الصدام الثاني بين الإخوان والثورة
توتر العلاقة بين الإخوان والثورة
انقسام داخل الإخوان.. ومحاولة إخوانية للإنقاذ
اعتقال مفاجئ ليلة الامتحان.. هل سيضيع العام؟
الحملة على القرضاوي والعسال.. ذكريات مؤلمة
توتر العلاقة بين الإخوان والثورة
انقسام داخل الإخوان.. ومحاولة إخوانية للإنقاذ
اعتقال مفاجئ ليلة الامتحان.. هل سيضيع العام؟
الحملة على القرضاوي والعسال.. ذكريات مؤلمة
توتر العلاقة بين الإخوان والثورة:
لم تطل فترة الصلح بين الإخوان والثورة؛ فسرعان ما تحول الصفاء إلى كدر، والصحو إلى غيم، وكان لذلك أسباب شتى؛ بعضها نفسي يتعلق بموقف عبد الناصر من الهضيبي، وعدم استراحته له، ونفس الشيء عند الهضيبي، وكما قيل: "من القلب إلى القلب رسول".
وبعض الأسباب موضوعي، وهو أن عبد الناصر يريد أن يحكم البلد وحده، لا يشاركه أحد في حكمها، ولا ينتقده في رأي، وقد قال ذلك للأستاذ فريد عبد الخالق في إحدى جلسات الحوار معه: أنا أريد أن أضغط على زر فتتحرك البلد من الإسكندرية إلى أسوان، وأضغط على زر آخر فتتوقف البلد.
والإخوان يصرون على عودة الحكم النيابي البرلماني للبلاد، وعودة الحريات العامة، ومنها حرية الصحافة، وقد وعد رجال الثورة بذلك، وجعلوه من مبادئهم الستة التي أعلنوها من أول الأمر.
وكان عبد الناصر يقول للإخوان: تريدون أن يعود حكم الباشوات، وحكم النحاس باشا وزينب الوكيل من جديد؟
وكان الأستاذ الهضيبي لا يكل ولا يمل من المطالبة بعودة الحياة الديمقراطية والنيابية للبلاد، ويرى أنه لا خلاص لمصر إلا بها، كما كان ينادي باستمرار بتحكيم الشريعة الإسلامية، واتخاذها مصدرا للتقنين.
كما وجد عنصر جديد زاد العلاقة توترا، والنار اشتعالا، وهو الاتفاقية الجديدة التي عقدها عبد الناصر مع بريطانيا، ولم يرها الإخوان محققة لكل آمال البلاد، بعثوا مذكرة مفصلة إلى حكومة الثورة برأيهم في الاتفاقية وملاحظاتهم عليها، وقد أغضب ذلك عبد الناصر، وزاد من تدهور الوضع.
ولم يكن الإخوان وحدهم هم الذين نقدوا الاتفاقية، فقد نقدها كذلك الرئيس محمد نجيب، وكان لا يزال رئيسا للجمهورية.
وأوعز عبد الناصر ببدء حملة صحفية إعلامية على الإخوان، وعلى الأستاذ وأعوانه خاصة؛ سعيا لإيجاد معارضة للمرشد داخل الجماعة، مؤيدة منه، ومسنودة من قبله، وهو ما حدث بالفعل.
وزاد الطين بلة: أن الصحف القومية التي كانت تتبع الحكومة -وكل الصحف كانت كذلك- بعد إلغاء جريدة "المصري" التي كانت لسان حزب الوفد.. هذه الصحف لم تكن تنشر ما يذيعه الإخوان من بيانات وردود على دعاوى الثورة عليهم واتهاماتها لهم، فلجأ الإخوان إلى إصدار نشرات سرية تشن حملات نارية على الثورة وزعيمها ورجالها.
وفي هذا الوقت قُبض على بعض الإخوان للتحقيق معهم، وتعرضوا لتعذيب بشع داخل السجن، أذكر منهم الأستاذ محمد المهدي عاكف، ولا أذكر من كان معه.
وازداد الجو سخونة حين اختفى المرشد من القاهرة، ولجأ إلى مخبأ لا يعرفه أحد إلا عدد محدود جدا من المقربين منه، وقيل: إن سبب اختفائه أنه كان مهددا بالاغتيال، ولا أحسب أن هذا هو السبب الحقيقي؛ فقد كان الهضيبي من الرجال الشجعان المتوكلين على الله، الذين لا يخشون شيئًا ولا أحدًا إلا الله.
وهنا أدع للدكتور ريتشارد. ت. ميتشل -مؤلف كتاب (الإخوان المسلمون) الذي ترجمه د. محمود أبو السعود، وعلق عليه عضو مكتب الإرشاد، والقريب من الأستاذ الهضيبي وصنع القرار في الجماعة الأستاذ صالح أبو رقيّق- يسرد هذه الحوادث، نقلا عن مراجعه؛ ليعيش القارئ معنا هذه الأجواء المكفهرة، يقول ميتشل (261-268):
أعلنت الحكومتان البريطانية والمصرية في 27 يوليو موافقتهما المشتركة على "موضوعات الاتفاقية" كأساس لمعاهدة جديدة تسوي النزاع المصري البريطاني التاريخي، وفي 31 يوليو نشرت صحيفة لبنانية في صدر عددها رأي رئيس الإخوان المسلمين في الاتفاقية، وكانت النقاط التي أثارها الهضيبي هي:
1- كانت معاهدة 1936 ستنتهي بعد فترة تقل عن السنتين؛ مما يحتم الجلاء عن القواعد دون أي ارتباط قانوني يسمح لهذه القوات بالعودة إليها، بينما تعطي المعاهدة الجديدة لبريطانيا هذا الحق؛ إذ تنص على حالة الرجوع إلى القاعدة حالة الهجوم على الدول العربية أو تركيا.
2- إن النص الخاص بالعودة حالة الهجوم على تركيا يربط مصر والدول العربية بهذه الدولة، وبالتالي بالمعسكر الغربي.
3- النص الذي يسمح لبريطانيا أن تحتفظ بقواعد جوية تهديد لمصر، كما أنه وسيلة لاستمرار السيطرة عليها في عصر الطيران الراهن.
4- إن "المدنيين" الذين ينتظر أن يساعدوا في تشغيل المنشآت بالقواعد هم بطبيعة الحال عسكريون في ثياب مدنية.
5- مدّ هذا الاتفاق معاهدة 1936 خمس سنوات أخرى، وسمح "بالتشاور" في إعادة النظر فيه عند انتهاء مدته، وهو نفس النص الذي جعل من معاهدة 1936 معاهدة دائمة في واقع الأمر.
وبناء على هذه الأسباب جميعا؛ فقد "رفض" الهضيبي الاتفاق، وأصر على وجوب عرض أي اتفاق بين مصر وأي حكومة أجنبية على "برلمان منتخب انتخابا حرا.. يمثل إرادة الشعب"، وعلى صحافة لا تخضع للرقابة، وتتمتع بحرية المناقشة.
كان أثر نقد الهضيبي الجريء الصريح لموضوعات الاتفاق مزعجًا ومقلقًا، وساءت الأمور إثر بيان طويل مفصل يحتوي على نقد الاتفاق أُرفق بخطاب بعث به حميدة نائب المرشد باسم مكتب الإرشاد في 2 أغسطس إلى عبد الناصر. وقد نُشر كذلك عن طريق جهاز النشرات السرية؛ فكان ذلك توثيقًا لحق الإخوان في إعلان رأيهم في الاتفاق، علاوة على كونه نقدًا له. وقد زاد من تعكير الجو إصدار نشرتين أخريين: إحداهما نقد للاتفاق، أمضاها محمد نجيب، ذكر فيها عدم صلته بالاتفاق، والثانية بإمضاء وزير سابق عُرف فيما بعد أنه "سليمان حافظ" الذي كان وزيرا للداخلية في وزارة نجيب الأولى. وقد انتقد فيها الحكومة بوجه عام. وكانت النشرتان صادرتين بأحرف مشابهة للمنشورات الأخرى ومطبوعتين على نفس الشاكلة وعلى ورق مشابه؛ مما يدل على أن مصدر النشر واحد، وهو مطابع الإخوان المسلمين، وقد سلمت النشرتان إلى عبد القادر عودة لنشرهما.
ظل التوتر الناشئ عن نقد مشروع الاتفاق مكتوما أثناء غياب الهضيبي الذي كان ما زال في سوريا وأثناء غياب عبد الناصر الذي كان بالسعودية من 7 -15 أغسطس لأداء فريضة الحج، ولحضور المؤتمر الذي اقتُرح عقده مؤخرا ليضم زعماء المسلمين في مكة. وعاد الهضيبي في 22 أغسطس، وفي نفس اليوم نظمت حملة صحفية تهاجم فيه موقفه من الاتفاق، واعتمدت في ذلك أساسا على التشهير بالهضيبي، مفصلة موقفه في "الاتفاق السري" الذي زعم أنه تفاوض فيه مع الإنجليز في فصل الربيع، والذي ادّعت الصحف أنه أعطى الإنجليز امتيازات أكثر مما أعطتهم الحكومة.
قوبل الهضيبي بترحاب حار في المركز العام مساء ذلك اليوم، وكتب رده الأول والأخير على تهمة المفاوضات السرية، وأرسل به في خطاب إلى عبد الناصر، كما تضمن هذا الخطاب رجاء بالسماح للإخوان المسلمين أن يعبروا عن آرائهم حتى "يستطيع الناس أن يحكموا علينا بأفعالنا وليس بأقوالك"، ومرة أخرى وزِّع هذا الخطاب في صورة منشور.
