الأربعاء، 16 أبريل 2008

دراسات في الحقبة الناصرية (5)

تجربة تنظيم الحكم الناصرى فى سياق التاريخ المصرى المعاصر
أقصد بالديمقراطية ذلك النظام فى إدارة المجتمع وإدارة الدولة، الذى يعتمد على التشكيلات المؤسسية الموضوعية وليس على العلاقات الشخصية بين القائمين على الأمور، ويعتمد على جماعية اتخاذ القرار وليس على الفردية فى هذا الشأن، ويعتمد على تعدد الهيئات والجهات التى تمارس الشئون العامة وليس على واحدية هذه الجهات.والديمقراطية فى تصورى هى وصف يلحق التشكيلات والتنظيمات التى تتكون فى المجتمع لإدارة الشئون العامة لجماعة معينة، وأهم هذه التشكيلات والتنظيمات وأخطرها شأناً هو " الدولة " بطبيعة الحال. وسواء صحًّ هذا الفهم للديمقراطية لدى القارئ أو لم يصح؛ فإننى أبديه لا لأقنع القـارئ بصوابـه، ولكـن لأوضح لـه أننى فيمـا أكتب هنـا إنما أصـدر عـن هذا التصـور للديمقراطيـة، وذلـك حتى لا تلتبس فى ذهنـة المعانى حـول حقيقة ما أقصد. على أننـى أيضـاً بهذا التصور " للديمقراطية "، أزعم أن لها متطلبات، فـلا تقـوم الديمقراطيـة ولا يحسن إعمالها إلا بهذه المتطلبات، ومن ذلك ما يتعلق بعصمة الإنسان وحرمته فى جسمه وعرضه وسمعته وماله، وبحقه فى العمل وفى التنقل والسكن وغير ذلك، وحقه فى الاجتماع وتنظيم شئون جماعاته الفرعية التى ينتمى إليها، وسواء كانت هذه الحقوق فردية أو جماعيـة، أو سـواء كانت من الحرمات والعصم أو من حقوق الفعل والممارسة، وسواء كانت من حقوق الإنسان فى حال سكونه أو من حقوقه فى حال حركته.هذه الحرمات والحقوق لازمة للإنسان بذاتها، وهى ضرورية له أفراداً وجماعات، ولكن إثارتها هنا إنما ترد بمناسبة الإشارة بأنها ليست لازمـة بـذاتهـا فقـط لبنـى البشر، ولكنهـا أيضـاً مما يشكل المناخ الاجتماعى - السياسى - الثقافى - الضرورى لإقامة التشكيلات المؤسسية الديمقراطية، فهى من الأبنية التحتية الواجب توافرها بوصفها متطلبات مسبقة لإقامة الهياكل التنظيمية الديمقراطية.
ومن حيث الأبنية الديمقراطية؛ فإن المقصود فى ظنى بالتشكيلات المؤسسية، وبجماعية اتخاذ القرار، وبتعدد الهيئات الممارسة للشئون العامة لجماعة من الجماعات؛ هو إقامة التوازن بين الهيئات بعضها البعض. والتعدديـة مثـلاً لا أقصد بهـا " الأكثر مـن الواحد أيـاً كان عـددها ولا أقصد عدداً محدداً "، إنما أقصد هذا القدر من التعدد بين الجهات والتنظيمات، الذى يقيم التوازن بين بعضها البعض ويضمن بقاءه، وكذلك الشأن بالنسبة للجماعية، يقوم حدُّها اللازم بما يحقق " التوازن " بين الإرادات الشخصية والذاتية لمن يتولون اتخاذ القرار. ونحن هنا لسنا أمام تعدد رقمى فقط، ولسنا أمام جماعية أو أكثرية مطلقة فقط، ولكننا أمام " تعدد " و " جماعية " لما يمكِّن من تحقيق التوازن بين القوى المؤسسية المختلفـة التى يكون لها دور فى رسم السياسات والأهداف، واتخاذ القرارات وتنفيذها. والتوازن المقصود هنا ليس هو التوازن " الصفرى " من نحو (2 - 2 = 0) مما يؤدى إلى الجمود، ولكن المقصود هـو التوازن الحـركى الـذى يجعـل القـوى المتقابلة ليست متطابقـة فى طاقـة كـل منها، ولكنها " متقاربة " وهى أيضاً " متغيرة "، مما يجعل هناك دائمـاً حركة تحدٍ وحركة صمود ومقاومـة، مع بذل للجهد من أجل التفوق، أى مما يجعل الأمـور قائمة على التدافـع بالتحديات والاستجابات.ومن جهة أخرى، فإن الديمقراطية فى تصورى ليست مشورة فى الرأى، ولكنها مشاركة فى اتخاذ القرار، وهى لا تتعلق بالقرار الذى اتخذ من حيث موضوعه، ولكنها تتعلق بكيف اتُّخذ هذا القرار؛ أى بطريقة اتخاذه. إن الديمقراطية نسق تنظيمى لاتخاذ القرار؛ أى القيام بالنشاط بطريقة جماعية تجرى بين أنداد. والقيادة الفردية - غير الجماعية - ليست استبداداً بالرأى، وإنما هى استبداد بالقرار.
إن أى قائد فردى رشيد، إنما يسأل ويشاور ويتبادل الرأى، وهو بموجب رشده يتلقى معارف جماعية عن الأوضاع القائمة، ويتبادل الرأى مع من يستحسن الاستعانة بتجاربهم حول ما تصلح به الأوضاع لصالح حكومته وجماعته، ويستطلع الخبرات حول ردود الفعل، وحول القيود والضوابط الحاكمة للأوضاع القائمة وللجماعات المتعددة التى تخضع لحكومته، وكل ذلك يحتاج إلى معارف جماعية، وإلى خبرات جماعية، وإلى آراء متعددة يجمعها ويقارن بينها ويتحرى الأصح منها من وجهة نظره ومن جوانب المصالح التى يرعاها. ولكـن قـراره بعـد ذلـك يبقى قراراً فردياً يملكه وحده لا يخضع فيه لقرار يرد من غيره ويلتزم هو به.ومن جهة أخرى أيضاً فنحن نعلم أن تاريخ البشرية، قبل تطبيق النظم الديمقراطية، يستغرق عشرات القرون، ولا يجحد منصف ما تقدمت به البشرية عبر تلك القرون، سواء فى الثقافة، أو فى مسائل العيش، أو فى نظم المجتمع، أو فى تبلور المثل الإنسانية فى علاقات البشر.
وكل ذلك جرى قبل بزوغ فجر التنظيمات الديمقراطية، وهو يفيد أن خير البشرية ليس حبيس التنظيمات الديمقراطية المعروفـة الآن، وأن رشد القرارات يمكن أن يتشكل بغير هذه التنظيمات، وقد حدث ذلك فعلاً. وبالعكس فإن نظماً ديمقراطية عرفت من وسائل البطش والجبروت ومن حماقة اتخاذ القرارات مالا تخفى وقائعه. وديمقراطية " فايمر " شبه المثالية فى ألمانيا فى العشرينات من القرن العشرين تولد منها النظام النازى عبر انتخابات حرة، وديمقراطيات أوروبا الغربية بعامة أنبتت أشد أنواع العسف والاستغلال لشعوب المستعمرات، والديمقراطية الأمريكية تأسست فيمـا تـأسست عليـه على فـائض اقتصـادى أتى مـن جهود الرق الأفريقى، وما أدرانا ما هو الرق الأفريقى وتاريخه فى أمريكا.إن كل ما نستطيع أن نؤكده - من حيث الديمقراطية - أن التنظيم الديمقراطى تزداد فيه احتمالات الوصول إلى الصواب وتجنب الخطأ، وأن النظام غير الديمقراطى تزداد فيه احتمالات الخطأ والظلم؛ لأن السلطة المقيدة تكون أكثر ذكاء وأحد بصراً وحذراً، وأكثر تلفتاً لتبين وجوه ردود الفعل بالنسبة لأى قرار، بينما السلطة الطليقة تغريها طلاقتها بالاندفاع وإغفال قوة الغير، ويتضخم لديها الإحساس بالقوة الذاتية والانحصار فى مراعاة الصالح الذاتى.ونحن عندما ندرس قراراً صدر فى الماضى واكتملت آثاره من بعد، إنما ندرس موضوعه وما ترتب عليه من نتائج، دون أن نهتم كثيراً بكيف اتخذ هذا القرار، لا نهتم عادة إلا بموضوعه وبمدى ما جلب من خير أو اقتُرف من شر.
ولكننا عندما نرسم للمستقبل نظاماً ولا نعرف ما سيقع فى هذا المستقبل؛ إنما يجب علينا أن نختار ما تقل فيه احتمالات الخطأ والضرر، وما تزداد فيه إمكانيات النجاح والنفع، لذلك نهتم برسم كيفية اتخاذ القرار، ويكون الماضى هنا مما تضرب به الأمثال للاعتبار، مع تركيز الاهتمام على المستقبل، فتكون الديمقراطية أكثر ضماناً لإدراك الصواب.ومـن هنـا تبـدو أهميـة مناقشـة موضـوع الـديمقراطيـة، نحن لا نقيم بها الماضى، لأن الماضى يقيم من خلال موضوع القرارات المتخذة، ولكننا نرنو بها إلى المستقبل، ونعتبر من الماضى ودروسه المستفادة فى مجال احتمالات الصواب والخطأ.ثانيا: ملامح التنظيم السياسى لثورة يوليو 1952:إن التنظيم السياسى للدولة الـذى أقامته ثـورة 23 يـوليـو 1952؛ نشأ وتشكل فى المدة القصيرة الأولى من قيام الثورة، وكان ذلك خلال مدة تتراوح بين السنتين من يوليه 1952 إلى أواخر 1954، وبين السنوات الأربـع من ذات البداية حتى إصـدار دستـور 1956. ونحن هنا لا نؤرخ للثورة، إنما نتبين ملامح التنظيم السياسى الذى أقامته، وأول هذه الملامح فى ظنى إن لم تكن هناك صورة تنظيمية دستورية وإدارية وسياسية مسبقة، بنيت على أساسها تشكيلات دولة 23 يوليو ومجتمعها، إنما تراكمت الملامح والخطوط العامـة والخاصة مـن خـلال تفاعـل الإمكانيات المتاحة مع التشكيلات السياسية الـرسمية والأهليـة القائمة، وهـى متفاوتة فـى الصلابة والهشاشة، ومن خلال أوضاع الصراعات السياسية التى نشبت.
لا أريد أن أستطرد هنا وأكرر الحديث بمـا سبق أن فصلته فى كتابى " الديمقراطية ونظام 23 يوليو سنة 1952 – 1970 ". ولا أزال مقتنعاً بما أثبته فيـه ومـا انتهيت إليه بـه، وحسبى أن أشيـر هنـا إلى الملامح العامـة التى أثبتها فى هذا الكتاب، ثم استطرد من ذلك إلى محاولة ربط الأهم من هذه الملامح بالسياق التاريخى السابق واللاحق لنظام 23 يوليه، لأن ملامح نظام الحكم فى خلال مدة ثورة 23 يوليه (1952 - 1970) لم يكن فى ظنى مقطوع الصلة بما سبقه، وهو ليس معدولاً عن جوهره فيما لحقه.لقد قامت ثورة 23 يوليو من داخل الجيش المصرى، ومن خلال تنظيم الضباط الأحرار، والتنظيم السياسى الذى ينشأ داخل الجيش، قد يتبنى الأهداف السياسية للجماهير أو لتيار جماهيرى، ولكنه لا يمكن أن يكون ذا توجه جماهيرى، من حيث الخطاب السياسى الذى يتعين أن يبقى سرِّياً وليس جهرياً، ولا من حيث أساليب العمل التى يتعين أن تبقى محصورة ومحكومة بعضوية ضيقة اختيرت اعتماداً على الثقة والروابط الشخصية، وليس على الانتشار والروابط السياسية وحدها. ولذلك لا يمكن أن تكون وسائله للتغيير إلا محصورة فى عمليات الاغتيال السياسى أو الانقلاب العسكرى. والحاصل أنه بعد التردد بين هذين الاتجاهين، اختارت قيادة التنظيم الطريق الأرفع مستوى فى العمل السياسى، وهو الانقلاب الذى يمكِّن من تقرير سياسات وتنفيذها حال نجاحه، و ليس مجرد هدم بعض قوائم النظام القديم أو إثارة قلقه واضطرابه، كما هو الحال فى موضوع الاغتيالات.
وهذا التنظيم السياسى الذى ينشأ داخـل الجيش، عندمـا يقــوم بحركته الانقلابية، فهو لا يعتمد على قوته الذاتية فقط، فهى قوة محدودة لا تمكنه من شىء فى أمر السيطرة على السلطة فى دولة ذات رسوخ واتساع، إنما هو يعتمد فى الأساس على موقعه لأنه موجود داخل السلطـة، بـل إن رجاله يشغلون أماكن حساسة داخل عمود الارتكاز الأساسى للدولة وهو الجيش، وهؤلاء عندما يستغلون مواقعهم إنما يحركون غيرهم من رجال الجيش وفقاً لقواعد التحريـك العاديـة التى يعـرفها الجيش، أى يحركـون قـوات لأهـداف يعرفونهـا هـم وحـدهـم ولا يذيعونها، ويتحرك من دونهم معهم، لا بالقرار السياسى المعروف الهدف، ولكن بالأمر الإدارى الذى ينفصل فيه الأمر التنفيذى عن هدفه السياسى العام، فلا يعرف المنفذون عادة أى أهداف سياسية تتحقق عن صنيعهم. فهو تنظيم سياسى محدود العدد، يُرَكَّب على مفاصل حساسة من جسم الدولة ويحركها لأهداف تقررت لديه، ولا تعرفها قيادة الدولة، بل تكون ضد قيادة الدولة. فالتنظيم السياسى العسكرى لا يكون قوياً بذاته، ولكنه قوى بموقعه داخل الدولة، ويجتهد ليسيطر على جهازها وليتحرك به حركة تتفق مع أهداف سياسية جديدة. ولذلك لا يمكن تصور فصله عن جهاز الدولة من حيث هى الجهاز الأساسى لإدارة الشئون العامة.وفى ظنى أن التنظيم السياسى الذى يتولى السلطة نتيجة ثورة يقوم بها إنما يُكسب الدولة سماته التنظيمية، أى أنه يحوِّر تنظيمها إلى ما يتناسب مع نظام العلاقات التى كانت سائدة فى التنظيم قبل وصوله إلى الحكم. ويمكن أن نقول أن التنظيم السياسى هو من الناحية التنظيمية جنين الدولة التى يسيطر عليها، لما ينقله إليها من نمط علاقات تنظيمية سادت لديه، وتكون بها نظام علاقات العمل وعادات ممارسته لدى هذه النخبة التى كونت التنظيم.وفى الحالة التى نحن بشأنها، فإن التنظيم السياسى فى أصل نشأته، وبحسبانه تنظيماً قام من ضباط للجيش بموجب انتمائهم العسكرى، فضلاً عن الهدف السياسى، هذا التنظيم بموجب عسكريته إنما قام وهو يحمل فى نسيجه العضوى خصائص العلاقات الوظيفية لأجهزة الإدارة والدولة، من حيث مراعاة الرتب والأقدميات وغير ذلك. كما أنه لم يكن يستبعد من أسلوب عمله أنـه عندما يقوم قـومته إنما سيـحـرك ما يستطيع تحريكه من قـوات الجيـش، لا بموجب العضوية السياسية لهؤلاء فى التنظيم - فهم ليسوا فيه - ولكن بموجب التبعية الإدارية للقوات المتحركة لأعضاء التنظيم، وبموجب الموقع القيادى لهؤلاء الأخيرين. لذلك كانت صلة تنظيم الضباط الأحرار بجهاز الدولة المصرى صلة استنساخ متبادل من حيث؛ نظم العلاقات والملامح الرئيسية لهياكل البناء.
ومن حيث التكوين السياسى للضباط الأحرار، فهم من هذا الجيل من الشباب المصرى الذى تفتح إدراكه السياسى فى الثلاثينيات ودخلوا الكلية الحربية فى أواخر الثلاثينيات، وهم من جيل التنظيمات السياسية التى تكونت عبر الثلاثينات والأربعينات، وهم بترتيب النشوء؛ الحزب الوطنى، والإخوان المسلمون، ومصر الفتاة، والحركة الشيوعية، وبعض من شباب الوفد فى الأربعينات الـذى تأثر بواحد مـن هـذه الاتجاهات؛ (الحزب الوطنى حزب سابق طبعاً على كل هـؤلاء، سواء أحزاب العشرينات أو ما بعدها، ولكن تجدده بالشباب عبر الأجيـال، وعدم اعتباره من الأحزاب التى تصل إلى الحكم؛ أبقى شبابه متفاعلاً مع التيارات الجديدة ومستجيباً للمتطلبات المتغيرة، على نحو ما).وهذه الأحزاب الناشئة تتسم كلها بأنها صارت أكثر بعداً عن المثل الليبرالى الذى خطف الأبصار فى العشرينات، وقام لديهم التحفظ عن مدى جدوى التنظيم الليبرالى فى تحقيق الأهداف الوطنية التقليدية وفى تحقيق جلاء الإنجليز من مصر، واستقلال الإرادة السياسية للشعب المصرى، وفى مدى إمكان تحقق المدينة الفاضلة لمجرد أن تجرى انتخابات دورية وأن تفضى إلى تداول السلطة. وهم جميعاً نظروا إلى الديمقراطية الليبرالية بحسبانها وسيلة لخلخلة النظام القائم لا لتحقيق الأهداف المرجوة، وهى تتعلق بالاستقلال وبالمرجعية الإسلامية وبنمط ما من التنمية.
والشيوعيون كانوا يجهرون بأن المال هو للأخذ بمبدأ دكتاتورية البروليتاريا.لم يكن فى الساحة المصرية إلا الوفد والأجيال المنحدرة عنه من يؤمن بالتنظيم الديمقراطى الليبرالى بصورته التقليدية المعروفة، ومع ضعف الوفد وظهور قوى سياسية خارجة عن إطاره ومتحدية له، وناقصة الإيمان بما يمكن للوفد أن يحققه فى مجال الاستقلال الوطنى، والرخاء الاقتصادى، والعدالة الاجتماعية، والأصالة الثقافية؛ مع هذا الضعف ونقص الإيمان ضعُف أيضاً المثل الديمقراطى ونقص الإيمان به.وهنـا أذكـر كلمة قرأتها للدكتور محمد مندور عندما كان يدور قلمه فى قضايا السياسة فى الأربعينات، ويشارك فى تحرير صحيفة " الوفد المصرى "، قال إنه إذا انهار الوفد انهارت الديمقراطية فى مصر. وهذه العبارة لا تشير فقط إلى معنى المديح لدور الوفد، إنما هى فى صدقها السياسى والتاريخى عندما قيلت؛ إنما كانت تشير أيضاً إلى أن التنظيم الديمقراطى فى مصر ليس من الرسوخ والثبات بحيث أنه يستغنى بإيمان الجماهير به عن وجود مؤسسة سياسية حزبية بعينها تسهر عليه وتصونه.ثالثاً: النظام السياسى المصرى قبل قيام ثورة يوليو 1952:إذا نظرنـا إلى التنظيم الـديمقراطى فى تصوره التقليدى المتعارف عليه، من حيث قيام سلطات ثلاث متميزة الواحدة منها عن الأخريين، ومن حيث وجود جهاز تشريعى يصدر التشريعات ويراقب أعمال الحكومة ويمكنه إسقاطها، ومن حيث قيام سلطة قضائية ذات تميز عن غيرها تراقب سيادة القانون، وإذا نظرنا إلى سوابق هذا التنظيم فى مصر لا من حيث أنه دعوة سياسية فقط، ولا من حيث أنه محض مثال مرجُو الأخذ به، إذا نظرنا إلى كل ذلك لم نجد أمامنـا فى التاريـخ المصرى إلا تنظيم دسـتور 1923 الذى كان سـارياً فى الفـترة مـن 1923 إلى 1952.
وفى هذه الفترة نلحظ أن دستور 1923 خولف فى ثانى انتخابات جرت فى 1925، وبقى مخالفاً حتى 1926، ثم عاد للتطبيق، ثم وقف العمل به فى الفترة بين 1928 و 1929، ثم عاد للتطبيق، ثم ألغى وحل محله دستور آخر من نهايات 1930 حتى 1935، ثم عاد للتطبيـق فى 1936، بمعنـى أن الـدستور فى الفتـرة مـن 1923 إلى 1936 كـان مطبقاً فى عـام 1924، ثم فى نحو عامين فى 1927 و 1928، ثم لأقل من عام فى 1929 - 1930. وبقى الدستور معمولاً به فى المدة المتصلة بين 1936 و 1952، ولكن خلال هذه المدة فرضت الأحكام العرفية مع بداية الحرب العالمية الثانية فى سبتمبر 1935 حتى نهايتها فى 1945، ورفعت الأحكام العرفية من نحو منتصف 1945 حتى منتصف مايو 1948؛ عندما خاض الجيش المصرى الحرب ضد إسرائيل، واستمرت حتى منتصف 1950، ثم رفعت الأحكام العرفية فى يونيه 1950 حتى حريق القاهرة فى يناير 1952، بمعنى أنه خلال هذه المدة فرضت الأحكام العرفية خمس سنوات مع الحرب العالمية، ثم سنتين مع حرب فلسطين، ورفعت هذه الأحكام ثلاث سنوات، ثم سنتين تقريباً. بمعنى أن دستـور 1923 لم يستمـر تطبيقـه بغيـر مخالفة، ولا وقف ولا إلغاء، وبغير أحكام عرفية؛ إلا مدداً متقطعة مجموعها لا يزيد على عشر سنوات، ولا تجاوز المدة المستمرة الواحدة ثلاثة أعوام.ومن بين عشرة انتخابات جرت لمجلس النواب فى ظل هذه المدة، جرت ست منها نزيهة والأخرى نتائجهـا مصطنعـة مطعـون فى نـزاهتهـا، حسبمـا شـاع لدى الرأى العام وقتها، ولـدى المؤرخين المتابعين لهـذه الفترة. وإن مجـالس النواب التى شكلت تشكيلاً نزيهاً استمر أولها فى 1924 أقل من عـام واحـد، واستمر ثانيها فى 1926 نحـو عـام ونصـف، واستمـر ثالثها فـى بـدايـة 1930 نحو ستة أشهر، واستمر رابعها فى 1936 عامين، واستمر خامسها فى 1942 عامين، واستمر سادسها عامين اثنين فقط، بمدة إجمالية - إذا احتسبت بالشهور - لا تزيد عن ثمانية أعوام. وإن وزارة الـوفـد التى كـانت تتـولى الحكـم مع كل انتخابات حرة لم يتجاوز مجموع بقائها فى الوزارة خلال مدة دستور 1923 كلها؛ لم يتجاوز سبع سنوات، وهى عندما تحالفت مع حزب الأحرار الدستوريين بين عامى 1926 و 1928 لم تتجاوز هذه المدة العام ونصف العام.وإن هذا العرض يظهر لماذا كان ازورار تنظيمات شباب الثلاثينات عن التركيز على المثل الديمقراطى فى صورته التقليدية؛ ذلك أنهم وجدوا أن الطريق ليس معداً وليس سهلاً وليس مفض حتماً إلى تحقيـق الأهداف الموضوعية الكبرى، التى كانت الجماعة السياسية ترنو إلى تحقيقها، وذلـك بالنسبة لتحقيق الاستقـلال السيـاسى، وإقصاء النفوذ العسكرى والسياسى الأجنبى، أو استعـاده المرجعيـة الثقافية والإسلامية، أو تحقيق وجوه التنمية والاستقلال الاقتصادى.
وأياً كان مدى صواب نظرتهم هذه، وقد ثبت من بعد بتجارب السنين ومن المحن التى تلت فى العقود التالية؛ أن الطريق غير الديمقراطى ليس أقل وعورة ولا أوطأ أكنافاً، وإن فقـدان الديمقراطيـة قـد هـدد كل المكاسب السياسية والاجتماعية التى بدت فى لحظة تاريخية أنهـا تحققت. أقـول رغم ذلك كله كان علينا أن ننظر فى حال تلك الأجيال عندما كانت تعمل فى الساحة السياسية وتتصدى لمشكلات بلدها، وأثـر وجهـة نظـرهم السائـدة فى مجريات الأمور فى ذلك الوقت. فقد كانت الديمقراطية لديهم هدفاً مسبوقاً وتابعاً، وليس هو الأصل المطلوب. وهـذا العرض يظهر أيضاً، أن التطبيق الديمقراطى لم يكن مفقوداً ولا كان سراباً يحسبه الظمآن ماء، إنما كان حقيقة واقعة، وإن إجراء انتخابات حرة ست مرات ليس بالأمر الهين، وتولى الحكم حكومة لا ترضى عنها القوى الحاكمة وقتها ذات الوجود الثابت كالإنجليز والملك، ليس ذلك أيضاً بالأمر الهين، وإن ما يسبق كل ذلك ويستتبعه من تحركات شعبية بالمظاهرات، والإضرابات، والتجمعات ليس بالأمر الهين، ولا كان أيضاً بالأمر الهين قيام ذلك القدر الفسيح من حرية التعبير السياسى، وحرية نقد الحاكمين. إنما النتيجة المقصود إظهارها والكشف عنها، أن التنظيم الديمقراطى فى وضعه التطبيــقى الـذى عرفنــاه تاريخياً قبل 23 يولـيه 1952، إنـما كان عن الحـقبـة ما بيـن 1923 و 1952، وأن هذا التطبيق لم يتخذ صورة مثالية مستقرة مطلقة، إنما كان متقطعاً ومضطرباً ومحدوداً، وإن هذا ما أضعف من أثر هذه التجربة التاريخية، وصرف حركات شباب الثلاثينات وما بعدها عن أن تبوئ الديمقراطية الأولية فى أهدافها ومساعيها.ولكن هذه النتيجة لا تمنع من القول بأن هذا القليل الذى جربه المصريون فى العقود الثلاثة لنظام دستور 1923؛ افتقدوه ولم يبق لهم فى الفترة التالية، وإن هذا الفقدان هو ما جعل تجربة تلك العقود السابقة ذات بريق ووهج.أما أن ثورة 23 يوليو قام بها ضباط من الجيش، فلا غرابة فى هذا الأمر، إذا وضع فى الاعتبار أن الانعطافات الأربع الكبرى، التى عرفتها مصر من بداية القرن التاسع عشر، منها ثلاثة انعطافات قام بها ضباط من الجيش أو شاركوا فيها مشاركة فعالة وتتعلق بقيادة هذه الحركات؛ وهى حركة محمد على فى 1805، وحركة عرابى فى 1881، وحركة 23 يوليه.
وإن لم يختلف عن ذلك إلا ثورة 1919، بمراعاة أن الجيش المصرى بعد إعادة فتح السودان فى 1899 ظل مغيَّباً فى السودان بقيادة إنجليزية له حتى 1924، فليس فى الأمر شذوذ، إنما الأمر يتعلق بما فرضه قيام الضباط بالحركة السياسية من انعكاسات لعادات عملهم، ونوع ثقافتهم وطبيعة علاقاتهم المؤسسية على أوضاع الدولة والمجتمع.رابعاً: تنظيم الضباط الأحرار وقيام ثورة يوليه 1952: تنظيم الضباط الأحرار قام بحركته فى ليلة22 - 23 يوليه 1952، وفى الصباح كان قد سيطر على الحكومة، وهو تنظيم وحيد عسكرى يتكون من بضع عشرات من الأعضاء، وهم ومن جذبوهم إليهم من قرنائهم؛ حركوا ما يتبعهم من وحدات عسكرية للاستيلاء على عدد من المواقع والمراكز التى تكفل الهيمنة على الجيش، مع ضمان إعلام المواطنين بالحركة ومراقبة تحركات الملك ومراكز حكمه؛ لشل الفاعلية إذا بدت احتمالات تحرك مضاد، كانت خطة ذكية ومختصرة وشديدة الفاعلية، ثم تقدموا بطلباتهم السياسية.المهم أنه فى بداية الثورة، انتهى تنظيم الضباط الأحرار الذى قام بالحركة الانقلابية، التى مكنته من السيطرة على الدولة، وظهر ما سمى باسم " مجلس قيادة الثورة " من قيادة التنظيم الذى ضمر، وهو اسم يتناسب مع موجبات الهيمنة على الجيش كله وجهاز الدولة كله. واندمجت هـذه القيادة التنظيمية الجديدة فى الجهاز الإدارى للدولة عبر عدد محدود جداً من الشهور، وتحولت القيادة إلى رئاسة، وذلك بعد أن أجرى عدد من الإصلاحات والترميمات على أجهزة الدولة ذات الحساسية من الناحية السياسية.اندمجت السياسة فى جهاز الإدارة، واندمجت القيادة السياسية فى الرئاسة الإدارية، واندمجت وظائف الدولة التنفيذية والتشريعية، وحصر نطاق الرقابة القضائية بما يمكن من طلاقة اتخاذ القرارات ذات الأهمية السياسية، أو ذات الأهمية التنظيمية والإدارية فى تشكيل الوضع المؤسسى الجديد.
وعرف نظام اللاحزب؛ أى النظام الذى لا يعتمد فى اتخاذ قراراته السياسية على جماعة محددة يتشكل منها تنظيم سياسى يملك اتخاذ القرارات الخاصة بالتوجهات العامة، معتمداً على صلته المباشرة بقوى الرأى العام، والنخب والجماعات التى يتشكل منها الرأى العام الفعال.لا وجه للاستطراد والتفصيل فى ذلك، ولكن بياناً لرؤوس المسائل، يمكن الإشارة إلى أنه صدرت فى مصر فى هذه الفترة، البيان الدستورى فى 1953 ثم دستور 1956 الذى جرى الاستفتاء عليه، ثم دستور الوحدة مع سوريا، أصدره رئيس الجمهورية فى 1958. ثم بيان دستورى أصدره الرئيس فى 1962 بعد انفصال سوريا، ثم ما أُسمى بالدستور المؤقت الذى صدر بقرار من الرئيس فى 1964، ثم صدر بيان دستورى من رئيس الجمهورية أيضاً فى 1969. وخلال الفترة ذاتها جرت تغييرات وتعديلات وزارية فى السنوات: 1956، 1958، 1960، 1961، 1964، 1965، 1966، 1967، 1968. كما جرت ثلاثة تشكيلات لمجلس الشعب؛ الأول بالانتخاب فى 1957 فى ظل دستور 1956، والثانى بالتعيين من المجلسين السابقين لمصر وسوريا فى ظل دستور الوحدة 1958، والثالث بالانتخاب فى إطار الدستور المؤقت لسنة 1964. وثمة تسع سنوات من المدة الكلية منذ 1952 إلى 1970 لم يوجد بها مجلس نيابى.وإن استقراء الوثائق الدستورية التى صدرت فى هذه الفترة، ومتابعة التشكيلات الخاصة بمؤسسات الحكم، هذان " الاستقرار والمتابعة " يكشفان عن أن الجماعة المصرية فى خلال هذه الفترة لم تعرف توزيعاً بين السلطات بالشكل الذى تتصوره النظم الديمقراطية التقليدية، وعرفت اندماج السلطة التشريعية فى السلطة التنفيذية.
وأن غالب القوانين التى صدرت فى ذلك الوقت كانت تصدر فى صورة " قرارات بقوانين " تصدر من رئيس الجمهورية.والحاصل - كما سبقت الإشارة - أنه خلال ثمانى عشرة سنة لم يوجد مجلس نيابى أصلاً لمدة تسع سنين، والمجالس التى وجدت ثلاثة فى 1956، 1958، 1964. وأوسطها كان بالتعيين من رئيس الجمهورية من بين أعضاء المجلسين السابقين فى مصر وسوريا (خلال دستور الوحدة)، وفى المجلسين الآخـرين كان للتنظيم الشعبى سلطـة الاعتـراض على المرشحين، ولم يذكر أن مجلساً منها مارس حق الرقابة على الوزراء فى عملهم التنفيذى، وأن الشواهد على هذا الدمج، واستيعاب السلطة التنفيذية للوظيفة التشريعية وهيمنتها على المجلس النيابى وقتما يوجد، إن شواهد ذلك متوافرة فيما حرر من أعمال ودراسات تعلقت بهذا الأمر، بما لا يحتاج إلى مزيد إثبات.ومن جهة أخرى فإن ذات عملية الاستقراء للعلاقات والتشابكات والخرائط التى ترسم الهيكل التنظيمى للدولة وأجهزتها، تكشف عن مركزية قابضة فى بناء هذه الأجهزة والهيئات، وتتصاعد السلطات المركزية تصاعداً سريعاً من أدنى المستويات إلى أعلاها متركزة فى رئيس الجمهورية، الذى صار هو مصدر الدفع الرئيسى فى النشاط العام بأوجهه المتعددة، ومن الطبيعى أن يُبنى جهاز الإدارة بطريقة هرمية، فالأعلى يعين الأدنى، والأدنى يعمل فى إطار التوجيهات التى ترد له من الأعلى... وهكذا. ولكن وجه الملاحظة أن جهاز الإدارة والتنفيذ هذا قد أُدمجت فيه سائر وظائف الدولة الأخرى من سياسية وتشريعية ورقابية وغيرها.وكان الرئيس المختار بالاستفتاء الشعبى، تتركز فيه سلطات التقرير والتنفيذ والاستفتاء، يسوغ له ممارسة هذه السلطات بالوصف التمثيلى الشعبى المستمد من الاستفتاء العام، وباستثناء دستور 1956 الذى عاجلته الوحدة المصرية السورية فى 1958 فلم يبق إلا عامين، باستثناء هذا الدستور، فإن جميع الدساتير التالية والإعلانات الدستورية كانت تصدر بقرارات من رئيس الجمهورية، وإن متابعة حجم سلطات رئيس الجمهورية واختصاصاته فى التقرير والتنفيذ تكشف عن هذا التركيز الشديد للسلطات.
ومن جهة ثالثة، فنحن لا نرى فيما أنشأ نظام الثورة من تنظيمات سياسية، لا نرى إنها كانت أحزابـاً ولا تنظيمات سياسية. إن التنظيم السياسى الوحيد - فى ظنى - الذى كان تنظيماً سياسياً فعلاً وأنشأه رجال الثورة، كان هو تنظيم " الضباط الأحرار "، وهو الذى به أمكن السيطرة على جهاز الدولة وقيام الثورة، وتحقق به الانتقال إلى قيادة أجهزة الدولة وإدارتها، وأدى التنظيم وظيفته وفقد وجوده بإتمامها، ثم نشأ مجلس قيادة الثورة، وهو تكوين مـن تكوينات الدولة رسمت لـه وظائـف أشار إليهـا الإعـلان الـدستورى لسنة 1953 بوصفه من المؤسسات التى تمارس سلطة الدولة، وأنشئت هيئة التحرير بحسبانها تجمعاً للشعب المصرى بديلاً عن الأحزاب الملغاة. ثم ذوت هيئة التحرير وألغى مجلس قيادة الثورة مع دستور 1956، وبموجب هذا الدستور أنشئ تنظيم " الاتحاد القومى " الذى يشكله المواطنون وله وحده حق الترشيح لعضوية المجلس النيابى، وكان رئيس الجمهورية هو رئيسه وواضع نظمه، وقد شُكل فى مايو 1957 وأُعيد تشكيله بالانتخاب فى 1959 بعد الوحدة التى جرت بين مصر وسوريا، وبدء بالتفكير فى العدول عن صيغته فى 1961، وأُعلن عن الاتحاد الاشتراكى فى 1962، أشير إليه فى دستور 1964 المؤقت، وشُكل بالانتخاب أولاً ثم أعيد تشكيله بالتعيين فى 1965، ثم أُعيد تشكيله بالانتخاب فى 1968. إن وظيفة التنظيم السياسى أنه هو الجهاز الذى يرسم التوجهات السياسية العامة، ويحدد المطالب العامة التى يرى صالح الجماعة فى تقريرها فى مرحلة تاريخية معينة، ويشكل تحققها الاستجابة الحميدة لتحديات الواقع المعيش فى هذه المرحلة. وكل ذلك وفقاً للرؤية الثقافية والسياسية والاجتماعية التى تتبناها الجماعة التى يعبر عنها جهاز التنظيم، سواء كانت الجماعة الوطنية العامة، أو واحدة من الجماعات والمصالح الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو الثقافية الموجودة فى المجتمع، والتنظيم يحتك بهذه الجماعة التى يعبر عنها ويدرك مطالبها وردود أفعالها، ويعكس أزماتها ويترجم طموحاتها، كما أنه يتخذ وسائل الدعوة لهذه المطالب المتبناة لتصير بالتأييد الشعبى قوة قادرة على فرض النفوذ. هذه الوظائف فى الفترة من 1952 إلى 1970 كانت أجهزة إدارة الدولة هى من تقوم بها، كان جهاز الدولة متين البنيان فائق القدرة مدربا على حكومة الناس، ولم يمض وقت طويل حتى كان هو من يجمع قياسات الرأى العام لرئاسته الجديدة التى تلاءم معها، وهو من يقوم بتنفيذ سياساتها والدعوة لها، وكانت رئاسة الدولة وما توافر لها من تشكيلات جديدة هى من يصنع القرارات السياسية ويرسم التوجهات العامة. وأعيد بناء أجهزة الأمن السياسى بمـا يناسب هـذه الوظائف السياسية، جمعاً للمعلومات، وتهيئةً لرسم السياسات، وضماناً لفاعلية القرارات وحماية لها.ونحن نلحظ أن أخطر ما اتخذت قيادة الثورة ورئاسة الدولة من قرارات سياسية، وترتب عليها آثار سياسية بالغة الأثر فى تحديد مصائر الشعب والوطن، كان فى وقت غاب فيه التنظيم السياسى تماماً أو كاد أن يكون غائباً؛ وهى على التحديد قرار تأميم قناة السويس فى يوليه 1956، إذ كانت هيئة التحرير قد ذوت ولم ينشأ بعد الاتحاد القومى، وقرارات التأميم الكبرى فى يوليه 1961، إذ كان الاتحاد القومى قد ذوى ولم ينشأ بعد الاتحاد الاشتراكى.وأدى ذلك إلى اندماج الوظيفة السياسية فى الوظيفة الإدارية من حيث الأجهزة المنوط بها ذلك، وآل الأمر إلى قيام أجهزة الأمن بدورها الفعال فى هذا الأداء السياسى التنفيذى المتوحد.
خامساً: وظائف أجهزة الدولة قبل قيام ثورة 23 يوليو 1952:لكى نفهم الظواهر السابقة فى سياقها التاريخى، علينا أن نتفحص وظائـف أجهـزة الـدولـة المصرية قبـل قيام ثورة 23 يوليه 1952، لنعرف ما إذا كانت هذه الملامح التى تكشَّف عنها البناء التنظيمى للثورة قد تولدت عن نظام الثورة ونشأت به إنشاءً، أم كانت هذه الملامح متهيئة للظهور من قبل وذات جذور سابقة. إن نظام ثورة 23 يوليه 1952 لم يخلق هذه الظواهر، فهى قديمة وهى فى مصر تدعمها الجغرافيا السياسية، مصر الواحة الكبيرة المحصورة بين الصحارى والبيادى، ومصر السهل المنبسط الذى يحكمه ويتحكم فيه مصدر رى وحيد، ولما سأل هارون الرشيد فقيه مصر الليث بن سعد عما تصلح به مصر، فقال " جريان النيل وصلاح الحاكم ". وإن جهاز إدارة الدولة فى مصر، إن كان يستمد قوته التقليدية من أوضاع الجغرافيا السياسية فقد أضيف عليه من أسبـاب القوة والدعم منذ القرن التاسع عشر ما زاده هيمنةً وجبروتاً؛ فإن ظهور الجماعات القومية المتحدة فى أوروبا الحديثة ونشوء الدول القومية هناك، كان قد دعم أبنية الدولة المركزية فى أوروبا، وطفر بأساليب الحكم المركزى وطورها هناك، وانتقلت هـذه الخبرة إلى مصـر فى بدايات القـرن التاسع عشر على أيدى محمد على، لتخدم مشروع نهـوض وبنـاء مجتمع ودولـة ذات جيش مسلح تسليحاً حديثاً وذات مشروع سياسى طموح، فثمة مشروع سياسى يقتضى تمركز السلطة وتقويتها، وثمة خبرة مجتمعـات وتجارب تطبيق سبقت فى دول صـارت ذات احتكاك بمصر والدولة العثمانية، ويمكن الاستفادة مـن هـذه التجارب.
وكذلك فإن التطور العلمى والتقنى كان يغذى مركزية السلطة ويمنحها إمكانات الشمول والإحاطة، ومن أهم ذلك التقدم الذى حدث فى وسائل النقل وفى الاتصالات، وهما يمكنان من سرعة تبادل المعلومات، مما يزيد السلطة المركـزيـة قـدرة علـى جمـع المعـارف والتـدخـل فـى التفصيـلات، وإصـدار القرارات والربط المباشر للأطراف بالمركز، وكذلك سرعة النقل سواء كان ذلك تبادل ماديات، أو كان تحريكاً لقوات وفرق عسكرية. والجانب الآخر فى الخبرات الحديثة، كان جانباً تنظيمياً وإدارياً يتعلق بأساليب تقسيم العمل، إن ما حدث فى الصناعات من تقسيم للعمل حدث مثله فى الإدارة الحكومية وفى بناء الجيوش، وتنظيم القوات المسلحة لم يعد إضافة عددية بسيطة للمشاة والفرسان ولحملة السيوف والحراب والرماح، ولكنه صار تركيباً عضوياً متكاملاً ومتآزراً لتخصصات متباينة من هؤلاء المشار إليهم مع سلاح المدفعية وغيره، وإن حروب الفترة النابليونية فى أوروبا أسفرت عن تقدم جوهرى فى الأساليب الحديثة لبناء الجيوش.وحدث ذلك بطريقة مشابهة بالنسبة لنظم الإدارة الحديثة وتوزيع العمل الواحـد، عبر مراحل متميـزة فى تشكله طبقـاً لتخصصات إدارية ونوعية متباينة، وقد دفع هذا الأسلوب قدرات الإدارة الحديثة دفعات قوية زادت من إمكانات تركز السلطة ذاتها، واتصالها المباشر بتفاصيل العمل فى مجالاته النوعية ومجالاته المحلية الإقليمية المتعددة.والحاصل أن إدارة محمد على قد توزعت على سبعة دواوين انقسم العمل بينها تقسيماً نوعياً؛ فثمة ديوان " الوالى "، وديوان الإيرادات، وديوان الجهادية (القوات البرية)، و ديوان القــوات البحـريـة، وديـوان المدارس، وديـوان الأمـور الإفرنكية، وديوان " الفاوريقـات " (المصانع)، وديوان المدارس لازم للمدارس الحديثة التى أُنشئت لإعداد الجيش، وكذلك ديوان المصانع المنتجة فى الأساس للوازم القوات المسلحة. ثم فى 1878 تكون أول مجلس للنظار فى مصر فى نهايات عهد الخديوى إسماعيل، وتشكل من الخارجية، والداخلية، والمالية، والجهادية، والحقانية، والأشغال، والمعارف. هى ذاتها تقريباً التقسيمات النوعية للدواوين السابقة. هذا التشكيل شمل ما يسمى حالياً وزارات السيادة التى كانت وظيفة الدولة تقتصر عليها قديماً، من حيث حفظ الأمن الخارجى والداخلى، وضبط العلاقات بين الجماعات والأفراد، وإعداد المرافق العامة ذات الأهمية الحيوية بالنسبة للجماعة السياسية وأدائها الاجتماعى، ذلك أن الدولة هى المشخِّص للجماعة السياسية العامة الحافظة لبقائها والضابطة لتصرفاتها.
أما ما يتعلق بالخدمات الإقليمية، أو النوعية لوجوه النشاط المختلفة للجماعات الفرعية التى تتكون منها الجماعة، وسواء كانت جماعات تقوم على أساس المهن والحرف، أو الأقاليم الجغرافية، أو المذاهب والملل؛ فإن ذلك كان متروكاً شأنه لكل جماعة منظمة فى إطار الضوابط العامة للعدل والسكينة والانتظام.ولكن لم تقتصر وظائف الدولة المركزية على المجالات السيادية، إنما ضمت إليها - مع تعاقب الزمن ومع نمو قوتها ومع ازدياد إمكانياتها العلمية والفنية - العديد من الخدمات وأوجه النشاط الشعبى الذى كانت تستقل بتنظيمه تقريباً جهات الإدارة الذاتية لكل من هذه الوجوه. لقد تمددت الدولة المركزية، وبخاصة فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وزاد تمددها من بعد، وذلك من وجهين: ـالوجه الأول: هو شمول نشاطها أنواع الخدمات المستخدمة، وأنواع الخدمات التى كانت فى الأساس تقوم بها الهيئات الأهلية، مثل جهات التعليم كالكتاتيب وهيئاته الكبرى كالأزهر، مما كان ذا إدارة ذاتية فى الأساس ويمول من ريع الأوقاف، وكان إشراف دولة محمد علِى علَى التعليم إنما يتعلق بما يخص ما له صلة بالجيش ومؤسسات الإدارة الجديدة للدولة، و ليس التعليم العام، وكذلك إدارة المرافق القليلة التى كانت لازمة للأهالى بالنسبة للسقاية ودور الـرعايـة الصحية، وكل ذلك انتقل بالتدريج - القديم منه والحديث - إلى إدارة الدولة وإشرافها.الوجه الثانى: يتعلق بالهيئات المشخصة للجماعات الفرعية فى المجتمع، كانت هذه الهيئات فى بدايات القرن التاسع عشر تتمثل أساساً فى نقابات الطوائف والطرق الصوفية والهيئات المالية والأوقاف، وبدأت سلطة الدولة المركزية تنمو على حساب هذه الهيئات، وتقودها الدولة بما تقدمه من خدمات، وما تصدره من قرارات، وما تمارسه من وجوه إشراف، كل ذلك يخصم من وظائف هذه الجهات، ويقلل من مجال نشاطها، ويضعف من الأهمية الاجتماعية لبقائها. ثم تحول الأمر على مدى النصف الأول من القرن العشرين إلى نوع هيمنة من الدولة، وإشراف على هذه الهيئات، وفرض وجوه وصاية على نشاطها وعلى تشكيلاتها. ولم يقتصر الأمر على الهيئات الأهلية التقليدية مثل الطرق الصوفية والأوقاف وهيئات الملل، ولكن امتد طبعاً إلى الهيئات الأهلية المنشأة حديثاً، مثـل الجمعيات والتعاونيـات والنقابات العمالية والنقابات المهنية، وهذه الهيئات كانت كلها تشكيلات حديثة ظهرت فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القـرن العشرين فى إطار نوع من الإباحة القانونية والتشريعية الفسيحة، ثم بدأت القيود التشريعية تظهر متدرجة ونامية على مدى النصف الأول من القرن العشرين.أنا لا أجد مجالاً الآن للإيضاح التفصيلى لهذا الأمر، وأتصور أنه جلى لكل ذى بصر بالنتاج التاريخى المعاصر، ولا أحب أن أضرب الأمثال فيبدو الدليل انتقائياً وسابق التجهيز فى دلالته، وأتصور أن تجريد الفكرة يجعلها أصقل فى تحديد مرماها، ما دمنا فى مجال العرض المُركز العام. وإن كل ما أردت أن أبيّنه، أن الدولة المركزية الحديثة بسلطاتها الشاملة وبقدراتها المستوعبة وبميلها الاحتكارى لتنظيم الجماعة وبتفردها المؤسسى، لم يكن ذلك نبتاً ناصرياً ولا كان من مواليد ثـورة 23 يوليه، إنما بدأ ونما من قبل ذلك بأكثر من قرن، وكانت ثورة 23 يوليه فى ذلك تابعة ومسبوقة، وإن كانت هذه الثورة نمت بهذه الخصائص وجرت بها خطوات بعيدة غير مسبوقة.
وكان المؤشر فى الرسم البيانى الذى يبين سيطرة الدولة المركزية وإشرافها وسعيها للتفرد على حساب الجماعات الأهلية، كان المؤشر أثناء ثورة 23 يوليه أحدّ صعوداً وأسرع صعوداً، ولكنه كان يشكل استمراراً، ولم يكن يشكل انكساراً للخط البيانى ولا تغييراً لتوجهه السابق.سادساً: السلطة السياسية وتطورها 1508 - 1952: مع إعادة بناء أجهزة إدارة الدولة على نهج حديث، ومع نموها وتوسعها وانتشار نفوذها المركزى، بقيت السلطة فردية على رأس الدولة وعلى رأس كل مـن أجهزتها، وبقيت الشرعية مستمدة من هذه السلطة الفردية، وبقيت قوة الدفع صادرة عنها. وقد عرف نظام محمد على عدداً من المجالس التى تتداول النظر فيما يعرض من أمور، ولكنها كانت مجالس معينة منه وكانت ذات وظيفة استشارية. وأنشأ الخديوى إسماعيل فى 1866 مجلس شورى النواب وكان منتخباً، ولكنه كان مجلساً استشارياً لا يشارك فى اتخاذ القرار ولا يراقب سلطة التنفيذ، ودستور العرابيين صـدر فى 1881 وأنشـأ مجلساً تشريعياً حقيقياً عصف به الاحتلال الإنجليزى فى 1882، وبعدها نشأ مجلسان استشاريان؛ مجلس شورى القوانين، والجمعية العمومية، الأول بالانتخـاب والثانى بـالانتخـاب والتعيين، ولكـن لـم يكـن لأى مـن ذلـك سلطـة تشريـع ولا رقابة.لذلك كان نمو جهاز الإدارة الحديث وتوسعه سابقاً على نمو الجهاز التشريعى وتطوره، الأول بدأ قبل ثلاثينات القرن التاسع عشر، والثانى بدأ فى عشرينات القرن العشرين، وعندما قامت ثورة 23 يوليه 1952، كان جهاز الإدارة المركزى الحديث قد بلغ من عمره نحو مائة وعشرين سنة متصل الوجود والنمو، وكان المجلس التشريعى الرقابى ذو الوجود المستقل قد بلغ من عمره بضع سنوات متقطعة على مدى الثلاثين سنة الأخيرة.لقد عرفت الثلاثين سنة التى عاشها دستور 1923 بمجلسيه التشريعيين - النواب والشيوخ - عشرة انتخابات أنشأت عشرة مجالس نواب، كلها كان يحل قبل انتهاء مدته ما عدا المجلس قبل الأخير (1945 – 1949) الذى لم تمثل فيه المعارضة الحزبية إلا ببضع أفراد، ولم يدخله حزب الوفد ذو الأغلبية التقليدية فى الانتخابات الحرة وقتها، ولم يستطع مجلس واحد أن يستخدم سلطته الدستورية فى إسقاط حكومة واحدة، وصار تزييف الانتخابات وتزويرها فناً تتوارث أساليبه، وصار مناهج وطرقا وبدائل يختار منها الأنسب لكل حالة مخصوصة، ولكل ظرف تاريخى محدد، منها تعديل الدوائر الانتخابية بما يفتت أنصار مرشح معين ويركز أنصار الآخر، ومنها رشوة الناخبين، ومنها الضغط السياسى وضغوط الشرطة، ومنها سرقة الصناديق أصلاً وتغييرها، وصار لكل من ذلك خبرات تتناقل.ومن جهة ثانية، فإن تفرد الحاكم بالسلطة لا يعنى انطلاق سلطته من القيود كلها وتفلتها من الضغوط، لأن تفرد الحاكم يعنى أن القرار يصدر منه وحده، ولكنه يمكن أن يكون رشيداً يدخل فى حسابه ما يمتد إليه بصره وبصيرته من تقديرات لاعتبارات المواءمة ووزن الأمور وتقدير مواقف القوى المختلفة، وليس التفرد مما يعنى استفتاء المزاج والهوى، وإنما يعنى أن تقدير الموازين التى يصدر القرار على هديها إنما يملكه صاحب القرار الفردى وحده فى نهاية الأمر، وقراره يصدر عن مشيئته وحده.وبهذا الوصف يمكن القول بأن الوالى الذى كان يحكم مصر حتى نهاية القرن الثامن عشر، كان صاحب سلطة متفردة، ولكن تفرده هذا يكون محكومـاً بـأن تـدور إرادتـه فى إطـار الصالح العثمـانى العام الـذى يقـدره الباب العالى فى اسطامبول، وأن يكون مقيداً بما يتناسب ولا يتعارض تعارضاً جوهرياً مع إرادة كبار بكوات المماليك فى مصر، بحسبان أن حكم مصر - فى الإطار العثمانى - كان يدور على وفق إرادة مشتركة للوالى المعين من الدولة العثمانية وللقوة السياسية المحلية فى مصر الممثلة فى بكـوات المماليك، فهـو نوع من الحكم " الثنائى " إن صح هذا التعبير.فلمـا تـولـى محمـد علـى الحكـم فـى 1805، أمكـن لـه فـى 1811 أن يتخلص من المماليك بوصفهم قوة مشاركة ومنافسة لتفرده بالسلطة، ثم تمكن من التخلص من قوة النخب المصرية الأهلية المتمثلة فى العلماء والشيوخ، وكذلك قوة الجند الألبان والانكشارية بوصف هؤلاء، كل فيما يخصه، يشكل قوة مشاركة فى السلطة.
ثم تفردت حكومة محمد على مع إنشائه الجيش المصرى منذ سنة 1820.ومن ذلك التاريخ التقريبى صارت سلطة والى مصر وخديويها فى الإطار العثمانى العام سلطة فردية، تقبل وجود ضغوط عليها وتقبل تقدير الإمكانات المتاحة وحسابها، ولكنها تظل فى إطار السلطة الفردية التى تصدر عن حاكم يملك إصدار القرار ويملك فى النهاية حسم ملاءماته وترجيح توازناته، بغير مشاركة منظمة له.فلما احتل الإنجليز مصر، وجدت قوتان سياسيتان، مما أطلق عليه أحمد لطفى السيد السلطة الشرعية التى يمثلها الخديوى، والسلطة الفعلية التى يمثلها المعتمد البريطانى مستنداً لجيش الاحتلال، وكلا السلطتين لا يستطيع الواحد منهما أن يزيح الآخر فى الظروف السياسية والتاريخية التى كانت قائمة فى الداخل والخارج. ودارت القرارات السياسية فى هذا الإطار من الازدواج والتزاحم، والتقارب والتباعد.ومع ثورة 1919 - وباختصار شديد - وجدت فى مجال سلطة الحكم قوة ثالثة مشاركة للقوتين السابقتين، وهى قوة الحركة الوطنية التى صارت ممثلة للجماعة المصرية فى سعيها إلى الاستقلال، والثورة لم تستطع أن تقضى على أى من القوتين السابقتين، فبقى الملك على رأس الدولة صاحب قرار يتعلق بالشرعية، وبقى الإنجليز قوة - بالفعل - بقواتهم المسلحة، وصيغ التنظيم الدستورى بما يمكن من الإفساح للصراع وللتحرك السياسى من خلال هذا الصراع بين القوى الثلاثة، وقامت الضغوط المتبادلة والتحالفات المتنقلة بين الملك والوفد على الإنجليز، أو بين الملك والإنجليز على الوفد، أو بين الوفد وحلفاء الإنجليز على الملك … وهكذا، فكانت كلما تقاربت قوتان استبعدت القوة الثالثة … وهكذا. ثم قامت ثورة 23 يوليه 1952، وما لبث الوضع أن أوجد صورة مختلفة تماماً عن المرحلتين السابقتين، وصارت على الوجه الآتى: ـــ لقد ألغيت الملكية، وصارت قوة ثورة 23 يوليه 1952 هى من يمارس السلطة السابقة للملك وللسراى، وتمثل ذلك فى مجلس قيادة الثورة حتى صدور دستور 1956، ثم تمثل فى رئاسة الجمهورية بعد ذلك. ــ وجلت القوات الإنجليزية من مصر بموجب اتفاقية أكتوبر 1954، وتم الجلاء كاملاً وفعلاً فى يونيه 1956، ثم حدث العدوان الثلاثى فى أكتوبر 1956 بعد تأميم قناة السويس، ثم جلت قوات العدوان فى ديسمبر 1956، ولم تعد هناك سلطة فعلية بالمعنى الذى أطلقه أحمد لطفى السيد فى بداية القرن العشرين على الاحتلال العسكرى الأجنبى.ــ وألغيت الأحزاب السياسية ومنها وعلى رأسها حزب الوفد، الذى كان يشخص الحركة الوطنية للجماعة المصرية فى سعيها لإجلاء المحتل الأجنبى ولحكم نفسها بنفسها.
سابعاً: ثورة يوليو والقوى السياسية: ورثت ثورة 23 يوليه هذه القوى الثلاث التى كانت تتنازع السلطة وتمارسها بالصراع أو بالتوافق، وتتشكل الأوضاع السياسية وفقاً لحصيلة هذه النتائج والصراع والتوافق. ولكن السؤال هو كيف ورثتها كلها؟ وكيف استطاعت أن ترث القوة ونقيضها معاً؟ فإن هذا أمر لا يتعلق بالإرادة والاختيار، ولكنه يتعلق بالاستطاعة والقدرة. إن الحالات التى أشرت إليها فى سوابق التاريخ المصرى الحديث، قبل محمد على وبعد الاحتلال الإنجليزى وفى ظل نظام ثورة 1919، هذه الحالات قامت فيها المشاركة فى السلطة أو المزاحمة عليها، قامت لا بموجب رغبة، ولا باختيار جرى فى تقرير هذا النظام؛ ولكنها قامت بموجب وجود أكثر مـن قـوة سياسيـة، كل منها قـادر علـى ممارسة السلطـة وغير قادر على إزاحة الآخر، فجرت المشاركة إما بطريق المزاحمة؛ أى بممارسة الضغوط المتبادلة مع كل حادث يحدث لفرض الأرجحيـة مـن قـوة على قـوة أخرى، أو بطريق التداول بتبادل الأرجحيـة عـن طريق تغيير الوزارات، وتعديلها حسب النـوازل التـى تطـرأ، ومـا يمهـد لذلك مـن انتخابات يتقرر أن تكـون نزيهة أو مزيفة. ولما قامت ثورة 23 يوليو أسقطت الملك وحل مجلس قيادة الثورة محل المؤسسة الملكية، ثم حققت ذروة ما سعت إليه الحركة الوطنية المصرية منذ 1882؛ وهو إجلاء الاحتلال العسكرى البريطانى عن مصر، ويسر لها ذلك الأمر أن لم يعد هناك " ملك " يقصى الحركة الوطنية من الحكم ويستبدل بها حكومة من الحكومات غير المعادية للإنجليز، وإن ثورة 23 يوليه بهذين الإجرائين ورثت وظيفة الوفد فى قيادة الحركة الوطنية، وكان الوفد قد قام لتحقيق رسالة تاريخية؛ هى إجلاء الإنجليز وتحقيق استقلال مصر، وكانت رسالته الثانيـة المتعلقـة بالديمقراطية تتضمن فى جوهرها إزاحة السلطة الملكية؛ أى محاصرتها فى أضيق نطاق ممكن.إننا نعرف فى نظم الغرب أن القوى السياسية التى تتشارك أو تتزاحم على السلطة إنما تتحدد وتتشكل باعتبار أن كلاً منها يمثل " قسماً " من الأمة من حيث المصالح الاجتماعية أو الاقتصادية، وليس منها فيما أظن واحدة تعبر وحدها عن المصلحة الوطنية فى عمومها؛ لأن الصالح الـوطنى العام آمن ومستقر بما صارت إليه هـذه المجتمعـات مـن قـوة ومنعة، وقدرة لا على تأمين مصالحها بعيدة المدى فقط؛ ولكن قدرة على فرض هذه المصالح بعيدة المدى على الآخـرين، فصارت الانتماءات الداخلية للجماعات الفرعية التى يتكون منها المجتمع هى ما يجمع الناس فى السعى لتحقيق المكاسب الأكبر، والوجود الأقوى فى مواجهة القوى الاجتماعية الأخرى. وتبلـورت هـذه القـوى تاريخيـاً فى إطـار تكوينـات سياسيـة محددة بما لا يستطيع أى منها أن ينفى الآخر، أقصد بذلك طبعاً دول أوروبا الغربية وشمال أمريكا، وهى الدول والمجتمعات التى صيغت النظم الديمقراطية والدستورية فى ضوء تجاربها، وصارت هذه الدول والمجتمعات هى نموذج الممارسة الصحيحـة لهـذه النظـم، وهـى صحيحـة لأن النظـم ذاتهـا قُـدَّت على قدِّها، وصيغت وفقاً لتجاربها.
أما نحن فى مصر، وفى بلاد العرب والمسلمين، وفى كل بلاد آسيا وأفريقيا، نحن من الأمم غيـر الآمنة، لا على مجتمعاتها، ولا على شعوبها، لا على أرضها، ولا على ثرواتها، ولا على ثقافتها. هذه المجتمعات والشعوب والأمم غير الآمنة التى عرفت أزمات حادة تتعلق بالأمن القومى لها على مدى القرنين الأخيرين، هذه الجماعات إنما تتحرك حركتها السياسية الأساسية فى إطار التجمع على مستوى الجماعة السياسية الوطنية لتقاوم مخاطر الخارج ولمحاولة فرض عصمتها ومناعتها على قوى الخارج، المهددة لها.إن الدولة تقوم بحسبانها المؤسسة السياسية المشخصة للجماعة الوطنية العامة، لأن أهم ما يجب عليها أن تكلفه هو حراسة أمن هذه الجماعة فى مواجهة أخطار الخارج عليها، أو فى مواجهة اختلال صيغ التوازن بين الجماعات الفرعية المكونة لهذه الجماعة الوطنية العامة، اختلالاً يهدد قوى التماسك الجماعى أو ينذرها بالتفتت. والحاصل أن الجماعات الوطنية فى بلادنا العربية والإسلامية؛ استشعرت أقصى درجات الخطر على أمنها، من نهايات القرن الثامن عشر؛ بالتوغل الروسى تجاه الجنوب فى بلاد الفرس والعثمانيين، وبالتوغل البريطانى من الهند تجاه الشمال فى هذه البلاد ذاتها، وبالتهديد والاقتحام الذى جاء من فرنسا لمصر (1798) ثم للجزائر (1830). وكانت المقاومة ترد من الحكومات المعبرة عن الجماعة الوطنية، وهذا ما يفسر إصلاحات محمد على ومحمود الثانى وغيرهما فى النصف الأول للقرن التاسع عشر.فلما سقطت مقاومة الدول والحكومات على مدى القرن التاسع عشر، بدأت تظهر حركات المقاومة الشعبية بتنظيمات شعبيـة وأهليـة تستهـدف تجميع الأمة للقيـام بذات الوظائف التى فشلت الحكومات فى أدائها، ومـن هذه التنظيمات مثلاً الحزب الوطنى القديم الذى ظهر فى مصر أيام العرابيين، وحـركة عبد القادر الجزائرى فى الجزائر، وحركة محمد أحمد فى السودان، وحركة السنوسى فى ليبيـا والصحـراء الأفـريقيـة الكبرى لبلاد المغرب العربى... وهكذا. كما نرى ذلك فى حزب المؤتمر الهندى وعصبة الإسلاميين هناك. هنا نحن لا نكون أمام حزب أو أحزاب بالمعنى الذى أطلقته نظم أوروبا الغربية علـى التجمعـات السياسيـة بهـا، لأن تجمعـاتهم السياسيـة فـى بـلادهم الآمنـة كانت تجمعـات للجماعـات الفرعيـة فى المجتمع، سواء الرأسماليين أو العمـال أو غير ذلـك، أما فى بلادنا فقد كانت تجمعات تشخص الجماعة الوطنيـة العامـة فى سعيهـا للتماسك ولصد مخاطر الخارج، التى صارت متحققة بالنسبة لبعض بلادنا أو وشيكة التحقق بالنسبة للبعض الآخر، هى جماعات بديل عن الدولة الساقطة أو عن الدول التى عجزت عن أن تقوم بأداء وظيفتها الأساسية فى حماية أمن الجماعة.ومن هنا تبدو معقولية فكرة التنظيم السياسى الواحد التى ظهرت فى غالب الأمم الساعية إلى الاستقلال، بعد أن غزتها الجيوش الأجنبية وسيطرت على حكوماتها ودولها، من حزب المؤتمر فى الهند إلى حزب " الكونتانج " فى الصين ثم الحزب الشيوعى الصينى، إلى جبهة التحرير الجزائرية إلى أحزاب التحرير فى أفريقيا جنوب الصحراء، لأن التنظيم الواحد هنا قام بديلاً عن الدولة فى تشخيص الجماعة الوطنية بعامة، وقام بديلاً عنها فى السعى لاسترداد الاستقلال وإجلاء النفوذ الأجنبى.
والحزب الواحد أو التنظيم الواحد هنا لم يكن يعنى منع قيام تنظيمات أخرى، ولا كان أى من هذه الأحزاب أو التنظيمات يقدر على منع قيام منافس له أو أى حزب أو تنظيم آخر، لأنه لم يكن يملك إرادة الدولة القادرة على المنع، إنما كانت واحديـة آتية مـن تعبيره على الجماعـة كلها وسعيه لتحقيق ما اجتمعت عليه من طموح ومقاصد تقتضيها المرحلة التاريخية التى كانت قائمة، ومن مصداقية هذا السعى واطمئنان الغالبية الغالبة فى الجماعة إلى صدق مسعاه، وعزوفهم عن قيام منافس له، وقد وجدت فعلاً تنظيمات أخرى معه ولكنها لم تكن شيئاً. كما توجد تنظيمات وأحزاب فيما عرف باسم نظام الحزبين فى بعض ديمقراطيات الغرب، فالواحدية المقصودة هنا هى واحدية سياسية وليست قانونية، واحدية بالفعل وليس بالشرع، إننى أقصد التنظيم الواحد بمعنى أنه التنظيم " الجامع "، وليس التنظيم " الوحيد ". ثامناً: ثورة يوليو والتنظيمات السياسية السابقة عليها: وفى مصر، فإن أول ما ظهر فى مصر كان ما سمى " الحزب الوطنى " القديم أيام العرابيين. ولفظ " الحـزب " كان يشير بمعنـاه اللغـوى إلى " الجماعـة "، وهـو لا يشير إلى ما يشير إليه اللفظ المقابل فى اللغات الأوروبية من معنى " القسم "، ونحن نقول الحزب الوطنى بذات المعنى المقصود بعبارة " الجماعة الوطنية "، وكما تُستخدم الآن عبارة " الجماعة الإسلامية ". ولم يظهر تنظيم يحمل هذا المعنى إلا مع بدوِّ السيطرة الأجنبية على مصر فى نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن التاسع عشر، ثم مع الاحتلال البريطانى فى بداية القرن العشرين على يدى مصطفى كامل ومحمد فريد.ثم ظهر " الوفد المصرى " مع ثورة 1919، وكان تحدد للفظ الحزب معناه الإصطلاحى المقابل للفظ الأوروبى، بحسبان الحزب يكون قسماً بين أقسام، فلم يطلق الوفد على نفسه قط أنه حزب ولم يعترف قط بأنه كذلك، كان دائم التعبير عن نفسه بعبارة " الوفد المصرى " باعتباره " وفداً " موفوداً مـن الأمـة بموجب وكالته عنها " للسعى فى تحقيق استقلال مصر استقلالاً تاماً " حيثما وجـد إلى السعى سبيلاً، ولازمـه هـذا الإصرار على عدم اعتباره حزباً حتى نهايته، وحتى عندما قامت ثورة 23 يوليه وأصدرت قانوناً للأحزاب وألزمت الأحزاب القائمة بتقديم طلباتها للاعتداد بوجودها وبقائها، عندما حدث ذلك وانصاع له الوفد، تقدم بطلب للاعتداد بوجوده بوصفه حزباً بناءًا على قانون الأحزاب، ومع ذلك صدَّر طلبه بعبارته التقليدية " إن الوفد المصرى " بغير أن يسبقه لفظ الحزب، وكان ذلك فى سنة 1953.ولم يقبل أن يضيف لفظ الحزب إلى اسمه إلا فى تشكيل الوفد فى السبعينـات، وكانت دولـة الخمسينـات والستينـات قـد نـازعتـه صفتـه؛ صفة " الوفد " الممثل للجماعة السياسية فى عمومها والمشخص المؤسسى لها. وهذا ما حدث أيضاً مع جماعة الإخوان المسلمين، فلم تعتبر نفسها حزباً قط فى عهدها الأول، وكان ذلك جلياً فى كلمات المرشد العام المؤسس لها الشيخ حسن البنا، كان ينكر كونها حزباً من الأحزاب أو " طريقة من الطرق "، بما يعنى أن كانت تعتبر نفسها ممثلاً ومشخصاً لجماعة المسلمين.
ومما يتعين ملاحظته من ذلك أن التنظيمات السياسية التى جمعت مثلاً جماهير وحركـات شعبية واسعـة النطـاق وعبـرت عـن جمـوع كثيفـة، كانت تنكـر علـى نفسها وصف " الحزب " بدلالته الاصطلاحية الغربية التى انتقلت إلينا، وسادت فى الفهم السياسى.والحاصل أن ثورة 23 يوليه 1952 استجابت لمطالب الحركة الوطنية السابقة عليها، وأنجـزت منها مـا كان على مشارف الإنجاز، وهو إجلاء الاحتلال العسكرى البريطانى من مصر، واستردت الاستقلال السياسى لمصر، وتحقق كل ذلك كاملاً فى السنوات الأربع الأولى من عهدها، ثم لم تلبث أن طورت أهداف الحركة الوطنية وهى فى موقع السلطة السياسية، فقادت حركة مقاومة الأحلاف العسكرية التى كانت دول الغرب الاستعمارية تسعى لفرضها على شعوب آسيا وأفريقيا، وقد فرضتها فعلاً بما عرف بحلف بغداد وحلف مانيلا، ثم ساهمت مساهمة فعالة فى بناء تجمع دولى من الدول حديثة العهد بالاستقلال لضمان موقف عدم الانحياز فى الصراع الدولى بين دول الكتلة الشيوعية ودول الكتلة الرأسمالية، وأقدمت على النهوض بالاقتصاد لدعم الأساس الاقتصادى للاستقلال السياسى.لذلك تكون ثورة 23 يوليه قـد ورثـت باستحقـاق وجـدارة قيـادة حـركة التحرر الوطنى فى صورتها المطورة المتلائمة مع ظروف النصف الثانـى مـن القرن العشريـن، وتكون قـد استـردت للدولة وظيفتها الأساسية التى تقوم عليها؛ وهـى حفـظ الأمـن القـومى للجماعة السياسيـة، واستـردت للدولة دورها السياسى فى كونها المشخص المؤسسى للجماعة السياسية، كل هذا صواب.والصواب أيضاً، أن سعى الثورة لإنشاء تنظيم سياسى واحد، لم يكن بدعاً ولا شذوذاً فى سياق السوابق المشار إليها، وبحسبان أن كانت الجماعة لا تزال تخوض معارك الاستقلال، سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية، وأن مخاطر الخارج عليها تظل محدقة، وبحسبان أن الدولة صارت متوجهة إلى أداء دورها فى حراسة الأمن القومى ودعمه أفقياً، بما اتخذت من سياسة عربية ودولية، ودعمه رأسياً بما شرعت فى تنفيذه من مشروعات النهوض الاقتصادى المستقل، فهى بقيت تؤدى وظيفتها فى خوض المعارك دفاعاً عن الأمن القومى، مع فارق هام هو أنها طوَّرت هذه الوظيفة، بأن أجرت معارك الدفاع عـن الأمـن القومى خارج الحدود السياسية للدولة، ضد إسرائيل، وضد الأحلاف العسكرية، وضد ظاهرة الاستعمار بعامة. إنمـا المُشكل يبـدو من عدد من الوجوه، أولها أن ثورة 23 يوليو لم تؤيد مفهوم التنظيم الجامع، إنما جعلته التنظيم الوحيد، والتنظيم الجامع يعنى - حسبما أقصد هنا - إنشاء تنظيم سياسى يعبر عن مجمل السياسات والطموحات التى تعبر فى إطارها العام عن الجماعة الوطنية على أن ألا تُترك للأفراد حرية إنشاء ما يرون من تنظيمات تقوم على هوامش هذا التنظيم الجامع للـدعم أو النقـد أو الحـث أو التعبير عـن مطالب الجماعات الفرعية فى المجتمع. وثورة 23 يوليه عندما شُكلت تنظيماتها أقامت تنظيماً وحيداً وليس تنظيماً جامعاً فقط، ومُنع قانوناً إنشاء أى تنظيم سياسى وفرض العقاب الجنائى على مخالفة هذا المنع، فلم تسمح بفتح ذرائع التفاعل الحى بين الجماعة السياسية والجماعات الفرعية المنتمية لها، والحق أن جامعية التنظيم لا يضمنها ولا يكفل تحققها الفعلى إلا إتاحة فرص التحدى له من وجود تنظيمات أخرى، وأن منع التعدد هو ما يقضى على التنظيم " الجامع "؛ لأن السلطة تستوعبه فى هـذه الحالة وتقضى عليـه، وهذا ما أدى إلى المشكل التالى.
والمشكل التالى يبدو أيضاً من أن التنظيم الجامع الذى نادت به الثورة وأنشأتـه لم يكن تنظيماً حقيقياً له استقلاليته وله وجوده المتميز عن سلطة الدولة، وذلك إذا نظرنا للأمر فى الإطار العام لممارسة دامت ثمانية عشر عاماً وتنوعت فيها التنظيمات وتعدلت. وحسبما سبقت الإشارة كان كل من هذه التنظيمات فى وقت وجوده يمثل واجهة لنشاط الدولة، فهو لا يرسم سياسة ولا يصـدر قــراراً، إنمـا يجـرى ذلـك فى رئـاسة الجمهوريـة، وهو لا يحشـد جمهـوراً؛ لأن ذلـك تقوم به - فى الأساس - أجهزة الإدارة المحلية، ولا يشيع فكراً؛ فإن ذلك تقوم به وسائل الإعلام، ولا يجمع معلومات؛ لأن ذلك تقوم به أجهزة الأمن، وإن قام بأى من ذلك فهو جهد المقل يضاف قليله إلى الكثير الذى تقوم به أجهزة الدولة. تاسعاً: الممارسة الدستورية مع بداية السبعينات: إن الفترة المعنية فى هذه الدراسة هى من أول أيامها إلى آخرها تشكل ثمانى عشرة سنة حتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، أو تسع عشرة سنة حتى مايو 1971 عندما انفرد الرئيس أنور السادات بالسلطة، وأعلن عدوله عن نمط التنظيم السياسى للدولة الذى كان معتمداً ومتبعاً فى الفتـرة الناصريـة السابقـة عليـه، ومـن ثـم يكــون مضـى علـى نهـايـة هــذه الفتـرة حتـى الآن ما يشارف ثلاثين سنة، وهذه الفترة الأخيرة هى من الطول بما يسمح بالقول بإمكان أن يتعدل خلالها ويتغير ما سبق إرساؤه فى الثمانى عشرة سنة السابقة عليها، فإن لم يكـن حدث هذا التعديل والتغيير كاملاً بعد مضى المدد الكافية التى تسمح بـذلـك، فـإن ذلـك يترجح بـه الظـن أن نظـام الحكـم خلال فترة ثورة 23 يوليه ليس مسئولاً وحده عن قيام هذا النمط من السلطة السياسية، وإن الأمر لا بد يرجع إلى أوضاع تجاوز " السبب الناصرى "، كما اعتاد البعض أن يقول.ومع بدء السبعينات صدر دستور 1971 فى أول عهد الرئيس السادات، وصيغ على نهج دستور 1964 من حيث رسم هياكل السلطة وعلاقاتها.
ثم خلال السبعينات، وبخطوات مترددة ومتعارضة، ولكنها على مدى عقد السبعينات أفادت نوعاً من التتابع؛ آل النظام السياسى للدولة إلى نوع من التعددية الحزبية، وفُكَّ مبدأ التنظيم الوحيد. ومن جهة ثانية اطَّرد نشاط المجلس النيابى بالانتخاب الدورى، وصار لمجلس الشعب - حلَّت هذه التسمية له محل اسم مجلس الأمة بموجب دستور 1971 - مؤسسة مستمرة ثابتة.ويمكن إجمال الوضع الحاضر من الناحية التنظيمية ومن ناحية الممارسة الدستوريـة فـى عـدد مـن النقاط، أهمها يتعلق بمدى استقلال مؤسسة التشريع عن السلطة التنفيذية، ومدى أثـر الوجود الحزبى فى اتخاذ القرارات. الحاصل أن مجلس الشعـب صار مؤسسة مشاركة فى إصدار القرار، ولم يعـد واجهة سياسية فقط، ووجـوده مطـرد وانتخاباتـه تجرى مع كل انتهاء له، وهـو ينتهى بالحل أو بانتهاء مدته بفوات خمس سنوات. وفى ظل دستور 1971، جرت انتخابـات بمجلس الشعب فى أكتوبر من ذات السنة، واستمر مدتـه كاملة حتى انتهت فى 1976، فأجريت انتخابات جديدة للمجلس التالى، وجرت هذه الانتخابات فى ظل موجه من التفاؤل عن الانفتاح الديمقراطى، وجرت فى ظل وجود ثلاثة منابر تشكل تنظيمات سياسية فى إطار التنظيم الوحيد المنصوص عليه دستورياً وهو الاتحاد الاشتراكى. ولكن فى يناير 1977 حدثت الانتفاضة الشعبية التى هزت قوائم نظام الحكم بشدة، فشدت الدولة يدها المرتخية، ثم حدثت زيارة الرئيس السادات للقدس فى نهايات السنة مما أثار عاصفة من النقد والهجوم الحاد، وانعكس ذلك على مجلس الشعب بما فيه من شبه تنظيمات مستحدثة، وتبلورت فيه المعارضة ببضعة عشر عضواً، منهم من شد النكير بعد ذلك على مشروعات الصلح مع إسرائيل، التى انتهت بالاتفاقية المعروفة فى 1979، فحل الرئيس السادات المجلس وأجرى انتخابات جديدة فى إبريل 1979.
إن انتخابات 1971 بمجلسها الذى استمر مدته كاملة صُفِّى المرشحون لها بما يستبعد كل من رأته سلطات الرئيس السادات معادياً له من أنصار العهد السابق عليه، الذين هزمهم فى مايو 1971. وفى انتخابات 1976 التى رشح لها ممثلون عن التنظيمات الوليدة، كان لتنظيم الحكومـة (تنظيم الوسط، مصر العربى الاشتراكى) نحو 82 %، ولليمين (الأحرار الاشتراكيين) نحــو 3.5 %، ولليسار (التجمـع الـوطنى الوحـدوى) نحو نصف فى المائة، وكان " التجمع " هو تنظيم المعارضة الحقيقى وقتها، أما باقى الأعضاء فكانوا مستقلين. فقد حُل هذا المجلس لمعارضة بضعه عشر عضواً فيه لاتفاقية الصلح مع إسرائيل، ثم جرت انتخابات 1979 بعد أن كان تم الاعتراف بالنظام الحزبى، وتحولت تنظيمات الاتحاد الاشتراكى إلى أحزاب مستقلة من الناحية القانونية، وحصل حزب الحكومة (الوطنى الديمقراطى) على 90 % من المقاعد، وسقط فى الانتخابات كل وجوه المعارضة السياسية التى كانت ظهرت فى المجلس السابق ومنهم الأستاذ محمود القاضى.ثم بعد ذلك جرت انتخابات 1984 بنظـام القوائم الحزبيـة، ووجد تمثيل لحـزب الـوفـد المتحالف مع الإخـوان المسلميـن وقتها ولحزب التجمع، ولحزب الأحرار، ثم حُل المجلس بعد صدور حكم المحكمة الدستورية ببطلان الانتخابات التى تجرى بنظام القوائم الحزبية، وأجريت انتخابات جديدة فى 1987، ووجد تمثيل حزبى فى المجلس الجديد لحزب الوفد، وللإخوان المسلمين، وحزب العمل، وحزب الأحرار، وبلغت نسبة مقاعد المعارضة كلها فى المجلس 22 % وهى أعلى نسبة وصلت إليها المعارضة منذ 1952، وهى من أعلى النسب التى بلغتها المعارضة حتى فى ظل دستور 1923، ثم حُل هذا المجلس فى 1990 بناءً على حكم صدر للمحكمة الدستورية لبطلان مبدأ الانتخاب بالقوائم الحزبية بالصيغة المعدلة التى جرت فى 1987، ثم جرت انتخابات 1990 واستمر المجلس مدته كاملة حتى انتهت فى 1995، ثـم جـرت الانتخابـات الثالثـة واستمـر المجلس مـدتـه كاملة التى انتهت فى عـام 2000. وكان نصيـب المعارضة السياسية فى كـلا المجلسين المتتاليين لا يزيد عن بضع أعضاء من مجموع 440 عضواً منتخباً.فى سنة 1977 عقدت بالجامعة الأمريكية ندوة عن مستقبل الديمقراطية فى مصر، وكنتُ شاركتُ فيها بورقة أعددتها حاولت فيها أن أوضح الصلة بين الديمقراطية وحركة التحرر الوطنى فى مصر، بحسبان أن المصريين نظروا دائماً للديمقراطية فى توظيفها لخدمة الحركة الوطنية. وكان من محاضرى الندوة المهندس سيد مرعى من كبار المسئولين وساسة الحكومة وقتها، ولفت نظرى فى حديثه وفى رده على الأسئلة، قوله إن تعدد الأحـزاب آت لا ريب فيه، وأن المطلوب هو الانتقال من نظام الحزب الواحد على النمط السوفييتى إلى نمط الأحزاب المتعددة على نمط بلدان أوروبا الشرقية الاشتراكية. فى ذلك الوقت كانت مصر ذات تجربة اشتراكية لا تـزال قائمة، وكان التوجه الفكـرى السياسى فى مصطلحه وفى نماذجه يهتدى بالتجارب الاشتراكية، سواء فى الاتحاد السوفييتى، أو فى الصين، أو فى بلدان أوروبا الشرقية. وكان معنى كلمة المهنـدس سيـد مـرعـى أن نقيم فى مصر نظاماً لتعدد الأحزاب، يتشكل من أحزاب صورية هى رسـوم بغيـر محتوى، لأن ذلك كان هو وضع الأحزاب التى وجدت بالإسم فقط مع الأحزاب الشيوعية الحاكمة فى كل من المجر وتشيكوسلوفاكيا وبولندا وغيرها، وظهر لى من توالى السنين أن ذلك القـول لم يكن يصدر عن محاكاة للتجارب الشيوعية وقتها، ولكنه كان يصدر عن حقيقة ما تبغيه الدولة المصرية من " التعدد " فكراً وتطبيقاً، وهو أن يكون تعدداً صورياً. ونحن إذا نظرنا إلى مجالس الشعب السابق الإشارة إليها منذ العمل بدستور 1971 فى عهد الرئيس السادات؛ نلحظ أن المجالس التى استمرت مدتهـا كاملة وهــى خمس سنـوات لكل منهـا، كانت أربعـة مجالس؛ الأول فى 1971 وكان النظام لا يزال غير حزبى، وكان للاتحاد الاشتراكى أن يعترض على الترشيح، وكانت أُقصيت من الترشيح كل الأسماء المعارضة لحكم الرئيس السادات، وكانت المعارضة الظاهرة وقتها قاصرة على الناصريين من الاتجاه السياسى الذى أقصاه السادات. ومجلس 1979 عند إبرام معاهدة السلام مع إسرائيل، وكان حظ حـزب الحكومة منه يصل إلى 90 % من مقاعد المجلس، وكان حزب العمل فى بداية إنشائه، وقد حصل على نحو 33 مقعداً.
ثم انخفض هذا العدد فى 1981 إلى 12 مقعد فقط، ومجلس 1990 ومجلس 1995 الذى أتم كل منهما مدته، وقد تمثلت فى كل منهما المعارضة الحزبية وغير الحزبية فى أدنى درجاتها، وانحصرت فى بضع أعضاء فقط.وإن المجالس الأخرى التى لم يتم أى منها مدته هى مجلس 1976 الذى كانت نسبة مقاعد الحكومة فيه نحو 81 %، وكانت وجوه المعارضة المنظمة أو المستقلة ذات قوة ونفوذ، ومنهم مثلاً ممتاز نصار ومحمود القاضى، وقف هؤلاء يعارضون الحكومة، وبخاصة بالنسبة لاتفاق السلام مع إسرائيل. وتركز انزعاج الحكومة فى نشاط بضعة عشر نائب لم تطق الحكومة وجودهم، وحلت المجلس ووقفت ضد إعادة انتخابهم فى 1979، وقدم ممتاز نصار، ومحمود القاضى طلباً لتكوين حـزب فرفضته لجنة الأحـزاب ثم رفضه القضاء.والمجلسان الآخران وهما مجلس 1984، ومجلس 1987، قضت المحكمة الدستورية ببطلان تشكيل كل منهما استناداً إلى أن إجراء الانتخاب بنظام القائمة الحزبية يقصر الترشيح على الحزبيين، مما يعتبر انتقاصاً لحقوق المواطنين غير المنتمين لأحزاب، ولكن كلاً من هذين المجلسين كان يشمل نسبة تمثيل لا بأس بها مـن أحـزاب المعارضة السياسية، وهـى أحـزاب الوفد والعمل والتجمع والأحرار، فضلاً عن الإخوان المسلمين الذين تحالفوا فى انتخابات مجلس 1984 مع الوفديين، وتحالفوا فى انتخابات مجلس 1987 مع حزب العمل. وكانت هاتان التجربتان قد نبهتا الحكومة إلى أن نظام الانتخاب بالقائمة الحزبية أفضل لأحزاب المعارضة وأكفل لحجم تمثيل معتبر لهم مما تسفر عنه الانتخابات الفردية، كما أن وسائل الاصطناع والتأثير فى نتائج الانتخاب تكون أسهل وأوفق فى الانتخابات الفردية، وقد ترتب على صدور كل مـن حكمى المحكمـة الدستورية حل كل من المجلسين قبل انتهاء مدته بعامين أو أكثر. والحاصل كذلك أن نسبة مقاعد المعارضة فى مجلس 1987 كانت بلغت 22 % من مجموع المقاعد، وأذكر عندما صدر التقرير الاستراتيجى الحولى عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وكان يناقش كالعادة فى ندوته السنوية التى يعدها مركز الدراسات والبحوث السياسية لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، أذكر أننى فى تعقيبى على نتيجة الانتخابات أن ذكرت أن أحزاب المعارضة يمكن أن تتحملها الدولة على أن تدور فى أحسن الفروض فى إطار جماعات الضغط، ولكن ليس مأذوناً لها أن تصل إلى الحكم، أو أن تكون مشاركة فى اتخاذ القرار، أو يقوم أدنى احتمال بذلك.
وأن نتائج الانتخابات وفقاً لهذا المفاد يتعين أن ينظر إليها فى إطار أنه ينبغى للحكومة أن تضمن لنفسها ثلثى المقاعد فى مجلس الشعب، وهى تشكل النصاب الخاص بالقرارات الاستثنائية كترشيح رئيس الجمهورية، ورجعية القوانين وغير ذلك، ولضمان هذه النسبة فى الـواقع يتعين أن تضمن الحكومة - على أقل الاحتمالات - نسبة تمثيل لا تقل عن ثلاثة أرباع المقاعد، سداً لذرائع غياب عضو أو أعضاء لحادث طارئ، ومن ثم تكون النسبة المتاح التنافس فيها بين الحكومة والمعارضة هى 25% من المقاعد، فإذا حصلت المعارضة على 22% تكون قد اقتربت من خط الخطر وهو احتمال أن تهدد نسبة الثلاثة أرباع. وأنه على ذلك فإما أن يجرى سد الذرائع أمام تكرار هذه التجربة فلا تحدث أبداً من بعد، أو أن تكون أمام احتمال تغير أوضاع نظام الحكم فى مصر إلى نوع من التعددية الحزبية الحقيقية التى تمكن من تداول الحكم والاشتراك فيه بالتحالف أو التداول، ولم تتكرر قط هذه النسبة ولا نصفها، ولا أقل من ذلك قط. عاشراً: ملاحظات عامة:وبالنسبة للملاحظات العامة الخاصة بفترة دستور 1971، وهى فترة ثلاثين سنة حتى الآن، نلحظ مثلاً أن المحكمـة الـدستورية حكمت ببطلان انتخابات 1984، ثم ببطلان انتخابات 1987، ثم حكمت بعد تسع سنوات من رفع الدعوى ببطلان انتخابات 1990 و 1991 لنقص الإشراف القضائى على عملية الانتخابات، وقد صادف أن صدر حكمها على هذين المجلسين المتعاقبين، حكماً واحداً فى يوليه 2000، بعد أن كانا أتم كل منهما مدته فى وقته، فلم تترتب آثار عملية بالنسبة لأى من هذين المجلسين، وصحَّت قوانينهما بموجب شرعية الأمر الواقع، ولكن ذلك لا يخل بأنه طبقاً للمحكمة الدستورية، كانت مجالس الشعب كلها باطلة فى بلدنا، ولتخلف الإشراف القضائى منذ صدور دستور 1971، واشتماله على المادة 88 التى توجب الإشـراف القضـائـى، وإن صحـة عمـل هــذه المجـالس يــرد بموجـب فكـرة " التغلب " أى بموجب الأمر الواقع. ومن جهة ثانية، فإن قانون الأحزاب الذى صدر فى 1977 ولا يزال معمولاً به؛ يشترط لقيام حزب جديد أن يقدم طلباً لذلك إلى لجنة الأحزاب وهى لجنة تتكون من رئيس مجلس الشورى وثلاثة وزراء منهم وزراء، العدل والداخلية وشخصيات عامة، وهى لجنة الغالبية فيها للحكومة وحزبها. ولم يحدث من 1977 حتى الآن قط أن وافقت على ظهور حزب جديد، وإنما ترفض (وأخيراً وافقت على حزب فى عام 2000)، ثم تأتى الموافقـة أن أتت من محكمة الأحزاب وهى محكمة تشكل بمجلس الدولة، ولكن فيها شخصيات عامة تختارها الحكومة بعدد الأعضاء القضاة فيها، وللجنة وقف الحزب أو صحيفته ولها طلب حله.
ومن جهة أخرى فإنه بالنسبة للصحافة القومية، كانت تابعة للاتحاد الاشتراكى فى الستينات، فلما ألغى الاتحاد الاشتراكى وظهرت الأحزاب لم يمكن نقل تبعيتها إلى حزب الحكومة ولا إلى الحكومة ذاتها؛ لأن ذلك يكون بمثابة تأميم أو سيطرة حكومية غير شعبية على الصحافة، فأنشئ مجلس الشورى بـذات التعديـل الـدستورى الـذى استبـدل نظـام الأحزاب بنظام الاتحاد الاشتراكى، وذلك فى 1981، ونيط بمجلس الصحافة التابع لمجلس الشورى أن يكون هو المهيمن على الصحف القومية، فحل مجلس الشورى محل الاتحاد الاشتراكى فى إسباغ المظهر الشعبى على الصحافة القومية، مع بقائها بيد الحكومة. ومن جهة أخرى، فإن فترة الرئيس السادات التى جرى بها التحول من وضع إلى وضع آخر، تحتاج إلى دراسة تجمع بين التخصص القانونى التشريعى وبين الإدراك التاريخى السياسى لأوضاع الفترة، لأنه كان مع كل تحول فى أشكال الحكم وصياغاته كانت تصدر تشريعات تقنن إمكانيات تدخل الدولة وسيطرتها، وتجرم أفعالاً غير منضبطة ولا محددة، مثل ما حدث فى قانون حمايـة الجبهـة الداخلية، وقانون محكمة القيم والمدعى الاشتراكى وغير ذلك. وكانت الإجراءات تجرى بالتجربة والخطأ وتلمس ردود الفعل بحيث تحتفظ الدولة بالقدر الأكبر من جوهر سلطاتها، مع تعديل فى الأشكال والهياكل وتعديلات فى العلاقات، وهذه المجموعة من القوانين هى ما اعتمد عليه الرئيس السادات بوصفها بديلاً عن حالة الطوارئ عندما ألغاها فى نهايات حكمه. ولكن حالة الطوارئ فرضت من جديد عقب اغتيال الرئيس السادات فى أكتوبر 1981، وهى لا تزال مفروضة إلى اليوم، بما شارف عشرين سنة مدداً متصلة، كانت تمد سنة بسنة، ثم صارت تمد ثلاث سنين بثلاث سنين. وحالة الطوارئ عرفتها مصر منذ سبتمبر 1939، وفرضت وألغيت، ثم فرضت … وهكذا، وعدد سنوات إلغائها بغير بديل من نوعها لا يجاوز السنوات الخمس طوال هذا المدى، وكذلك فى ظل دستور 1971، لم تلغ قط بغير بديل من نوعها، والجديد فى الأمر أنها كانت تفرض غالباً بسبب حالة حرب أو بمناسبتها، ولكنها فى المرة الأخيرة بقيت أكبر مدة متصلة فى التاريخ وهى عشرين سنة، وكان ذلك جميعه بعد انتهاء حالة الحرب تماماً، وتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل وعدم نشوب حرب أخرى، وحالة الطوارئ تيسر للسلطة التنفيذية ممارسة شئون السلطة التشريعية والقضائية أيضاً، من حيث إصدار الأوامر العسكرية، ومن حيث إجراءات القبض، والاعتقالات، والإحالة للمحاكم العسكرية، أو محاكم أمن الدولة.
وفى النهاية فإن وحدة القيادة فى الدولة وفى الحزب، ووحدة العناصر القيادية، ولبقاء الأغلبية الساحقة فى مجلس الشعب لحزب الحكومة على مدى ثلاثين سنة متصلة لا تنقطع؛ إن ذلك يفيد حدوث الاندماج بين السلطات التنفيذية والتشريعية والتكوين الحزبى، ولا يمكن ألا يتم هذا الاندماج إلا أن تكون الأغلبية فى المجلس التشريعـى قابلة للتغيير والتعديل من حيث الأشخاص، ومن حيث الوصف الحزبى، ولا يمكن ألا يتم الاندماج إلا إذا كانت الأحزاب التى تتولى الحكم متغيرة، ولا يمكن لجهاز الإدارة الذى ينظم الانتخابات أن يكون محايداً إلا إذا كان يرى احتمالاً لأن تكون السلطة مجالاً للتداول بين الأحزاب المتنافسة فى الانتخابات.والنتيجة فنحن إذا قارنا بين النظام السياسى خلال المدة الأساسية لثورة 23 يوليه؛ أى من 1952 إلى 1970، وبين مدة الثلاثين سنة التالية، نلحظ طبعاً اختلافاً فى رسم هياكل السلطة، ونوعاً من التوزيع للأدوار والمشاركات فى اتخاذ القرار.ولكن يبقى جوهر الاندماج بين سلطتى التنفيذ والتشريع قائماً، وجوهر التوحد بين السلطة المندمجة والحزب الحاكم قائماً، فالسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والحزب الحاكم، هم ثلاثة فى الشكل وواحد فى الجوهر.
ويبقى جهاز إدارة الدولة بتشعباته وامتداداته، هو المؤسسة شبه الوحيدة التى لا تقوم إزاءها مؤسسات أخرى، لا أهلية ولا رسمية، وأنه بموجب هذا التوحد يمتلك السلطة كاملة، سواء بالانتخابات أو بغيرها، وكل ما عداها ملحق بها تابع لها.وإن الحل الصحيح فى ظنى لا يرد من الحديث عن ما يَخلُف من نظام ثورة 23 يوليه، فالظاهرة أقدم وإن كان غذاها نظام 23 يوليه، والظاهرة أحدث وأبقى من نظام 23 يوليه فهى محيطة به، وهو منفعل بها بقدر ما هو فاعل فيها أو أكثر مما هو فاعل فيها.والحل فى ظنى هو السعى والضغط لتقوية هيئات المجتمع الأهلى، وبخاصة النقابات العمالية المستقلة، والنقابات المهنية، والهيئات المحلية، ومؤسسات الدولة ذات الاستقلال النسبى مثل القضاء والجامعات، والقصد من ذلك ليس إضعاف الدولة طبعاً ولكن موازنة قوتها فى حدود توازن السلطات، وفى حدود الأطر الشعبية والأهلية للجماعـة الوطنية، ولكن ذلك يتعلق بحديث آخـر.

ليست هناك تعليقات: