهورية ، وكذلك من جميع مناصبه الأخرى، وفي يوم 10 من مايو استدعيت إلى القاهرة لحـضور مؤتمر برئاسة السيد الوزير تقرر عقده صباح اليوم التالي، ولكن عندما ذهبت إلى الاجتماع اتضح أن رئيس الجمهورية هو الذي سيرأس الاجتماع. كان هذا هو الاجتماع الرابع الذي يعقده الرئيس السادات مع قادة القوات المسلحة منذ انتخابه رئيسا للجمهورية في أكتوبر الماضي.
مؤتمر الرئيس في 11 من مايو 71:
كان اجتماع السادات يوم 11 من مايو 71 مختلفا عن جميع اجتماعاته السابقة- كانت لهجته تنم عن التحدي لخصومه السياسيين، وكان يتكلم بثقة اكبر. كان يستخدم كلمة "أنا" كثيرا بعد أن كان في جميع محادثاته السابقة يستخدم كلمة "نحن"، مشيرا بذلك إلى القيادة الجماعية.كان قد أخطرنا في إجتماع 23 من مارس أن قرار تمديد وقف النار في 5 من فبراير 71 قد اقترن بتقديم مبادرة مصرية ولكنه لم يوضح لنا تفاصيل هذه المبادرة (3)، وفي هذا المؤتمر اخبرنا بالأقوال التالية:
1- إعادة فتح قناة السويس، وانسحاب إسرائيل إلى ما هو شرق العريش، وتتم هذه المرحلة خلال مدة 6 أشهر.
2- تبدأ المرحلة الثانية مباشرة ويتم خلالها الانسحاب الإسرائيلي الكامل (4).
3- في أثناء مقابلتي الأخيرة منذ أيام مع المستر روجرز، أخبرته بان شروطي لإعادة فتح القناة ليست قابلة للتفاوض وانه يجب أن تعبر قواتنا القناة وتقيم خطأ دفاعيا في الشرق لتأمين حرية الملاحة بالقناة وان فترة وقف إطلاق النار لإتمام المرحلة الثانية تكون فترة محددة، وقد علق روجرز على ذلك قائلا "لا أحد يمكنه أن يطلب من مصر اكثر من ذلك، لقد ذهبتم إلى ابعد ما تستطيعون!". (5)
4- طلبت من روجرز إجابة محددة عن سؤالي: "هل أمريكا تؤيد إسرائيل في احتـلال أراضينا أم إنها تضمن سلامة إسرائيل داخل حدودها فقط؟" ، وقد سلمت روجرز مذكرة مكتوبة تتضمن جميع هذه التفاصيل.
5- بعد عودة سيسكو (6) من إسرائيل أخبرني بأنهم في إسرائيل يثيرون النقاط التالية:
أ- بعد إعادة فتح القناة هل ستسمح للسفن الإسرائيلية بعبور القناة أم أن ذلك لن يكون إلا بعد انسحابها الكامل ؟
ب- إن مدى انسحابهم شرق القناة يتوقف على طول مدة وقف إطلاق النار، فكلما طالت هذه الفترة زادت إسرائيل من المساحة التي تنسحب منها.
ج - إنهم لا يوافقون مطلقا على عبور قواتنا شرق القناة.
د- انهم يطالبون بتخفيف قواتنا غرب القناة.
هـ- إنهم يرفضون إعطاء أي تعهد بالانسحاب إلى حدود 4 من يونيو 67.
و- أن أي اتفاق يتم التوصل إليه لا يكون نافذا إلا بعد أن يوافق عليـه البرلمان الإسرائيلي.
6- تكلم الرئيس مره أخرى عن علاقتنا مع الاتحاد السوفييتي فقال إنها ممتازة و إن الاتحاد السوفيتي يقوم ببناء مشروعات صناعية في مصر قيمتها 460 مليون دولار، وإن هذا سيمكننا من بناء القاعدة الاقتصادية التي هي أساس الاستقلال السياسي.
7- أشاد الرئيس السادات بالدور الذي تقوم به القوات المسلحة في تدعيم السياسة الخارجية، وذكر أن أمريكا ما كانت لتتحرك وترسل روجرز إلى القاهرة لو لم تكن تعلم بان قوتنا العسكرية قد أصبحت قادرة على تحدي الغرور الإسرائيلي ومصممة على استعادة موقعها القيادي بين الدول العربية. ثم تحدث عن اهتمامه بالقوات الجوية حتى يمكننا أن نتحدى السيطرة الجوية الإسرائيلية، فقال في هذا المجال: " إنني لن أنام وأنا مطمئن البال إلا بعد أن يكون لدينا 1000 طيار".
تعييني رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية:
عدت إلى البحر الأحمر يوم 12 من مايو 71، ولكن الأحداث بدأت تتحرك بسرعة مذهلة. ففي يوم 13 من مايو أعلن عن استقالة الغالبية العظمى من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وكذلك عدد من الوزراء بما فيهم وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، وتبع ذلك أيضا استقالة عدد من أعضاء اللجنة المركزية، وبدا الموقف وكأنه انهيار سياسي. وفي 15 من مايو قام السادات بانقلاب عسكري ضد خصومه السياسيين واشترك في هذا الانقلاب كل من اللواء الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري، والفريق محمد صادق رئيس أركان حرب القوات المسلحة، وكان الرجل الثالث من رجال الانقلاب هو السيد ممدوح سالم وهو ضابط بوليس قضى معظم خدمته في المباحث العامة، وكان آخر منصب شغله قبل الاشتراك في انقلاب السادات هو محافظ الإسكندرية، حيث قام اللواء الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري وتحت قيادته لواء مدرع ولواء مشاة بالدور الرئيسي في الانقلاب، بينما لعب الفريق صـادق (ر.ا.ح.ق.م.م) دور المؤيد للانقلاب، أما ممدوح سالم، فكانت مسئوليته تنحصر في السيطرة على المباحث السرية والبوليس، وتجميع المعلومات عن خصوم السادات السياسين.
مازال هناك الكثير من الأسرار حول انقلاب السادات في 15 من مايو 71: كيف تم ؟ لماذا وكيف سكت 14 قائدا عسكريا اشتركوا مع وزير الحربية في التصويت يوم 18 من أبريل 71 ضد مشروع الاتحاد الذي كان في الحـقيقة تصويتا ضد رئيس الجمهورية؟ لقد قام السـادات بالتخلص من الفريق صادق في أكتوبر72، وهو الآن في مصر لا يستطيع أن يغادرها ولا يستطيع أن يتكلم، أما الفريق الليثي ناصف فقد مات في حادث غامض في لندن يوم 30 من أغسطس 73، أما ممدوح سالم وهو الأقل خطرا لأنه لا يملك القوة العسكرية التي تشكل خطرا على النظام- فقد عين وزيرا للداخلية ثم بعد ذلك رئيسا للوزارة في أبريل 75، ثم لفظه السادات بعد أن حقق أهدافه منه، وكان ذلك في أوائل أكتوبر 78، وبذلك تم التخلص نهائيا من كل من عاونوه في انقلاب عام 1971.
في يوم 16 من مايو عدت مرة أخرى إلى القاهرة التي كنت فيها منذ ثلاثة أيام لأستلام منصبي الجديد كرئيس لأركان حرب القوات المسلحة المصرية، متخطيا بذلك اكثر من 30 ضابطا يسبقوني في الأقدمية العامة. قد يعتقد بعضهم أن هذا التعيين جاء بناء على موقفي في مؤتمر المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي انعقد في 18 من أبريل 71. ولو أخذنا بهذا التفسير لكان منطقيا أن يقوم السادات بالتخلص من جميع الأعضاء الأربعة عشر الذين وقفوا ضده لكي يأمن شرهم، ولكن هذا لم يحدث، كل ما حدث هو أن الشخص الذي هاجم الفريق صادق مرتين خلال هذا المؤتمر قد تم نقله من القوات المسلحة إلى وظيفة مدنية، وكان واضحا أن الفريق صادق وليس رئيس الجمهورية هو الذي وراء هذا النقل، وفي يوم 17 من مايو قابلت رئيس الجمهورية في منزله بالجيزة برفقة الفريق صادق، حيث أشاد بما يعرفه عني من قدرات وإمكانات وانضباط عسكري ولأنه يثق بي ثقة كبيرة ثم أخذنا نتجاذب الحديث نحن الثلاثة في أمور تخص القوات المسلحة لمدة ساعتين تقريبا، انصرفت بعدها لأبدأ مرحلة من العمل المضني الجاد لإعداد القوات المسلحة للحرب، كما جاء في البابين الأول والثاني من هذا الكتاب وكما سوف يجئ ذكره في حينه في الأبواب القادمة.
الفصل السادس عشر: يونيو 71.. مارس 72
مؤتمر الرئيس في 3 من يونيو 71:
في يوم 3 من يونيو 71 اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة الرئيس السادات وقد بدأ الرئيس المؤتمر بشرح ما وصفه بالمؤامرة التي كانت تريد أن تتخلص منه، وخص بالذكر كـلا من الفريق فوزي وأمين هويدي، وشعراوي جمعة، وسامي شرف. ومجدي حسنين.
وبعد ذلك انتقل إلى خط السياسة الخارجية، فقال: " أن استراتيجيتنا يجب أن تكون واضحة لكم، وهى تتلخص في نقطتين: النقطة الأولى هي الحفاظ على علاقتنا مع السوفيت والتمسك بها حتى يمكننا بناء الدولة الحديثة اقتصاديا وعسكريا، إذ أن الحركة الصهيونية هي هجمة صليبية وسوف تستمر عشرات السنين وان صداقتنا مع الاتحاد السوفيتي هي التي سوف تساعدنا في التصدي لهذه الهجمة. أما النقطة الثانية فهي الوحدة العربية. وإننا ملتزمون بهذين الهدفين ونسير قدما في إتمامهما"، وفى تعليقه على زيارة الرئيس بودجورني قال: "لم يحدث مطلقا أن حاول بودجورني أو أي من أعضاء الوفد السوفيتي التدخل في شئوننا الداخلية، ولكن في لقاء خاص بيني وبين الرئيس بودجورنى، سألني لماذا اخترت هذا الوقت بالذات لطرد علي صبري ؟ فقلت له: لقد رأيت أن أعجل بذلك قبل حضور روجرز إلى القاهرة حتى لا يفسر طردي لعلي صبري إذا ما تم بعد زيارة روجرز على انه ثمن صفقة أمريكية، وقد رد على بودجورنى قائلا: " أنهم في القيادة السوفيتية تصوروا هذا التفسير نفسه".
وردا على سؤال بخصوص التنظيم الطليعي أجاب الرئيس "لقد كانت فكرة جمال عبد الناصر في هذا الموضوع هي إنشاء تنظيم من العناصر القيادية الشابة دون أن تعرف أسماؤهم حـتى لا يكونوا هدفا لهجوم عناصر مضادة من داخل الاتحـاد الاشتراكي أو من خارجـه ممن تستبد بهم الغيرة والحقد، وقد كانت هذه العناصر تنتخب من القاعدة حتى القمة، وقد استغلت بعض العناصر-التي كانت تريد أن ترث جمال عبد الناصر- هذا التنظيم لكي تفرض سيطرتها على الشعب فدربتهم عسكريا وهيأت وخزنت السـلاح اللازم لاستخدامه في الوقت المناسب ولحسن الحظ تمكنا من وضع يدنا على السلاح قبل توزيعه عليهم.
وردا على سؤال يتعلق بالشائعات الدائرة حول مطالبة الروس بقواعد عسكرية في مصر أجاب الرئيس:"هذا غير حقيقي، أنا لا أعطي قواعد لأحد، وبهذه المناسبة أود أن أقول لكم إنه أثناء زيارة روجرز الأخيرة فإني أخبرته بأنني سأنشئ أكاديمية جوية وأني سأستعين بالروس لإنشائها وإنني لن أستطيع النوم قبل أن يصبح لدينا 1000 طيار مدرب، قلت له كذلك: إن الأمريكان يعلمون جيدا أننا أصحاب الكلمة في أرضنا، وقد أخبرت روجرز أيضا بأنه إذا فرض علينا الاحتلال الإسرائيلي فإنني سأعيد التفكير في كلمة عدم الانحياز".
وردأ على سؤال خاص بالنواقص التعبوية التي تؤثر على المعركة الهجومية قال الرئيس: "إنكم مطالبون بالعمل في حدود الإمكانات المتاحة لكم، لو إنكم عبرتم القناة واحتللتم عشرة سنتيمترات فقط شرق القناة وأقول ذلك طبعا للمبالغة، فإن ذلك سوف يغير الموقف السياسي دوليا وعربيا".
كنت أقوم بزيارة الوحدات البحرية في الإسكندرية خلال يومي 6 و 7 من يوليو، وكان يرافقني في هذه الزيارة عدد من كبار القادة الذين هم أعضاء في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وقد انتهزت فرصة وجودنا في الإسكندرية لأعرض عليهم أفكاري فيما يتعلق بالمعركة الهجومية المحدودة وذلك قبل انعقاد المجلس بصفة رسمية يوم 8 من يوليو في القاهرة واجتمعنا ظهر يوم 7 من يوليو في الكلية البحرية وشرحت لهم أفكاري عن الحرب المحدودة (2)0 اجتمع المجلس بكامل هيئته في القاهرة برئاسة السيد الوزير يوم 8 من يوليو الساعة 1900 واستمر حتى منتصف الليل، وقد ظهر بصفة علنية- ولأول مرة- التصادم الفكري بيني وبين الفريق صادق بخصوص شكل المعركة الهجومية، فقد كنت أرى أن تخضع الخطة للإمكانات المتاحة، بينما كان الفريق صادق يرى أن نضع الخطة على أساس تحرير الأرض بكاملها - دون التقيد بالإمكانات المتيسرة- ثم نعمل بذلك على تدبير الإمكانات المطلوبة، وذلك كما سبق أن بينت بالتفصيل في الباب الأول.
مؤتمر الرئيس يوم 4 من نوفمبر71:
في يوم 4 من نوفمبر 71 عقد مؤتمر برئاسة السيد الرئيس حضره كل من الفريق صادق وأنا واللواء عبد القادر حسن واللواء بغدادي واللواء محمد علي فهمي واللواء الليثي ناصف والجنرال أوكينيف OKENEV كبير المستشارين السوفيت، وقد امتد المؤتمر من الساعة التاسعة مساء حتى الواحدة بعد منتصف الليل، ودار فيه ما يلي:
1- أدلى الرئيس بما يلي:
أ- اجتمعت أمس بمجلس الأمن القومي وسوف تعبأ جميع موارد الدولة لأغراض المعركة.
ب- سوف أعلن يوم الخميس القادم 11 من نوفمبر سحب مبادرتي لفتح قناة السويس التي كنت قد أعلنتها في 4 من فبراير الماضي تحت شروط خاصة.
ج- قال موجها كلامه إلى الجنرال أوكينيف: "لعلمك، فقد أرسلت إلى أمريكا اخبرهم بأننا سندخل سيناء حتى لو بالبنادق فقط ".
د- أعلن نفسي منذ الآن قائدا عاما للقوات المسلحة (3)، وعليه يجري تخصيص مكتب لي في القيادة (4).
2- أدلى الجنرال اوكينيف بما يلي:
أ- ستصل الطائرات TU-16 ومعها الأطقم اللازمة لتدريب الطيارين والملاحين المصريين فورا (5).
ب- إن المارشال جريشكو - وزير الدفاع في الاتحـاد السوفيتي- يطالب بان يتم تدريب فوج الكوادرات (سام 6) في الاتحاد السوفيتي، حيث إن تسهيلات التدريب لهذا الفوج ليست متيسرة في مصر.
ج- لقد وصلتني من الاتحاد السوفيتي صور عن سيناء التقطتها الأقمار الصناعية السوفيتية، وأني أضعها تحت تصرف القيادة المصرية.
مؤتمر الرئيس في 19 من نوفمبر 71:
في يوم 19 من نوفمبر 71 عقد الرئيس مؤتمرا في قاعدة انشاص الجوية، حضره كل من الفريق صادق وأنا واللواء بغدادي واللواء حسني مبارك واللواء الليثى والسفير السوفيتي في مصر والجنرال اوكينيف، وقد دار خلال هذا المؤتمر الحديث التالي:
الرئيس:
وصلني بيرجس أمسى الأول، وقد قلت له أن خبرتي السابقة معكم تجعلني لا أثق بكم، وإنكم تحاولون تحويل مبادرتي إلى معنى لم اقصده إطلاقا بحيث تصبح لصالح إسرائيل، لقد سبق لهم أن سألوني (يقصد الأمريكيين): إذا سارت عملية الانسحاب طبقا لمبادرتي فهل يمكن تمديد فترة وقف إطلاق النار؟ فأجبتهم بأن ذلك ممكن ويمكننا أن نمدد هذه الفترة ثلاثة أشهر فثلاثة أخرى لمدة أقصاها سنة، ولكني سحبت ذلك كله في مقابلتي أول أمس، وقد سألني بيرجس: "هل أقوم بإبلاغ واشنطن بأنك لا تثق بنا وأنك لن تتفاهم معنا إلا بعد أن ترد إسرائيل على مذكرة يارنج بالإيجاب ؟" فقلت له نعم، وقد أخبرني هو بأنه علم أنه قد وصلتنا طائرات قادرة على إطلاق صواريخ أسرع من الصوت، وأنها مصممة أساسا لضرب السفن الحربية وأن ذلك يقلق حكومة واشنطن لأنه يدخل ضمن حساب توازن القوى بينهما وبين الاتحاد السوفيتي. أخبرته بأني لن أعلن الحرب على أمريكا ولكن يجب أن تعرفوا أن ضرب العمق عندي سيقابل بضرب العمق الإسرائيلي، وقلت له أيضا: يجب أن تخجلوا من أنفسكم، وذكرها الرئيس مرة أخرى باللغة الإنجليزية you should be ashamed of yourself لهذا القلق الذي تشعرون به، إنكم تعطون إسرائيل الفانتوم التي تستطيع بها أن تضرب العمق عندي، ثم تقولون إنكم تشعرون بالقلق عندما أستطيع أن احصل على السلاح الذي يمكنني من ضرب العمق الإسرائيلي.
اللواء بغدادي:
لقد علمت من رئيس المستشارين في القوات الجوية أن سرعة هذه الصواريخ هي 1200 كم في الساعة، وفي اعتقادي أنه ما لم تكن سرعتها تعادل ضعف سرعة الصوت فإن هذه الصواريخ تكون عديمة القيمة.
الجنرال أوكينيف:
هذه معلومات غير صحيحة ثم شرح بعد ذلك أنواع الصواريخ التي تقرر إمدادنا بها وخصائص كل منها، وأني اعتذر للقارئ عن عدم إمكان إذاعة هذه المعلومات.
الرئيس:
أني اقبل تفسير الجنرال أوكينيف.
الجنرال أوكينيف:
إن المشكلة الحقيقية هي تدريب الملاحين. إن كل ملاح يحتاج إلى 500 ساعة تدريبيه.
الرئيس:
لقد استدعى الأمريكيون الجنرال دايان لزيارة أمريكا، ولاشك انهم سيطلعونه على معلوماتهم عن الطائرة TU-16 حاملة الصواريخ، و أخشى أن يقوم العدو بضربة مفاجـئة ليسبقنا بالهجوم، لذلك فإني اطلب من الجانب السوفيتي أن يستطلع لنا سيناء بواسطة الطائرات M500 (8) . وأن يقوم أيضا باستطلاع إسرائيل نفسها بواسطة الأقمار الصناعية.
اللواء بغدادي:
أن الخمسين طائرة ميج MF21 التي قيل إنها ستصل إلينا خلال عام 71 تحتاج إلى 3 اشهر للتركيب، كذلك فإن ورش عمرة (تجديد المحركات وصلاحها بعد فترة تشغيل معينة كما هو الحال في محركات العربات) محركات الطائرات التي يقوم السوفيت بإنشائها في مصر لم يتم الانتهاء منها، وأني أرجو السرعة في إنهاء هذه الأمور.
الرئيس:
اطلب من السيد السفير إبلاغ الزعماء السوفيت بسرعة توريد ما اتفقنا عليه، وإحاطتي بمواعيد وصول هذه الإمدادات، كذلك اطلب سرعة تشغيل مصنع الطائرات وورش العمرة.
زيارة الجبهة:
لقد كان يوم 19 نوفمبر 71 يوافق اليوم الثاني من أيام عيد الفطر المبـارك، وبعد انتهاء المؤتمر رافقت السيد الرئيس في زيارته للقوات المسلحة فاجتمع برجال القوات الجوية والقوات الخاصة في اليوم نفسه ثم انطلقنا إلى الإسماعيلية، حيث قضينا الليلة هناك والتقينا برجال الجيش الثاني، ثم انطلقنا في صباح اليوم التالي إلى الجنوب حيث التقى الرئيس برجال الجيش، ثم عدنا إلى القاهرة في مساء يوم 20 من نوفمبر.
وفي خلال الفترة ما بين 21 من نوفمبر وحتى نهاية الشهر كـان مجهودي الرئيسي موجها للقيام بالتزاماتي تجاه الجـامعة العربية بصفتي الأمين العسكري المساعد لها، فبموجب هذا المنصب كنت أقوم بأعمال رئيس الهيئة الاستشارية العسكرية التي تتكون من رؤساء أركان حرب الجيوش العربية، أقوم بأعمال السكرتارية لمجلس الدفاع المشترك العربي الذي يتكون من وزراء الخارجية والدفاع في الدول العربية. وقد كان رؤساء أركان حرب القوات المسلحة في الدول العربية سوف يبدأ وصولهم إلى القاهرة اعتبارا من 21 من نوفمبر ثم يبدأ بعد ذلك اجتماع مجلس الدفاع المشترك في الفترة ما بين 27-30 نوفمبر.
مؤتمر الرئيس يوم 2 من يناير 1972:
انعقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة الرئيس السادات يوم 2 من يناير 72، وفيما يلي أهم ما جرى خلال هذا المؤتمر:
الرئيس:
"أن أمريكا تدعم إسرائيل بكل شئ في حين أن الاتحاد السوفيتي لم يمدنا بما وعدني به في أكتوبر الماضي. أن الاتفاقية التي وقع عليها اللواء عبد القادر حسن مؤخرا في موسكو لم تشمل الأصناف كلها التي وعدني بها القادة السوفيت إن أمريكا لن تقوم بممارسة أي ضغط على إسرائيل وانهم يقولون أن الدور الذي يقومون به هو عامل مساعد فقط (استخدم الرئيس الكلمة الإنجليزيةCATALIST). أن اندلاع الحرب الهندية الباكستانية يجعلني أراجع جميع حساباتي حيث أن الحرب بين الهند وباكستان لم تنته بل إنها في الحقيقة قد بدأت".
طلب الرئيس بعد ذلك الاستماع إلى تقارير القادة فكانت كما يلي:
لواء محمد علي فهمي (قائد الدفاع الجوي):
"إن مشكلتي تنحصر في أنه مطلوب مني أن أقاتل في معركة هجومية بأسلحة دفاعية".
محمود فهمي (قائد القوات البحرية):
"يجب أن نمارس الضغط على الاتحاد السوفيتي، يحب أن نغلق الموانئ المصرية في وجه الأسطول الروسي، ويمكن أن يتم ذلك بالتدريج شيئا فشيئا إلى أن يتم المنع نهائيا إذا لم يستجيبوا لمطالبنا".
اللواء بغدادي (قائد القوات الجوية):
"احتاج إلى طائرات ردع تستطيع أن تصل إلى عمق إسرائيل".
اللواء علي عبد الخبير (قائد المنطقة المركزية):
"هناك اوجه قصور كثيرة في القوات المسلحة بالنسبة للمعركة الهجومية، أهمها ضعف الطيران، والنقص في الحركة، والنقص في وسائل المواصلات، وأسلوب فتح الثغرات في حقول الألغام".
اللواء سعيد الماحي (قائد المدفعية):
"يجب أن نقوم بعمل ما في حدود إمكاناتنا".
الفريق الشاذلي:
"على الرغم من قلة الإمكانات إلا أن القوات المسلحة قادرة على القيام بعملية هجومية محدودة. يجب أن يقوم سيادة الرئيس بالاتصال بالجانب السوفيتي ويعرف موقفهم في حالة قيامنا بعملية هجومية، حيث أن لديهم قوات كبيرة في مصر. إن لديهم لواءين "طائرات قتال" وفرقة دفاع جوي، وهم يسيطرون على إمكانات الحرب الإلكترونية، ويجب أن نعلم كقادة هل سيشترك معنا السوفيت أم لا، وفي حالة اشتراكهم فيجب أن نعلم حدود هذا الاشتراك حتى يمكن أن يكون تخطيطنا سليما".
الفريق صادق:
"إننا جميعا على أستعداد للقتال الفوري ولكن يجب أن يكون النصر مضمونا. إن البلاد لا تتحمل ما هو اقل من النصر. إننا سنقوم باستكمال العجز من الكتلة الغربية وسأخبر سيادتكم بمجرد الانتهاء من ذلك".
قصة الضباب:
لاشك أن السادات قد شعر بالارتياح العظيم عندما سمع باندلاع الحرب الهندية الباكستانية في 3 من ديسمبر 1971، إذ انه لا يمكن أن يعترف بخطئه، وهو دائما يبحث عن شخص أو سبب ليحمله مسئولية الخطأ. لقد قضى طوال عام 71 وهو يدق طبول الحرب ويقول أن عام 71 هو "عام الحسم "أما سلما وأما حربا، وها قد انتهى عام 71 دون أي حسم، وقد بدا الشعب المصري -الذي يمارس الديمقراطية فقط من خلال النكتة- يطلق النكات ومن بين هذه النكات نكتة تقول: "إن الرئيس قد أصدر قرارا جمهوريا باعتبار عام 72 امتدادا لعام 71، ومحرم على أي فرد أن يستخدم الرقم 72"، وكـان على السادات أن يرد على هذه النكات وأن يجد المبرر لعدم قيامنا بالهجوم على إسرائيل خلال عام 71، فلم يجد سببا إلا الحرب الهندية الباكستانية وحكاية "الضباب"
وعن قصة الضباب قال السادات :
"لقد أمر جمال القوات الجوية ذات يوم بان تقصف قوات العدو المتمركزة شرق القناة فلما ذهبت طائراتنا إلى المنطقة وجدت أن هناك ضبابا كثيفا يغطي المنطقة ويحجب الرؤية فعادت إلى قواعدها دون أن تنفذ المهمة التي كلفت بها، فأمر جمال بأن تقوم القوات الجوية بتنفيذ المهمة بعد ساعة أو ساعتين يكون فيها الضباب قد انقشع من فوق المنطقة، ولكن قواتنا لم تتمكن من تنفيذ المهمة للمرة الثانية لأنها وجدت أن الضباب كان مازال موجودا. أمر جمال بتكرار العملية للمرة الثالثة ولكن طائراتنا عادت للمرة الثالثة دون أن تستطيع تنفيذ المهمة، وهنا قال جمال: خلاص بأه. يمكن ربنا مش عوزنا نقوم بهذه الضربة"، وبعد هذه القصة المثيرة عن الضباب انتقل السادات إلى قصة الحرب الهندية الباكستانية وقارن بينها وبين الضباب الذي منع جمال عبد الناصر من تنفيذ الغارة الجوية على المواقع الإسرائيلية، وخلص من ذلك إلى أنه لولا قيام الحرب الهندية الباكستانية لقامت الحرب عام 71، ولكان عام 71 هو عام الحسم كما سبق أن قال!
لقد أخطأ الرئيس السادات عندما اعتقد أن الشعب المصري يستطيع أن يبتلع ويهضم قصة الضباب وعلى العكس من ذلك فقد جعل الشعب المصري من قصة الضباب مادة جديدة للنكتة والسخرية.
اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة:
في يوم 18 من مارس 72 اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة الفريق صادق حيث ابلغنا بما يلي:
1- هناك شائعات تقول أن هناك خلافا بين الفريق صادق والسيد عزيز صدقي (12)، وهذا غير صحيح.
2- هناك شائعات بأن الفريق صادق على خلاف مع الاتحاد السوفيتي، وهذا غير صحيح، حيث أن الخلاف هو خلاف مبادئ.
3- هناك شائعة بأن القوات البحرية في مرسى مطروح والإسكندرية قد وضعت تحت سيطرة السوفيت وهذا غير صحيح.
4- لقد عاد الفريق عبد القادر من موسكو دون أن يوقع على الاتفاقية الجديدة حيث إن الروس طلبوا أن ندفع ثمن الطائرات TU22 والدبابات ت62 والذخيرة بالعملة الصعبة وبالثمن الكامل، وبالتالي فان الطائرة TU22 يصبح ثمنها 5,6 مليون روبل والدبابة ت 62 يصبح ثمنها250000 روبل، وقد رفض الجانب المصري التوقيع على الاتفاقية بهذه الشروط وبالتالي فأن هذه الأصناف لن تحضر.
في غياب الديمقراطية فإن الشائعة هي السلاح الوحيد الذي يستطيع بواسطته الشعب أن يعبر عن رأيه ولكن في كثير من الأحيان فإن القيادة السياسية تعمد هي نفسها إلى خلق وترويج بعض الشائعات لكي تخدم غرضا معينا، وفي اعتقادي أن ما ذكره الفريق صادق من شائعات في اجتماع المجلس الأعلى يوم 18 من مارس هو من هذا النوع من الشائعات التي فجرها لكي يخلق العداوة بين أفراد القوات المسلحة وبين الاتحاد السوفيتي ولكي يظهر وكأنه هو الذي يحمى مصر من تيار الشيوعية. أن الفريق صادق يكره الشيوعية كراهية شديدة، وهذا أمر يخصه وليس لأحد أن يحاسبه على ذلك، ولكن عداوته للشيوعية قد أعمت بصيرته فأصبح لا يفرق بين الشيوعية كمذهب أيديولوجي والاتحاد السوفيتي كدولة عظمى تقوم بإمدادنا بالسلاح الذي يمكننا من تحرير أرضنا المحتلة. كان كل من يدعو إلى تصفية الجو وتحسين العلاقات مع الاتحاد السوفيتي من اجل مصر هو عدو شخصي للفريق صادق، بل قد يذهب إلى ابعد من ذلك فيتهمه بالانتماء إلى الشيوعية والعمالة للاتحاد السوفيتي، لذلك فإن ما قاله صادق في هذا المؤتمر كان في الواقع هجوما على عزيز صدقي وليس نفيا لهذه الشائعة.
ولنفرض إنني أخطأت في تحليلي هذا وان صادق لم يخلق هذه الشائعات و إنما وصلت إليه عن طريق استطلاع الرأي الذي يجري في القوات المسلحة من وقت لآخر بطريقة دورية، فإن هذه الشـائعات لا يمكن النظر إليها بجدية نظرا للأسلوب الخاطئ الذي تتبعه القوات المسلحة المصرية للحصول على هذه المعلومات ليس سرا أن إدارة المخابرات الحربية لديها
مندوبون غير معروفين في كل وحدة من وحدات القوات المسلحة، وان هؤلاء الأفراد يقومون بإبلاغ إدارة المخابرات سرا بكل ما يرون وما يسمعون، فلو فرضنا مثلا أن مندوبا واحدا من ضمن آلاف الوحدات سمع شائعة كهذه فإنها تسجل ضمن الشائعات الدائرة سواء كانت نسبتها واحدا في الألف أم كانت من تأليف شخص واحد. أن هذا الأسلوب هو إهدار للفكر البشرى لأنه لا يمكن لجميع البشر أن يتفقوا على كل شئ، وان المناقشة الحرة وتسجيل الآراء في أسئلة محددة ثم القيام بإحصاءات شريفة عن هذه الإجابات هي الأسلوب العلمي الصحيح لاستطلاع الرأي. وقد هاجمت هذا الأسلوب في أحد مؤتمراتي الشهرية وأوضحت أن مثل هذه التقارير التي تقدمها إدارة المخابرات الحربية للسيد رئيس الجمهورية وللسيد الوزير لا تمثل الرأي العام الحقيقي في القوات المسلحة. وقد شعر جميع القادة الذين حضروا المؤتمر بسعادة غامرة وأنا أدلي بهذا القول وأيدوني تأييدا، مطلقا في كل ما قلته، ولكني مع ذلك لم استطع أن اصلح هذا الأسلوب الغريب في استطلاع الرأي، لأن إدارة المخابرات الحربية كانت تخضع لوزير الحربية مباشرة وعلاقة (ر.ا.ح.ق.م.م) بها تنحصر في الفرع الخاص باستطلاع العدو، أما فرع الأمن وتقارير الإدارة بخصوص أمن القوات المسلحـة فكانت ترفع إلى رئيس الجمهورية والى وزير الحربية، وإذا أرسلت صورة إلى (ر.ا.ح.ق.م.م) فهي للعلم فقط. والغريب هنا أن هذا النظام استمر أيضا بعد عزل الفريق صادق وتعيين الفريق أحمد إسماعيل بدلا منه في أكتوبر 1972.
إن إدارة المخابرات الحربية في مصر هي جزء من النظام المصري. إنها أحد الأجهزة الثـلاثة التي يعتمد عليها الحـاكم في مصر لكي يسيطر على أفراد الشعب. هناك هيئة المخابرات العامة التي تتبع رئيس الجمهورية مباشرة وهناك المباحث العامة التي تتبع وزير الداخلية ثم هناك إدارة المخابرات الحربية التابعة لوزير الحربية، وتقوم كل من هذه الجهات الثلاث بإرسال تقرير شهري- إذا لم يكن هناك ما يستدعي إرسال تقرير خاص- إلى رئيس الجمهورية، ومن هنا يظهر التنافس بين الثلاثة أن كلا منها تعتقد انه كلما كان التقرير اكثر تفصيلا كان ذلك شاهدا على مدى إخلاص الإدارة للنظام، كما إنها تخشى أن تسقط خبرا أو شائعة قد تظهر في تقارير الإدارتين الأخـريين فيكون ذلك اتهامه لها بأنها تغض الطرف عن شئ معين لسبب تريد إخفاءه عن رئيس الجمهورية، ومن هنا كـان الصـراع المهني بين الأجهزة الثلاثة. ويتم ذلك كله بتشجيع من رئيس الجمهورية الذي يرى أن تنافس تلك الأجهزة الثلاثة سوف يضمن له عدم قيام أي عمل انقلابي ضده.
في صباح يوم 19 من مارس اجتمعت مع السيد الوزير والجنرال اوكينيف، حيث عرض علينا صورا التقطت بواسطة الأقمار الصناعية السوفيتية، وقد أرسلت هذه الصور مع مندوب خاص من الاتحاد السوفيتي حتى يمكننا أن نطلع عليها ونستخرج منها كل ما نريد من معلومات بشرط واحد وهو ألا نعيد تصويرها أو نأخذ فيلما عنها. وبعد أن اطلعنا على الصور انسحب المندوب السوفيتي الذي كان يحمل هذه الصور ومعه أحد ضباطنا لنقل المعلومات من الخريطة.
بعد ذلك انضم إلينا الفريق عبد القادر حسن ودار الحديث كما يلي:
الجنرال اوكينيف:
لقد قابلت أمس أنا والسفير السوفيتي الرئيس السادات وعرضنا عليه هذه الصور الجوية. وقد اخبرنا بأنه هو الذي قال لرئيس الوزراء السيد عزيز صدق أن يتم الدفع بالعملة الصعبة.
أن الرئيس قال: إننا مستعدون للدفع كاملا وبالعملة الحرة بالنسبة للطائرات ميج 21 والطائرات M-500 ولكن ليس بالنسبة للطائرات TU22 لأنها قاذفة فقط وتحتاج إلى حماية وأننا سنستعيض عنها بسربي ليتنتج من السعودية وسرب ليتنتج من الكويت وأننا سنرسل الطيارين المصرين للتدريب على هذه الطائرة في الأسبوع القادم ".
بخصوص الدبابات ت 62 قال الرئيس: "إننا نحتاج إلى هذه الدبابات ولكنها غالية جدا وهناك مشكلات بخصوص قيام ليبيا بدفع ثمنها"
وافق الرئيس على أن تقوم مصر بدفع ثمن الذخيرة بالعملة الصعبة.
وافق الرئيس على تسليم 12 كتيبة صواريخ فقط من الأصدقاء بدلا من 18 كتيبة، كما ورد في خطاب وزير الحربية المصري إلى وزير الدفاع السوفيتي (15)، وقد لمح الجنرال أوكينيف بأن سحب هذه الكتائب الآن قد يؤثر على محادثات بريجنيف- نيكسون التي كان مقررا عقدها في موسكو في شهر مايو القادم.
الفريق صادق:
"ليس لدى علم بهذه المسائل وسوف اتصل بالسيد الرئيس وأقوم بتنفيذ ما يأمر به ".
انسحب الجنرال اوكينيف بعد ذلك وبقيت أنا والوزير والفريق عبد القادر حسن، وقد اتصل الوزير بالرئيس هاتفيا في حضورنا وابلغه بما سمعه من الجنرال اوكينيف، فأيد الرئيس كل ما قاله الجنرال اوكينيف فيما عدا موضوع الذخيرة فقد قال الرئيس: فإن ما اقصده بالدفع بالعملة الصعبة بالنسبة للذخيرة هو ما يدفع لقاء توسيع خط الإنتاج المصري للذخيرة وليس ثمن الذخيرة نفسها".
وبعد هذه المحادثات الهاتفية غادر السيد الوزير مكتبه إلى مطار القاهرة حيث استقل الطائرة إلى السعودية.
كانت الساعة حوالي العاشرة والنصف من صباح الأحد 19 من مارس عندما غادر السيد الوزير مبنى الوزارة متجها إلى السعودية، وبينما أنا منهمك في اتخاذ الإجراءات والمراسيم التي تتعلق بتسلم 12 كتيبة صواريخ من الأطقم السوفيتية اتصل بي مكتب الرئيس وطلب مني الحضور فورا لمقابلة الرئيس في منزله بالجيزة وان احضر معي الفريق عبد القادر حسن المختص بالاتفاقات السوفيتية المصرية، والذي كان قد وصل من الاتحاد السوفيتي في اليوم السابق، وفى الساعة 12:30 كنا في منزل الرئيس حيث كان معه السيد حـافظ إسماعيل مستشاره لشئون الأمن القومي.
قام الفريق عبد القادر حسن بشرح تقريره بخصوص رحلته الأخيرة واستمع إليه الرئيس دون أن يوجه إليه أي سؤال ودون أن يعلق على التقرير بطريق مباشر. ولكنه علق عليه بطريق غير مباشر، لقد علم الرئيس أن صـادق قد اتخذ من تقرير عبد القادر حسن ذريعة لكي يهاجم الاتحاد السوفيتي، وها هو ذا السادات يريد أن يسـتمع إلى تقرير عبد القادر حسن لكي يستخدمه شريعة للدفاع عن الاتحاد السوفيتي. ويتلخص ما قاله الرئيس فيما يلي:
أ- إن صداقتنا مع الاتحاد السوفيتي هي خط استراتيجي يجب المحافظة عليه لأنه الورقة الوحيدة التي نلعب بها.
ب- أن المعلومات التي نوقشت أمس على مستوى المجلس الأعلى للقوات المسلحة يجب ألا تنقل إلى أي مستوى اقل من ذلك.
ج- أننا لن نعطى قواعد للسوفيت ولكننا سنقدم لهم التسهيلات فقط.
وقد احضر الرئيس أمامنا شخصا قال انه ضابط بوليس كان أحد أقاربه ضابط في القوات المسلحة وإن قريبه هذا اخبره بان المخـابرات الحربية كانت تستطلـع رأي القوات المسلحـة حول ما يطلبه الروس من قواعد بحرية وحول ما يطلبونه من أن يتم دفع ثمن السلاح بالعملة الصعبة (16).
بعد ذلك خرج عبد القادر حسن وبقيت أنا لمناقشة بعض المسائل الأخرى مع السـيد الرئيس.
1- ترقيم القوارب المخصصة لنقل المشاة بأرقام متسلسلة من اليمين إلى اليسار داخل الفرقة من رقم 1 إلى رقم 144.
2- تحديد نقطة انطلاق كل قارب من ناحيتنا ونقطة وصوله إلى الجانب الآخر بعلامة إرشاد كبيرة يمكن رؤيتها وتمييز رقمها نهارا أو ليلا من الجانب الآخر، وذلك حتى يعرف كل قارب وجهته في الذهاب والعودة.
3- تم تخطيط طرق طولية تسلكها الوحدات في طريقها إلى نقط العبور، وأعطي لكل طريق رقم ولون مميز.
4- تم تخطيط طرق عرضية تربط بين الطرق الطولية وأعطيت لها أسماء( أ.ب.ج.. الخ).
5- قمنا بعمل رسم تخطيطي لمنطقة شرق القناة حتى عمق 6 كم، ورسمنا عليه خطوطا طولية تتقابل مع الخطوط الطولية التي في ناحيتنا، وتحمل الرقم واللون نفسيهما.
6- تم تمييز كل وحدة ووحدة فرعية بعلامة مميزة توضع على خوذة الجندي.
مشكلات العبور وكيف تم التغلب عليها ، صفحه رقم 36
7- تقوم وحدات الشرطة العسكرية التي تعبر مع المشاة بحمل علامات التمييز والفوانيس التي تمكنها من تحديد الطرق شرق القناة طبقا للمخطط الذي سبقت الإشارة إليه (البند 5 الصفحة السابقة) وبالألوان المحددة نفسها.
8- قمنا بطبع علامات مميزة تحدد أسبقية العبور، ويتم لصق هذه العلامة على زجاج العربات.
9- أعطى لكل مركبة رقم مسلسل (طباشيري) يحدد أسبقية عبورها داخل وحدتها.
10- قمنا بصنع جداول تفصيلية تحدد الوقت الذي تفرج فيه عربات كل وحدة من منطقة التجمع والطريق الذي تسلكه والمعبر المحدد لها والتوقيت الذي تبدأ فيه بالعبور (جميع التوقيتات تم تقديرها على أساس ساعة الصفر مضافة إليها كذا.. دقيقة).
11- كان تلقين المعلومات يصل إلى مستوى الجندي وسائق المركبة، فقد كان كل فرد يعرف ما يخصه بالتفصيل ويترك الباقي لقائدة ، كان الجندي مثلا مطلوبا منه أن يعرف رقم قاربه والأفراد الذين يركبون معه في القارب وترتيب الركوب وترتيب النزول ومن هو الجندي الذي يكون على يمينه ومن هو الجندي الذي يكون على يساره أثناء ركوب القارب الخ. أما السائق فكان يجب عليه أن يعرف رقمه (الطباشيري)، والوقت الذي يجب عليه أن يخرج فيه من حفرة الوقاية، والطريق الذي يسلكه، وأسبقيته داخل رتل وحدته، وأسبقيته في العبور، ورقم المعبر الذي يعبر عليه، وسرعة العبور، ثم رقم ولون الطريق الذي يسلكه بعد عبوره والاسم والعلامة المميزة للوحدة الفرعية التي سوف ينضم إليهما إلخ.
12- تم تشكيل قيادة خاصة للسيطرة على عملية العبور.
قد يتساءل القارئ، ماذا يمكن أن يحدث لو تدخل العدو وانقلبت هذه التوقيتات رأسا على عقب؟ أليس من الممكن أن يتحول هذا العبور المنظم إلى فوضى عارمة ؟ وللإجابة عن ذلك أود أن أوضح أن جميع توقيتاتنا قد أدخلت في حسـابها مثل هذا التدخل، وان التوقيتات التي ذكرنا تزيد كثيرا على التوقيتات التي أمكن تحقيقها في التدريب كما أن توقيتات العمليات حسبت على أساس حوالي ضعف التوقيتـات التي يمكننا تحقيقها في التدريب نهارا وحوالي 50% زيادة على التوقيتات التي يمكننا تحقيقها في التدريب ليلا، وبالتالي فإن توقيتاتنا المحسوبة تستطيع أن تستوعب مثل هذا التدخل ما لم يتطور مثل هذا التدخل في بعض القطاعات إلى أعمال غير متوقعة.ومع ذلك فلكي نقابل مثل هذا الاحتمال أنشأنا قيادة خاصة لتنظيم عملية العبور وزودناها بكل ما تحتاجه من إمكانات وكان على قمة هذه القيادة في كل فرقة رئيس أركان الفرقة، كما كان رئيس أركان كل جيش هو المسئول الأول عن السيطرة على عملية العبور. كانت هذه القيادة تسيطر على 40 نقطة عبور للمشاة في كل 18 قاربا و35 معبر معدية في كل 2-3 معدية و 15 كوبريا (10 ثقيل و 5 خفيف)، ولكي تستطيع الوحدات الفرعية الوصول إلى هذه النقط فإنه يتحتم عليها أن تمر في سلسلة من نقط المراجعة التي تملك سلطة السماح لها بالمرور أو إيقافها وذلك طبقا لخطة العبور وسير العمليات وقد أعطيت هذه القيادة سلطة التعديل في خطة العبور طبقا للموقف، فلو فرضنا مثلا انه تم تدمير أحد الكباري تدميراً كبيراً وأنه لن يمكن إصلاحه إلا بعد بضع ساعات فإنه يمكن تحويل العبور إلى كوبري آخر بالأسبقية نفسها التي كانت لها على الكوبري المدمر، وحتى نضمن السيطرة الكاملة على عملية العبور فقد خصصنا لهذه المهمة 500 ضابط و1000 ضابط صف وجندي ومعهم 500 جهاز لاسلكي و200 هاتف ميداني وما يزيد على 750 كيلومترا من أسلاك الهاتف الميدانية.
الفصل الثامن: إدخال عقائد جديدة
التصرف تجاه القنابل الزمنية:
كانت العقيدة السائدة في القوات المسلحة عند التعامل مع القنابل التي لم تنفجر تتلخص في أن نقوم بإخلاء المنطقة من جميع الأفراد ثم نتعامل مع القنبلة بعد 24 ساعة سواء برفعها أو تفجيرها، كان ذلك يعني أن القنبلة التي لا تنفجر تعتبر اكثر وابعد تأثيراً من القنبلة التي تنفجر فعلا. أن العدو في ظل هذه العقيدة يستطع أن يسقط قنابل زمنية فوق الكباري وممرات الإقلاع في المطارات ضمن مجموعة أخرى من القنابل شديدة الانفجار، فإذا أصاب هذه الأهداف إصابات مباشرة فانه سوف يضمن أن إصلاح هذه الأهداف لن يبدأ إلا بعد مرور 24 ساعة، وإذا ما فشل في إصابة هذه الأهداف فإنه سوف يضمن أيضا تعطيل استخدام هذه الأهداف لمدة 24 ساعة على الأقل. وتصحيحا لهذا الوضع أصدرت تعليماتي بتعديل هذه العقيدة لتكون كما يلي:
1- القنابل التي لم تنفجر يتم التعامل معها بواسطة المهندسين فورا وفي أقصر وقت ممكن. وكنت أعلم أن هذه القنبلة قد تكون قنبلة زمنية وإنها قد تنفجر في أية لحظة طبقا للتوقيت الذي حدده العدو لها، ومع ذلك فان من واجبنا أن نقبل هذه المخاطرة.
2- إذا سقطت إحدى القنابل أثناء المعركة بجوار أحد الكباري ولم تنفجر فإن تدفق قواتنا عبر الكوبري يستمر، كما لو انه لم يحدث شئ. ومما لاشك فيه أن هناك احتمالا أن تنفجر مثل هذه القنبلة قبل أن ينجح المهندسون في تأمينها، ولكن حتى لو حدث ذلك فأن خسائرنا في الأفراد قد تتراوح ما بين 5-20 رجلا، فإذا تصورنا انه خلال ساعة زمنية واحدة يمكن أن تعبر حوالي 200 عربة قتال وقارنا بين تعطل عبور هذه القوة المقاتلة ومن احتمال - قد لا يحدث مطلقا- أن نخسر حياة عدد من الرجال اتضح لنا أن المخاطرة التـي ركبناها هي مخاطرة محسوبة. إنها الحرب وليست هناك حرب دون خسائر، وواجب القادة في النهاية هو الاختيار بين أخف الضررين.
3- إذا ما سقطت قنبلة زمنية على أحد ممرات الطائرات من مطاراتنا العسكرية فان الإقلاع والهبوط يستمران في المطارات مادام إن ذلك لا يعوقهما عمليا، بينما يقوم المهندسون بإبطال مفعول القنبلة.
العبور نهاراً:
من العقائد الأخرى التي قمنا بتغييرها في القوات المسلحة هو استمرار العبور على الكباري نهاراً. لقد كانت عقيدتنا حتى أوائل 1973 تقضى بالا يتم العبور إلا ليلا، وقبل بزوغ الفجر نكون قد قمنا بفك الكباري وإخفائها ، ويستمر الحال على ذلك طوال النهار. فإذا جاء وقت العشاء (آخر ضوء) نبدأ في تركيب الكباري مرة أخرى لكي تعمل ليلا وهكذا. كان الهدف الأساسي من هذا الإجراء هو تلافى القصف الجوى المعادي ولكنني عندما بدأت في إجراء الحسابات التفصيلية للعبور اتضح لي انه لن يمكننا- طبقا لهذا الأسلوب- إتمام العبور إلا على مدى ثلاث ليال، وهذا موقف خطير لا يمكن قبوله.
لقد كـان كل تفكيرنا قبل أن نتفق مع إخواننا السوريين هو أن نبدأ عملياتنا ليلا. إن ساعات الظلام بين العشاء والفجر هي تقريبا 8 ساعات فإذا انقصنا من هذه المدة 4 ساعات لتركيب وفك الكوبري فإن الوقت المتبقي للعبور يكون 4 ساعات فقط أما الليلة الأولى للهجوم فسوف تستنفد في فتح الممرات في السد الترابي الذي يحتاج إلى 5-7 ساعات بعد بدء الهجوم، وبالتالي لن يكون هناك وقت لتركيب الكباري، معنى ذلك أن نبدأ في تركيب الكباري خـلال الليلة الثانية ونستخدمها في احسن الظروف لمدة 4 ساعات ثم نستخدمها في الليلة الثالثة لمدة 4 ساعات أخرى، أي إن العبور يتم على مدى ثلاث ليال متتالية . إن عبورا بهذا الأسلوب لا يمكن أن نضمن له النجاح، واعتبارا من منتصف عام 1972 قررنا أن يستمر عبور قواتنا على الكباري نهارا إلى أن يتم عبور جميع القوات. هذا ويمكن الإقلال من تأثير القصف الجوى المعادى سلبيا عن طريق استخدام الدخان والكباري الهيكلية، وإيجابيا عن طريق تقوية الدفاع الجوى عن الكباري.
تخصيص كوبريين لكل فرقة:
إن تخصيص كوبريين لكل فرقة من فرق النسق الأول كان من أهم القرارات التي اتخذت خـلال فترة التخطيط والتحضير للعمليات. لقد كانت خططنا حتى عام 1972 هي أن نخصص كوبريا واحد، لكل فرقة من فرق النسق الأول، ولكنى عندما كنت أقوم بتجهيز"التوجيه رقم 41" خلال الربع الأخير من عام 72 اتضح لي أن تخصيص كوبري واحد للفرقة لن يكون كافيا. لقد كانت المعلومات المتيسرة لدينا في هذا الوقت هي أن العدو سوف يقوم بضربته المضادة التعبوية بعد 12 ساعة من بدء الهجوم.
كنا نتوقع أن يوجه العدو ضرباته إلى ثلاثة رؤوس كباري من الخمسة التي قمنا بإنشائها بمعدل 2-3 ألوية مدرعة في كل اتجاه، لذلك قمنا بإجراء حساباتنا على أساس أن يكون لدى كل فرقة الأسلحة الكافية التي تمكنها من صد مثل هذا الهجوم، ولكن اتضح لنا أن كوبريا واحد لن يسمح بعبور جميع هذه الأسلحة في الوقت المناسب الذي يتيـح لها الاشتراك في معركة صد الهجـوم المضاد، لذلك كان لابد لنا من تخصيص كوبريين لكل فرقة وهنا يجب أن نتوقف قليلا، حيث إن جميع الكباري الثقيلة التي كانت متيسرة لدينا -بما في ذلك المتفق على استيرادها- هو 12 كوبريا ، ولاشك أن استخدام عشرة كباري في اليوم الأول من الحرب بينما كل ما نملكه هو 12 فقط كان يعتبر نوعا من المخاطرة ولكنها كانت مخاطرة محسوبة. لقد كنت مقتنعا بأنه كلما أسرعنا في العبور زادت فرصتنا في النجاح.
قامت جميع هيئات وإدارات القوات المسلحة بالعديد من البحوث التي كانت تهدف إلى البحث عن الحلول للمشكلات التي تتعلق بالمعركة الهجومية بصفة عامة وبمعركة العبور بصفة خاصة. كانت هذه البحوث تتعلق بالتنظيم، والتسليـح، والمعدات الفنية والإدارية، وما يرتديه الجندي من ملابس ومهمات، وما يأكله أثناء المعركة الخ. كانت هذه البحوث تحاول أن تبتكر أسلحة ومعدات جديدة أو أن تقوم بتحسين وتطوير الأداء بالنسبة للأسلحة والمعدات المتيسرة وقد اشتركت معنا في عدد من هذه البحوث وزارة البحث العلمي وبعض الإدارات الحكومية الأخرى، وقد بلغ مجموع هذه البحوث ما بين يوليو 71 ويوليو 73 اكثر من مائة بحثا ولعل أكثرها طموحـا هو البحث الخاص بـ" الرجل الطائر"، وقد نجحت بعض هذه البحوث بينما فشل بعضها الآخر في التوصل إلى حلول للمشكلات التي كانت تعالجها. وسوف اذكر هنا بعضا من تلك البحوث التي تمت خلال السنتين اللتين سبقتا حرب أكتوبر73.
القاهر والظافر:
لقد قيل الكثير عن امتلاك مصر لصواريخ يطلق عليها اسم "القاهر" ويصل مداها إلى حوالي 200 كيلومتر أو اكثر، ويبدو أن السلطات المصرية كان يسعدها تشجيع هذه الأقوال وتغذيتها، وقد كان الصـاروخ القاهر دائما في جميع الاستعراضات العسكرية المصرية قبل حرب 1967، وبعد هزيمة يونيو 1967اخذ المصريين يتهامسون "أين القاهر؟ هل استخدم في هذه الحرب أم لا؟" ولم تكن هناك أية إجابة عن هذه التساؤلات إلا الصمت الرهيب من السلطات المختصة جميعها.
وعندمـا استلمت أعمال (ر.ا.ح.ق.م.م) لم يتطوع أحد ليخبرني بشيء عن "القاهر" أو "الظافر" ولكني تذكرتهما فجأة وأخذت أتقصى أخبارهما إلى أن عرفت القصة بأكملها. لن أقص كيف بدأت الحكاية، وكيف أنفقت ملايين الجنيهات على هذا المشروع، وكيف توقف، وكيف ساهم الإعلام المصري في تزوير الحقائق وخداع شعب مصر. إني اترك ذلك كله للتاريخ ولكني سأتكلم فقط عن الحالة التي وجدت فيها هذا السلاح وكيف حاولت أن استفيد- بقدر ما أستطيع- من المجهود والمال اللذين أنفقا فيه. لقد وجدت أن المشروع قد شطب نهائيا وتم توزيع الأفراد الذين كانوا يعملون فيه على وظائف الدولة المختلفة، أما القاهر، والظافر، فكانت هناك عدة صواريخ منهما ترقد راكدة في المخازن. لقد كانت عيوبهما كثيرة وفوائدهما قليلة ولكني قررت أن استفيد منهما بقدر ما تسمح به خصائصهما، وقد حضرت بيانا عمليا لإطلاق "القاهر" يوم 3 من سبتمبر 1971. لقد كانت قذيفته تزن 2,5 طن وتحدث حفرة في الأرض المتوسطة الصلابة بقطر 27 مترا وعمق 12 مترا، وتبلغ كمية الأتربة المزاحة حوالي 2300 متر مكعب وكما يبدو فإن القوة التدميرية لهذا السلاح تعتبر رائعة ولكن كفاءة السلاح الميداني لا تقاس فقط بقوة التدمير، فقد كانت هناك عيوب جوهرية في هذا السلاح تجعله اقرب ما يكون إلى المقلاع أو المنجنيق اللذين كانا يستخدمان خلال القرون الوسطى.
يطلق بالتوجيه العام، حيث انه ليست لديه أية وسيلة لتحديد الاتجاه سوى توجيه القاذف في اتجاه الهدف قبل تحميل المقذوف على القاذف ، أقصى مدى يمكن أن يصل إليه هو ثمانية كيلومترات ولا يمكن التحكم في المسافة إلا في حدود ضيقة وعن طريق رفع زاوية الإطلاق أو خفضها. وفي أثناء التجربة أطلقنا 4 مقذوفات بالاتجاه نفسه والزاوية نفسـها فكانت نسبة الخطأ تصل إلى 800 متر، وعلى الرغم من ذلك كله فقد قررت أن أستهلك هذه الصواريخ خلال حرب أكتوبر وشكلت وحدة خاصة لهذا السلاح، وأطلقنا عليه اسم "التين"، ولم يكن في استطاعتنا طبعا أن نستخدمه ضد أي هدف يقع شرق القناة مباشرة لأن عدم دقة السلاح قد يترتب عليها سقوط القذيفة على مواقعنا التي تقع غرب القناة ولا يفصلها عن مواقع العدو سوى 200 متر فقط ولم يكن في وسعنا أن نبعث به إلى الجبهة قبل بدء العمليات، حيث إنه لو حدث واكتشف العدو وجوده فقد يعتقد الإسرائيليين- بناء على ضخامة حجمه- أنه قادر على ضرب تل أبيب، لذلك أجلنا تحركـه حتى ليلة الهجوم، أي انه تحرك إلى الجبهة خلال ليلة 5/6 من أكتوبر 73.
لم تكن نتائج استخدامه طيبة، ولكننا- كما سبق أن قلت- حصلنا عليه من بين الأصناف الراكدة ولم نكن لنخسر شيئا نتيجة لاستخدامه، ولكني فوجئت بان الرئيس السادات يعلن صباح يوم 23 من أكتوبر 73 إننا أطلقنا "القاهر" على العدو الذي يحتل منطقة الدفرسوار قبل وقف إطلاق النار مساء يوم 23 من أكتوبر ببضع دقائق، وإني أعلن وأقرر أن هذا الادعاء باطل ولم يحدث مطلقا. ان كل ما حدث هو إطلاق ثلاث قذائف سوفيتية الصنع بواسطة R-17-E . (1)، وأنى لأتعجب! من الذين يريد السادات خداعهم: أمريكا ام إسرائيل ام شعب مصر؟ ان من السذاجة ان يعتقد السادات انه يستطيع ان يخدع أمريكا او إسرائيل بمثل هذا القول. حيث أن إمكانات أمريكا الاستطلاعية بواسطة الأقمار الصناعية وطائرات الاستطلاع التي تطير خارج مدى صواريخنا، ووسائل الاستطلاع الإلكتروني، كل ذلك كفيل بأن يجعل مثل هذا الادعاء مثارا للضحك. إذن فالمقصود هو شعب مصر الذي لا يسمع ولا يقرا إلا ما يقوله حاكم مصر. لا أعرف كيف سيرد السادات على هذه الكذبة، وأن كنت لا أستبعد ان يرد عليها بان يرتكب كذبة أخرى.
أما صاروخ الظافر، فهو الأخ الأصغر للقاهر، لقد كان اصغر حجما واقصر مدى. وقد قامت الكلية الفنية العسكرية بتطويره بحيث يمكن إطلاق 4 قذائف دفعة واحدة. لقد كان اكثر دقة من القاهر ولكنه مع ذلك لا يمكن اعتباره بين الأسلحة الدقيقة. ولقد حضرت أيضا بيانا عمليا عن إطلاقه يوم 23 من سبتمبر 71، ثم حضرت عدة بيانات عملية أخرى لإطلاقه بعد ذلك وقررت استهلاك الموجود منه خلال حرب أكتوبر 73. وفعلا تم تشكيل وحدة خاصة به و أعيدت تسميته لتكون "الزيتون". وقمنا بدفعه إلى الجبهة خلال الليالي الثلاث الأخيرة قبل المعركة. لقد كانت نتائجه فى العمليات الحربية أفضل من أخيه القاهر، وكانت حرب أكتوبر هي الفرصة التي أمكن بها إسدال الستار نهائيا على "القاهر" والظافر" او- طبقا لاسميهما الجديدين- "التين والزيتون ".
ألحوامات hovercraft:
وفي مجال البحث عن المعدات الحديثة التي يمكن الاستفادة منها في عملية العبور فكرت في ألحوامات hovercraft استقبلت مندوب الشركـة الإنجليزية في مكتبي يوم 21 من يوليو 72، ولكنى بعد ان درست معه خصائص جميع الأنواع المتيسرة لديهم لم أجد ان أيا منها يمكن ان يقدم حلولا جذرية لما يجول بخاطري. كانت اكبر هذه ألحوامات ذات حمولة 17 طنا وسرعة 60 عقدة في الساعة، و أخيرا قلت لمندوب "الشركة، هل تستطيع ان تصنع لي حوامة ذات حمولة 50 طنا، ولا يهمني السرعة العالية، فإن 30 عقدة تعتبر كافية حيث إنني أريد ان استخدمها لنقل الدبابات، بحيث تستطيع الواحدة منها ان تنقل دبابة واحدة في كل مرة؟ أجاب مندوب الشركة بأنه يعتقد ان هذه المشكلة يمكن حلها فنيا، وانه سيبحث الموضوع مع شركته ثم يخبرني بالنتيجة. وفي خلال سبتمبر من العام نفسه عاد إلي ليبلغني بان الشركة قد قامت بصنع التصميم اللازم طبقا للطلبات التي حددتها لهم، وانه فى استطاعة الشركة القيام بإنتاج ألحوامات المطلوبة. لم يكن ذلك فحسب، بل انه احضر معه نموذجا مصغرا لهذه الحوامة، و لقد كان النموذج رائعا ويحقق كل ما كنت أفكر فيه. ولكن للأسف الشديد فإن ثمن خمس حوامات كنت أود الحصول عليها لم يكن متيسرا ولم أستطع الحصول عليه وهكذا وضع المشروع على الرف. لقد كان هدفي هو ان أستخدم هذه ألحوامات فى نقل عدد من الدبابات عبر بحيرة التمساح والبحيرات المرة لقد عبرنا تلك البحيرات خلال حرب اكتوبر بواسطة الدبابات والمركبات البرمائية، ولكن شتان ما بين الدبابة البرمائية ذات الدرع الحفيف والمدفع عيار 76 مم والدبابة ت 54 او ت 55 ذات المدفع 100 مم أو الدبابة ت 62 ذات المدفع 115 مم. لو إننا كنا نملك هذه ألحوامات قبل حرب أكتوبر 73 لأمكننا ان نزيد من عدد دباباتنا التي ندفع بها فى مؤخرة العدو. وبالتالي كان من الممكن ان نحصل على نتائج افضل، أنى أقول هذه القصة لألفت النظر إلى ان هذه ألحوامات سوف تلعب دورا مهما فى نقل الدبابات فى حروب المستقبل.
كوبري مروان :
اتصل بي اللواء طلاس وزير الدفاع السوري خلال شهر مايو 73، وأخبرني ان أحد ضباط سلاح الهندسة فى الجيش السوري قد أخطره بأن لديه أفكارا جديدة فيما يتعلق بالكباري التي نقيمها على قناة السويس، وان هذه الكباري الجديدة يمكن ان توفر لنا الكثير من الوقت، وانه على استعداد لإرسال هذا الضابط إلى مصر ليكون تحت تصرفنا لأية فترة. رحبت بالفكرة حيث ان توفير ساعة زمنية واحدة كان يعنى بالنسبة لنا عبور حوالي 1200 دبابة او 3000 مركبة (كانت حساباتنا على أساس ان طاقة كل كوبري فى الساعة هي عبور حوالي 120 دبابة او 200 مركبة. فإذا ضربنا هذا الرقم في 10 كباري ،فإن توفير ساعة زمنية واحدة تعنى عبور 1200 دبابة او 2000 مركبة). استقبلت الرائد السوري المهندس مروان فى مكتبي يوم 30 من مايو 73، وحضر المقابلة كل من مدير إدارة المهندسين في القوات المسلحة والمدير العام لشركة التمساح التى كان عليها ان تقوم بصنع العينة الأولى من الكباري بعد الاستماع إلى الفكرة.
كانت فكرة المهندس مروان تعتمد على أساس ان يتفادى فتح ممرات فى الساتر الترابي، وذلك بان يكون نصف الكوبري الذي من ناحية قواتنا عائما على الماء ثم يرتفع النصف الآخر، بحيث يستند طرفه البعيد على قمة الساتر الترابي، إلى حوالي 20 مترا- كما سبق ان ذكرنا- فقد كان هذا يعني أن زاوية ميل الجزء المعلق من الكوبري ستكون كبيرة إذا بدأ الجزء المعلق فى الارتفاع داخل السدس الأخير من القناة أما إذا بدأ الجزء المعلق في الارتفاع عن سطح المياه قبل ذلك فسوف تقل زاوية الارتفاع ولكن مقابل التضحية بقوة تحمل الكوبري وثباته. لم يتحمس مهندسونا للفكرة وأثاروا الكثير من نقاط التشكيك ولو انهم اعترفوا بأنه من الممكن تنفيذها هندسيا وأنا أيضا كنت أرى ان تطبيق الفكرة سوف يخلق لنا الكثير من المشكلات من وجهة نظر العمليات. إن عبور كوبري بهذا الميل سوف يحتاج إلى تدريب خاص ومستوى عال فى قيادة المركبات قد يكون من الصعب توافره بين جميع السائقين. ماذا يحدث لو ان إحدى الدبابات أو العربات الثقيلة تراجعت للخلف فصدمت ودمرت المركبة التى خلفها؟ ماذا يحدث لو أن الجزء المعلق من الكوبري دمر بواسطة العدو؟ ان إصلاح الكوبري العائم باستبدال جزء أخر يتم فى سهولة ويسر اما بالنسبة للكوبري المعلق فأن الوضع يختلف، كما ان فرصة العدو في إصابة الكوبري المعلق او المركبة التى تعبر عليه افضل بكثير من فرصة إصابة المركبة وهى تعبر على الكوبري العائم (انظر شكل رقم 4).
وعلى الرغم من هذه المشكلات كلها، فقد وافقت على ان نقوم بعمل عينة للكوبري، وبعد عمل العينة حضرت إجراء تجربتها ولكن النتائج لم تكن مشجعة.اقترح المهندس مروان ان نرسي طرف الكوبري على نقطة متوسطة من الساتر الترابي ثم نرسل بولدوزر الى الشاطئ الآخر يقوم بالعمل في الساتر الترابي إلى ان ينفض ارتفاعه إلى مستوى معقول يستقر عليه طرف الكوبري ثم نبدأ في العبور فوق الكوبري كان هذا التعديل الجديد يزيد العملية تعقيدا ومع ذلك تركت المهندس مروان في تجاربه كنوع من استمرار الدراسة وكعمل من أعمال الخداع (2) . كانت آخر تجربة حضرتها عن كوبري مروان يوم 23 من سبتمبر 73، وبعد حضور هذه التجربة طلب مني الرائد مروان ان يعود إلى بلاده فوافقت بعد ان شكرته على المجهودات الضخمة التى بذلها خلال أربعة اشهر متتالية، وعلى الرغم من ان كوبري مروان لم يكتب له النجاح إلا ان القصة تدل على ان العقول المصرية والسورية لم تتوان عن التعاون معا لحل المشكلات التي تعترضها مهما كانت التحديات والتضحيات.
الاستشعار من بعد:
في خلال شهر مايو 73 وصلني خطاب من الدكتور عبد الهادي-الأستاذ المصري في جامعة أوكلاهوما في الولايات المتحدة-أبلغني فيه انه يريد أن يطلعني على نظام جديد يمكن بمقتضاه اكتشاف أية معادن أو مياه تحت سطح الأرض بموجب معدات خاصـة يتم تركيبها في الطائرات وانه يعتقد انه من الممكن ان نستفيد من تطبيق هذه النظرية في النواحي العسكريـة، كما أخطرني بأنه قد سبق له ان أرسل عدة خطابات إلى العديد من المسئولين لعرض هذا الموضوع، ولكن لم يستجب إليه أحد.وفي خلال أيام كان الدكتور عبد الهادي في مكتبي يشرح لي النظرية الجديدة التي قال عنها إن شركات
البترول تستخدمها الآن في البحث عن حقول البترول، إن النظرية تعتمد أساسا على ان كل مادة لها درجة حرارة تختلف عن درجة حرارة المواد الأخرى التى تتواجد معها في المحيط نفسه. ونتيجة لذلك، فإن المياه الجوفية أو النفط في باطن الأرض تكون درجـة حرارته مختلفة عن درجـة حرارة الأرض التي تحيط به، كذلك فإن الدبابة أو العربة إن وضعت داخل جراج فإن درجة حرارتها تكون مختلفة عن درجـة حرارة حوائط وسقف الجراج. وتطبيقا لهذه النظرية فإنه إذا أمكن قياس درجات حرارة هذه الأجسـام على شكل نبضات تلتقطها أجهزة الطائرات فإنه يمكن تسجيل هذه النبضات وتفسيرها على شكل صورة، وإذ ا كان الفرق في درجات الحرارة بين الجسم الذي نرغب في اكتشافه وبين الأجسـام التى تحيط به يزيد على 2،. من الدرجة المئوية. وقد أطلعني على إحدى المجـلات العلمية، وكان بها مقالة عن الدول التي تستخدم هذه النظرية وكانت إسرائيل من بين تلك الدول، لقد كان كلام الدكتور عبد الهادي واضحا ومنطقيا ولم يكن ينقصني إلا التجربة العملية لكي نتحقق مما يقول فوافق على ذلك. وفي أثناء مناقشاتنا علمت منه أن هناك أجهزة للالتقاط وهي أجهزة سهلة وبسيطة وهي معه حاليا في مصر، أما أجهزة التفسير فهي أجهزة معقدة ثقيلة ولا توجد معه ولذلك يجب أن يرسل الأفلام الملتقطة إلى الجامعة في أوكلاهوما لتفسيرها، وهنا كانت المشكلة. فقد كنا في مصر في ذلك الوقت سواء على المستوى الشعبي أم على المستوى الرسمي- لا نفرق بين أمريكا وإسرائيل، فكل سر تعرفه أمريكا عنا نفترض- بطريقة آلية أنه قد انتقل إلى العدو. أبديت شكوكي وتخوفي من هذه النقطة فأراد أن يطمئنني بأن أنتخب مكان التصوير لأغراض التجربة بحيث يكون بعيدا عن أي هدف عسكري، وبعد ان اقتنع بالتجربة فإننا نعمل على تدبير أجهزة التفسير الخاصة بنا. وبالتالي يصبح لدينا جهاز مستقل للالتقاط والتفسير، فوافقت على ذلك.
بعد هذه المقابلة استدعيت بعض مساعدي لبحث الموضوع معهم، ولكنى فوجئت بمدير إدارة المخابرات الحربية يقول لي. لقد ذهلت عندما علمت بان سيادتكم قد قابلتم الدكتور عبدالهادي. إنه معروف لدينا بأنه عميل لوكالةالمخابرات الأمريكية سي.اَي.أيه (3). سألته عما إذا كانت لديه أية اتهامات محددة يمكن ان يوجهها إليه، فأفاد بالنفي، فقلت له: "لحسن الحظ فإن أخلاقي وطباعي تختلف عن طبيعة رجال الخدمة السرية، أنى أتعامل مع كل وطني على أنه رجل شريف إلى أن يثبت العكس، أما أنتم فإنكم تشككون في كل فرد إلىأن يثبت العكس. أنا لا اعتقد ان الدكتور عبد الهادي هو جـاسوس لمجـرد انه أمريكي الميول والاتجاهات". وفي النهاية اتفقنا على أن نسير في إجراء التجـربة مع اتخاذ الإجراءات التي تضمن عدم تسرب المعلومات.
في يوم 16 من يوليو 73 استقبلت الدكتور عبد الهادي مرة أخرى بحضور اللواءين إبراهيم عبد الفتاح ومصطفى كمال، حيث تم الاتفاق معه على الإجراءات الخاصة بالتجربة، وخصصنا إحدى الطائرات وحددنا القطاع الذي يتم تصويره ليلا، وتمت التجـربة وجاءت نتائج تفسير الفيلم رائعة وتدل على سلامة النظرية في التطبيق العملي. كان الوقت يقترب بسرعة من موعد حرب اكتوبر ولم استطع تمصير جهاز الاستشعار من بعد قبل الحرب، ولكنني نجحت في وضع النواة التي آمل ان تنمو وتكبر على مر الأيام (4).
العلاقة بين التكلفة وقدرة الأداء Cost Effectiveness:
في ذات يوم من عام 1973 استدعيت رئيس هيئة الشئون المالية في القوات المسلحة وسألته عن تكلفة إنشاء وإدامة كل وحدة من وحدات القوات المسلحة، ولكنه أخبرني بأنه لا توجد لديه إجابة حاضرة وسريعة عن هذا السؤال، فإن تحضيره يحتاج إلى مجهود ووقت طويلين، لماذا ؟ لأن ميزانية القوات المسلحة يتم تحضيرها على أسـاس الصنف وليس على أساس الوحدة المتكاملة، أي أن هناك ميزانية للتسليح وميزانية للمركبات وميزانية للمباني والمعسكرات وميزانية للملابس وهكذا. وحيث إن كل وحدة هي في الواقع خليط من كل هذا، فإنه للإجابة عن سؤالي يجب ان يأخذ كل وحدة ويقوم بتحليلها إلى تلك العناصر ثم يقوم بإجـراء حسـاب التكاليف لكل عنصر من هذه العناصر داخل الوحدة الواحـدة ثم يقوم بتجميع حساب على الرقم الإجمالي لحساب تكلفة هذه العناصر لكي يحصل على الرقم الإجمالي لتكلفة الوحدة. قلت له: كيف يمكنني أن أفضل بين لواء صواريخ مضادة للطائرات وبين سرب من المقاتلات إذا لم أكن على علم بمعرفة تكلفة إنشاء إدامة كل منهما حتى تكون الأفضلية على أساس ثمن التأثير "cost effectiveness". أجـاب بأنه يقدر أهمية هذا الموضوع وأنه سوف يقوم بتشكيل مجموعة عمل لتنفيذ هذه المهمة، ولكنه حذر مقدما من أن ذلك سوف يحتاج إلى وقت طويل وانه لا يستطيع ان يضمن الدقة التامة لهذه التقديرات.وكخطوة مبدئية طلبت معرفة نسب توزيع الميزانية العسكرية على أوجه الأنفاق الرئيسية، فاتضح لي ان ميزانية القوات المسلحة عن عام 73 كانت موزعة طبقا لما يلي:
رواتب وأجور وإيواء 68%
تسليح 13%
صيانة أسلحة ومعدات 9%
تحصينات 6%
أصناف أخرى متنوعة 4%
أجمالي 100%
في البلاد المتطورة- حيث لا تكون هناك أية قيود على شراء السلاح- يبدأ تسليح القوات المسلحة بالقرار الذي تتخذه الدولة من حيث تحديد المبالغ المخصصـة لشئون الدفاع، وعلى أثر ذلك يشرع المختصون بشئون الدفاع في بحث افضل الطرق لاستخدام هذه الاعتمادات الماليـة- ومع أن القرار الأصل هو قرار سياسي في المقام الأول والقرار الثاني هو قرار عسكري في المقام الأول، فإن صانعي القرار في كلتا الحالتين يتأثرون بالحوار الذي يجرى بين الطرفين قبل اتخاذ هذه القرارات. هذا ما يحدث في البلاد المتطورة اما في البلاد التي مازالت في مرحلة التطوير-أو بكلمة اعم في دول العالم الثالث- فإن الموقف ليس بهذه السهولة. ان سوق السلاح تسيطر عليها الكتلتان الكبريان: الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، إن قرار أي من أمريكا أو الاتحاد السوفيتي إمداد إحدى دول العالم الثالث بالسلاح يخضع لعوامل كثيرة اهمها الحفاظ على توازن القوى بين مصالح الدولتين العظميين في المنطقة، والتقدم الفني والتكنولوجي ومدى القدرة على استيعاب الأسلحة المتقدمة، ومقدرة الدولة على دفع ثمن السلاح، ومدى التزام الدولة التى تشتري السلاح بالخط السياسي الذي لا يتعارض مع مصالح الدولة المصدرة له. وهكذا فإن صانعي القرار في دول العالم الثالث ليست لديهم الكلمة الأخيرة في تحديد واختيار السلاح الذي يريدونه.
الفصل العاشر: تطور الدفاع الجوي في مصر
انهيار الدفاع الجوي عام 1969:
لقد بدأنا في بناء القوات المسلحة المصرية بعد هزيمة يونيو 1967 بجد وحماس شديدين، وبحلول سبتمبر 68 كانت قواتنا البرية قد وصلت إلى مستوى يسمح لها بتعدي الوجود الإسرائيلي شرق القناة، وهكذا بدأت حرب الاستنزاف. لقد كان الهدف العسكري من هذه الحرب هو رفع معنويات جنودنا التي اهتزت نتيجة هزيمة 67 النكراء وفي الوقت نفسه إرهاق العدو وتكبيده اكبر ما يمكن من الخسائر في الأرواح، وقد كان أسلوبنا في ذلك هو قصف مواقع العدو شرق القناة بالمدفعية وإرسال الدوريات عبر الشـاطئ الآخر للقيام بأعمال الكمائن والإغارة ليلا، والتي كان يقع عبثها الأكبر على عاتق رجال الصاعقة وكانت القيادة العامة للقوات المسلحة قد قررت إيقاف هذه العمليات بعد أن قامت إسرائيل بدفع جماعات التخريب المنقولة جوا إلى أعماق مصر وقامت بنسف بعض الأهداف الحيوية ومنها محطة كهرباء نجع حماد، وبعد توقف دام حوالي أربعة أشهر إستؤنفت حرب الاستنزاف مرة أخرى في مارس 69 ورد العدو على ذلك بتصعيد عمليات إغارته على أهدافنا في العمق.
وفي خلال يوليو 69 دفع العدو بقواته الجوية في معارك الاستنزاف وقام بتدمير دفاعنا الجوى في القطاع الشمالي من القناة وبذلك فتح ثغرة واسعة في وسط الدفاع الجوي ما بين بور سعيد شمالا والإسماعيلية جنوبا، وأصبح في استطاعته أن يعبر بطيرانه من خلال هذه الثغرة إلى قلب الدلتا. وفي صباح 9 من سبتمبر عبرت قوة إسرائيلية خليج السويس وأنزلت 9 دبابات، وعددا من عربات القتال الأخرى في منطقة الزعفرانة، حيث قامت هذه القوة- تحت حماية الطائرات الإسرائيلية- بمهاجمة وتدمير بعض أهدافنا الأرضية الموجودة في المنطقة ثم انسحبت دون أي تدخل من قواتنا الجوية أو البحرية، حيث أن طيران العدو كان يسيطر على سماء المنطقة طول فترة الإغارات لقد كانت هذه الإغارة دليلا ساطعا على مدى ما يستطيع أن يفعله العدو في ظل سيطرة جوية كاملة. لقد اختار العدو منطقة الزعفرانة لهذه العملية بعناية فائقة. فقد كانت هذه المنطقة من وجهة نظر القيادة العامة للقوات المسلحة ذات أهمية ثانوية وبالتالي فإن القوات التي خصصت لها كانت قليلة ومنتشرة وضعيفة التسليح فقد كان واجبهم الأساسي هو المراقبة والعمل ضد جماعات التخريب الصغيرة التي تتسلل إلى المنطقة ولكن ليس لقتال قوة مدرعة. لقد كانت لديهم بعض الأسلحة المضادة للدبابات التي يصل أقصى مداها إلى 600 متر، بينما كانت دبابات العدو تستطيع أن تدمر هذه الأسلحة وهي على مسافة 2000 متر دون أن يكون في ذلك أية مغامرة.
وقد بلغت مشكلة الدفاع الجوي في مصر أقصاها عندما كثف العدو غاراته في العمق، فدمر دفاعنا الجوي ثم بدا يوجه غاراته على الأهداف المدنية من مصانع وكباري ومدارس الخ. ولكي يستعرض العدو إمكاناته وسيطرتة الجوية قام بعملية فريدة في نوعها غريبة في طبيعتها. إذ قام بعملية إغارة على محطة رادار في منطقة البحر الأحمر ثم قام بفك الجهاز وتحميله في إحدى طائرات الهيليكوبتر وعاد به من حيث أتى، وبنهاية عام 1969 كان دفاعنا الجوي قد انهار تماما و أصبحت سماء مصر مفتوحة أمام الطائرات الإسرائيلية تمرح فيها مثلما تشاء وحيث تشاء.
عناصر الدفاع الجوي:
إن أي نظام للدفاع الجوي المتكامل يجب أن يشتمل على أربعة عناصر رئيسية، ودونها فإن هذا النظام يعتبر نظاما هيكليا يسهل اختراقه وتدميره جزءاً جزءاً إلى أن يتم الإجهاز عليه نهائيا بواسطة الخصم. واصل هذه العناصر هو اكتشاف ومتابعة الطائرات المعادية على مسافة بعيدة تسمح لوسائل الدفاع الجوي الإيجابي والسلبي بان تتخذ الإجراءات المناسبة لمقابلة الطائرات المغيرة والعنصر الثاني هو توافر طائرة مقاتلة تكون في مستوى افضل من الطائرات المغيرة أو على اقل تقدير في مستواها حتى يمكنها أن تعترض الطائرات المغيرة وتشتبك معها وتطاردها إلى خارج الحدود. أما العنصر الثالث فهو شبكة متكاملة من الصواريخ المضادة للطائرات التي تقوم بالدفاع الثابت عن الأهداف الحيوية مثل المطارات والسدود والكباري والمناطق الصناعية والمناطق المأهولة بالسكان الخ، ويجب أن تكون شبكة الصواريخ هذه في تطور مستمر يتمشى مع تطور طائرات العدو وقذائفه جو ارض SAM إن أية شبكة دفاع جوي حديثة يمكن أن تصبح عديمة القيمة بمجرد حصول العدو على نوع متطور من القذائف جو ارض، وعلى سبيل المثال فإن شبكة الدفاع الجوى المصري التي كانت تعتبر من أكفأ شبكات الدفاع الجوى في العالم في أكتوبر71، والتي كان في استطاعتها ان تصيب أهدافها وهي على مسافة حوالي 20000 متر قد أصبحت الآن عديمة القيمة تماما بعد ان امتلكت إسرائيل القذائف جو ارض الأمريكية condor وبعد ان طورت القذيفة الإسرائيلية Gabriel لكي تطلق من الجو وبعد ان قررت إسرائيل تصنيع القذيفة LOZ محليا في إسرائيل على ان تكون فى خدمة جيشها فى أوائل الثمانينيات وتعتبر هذه القذيفة الأخيرة افضل من القذيفتين السابقتين حيث ان مداها يصل إلى80 كم- ان طائرات إسرائيل تستطيع ان تدمر شبكة الصواريخ المصرية بالقذائف Gabriel من مسافة 40 كم او بواسطة القذائف LOZ من مسافة 80 كم دون أن تعطى الفرصة لشبكة الصواريخ المصرية ان تطلق قذيفة واحدة أما العنصر الرابع من عناصر الدفاع الجوي فهو الأجهزة الإلكترونية، ان اكتشاف طائرات العدو المغيرة يعتمد عليها. كما أن القذائف جو جو AAM والقذائف جو ارض ASM التي تطلقها الطائرات على أهدافها تعتمد على الأجهزة الإلكترونية، وكذلك القذائف التي تطلق من الأرض إلى الجو SAM على الطائرات المغيرة تعتمد أيضا على الأجهزة الإلكترونية، فضلا عن التقدم العلمي ليس له حدود يتوقف عندها. ان أي جهاز إلكتروني يمكن إبطال مفعوله بإجراء إلكتروني مضاد، وهذا الإجراء الإلكتروني المضاد يمكن إبطاله مرة أخرى بإجراء مضاد للمضاد، وهذا الإجراء المضاد للمضاد يمكن إبطاله مرة أخرى بإجراء مضاد للمضاد المضاد وهكذا دواليك. لذلك فان نجاح واستمرار أي دفاع جوى يتوقف على ارتباطه الوثيق بالتقدم الإلكتروني والتطوير المستمر في الأجهزة الإلكترونية المستخدمة.
ان الدفاع الجوي هو عملية باهظة التكاليف، ولكنه لا يقبل أنصاف الحلول فإما ان يكون هناك دفاع جوي متكامل ودائم التطور بحيث يستطيع ان يتمشى مع تطور القوات الجوية المعادية، و إما ان توفر الدولة أموالها ومجهودها وتبني سياستها على أساس انه ليس لديها دفاع جوي. انه من الغباء والإسفاف ان تنفق مئات الملايين على دفاع جوي يستطيع العدو ان يدمره دون ان يخسر طائرة واحدة ودون ان تكون هناك أي فرصة لرجال الدفاع الجوي ان يطلقوا مقذوفا واحدا.
السوفيت يشاركون في الدفاع الجوي:
في نهاية ديسمبر 1969 استطاع الرئيس جمال عبد الناصر بواقعيته وحسه المرهف ان يلم بهذه الحقائق. لقد أدرك جمال عبد الناصر ان دفاعنا الجوي يخوض معركة غير متكافئة ضد عدو يتفوق تفوقا ساحقا في إمكاناته. كان جمال عبد الناصر يعرف ان رجال الدفاع الجوي في مصر لم يكن تنقصهم الشجاعة او الرغبة في الفداء، بل كان ينقصهم السلاح الذي يستطيعون به ان يواجهوا هذه الهجمات الضارية. لذلك سافر عبد الناصر إلى موسكو في يناير 70 لكي يطلب من الروس ان يشاركوا بقواتهم في الدفاع الجوي عن مصر، وقد استجاب الاتحاد السوفيتي لطلب عبد الناصر وبدأت الإمدادات الروسية تصل إلى مصر خلال فبراير ومارس في سرية تامة، وبحلول شهر أبريل كانت الوحدات السوفيتية قد أصبحت جاهزة للقيام بمهامها القتالية. كانت هذه الوحدات تشمل جميع العناصر الرئيسية الأربعة في الدفاع الجوي، وكانت معها معدات حديثة لم يسبق لمصر ان حصلت عليها (1). كان معها الرادارات والطائرات والصواريخ المضـادة للطائرات SAM ومن بينها SAM6 والوحدات الإلكترونيـة. وفي يوم 18 من أبريل 70 عرف العالم بوجود قوات سوفيتية في مصر، وذلك بعد ان قام بعض الطيارين السوفيت بمطاردة بعض الطائرات الإسرائيلية المغيرة حتى خارج الحدود، وقد كانت جميع محادثاتهم اللاسلكية أثناء هذه العملية تتم باللغة الروسية، وبعد هذا التاريخ أوقفت إسرائيل غاراتها في العمق وبذلك أعطت الفرصة لعناصر الدفاع الجوي المصري التي كانت قد أنهكت تماما لكي تعيد بناء نفسها من جديد. لقد قام العدو ما بين يناير وأبريل 1970 بالعديد من الغارات بلغت في مجموعها 3300 ساعة، واسقط خـلالها 8800 طن من المتفجرات، وفي أواخر يوليو 70 تحركت كتائب الصواريخ المصريةSAM بوثبات من العمق وفي اتجاه الجبهة، وفي خـلال الأسبوع الأول من شهر يوليو 70 تمكنا من إسقاط 10 طائرات معادية سقطت سبع منها فوق أرضنا، فأطلق على هذا الأسبوع لقب "أسبوع تسـاقط الطائرات"، وقد اصبح عيدا سنويا لوحدات الدفاع الجوي المصري. ان يوم 30 من يوليو 70 الذي تم فيه إسقاط أول طائرتين من طراز F4 بواسطة صواريخنا SAM يعتبر يوما مشهودا في حياتنا، انه يعلن بعث الحياة من جديد في دفاعنا الجوي ويمثل فتحا جديدا لعصر الصراع بين القذيفة SAM وبين الطائرة ،لقد كان الصراع بين الطائرة والقذيفة صراعا مريرا خلال حرب أكتوبر دون ان يستطيع أي منهما ان يدعي بان له التفوق على الآخر، ففي بعض الأحيان انتصرت الطائرة ودمرت او أبطلت بعض قواعد الصواريخ، وفي أحيان أخرى انتصرت قواعد الصواريخ ودمرت الطائرات المغيرة وقد كانت الأجهزة الإلكترونية التي يستخدمها كل من الطرفين هي العامل الحاسم في تحديد نتائج المعركة، وسوف يستمر الصراع في الحروب القادمة بين الطائرة والقذيفة. ولن يستطيع أي منهما أن يلغي وجود الطرف الآخر. وليست هناك إجابة مطلقة تحدد من سينتصر ومن سينهزم- سينتصر من يملك الأفضل نوعا.. ستنتصر الطائرة إذا سلحت بقذائف جو ارض SAM أبعد مدى من قذائف SAM وكانت تملك أجهزة إلكترونية تستطيع بها ان تبطل عمل الأجهزة الإلكترونية المعادية عموما والتي تساعد في توجيه القذائف SAM بصفة خاصة. وستنتصر القذائف SAM على الطائرات المعادية إذا كانت هذه الطائرات غير مسلحة بقذائف جو ارض SAM ذات مدى يزيد على مدى القذائف ارض جو وإذا كان لدى الدفاع الجوي أجهزة إلكترونية تستطيع ان تبطل مفعول الأجهزة الإلكترونية المعادية سواء الإيجابي منها ام السلبي.
تطور قواتنا الجوية بعد هزيمة يوليو 67:
كانت خسائرنا في الطيارين خلال حرب يوليو 67 قليلة، حيث إننا خسرنا قواتنا الجوية في هذه الحرب بينما كانت ما تزال رابضة على ارض المطارات مما وضعنا في موقف يسمح لنا بإعادة بناء قواتنا الجوية في وقت أسرع مما لو كنا قد فقدنا الكثير من طيارينا. ومع ذلك فلم يكن من السهل إعادة بناء قواتنا الجوية بشكل يسمح لها باللحاق بمستوى قوات العدو او تضييق الفجوة بين القوات الجوية الإسرائيلية والقوات الجوية المصرية، كانت القوات الجوية الإسرائيلية تسبقنا بعشر سنوات على الأقل. كان طيارينا اقل عددا واقل خبرة حيث ان خلق الطيار الكف عمل اكثر صعوبة من شراء الطائرات لأنه يحتاج إلى 5 سنوات على الأقل، ثم يحتاج بعد ذلك إلى 5 سنوات أخرى لكي يصل إلى قمة كفاءته. في خلال عام 1971 كان عدد الطائرات ميج 21 التي لدينا يزيد على عدد الطيارين، وذلك علاوة على قيام الروس بتشغيل 80 طائرة ميج 21 مصرية بطيارين سوفييت .
لقد بدأت عملية إعادة بناء القوات الجوية في الأسابيع الأولى بعد هزيمة 67 تحت ظروف بالغة الصعوبة، فقد كان على الطيارين القدامى ان يكونوا على استعداد دائم للإقلاع بطائراتهم كواجب من واجبات الدفاع الجوي، وكان عليهم في الوقت نفسه ان يقوموا ببعض الرحلات التدريبية لتدريب أنفسهم أو لتدريب الطيارين البدء ونتيجة لإرهاقهم زادت نسبة الحوادث بينهم أثناء التدريب زيادة كبيرة مما اضطر القيادة العامة إلى التخفيف من الواجبات الملقاة على عاتقهم سواء بالنسبة لواجب العمليات أم بالنسبة لسـاعات التدريب وبينما كانت قواتنا الجوية تمر بهذه الظروف الصعبة كانت القوات الجوية المعادية تتطور تحت ظروف مواتية بل مثالية. لقد كانوا في وضع يسمح لهم بالاطمئنان وعدم الخوف من أية هجمة جوية معاديه، وبالتالي فلم تكن هناك ضغوط على طياريهم للقيام بأعمال المناوبة المستمرة في الدفاع الجوي وكانت لديهم الخبرة والفن، وكانوا يأخذون الوقت الكافي في التدريب وتدريب طيارين جدد، وبالإضافة إلى ذلك كله كانت لديهم الطائرة الفضلى والأسلحة والأجهزة الإلكترونية الفضلى. تحت كل هذه التحديات بدأت القيادة العامة للقوات المسلحة في إعادة بناء القوات الجوية منذ الأسابيع الأولى لهزيمة يونيو67. كان البناء يتم في جميع الاتجاهات استعدادا للمعركة التالية: كان تدريب الطيارين يجرى على قدم وساق، كانت القواعد الجوية يجرى بناؤها في أماكن متفرقة من القطر، كانت الملاجئ الخرسانية تبنىّ في القواعد لحماية الطائرات والطيارين من أي هجوم جوي مفاجئ، كانت عملية الدفاع الجوي والأرضي عن المطارات في تطور مستمر، كانت المجهودات تبذل في كل اتجاه بإعادة بناء قواتنا الجوية.
المهندسون وتامين الدفاع الجوي:
أن تطوير وبناء الدفاع الجوى في مصر قد ألقى بمشكلات ومسئوليات جديدة على عاتق المهندسين، فقد قاموا ما بين عامي 68 و 73 بأعمال ضخمة لصالح الدفاع الجوي إذ بنوا للقوات الجوية حوالي 500 ملجأ من ملاجئ الطائرات في حوالي 20 قاعدة جوية عسكرية وذلك علاوة على ملاجئ الطيارين وغرف العمليات والمستشفيات وجميع الخدمات الأخرى داخل تلك القواعد الجوية.
أما قوات الدفاع الجوي فقد حظيت بالنصيب الأكبر من مجهودات المهندسين، حيث تم بناء المئات من مواقع الصواريخ ارض جو SAM ومهدت مئات الكيلومترات من الطرق لربط هذه الشبكة داخليا وخارجيا. أما القوات البحرية والقوات البرية، فقد كانت متطلباتهما من الدفاع الجوي اقل بكثير من متطلبات القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي، حيث إنها كانت تعتمد أساسا على الملاجئ الخفيفة، ان من الصعوبة بمكان حصر الأعمال الهندسية التفصيلية التي قام بها المهندسون لتأمين القوات المسلحة المصرية ضد الهجمات الجوية المعادية بين 67 و 73، ولكن من الممكن تصورها من حجم الأعمال التالية التي تم تنفيذها خلال هذه الفترة:
30 مليون متر مكعب من أعمال الردم والحفر
3 ملايين متر مكعب من الخرسانة
2000 كيلومتر من الطرق
100 ألف ملجأ من الملاجئ الخفيفة 2×4 أمتار أو ما يعادلها.
سحب الوحدات السوفيتية وأثره على الدفاع الجوي:
بحلول منتصف عام 1972 كان من الممكن القول ان الدفاع الجوي قد وصل إلى مستوى مقبول، وفجأة وقع ما لم يكن في الحسبان عندما قرر الرئيس السادات دون ان يستشير أحدا من رجال القوات المسلحة طرد جميع الوحدات السوفيتية الموجودة في مصر في يوليو 72. كانت جميع الوحدات الروسية التي في مصر هي وحدات تقوم بواجب الدفاع الجوي، حيث كان السوفيت يقومون بتشغيل 30% من الطائرات ميج 21 التي تقوم بالدفاع الجوي وكانوا يقومون بتشغيل 20% من كتائب الصواريخ ارض جوSAM، كما كانوا يقومون بتشغيل الغالبية العظمى من الوحدات الإلكترونية وكانت بعض المعدات الإلكترونية ممتلكات سوفيتية متطورة لم يوافق السوفيت على بيعها لنا على اعتبار إنها على درجة عالية من السرية. وهكذا غادرت هذه المعدات الإلكترونية مصر مع الوحدات السوفيتية، وقد اثر قرار سحب هذه القوات السوفيتية على قدراتنا في الدفاع الجوي تأثيرا كبيرا، ومع ذلك كان من الواجب علينا ان نعمل بجد لتخفيف هذا الأثر بقدر المستطاع. لقد استطاعت قوات الدفاع الجوي (أقصد وحدات الصواريخ ارض جو SAM) ان تهيئ الأفراد المدربين اللازمين لتشغيل كتائب الصواريخ التي كان يقوم الروس بتشغيلها وذلك بحلول نهاية 72، أما القوات الجوية فقد عانت مرة أخرى من المشكلة القديمة وهي زيادة عدد الطائرات على عدد الطيارين، وقد دفعني هذا الموقف لأن اطلب من كوريا الشمالية ان تمدنا بعدد من الطيارين المدربين على قيادة طائرات الميج 21 فاستجابت لهذا الطلب وأرسلت لنا 20 طيارا وصلوا إلى مصر في شهر يوليو 73، ولهذا الموضوع قصة.
الطيارون الكوريون في مصر:
في خلال مارس 73 كان نائب رئيس جمهورية كوريا الديمقراطية في زيارة رسمية لمصر، وكان يرافقه في الزيارة الجنرال زانج زونـج Zang Zong نائب وزير الدفاع الكوري. الذي أبدى رغبته في أن يزور جبهة قناة السويس، وفي يوم 6 من مارس توجهت معه إلى الجبهة وفي خـلال الرحلة أخذنا نتناقش ونتبادل الرأي في الموضوعات العسكرية، وقد تحدثت له عن متاعبنا بخصوص إعداد الطيارين وان لدينا ميج 21 اكثر مما نستطيع تشغيله، ولاسيما بعد ان سحب السوفيت حوالي 100 طيار كانوا يقومون بتشغيل 75 طائرة، ثم انتهزت الفرصة وقلت له "ترى هل يمكنكم ان تمدونا بعدد من طياري الميج 21؟ أن ذلك سيكون ذا فائدة مشتركة للطرفين من ناحيتنا فإنكم ستحلون لنا مشكلة النقص في الطيارين وتسهمون في الدفاع الجوي، ومن ناحيتكم فأن طياريكم سيكتسبون خبرة قتالية ميدانية لأن الإسرائيليين يستخدمون نفس الطائرات ويتبعون نفس التكتيكات التي ينتظر من عدوكم المنتظر في المنطقة أن يستخدمها ويتبعها". سألني عن عدد الطيارين الذين نحتاج إليهم، فقلت له: إننا لا نتوقع منكم ان تملأوا الفراغ الذي تركه السوفيت ولو أنكم أرسلتم سربا واحدا لكان كافيا. وإذا احتاج الأمر مستقبلا لإرسال سرب آخر، فإنه يمكن بحث ذلك فيما بعد. كنا نتناقش كعسكريين ولكن كنا نعلم جيدا أن هذا الموضوع يحتاج إلى قرار سياسي من الطرفين، وقد وعد كل منا الآخر ان يبذل جهده في إقناع الجانب السياسي عنده لاتخاذ القرار المطلوب.
لم أجد أنا أية صعوبة في إقناع وزير الحربية ولكنه أخبرني بأنه سوف يستأذن أولا رئيس الجمهورية ، وبعد ذلك بعدة أيام وافق الرئيس السادات على الفكرة وجلست انتظر الرد الكوري بعد حوالي أسبوعين من رحيل الوفد الكوري عاد الجنرال زانـج زونـج مرة أخرى إلى مصر واخبرني بأن الرئيس الكوري كيم أيل سونج Kim IL Song وافق هو الآخر، ولكنهم يدعونني إلى زيارة رسمية إلى كوريا لمعاينة الطيارين بنفسي قبل إرسالهم إلى مصر، وفي يوم 2 من ابريل 73 بدأت رحلتي إلى بيونج يانج Piong Yang عاصمة كوريا الشمالية.
كانت رحلتي تمر بشنغهاي في الصين نظرا لعدم وجود أية خطوط جوية مبـاشرة إلى بيونـج يانج، ولذلك قررت الحكومة الصينية مشكورة أن تستضيفني لمدة ثلاثة أيام قبل أن اصل إلى بيونـج يانج يوم 6 من أبريل. لم تكن زيارتي للصين زيارة رسمية ومع ذلك فقد احتفي الجـانب الصيني بي وبالوفد المرافق لي احتفاء كبيرا، فقد أقام رئيس أركان حرب القوات المسلحة الصينية حفل عشاء على شرفي تبادلنا خلاله الآراء حول بعض الموضوعات العسكرية والسيـاسية، كما نظمت لي بعض الرحلات الترفيهية، فقمت بزيارة سور الصين العظيم في أقصى الشمال، وزرت الملاجئ العديدة التي أعدتها الصـين لمقاومة أي هجوم نووي، كما زرت مترو أنفاق بكين الجديد والعديد من المتاحف. إن البساطة والاعتماد على النفس وإنكار الذات التي لمستها في الشعب الصيني وفي قيادته السياسية خلال إقامتي القصيرة في الصين ستبقى دائما من الذكريات الحية التي لا يستطيع الزمن أن يمحوها من الذاكرة.
استقبلت في بيونج يانج استقبالا حماسيا وأحيطت الزيارة بهالة كبيره من التكريم والتشريف كنت أينما ذهبت- سواء أكان مؤسسة عسكرية او مصنعا في مغارة داخل الجبل الخ- أقابل بآلاف من الناس يرحبون ويغنون ويلوحون بالأعلام، وبعد هذا الاستقبال الحار يبدأ الأفراد في استعراض خبراتهم وفنهم الذي كان يزيدني إثارة وفي إحدى الزيارات حضرت بيانا عمليا عن ضرب نار تقوم به وحدة من وحدات الحرس الوطني المكلفة بأعمال الدفاع الجوي، كانت الوحدة جميعها من الشابات الصغيرات، كن صغيرات الحجم حتى اعتقدت إنهن دون الخامسة عشرة ولكن قيل لي إنهن في الثامنة عشرة او اكثر، كانت نتائج تدريبهن ممتازة وعندما قمت بتفقدهن بعد انتهاء المشروع التدريبي قلت لهن: "أني أشكركن على ما اظهرتنه من كفاءة في ضرب النار وليس عندي ما أستطيع ان اعبر به عن تقديري سوى ان أهديكن تلك "البيريه" التي ألبسها ثم خلعت "البيريه" القرمزية الخاصة برجال المظلات والتي كنت البسها أثناء الزيارة وسلمتها إلى قائد الوحدة".
هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن كوريا الشمالية وعن رئيسها IL Song Kim إن ما أمكن تحقيقه خلال السنوات العشرين الماضية في هذه البلاد يعتبر شيئا من الصعب تصديقه، انهم لم يعيدوا بناء بلادهم فقط بعد ان هدمتها الحرب الأهلية، بل استطاعوا أن يعتمدوا على أنفسهم في كل شئ، انهم اصبحوا قادرين على إنتاج الغالبية العظمى مما يحتاجون إليه عسكريا ومدنيا، انهم ينتجون الدبابة والمدفع والجرار والماكينة الخ.. وإذا كانت الصين بمواردها الطبيعية الهائلة وبعدد سكانها الكبير قد استطاعت ان تعتمد على نفسها في تطوير نفسها دون عون خارجي من الدول المتقدمة (2)، فإن كوريا الشمالية التي كان تعدادها 15 مليون نسمة فقط تعتبر مثالا فريدا لما يمكن ان تقوم به دولة صغيرة من عمل نحو تطوير نفسها دون الاعتماد على أي عون خارجي. إن الشعب الكوري بأكمله قد نظم وكأنه في ثكنة عسكرية كبيرة، ففي الساعة السابعة صباحا نرى التلاميذ الصغار وهم يحملون الفؤوس وأدوات الحفر الصغيرة التي تتناسب مع أحجامهم وهم يغنون أثناء سيرهم إلى منطقة العمل التي سوف يعملون فيها. إن كل فرد في الدولة سواء أكان كبيرا أم صغيرا يتحـتم عليه ان يؤدي ساعات محددة من العمل اليدوي لمصلحـة الدولة دون اجر. وتطبيقا لذلك فإن رصف الطرق وصيانتها وإنشاء الأنفاق والملاجئ إلى غير ذلك من المنافع العامة يتم إنشاؤها طبقا لجدول عمل ينظم هذا المجهود البشري الضخم، وقد استـفاد الكوريون من طبيعة بلادهم الجبلية ومن وفرة الأيدي العامة في بناء الأنفاق الواقية من القنابل الذرية، وقد نقلوا إلى هذه الأنفاق مصانعهم وحتى مطاراتهم، فقد شاهدت اكثر من مصنع في باطن الجبل كما شاهدت مطارا كاملا لا يظهر منه سوى ممر الإقلاع، أما جميع المنشات الأخرى، فقد كانت في باطن الجبل، لقد كان عملا رائعا يدعو إلى الانبهار حقا. عندما قابلت الرئيس Kim IL Song قلت له: "سيادة الرئيس.. إذا قامت حرب نووية فأخشى ان يدمر العالم بأجمعه وألا يبقى سوى كوريا الديمقراطية". ضحك الرئيس وقال: "اسمع يا سيادة الفريق.. أنا أعرف تماما أنني لا أستطيع ان أتحدى الأمريكيين في الجو، لذلك فإن الحل الوحيد الباقي هو تلافي ضرباتهم الجوية ببناء الأنفاق ثم بعد ذلك نقوم بغمر سمائنا بنيران المدافع والرشاشات". (3)
قمت بالتفتيش ومعاينة الطيارين الذين تقرر سفرهم إلى مصر، لقد كانوا من الطيارين ذوي الخبرة الجيدة وكان الكثيرون منهم لديه ما يزيد على 2000 ساعة طيران، وتم الاتفاق على ان تصرف لهم مرتبات بالجنيه المصري تتطابق تماما مع رواتب الطيارين المصريين. وقد وعدت الرئيس كيم إل سونج بأني شخصيا سأشرف على راحتهم وأننا لن نزج بهم في معركة داخل إسرائيل او فوق الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وأن عملهم سيقتصر على الدفاع الجوي عن العمق، وقد طلبت من الرئيس الكوري أن يبعث لنا ببعض الخبراء في الأنفاق حتى يمكننا الاستفادة من خبراتهم فوافق على ذلك، وعدت إلى مصر يوم 15 من أبريل بعد رحلة من أمتع الرحلات التي قمت بها.
وبمجرد عودتي إلى القاهرة، قمت بتشكيل مجموعة من المهندسين ليكونوا نواة لفرع جديد في الهندسة يطلق عليه "فرع الأنفاق" وفي أول مايو وصل الفريق الكوري من خبراء الأنفاق حيث مكث في مصر لمدة ثمانية أيام قام خلالها بإجراء دراسات ميدانية مع فريق المهندسين المصريين، وعندما زارني الوفد للتحية قبل العودة إلى بلاده قال لي رئيسه: "إن رئيس مجموعة المهندسين المصريين لديه خبرة نظرية ممتازة في الأنفاق ولكن تنقصه الخبرة العملية". كانت الدراسات والتوجيهات التي قدمها خبراء الأنفاق الكوريون مفيدة للغاية، وبعد سفرهم مباشرة قمت بتشكيل مجموعة عمل هدفها وضع التصميم الخاص ببناء مطار في باطن الجبل. كنت ألتقي مع هذه المجموعة مرة كل اسبوع او كل أسبوعين لأناقشهم فيما أمكن التوصل إليه. وعندها قامت حرب أكتوبر 73 كانت المجموعة مازالت تعمل في رسم المشروع ووضع تفصيلاته، وكنا قد أحرزنا تقدما كبيرا في هذا الصدد. كنت احرص على الاجتماع الدوري بهذه المجموعة لسببين: السبب الأول هو اهتمامي بالموضوع،والسبب الثاني هو لون من ألوان الخداع بأن الحرب ليست وشيكة الوقوع، إذ يمكن أن يتصور أن يضيع (ر.ا.ح.ق.م م) جزءا من وقته لوضع تصميم مطار قد يحتاج إنشاؤه إلى خمس سنوات بينما تكون الحرب وشيكة الوقوع. كان من ضمن مجموعة العمل هذه أحد ضباط فرع العمليات في قيادة القوات الجوية. وعندما شاهده اللواء حسني مبارك مشغولا بجمع المعلومات وصنع الرسومات وكان ذلك قبل بدء العمليات بأقل من أسبوعين، نهره وقال له: أليس عندك ما هو أهم من ذلك. فرد عليه قائلا: ان الفريق الشاذلي هو الذي طلب منه ذلك، فتعجب حسني مبارك وقال له سوف أسال رئيس الأركان لأتحقق مما تقول، وعندما قابلني حسني مبارك بعد ذلك بيومين حكى لي القصة وضحكنا نحن الاثنين.
في أوائل يوليو 73 بدا الطيارون الكوريون في الوصول، وقد اكتمل تشكيل السرب الذي يعملون به خـلال شهر يوليو، وفي 15 من أغسطس أذاع راديو إسرائيل ان هناك طيارين كوريين في مصر، فاتصل بي الدكتور اشرف غربال المستشار الصحفي لرئيس الجمهورية، وسألني عن صحة الخبر، فأخبرته بأن الخبر صحيح ولكن إذاعته وعدم إذاعته هو قرار سياسي ولاسيما ان هناك دولة أجنبية أخرى يجب استطلاع رأيها قبل إعلانه، والآن وبعد مرور خمس سنوات على هذه القصة وبعد ان عاد الكوريون واصبح تدعيمهم لنا وقت الحرب جزا من التاريخ، فقد قررت ان أحكي القصة بكاملها حتى يعرف شعب مصر كل من وقفوا معه وقت الشدة ان أمريكا وإسرائيل والاتحـاد السوفيتي يعلمون حقائق الدعم الكوري، ان الطيارين اثناء تدريبهم اليومي يتحدثون باللاسلكي باللغة الكورية مع أعضاء التشكيل ومع الموجهين الأرضيين، وفي استطاعة أية إدارة مخابرات أجنبية ان تسجل هذه المحادثات، وإذا كان كل من يهمهم الأمر يعرفون، فلماذا نخفي هذه الحقائق عن شعب مصر وعن الشعب العربي؟
إن التجريدة الكورية التي أرسلتها كوريا الشمالية الى مصر تعتبر من اصغر التجريدات التي أرسلتها دولة إلى دولة صـديقة أخرى في تاريخ الحروب. لقد كان عدد هذه التجريدة 30 طيارا و 8 موجهين جويين، و5 مترجمين و 3 عناصر للقيادة والسيطرة وطبيبا وطباخا، كانت القاعدة التي خدموا بها تضم 3000 مصري، وكان المصريون يديرون شبكات الرادار والدفاع الجوي والدفاع الأرضي عن القاعدة وجميع الشئون الإدارية الخاصة بالسرب، وقد زرت تلك القاعدة عدة مرات لأتأكد من عدم وجود مشكلات ولكني كنت دائما أجد ان كل شئ يسير على ما يرام،كانت العلاقة بين الكوريين والمصريين تسير على احسن ما يرام. كان الكوريون بالنسبة لرجالنا شخصيات غريبة، فقد كان الطيارون يعتمدون على أنفسهم في كل شئ، انهم ينظفون أماكن سكنهم بأنفسهم ويشغلون أنفسهم دائما بشيء ما. فأحدهم إما ان يكون في مهمة تدريبية او انه يقوم بالدراسة او بأعمال رياضية.. ليس لديهم أي وقت للفراغ، وليست لديهم أية متاعب ادارية يشكون منها، وقد وقع اشتباكان او ثلاثة بين الطيارين الكوريين والإسرائيليين قبل حرب أكتوبر ووقع الكثير خلال الحرب نفسها.
نصب كمين دفاع جوي لطائرة إسرائيلية:
ان إسرائيل لم تحترم قط أي قرار لوقف إطلاق النار فيما يتعلق باستخدام قواتها الجوية، انهم كانوا يودون ان يذكرونا دائما بتفوقهم الجوي فكانوا يتعمدون دائما ان يخترقوا مجالنا الجوي، كانوا ينتخبون قطاعات اختراقهم بعناية فائقة بحيث يتفادون دائما الدخول ضمن مرمى نيران صواريخنا المضاد للطائرات وبالتالي فقد كانوا دائما يدخلون ويخرجون دون ان ينالوا أي عقاب، وقد ضقت ذرعا بهذه اللعبة وقررت ان ألقنهم درسأ في ذلك.
لقد كانت مواقع صواريخنا ارض جو تبعد حوالي 15-20 كم غرب القناة لكي تكون خارج مرمى مدفعية ميدان العدو، وقد كان ذلك يحد من مدى قدرتنا على إسقاط الطائرات التي تطير شرق القناة وكان العدو يقوم بعملية استطلاع إلكتروني بصفة دورية بواسطة طائرة ستراتو كروزر محملة بأجهزة إلكترونية بالغة الدقة والحساسية. كانت هذه الطائرة ترصد وتحـدد جميع مواقع صواريخنا وراداراتنا وأجهزتنا الإلكترونية وهي تطير على ارتفاع متوسط في خط مواز للقناة وشرقها بحوالي 3 كم، وكانت بذلك تضمن ان تكون خارج مدى صواريخنا. وباتفاق سري بيني وبين اللواء محمد علي فهمي قائد الدفاع الجوي قررنا أن ننصب كمينا لهذه الطائرة وذلك بأن ننقل ليلا إحدى كتائب الصواريخ إلى موقع متقدم يقع غرب القناة بحوالي 5 كم. ثم يقتنص الطائرة الإسرائيلية عند مرورها المعتاد، تم تجهيز الكمين واتصل بي اللواء محمد علي فهمي يوم 16 من سبتمبر ليؤكد استعداده لتنفيذ المهمة ويطلب التصديق النهائي على تنفيذ المهمة فصدقت عليها.
وفي تمام الساعة 1511 يوم 17 من سبتمبر 71 كانت طائرة الاستطلاع الإلكتروني، ذلك الهدف الثمين، قد أصبحت أشلاء صغيرة متناثرة جنوب البحيرات (4) انسحب الكمين بسرعة بعد إسقاط الطائرة المعادية، وأخذت أعد العدة لمقابلة الانتقام المنتظر من العدو فرفعت درجات الاستعداد في القوات الجوية والدفاع الجوي وبعض عناصر القوات الأرضية والبحريه. كان رد فعل العدو سريعا وفوريا، فقد جاء في اليوم التالي مباشرة أي في يوم 18 من سبتمبر، ولكن كان واضحا ان رد العدو يتميز بالعصبية وسوء التقدير. لقد قامت طائراته بإطلاق قذائفها جو أرض SAM طراز شرايك من مسافة 10 كم شرق القناة على مواقع راداراتنا التي كانت على بعد حوالي 20 كم غرب القناة فلم تتمكن أية قذيفة من الوصول إلى هدفها. لقد كان واضحا ان الطيارون كانوا يخشون الاقتراب من القناة إلى مسافة تقل عن 10 كم خوفا من وجود كمين أخر، فكان ذلك في حد ذاته يعتبر نصرا لنا، كما ان استخدامه للقذائف Shrike كانت فرصة جيدة لتدريب قواتنا، كنا نعلم ان العدو لديه هذه القذائف وكانت لدينا خطط لمقاومتها، وكنا ننتظر الفرصة لتجربة هذا الأسلوب في مقاومة القذائف "شرايك" فأعطانا العدو هذه الفرصة مما أكد لنا نجاح الأسلوب الذي كنا قد أعددناه لذلك.
العدو ينصب لنا كمينا جوياً:
في يوم 13 من يوليو 72 وفي تمام الساعة 1619 اخترقت طائرتان إسرائيليتان من طراز فانتوم مجالنا الجوي في منطقة راس العش وتوغلت في اتجاه الدلتا، و أقلعت طائرتان مصريتان من طراز ميج 21 من مطار المنصورة لاعتراض الطائرتين الإسرائيليتين. هربت الطائرتان المعاديتان في اتجاه البحر بينما استمرت طائرتانا في مطاردتهما، وفجأة وقعت طائرتانا في الكمين الجوي الذي اعد لهما والذي لعبت فيه الطائرتان المعاديتان دور الطعم لسحبهما إلى منطقة الكمين، وفي الوقت الذي اكتشف فيه القائد المناوب في غرفة العمليات وجود الكمين المعادي على شبكة الرادار كان الوقت قد فات لتحذيرهما او لتدعيمهما، دفعنا ثماني طائرات ميج 21 أخرى لتعزيز طائرتينا السابقتين ولكن العدو كان قد أسقطهما وغادر المكان قبل وصول تعزيزاتنا إلى المنطقة.
إن هذه القصة تبين المشكـلات التي تعترض المسئولين عن الدفاع الجوي. أن العدو يستطيـع دائما ان يخترق أجواءنا، فإذا لم نقم باعتراضه فإنه سيزداد غرورا وصلفا، وإذا نحن أردنا ان نقوم باعتراضه بسرعة فإننا ندفع بطيارينا إلى السماء دون أية خطة لمقابلة خصم قد خطط وجهز واعد لكل شئ عدته. ولتلافي وقوع مثل هذه الأحداث مرة أخرى اصدرت تعليمات جديدة تنظم الخطوات التي تتبع في حالة الاختراقات الجوية المعادية، وكانت هذه التعليمات تشمل النقاط الأساسية التالية:
1- تتخذ طائراتنا أوضاعها على شكل مظلات جوية في المناطق السابق تحديدها.
2- يتم تقييم الموقف بهدوء وتفكير بدلا من مجرد مطاردة طائرات العدو دون أية خطة.
3- لا يسمح بالدخول في معركة جوية من موقف غير متكافئ.
وقد أراد العدو أن يكرر الأسلوب نفسه بعد ذلك بيومين فقام باختراقات على طول منطقة البحر الأحمر بعد ظهر يوم 15 من يوليو، ولكن تعليماتي السابقة كانت نافذة ولم تبتلع قواتنا الجوية الطعم الذي كان يعرض عليها.
دفاعنا الجوي يسيطر على سماء القناة:
في يوم 24 من يوليو 72 حاول العدو ان يستفيد من الأنباء الخاصة بطرد الخبراء السوفيت من مصر، فاقترب بطائراته من القناة بأكثر مما كان يسمح به لنفسه في الماضي فأسقطنا له في الساعة 1645 من هذا اليوم إحدى طائراته التي كانت تطير على مسافة 10 كيلومترات شرق القناة ومنذ ذلك الحين اصبح لا يقترب بطائراته إلى مسافة تقل عن 14 كم من القناة وفي يوم 10 من أكتوبر 72 حاول ان يكسر هذه القاعدة فاقترب بأحد تشكيلاته من القناة فأطلقنا عليه قذيفتي ارض جو. فطاشت إحداهما وأسقطت الثانية إحدى الطائرات كان يبدو أن العدو يحاول اختبار أسلوب جديد في الهجوم لأنه حاول في الوقت نفسه ان يعوق عن العمل راداراتنا المخصصة للإنذار وراداراتنا المخصصة لإدارة النيران، لقد كانت فرصة تدريبية لكلا الطرفين.
وفي يوم 28 من يوليو 73 حاول العدو الطيران مرة أخرى فوق المنطقة غير المسموح بها، فاسقطنا له في الساعة 1612 إحدى طائراته ومنذ ذلك الوقت وحتى حرب أكتوبر في العام نفسه لم يحاول طيران العدو قط أن يقترب إلى القناة مسافة تقل عن عشرة كيلومترات لقد فرضنا سيطرتنا الجوية فوق هذه الشقة من الأرض بواسطة صواريخنا ارض جو. وهكذا مهدنا الظروف لعملية العبور التي كنا نعد لها.
الفصل الحادي عشر: موقف القوات البحرية
لم تتحمل قواتنا البحرية خسائر تذكر خلال حرب يوليو 67 وبعد أقل من أربعة أشهر من وقف إطلاق النار خلال تلك الحرب قامت قواتنا البحرية بتـوجيه ضربة قوية إلى القوات البحرية الإسرائيلية وذلك بإغراقها المدمرة إيلات، لقد كانت إيلات تقوم بأعمال الدورية على السواحل الشمالية لسيناء المواجهة لبور سعيد. وكـانت خلال مهمتها تقترب أحيانا حتى مسافـة 5 و 6 أميال من بور سعيد، وقد صدرت الأوامر إلى سرب بحري زوارق الصواريخ بإغراق هذه السفينة إذا تجاوزت حدود 12 ميلا. وفي يوم 21 من أكتوبر 67 قامت السفينة باختراقها المعهود، فظل سرب الصواريخ صامتا إلى أن أصبحت على مسافة 9 أميال فأطلق عليها مقذوفين سطح سطح SSM فأغرقها، ويعتبر هذا التاريخ ذا أهمية كبيرة في تطور الحروب البحرية بصفة عامة وفي تاريخ بحريتنا بصفة خاصة، فعلى الرغم من أن القوارب كومار والقذيفتين اللتين استخـدمتا في إغراق إيلات كـانت جميعها سوفيتية الصنع إلا ان المصريين كانوا أول من يستخدم هذه الصواريخ في الحروب البحرية في تاريخ العالم.
لقد احدث إغراق ايلات- وهي قطعة بحرية كبيرة بواسطة قارب صغير- تغييرا كبيرا في تصور المفكرين بالنسبـة للحروب البحرية القادمة، وقد كان التأثير كبيرا في إسرائيل نفسها" فمنذ هذا التاريخ أخـذت إسرائيل تبنى قواتها على أساس أن القوارب الصغـيرة السريعة والمسلحـة بالصواريخ سطح سطح هي أساس القوة الضاربة البحـرية الإسرائيلية، وقد بدأت إسرائيل بشراء 13 قاربا من طراز سعر SAAR من فرنسا وسلحـته بصواريخ جبريل التي قامت بتصنيعها محليا، وفي الوقت نفسه بدءوا في بناء نوع جديد من القوارب السريعة في ترسانة حيفا، واطلقوا عليه اسم Reshef وقد قامت إسرائيل بتدشين أول قارب من هذا النوع يوم 19 من فبراير 73، ومنذ ذلك التاريخ وهي مستمرة في بناء هذه القوارب بمعدل قاربين في كل عام، وبنهاية عام 78 أصـبح لديها 12 قاربا من هذا النوع، وقد تم تطوير القذيفة جبريل SSM. بحيث يصل مداها إلى40 ميـلا. وسلح كل من القوارب سعر وريشيف وتبلغ حمولة القارب ريشيف 413 طنا ويحمل 7 قذائف جبريل. ومداه 1500 ميل. و أقصى سرعة له هي 32 عقدة في الساعة، وطاقمه 45 رجلا، وقد قامت إسرائيل أيضا ببناء قوارب أخرى صغيرة حمولة إحداها 35 طنا وطاقمه 6 أفراد وأطلقوا عليه اسم الدبور Dabur ،تجهيز هذا القارب لأغراض مختلفة، فمنها ما يجهز بأنابيب لإطلاق الطوربيد، ومنها ما يجهز بالرشاشات، ومن مزايا هذه القوارب أنها صممت على أساس إمكان نقلها برا. وهكذا فإن إسرائيل تستطيع نقلها من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر والعكس باستخدام ناقلات برية (1).
وعلى الرغم من قوارب سعر التي اشترتها إسرائيل من فرنسا وعلى الرغم أيضا من خطة إسـرائيل لبناء القوارب، فقد كانت قواتنا البحرية متفوقة على القوات البحـرية الإسرائيليـة من حيث الكم والكيف خلال الفترة ما بين 67 و 73، ولكن نظرا للتفوق الجوي الإسرائيلي فقد أصبحت قواتنا البحرية عاجزة عن الحركة بل وأحيانا كنا عاجزين عن توفير الحماية الجوية لها، وهي داخل موانئها. ومن هنا فلم تكن هناك حاجة ماسة لتطوير وتدعيم قواتنا البحـرية، ما الفائدة التي يمكن ان نجنيها من زيادة قدرة قواتنا البحـرية في الكم والكيف إذا كـانت هذه القوات لا تسـتطيع أن تعمل في ظل تفوق جوي مضاد إن النظرة الواعية من وجهة نظر مصـر هي التركـيز أولا على الدفاع الجوي والقوات الجوية قبل الانتقال إلى مرحلة تقوية القوات البحرية، ونتيجة لهذا التفكير المنطقي فإن القوات البحرية المصرية لم تتطور خلال تلك الفترة إلا نادرا وبالنسبة فقط لبعض المعدات التكميلية، ولا أعتقد أنه من الحكمة العمل على تطوير القوات البحرية الآن إلا بعد حل مشكلة الدفـاع الجوي، لقد كنا حتى أكتوبر 73 نستطيع أن نتحرك ليلا، حـيث يقل تأثير القوات الجوية المعادية. أمـا بالنسبة لحروب المستقبل، فإن القوات الجوية الإسرائيلية تستطيع أن تحرم قواتـنا البحـرية حتى من التحرك ليـلا. إن الطائرات الإسرائيلية طراز F4 ، وكفير و F16 المسلحة بقذائف جو ارض SAM تستطيع أن تصيب أية سفينة معاديـة نهارا او ليلا وهي على مسـافة 110 كم إذا استخدمت قذيفة هاربون Harpoon ومن مسـافة 60- 80 كم إذا استخدمت Condor الأمريكية أو قذيفة LOZ الإسرائيلية، وليس هناك من وسيلة لمقابلة هذا التهديد سوى باعتراض الطائرات المعادية وإسقاطها قبل أن تصبح مقذوفاتها جو سطح في مدى قطعنا البحرية (حوالي 110 كم) ونظرا لضيق الرقعة التي تفصل إسرائيل عن مصر فإن هذا الوضع لا يمكن ان يتحـقق إلا إذا حصلت مصر على السـيطرة الجوية، وهذا سوف يعيدنا مرة أخرى إلى ان تقوية الدفاع الجوي والقوات الجوية يجب أن تأتي في المقام الأول قبل التفكير في تقوية وتطوير القوات البحرية.
الفصل الثاني عشر: تطور خطة التعبئة العامة
يمكن القول أن خطة التعبئة العامة في مصر حتى منتصف 1972 كانت تعتبر من أسوأ خطط التعبئة في العالم، وأني لا ألقي اللوم في ذلك على أحد، وذلك لعدة أسباب: السبب الأول هو عدم توافر السلاح، فقد كان السلاح دائما من القلة بحيث لا يكاد يكفي احتياجات القوات العاملة، وتحت هذه الظروف فإن بناء جيش كبير من الاحتياطي دون ان يكون لدى الدولة السلاح التي تستطيع ان تسلح به هذا الجيش، يعتبر مجهودا ضائعا. أما السبب الثاني، فهو اضطرارنا في مصر- نتيجة السيطرة الجوية للعدو- إلى الاحتفاظ بقوات أرضية كبيرة في الجيش العامل، وذلك لحماية أهدافنا المتعددة في العمق ضد جماعات العدو المنقولة جوا او المنقولة بحـرا، ونتيجة لهذا فإنه لا يمكننا كما هو الحال في إسرائيل مثلا- أن نحتفظ بنسبة قليلة من قواتنا المسلحة في الجيش العامل وان نبقى الجزء الأكبر من قواتنا المسلحة في الاحتياط، ففي إسرائيل تمثل القوات العاملة حوالي 30ـ40% من حجم قواتها المسلحة وتستطيع ان تعبئ قواتها المسلحة الآن (1978) في خلال 24 ساعة، وتعتمد إسرائيل على قواتها الجوية المتفوقة في ستر وحماية عملية التعبئة العامة إذا ما فوجئت بهجوم مباغت كما حدث خـلال حرب أكتوبر 073 أما بالنسبـة إلى مصر فنظرا لضعف قواتها الجوية فإنها إذا ما فوجئت بهجوم مباغت وكان حوالي 60% من قواتها المسلحة في الاحتياط فقد تجـد نفسها في موقف صعب للغاية، وقد يتم حسم المعركة قبل ان تكتمل التعبئة. أما السبب الثالث والأخير الذي دعا المصريين إلى عدم الاهتمام الكبير بموضوع التعبئة فهو القرار الخاص بإيقاف النقل إلى الاحتياط (عدم تسريح الجنود عند قيامهم بإتمام مدة الخدمة الإلزامية) اعتبـارا من عام 1967 واستمرار سريان هذا الأمر حتى منتصف يوليو 1972، وبالتالي فقد اختفي العنصر الأساسي لتكوين القوات الاحتياطية. عندما وصلت قواتنا المسلحة العاملة خلال النصف الأول من عام 72 إلى حوالي مليون رجل بدأت الحكومة تطالب بضرورة تسريح جزء من القوات المسلحـة ممن طالت مدة تجنيدهم التي وصل بعضها إلى ما يزيد على 6 سنوات وكانت الحكومة ترمي من وراء ذلك إلى ثلاثة أهداف. كان الهدف الأول هو التوفير، والهدف الثاني هو الاستفادة من الكثير من عناصر المثقفين المجندين في القوات المسلحة، فقد كان من بينهم الكثيرون من الأطباء والمهندسين والمعلمين الخ.. ممن تحتاج إليهم الدولة سواء للخدمة داخل مصر أو لإعارتهم للدول العربية التي كانت في حاجة ماسة إلى خدماتهم. أما الهدف الثالث، فقد كان يرمى إلى رفع معنويات المجندين- ولا سيما خريجي الجامعات- الذين طالت مدة خدمتهم دون أن يعرفوا متى سوف تنتهي. كان الكثيرون منهم يتوقون إلى أن يبنوا مستقبلهم أو يؤسسوا أسراً وكانوا يؤجلون ذلك عاما بعد عام والآن اصبحوا يقولون لنا بصراحة "متى؟حددوا لنا تاريخ انتهاء خدمتنا في القوات المسلحة حتى نستطيع أن نرتب حياتنا"، وهكذا اتخذ القرار خلال شهر يوليو 72 بأن نقوم بتسريح 30000 رجل من القوات المسلحة في الأول من يوليو 72.
في ظل هذه الظروف الجديدة وجدت نفسي مضطرا لدراسة خطط التعبئة في مصر وفي البلاد الأخرى المشهورة بكفاءة خطط تعبئتها وهي السويد وسويسرا وإسرائيل، وقد اتضح لي أن خطة التعبئة المصرية مليئة بالعيوب ويمكن تلخيص العيوب الرئيسية فيما يلي:
1- كان تسجيل البيانات سيئا للغاية، وكان نتيجة ذلك التسجيل السيئ أنه عندما يستدعى أحد جنود الاحتياط فإنه كثيرا ما طلب إليه العمل في وظيفة لم يؤهل لها وأن يستخدم سلاحا لم يسبق له أن تدرب عليه.
2- كانت تذاكر التسجيل وحفظها وبالتالي استدعاء جندي الاحتياط يتم على أساس مكان ميلاد الشخص ولا يحدد طبقا لمكان سكن الفرد بعد تسريحه من الخدمة، وبالتالي فلم يكن من السهل العثور على الفرد والاتصال به لاستدعائه.
3- لم تستخدم الأجهزة الحديثة مثل العقل الإلكتروني (الكمبيوتر Computer)، بل كانت التعبئة تتم بواسطة الأعمال اليدوية وهو عمل شاق ويحتاج إلى وقت طويل، ونتيجة لذلك- وتحت ضغط عامل الوقت- كـان يتم الاستدعاء بأعداد اقل مما هو مطلوب بالنسبة لبعض التخصصات وبأعداد اكثر مما هو مطلوب بالنسبة لتخصصات أخرى.
4- كانت خطة التعبئة المصرية- نظرا لعدم حبك أطرافها- تعتمد على المركزية الشديدة فقد كان على كل جندي احتياطي أن يصل إلى مركز التعبئة في القاهرة حيث تصرف له البندقية كسـلاح شخصي وتصرف له مهماته العسكرية ثم يرحل بعد ذلك إلى مراكز تدريب الأسلحة المختلفة (مشاة مدرعات مدفعية .. الخ) وبعد قضاء فترة تدريب مركزة في مراكز التدريب هذه يتم ترحيله إلى الوحدة التي سيخدم فيها (1)، وهكذا يجد الفرد نفسه في وحدة لا يعرف فيها أحدا ولا يربطه بها أي نوع من الحب او الذكريات انه غريب بين مجموعة من الغرباء.
5- كان الضباط العاملون الذين يشكلون كوادر هذه الوحدات الاحتياطية ينتخبون من أضعف المستويات وكانت الغالبية العظمى منهم من الضباط المشاغبين أو ذوي المستوى الضعيف في التدريب أو الانضباط العسكري ممن رفضتهم وحداتهم رغبة في التخلص منهم، وهكذا فإن هؤلاء الضباط يذهبون إلى تلك الوحدات الاحتياطية بقلوب كسيرة وبمعنويات منخفضة فيضيفون مشكلات جديدة لهذه الوحدات بدلا من العمل على حل مشكلاتها.
وبعد دراسة خطة التعبئة السويسرية استبعدتها لسببين: السبب الأول هو أن الحكومة السويسرية تسمح للجندي المسرح بأن يحتفظ بملابسه وسلاحه الشخصي في مسكنه، وهذا موضـوع لا يمكن أن تسمح به القيادة السياسية المصرية،أما السبب الآخر فهو أن الأغلبية العظمى في القوات البرية السويسرية- نتيجة لطبيعة أرضها الجبلية- هي من جنود المشاة الذين يمثلون اسهل المشكلات في موضوع التعبئة، وبدراسة تفاصيل خطة التعبئة الإسرائيلية اتضح لي إنها تعتمد أساسا على أسلوب التعبئة السويدية بعد إدخال بعض التعديلات إليها لكي تتمشى مع طبيعة إسرائيل العدوانية.
كانت خطة التعبئة السويدية تعكس الفكر العسكري السويدي. كانت خطة التعبئة تخدم خطة دفاعية ثابتة، أن جميع الأسلحة الثقيلة من دبابات ومدافع وعربات الخ في مخازن متفرقة في المناطق التي سوف تعمل فيها طبقا للخطة، كان جميع الأفراد الذين سيقومون بتشغيل هذه الأسلحة يعيشون فعلا في المناطق التي سيعملون فيها وعلى مسافات قريبة من أماكن تخزين الأسلحة والمعدات التي سوف يقومون بتشغيلها، ويجري باستمرار تعديل أفراد الوحدة طبقا لانتقال الفرد من مكان لآخر. فلو فرضنا مثلا إن شخصا ما كان يعمل في شمال البلاد، وكان بالتالي ينتمي إلى وحدة ستعمل في الشمال، ثم نقل هذا الفرد إقامته الدائمة إلى الجنوب فإنه يتم نقله من كشوفات وحدته في الشمال إلى وحدة قريبة من مقر عمله. ومما لا شك فيه أن هذا الأسلوب يعتبر أسلوبا رائعا في كثير من مظاهره، إنه يخفض وقت التعبئة إلى اقل وقت ممكن ويخفف الضغط على وسائل المواصلات المطلوبة لنقل كل فرد من مكان إقامته إلى وحدته. إن معظم أفراد الوحدة يعرفون بعضهم بعضاً لأنهم جميعاً يعيشون بصفة دائمة في منطقة واحدة. ومن الممكن استدعاؤهم سنويا للتدريب في يسر وسهولة نظرا لقرب الأفراد من مكان الاستدعاء كما انه يمكن توقيت الاستدعاء في التوقيتات المناسبة، بحيث لا يؤثر على الإنتاج (2). وأخيرا فإن هذا الأسلوب يثبت في ذهن الفرد بأنه لا يقاتل في سبيل وطنه فقط، بل إنه يدافع أيضا عن كيانه الشخصي. أنه يدافع عن منزله وعن أسرته وأرضه، وإذا اكتسحها العدو فإنه سوف يخسر كل شئ، وبالتالي فإنه يكون أكثر حماسا وأكثر إقبالا على الفداء. وعلى الرغم من هذه المزايا كلها فإن خطة التعبئة السويدية كان بها بعض العيوب، إذ تنقصها المرونة وتظهر بوضوح خطة البلاد الدفاعية مما يمكن العدو المهاجم من استغلال نقاط الضعف فيها.
وبعد هذه الدراسات قررت أن تعتمد خطة تعبئتنا أساسا على بعض أفكار الخطة السويدية مع إدخال بعض التعديلات التي تتمشى مع ظروفنا الحربيـة والسـيـاسيـة والاقتصـادية، فلم يكن من الممكن أن تتم التعبئـة جغرافيا وأن يدافع كل فرد في إقليمه لأن الهجمة الصهيونية التي تتعرض لها مصر تأتي من اتجاه سيناء ولذلك يجب علينا أن نحشد جميع مواردنا في هذا الاتجـاه أما بخصوص إنشاء الوحدات الاحتيـاطية، فقد رأيت أن من الأفضل أن تشكل هذه الوحدات من دفعات متعدد ة على مدى 9 سنوات وهى المدة التي يحددها قانون التجنيد المصري للخدمة في الاحتياط أي أن حجم القوات الاحتياطية في نهاية 9 سنوات من بدء تنفيذ الخطة يصل إلى ما يعادل حجم المسرحين في خلال 9 سنوات أي ما يعادل حوالي 1,5 مليون رجل، ثم يجري بعد ذلك تغيير تسع هذه القوة سنويا، وذلك بإنهاء خدمة القدامى نهائيا من الخدمة في وحدات الاحتياط على أن تحل محلهم عناصر جديدة من الجنود المسرحين حديثا من الخـدمة في القوات العاملة. وكمرحلة انتـقالية تسبق تشكيل الوحدات الاحتياطية وجدنا انه يمكن للوحدات العاملة أن تعمل بنسبة استكمال 85-90% من مرتباتها من الأفراد بعد نقل بعض أفرادهـا إلى الاحتياط ، أي أنه في حالة نقل عدد من أفراد من وحدات الجـيش العامل إلى الاحـتيـاط فان هذه الوحدة العاملة تحتفظ بوظائف هؤلاء المجندين المنقولين إلى الاحـتياط شـاغرة طالما كان هذا النقص يتراوح ما بين 10-15% من قوة الوحدة في كل تخصص. وعند التعبئة يعود الفرد إلى وحدتـه التي كان يعمل بها وإلى وظيفته التي كان يشغلها، وكأنه كان في إجازة طويلة من الوحدة.
وتطبيقا لهذه الأفكار الجديدة اتخذنا الإجراءات التالية:
1- قمنا بإدخال تعديلات جوهرية في أسلوب التسجيل بحيث أمكن به تلافي جميع العيوب السابقة.
2- أدخلنا نظام الميكنة والكمبيوتر ووضعنا البرامج التي تخدم جميع مطالبنا، وبذلك أصبح بإمكاننا أن نستدعي أي عدد محدد نطلبه، سواء أكان ذلك طبقا للوظيفة أم طبقا للوحدة أم تاريخ التجنيد أم التخصص أو السلاح. الخ..
3- افتتحنا 100 مركز تعبئة (الهدف النهائي هو إنشاء 350-400 مركز تعبئة بحيث يتوافر مركز واحد لخدمة كل تجـمع سكاني يبلغ 000, 100 نسمـة، وبحيث لا تزيد المسافة بين المركز وبين أبعد منطقة يخدمها على 10 كيلومترات أيهما أفضل).
4- عندما ينقل أي فرد إلى الاحتياط فإنه يذهب إلى مركز التعبئة المخصص له، حيث يقوم بتسليم مهماته العسكرية وينهي جميع علاقاته بالقوات المسلحة.
5- يتم استدعاء الفرد عن طريق مركـز التعبئـة، وفي هذه الحالة يتوجه الفرد إلى المركز حيث يتسلم مهماته العسكرية ويترك ملابسه المدنية ثم يسافر فورا إلى وحدته طبقا لما يلي:
أ- خلال المرحلة الانتقالية فإنه يتوجه مباشرة إلى وحـدته الأصلية في القوات العاملة، حيث يستلم العمل نفسه الذي كان يقوم به قبل النقل إلى الاحتياط.
ب- بعد أن تنتهي الفترة الانتقالية فإنه ينتقل من مركز التعبئة إلى منطقة حشد الوحدة، حيث تكون الأسلحة والمعدات الخـاصة بالوحـدات الاحتيـاطية في التخزين، ويتم تشكيل الوحدة في هذا المكان قبل أن تتحرك لتنفيذ واجبها في العمليات. ويلاحظ هنا أن نظامنا يختلف عن الأسلوب السويدي الذي يعتمد أساسا على التعبئة جغرافيا في حين أننا نجمـع بين الأساس الجغرافي واتجاه العمليـات المستـقبلة، فقد أخذنا بالمبدأ الجغرافي فيما يتعلق بالفرد وأخـذنا بمبدأ اتجاه العمليات بالنسـبة للأسلحة والمعدات الثـقيلة، لأن نقل الفرد أسهل بكثـير من نقل الأسلحة والمعدات ولاسيما الثقيل منها.
وبمحض الصدفـة كان رئيس أركان حرب القوات المسلحـة السويدية في زيارة خـاصة لمصر في أواخر شهر يونيو، فلما علمت بوجوده دعوته للغداء يوم 26 من يونيو 72 في نادي الضباط، وفي أثناء تناول الغداء تحدثت معه عن أسلوب التعبئة في السويد وأخبرته أني قرأته وأعجبت به ولكن هناك بعض التساؤلات التي أريد أن استطلعها والتمست منه الموافقة على أن أرسل ضابطين مصريين إلى السويد لإجراء دراسة ميدانيـة على هذا الأسلوب لاستيضاح النقاط التي مازالت خـافية علينا.
إعتذر (ر.ا.ح.ق.م) السويدية بأدب جم وقال إنه يخشى إن هو قبل ذلك أن يكون هذا التصرف خرقا لموقف السـويد الحيادي الذي تحرص عليه كل الحرص، وقد سارعت بالاعتذار له لأنني فاتحته في هذا الموضوع ورجوته أن يعتبر الموضوع منتهيا. وفي 4 من أغسطس من العام نفسه وصلني منه كتاب من السويد مرفق بمطبوعات كثيرة عن نظام التعبئة في السويد، يعلمني فيه بأنه يوافق على حضور ضابطين مصـريين لاستكمال الدراسة الميـدانية في السويد لمدة أسبوعين. وعلى الفور قمنا بدراسة المطبوعات الجديدة بعناية وأعلنت عن مسابقة لاختيار هذين الضابطين، وفي 14 من أكتوبر 72 أقلعا إلى استكهولم ، وبعد عودتهما ناقشتهما فيما شاهداه ورأياه فازددت يقينا من أننا كنا نسير في الاتجاه السليم.
تم تطبيق الخطة الجديدة للتعبئة على كل من ينقل إلى الاحتياط اعتبـارا من شهر يونيو 1972 ، وكان عددهم 30,000 (3)، ولكن للأسف لم نتمكن من تطبيق هذا النظام على تلك الدفـعة بنسـبة 100% نظرا لأننا لم نتمكن من إنشـاء مراكز التعبئـة المائة التي كنا نريد إنشاءها قبل الأول من يونيو 72، أما الدفعات التاليـة، فقد تم تطبيق النظام الجديد عليـها 100%. ولتصـحيح وضع دفعة يونيو 72 قمنـا باستدعائها في الفترة ما بين 5-10 من أكتوبر 72، وتم تصحيح أوضاعها طبقا للنظام الجديد. كان أجمالي المسرحين من دفـعة يونيو 72 ودفعة ديسمبر 72 ودفعة يونيو 73 حوالي 100,000 رجل وأصبح في إمكاننا استدعاء هذا العدد الضخم و إشراكه في القتال في فترة تتراوح بين 24 و 48 ساعة فقط.
أعلنا أن الاستدعاء لمدة أسبوع واحد التزمنا بما وعدنا به وهكذا تولدت الثقة بين الجميع، وأصبحت فترات الاستدعاء هذه فرصة طيبة لتدريب جهاز التعبئة وإعادة تدريب وصقل جنود الاحتياط والأهم من ذلك كله تعود العدو على عمليات التعبئة لأغراض التدريب دون أن يشعر بالقلق. وفي يوم 27 من سبتمبر بدأنا عملية التعبئة الحقيقية بطلب استدعاء 70,000 رجل، وفى يوم 30 من سبتمبر طلبنا استدعاء 50,000 رجل أخر، ولكي نخدع العناصر العميلة التي تراقب أعمالنا قمنا بتسريح 20,000 رجل يوم 4 من أكتوبر من الدفعة الأولى التي استدعيناها يوم 27 سبتمبر، وهكذا سارت الأمور في يسر وسهولة وابتلع العدو الطعم الذي كنا نقوم بإعداده منذ مدة طويلة وفوجئ بالحرب يوم 6 من أكتوبر دون أن يشـعر بتعبئة 100,000 رجل. والآن يجب أن نتساءل: لو لم يكن لدينا هذا الأسلوب المحكم في التعبئة، هل كان من الممكن أن نستدعي هذا العدد الضخـم من الأفراد دون أن يشعر العدو وبالتالي تضيع منا المفاجأة التي لعبت دورا مهما في تحقيق نجاح عبور قناة السويس ؟ ".
الفصل الثالث عشر: تدريب القوات
التدريب العام والخاص:
بالإضافة إلى مسئولية (ر.ا.ح.ق.م.م) بصفة عامة عن مستوى التدريب في القوات المسلحة فهو مسئول بصفة خاصة عن تدريب القيادات التي تليه مباشرة (1)، وابتداء من هزيمة يوليو 67 أعطى الاسم الكودي (تحرير) متبوعا برقم لكل مشروع يقوم به (ر.1.ح. ق.م.م) لتدريب أية قيادة من تلك القيادات سواء أكانت مجتمعة أم كـان المشروع يخص إحداها، وقد كان أول مشروع أتولى إدارته بموجب منصبي هو "تحرير 18" الذي بدأ في 21 من مايو 71، وكان آخرها هو "تحرير 35" الذي بدا في 24 من يونيو 73، وهذا يعنى أنني قمت بإدارة 18 مشروعا تدريبيا لهذه القيادات خلال 25 شهراً، وكان كل مشروع يستغرق حوالي 3-6 أيام، وكان يفترض مواقف من المنتظر أن يواجهها القادة خلال الحرب الفعلية، وكنت أعيش هذه الفترة بين القوات والقيادات واقطع صلتي بالأعمال الروتينية الكثيرة التي كـانت تفرضها على واجبات وظيفتي. كنت اشعر بالسعادة العظيمة خلال تلك الأيام لأني كنت أعيش الحياة التي أحببتها دائما وهي حياة الضابط الميداني وأتخلص -و لو مؤقتا- من الأعمال الروتينية المتعددة.
لقد كنت دائما واحدا من القادة الميدانيين الذين يهتمون اهتماما كبيرا بالتكتيكات الصغرى. إن افضل الخطط ليس من الممكن تنفيذها إذا عجز الجندي أو الضابط الصغير عن تنفيذ الجزء الخاص به، لذلك فإن كل قائد- مهما كان حجم القوات التي تحت قيادته- يجب ألا يفقد الاتصال بينه وبين الجندي الفرد الذي هو أساس القوات المسلحـة: إنه الحجر الذي يمكن به أن نبني اضخم بناء إذا صلح الجوهر، ولا نستطيع أن نبني به أي شئ إذا كـان الجـوهر سيئا، وإن هؤلاء القادة الذين إذا علت مراتبهم اعتمدوا على القادة المرؤوسين واكتفوا بقيادة قواتهم عن طريق الهاتف والخريطة هم اعجز أنواع القادة. كنت عن طريق زياراتي الكثيرة للوحدات وحديثي مع الجنود وتوجيه بعض الأسئلة إليهم أستطيع أن ألمس نقاط الضعف لديهم وبالتالي اتخذ الإجراءات اللازمة لإصلاحها، وللتغلب على نقاط الضعف هذه أصدرت 8 كتيبات و 53 توجيهاً خلال فترة عملي (ر.أ.ح.ق.م.م) إن التجربة العملية هي الحكم الفصل في صلاحية أية فكرة ولم يحدث قط إن اعتمدنا أي سلاح جديد أو فكرة جديدة دون أن يمرا في مرحلتين كانت المرحلة الأولى هي اخـتبار السلاح أو المعدة أو الفكرة، وتكرار هذه التجارب عدة مرات، وإجراء الكثير من التعديلات بغرض الوصول إلـى افضل النتائج قبل أن نعتمدها بصفة نهائية. أما المرحلة الثـانية فهي قيامنا بإجراء بيان عملي ندعو إليه مئات من المختصين لحضور التجربة لتعليمهم الأسلوب الصحيح لهذا الاستخدام، وقد حضرت مئات التجـارب ومئات البيانات العملية التي كانت تجري تحت ظروف مشابهة لما ينتظر أن نقابله خلال العمليات الحربية. وفيما يلي بعض الموضوعات المهمة التي قمنا بعمل الكثير من التجارب عليها والكثير من البيانات العملية (2).
1- فتح الممرات في السـد الترابي، بناء الكباري وتشغيل المعديات نهارا وليلا (أعوام 71 و 72 و 73).
2- تأثير النيران العائمة على العبور (الأعوام 71 و 72).
3- كتيبة مشاة تقوم باقتحـام مانع مائي في القوارب وتتسلق السـاتر الترابي ومعها أسلحتها ومعداتها (الأعوام 71 و 72 و 73).
4- أثر المدفعية المتوسطة والهاونات الثقيلة على التحصينات الشبيهة بخط بارليف (الأعوام 71 و72 و73).
5- اختبار وتطوير القاهر والظافر (الأعوام 71 و 72).
6- كتيبة برمائية ولواء برمائي يعبر مسطحا مائيا (الأعوام 72 و 73).
7- اسـتخـدام أجهزة الرؤية الليليـة تحت الحمـراء، وضوء النجوم، والزيتون، والأنوار الكاشفة (ألأعوام 72 و 73).
8- استخدام أشعة الليزر في تقدير المسافة، وقد تمت هذه التجربة قبل بدء العمليات ببضعة أشهر، ولم نتمكن من إدخال هذا الأسلوب في دباباتنا قبل بدء القتال في أكتوبر 73.
9- القاذفات TU-16 تقوم بإطلاق قذائف على أهداف من بعد 100 كم (مايو 73).
التدريب بالمغامرة Adventure Training:
التدريب بالمغامرة هو اصطلاح معروف في بعض الجيوش الغربية، ولاسيما القوات البريطانية، ولكنه موضوع لم يكن معروفا في القوات المسلحة المصرية، إلى أن أدخلت هذا الأسلوب التدريبي في قواتنا المسلحة خلال عام 1972 وكان قد سبق لي أن تعلمت هذا الأسلوب عندما كنت ملحقا عسكريا في لندن خلال الأعوام 61-63. وتتلخص فكرة هذا النوع من التدريب في النقاط التالية:
1- قيام القادة الأصاغر مع جنودهم ببعض الرحلات بعيدا عن وحداتهم وقادتهم يولد فيهم روح الاعتماد على النفس والابتكار واتخاذ القرارات.
2- إن التحرك خارج الثكنات العسكرية أو المعسكرات المستديمة سوف يولد نوعا من الألفة بين الضابط وجنوده ويساعد على إظهار الأخلاق الحقيقية التي قد تبقى كامنة أو مختفية في ظل التجمعات الكبيرة.
3- أن هذه الرحلات يجب أن تكون محببة للنفس وليست جافة فهي تجمع ما بين التدريب والترفيه مثل زيارة جهات نائية بها بعض الآثار أو زيارة بعض المناطق السياحية والترفيهية.
أصدرت توجيها ينظم هذا النوع من التدريب وبموجبه اصبح من حق الوحدة القائمة بهذا النوع من التدريب أن تستخدم الحملة العسكرية وان تصرف لها التعيينات والإسعافات الأولية، وكان على قائد كل فصيلة تقوم بهذا النوع من التدريب أن يقدم تقريرا مكتوبا عن الرحلة وان تمنح مكافآت تشجيعية لأفضل تقرير يقدم في كل تشكيل. ولكي أعطي أهمية كبيرة لهذا المشروع أعلنت أنني شخصيا سأطلع على تقارير الدفعة الأولى التي تقوم بهذا النوع من التدريب وكان افضل التقارير التي قدمت ألي هو تقرير الملازم أول عاطف عبد الباقي السيد، وقد طلبت حضوره إلى مكتبي يوم 25 من سبتمبر 72، ومعه قائد فرقته حيث شكرته وقدمت له جائزة على تقريره.
الفصل الرابع عشر: رفع الروح المعنوية للقوات المسلحة
الروح المعنوية بعد هزيمة يونيو 67:
إن رفع الروح المعنوية لجيش مهزوم هو عملية شاقة ولاسيما إن كـانت أسباب الهزيمة غير معروفة. لم تكن الحقائق عن أسباب هزيمة يونيو 67 معروفة للشعب المصري، فقد كان الشعب حائرا بين ما يسمعه من أقوال متناقضة، فقد كـانت القيادة السياسية تلقى باللوم على القيادة العامة للقوات المسلحة، بينما كانت القيادة العامة للقوات المسلحة تشيع سرا أن القيادة السياسية هي المسئولة عن الهزيمة لأنها حرمت على القيادة العسكرية القيام بتوجيه الضربة الأولى وترتب على ذلك قيام إسرائيل بتوجيه الضربة الأولى وتدمير قواتنا الجوية. ومن وجهة نظري فأني اعتقد إن قواتنا المسلحة كـانت سوف تنهزم في عام 67 حتى لو قامت بتوجيه الضـربة الأولى. لقد أخطأت القيادة السياسية والقيـادة العامة للقوات المسلحة كلتاهما في حساباتهما.
وبينما كـان الشعب المصري حائرا بين الآراء المتعارضة حول اسـباب الهزيمة لم يجد صورة يعبر بها عن سخطه سوى أن يلقى باللوم على كل رجل عسكري يراه. كان الناس يستهـزئون من كل رجل يمر في الطريق العام مرتديا ملابس عسكرية وينكتون عليه، وكانت الهزيمة قد أثرت في الروح المعنوية للجنود فجاءت هذه الأستهزاءات من الشعـب لتزيدها هبوطا، وفي ظل هذه الظروف القاسية أخذت القيادة العامة الجديدة للقوات المسلحة على عاتقها رفع الروح المعنوية للرجـال ما بين يونيو 67 وأكتوبر 73. لقد كانت معركة رأس العش دارت يوم أول يوليو 67 هي أول عمل عسكري يعيد الثقة إلى النفوس. سواء على مستوى القوات المسلحـة أم على مستوى الشعب، ففي هذه المعركة قـام رجال الصاعقة المصريون باعتراض قوة إسرائيلية كانت تتقدم شمالا في اتجاه بور فؤاد لاحتلالها فهزموها واضطروها إلى الفرار وبعد اكثر من ثلاثة أشهر وعلى وجه التحديد بتاريخ 21 من أكتوبر 67 قام رجال البـحرية المصرية بإغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات التي كانت تقوم بأعمال الدورية أمام بور سعيد، ثم بدأت حـرب الاستنزاف في سبتمبر 68، ومـا صاحب ذلك من عمليات عبور جريئة قام بها رجال الصاعقة، حيث نصبوا الكمائن وأثاروا الذعر بين صفوف الإسرائيليين واستعادت القوات المسلحة ثقتها الكاملة بنفسها في يونيو 1970 عندما نجحت قوات الدفاع الجوي في إسقاط عشر طائرات إسرائيلية خلال الأسبوع الأول من شهر يوليو عام 1970.
العناصر الأساسية لارتفاع الروح المعنوية:
عندما توليت منصب (ر.ا.ح. ق.م.م) في مايو 71 كانت الروح المعنوية للقوات المسلحة جيدة ومع ذلك فقد كان هناك الكثير مما يمكن عمله في هذا المجال، كان أسلوبي في رفع معنويات الجنود يعتمد على ثلاثة عناصر: العنصر الأول هو المعرفة، والعنصر الثاني هو الإلمام بالقدرات الحقيقية للفرد أما العنصر الأخير فهو أن يكتسب القادة ثقة جنودهم.
العلم والمعرفة:
إن العلم والمعرفة لا حدود لهما فكلما ازداد الشخص معرفة ازداد إلمامه بما يمكن أن يفعله عندما تعترضه المشكلات وعلى سبيل المثال فإن أي سلاح مهما كان حديثا فإنه لا يمكن أن يخلوا من بعض نقاط الضعف. فلو استطاع الفرد أن يعرف نقاط القوة والضعف لكل سلاح من أسلحة العدو فإنه يستطيع بهذه المعرفة أن يتحاشى نقاط القوة وان يهاجم نقاط الضعف وبالتالي فإنه يستطيع أن يحقق افضل النتائج. وينطبق ذلك على أسلوب العدو في القتال وعلى موضوعات أخرى كثيرة، ولتحقيق هذا الهدف اتخذت الخطوات التالية:
1- إجراء 26 "مؤتمر شهري " مع القادة حتى مستوى قائد الفرقة.
2- إجراء 18 "مشروع تحرير" لتدريب القيادات على المشكلات التي ينتظر أن تواجههم أثناء العمليات.
3- إصدار 53 توجيها ثم توزيع الجزء الأكبر منها حتى مستوى سرية.
4- إصدار 8 كتيبات توزع على مستوى الجنود.
5- تنظيم مئات البيانات العملية توضح للقادة والجنود الأسلوب الصحيح للتغلب على مشاكل معينة.
6- إصدار تعليمات إلى هيئة البحوث العسكرية في القوات المسلحة لكي تصدر نشرة شهريه عن أحداث المخترعات الحربية وأن توزع هذه النشرة حتى مستوى كل وحدة.
تقويم القدرات الذاتية:
"رحم الله امرأ عرف قدر نفسـه" هذا هو العنصـر الثاني من عنـاصر القوة والروح المعنوية، فما من أحد يستطيع أن يفعل كل شئ. إن كل شخص له قدرات محـدودة يقف عاجـزا إذا حاول اجتيازها، وان تكليف الفرد بما لا يطيق خطأ بليغ، لأنه سوف يفشل في تحقيق ما يطلب منه وسوف يؤثر هذا الفشل على روحه المعنوية. قال تعالى: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" فكيف ننسى نحن البشر هذه النصيحة الربانية إن المبالغة في القدرات هي غرور قاتل، كان التقليل المتعمد من القدرات الحقيقيـة هو تصرف سيئ أيضا، لذلك يجب أن نقدر لنفسنا وجنودنا وطاقاتنا حق قدرها إذا أردنا النجاح في أعمالنا. ومن هنا فقد كنت دائما أشجع الصراحـة والمناقشة الحرة والنقد الذاتي حتى يمكننا أن نعرف الحقـائق والقدرات، وما كان يدور خلال المؤتمرات الشهرية من مناقشات يوضح لنا كيف كانت الآراء المتضاربة تتصارع بحثـا عن الحقيقة وبحثا عن معرفة حقيقة القدرات سواء بالنسبة لنا أم بالنسبـة للعدو، وإذا كنت قد نجـحت في خلق هذا الشعور بالمسئولية في جميع القيادات المرؤوسة في القوات المسلحة، فأنني لم استطع أن أحقق ما أصبو إليه بالنسبة للقيادات السياسية، وقد كان ذلك من الأسباب الرئيسية للخلاف الذي دار بيني من ناحية، وبين كل من رئيس الجمهورية ووزير الحربية من الناحية الأخرى، كما سوف نرى في الباب السابع من هذا الكتاب.
رفع الروح المعنوية للقوات المسلحة ، صفحه رقم 68
الثقة بين الرئيس والمرؤوس:
إن القائد لا يستطيع أن يكتسب ثقة جنوده بمجـرد الشعارات البراقة أو عن طريق إصدار التعليمات والتوجيهات والنداءات، وإنما عن طريق القدوة الحسنة والعلاقات المتبادلة التي أساسها الصراحـة واحترام الذات إن القائد يستطيع أن يكتـسب ثقة واحترام جنوده إذا توافرت فيه الصفات التي تجتذب الجندي، وأهمها: المعرفة، والشجاعة، والخشونة، والصدق في القول. والعدل بين المرؤوسين، وعدم المحابـاة على أساس القرابة والصداقة. إن الجندي لا يهتم بما يسـمع فهو يعلم بغريزته أن ليس كل مـا يقال حقيقة، ولكنه يرى ويحس بما يدورحوله. إنه لمن السذاجة أن يطلب القائد من جنوده التقشف بينما هو يعيش عيشة مرفهة، انهم سيسمعون، وأدبا سيسكتون، ولكنهم فيما بينهم سينتقدون ويستهزئون. لقد حاولت طوال مدة خدمتي في القوات المسلحة أن اغرس المثل العليا في نفوس الضباط والجنود. فعندما كنت قائداً لمنطقة البحر الأحمر العسكرية 70-71 كنت اسكن في ملجأ 2 متر×4 متر. لقد كان في استطاعتي أن اسكن في فيلا جميلة ولكني فضلت أن أعيش في المستوى نفسه الذي يعيش فيه ضابط برتبة ملازم أو نقيب في القوات المسلحة، لم يحدث قط أن اشتكى لي أحد الضباط أو الجنود من الحياة الشاقة التي يعيشونها لأنهم كانوا يرون بأعينهم كيف أعيش وكيف أشاركهم حياتهم.
وعندما توليت منصب (ر.ا.ح. ق.م.م) حاولت أن اثبت المثل العليا التي كنت أؤمن بها في جميع أرجاء القوات المسلحة لكي اخلق جو الثقة بين الجنود والقائد لم اكن اهتم في ذلك بشخصي لأن خدمتي في القوات المسلحة لمدة 30 سنة سابقة كانت كافية لكـي يعرف الضباط والجنود أخلاقي ومبادئي، فكثيرون منهم إما أن يكونوا قد خدموا تحت قيادتي أو سمعوا من بعض زملائهم الذين خدموا تحت قيادتي. كان همي أن اخلق روح الثقة هذه بين القادة على مختلف المستويات وبين الجنود وبصفة أساسية بين آلاف الضباط الأصاغر وبين جنودهم، ومن بين الإجراءات التي اتخذتها في هذا الاتجاه. موضوع "التدريب بالمغامرة" الذي سبـق الحديث عنه، وكذلك إعادة إدخال الرياضة والمنافسات الرياضية في القوات المسلحة بعد أن كـانت قد أوقفت منذ يوليو 1967. واعتبارا من يناير عام 1972 بدأت المنافسات الرياضية بين 14 قيادة عسكرية رئيسية في 7 العاب. أي انه طوال العام تتم اكثر من 450 مقابلة رياضية، وقد استقبل القادة والجنود هذه المنافسات بحماس شديد، وحققت أكثر من هدف: فقد حطمت الحواجز بين الضباط والجنود، وخلقت روح الفريق، وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت توفر مناسبة ترفيهية لآلاف الضباط والجنود الذين يحضرونها لتشجيع فرقهم الرياضية، لم تتوقف المنافسات الرياضية خلال عام 73 بل ازداد عدد الألعاب التي يجري عليها التنافس وازدادت العلاقة بين الضباط والجنود عمقاً.
بنك الدم الاشتراكي:
كانت مصارف الدم في القوات المسلحة تعتمد في الحصول على الدم على المتطوعين من الجنود والمدنيين لقاء اجـر معلوم مقابل كل زجاجة دم، وكان من الطبيعي ألا يلجأ إلى ذلك إلا الجندي الفقير الذي يضطر إلى أن يبيع دمه لقاء ما يحصل عليه من اجر. لقد شعرت بالخجل والـلاإنسانية عندما علمت مصـادفة بهذا الوضع. وفي عام 73 بينما كنت أبحث موضوع تخزين احتياطي الدم قبل دخول المعركة أصدرت أوامري بإلغاء هذا النظام فوراً، وفرضت على كل ضابط وجندي دون الأربعين من العمر أن يتبرع بزجـاجتين من الدم مرة واحدة خلال فترة خدمته في القوات المسلحة إذا ما كانت حالته الصحية والطبيـة تسمح بذلك. لقد كـانت حساباتي قبل إصدار هذا الأمر تثبت أن هذه الكمية ليسـت كافية لتـغطية احتيـاجاتنا الاعتيادية فقط، بل إنها تكفي أيضاً لخلق احتياطي من "الدم" يكفي ويزيد على كل ما قد نحتاجه خلال المعركة، وحيث إن الدم الطازج يجب أن يحول إلى بلازما بعد مضى 30 يوما، فقد كان مطلوباً منا أن نحصل على الدم يومياً وطبقاً لجدول زمني دقيق على مدار السنة، وهذا ما فعلناه فقد أصدرت "التوجيه رقم 39" وكان عنوانه هو "القوات المسلحة لا تبيع دماءها وإنما تضـحي به من اجل الوطن"، ومع أن التوجيه كان يفرض التبرع على كل من هو دون أل 40 سنة، ومع أني كنت في الخـمسين من عمري، فقد قررت- طبقـا لمبادئي التي تلزمني بان أشارك رجالي في كل شئ- أن افتتح الحمـلة بأن تبرعت بزجـاجتين من دمي يوم 31 من مارس 1973، وقبل أن تبدأ عملياتنا في 6 من أكتوبر كان لدينا 20000 زجاجة من الدم كاحتياطي عمليات.
أن الروح المعنوية للجندي هي محـصلة لمئات العوامل الكبيرة التي لا مـجال لذكرها الآن ولكني أود أن أركز بصـفة خاصة على العناصـر التي سبق أن ذكرتها وهي المعـرفة والإلمام بالقدرات والقدوة الحـسنة. يجب أن يعلم كل جندي بقدراته الحقيقيـة لا أكثر ولا اقل، يجب أن يكون فخوراً في حدود قدراته الحقيقيـة لا قدرات أجداده وأسلافه. إن التفاخر بأن آباءنا قد بنوا الأهرام منذ أكثر من 5 آلاف سنة شئ جميل إذا كان ذلك مقرونا بالتفاخر بقدراتنا الحالية، كما أن التفاخر بأننا عبرنا قناة السويس في أكتوبر 73 شئ عظيم، ولكن بشرط ألا تكون قوتنا العـسكرية اليوم في 78 اقل مما كانت عليه منذ 5 سنوات. إن من يتكلم عن الماضي فقط دون الحاضر هم الضعفاء الذين يريدون أن يعيشوا في أحـلام الماضي ولا يستطيـعون أن يحـسنوا حاضرهم ومستقبلهم. والقدوة الحسنة هي أسـاس النجاح. إن الجندي المصري إذا وجد القدوة الحسنة فإنه يستطيـع أن يحقق العجائب وقد بذلنا الكثير قبل حـرب أكتوبر لخلق هذه القدوة الحسنة على جميع المستويات، ولقد أثبتت الحرب أن مجهوداتنا في هذا الاتجاه قد حققت نجاحاً كبيراً فقد قاتل الجندي المصري، كما لم يقاتل من قبل في تاريخه الحديث، قاتل بشجاعة وروح معنوية عاليـة وأعاد إلى الأذهان قول رسول الله "إذا فتح الله عليكم بمصر فاتخذوا منها جنداً كثيفاً فإن بها خير أجناد الأرض".
الفصل الخامس عشر: أكتوبر 70 حتى مايو 71
مؤتمر الرئيس في ديسمبر 70:
بعد ان تم انتخاب السادات رئيسا للجمهورية في 14 من اكتوبر 70 دعا الى اجتماع مع قادة القوات المسلحة يوم 19 من اكتوبر، وفي هذا الاجتماع أثنى على المرحوم جمال عبد الناصر، ووعدنا بأنه سيسير على هدى خطواته وفى 30 من ديسمبر من العام نفسه حضر اجتماعا أخر مع القادة، ولكن فى هذا الاجتماع كان المتكلم الرئيسي هو الفريق فوزي - وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة- الذي استعرض في تقريره موقف القوات المسلحة المصرية وقدراتها القتالية، وبعد ان أتم الفريق فوزي قراءة تقريره تكلم الرئيس السادات فأكـد انه لن يكون هناك تمديد لوقف إطلاق النار عندما ينتهي اجله في 4 من فبراير 71، وطلب إلينا ان نكون على أهبة الاستعداد لاستئناف العمليات العسكرية بالأسلحة التى في أيدينا (1)، وكان مما قاله السادات "لا تصدقوا الدعاية الأمريكية والإسرائيلية التى تقول إن علاقتنا مع الاتحاد السوفيتي سيئة إنهم يريدونها كذلك ولكنها ليست كما يتمنون ".
مؤتمر الرئيس مارس 71:
في 23 من مارس 1971 عقد الرئيس مؤتمرا عاما للضباط وقد طلب إلى ان أحضر معي 4 ضباط من مختلف الرتب من منطقة البحر الأحمر العسكرية لحضور هذا المؤتمر، وقد بدا الرئيس حديثه بشرح الأسباب التى دعته الى تمديد فترة وقف إطلاق النار التى انتهت فى 4 من فبراير الماضي فقال: "إن جهود مصر الدبلوماسية قد نجحت فى عزل إسرائيل عن العالم فقد تم عزلها عن أمريكا وبريطانيا ودول أوروبا الغربية وإسبانيا وإيران "، وعن موقف إسرائيل قال السادات: "لأول مرة تعترف إسرائيل فى وثيقة رسمية أرسلتها الى السكرتير العام للأمم المتحدة بتاريخ 21 من فبراير 71 بأنها لن تنسحب الى خطوط 4 من يونيو 67، وبذلك وضحت نواياها أمام العالم اجمع "، وعن علاقاتنا مع أمريكا قال: "نحن لا نثق بأمريكا فقد وعدتنا كثيرا ولكنها لم تف بوعودها، وقد أخطرت نيكسون بأننا لا نثق بوعود أمريكا ولكننا على استعداد لأن نثق بالأفعال "، وعن المعركة مع إسرائيل قال السادات: " إن المعركة القادمة هي معركة شعب وليست معركة القوات المسلحة، و يجب علينا أن نحصل على التوازن الدقيق بين مزايا بدء المعركة الآن وبين مزايا الانتظار، وأني أعدكم بأننا لن نقدم ميعاد المعركة يوما واحدا ولن نؤخرها يوما واحدا عن توقيتها الصحيح "، وفى خلال قيام الرئيس بإلقاء كلمته وزع على الحاضرين خريطة تبين الأراضي التي تريد إسرائيل أن تحتفظ بها، والأراضي التي هي مستعدة لإعادتها إلى العرب وقد علق الرئيس على هذه الخريطة وهو يستثير حماس الضباط هل تريدون أن تقبلوا هذا الهوان ؟" ، وكان الرد حماسيا من الجميع "لا- لا لن يكون هذا" (انظر الخريطة رقم 1).
وفي سياق حديثه عن علاقة مصر بالدول العربية هاجم السادات بعنف جميع الدول العربية وخص بهجومه الرئيس هواري بومدين الذي قال عنه " إن الرئيس هواري بومدين قد باع نفسه للأمريكيين، لا سياسيا فحسب بل اقتصاديا. لقد وقع أخيرا مع الشركات الأمريكية عقدا يضمن إمداد أمريكا بالبترول والغاز السائل لعشرات السنين وبذلك سوف يصبح اقتصاد بلاده معتمدا اعتمادا كليا على أمريكا".
مؤتمر وزير الحربية في أبريل 71:
في يوم 18 من أبريل 71 اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحـت رئاسة الفريق فوزي. لم تكن وظيفتي التي أشغلها كقائد لمنطقة البحر الأحمر العسكرية تؤهلني لعضوية هذا المجلس، ولكنى دعيت لحـضور هذا المؤتمر، وقد كان الموضوع الرئيسي لهذا المؤتمر هو بحث موضوع "اتحاد الجمهوريات العربية"، وقد بدأ الفريق فوزي حديثه بمقدمة مفادها عدم علمه المسبق بهذا الإعلان وانه علم به رسميا حوالي الساعة الواحدة صباحا أي قبل إذاعته في الصحف بخمس ساعات فقط، وتساءل عن الفوائد التي يمكن أن نجنيها من هذا الاتحاد ولاسيما أن علاقتنا الحالية مع سوريا طيبة جدا واخبرنا بأنه يوجد اتفاق سري بين مصر وسوريا تم في نوفمبر 70 وبموجبه أصبحت لوزير الحربية المصري سلطة قيادة القوات السورية أيضا، كما اخبرنا بأنه لا يوافق على الحل المقترح بانسحاب إسرائيل الجزئي من الضفة الشرقية (2)، ثم أنهى حديثه قائلا إن آراء الفريق صادق (الذي كان يشغل منصب "ر.ا.ح.ق.م.م " في ذلك الوقت) متفقة تماما مع آرائه وانه طلب حضورنا لكي يستمع إلى وجهة نظرنا في هذا الموضوع.
كان المؤتمر يضم 16 ضابطا بالإضافة إلى سكرتير المجلس الذي يقوم بإجراء التسجيل الرسمي دون أن يطلب إليه إبداء الرأي، وكان ترتيبي في سلم الأقدمية بين الحاضرين هو الثاني عشر. وعلى الرغم من أن هناك تقليدا عسكريا هو أن يستمع لرأى الضابط الأحدث قبل الضابط الأقدم حتى لا يتأثر الضابط الأحدث برأي من هو أقدم منه أو من هو رئيسه، فقد خالف الفريق فوزي هذا التقليد عندما أعلن رأيه قبل أن يستمع إلى أقوالنا، ثم خالفه مرة أخرى عندما بدأ بالاستماع لرأى الأقدم قبل الأحدث ثم خالفه مرة ثالثة عندما تخطى الفريق صادق وسأل من يليه في الأقدمية وذلك ليقنع الجميع أن الفريق صادق متفق معه في الرأي تماما، كما سبق أن قال . هاجم المتحدثون الذين سبقوني جميعهم انضمام مصر إلى هذا الاتحاد وبذلك كانت معركة التصويت قد حسمت فلو أنني والأربعة الذين من بعدي عارضنا هذا الاتفاق فإن ذلك لم يكن ليغير من الأمر شيئا، وعندما جاء دوري في الكلام أيدت الاتحاد وفندت الأسباب المختلفة التي اعتمد عليها الآخرون في معارضتهم له، وشرحت لهم المواد الخاصة بالاتحاد وخرجت بخلاصة وهي "إذا لم يكن هناك نفع لمصر من هذا الاتحاد فإنه ليس هناك أي غرم، ولذلك فأنى أباركه ".
كان تصرفي هذا تصرفا يمليه المبدأ والاقتناع، وان كان يبدو في أعين بعضهم نوعا من الجهل بأصول اللعبة السياسية. لقد كان الجميع في مصر وفي خارج مصر يعلمون أن الرئيس السـادات هو رئيس لا سلطات له وان السلطة الحقيقية كانت في أيدي اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وقد لمح الفريق فوزي في حديثه معنا إلى أن الجهات السياسية العليا ترفض هذه الاتفاقية وانه بعد أن ينتهي من اجتماعه معنا فإنه سوف يتوجه لحضور اجتماع سياسي على أعلى مستوى، وأنه سوف يقوم بإبلاغ هذه الجهات السياسية برأي القوات المسلحة، ومع هذه الإيضاحات كلها ومع وقوف غالبية القادة في القوات المسلحة ضد هذا الاتحاد فقد اخترت أن أقف إلى جانب ما أعتقد الحق مهما سبب ذلك لي من مشكلات. وبينما كنت أقوم بشرح وجهة نظري هاجمني أحد الأعضاء القدامى، ولكن الوزير تدخل وطلب منه عدم مقاطعتي. لقد كانت لفتة كريمة من الوزير ولكنها لم تغير من الحقيقة وهي أني قد اخترت أن أسير في الطريق الصعب، ولكنه كان طريقاً أعتقد أنه كان في صالح مصر. بعد أن أنهيت حديثي تكلم الأربعة الآخرون، فعارضوا الاتفاقية. كان الفريق فوزي سعيداً بهذه النتيجة، وقد عقب قائلاً:"والآن فإنني أستطيع القول بأنكم جميعاً فيما عدا اللواء الشاذلي تعارضون هذا الاتحاد، وسوف أنقل خلاصة رأيكم هذه إلى الاجتماع السياسي المهم الذي سوف اذهب الآن لحضوره. وفى هذه اللحظة تدخل العضو نفسه الذي هاجمني وقال: "أننا لم نسمع رأي السيد رئيس الأركان، ونود أن نعرف رأيه قبل أن ننصرف من هذا المكان ". نظر الوزير إلى الفريق صادق وطلب إليه أن يبدي رأيه، تكلم الفريق صادق بحذر شديد، نظرا لأن طبيعة الشك التي تولدت عند الفريق صادق عندما كان مديرا للمخابرات الحربية قد لازمته عندما اصبح (ر.أ.ح.ق. م.م) كما ظلت تلازمه وهو وزير للحربية كما سنرى فيما بعد. قال الفريق صادق: " إني قلق من نقطتين رئيسيتين: النقطة الأولى هي قيام الاتحاد السوفيتي بتأييد هذا الاتحاد وهذا عمل غير منطقي يثير الشكوك، والنقطة الثانية هي انضمام سوريا إلى الاتحاد بعد التجربة المريرة التي مررنا بها في عام 1958، ثم انفصمت عراها في 1961، ولولا هاتان النقطتان لكنت من المؤيدين لهذا الاتحاد "فرد عليه العضو نفسه الذي طلب منه أن يبدي رأيه قائلا: "إننا نريد إجابة صريحة بنعم أو لا على الاتحـاد في صورته المعروضة،، فرد الفريق صادق بأنه يعارض الاتحاد، وهكذا انتهت المناقشات بان اصبح 15 عضوا في المجلس الأعلى يعارضون الاتحاد وعضو واحد فقط هو الذي يؤيد- وهو أنا- علما بأني لم اكن عضوا دائما في المجلس.
سافرت صباح اليوم التالي إلى مقر عملي في البحر الأحمر، ولكني أخذت اعد نفسي لأسوأ الاحتمالات، كان الصراع على السلطة في مصر قد أصبح يتخذ شكلا حادا. ففي 2 من مايو أذيع بيان جاء فيه أن الرئيس السادات أقال السيد علي صبري من وظيفته كنائب لرئيس الجمهورية ، وكذلك من جميع مناصبه الأخرى، وفي يوم 10 من مايو استدعيت إلى القاهرة لحـضور مؤتمر برئاسة السيد الوزير تقرر عقده صباح اليوم التالي، ولكن عندما ذهبت إلى الاجتماع اتضح أن رئيس الجمهورية هو الذي سيرأس الاجتماع. كان هذا هو الاجتماع الرابع الذي يعقده الرئيس السادات مع قادة القوات المسلحة منذ انتخابه رئيسا للجمهورية في أكتوبر الماضي.
مؤتمر الرئيس في 11 من مايو 71:
كان اجتماع السادات يوم 11 من مايو 71 مختلفا عن جميع اجتماعاته السابقة- كانت لهجته تنم عن التحدي لخصومه السياسيين، وكان يتكلم بثقة اكبر. كان يستخدم كلمة "أنا" كثيرا بعد أن كان في جميع محادثاته السابقة يستخدم كلمة "نحن"، مشيرا بذلك إلى القيادة الجماعية.كان قد أخطرنا في إجتماع 23 من مارس أن قرار تمديد وقف النار في 5 من فبراير 71 قد اقترن بتقديم مبادرة مصرية ولكنه لم يوضح لنا تفاصيل هذه المبادرة (3)، وفي هذا المؤتمر اخبرنا بالأقوال التالية:
1- إعادة فتح قناة السويس، وانسحاب إسرائيل إلى ما هو شرق العريش، وتتم هذه المرحلة خلال مدة 6 أشهر.
2- تبدأ المرحلة الثانية مباشرة ويتم خلالها الانسحاب الإسرائيلي الكامل (4).
3- في أثناء مقابلتي الأخيرة منذ أيام مع المستر روجرز، أخبرته بان شروطي لإعادة فتح القناة ليست قابلة للتفاوض وانه يجب أن تعبر قواتنا القناة وتقيم خطأ دفاعيا في الشرق لتأمين حرية الملاحة بالقناة وان فترة وقف إطلاق النار لإتمام المرحلة الثانية تكون فترة محددة، وقد علق روجرز على ذلك قائلا "لا أحد يمكنه أن يطلب من مصر اكثر من ذلك، لقد ذهبتم إلى ابعد ما تستطيعون!". (5)
4- طلبت من روجرز إجابة محددة عن سؤالي: "هل أمريكا تؤيد إسرائيل في احتـلال أراضينا أم إنها تضمن سلامة إسرائيل داخل حدودها فقط؟" ، وقد سلمت روجرز مذكرة مكتوبة تتضمن جميع هذه التفاصيل.
5- بعد عودة سيسكو (6) من إسرائيل أخبرني بأنهم في إسرائيل يثيرون النقاط التالية:
أ- بعد إعادة فتح القناة هل ستسمح للسفن الإسرائيلية بعبور القناة أم أن ذلك لن يكون إلا بعد انسحابها الكامل ؟
ب- إن مدى انسحابهم شرق القناة يتوقف على طول مدة وقف إطلاق النار، فكلما طالت هذه الفترة زادت إسرائيل من المساحة التي تنسحب منها.
ج - إنهم لا يوافقون مطلقا على عبور قواتنا شرق القناة.
د- انهم يطالبون بتخفيف قواتنا غرب القناة.
هـ- إنهم يرفضون إعطاء أي تعهد بالانسحاب إلى حدود 4 من يونيو 67.
و- أن أي اتفاق يتم التوصل إليه لا يكون نافذا إلا بعد أن يوافق عليـه البرلمان الإسرائيلي.
6- تكلم الرئيس مره أخرى عن علاقتنا مع الاتحاد السوفييتي فقال إنها ممتازة و إن الاتحاد السوفيتي يقوم ببناء مشروعات صناعية في مصر قيمتها 460 مليون دولار، وإن هذا سيمكننا من بناء القاعدة الاقتصادية التي هي أساس الاستقلال السياسي.
7- أشاد الرئيس السادات بالدور الذي تقوم به القوات المسلحة في تدعيم السياسة الخارجية، وذكر أن أمريكا ما كانت لتتحرك وترسل روجرز إلى القاهرة لو لم تكن تعلم بان قوتنا العسكرية قد أصبحت قادرة على تحدي الغرور الإسرائيلي ومصممة على استعادة موقعها القيادي بين الدول العربية. ثم تحدث عن اهتمامه بالقوات الجوية حتى يمكننا أن نتحدى السيطرة الجوية الإسرائيلية، فقال في هذا المجال: " إنني لن أنام وأنا مطمئن البال إلا بعد أن يكون لدينا 1000 طيار".
تعييني رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية:
عدت إلى البحر الأحمر يوم 12 من مايو 71، ولكن الأحداث بدأت تتحرك بسرعة مذهلة. ففي يوم 13 من مايو أعلن عن استقالة الغالبية العظمى من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وكذلك عدد من الوزراء بما فيهم وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، وتبع ذلك أيضا استقالة عدد من أعضاء اللجنة المركزية، وبدا الموقف وكأنه انهيار سياسي. وفي 15 من مايو قام السادات بانقلاب عسكري ضد خصومه السياسيين واشترك في هذا الانقلاب كل من اللواء الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري، والفريق محمد صادق رئيس أركان حرب القوات المسلحة، وكان الرجل الثالث من رجال الانقلاب هو السيد ممدوح سالم وهو ضابط بوليس قضى معظم خدمته في المباحث العامة، وكان آخر منصب شغله قبل الاشتراك في انقلاب السادات هو محافظ الإسكندرية، حيث قام اللواء الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري وتحت قيادته لواء مدرع ولواء مشاة بالدور الرئيسي في الانقلاب، بينما لعب الفريق صـادق (ر.ا.ح.ق.م.م) دور المؤيد للانقلاب، أما ممدوح سالم، فكانت مسئوليته تنحصر في السيطرة على المباحث السرية والبوليس، وتجميع المعلومات عن خصوم السادات السياسين.
مازال هناك الكثير من الأسرار حول انقلاب السادات في 15 من مايو 71: كيف تم ؟ لماذا وكيف سكت 14 قائدا عسكريا اشتركوا مع وزير الحربية في التصويت يوم 18 من أبريل 71 ضد مشروع الاتحاد الذي كان في الحـقيقة تصويتا ضد رئيس الجمهورية؟ لقد قام السـادات بالتخلص من الفريق صادق في أكتوبر72، وهو الآن في مصر لا يستطيع أن يغادرها ولا يستطيع أن يتكلم، أما الفريق الليثي ناصف فقد مات في حادث غامض في لندن يوم 30 من أغسطس 73، أما ممدوح سالم وهو الأقل خطرا لأنه لا يملك القوة العسكرية التي تشكل خطرا على النظام- فقد عين وزيرا للداخلية ثم بعد ذلك رئيسا للوزارة في أبريل 75، ثم لفظه السادات بعد أن حقق أهدافه منه، وكان ذلك في أوائل أكتوبر 78، وبذلك تم التخلص نهائيا من كل من عاونوه في انقلاب عام 1971.
في يوم 16 من مايو عدت مرة أخرى إلى القاهرة التي كنت فيها منذ ثلاثة أيام لأستلام منصبي الجديد كرئيس لأركان حرب القوات المسلحة المصرية، متخطيا بذلك اكثر من 30 ضابطا يسبقوني في الأقدمية العامة. قد يعتقد بعضهم أن هذا التعيين جاء بناء على موقفي في مؤتمر المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي انعقد في 18 من أبريل 71. ولو أخذنا بهذا التفسير لكان منطقيا أن يقوم السادات بالتخلص من جميع الأعضاء الأربعة عشر الذين وقفوا ضده لكي يأمن شرهم، ولكن هذا لم يحدث، كل ما حدث هو أن الشخص الذي هاجم الفريق صادق مرتين خلال هذا المؤتمر قد تم نقله من القوات المسلحة إلى وظيفة مدنية، وكان واضحا أن الفريق صادق وليس رئيس الجمهورية هو الذي وراء هذا النقل، وفي يوم 17 من مايو قابلت رئيس الجمهورية في منزله بالجيزة برفقة الفريق صادق، حيث أشاد بما يعرفه عني من قدرات وإمكانات وانضباط عسكري ولأنه يثق بي ثقة كبيرة ثم أخذنا نتجاذب الحديث نحن الثلاثة في أمور تخص القوات المسلحة لمدة ساعتين تقريبا، انصرفت بعدها لأبدأ مرحلة من العمل المضني الجاد لإعداد القوات المسلحة للحرب، كما جاء في البابين الأول والثاني من هذا الكتاب وكما سوف يجئ ذكره في حينه في الأبواب القادمة.
الفصل السادس عشر: يونيو 71.. مارس 72
مؤتمر الرئيس في 3 من يونيو 71:
في يوم 3 من يونيو 71 اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة الرئيس السادات وقد بدأ الرئيس المؤتمر بشرح ما وصفه بالمؤامرة التي كانت تريد أن تتخلص منه، وخص بالذكر كـلا من الفريق فوزي وأمين هويدي، وشعراوي جمعة، وسامي شرف. ومجدي حسنين.
وبعد ذلك انتقل إلى خط السياسة الخارجية، فقال: " أن استراتيجيتنا يجب أن تكون واضحة لكم، وهى تتلخص في نقطتين: النقطة الأولى هي الحفاظ على علاقتنا مع السوفيت والتمسك بها حتى يمكننا بناء الدولة الحديثة اقتصاديا وعسكريا، إذ أن الحركة الصهيونية هي هجمة صليبية وسوف تستمر عشرات السنين وان صداقتنا مع الاتحاد السوفيتي هي التي سوف تساعدنا في التصدي لهذه الهجمة. أما النقطة الثانية فهي الوحدة العربية. وإننا ملتزمون بهذين الهدفين ونسير قدما في إتمامهما"، وفى تعليقه على زيارة الرئيس بودجورني قال: "لم يحدث مطلقا أن حاول بودجورني أو أي من أعضاء الوفد السوفيتي التدخل في شئوننا الداخلية، ولكن في لقاء خاص بيني وبين الرئيس بودجورنى، سألني لماذا اخترت هذا الوقت بالذات لطرد علي صبري ؟ فقلت له: لقد رأيت أن أعجل بذلك قبل حضور روجرز إلى القاهرة حتى لا يفسر طردي لعلي صبري إذا ما تم بعد زيارة روجرز على انه ثمن صفقة أمريكية، وقد رد على بودجورنى قائلا: " أنهم في القيادة السوفيتية تصوروا هذا التفسير نفسه".
وردا على سؤال بخصوص التنظيم الطليعي أجاب الرئيس "لقد كانت فكرة جمال عبد الناصر في هذا الموضوع هي إنشاء تنظيم من العناصر القيادية الشابة دون أن تعرف أسماؤهم حـتى لا يكونوا هدفا لهجوم عناصر مضادة من داخل الاتحـاد الاشتراكي أو من خارجـه ممن تستبد بهم الغيرة والحقد، وقد كانت هذه العناصر تنتخب من القاعدة حتى القمة، وقد استغلت بعض العناصر-التي كانت تريد أن ترث جمال عبد الناصر- هذا التنظيم لكي تفرض سيطرتها على الشعب فدربتهم عسكريا وهيأت وخزنت السـلاح اللازم لاستخدامه في الوقت المناسب ولحسن الحظ تمكنا من وضع يدنا على السلاح قبل توزيعه عليهم.
وردا على سؤال يتعلق بالشائعات الدائرة حول مطالبة الروس بقواعد عسكرية في مصر أجاب الرئيس:"هذا غير حقيقي، أنا لا أعطي قواعد لأحد، وبهذه المناسبة أود أن أقول لكم إنه أثناء زيارة روجرز الأخيرة فإني أخبرته بأنني سأنشئ أكاديمية جوية وأني سأستعين بالروس لإنشائها وإنني لن أستطيع النوم قبل أن يصبح لدينا 1000 طيار مدرب، قلت له كذلك: إن الأمريكان يعلمون جيدا أننا أصحاب الكلمة في أرضنا، وقد أخبرت روجرز أيضا بأنه إذا فرض علينا الاحتلال الإسرائيلي فإنني سأعيد التفكير في كلمة عدم الانحياز".
وردأ على سؤال خاص بالنواقص التعبوية التي تؤثر على المعركة الهجومية قال الرئيس: "إنكم مطالبون بالعمل في حدود الإمكانات المتاحة لكم، لو إنكم عبرتم القناة واحتللتم عشرة سنتيمترات فقط شرق القناة وأقول ذلك طبعا للمبالغة، فإن ذلك سوف يغير الموقف السياسي دوليا وعربيا".
كنت أقوم بزيارة الوحدات البحرية في الإسكندرية خلال يومي 6 و 7 من يوليو، وكان يرافقني في هذه الزيارة عدد من كبار القادة الذين هم أعضاء في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وقد انتهزت فرصة وجودنا في الإسكندرية لأعرض عليهم أفكاري فيما يتعلق بالمعركة الهجومية المحدودة وذلك قبل انعقاد المجلس بصفة رسمية يوم 8 من يوليو في القاهرة واجتمعنا ظهر يوم 7 من يوليو في الكلية البحرية وشرحت لهم أفكاري عن الحرب المحدودة (2)0 اجتمع المجلس بكامل هيئته في القاهرة برئاسة السيد الوزير يوم 8 من يوليو الساعة 1900 واستمر حتى منتصف الليل، وقد ظهر بصفة علنية- ولأول مرة- التصادم الفكري بيني وبين الفريق صادق بخصوص شكل المعركة الهجومية، فقد كنت أرى أن تخضع الخطة للإمكانات المتاحة، بينما كان الفريق صادق يرى أن نضع الخطة على أساس تحرير الأرض بكاملها - دون التقيد بالإمكانات المتيسرة- ثم نعمل بذلك على تدبير الإمكانات المطلوبة، وذلك كما سبق أن بينت بالتفصيل في الباب الأول.
مؤتمر الرئيس يوم 4 من نوفمبر71:
في يوم 4 من نوفمبر 71 عقد مؤتمر برئاسة السيد الرئيس حضره كل من الفريق صادق وأنا واللواء عبد القادر حسن واللواء بغدادي واللواء محمد علي فهمي واللواء الليثي ناصف والجنرال أوكينيف OKENEV كبير المستشارين السوفيت، وقد امتد المؤتمر من الساعة التاسعة مساء حتى الواحدة بعد منتصف الليل، ودار فيه ما يلي:
1- أدلى الرئيس بما يلي:
أ- اجتمعت أمس بمجلس الأمن القومي وسوف تعبأ جميع موارد الدولة لأغراض المعركة.
ب- سوف أعلن يوم الخميس القادم 11 من نوفمبر سحب مبادرتي لفتح قناة السويس التي كنت قد أعلنتها في 4 من فبراير الماضي تحت شروط خاصة.
ج- قال موجها كلامه إلى الجنرال أوكينيف: "لعلمك، فقد أرسلت إلى أمريكا اخبرهم بأننا سندخل سيناء حتى لو بالبنادق فقط ".
د- أعلن نفسي منذ الآن قائدا عاما للقوات المسلحة (3)، وعليه يجري تخصيص مكتب لي في القيادة (4).
2- أدلى الجنرال اوكينيف بما يلي:
أ- ستصل الطائرات TU-16 ومعها الأطقم اللازمة لتدريب الطيارين والملاحين المصريين فورا (5).
ب- إن المارشال جريشكو - وزير الدفاع في الاتحـاد السوفيتي- يطالب بان يتم تدريب فوج الكوادرات (سام 6) في الاتحاد السوفيتي، حيث إن تسهيلات التدريب لهذا الفوج ليست متيسرة في مصر.
ج- لقد وصلتني من الاتحاد السوفيتي صور عن سيناء التقطتها الأقمار الصناعية السوفيتية، وأني أضعها تحت تصرف القيادة المصرية.
مؤتمر الرئيس في 19 من نوفمبر 71:
في يوم 19 من نوفمبر 71 عقد الرئيس مؤتمرا في قاعدة انشاص الجوية، حضره كل من الفريق صادق وأنا واللواء بغدادي واللواء حسني مبارك واللواء الليثى والسفير السوفيتي في مصر والجنرال اوكينيف، وقد دار خلال هذا المؤتمر الحديث التالي:
الرئيس:
وصلني بيرجس أمسى الأول، وقد قلت له أن خبرتي السابقة معكم تجعلني لا أثق بكم، وإنكم تحاولون تحويل مبادرتي إلى معنى لم اقصده إطلاقا بحيث تصبح لصالح إسرائيل، لقد سبق لهم أن سألوني (يقصد الأمريكيين): إذا سارت عملية الانسحاب طبقا لمبادرتي فهل يمكن تمديد فترة وقف إطلاق النار؟ فأجبتهم بأن ذلك ممكن ويمكننا أن نمدد هذه الفترة ثلاثة أشهر فثلاثة أخرى لمدة أقصاها سنة، ولكني سحبت ذلك كله في مقابلتي أول أمس، وقد سألني بيرجس: "هل أقوم بإبلاغ واشنطن بأنك لا تثق بنا وأنك لن تتفاهم معنا إلا بعد أن ترد إسرائيل على مذكرة يارنج بالإيجاب ؟" فقلت له نعم، وقد أخبرني هو بأنه علم أنه قد وصلتنا طائرات قادرة على إطلاق صواريخ أسرع من الصوت، وأنها مصممة أساسا لضرب السفن الحربية وأن ذلك يقلق حكومة واشنطن لأنه يدخل ضمن حساب توازن القوى بينهما وبين الاتحاد السوفيتي. أخبرته بأني لن أعلن الحرب على أمريكا ولكن يجب أن تعرفوا أن ضرب العمق عندي سيقابل بضرب العمق الإسرائيلي، وقلت له أيضا: يجب أن تخجلوا من أنفسكم، وذكرها الرئيس مرة أخرى باللغة الإنجليزية you should be ashamed of yourself لهذا القلق الذي تشعرون به، إنكم تعطون إسرائيل الفانتوم التي تستطيع بها أن تضرب العمق عندي، ثم تقولون إنكم تشعرون بالقلق عندما أستطيع أن احصل على السلاح الذي يمكنني من ضرب العمق الإسرائيلي.
اللواء بغدادي:
لقد علمت من رئيس المستشارين في القوات الجوية أن سرعة هذه الصواريخ هي 1200 كم في الساعة، وفي اعتقادي أنه ما لم تكن سرعتها تعادل ضعف سرعة الصوت فإن هذه الصواريخ تكون عديمة القيمة.
الجنرال أوكينيف:
هذه معلومات غير صحيحة ثم شرح بعد ذلك أنواع الصواريخ التي تقرر إمدادنا بها وخصائص كل منها، وأني اعتذر للقارئ عن عدم إمكان إذاعة هذه المعلومات.
الرئيس:
أني اقبل تفسير الجنرال أوكينيف.
الجنرال أوكينيف:
إن المشكلة الحقيقية هي تدريب الملاحين. إن كل ملاح يحتاج إلى 500 ساعة تدريبيه.
الرئيس:
لقد استدعى الأمريكيون الجنرال دايان لزيارة أمريكا، ولاشك انهم سيطلعونه على معلوماتهم عن الطائرة TU-16 حاملة الصواريخ، و أخشى أن يقوم العدو بضربة مفاجـئة ليسبقنا بالهجوم، لذلك فإني اطلب من الجانب السوفيتي أن يستطلع لنا سيناء بواسطة الطائرات M500 (8) . وأن يقوم أيضا باستطلاع إسرائيل نفسها بواسطة الأقمار الصناعية.
اللواء بغدادي:
أن الخمسين طائرة ميج MF21 التي قيل إنها ستصل إلينا خلال عام 71 تحتاج إلى 3 اشهر للتركيب، كذلك فإن ورش عمرة (تجديد المحركات وصلاحها بعد فترة تشغيل معينة كما هو الحال في محركات العربات) محركات الطائرات التي يقوم السوفيت بإنشائها في مصر لم يتم الانتهاء منها، وأني أرجو السرعة في إنهاء هذه الأمور.
الرئيس:
اطلب من السيد السفير إبلاغ الزعماء السوفيت بسرعة توريد ما اتفقنا عليه، وإحاطتي بمواعيد وصول هذه الإمدادات، كذلك اطلب سرعة تشغيل مصنع الطائرات وورش العمرة.
زيارة الجبهة:
لقد كان يوم 19 نوفمبر 71 يوافق اليوم الثاني من أيام عيد الفطر المبـارك، وبعد انتهاء المؤتمر رافقت السيد الرئيس في زيارته للقوات المسلحة فاجتمع برجال القوات الجوية والقوات الخاصة في اليوم نفسه ثم انطلقنا إلى الإسماعيلية، حيث قضينا الليلة هناك والتقينا برجال الجيش الثاني، ثم انطلقنا في صباح اليوم التالي إلى الجنوب حيث التقى الرئيس برجال الجيش، ثم عدنا إلى القاهرة في مساء يوم 20 من نوفمبر.
وفي خلال الفترة ما بين 21 من نوفمبر وحتى نهاية الشهر كـان مجهودي الرئيسي موجها للقيام بالتزاماتي تجاه الجـامعة العربية بصفتي الأمين العسكري المساعد لها، فبموجب هذا المنصب كنت أقوم بأعمال رئيس الهيئة الاستشارية العسكرية التي تتكون من رؤساء أركان حرب الجيوش العربية، أقوم بأعمال السكرتارية لمجلس الدفاع المشترك العربي الذي يتكون من وزراء الخارجية والدفاع في الدول العربية. وقد كان رؤساء أركان حرب القوات المسلحة في الدول العربية سوف يبدأ وصولهم إلى القاهرة اعتبارا من 21 من نوفمبر ثم يبدأ بعد ذلك اجتماع مجلس الدفاع المشترك في الفترة ما بين 27-30 نوفمبر.
مؤتمر الرئيس يوم 2 من يناير 1972:
انعقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة الرئيس السادات يوم 2 من يناير 72، وفيما يلي أهم ما جرى خلال هذا المؤتمر:
الرئيس:
"أن أمريكا تدعم إسرائيل بكل شئ في حين أن الاتحاد السوفيتي لم يمدنا بما وعدني به في أكتوبر الماضي. أن الاتفاقية التي وقع عليها اللواء عبد القادر حسن مؤخرا في موسكو لم تشمل الأصناف كلها التي وعدني بها القادة السوفيت إن أمريكا لن تقوم بممارسة أي ضغط على إسرائيل وانهم يقولون أن الدور الذي يقومون به هو عامل مساعد فقط (استخدم الرئيس الكلمة الإنجليزيةCATALIST). أن اندلاع الحرب الهندية الباكستانية يجعلني أراجع جميع حساباتي حيث أن الحرب بين الهند وباكستان لم تنته بل إنها في الحقيقة قد بدأت".
طلب الرئيس بعد ذلك الاستماع إلى تقارير القادة فكانت كما يلي:
لواء محمد علي فهمي (قائد الدفاع الجوي):
"إن مشكلتي تنحصر في أنه مطلوب مني أن أقاتل في معركة هجومية بأسلحة دفاعية".
محمود فهمي (قائد القوات البحرية):
"يجب أن نمارس الضغط على الاتحاد السوفيتي، يحب أن نغلق الموانئ المصرية في وجه الأسطول الروسي، ويمكن أن يتم ذلك بالتدريج شيئا فشيئا إلى أن يتم المنع نهائيا إذا لم يستجيبوا لمطالبنا".
اللواء بغدادي (قائد القوات الجوية):
"احتاج إلى طائرات ردع تستطيع أن تصل إلى عمق إسرائيل".
اللواء علي عبد الخبير (قائد المنطقة المركزية):
"هناك اوجه قصور كثيرة في القوات المسلحة بالنسبة للمعركة الهجومية، أهمها ضعف الطيران، والنقص في الحركة، والنقص في وسائل المواصلات، وأسلوب فتح الثغرات في حقول الألغام".
اللواء سعيد الماحي (قائد المدفعية):
"يجب أن نقوم بعمل ما في حدود إمكاناتنا".
الفريق الشاذلي:
"على الرغم من قلة الإمكانات إلا أن القوات المسلحة قادرة على القيام بعملية هجومية محدودة. يجب أن يقوم سيادة الرئيس بالاتصال بالجانب السوفيتي ويعرف موقفهم في حالة قيامنا بعملية هجومية، حيث أن لديهم قوات كبيرة في مصر. إن لديهم لواءين "طائرات قتال" وفرقة دفاع جوي، وهم يسيطرون على إمكانات الحرب الإلكترونية، ويجب أن نعلم كقادة هل سيشترك معنا السوفيت أم لا، وفي حالة اشتراكهم فيجب أن نعلم حدود هذا الاشتراك حتى يمكن أن يكون تخطيطنا سليما".
الفريق صادق:
"إننا جميعا على أستعداد للقتال الفوري ولكن يجب أن يكون النصر مضمونا. إن البلاد لا تتحمل ما هو اقل من النصر. إننا سنقوم باستكمال العجز من الكتلة الغربية وسأخبر سيادتكم بمجرد الانتهاء من ذلك".
قصة الضباب:
لاشك أن السادات قد شعر بالارتياح العظيم عندما سمع باندلاع الحرب الهندية الباكستانية في 3 من ديسمبر 1971، إذ انه لا يمكن أن يعترف بخطئه، وهو دائما يبحث عن شخص أو سبب ليحمله مسئولية الخطأ. لقد قضى طوال عام 71 وهو يدق طبول الحرب ويقول أن عام 71 هو "عام الحسم "أما سلما وأما حربا، وها قد انتهى عام 71 دون أي حسم، وقد بدا الشعب المصري -الذي يمارس الديمقراطية فقط من خلال النكتة- يطلق النكات ومن بين هذه النكات نكتة تقول: "إن الرئيس قد أصدر قرارا جمهوريا باعتبار عام 72 امتدادا لعام 71، ومحرم على أي فرد أن يستخدم الرقم 72"، وكـان على السادات أن يرد على هذه النكات وأن يجد المبرر لعدم قيامنا بالهجوم على إسرائيل خلال عام 71، فلم يجد سببا إلا الحرب الهندية الباكستانية وحكاية "الضباب"
وعن قصة الضباب قال السادات :
"لقد أمر جمال القوات الجوية ذات يوم بان تقصف قوات العدو المتمركزة شرق القناة فلما ذهبت طائراتنا إلى المنطقة وجدت أن هناك ضبابا كثيفا يغطي المنطقة ويحجب الرؤية فعادت إلى قواعدها دون أن تنفذ المهمة التي كلفت بها، فأمر جمال بأن تقوم القوات الجوية بتنفيذ المهمة بعد ساعة أو ساعتين يكون فيها الضباب قد انقشع من فوق المنطقة، ولكن قواتنا لم تتمكن من تنفيذ المهمة للمرة الثانية لأنها وجدت أن الضباب كان مازال موجودا. أمر جمال بتكرار العملية للمرة الثالثة ولكن طائراتنا عادت للمرة الثالثة دون أن تستطيع تنفيذ المهمة، وهنا قال جمال: خلاص بأه. يمكن ربنا مش عوزنا نقوم بهذه الضربة"، وبعد هذه القصة المثيرة عن الضباب انتقل السادات إلى قصة الحرب الهندية الباكستانية وقارن بينها وبين الضباب الذي منع جمال عبد الناصر من تنفيذ الغارة الجوية على المواقع الإسرائيلية، وخلص من ذلك إلى أنه لولا قيام الحرب الهندية الباكستانية لقامت الحرب عام 71، ولكان عام 71 هو عام الحسم كما سبق أن قال!
لقد أخطأ الرئيس السادات عندما اعتقد أن الشعب المصري يستطيع أن يبتلع ويهضم قصة الضباب وعلى العكس من ذلك فقد جعل الشعب المصري من قصة الضباب مادة جديدة للنكتة والسخرية.
اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة:
في يوم 18 من مارس 72 اجتمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة الفريق صادق حيث ابلغنا بما يلي:
1- هناك شائعات تقول أن هناك خلافا بين الفريق صادق والسيد عزيز صدقي (12)، وهذا غير صحيح.
2- هناك شائعات بأن الفريق صادق على خلاف مع الاتحاد السوفيتي، وهذا غير صحيح، حيث أن الخلاف هو خلاف مبادئ.
3- هناك شائعة بأن القوات البحرية في مرسى مطروح والإسكندرية قد وضعت تحت سيطرة السوفيت وهذا غير صحيح.
4- لقد عاد الفريق عبد القادر من موسكو دون أن يوقع على الاتفاقية الجديدة حيث إن الروس طلبوا أن ندفع ثمن الطائرات TU22 والدبابات ت62 والذخيرة بالعملة الصعبة وبالثمن الكامل، وبالتالي فان الطائرة TU22 يصبح ثمنها 5,6 مليون روبل والدبابة ت 62 يصبح ثمنها250000 روبل، وقد رفض الجانب المصري التوقيع على الاتفاقية بهذه الشروط وبالتالي فأن هذه الأصناف لن تحضر.
في غياب الديمقراطية فإن الشائعة هي السلاح الوحيد الذي يستطيع بواسطته الشعب أن يعبر عن رأيه ولكن في كثير من الأحيان فإن القيادة السياسية تعمد هي نفسها إلى خلق وترويج بعض الشائعات لكي تخدم غرضا معينا، وفي اعتقادي أن ما ذكره الفريق صادق من شائعات في اجتماع المجلس الأعلى يوم 18 من مارس هو من هذا النوع من الشائعات التي فجرها لكي يخلق العداوة بين أفراد القوات المسلحة وبين الاتحاد السوفيتي ولكي يظهر وكأنه هو الذي يحمى مصر من تيار الشيوعية. أن الفريق صادق يكره الشيوعية كراهية شديدة، وهذا أمر يخصه وليس لأحد أن يحاسبه على ذلك، ولكن عداوته للشيوعية قد أعمت بصيرته فأصبح لا يفرق بين الشيوعية كمذهب أيديولوجي والاتحاد السوفيتي كدولة عظمى تقوم بإمدادنا بالسلاح الذي يمكننا من تحرير أرضنا المحتلة. كان كل من يدعو إلى تصفية الجو وتحسين العلاقات مع الاتحاد السوفيتي من اجل مصر هو عدو شخصي للفريق صادق، بل قد يذهب إلى ابعد من ذلك فيتهمه بالانتماء إلى الشيوعية والعمالة للاتحاد السوفيتي، لذلك فإن ما قاله صادق في هذا المؤتمر كان في الواقع هجوما على عزيز صدقي وليس نفيا لهذه الشائعة.
ولنفرض إنني أخطأت في تحليلي هذا وان صادق لم يخلق هذه الشائعات و إنما وصلت إليه عن طريق استطلاع الرأي الذي يجري في القوات المسلحة من وقت لآخر بطريقة دورية، فإن هذه الشـائعات لا يمكن النظر إليها بجدية نظرا للأسلوب الخاطئ الذي تتبعه القوات المسلحة المصرية للحصول على هذه المعلومات ليس سرا أن إدارة المخابرات الحربية لديها
مندوبون غير معروفين في كل وحدة من وحدات القوات المسلحة، وان هؤلاء الأفراد يقومون بإبلاغ إدارة المخابرات سرا بكل ما يرون وما يسمعون، فلو فرضنا مثلا أن مندوبا واحدا من ضمن آلاف الوحدات سمع شائعة كهذه فإنها تسجل ضمن الشائعات الدائرة سواء كانت نسبتها واحدا في الألف أم كانت من تأليف شخص واحد. أن هذا الأسلوب هو إهدار للفكر البشرى لأنه لا يمكن لجميع البشر أن يتفقوا على كل شئ، وان المناقشة الحرة وتسجيل الآراء في أسئلة محددة ثم القيام بإحصاءات شريفة عن هذه الإجابات هي الأسلوب العلمي الصحيح لاستطلاع الرأي. وقد هاجمت هذا الأسلوب في أحد مؤتمراتي الشهرية وأوضحت أن مثل هذه التقارير التي تقدمها إدارة المخابرات الحربية للسيد رئيس الجمهورية وللسيد الوزير لا تمثل الرأي العام الحقيقي في القوات المسلحة. وقد شعر جميع القادة الذين حضروا المؤتمر بسعادة غامرة وأنا أدلي بهذا القول وأيدوني تأييدا، مطلقا في كل ما قلته، ولكني مع ذلك لم استطع أن اصلح هذا الأسلوب الغريب في استطلاع الرأي، لأن إدارة المخابرات الحربية كانت تخضع لوزير الحربية مباشرة وعلاقة (ر.ا.ح.ق.م.م) بها تنحصر في الفرع الخاص باستطلاع العدو، أما فرع الأمن وتقارير الإدارة بخصوص أمن القوات المسلحـة فكانت ترفع إلى رئيس الجمهورية والى وزير الحربية، وإذا أرسلت صورة إلى (ر.ا.ح.ق.م.م) فهي للعلم فقط. والغريب هنا أن هذا النظام استمر أيضا بعد عزل الفريق صادق وتعيين الفريق أحمد إسماعيل بدلا منه في أكتوبر 1972.
إن إدارة المخابرات الحربية في مصر هي جزء من النظام المصري. إنها أحد الأجهزة الثـلاثة التي يعتمد عليها الحـاكم في مصر لكي يسيطر على أفراد الشعب. هناك هيئة المخابرات العامة التي تتبع رئيس الجمهورية مباشرة وهناك المباحث العامة التي تتبع وزير الداخلية ثم هناك إدارة المخابرات الحربية التابعة لوزير الحربية، وتقوم كل من هذه الجهات الثلاث بإرسال تقرير شهري- إذا لم يكن هناك ما يستدعي إرسال تقرير خاص- إلى رئيس الجمهورية، ومن هنا يظهر التنافس بين الثلاثة أن كلا منها تعتقد انه كلما كان التقرير اكثر تفصيلا كان ذلك شاهدا على مدى إخلاص الإدارة للنظام، كما إنها تخشى أن تسقط خبرا أو شائعة قد تظهر في تقارير الإدارتين الأخـريين فيكون ذلك اتهامه لها بأنها تغض الطرف عن شئ معين لسبب تريد إخفاءه عن رئيس الجمهورية، ومن هنا كـان الصـراع المهني بين الأجهزة الثلاثة. ويتم ذلك كله بتشجيع من رئيس الجمهورية الذي يرى أن تنافس تلك الأجهزة الثلاثة سوف يضمن له عدم قيام أي عمل انقلابي ضده.
في صباح يوم 19 من مارس اجتمعت مع السيد الوزير والجنرال اوكينيف، حيث عرض علينا صورا التقطت بواسطة الأقمار الصناعية السوفيتية، وقد أرسلت هذه الصور مع مندوب خاص من الاتحاد السوفيتي حتى يمكننا أن نطلع عليها ونستخرج منها كل ما نريد من معلومات بشرط واحد وهو ألا نعيد تصويرها أو نأخذ فيلما عنها. وبعد أن اطلعنا على الصور انسحب المندوب السوفيتي الذي كان يحمل هذه الصور ومعه أحد ضباطنا لنقل المعلومات من الخريطة.
بعد ذلك انضم إلينا الفريق عبد القادر حسن ودار الحديث كما يلي:
الجنرال اوكينيف:
لقد قابلت أمس أنا والسفير السوفيتي الرئيس السادات وعرضنا عليه هذه الصور الجوية. وقد اخبرنا بأنه هو الذي قال لرئيس الوزراء السيد عزيز صدق أن يتم الدفع بالعملة الصعبة.
أن الرئيس قال: إننا مستعدون للدفع كاملا وبالعملة الحرة بالنسبة للطائرات ميج 21 والطائرات M-500 ولكن ليس بالنسبة للطائرات TU22 لأنها قاذفة فقط وتحتاج إلى حماية وأننا سنستعيض عنها بسربي ليتنتج من السعودية وسرب ليتنتج من الكويت وأننا سنرسل الطيارين المصرين للتدريب على هذه الطائرة في الأسبوع القادم ".
بخصوص الدبابات ت 62 قال الرئيس: "إننا نحتاج إلى هذه الدبابات ولكنها غالية جدا وهناك مشكلات بخصوص قيام ليبيا بدفع ثمنها"
وافق الرئيس على أن تقوم مصر بدفع ثمن الذخيرة بالعملة الصعبة.
وافق الرئيس على تسليم 12 كتيبة صواريخ فقط من الأصدقاء بدلا من 18 كتيبة، كما ورد في خطاب وزير الحربية المصري إلى وزير الدفاع السوفيتي (15)، وقد لمح الجنرال أوكينيف بأن سحب هذه الكتائب الآن قد يؤثر على محادثات بريجنيف- نيكسون التي كان مقررا عقدها في موسكو في شهر مايو القادم.
الفريق صادق:
"ليس لدى علم بهذه المسائل وسوف اتصل بالسيد الرئيس وأقوم بتنفيذ ما يأمر به ".
انسحب الجنرال اوكينيف بعد ذلك وبقيت أنا والوزير والفريق عبد القادر حسن، وقد اتصل الوزير بالرئيس هاتفيا في حضورنا وابلغه بما سمعه من الجنرال اوكينيف، فأيد الرئيس كل ما قاله الجنرال اوكينيف فيما عدا موضوع الذخيرة فقد قال الرئيس: فإن ما اقصده بالدفع بالعملة الصعبة بالنسبة للذخيرة هو ما يدفع لقاء توسيع خط الإنتاج المصري للذخيرة وليس ثمن الذخيرة نفسها".
وبعد هذه المحادثات الهاتفية غادر السيد الوزير مكتبه إلى مطار القاهرة حيث استقل الطائرة إلى السعودية.
كانت الساعة حوالي العاشرة والنصف من صباح الأحد 19 من مارس عندما غادر السيد الوزير مبنى الوزارة متجها إلى السعودية، وبينما أنا منهمك في اتخاذ الإجراءات والمراسيم التي تتعلق بتسلم 12 كتيبة صواريخ من الأطقم السوفيتية اتصل بي مكتب الرئيس وطلب مني الحضور فورا لمقابلة الرئيس في منزله بالجيزة وان احضر معي الفريق عبد القادر حسن المختص بالاتفاقات السوفيتية المصرية، والذي كان قد وصل من الاتحاد السوفيتي في اليوم السابق، وفى الساعة 12:30 كنا في منزل الرئيس حيث كان معه السيد حـافظ إسماعيل مستشاره لشئون الأمن القومي.
قام الفريق عبد القادر حسن بشرح تقريره بخصوص رحلته الأخيرة واستمع إليه الرئيس دون أن يوجه إليه أي سؤال ودون أن يعلق على التقرير بطريق مباشر. ولكنه علق عليه بطريق غير مباشر، لقد علم الرئيس أن صـادق قد اتخذ من تقرير عبد القادر حسن ذريعة لكي يهاجم الاتحاد السوفيتي، وها هو ذا السادات يريد أن يسـتمع إلى تقرير عبد القادر حسن لكي يستخدمه شريعة للدفاع عن الاتحاد السوفيتي. ويتلخص ما قاله الرئيس فيما يلي:
أ- إن صداقتنا مع الاتحاد السوفيتي هي خط استراتيجي يجب المحافظة عليه لأنه الورقة الوحيدة التي نلعب بها.
ب- أن المعلومات التي نوقشت أمس على مستوى المجلس الأعلى للقوات المسلحة يجب ألا تنقل إلى أي مستوى اقل من ذلك.
ج- أننا لن نعطى قواعد للسوفيت ولكننا سنقدم لهم التسهيلات فقط.
وقد احضر الرئيس أمامنا شخصا قال انه ضابط بوليس كان أحد أقاربه ضابط في القوات المسلحة وإن قريبه هذا اخبره بان المخـابرات الحربية كانت تستطلـع رأي القوات المسلحـة حول ما يطلبه الروس من قواعد بحرية وحول ما يطلبونه من أن يتم دفع ثمن السلاح بالعملة الصعبة (16).
بعد ذلك خرج عبد القادر حسن وبقيت أنا لمناقشة بعض المسائل الأخرى مع السـيد الرئيس.
هناك 3 تعليقات:
https://www.vatrena.com/c/1570
اكبر تجمع من موازين ومعدات وزن تجدها على فاترينا دوت كوم دليل عام واكبر محرك بحث محلى فى مصر
https://www.vatrena.com/c/1570
اكبر تجمع من موازين ومعدات وزن تجدها على فاترينا دوت كوم دليل عام واكبر محرك بحث محلى فى مصر
https://www.vatrena.com/c/1570
اكبر تجمع من موازين ومعدات وزن تجدها على فاترينا دوت كوم دليل عام واكبر محرك بحث محلى فى مصر
إرسال تعليق