وفي اليوم التالي كان اجتماع الثلاثاء الأسبوعي، وكان آخر اجتماع من نوعه، وقد ساده التوتر. وقف الهضيبي أمام جمع غفير، فأعاد ما سبق ذكره يوم الأحد الماضي؛ ليعلم من لم يسمعه ذلك اليوم، مبديا تفاصيل رحلته وتفسيره للمحادثات مع تريفور إيفانز التابع للسفارة البريطانية (وهذا تم بعلم عبد الناصر وتشجيعه). ثم تناول موضوع توقف الصحيفة الأسبوعية التي كفت عن الصدور بعد عددها الثاني عشر، وأرجع ذلك إلى أن الرقابة جعلت صدور الصحيفة أمرا غير عملي، وأخذ شعور الإخوان يزداد التهابا كلما امتد الاجتماع، وبذل الهضيبي قصارى جهده ليحتفظ بالنظام، وتعمد التقليل من خطورة الموقف، مصدرا أمره في غضب؛ ليسكت الأعضاء الذين كانوا يقفون هاتفين بهتافات عدائية للحكومة، وعلا صوته فجاوز نبراته المعتادة حين توجه باللوم إلى شاب صاح بهتاف "الموت للخائنين"، ثم أنهى كلمته بعبارات هادئة كان لها أثر كبير على المجتمعين، مقررا أنه "مستعد لكل ما قد يحدث"، معلنا تمسكه بمبدأ أساسي للجمعية، وهو أن "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
كانت تلك آخر مرة رأى فيها الكثير من الإخوان مرشدهم، حتى اعتقل وقدِّم إلى المحاكمة بعد عدة أشهر، إذ حدث اصطدام مسلح بين المجموعتين خلال الأسبوع التالي سنتعرض له فيما يلي. واختفى الهضيبي واثنان من أقرب مستشاريه: حسن العشماوي، وصلاح شادي، إذ إنهما نصحاه بأن يجنب نفسه احتمال الاغتيال أو الاعتقال، وأيدهما آخرون في ذلك، وقد وجد في نفسه استعدادا للبعد عن مسرح الحوادث، إذ كان ما زال موقنا تماما أن في ذهابه خدمة للقضية وإنقاذا للموقف، وأقر مكتب الإرشاد غياب المرشد بإعلان أن المرشد في "إجازة". وبينما استغلت الحكومة اختفاء الهضيبي لتشتد في الحملة عليه شخصيا، لاقت مشقة في تأكيد عدم رغبتها في القبض عليه. وذلك حتى تبدِّد هالة أحاطت بشخصه وهو أنه ضحية لكيدها.
بدأت الحكومة منذ ذلك الحين في تطبيق سياسة هجومية ذات شعبتين: الأولى: إطلاق حملة صحفية ضخمة مستمرة ضد الهضيبي "وعصابته" وسياستهم. والثانية: تشديد الأمن وفرض رقابة شديدة تصل أحيانا إلى حد الاستفزاز على النشاط القليل الذي ظل الإخوان يمارسونه.
كان للحملة الصحفية مظهران:
1- أخذت افتتاحيات الصحف الحكومية تجيب على النشرات السرية التي ملأت الشوارع أو تنفي ما تذكره، ولو أنها لم تكن تذكر كل ما ينشر كاملا أو على صحته.
2- كانت الصحف تنشر كل يوم تقريبا أعمدة تشتمل على خطابات تزعم أن الحكومة تلقتها من الإخوان يستنكرون فيها موقف الهضيبي خاصة أو الجمعية عموما بعدائهم لمجلس قيادة الثورة، وهي طريقة تقليدية تتبع في مصر لزعزعة الثقة في الخصم السياسي، أو لإقامة مهرجان يدعو لشيء أو ضد شيء.
كان بث هذه الأخبار في الصحف والمجلات مبررا لتشديد الأمن حتى إذا جاء يوم 28 أغسطس نشرت الصحف بالخط العريض تقارير من وزارة الداخلية عن هجوم قام به الإخوان المسلمون على "البوليس والشعب" عقب صلاة الجمعة في مسجد الروضة، وجاء في التقرير: أنه عقب إلقاء خطبة قُصِدَ بها إثارة العنف خرج الإخوان من المسجد وهاجموا البوليس والجمهور، على أن الذي حدث فعلا يختلف في جوهره عن ذلك بعض الشيء، إذ كانت الخطبة التي ألقاها أحد زعماء الطلبة، وكان صديقا لعبد الناصر (وهو حسن دوح زعيم طلبة الجامعة)، عبارة عن نداء يدعو إلى الهدوء وإطلاق الحريات، تخللته استشهادات من القرآن والحديث، ثم انتهت التلاوة وأخذ فريق من المصلين يتفرقون قبل محاولة استفزازية قام بها البوليس الذي ترأسه ضابط من الجيش (وكان البوليس قد وصل أثناء الصلاة وأحاط بالمسجد) إذ أراد القبض على الخطيب فأثار الناس؛ مما "برر" استعمال القوة بما في ذلك إطلاق نار البنادق لتهدئة الموقف.
وفي 10 سبتمبر ذكرت الصحف حادثا مشابها وقع في مسجد الإخوان في طنطا فقالت عنه: اعتداء الإخوان المسلمين على الجمهور، "وأن معركة قامت بالمسجد" حيث استعمل فيها الخطيب سكينا ضد معارضيه! وفي اليوم نفسه نفت الحكومة في الصحف خبرا لم يسبق نشره، ولكنه قد عرف في القاهرة بعد ساعات من وقوع الحادث، وهو اشتراك الحرس الوطني الذي تشرف عليه الحكومة بالاشتباك؛ مما أوحى إلى كثير من المراقبين أن الحادث كان مدبرا لإثارة الإخوان. وقد فرضت الحكومة بعد هذا الحادث الأخير الوسائل الكفيلة بجعل الخطابة في المساجد تحت رقابة شديدة عن طريق وزارة الأوقاف.
وفي أواخر سبتمبر وصلت الأزمة إلى ذروة مرحلة خطرة؛ إذ صدر قرار في 23 من الشهر من مجلس قيادة الثورة بنزع الجنسية عن ستة من المصريين بزعم أنهم أساءوا إلى سمعة بلادهم في الخارج، وأضروا بعلاقاتها مع جيرانها العرب، وكانت تهمتهم "خيانة الأمة"! وكان الستة جميعا في الخارج في ذلك الوقت وهم: سعيد رمضان، وعبد الحكيم عابدين، وسعد الدين الوليلي، ومحمد نجيب جويفل، وكامل إسماعيل الشريف (وهؤلاء جميعا من الإخوان المسلمين)، ثم محمود أبو الفتح وهو وفدي بارز وأحد أفراد الأسرة التي تملك الصحيفة الوفدية (المصري)، وقد اعتبر حليفا للإخوان، بجانب أمور أخرى اتُّهم بها.
أما الإخوان (الخمسة) فكانوا جميعا في سوريا في ذلك الوقت يحضرون مؤتمرا منعقدا في دمشق، واعتبروا مسؤولين عن ظهور منشورات صدرت عن المؤتمر تحت أسماء الجمعيات في العراق والأردن والسودان تدافع عن الإخوان ضد حكومة مصر، كما اعتبروا مسؤولين عن الحملة الصحفية العنيفة في سوريا ضد مجلس قيادة الثورة، وعن سيل الأخبار المستمر المتتابع من راديو إسرائيل حول النزاع في مصر، وتوترت العلاقات بين مصر وسوريا لسبب موضوع استمرار نشاط الإخوان في سوريا، ومستقبل من سلبت جنسيته منهم، حتى أدى الأمر إلى حملة مرّة على سوريا ظهرت في الصحافة المصرية؛ مما جعل رئيس وزراء سوريا ورئيس أركان حرب جيشها يسارعان بالقيام بزيارة شخصية لمصر.
وحوالي منتصف سبتمبر توقف عبد الناصر عن الظهور أمام الجمهور لفترة معينة؛ إذ كان مهددا في حياته؛ فلما أن بلغ ذلك الهضيبي كتب خطابا آخر موجها إلى رئيس الوزراء (يعني: عبد الناصر) ما لبث أن وزع أيضا في منشورات عامة، وقد طلب فيه إنهاء التوتر السائد عن طريق السماح بمناقشة كريمة للقضايا القائمة وفي جو من الحرية. كما طلب "بإيقاف الاستثارة" التي يتولاها بعض الناس والسلطات القائمة على تنفيذ القانون ضد الإخوان، وخاطبه بقوله: "إن من واجبك أن تحمي الناس، سواء أكانوا مصيبين أم مخطئين"، أما فيما يتعلق بالتهديدات العنيفة، فقد أكد الهضيبي لرئيس الحكومة أنه يستطيع أن يتجول بحرية ليلا أو نهارا وحده حيثما أراد، دون أن يخشى من "الإخوان المسلمين". ويبدو أن عبد الناصر وافق على ذلك، إذ إنه بدأ في أواخر الشهر يظهر في المناسبات العامة(1).
محاولة إخوانية للإنقاذ
وكان الأخ الأستاذ محمود عبد الحليم عضو الهيئة التأسيسية والحائز على رضا الطرفين، وغير المحسوب على أي منهما قد اتخذ مبادرة إيجابية، واتصل بعبد الناصر عن طريق رجليه إبراهيم الطحاوي وأحمد طعيمة، وكتب مذكرة في التقريب والمصالحة بين الطرفين. قبلها في الجملة عبد الناصر بشروط، وعرضها الأستاذ محمود على حشد إخواني كبير في منزل الأستاذ محمد جودة عضو الهيئة التأسيسية والتاجر المعروف، وصديق عبد الناصر.. وتبنى الحشد الإخواني هذه المذكرة، وإن كان للأستاذ البهي رأي ذكره ودافع عنه أمام هذا الحشد، وهو اقتراح خلع المرشد الأستاذ الهضيبي، والاستعاضة عنه بلجنة تدير الجماعة، حتى تختار مرشدا آخر، ورأى أن هذا هو الذي ينقذ الموقف. وعارضه الأستاذ محمود في هذا، وأنه ليس من الصواب ولا الحكمة أن نعرِّض الجماعة في مثل هذا الوقت لهذه الأزمة، وأن هذا سيحدث فتنة كبيرة، وفتقا قد لا يستطاع رتقه في الظروف الحالكة الحاضرة.
واختار الحاضرون وفدا يمثل الإخوان للقاء عبد الناصر مكونا من: خميس حميدة، وعمر التلمساني، ود. عثمان نجاتي، محمد حلمي نور الدين، والشيخ أحمد شريت، ومحمود عبد الحليم. والتقوا مع عبد الناصر في بيته.
وعرض عبد الناصر موقفه من الإخوان، وموقف الإخوان منه منذ قامت الثورة في حديث طويل سرده في الجلسة المشتركة بينه وبين محمود عبد الحليم وعدد من الإخوان؛ مما دل على قوة ذاكرة الرجل، واستحضاره للأحداث، وتماسك شخصيته، كما يقول الأستاذ محمود، الذي يحسب أن العوامل النفسية كانت من أسباب هذه الأزمات، وأن الإخوان لم يفهموا نفسية عبد الناصر كما ينبغي. ولم يتعاملوا معه بالطريقة التي يمكن بها كسبه إلى صف الجماعة، ولا تؤلبه وتثير حقده عليهم.
القرارات التي اتخذت:
وأود أن أذكر هنا ما كتبه الأخ محمود عبد الحليم عن هذه الجلسة التاريخية وما تم فيها. قال رحمه الله:
في نهاية هذه الجلسة الطويلة المضنية كان لا بد لنا من الوصول إلى اتفاق محدد، وكان أملنا جميعا -نحن الإخوان- أن يكون اقتراحي الذي ذيلت به مذكرتي هو الذي يتم عليه الاتفاق. وتكون مهمتنا -نحن المجتمعين- أن نبحث تفاصيل تنفيذه، ولكن جمال فاجأنا في نهاية الجلسة برفضه هذا الاقتراح بل برفضه أي اقتراح للصلح قائلا: "إن الدعوة إلى إجراء صلح بيني وبينكم فات أوانها. ولم تعد الثقة التي هي أساس الصلح موجودة". وتناقشنا معه حول هذه النقطة نقاشا طويلا غير أنه أصر على الرفض.. وما كنا نملك شيئا بعد أن صار هو يملك كل أوراق اللعب في يده ونحن لا نكاد نملك منها شيئا.
قلنا: إذن لم كان هذا الاجتماع؟ ولو علمنا أنك ترفض الصلح لما أتعبنا أنفسنا. ولكن الأستاذ الطحاوي والأستاذ طعيمة أبلغانا أنك قرأت المذكرة ووافقت على ما جاء بها.. وعلى هذا حضرنا، فقال: أنا وافقت على المذكرة كمبدأ. فالصلح هدف، ولكنه الآن ليس الهدف المباشر. لكن الهدف المباشر الآن سيكون مقدمة للصلح؛ وإذا استطعتم أن تقوموا بأعباء الهدف المباشر انتقلنا إلى الصلح.
قلنا: وما هو الهدف المباشر؟
قال: كل الذي أستطيع أن أبذله لكم الآن: أن أعقد معكم هدنة؛ فإذا نجحتم فيها كان لكم أن تطالبوا بصلح.
قلنا: وما شروط هذه الهدنة؟
قال: هما شرطان:
1- أن توقفوا حملتكم على اتفاقية الجلاء.
2- أن توقفوا إصدار النشرات.
قلنا: ولنا شرطان مقابلان هما:
1- أن توقف الاعتقالات والتشريد.
2- أن توقف الحملة الصحفية.
قال: أنا موافق على شرطَيكم إذا وافقتم على شرطيّ.
قلنا: إننا موافقون.
قال: إذا نفذتم الشرطين فلنا اجتماع آخر بعد اجتماع الهيئة التأسيسية، أما إذا لم تستطيعوا تنفيذ الشرطين فلا اجتماع، ولا تلوموني بعد ذلك.
وهنا ختمت الجلسة، وخرجنا، وكلنا أمل في الوفاء بما اشترط علينا لنخرج بالدعوة من هذا المأزق الخطير الذي وضعت فيه.
يقول محمود عبد الحليم: كان مبيتي عادة حين أكون في القاهرة أن أبيت عند الأخ الحبيب -رحمه الله- الدكتور جمال عامر زميلي القديم في الدعوة وعضو الهيئة التأسيسية وصاحب صيدلية الصليبة بالقاهرة.. فلما ذهبنا في تلك الليلة إلى البيت وجدنا في انتظارنا الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل، الذي ابتدرني قائلا: إنني كنت في انتظارك على أحر من الجمر؛ لأنني أقدر أهمية هذه الجلسة، وأؤمل فيها خيرا للدعوة، وقد قدمت لأعرف منك ما تم فيها، وأعرف رأيك شخصيا في جمال عبد الناصر.. فحدثته بكل ما تم في الجلسة، كما شرحت له وجهة نظري في شخصية جمال عبد الناصر على الوجه الذي أجملته في هذه المذكرات، ولكنني أقرر أن ما حدثت به الأخ عبد العزيز لا بد أنه كان أوفى وأشمل، لا سيما وأنا أثبت ما أثبته في هذه المذكرات بعد مرور اثنين وعشرين عاما على هذه الأحداث.. وأذكر أنني أنهيت حديثي إلى الأخ عبد العزيز بقولي: إنني أرى أن شخصية جمال عبد الناصر كانت تستحق منا دراسة أكثر، وعناية في التعامل معها أكثر مما كنا نوليها.ا.هـ
ويبدو من سير الأحداث أن الأمور جرت في مسار آخر غير المسار الذي كان ينشده الأخ محمود عبد الحليم ومن وافقه من الإخوان فيما سماه (محاولة للإنقاذ). فقد كان الجو في داخل الإخوان متوترا ومشحونا ضد الثورة وعبد الناصر، ولهذا باءت هذه المحاولة للتقريب أو المصالحة أو الهدنة -التي قد تؤدي إلى مصالحة- بالإخفاق والفشل؛ نتيجة لتصلب القيادات في مواقفها، وتغليب التشدد على المرونة، والمواجهة على المقاربة؛ لأمر قدره العزيز العليم.
وقد عُرضت مذكرة الأخ محمود عبد الحليم على الهيئة التأسيسية، ولكن جرت الأمور على غير ما أراد صاحب المذكرة؛ فقد أخذ رأي الهيئة بالتصويت: أتعرض المذكرة عليها أم لا؟ فكانت الأغلبية مع عدم عرضها!(2)
كان هذا الانقسام في الصفوف العليا للإخوان، أما قواعد الإخوان بصفة عامة؛ فكانت مع المرشد، وذلك لأسباب ثلاثة:
الأول: أنها لا تدري شيئا عما يدور وراء الكواليس، ولا تعرف عن العلاقات الخاصة بين الإخوان والثورة ما يمكنها من الحكم؛ فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.
والثاني: أن النشرات السرية التي كانت تصدر في تلك الأيام كانت تعبئ الإخوان تعبئة شعورية عدائية للثورة ورجالها، ولا تسمح بأي تقارب أو مهادنة.
والثالث: ما كانت تقوم به الثورة ضد الإخوان على المستوى الإعلامي التحريضي، وعلى المستوى الأمني التضييقي.
اعتقال مفاجئ ليلة الامتحان
وقد كنت في هذه الأيام الساخنة المتوترة أتهيأ للامتحان في الفصل الثاني والنهائي في تخصص التدريس.
وقبل أول أيام امتحاني في تخصص التدريس حدث حادث مهم بالنسبة لي؛ فقد فتشت المباحث شقتنا التي نسكن فيها بشارع راتب باشا بشبرا، واعتقل زميلي الذي يعيش معي في حجرتي، وهو الأخ محمود نعمان الأنصاري، الطالب بكلية الآداب الذي ضبط بحوزته كمية من المنشورات المحظورة، وكانت الشقة تتكون من أربع حجرات كل حجرة يسكن بها شخصان. وكان محمود زميلي في نفس الحجرة فلما قبض عليه وسألوه: لمن هذا السرير في حجرتك؟ فقال: هو لفلان.
فانتظروني حتى عدت في المساء؛ ليسوقوني إلى قسم روض الفرج الذي نتبعه، وأنا لا أعلم شيئا عن المنشورات التي ضُبطت عند زميلي محمود. وهذه الأيام في غاية الأهمية عندي؛ لأنها أيام الامتحان النهائي لإجازة التدريس، بعد دراسة سنتين.
وقد أوصيت بعض زملائي في الشقة أن يتصلوا بأستاذنا البهي الخولي ليتوسط في الإفراج عني لأداء الامتحان، وأن يتم ذلك على وجه السرعة؛ فالامتحان في الساعة الثامنة صباحا.
وقضيت هذه الليلة الليلاء ساهرا، لم يغمض لي جفن، لا من أجل عشق ليلى وسُعدى، كما قرأنا للشعراء العشاق، ولكن خوفا على الامتحان الذي لو ضاع فربما لا أعوضه إلا بعد سنين أو ربما لا أعوضه أبدا؛ فقد كنا مهددين بالاعتقال ما بين حين وآخر. وإن كنت في ذلك الوقت محسوبا على جناح المعارضة الذي يمثله الأستاذ البهي ومن معه، ولكن أجهزة المباحث تعرف جيدا أن ولاءنا إنما هو للدعوة قبل كل شيء، بغض النظر عما يحدث بين قادتها من خلاف. وهذا ما كان يخيفني ألا تنجح وساطة أستاذنا البهي في الإفراج عني، ولكن القوم كانوا أذكى وأدهى، ويريدون للخلاف أن يتعمق وتمتد جذوره في الجماعة، فقبلوا الوساطة، ولا سيما مع إلحاح الأستاذ البهي.
وحوالي الساعة السابعة والنصف صباحا نودي علي بالإفراج، ولم أكد أغادر باب القسم، حتى ركضت ركض الفرس، لأصل إلى شارع شبرا، لآخذ أول سيارة أجرة (تاكسي)، لأصل بها إلى مقر الامتحان في (الدَّرَّاسة)، وقد دق الجرس، فظللت أعدو، حتى دخلت الفصل وأنا ألهث وأتصبب عرقا، وسمح لي بالدخول بعد مرور عدة دقائق. وأديت الامتحان على ما يرام، وقد شعرت بتوفيق الله تعالى لي في إجابتي عن الأسئلة، رغم أرقي الطويل تلك الليلة.
وربما كان ذلك هو الشيء الوحيد الذي كسبته من وراء الخلاف الذي حدث بين الإخوان، وإن كان الخلاف كما قال ابن مسعود شرا، ولكن كما قال تعالى: "وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" (البقرة: آية 216)
فترة قاسية علينا:
كانت تلك الأيام من أشق الأيام علينا، أنا وأخي أحمد العسال، وبعض شباب الدعوة، المتأثرين بالأستاذ البهي وشيوخ الدعوة المعروفين أمثال الشيخ محمد الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، والشيخ سيد سابق وأمثالهم، وقد كانت عواطفنا معهم من ناحية، يؤكدها عاطفة الإشفاق على الدعوة ومستقبلها: أن تدخل معركة غير متكافئة مع ثورة عسكرية متجبرة، معركة لا يعلم مصيرها إلا الله. فلو أمكن الصلح بين الجماعة والثورة، واللقاء في منتصف الطريق، بدل الصدام المجهول النتائج ربما كان ذلك خيرا.
وقد حاول الإمام الشهيد حسن البنا بعد حل الإخوان سنة 1948م أن يسلك كل السبل ليجنب الإخوان الصدام الدامي مع الحكومة، ولو تنازل عن بعض الأشياء في سبيل هذا الهدف، حتى إنه قَبِلَ أن يترك السياسة في تلك الفترة، ويتفرغ للتربية ونشر الدعوة.
وكان سيدنا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في غزوة الحديبية: "والله لا تدعوني قريش إلى خطة فيها صلة رحم وحقن للدماء إلا أجبتهم إليها".
وكان عمر رضي الله عنه قبل أن يتهيأ لفتح بلاد الروم يغريه القواد بما وراءها من مغانم ومكاسب، فيقول: "والله لمسلم واحد أحب إلي من الروم وما حوت".
كان الحرص على حقن دماء الإخوان، والضن بهم أن يدخلوا معركة غير معروفة المصير، هو الذي يسيطر علينا في تلك الفترة العصيبة.
وإن كانت عقولنا تقول لنا: هل صحيح أن الثورة تريد صلحا وتقاربا مع الإخوان؟ أو هي تريد شق صفهم وتمزيق جماعتهم، وضرب بعضهم ببعض؟
إن الذي يبدو من ظواهر الأمور أن الثورة تريد أن تنفرد بالسيطرة على مصر، وألا يشاركها في ذلك أحد، وأنها لا تقبل أن يكون للإخوان ولا غيرهم وجود مؤثر، إلا أن يصدِّقوا دعواهم، ويؤمِّنوا على دعائهم، ويمشوا في ركابهم، وهذا ما لا يرضاه أبناء الدعوة جميعا.
الحملة على القرضاوي والعسال
ومن الذكريات المؤلمة التي لا أنساها: أن الإخوان كانت لهم نشرة سرية تصدر في هذا الوقت تحت عنوان (الإخوان في المعركة) تهاجم الثورة ورجالها بعنف، وتتضمن المنشورات الثورية التي تصدر عن قيادة الإخوان مثل منشور عنوانه: "هذه الاتفاقية لن تمر" يعني: الاتفاقية التي عقدت مع الإنجليز، وآخر بعنوان: "خمسة وعشرون مليونا يباعون في سوق الرقيق". وكان ينسب إلى الأستاذ سيد قطب أنه محرر هذه المنشورات الثورية بقلمه.
وقد أذاعت هذه النشرة نبأ قالت فيه: إن القرضاوي والعسال قد مرقا من الدعوة، وانضما إلى ركب الخونة، وعلى الإخوان أن يحذروا منهما! وقد استجاب الإخوان لذلك حتى قابلني بعض الإخوة الذين كانوا يعتبرون من تلاميذي، فأعرضوا عني، ونأوا بجانبهم: وبعضهم قال لي: لم يعد بيننا وبينك رباط.
وهذا أمر شائع في الإخوان، أذكر أنه حين صدر أمر بفصل الشيخ الغزالي والأستاذ صالح عشماوي، والدكتور محمد سليمان، والأستاذ أحمد عبد العزيز جلال، وكنا في معتقل العامرية، وكنت أتحدث مع أحد وعاظ الإخوان المعروفين، وجاء ذكر الأخ الشيخ الغزالي، فقال: الغزالي لم يعد أخا لنا، لا هو ولا إخوانه المفصولون من الجماعة.
قلت: لم يعد أخا لنا في الجماعة، ولكنه بقي أخا لنا في الإسلام.
قال: إن عمله فصل ما بيننا وبينه.
قلت: هل يهدم تاريخ الشخص وجهاده كله بزلة واحدة يزلها؟ إن الله سبحانه لو عامل الناس بهذه الطريقة لدخلوا جميعا جهنم.
إن الرسول الكريم علمنا أن الإنسان تشفع له سوابقه، وتغتفر له بعض سيئات حاضره من أجل مآثر ماضية، وقد قال لعمر في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وقد ارتكب ما يشبه الخيانة للرسول وجيشه: "ما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فإني قد غفرت لكم".
من أجل جهاده في بدر غُفر له ما اقترفه في فتح مكة!
وأقول بأسف: لقد كان رجال المباحث أصدق في الحكم علينا من إخواننا الذين عرفونا وعرفناهم، وعايشونا وعايشناهم، فلم تخدعهم هذه المعارضة الظاهرة عن قراءة ما تكنه صدورنا من ولاء وعداء، أو حب وكره. ولهذا لم يترددوا في القبض علينا في أول فرصة، وتقديمي للمحاكمة.
وهذا ما يعاب على الإخوان: أنهم إذا أحبوا شخصا رفعوه إلى السماء السابعة، وإذا كرهوه هبطوا به إلى الأرض السفلى. والمفروض في الإنسان المؤمن -ولا سيما الداعية- الوسطية والاعتدال في الحكم على الناس، في الرضا والغضب، والمحبة والعداوة، فإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا أحب لم يحابِ من يحب بالكذب، وإذا عادى لم تبعده عداوته عن الصدق، كما قال تعالى: "وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى" (الأنعام: آية 152)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ" (النساء: آية 135)، "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: آية 135).
وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا".
على أن الكراهية هنا لا ينبغي أن يكون لها مورد، فإن اختلاف الناس في السياسات والمواقف كاختلافهم في الأحكام والفقه، والواجب هنا: أن تختلف الآراء ولا تختلف القلوب، وأن يعذر الإخوة بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه.
والمختلفون هنا يقال فيهم: مصيب ومخطئ، لا مؤمن ومنافق، أو صالح وفاسق، إذا حسنت النيات، وصفت القلوب، وهذا ما يظن بأهل الدعوة إلى الإسلام، وإن اختلف بعضهم مع بعض.. فالمصيب منهم مأجور، والمخطئ معذور. بل المصيب مأجور أجرين، والمخطئ مأجور أجرا واحدا، إذا كان خطؤه ناشئا عن اجتهاد.
ولقد نهى السلف -رضي الله عنهم- عن الإسراف في الحب والبغض، وقالوا: لا يكن حبك كلفا، ولا يكن بغضك تلفا.
وفي الأثر: "أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما".
وفي القرآن الكريم: "عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (الممتحنة: آية 7) وهذه وردت في شأن المشركين المعادين، فما بالك بالمسلمين الموالين؟!
ولقد بينت الأيام فيما بعد أن لله حكمة في فصل الغزالي من الإخوان؛ فقد قدر الله تعالى له بهذا أن ينجو من المحنة التي أصابت الإخوان في سنة 1954م وما بعدها، وأن يبقى حرا طليقا يتجول في أنحاء مصر داعيا إلى الله وإلى دينه القويم.
وظل الغزالي طوال سنوات المحنة لسان الدعوة الناطق بالصدق، الصادع بالحق، المقاوم لأباطيل الماركسيين والعلمانيين. ولم يكن أحد يجرؤ على أن يتهمه بمعاداة الثورة، أو بموالاة الإخوان، وقد فصلوه رسميا من جماعتهم. وقديما قالوا: رب ضارة نافعة. وقال تعالى: "فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" (النساء: آية 19).
لم تطل فترة الصلح بين الإخوان والثورة؛ فسرعان ما تحول الصفاء إلى كدر، والصحو إلى غيم، وكان لذلك أسباب شتى؛ بعضها نفسي يتعلق بموقف عبد الناصر من الهضيبي، وعدم استراحته له، ونفس الشيء عند الهضيبي، وكما قيل: "من القلب إلى القلب رسول".
وبعض الأسباب موضوعي، وهو أن عبد الناصر يريد أن يحكم البلد وحده، لا يشاركه أحد في حكمها، ولا ينتقده في رأي، وقد قال ذلك للأستاذ فريد عبد الخالق في إحدى جلسات الحوار معه: أنا أريد أن أضغط على زر فتتحرك البلد من الإسكندرية إلى أسوان، وأضغط على زر آخر فتتوقف البلد.
والإخوان يصرون على عودة الحكم النيابي البرلماني للبلاد، وعودة الحريات العامة، ومنها حرية الصحافة، وقد وعد رجال الثورة بذلك، وجعلوه من مبادئهم الستة التي أعلنوها من أول الأمر.
وكان عبد الناصر يقول للإخوان: تريدون أن يعود حكم الباشوات، وحكم النحاس باشا وزينب الوكيل من جديد؟
وكان الأستاذ الهضيبي لا يكل ولا يمل من المطالبة بعودة الحياة الديمقراطية والنيابية للبلاد، ويرى أنه لا خلاص لمصر إلا بها، كما كان ينادي باستمرار بتحكيم الشريعة الإسلامية، واتخاذها مصدرا للتقنين.
كما وجد عنصر جديد زاد العلاقة توترا، والنار اشتعالا، وهو الاتفاقية الجديدة التي عقدها عبد الناصر مع بريطانيا، ولم يرها الإخوان محققة لكل آمال البلاد، بعثوا مذكرة مفصلة إلى حكومة الثورة برأيهم في الاتفاقية وملاحظاتهم عليها، وقد أغضب ذلك عبد الناصر، وزاد من تدهور الوضع.
ولم يكن الإخوان وحدهم هم الذين نقدوا الاتفاقية، فقد نقدها كذلك الرئيس محمد نجيب، وكان لا يزال رئيسا للجمهورية.
وأوعز عبد الناصر ببدء حملة صحفية إعلامية على الإخوان، وعلى الأستاذ وأعوانه خاصة؛ سعيا لإيجاد معارضة للمرشد داخل الجماعة، مؤيدة منه، ومسنودة من قبله، وهو ما حدث بالفعل.
وزاد الطين بلة: أن الصحف القومية التي كانت تتبع الحكومة -وكل الصحف كانت كذلك- بعد إلغاء جريدة "المصري" التي كانت لسان حزب الوفد.. هذه الصحف لم تكن تنشر ما يذيعه الإخوان من بيانات وردود على دعاوى الثورة عليهم واتهاماتها لهم، فلجأ الإخوان إلى إصدار نشرات سرية تشن حملات نارية على الثورة وزعيمها ورجالها.
وفي هذا الوقت قُبض على بعض الإخوان للتحقيق معهم، وتعرضوا لتعذيب بشع داخل السجن، أذكر منهم الأستاذ محمد المهدي عاكف، ولا أذكر من كان معه.
وازداد الجو سخونة حين اختفى المرشد من القاهرة، ولجأ إلى مخبأ لا يعرفه أحد إلا عدد محدود جدا من المقربين منه، وقيل: إن سبب اختفائه أنه كان مهددا بالاغتيال، ولا أحسب أن هذا هو السبب الحقيقي؛ فقد كان الهضيبي من الرجال الشجعان المتوكلين على الله، الذين لا يخشون شيئًا ولا أحدًا إلا الله.
وهنا أدع للدكتور ريتشارد. ت. ميتشل -مؤلف كتاب (الإخوان المسلمون) الذي ترجمه د. محمود أبو السعود، وعلق عليه عضو مكتب الإرشاد، والقريب من الأستاذ الهضيبي وصنع القرار في الجماعة الأستاذ صالح أبو رقيّق- يسرد هذه الحوادث، نقلا عن مراجعه؛ ليعيش القارئ معنا هذه الأجواء المكفهرة، يقول ميتشل (261-268):
أعلنت الحكومتان البريطانية والمصرية في 27 يوليو موافقتهما المشتركة على "موضوعات الاتفاقية" كأساس لمعاهدة جديدة تسوي النزاع المصري البريطاني التاريخي، وفي 31 يوليو نشرت صحيفة لبنانية في صدر عددها رأي رئيس الإخوان المسلمين في الاتفاقية، وكانت النقاط التي أثارها الهضيبي هي:
1- كانت معاهدة 1936 ستنتهي بعد فترة تقل عن السنتين؛ مما يحتم الجلاء عن القواعد دون أي ارتباط قانوني يسمح لهذه القوات بالعودة إليها، بينما تعطي المعاهدة الجديدة لبريطانيا هذا الحق؛ إذ تنص على حالة الرجوع إلى القاعدة حالة الهجوم على الدول العربية أو تركيا.
2- إن النص الخاص بالعودة حالة الهجوم على تركيا يربط مصر والدول العربية بهذه الدولة، وبالتالي بالمعسكر الغربي.
3- النص الذي يسمح لبريطانيا أن تحتفظ بقواعد جوية تهديد لمصر، كما أنه وسيلة لاستمرار السيطرة عليها في عصر الطيران الراهن.
4- إن "المدنيين" الذين ينتظر أن يساعدوا في تشغيل المنشآت بالقواعد هم بطبيعة الحال عسكريون في ثياب مدنية.
5- مدّ هذا الاتفاق معاهدة 1936 خمس سنوات أخرى، وسمح "بالتشاور" في إعادة النظر فيه عند انتهاء مدته، وهو نفس النص الذي جعل من معاهدة 1936 معاهدة دائمة في واقع الأمر.
وبناء على هذه الأسباب جميعا؛ فقد "رفض" الهضيبي الاتفاق، وأصر على وجوب عرض أي اتفاق بين مصر وأي حكومة أجنبية على "برلمان منتخب انتخابا حرا.. يمثل إرادة الشعب"، وعلى صحافة لا تخضع للرقابة، وتتمتع بحرية المناقشة.
كان أثر نقد الهضيبي الجريء الصريح لموضوعات الاتفاق مزعجًا ومقلقًا، وساءت الأمور إثر بيان طويل مفصل يحتوي على نقد الاتفاق أُرفق بخطاب بعث به حميدة نائب المرشد باسم مكتب الإرشاد في 2 أغسطس إلى عبد الناصر. وقد نُشر كذلك عن طريق جهاز النشرات السرية؛ فكان ذلك توثيقًا لحق الإخوان في إعلان رأيهم في الاتفاق، علاوة على كونه نقدًا له. وقد زاد من تعكير الجو إصدار نشرتين أخريين: إحداهما نقد للاتفاق، أمضاها محمد نجيب، ذكر فيها عدم صلته بالاتفاق، والثانية بإمضاء وزير سابق عُرف فيما بعد أنه "سليمان حافظ" الذي كان وزيرا للداخلية في وزارة نجيب الأولى. وقد انتقد فيها الحكومة بوجه عام. وكانت النشرتان صادرتين بأحرف مشابهة للمنشورات الأخرى ومطبوعتين على نفس الشاكلة وعلى ورق مشابه؛ مما يدل على أن مصدر النشر واحد، وهو مطابع الإخوان المسلمين، وقد سلمت النشرتان إلى عبد القادر عودة لنشرهما.
ظل التوتر الناشئ عن نقد مشروع الاتفاق مكتوما أثناء غياب الهضيبي الذي كان ما زال في سوريا وأثناء غياب عبد الناصر الذي كان بالسعودية من 7 -15 أغسطس لأداء فريضة الحج، ولحضور المؤتمر الذي اقتُرح عقده مؤخرا ليضم زعماء المسلمين في مكة. وعاد الهضيبي في 22 أغسطس، وفي نفس اليوم نظمت حملة صحفية تهاجم فيه موقفه من الاتفاق، واعتمدت في ذلك أساسا على التشهير بالهضيبي، مفصلة موقفه في "الاتفاق السري" الذي زعم أنه تفاوض فيه مع الإنجليز في فصل الربيع، والذي ادّعت الصحف أنه أعطى الإنجليز امتيازات أكثر مما أعطتهم الحكومة.
قوبل الهضيبي بترحاب حار في المركز العام مساء ذلك اليوم، وكتب رده الأول والأخير على تهمة المفاوضات السرية، وأرسل به في خطاب إلى عبد الناصر، كما تضمن هذا الخطاب رجاء بالسماح للإخوان المسلمين أن يعبروا عن آرائهم حتى "يستطيع الناس أن يحكموا علينا بأفعالنا وليس بأقوالك"، ومرة أخرى وزِّع هذا الخطاب في صورة منشور.
وفي اليوم التالي كان اجتماع الثلاثاء الأسبوعي، وكان آخر اجتماع من نوعه، وقد ساده التوتر. وقف الهضيبي أمام جمع غفير، فأعاد ما سبق ذكره يوم الأحد الماضي؛ ليعلم من لم يسمعه ذلك اليوم، مبديا تفاصيل رحلته وتفسيره للمحادثات مع تريفور إيفانز التابع للسفارة البريطانية (وهذا تم بعلم عبد الناصر وتشجيعه). ثم تناول موضوع توقف الصحيفة الأسبوعية التي كفت عن الصدور بعد عددها الثاني عشر، وأرجع ذلك إلى أن الرقابة جعلت صدور الصحيفة أمرا غير عملي، وأخذ شعور الإخوان يزداد التهابا كلما امتد الاجتماع، وبذل الهضيبي قصارى جهده ليحتفظ بالنظام، وتعمد التقليل من خطورة الموقف، مصدرا أمره في غضب؛ ليسكت الأعضاء الذين كانوا يقفون هاتفين بهتافات عدائية للحكومة، وعلا صوته فجاوز نبراته المعتادة حين توجه باللوم إلى شاب صاح بهتاف "الموت للخائنين"، ثم أنهى كلمته بعبارات هادئة كان لها أثر كبير على المجتمعين، مقررا أنه "مستعد لكل ما قد يحدث"، معلنا تمسكه بمبدأ أساسي للجمعية، وهو أن "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
كانت تلك آخر مرة رأى فيها الكثير من الإخوان مرشدهم، حتى اعتقل وقدِّم إلى المحاكمة بعد عدة أشهر، إذ حدث اصطدام مسلح بين المجموعتين خلال الأسبوع التالي سنتعرض له فيما يلي. واختفى الهضيبي واثنان من أقرب مستشاريه: حسن العشماوي، وصلاح شادي، إذ إنهما نصحاه بأن يجنب نفسه احتمال الاغتيال أو الاعتقال، وأيدهما آخرون في ذلك، وقد وجد في نفسه استعدادا للبعد عن مسرح الحوادث، إذ كان ما زال موقنا تماما أن في ذهابه خدمة للقضية وإنقاذا للموقف، وأقر مكتب الإرشاد غياب المرشد بإعلان أن المرشد في "إجازة". وبينما استغلت الحكومة اختفاء الهضيبي لتشتد في الحملة عليه شخصيا، لاقت مشقة في تأكيد عدم رغبتها في القبض عليه. وذلك حتى تبدِّد هالة أحاطت بشخصه وهو أنه ضحية لكيدها.
بدأت الحكومة منذ ذلك الحين في تطبيق سياسة هجومية ذات شعبتين: الأولى: إطلاق حملة صحفية ضخمة مستمرة ضد الهضيبي "وعصابته" وسياستهم. والثانية: تشديد الأمن وفرض رقابة شديدة تصل أحيانا إلى حد الاستفزاز على النشاط القليل الذي ظل الإخوان يمارسونه.
كان للحملة الصحفية مظهران:
1- أخذت افتتاحيات الصحف الحكومية تجيب على النشرات السرية التي ملأت الشوارع أو تنفي ما تذكره، ولو أنها لم تكن تذكر كل ما ينشر كاملا أو على صحته.
2- كانت الصحف تنشر كل يوم تقريبا أعمدة تشتمل على خطابات تزعم أن الحكومة تلقتها من الإخوان يستنكرون فيها موقف الهضيبي خاصة أو الجمعية عموما بعدائهم لمجلس قيادة الثورة، وهي طريقة تقليدية تتبع في مصر لزعزعة الثقة في الخصم السياسي، أو لإقامة مهرجان يدعو لشيء أو ضد شيء.
كان بث هذه الأخبار في الصحف والمجلات مبررا لتشديد الأمن حتى إذا جاء يوم 28 أغسطس نشرت الصحف بالخط العريض تقارير من وزارة الداخلية عن هجوم قام به الإخوان المسلمون على "البوليس والشعب" عقب صلاة الجمعة في مسجد الروضة، وجاء في التقرير: أنه عقب إلقاء خطبة قُصِدَ بها إثارة العنف خرج الإخوان من المسجد وهاجموا البوليس والجمهور، على أن الذي حدث فعلا يختلف في جوهره عن ذلك بعض الشيء، إذ كانت الخطبة التي ألقاها أحد زعماء الطلبة، وكان صديقا لعبد الناصر (وهو حسن دوح زعيم طلبة الجامعة)، عبارة عن نداء يدعو إلى الهدوء وإطلاق الحريات، تخللته استشهادات من القرآن والحديث، ثم انتهت التلاوة وأخذ فريق من المصلين يتفرقون قبل محاولة استفزازية قام بها البوليس الذي ترأسه ضابط من الجيش (وكان البوليس قد وصل أثناء الصلاة وأحاط بالمسجد) إذ أراد القبض على الخطيب فأثار الناس؛ مما "برر" استعمال القوة بما في ذلك إطلاق نار البنادق لتهدئة الموقف.
وفي 10 سبتمبر ذكرت الصحف حادثا مشابها وقع في مسجد الإخوان في طنطا فقالت عنه: اعتداء الإخوان المسلمين على الجمهور، "وأن معركة قامت بالمسجد" حيث استعمل فيها الخطيب سكينا ضد معارضيه! وفي اليوم نفسه نفت الحكومة في الصحف خبرا لم يسبق نشره، ولكنه قد عرف في القاهرة بعد ساعات من وقوع الحادث، وهو اشتراك الحرس الوطني الذي تشرف عليه الحكومة بالاشتباك؛ مما أوحى إلى كثير من المراقبين أن الحادث كان مدبرا لإثارة الإخوان. وقد فرضت الحكومة بعد هذا الحادث الأخير الوسائل الكفيلة بجعل الخطابة في المساجد تحت رقابة شديدة عن طريق وزارة الأوقاف.
وفي أواخر سبتمبر وصلت الأزمة إلى ذروة مرحلة خطرة؛ إذ صدر قرار في 23 من الشهر من مجلس قيادة الثورة بنزع الجنسية عن ستة من المصريين بزعم أنهم أساءوا إلى سمعة بلادهم في الخارج، وأضروا بعلاقاتها مع جيرانها العرب، وكانت تهمتهم "خيانة الأمة"! وكان الستة جميعا في الخارج في ذلك الوقت وهم: سعيد رمضان، وعبد الحكيم عابدين، وسعد الدين الوليلي، ومحمد نجيب جويفل، وكامل إسماعيل الشريف (وهؤلاء جميعا من الإخوان المسلمين)، ثم محمود أبو الفتح وهو وفدي بارز وأحد أفراد الأسرة التي تملك الصحيفة الوفدية (المصري)، وقد اعتبر حليفا للإخوان، بجانب أمور أخرى اتُّهم بها.
أما الإخوان (الخمسة) فكانوا جميعا في سوريا في ذلك الوقت يحضرون مؤتمرا منعقدا في دمشق، واعتبروا مسؤولين عن ظهور منشورات صدرت عن المؤتمر تحت أسماء الجمعيات في العراق والأردن والسودان تدافع عن الإخوان ضد حكومة مصر، كما اعتبروا مسؤولين عن الحملة الصحفية العنيفة في سوريا ضد مجلس قيادة الثورة، وعن سيل الأخبار المستمر المتتابع من راديو إسرائيل حول النزاع في مصر، وتوترت العلاقات بين مصر وسوريا لسبب موضوع استمرار نشاط الإخوان في سوريا، ومستقبل من سلبت جنسيته منهم، حتى أدى الأمر إلى حملة مرّة على سوريا ظهرت في الصحافة المصرية؛ مما جعل رئيس وزراء سوريا ورئيس أركان حرب جيشها يسارعان بالقيام بزيارة شخصية لمصر.
وحوالي منتصف سبتمبر توقف عبد الناصر عن الظهور أمام الجمهور لفترة معينة؛ إذ كان مهددا في حياته؛ فلما أن بلغ ذلك الهضيبي كتب خطابا آخر موجها إلى رئيس الوزراء (يعني: عبد الناصر) ما لبث أن وزع أيضا في منشورات عامة، وقد طلب فيه إنهاء التوتر السائد عن طريق السماح بمناقشة كريمة للقضايا القائمة وفي جو من الحرية. كما طلب "بإيقاف الاستثارة" التي يتولاها بعض الناس والسلطات القائمة على تنفيذ القانون ضد الإخوان، وخاطبه بقوله: "إن من واجبك أن تحمي الناس، سواء أكانوا مصيبين أم مخطئين"، أما فيما يتعلق بالتهديدات العنيفة، فقد أكد الهضيبي لرئيس الحكومة أنه يستطيع أن يتجول بحرية ليلا أو نهارا وحده حيثما أراد، دون أن يخشى من "الإخوان المسلمين". ويبدو أن عبد الناصر وافق على ذلك، إذ إنه بدأ في أواخر الشهر يظهر في المناسبات العامة(1).
محاولة إخوانية للإنقاذ
وكان الأخ الأستاذ محمود عبد الحليم عضو الهيئة التأسيسية والحائز على رضا الطرفين، وغير المحسوب على أي منهما قد اتخذ مبادرة إيجابية، واتصل بعبد الناصر عن طريق رجليه إبراهيم الطحاوي وأحمد طعيمة، وكتب مذكرة في التقريب والمصالحة بين الطرفين. قبلها في الجملة عبد الناصر بشروط، وعرضها الأستاذ محمود على حشد إخواني كبير في منزل الأستاذ محمد جودة عضو الهيئة التأسيسية والتاجر المعروف، وصديق عبد الناصر.. وتبنى الحشد الإخواني هذه المذكرة، وإن كان للأستاذ البهي رأي ذكره ودافع عنه أمام هذا الحشد، وهو اقتراح خلع المرشد الأستاذ الهضيبي، والاستعاضة عنه بلجنة تدير الجماعة، حتى تختار مرشدا آخر، ورأى أن هذا هو الذي ينقذ الموقف. وعارضه الأستاذ محمود في هذا، وأنه ليس من الصواب ولا الحكمة أن نعرِّض الجماعة في مثل هذا الوقت لهذه الأزمة، وأن هذا سيحدث فتنة كبيرة، وفتقا قد لا يستطاع رتقه في الظروف الحالكة الحاضرة.
واختار الحاضرون وفدا يمثل الإخوان للقاء عبد الناصر مكونا من: خميس حميدة، وعمر التلمساني، ود. عثمان نجاتي، محمد حلمي نور الدين، والشيخ أحمد شريت، ومحمود عبد الحليم. والتقوا مع عبد الناصر في بيته.
وعرض عبد الناصر موقفه من الإخوان، وموقف الإخوان منه منذ قامت الثورة في حديث طويل سرده في الجلسة المشتركة بينه وبين محمود عبد الحليم وعدد من الإخوان؛ مما دل على قوة ذاكرة الرجل، واستحضاره للأحداث، وتماسك شخصيته، كما يقول الأستاذ محمود، الذي يحسب أن العوامل النفسية كانت من أسباب هذه الأزمات، وأن الإخوان لم يفهموا نفسية عبد الناصر كما ينبغي. ولم يتعاملوا معه بالطريقة التي يمكن بها كسبه إلى صف الجماعة، ولا تؤلبه وتثير حقده عليهم.
القرارات التي اتخذت:
وأود أن أذكر هنا ما كتبه الأخ محمود عبد الحليم عن هذه الجلسة التاريخية وما تم فيها. قال رحمه الله:
في نهاية هذه الجلسة الطويلة المضنية كان لا بد لنا من الوصول إلى اتفاق محدد، وكان أملنا جميعا -نحن الإخوان- أن يكون اقتراحي الذي ذيلت به مذكرتي هو الذي يتم عليه الاتفاق. وتكون مهمتنا -نحن المجتمعين- أن نبحث تفاصيل تنفيذه، ولكن جمال فاجأنا في نهاية الجلسة برفضه هذا الاقتراح بل برفضه أي اقتراح للصلح قائلا: "إن الدعوة إلى إجراء صلح بيني وبينكم فات أوانها. ولم تعد الثقة التي هي أساس الصلح موجودة". وتناقشنا معه حول هذه النقطة نقاشا طويلا غير أنه أصر على الرفض.. وما كنا نملك شيئا بعد أن صار هو يملك كل أوراق اللعب في يده ونحن لا نكاد نملك منها شيئا.
قلنا: إذن لم كان هذا الاجتماع؟ ولو علمنا أنك ترفض الصلح لما أتعبنا أنفسنا. ولكن الأستاذ الطحاوي والأستاذ طعيمة أبلغانا أنك قرأت المذكرة ووافقت على ما جاء بها.. وعلى هذا حضرنا، فقال: أنا وافقت على المذكرة كمبدأ. فالصلح هدف، ولكنه الآن ليس الهدف المباشر. لكن الهدف المباشر الآن سيكون مقدمة للصلح؛ وإذا استطعتم أن تقوموا بأعباء الهدف المباشر انتقلنا إلى الصلح.
قلنا: وما هو الهدف المباشر؟
قال: كل الذي أستطيع أن أبذله لكم الآن: أن أعقد معكم هدنة؛ فإذا نجحتم فيها كان لكم أن تطالبوا بصلح.
قلنا: وما شروط هذه الهدنة؟
قال: هما شرطان:
1- أن توقفوا حملتكم على اتفاقية الجلاء.
2- أن توقفوا إصدار النشرات.
قلنا: ولنا شرطان مقابلان هما:
1- أن توقف الاعتقالات والتشريد.
2- أن توقف الحملة الصحفية.
قال: أنا موافق على شرطَيكم إذا وافقتم على شرطيّ.
قلنا: إننا موافقون.
قال: إذا نفذتم الشرطين فلنا اجتماع آخر بعد اجتماع الهيئة التأسيسية، أما إذا لم تستطيعوا تنفيذ الشرطين فلا اجتماع، ولا تلوموني بعد ذلك.
وهنا ختمت الجلسة، وخرجنا، وكلنا أمل في الوفاء بما اشترط علينا لنخرج بالدعوة من هذا المأزق الخطير الذي وضعت فيه.
يقول محمود عبد الحليم: كان مبيتي عادة حين أكون في القاهرة أن أبيت عند الأخ الحبيب -رحمه الله- الدكتور جمال عامر زميلي القديم في الدعوة وعضو الهيئة التأسيسية وصاحب صيدلية الصليبة بالقاهرة.. فلما ذهبنا في تلك الليلة إلى البيت وجدنا في انتظارنا الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل، الذي ابتدرني قائلا: إنني كنت في انتظارك على أحر من الجمر؛ لأنني أقدر أهمية هذه الجلسة، وأؤمل فيها خيرا للدعوة، وقد قدمت لأعرف منك ما تم فيها، وأعرف رأيك شخصيا في جمال عبد الناصر.. فحدثته بكل ما تم في الجلسة، كما شرحت له وجهة نظري في شخصية جمال عبد الناصر على الوجه الذي أجملته في هذه المذكرات، ولكنني أقرر أن ما حدثت به الأخ عبد العزيز لا بد أنه كان أوفى وأشمل، لا سيما وأنا أثبت ما أثبته في هذه المذكرات بعد مرور اثنين وعشرين عاما على هذه الأحداث.. وأذكر أنني أنهيت حديثي إلى الأخ عبد العزيز بقولي: إنني أرى أن شخصية جمال عبد الناصر كانت تستحق منا دراسة أكثر، وعناية في التعامل معها أكثر مما كنا نوليها.ا.هـ
ويبدو من سير الأحداث أن الأمور جرت في مسار آخر غير المسار الذي كان ينشده الأخ محمود عبد الحليم ومن وافقه من الإخوان فيما سماه (محاولة للإنقاذ). فقد كان الجو في داخل الإخوان متوترا ومشحونا ضد الثورة وعبد الناصر، ولهذا باءت هذه المحاولة للتقريب أو المصالحة أو الهدنة -التي قد تؤدي إلى مصالحة- بالإخفاق والفشل؛ نتيجة لتصلب القيادات في مواقفها، وتغليب التشدد على المرونة، والمواجهة على المقاربة؛ لأمر قدره العزيز العليم.
وقد عُرضت مذكرة الأخ محمود عبد الحليم على الهيئة التأسيسية، ولكن جرت الأمور على غير ما أراد صاحب المذكرة؛ فقد أخذ رأي الهيئة بالتصويت: أتعرض المذكرة عليها أم لا؟ فكانت الأغلبية مع عدم عرضها!(2)
كان هذا الانقسام في الصفوف العليا للإخوان، أما قواعد الإخوان بصفة عامة؛ فكانت مع المرشد، وذلك لأسباب ثلاثة:
الأول: أنها لا تدري شيئا عما يدور وراء الكواليس، ولا تعرف عن العلاقات الخاصة بين الإخوان والثورة ما يمكنها من الحكم؛ فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.
والثاني: أن النشرات السرية التي كانت تصدر في تلك الأيام كانت تعبئ الإخوان تعبئة شعورية عدائية للثورة ورجالها، ولا تسمح بأي تقارب أو مهادنة.
والثالث: ما كانت تقوم به الثورة ضد الإخوان على المستوى الإعلامي التحريضي، وعلى المستوى الأمني التضييقي.
اعتقال مفاجئ ليلة الامتحان
وقد كنت في هذه الأيام الساخنة المتوترة أتهيأ للامتحان في الفصل الثاني والنهائي في تخصص التدريس.
وقبل أول أيام امتحاني في تخصص التدريس حدث حادث مهم بالنسبة لي؛ فقد فتشت المباحث شقتنا التي نسكن فيها بشارع راتب باشا بشبرا، واعتقل زميلي الذي يعيش معي في حجرتي، وهو الأخ محمود نعمان الأنصاري، الطالب بكلية الآداب الذي ضبط بحوزته كمية من المنشورات المحظورة، وكانت الشقة تتكون من أربع حجرات كل حجرة يسكن بها شخصان. وكان محمود زميلي في نفس الحجرة فلما قبض عليه وسألوه: لمن هذا السرير في حجرتك؟ فقال: هو لفلان.
فانتظروني حتى عدت في المساء؛ ليسوقوني إلى قسم روض الفرج الذي نتبعه، وأنا لا أعلم شيئا عن المنشورات التي ضُبطت عند زميلي محمود. وهذه الأيام في غاية الأهمية عندي؛ لأنها أيام الامتحان النهائي لإجازة التدريس، بعد دراسة سنتين.
وقد أوصيت بعض زملائي في الشقة أن يتصلوا بأستاذنا البهي الخولي ليتوسط في الإفراج عني لأداء الامتحان، وأن يتم ذلك على وجه السرعة؛ فالامتحان في الساعة الثامنة صباحا.
وقضيت هذه الليلة الليلاء ساهرا، لم يغمض لي جفن، لا من أجل عشق ليلى وسُعدى، كما قرأنا للشعراء العشاق، ولكن خوفا على الامتحان الذي لو ضاع فربما لا أعوضه إلا بعد سنين أو ربما لا أعوضه أبدا؛ فقد كنا مهددين بالاعتقال ما بين حين وآخر. وإن كنت في ذلك الوقت محسوبا على جناح المعارضة الذي يمثله الأستاذ البهي ومن معه، ولكن أجهزة المباحث تعرف جيدا أن ولاءنا إنما هو للدعوة قبل كل شيء، بغض النظر عما يحدث بين قادتها من خلاف. وهذا ما كان يخيفني ألا تنجح وساطة أستاذنا البهي في الإفراج عني، ولكن القوم كانوا أذكى وأدهى، ويريدون للخلاف أن يتعمق وتمتد جذوره في الجماعة، فقبلوا الوساطة، ولا سيما مع إلحاح الأستاذ البهي.
وحوالي الساعة السابعة والنصف صباحا نودي علي بالإفراج، ولم أكد أغادر باب القسم، حتى ركضت ركض الفرس، لأصل إلى شارع شبرا، لآخذ أول سيارة أجرة (تاكسي)، لأصل بها إلى مقر الامتحان في (الدَّرَّاسة)، وقد دق الجرس، فظللت أعدو، حتى دخلت الفصل وأنا ألهث وأتصبب عرقا، وسمح لي بالدخول بعد مرور عدة دقائق. وأديت الامتحان على ما يرام، وقد شعرت بتوفيق الله تعالى لي في إجابتي عن الأسئلة، رغم أرقي الطويل تلك الليلة.
وربما كان ذلك هو الشيء الوحيد الذي كسبته من وراء الخلاف الذي حدث بين الإخوان، وإن كان الخلاف كما قال ابن مسعود شرا، ولكن كما قال تعالى: "وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" (البقرة: آية 216)
فترة قاسية علينا:
كانت تلك الأيام من أشق الأيام علينا، أنا وأخي أحمد العسال، وبعض شباب الدعوة، المتأثرين بالأستاذ البهي وشيوخ الدعوة المعروفين أمثال الشيخ محمد الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، والشيخ سيد سابق وأمثالهم، وقد كانت عواطفنا معهم من ناحية، يؤكدها عاطفة الإشفاق على الدعوة ومستقبلها: أن تدخل معركة غير متكافئة مع ثورة عسكرية متجبرة، معركة لا يعلم مصيرها إلا الله. فلو أمكن الصلح بين الجماعة والثورة، واللقاء في منتصف الطريق، بدل الصدام المجهول النتائج ربما كان ذلك خيرا.
وقد حاول الإمام الشهيد حسن البنا بعد حل الإخوان سنة 1948م أن يسلك كل السبل ليجنب الإخوان الصدام الدامي مع الحكومة، ولو تنازل عن بعض الأشياء في سبيل هذا الهدف، حتى إنه قَبِلَ أن يترك السياسة في تلك الفترة، ويتفرغ للتربية ونشر الدعوة.
وكان سيدنا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في غزوة الحديبية: "والله لا تدعوني قريش إلى خطة فيها صلة رحم وحقن للدماء إلا أجبتهم إليها".
وكان عمر رضي الله عنه قبل أن يتهيأ لفتح بلاد الروم يغريه القواد بما وراءها من مغانم ومكاسب، فيقول: "والله لمسلم واحد أحب إلي من الروم وما حوت".
كان الحرص على حقن دماء الإخوان، والضن بهم أن يدخلوا معركة غير معروفة المصير، هو الذي يسيطر علينا في تلك الفترة العصيبة.
وإن كانت عقولنا تقول لنا: هل صحيح أن الثورة تريد صلحا وتقاربا مع الإخوان؟ أو هي تريد شق صفهم وتمزيق جماعتهم، وضرب بعضهم ببعض؟
إن الذي يبدو من ظواهر الأمور أن الثورة تريد أن تنفرد بالسيطرة على مصر، وألا يشاركها في ذلك أحد، وأنها لا تقبل أن يكون للإخوان ولا غيرهم وجود مؤثر، إلا أن يصدِّقوا دعواهم، ويؤمِّنوا على دعائهم، ويمشوا في ركابهم، وهذا ما لا يرضاه أبناء الدعوة جميعا.
الحملة على القرضاوي والعسال
ومن الذكريات المؤلمة التي لا أنساها: أن الإخوان كانت لهم نشرة سرية تصدر في هذا الوقت تحت عنوان (الإخوان في المعركة) تهاجم الثورة ورجالها بعنف، وتتضمن المنشورات الثورية التي تصدر عن قيادة الإخوان مثل منشور عنوانه: "هذه الاتفاقية لن تمر" يعني: الاتفاقية التي عقدت مع الإنجليز، وآخر بعنوان: "خمسة وعشرون مليونا يباعون في سوق الرقيق". وكان ينسب إلى الأستاذ سيد قطب أنه محرر هذه المنشورات الثورية بقلمه.
وقد أذاعت هذه النشرة نبأ قالت فيه: إن القرضاوي والعسال قد مرقا من الدعوة، وانضما إلى ركب الخونة، وعلى الإخوان أن يحذروا منهما! وقد استجاب الإخوان لذلك حتى قابلني بعض الإخوة الذين كانوا يعتبرون من تلاميذي، فأعرضوا عني، ونأوا بجانبهم: وبعضهم قال لي: لم يعد بيننا وبينك رباط.
وهذا أمر شائع في الإخوان، أذكر أنه حين صدر أمر بفصل الشيخ الغزالي والأستاذ صالح عشماوي، والدكتور محمد سليمان، والأستاذ أحمد عبد العزيز جلال، وكنا في معتقل العامرية، وكنت أتحدث مع أحد وعاظ الإخوان المعروفين، وجاء ذكر الأخ الشيخ الغزالي، فقال: الغزالي لم يعد أخا لنا، لا هو ولا إخوانه المفصولون من الجماعة.
قلت: لم يعد أخا لنا في الجماعة، ولكنه بقي أخا لنا في الإسلام.
قال: إن عمله فصل ما بيننا وبينه.
قلت: هل يهدم تاريخ الشخص وجهاده كله بزلة واحدة يزلها؟ إن الله سبحانه لو عامل الناس بهذه الطريقة لدخلوا جميعا جهنم.
إن الرسول الكريم علمنا أن الإنسان تشفع له سوابقه، وتغتفر له بعض سيئات حاضره من أجل مآثر ماضية، وقد قال لعمر في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وقد ارتكب ما يشبه الخيانة للرسول وجيشه: "ما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فإني قد غفرت لكم".
من أجل جهاده في بدر غُفر له ما اقترفه في فتح مكة!
وأقول بأسف: لقد كان رجال المباحث أصدق في الحكم علينا من إخواننا الذين عرفونا وعرفناهم، وعايشونا وعايشناهم، فلم تخدعهم هذه المعارضة الظاهرة عن قراءة ما تكنه صدورنا من ولاء وعداء، أو حب وكره. ولهذا لم يترددوا في القبض علينا في أول فرصة، وتقديمي للمحاكمة.
وهذا ما يعاب على الإخوان: أنهم إذا أحبوا شخصا رفعوه إلى السماء السابعة، وإذا كرهوه هبطوا به إلى الأرض السفلى. والمفروض في الإنسان المؤمن -ولا سيما الداعية- الوسطية والاعتدال في الحكم على الناس، في الرضا والغضب، والمحبة والعداوة، فإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا أحب لم يحابِ من يحب بالكذب، وإذا عادى لم تبعده عداوته عن الصدق، كما قال تعالى: "وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى" (الأنعام: آية 152)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ" (النساء: آية 135)، "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: آية 135).
وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا".
على أن الكراهية هنا لا ينبغي أن يكون لها مورد، فإن اختلاف الناس في السياسات والمواقف كاختلافهم في الأحكام والفقه، والواجب هنا: أن تختلف الآراء ولا تختلف القلوب، وأن يعذر الإخوة بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه.
والمختلفون هنا يقال فيهم: مصيب ومخطئ، لا مؤمن ومنافق، أو صالح وفاسق، إذا حسنت النيات، وصفت القلوب، وهذا ما يظن بأهل الدعوة إلى الإسلام، وإن اختلف بعضهم مع بعض.. فالمصيب منهم مأجور، والمخطئ معذور. بل المصيب مأجور أجرين، والمخطئ مأجور أجرا واحدا، إذا كان خطؤه ناشئا عن اجتهاد.
ولقد نهى السلف -رضي الله عنهم- عن الإسراف في الحب والبغض، وقالوا: لا يكن حبك كلفا، ولا يكن بغضك تلفا.
وفي الأثر: "أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما".
وفي القرآن الكريم: "عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (الممتحنة: آية 7) وهذه وردت في شأن المشركين المعادين، فما بالك بالمسلمين الموالين؟!
ولقد بينت الأيام فيما بعد أن لله حكمة في فصل الغزالي من الإخوان؛ فقد قدر الله تعالى له بهذا أن ينجو من المحنة التي أصابت الإخوان في سنة 1954م وما بعدها، وأن يبقى حرا طليقا يتجول في أنحاء مصر داعيا إلى الله وإلى دينه القويم.
وظل الغزالي طوال سنوات المحنة لسان الدعوة الناطق بالصدق، الصادع بالحق، المقاوم لأباطيل الماركسيين والعلمانيين. ولم يكن أحد يجرؤ على أن يتهمه بمعاداة الثورة، أو بموالاة الإخوان، وقد فصلوه رسميا من جماعتهم. وقديما قالوا: رب ضارة نافعة. وقال تعالى: "فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" (النساء: آية 19).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق