تناولنا في الحلقات الأربع السابقة قصة نشأة بيل جيتس وصعود شركة مايكروسوفت والمشاكل التنافسية التي صادفتها في تكنولوجيا الإنترنت وانعكاسات هذه الأحداث على فلسفة جيتس المتعلّقة بالتوجهات الاجتماعية والاقتصادية التي تنتظر العالم بسبب ثورة المعلومات· وعرضنا بشيء من التفصيل لمصطلحين وضعهما جيتس في هذا الصدد هما أسلوب ويب في العمل و أسلوب ويب في الحياة تنبأ من خلالهما بالتغيّرات الحاسمة التي ستشهدها المجتمعات العالمية بتأثير الإنترنت وثورة المعلومات· وناقشنا المعالجات النقدية التي تصدّى بها روبرت هيلير لبعض طروحات جيتس التي كانت تتنافى مع واقع الأحوال أحياناً أو يتناقض بعضها مع بعض الآخر في أحيان أخرى·
وكان من الضروري التركيز أيضاً على مناقشة مشروع النظام العصبي الرقمي الذي يعود لجيتس الفضل في وضع أسسه والتبشير بعصره المقبل الذي سيغيّر أساليب العمل والإدارة والإنتاج بشكل جذري، وحيث أشار جيتس إلى أن هذا العصر الذي أصبح الآن على الأبواب سوف يشهد انقلاباً كاملاً في أساليب إدارة الأعمال والخدمات من خلال الاستفادة من التدفّق الدائم للمعلومات في كافة أرجاء المؤسسات بما يحقق لها قدرة استثنائية على الوقوف على مشاكل الإنتاج والضرورات التي يقتضيها تحقيق رغبات الزبائن وربح معركة المنافسة في الأسواق· كما عرضنا في الحلقة الرابعة للطروحات والتعاليم التي وضعها جيتس لبناء أسس ما أطلق عليه هيلير الجمهورية الإدارية الفاضلة في عصر المعلومات ·
ونعرض في هذه الحلقة للتعاليم التي وضعها جيتس كشرط لنجاح المؤسسات الإنتاجية والخدماتية في الأسواق، وللرؤية الناقدة التي قيّم بها هيلير هذه الطروحات والأفكار·
من بين المزايا الشخصية المتعددة للعبقري بيل جيتس والتي يصعب عدّها أو حصرها، احتكامه إلى قدرة فذّة على الاستفادة من الأخطاء والتعلّم من الدروس· ولم تكن مايكروسوفت تهتمّ بتحليل أسباب ومقومات نجاحها بقدر ماكانت تهتمّ بتدارس أخطائها وعثراتها· كما لم يكن يجوز لأحد في مايكروسوفت أن يتجاهل عملية البحث والتمحيص في أسباب ودواعي الفشل في كل من هذه الحالات· وكانت الشركة تحرص على تصنيف وأرشفة أخطائها بأكثر من حرصها على أي شيء آخر· ويرى جيتس أن الأخطاء التي ترتكبها أية مؤسسة يجب أن تضاف إلى رأس المال العقلي الذي تمتلكه· ولم يكن هذا التوجّه لينطوي على أية فائدة لولا أن الشركة حضّرت نفسها منذ بداية تأسيسها لاستقاء الدروس من الأيام السود· ودأب جيتس على نشر مذكّرة سنوية تحت عنوان الأخطاء العشرة الكبرى في مايكروسوفت وتوزيعها على الموظفين كافة· ولم يكن الدافع الكامن وراء هذا السلوك هو اجترار الخطأ، بل يهدف إلى دفع المايكروسوفتيين إلى الاستفادة من الدروس· وعادة ماكان يخلص جيتس من تدارس هذه الأخطاء بعناية إلى أنها جميعاً تعود إلى البطء في استصدار الحكم السليم على الأمور وما ينتج عنه من تأخّر في دخول السوق·
وبالرغم من أن المستهلكين كانوا في الكثير من الحالات عاجزين عن اكتشاف الأخطاء التي كانت ترتكبها مايكروسوفت في صناعة برمجياتها، وعدم كفاية هذه البرمجيات في بعض الأحيان، إلا أن اكتشاف مايكروسوفت ذاتها لهذه الأخطاء كان يمثّل مصدراً غنياً للدروس المفيدة· وقد لايكون السبب الكامن وراء ذلك معقداً طالما أن مجرّد اكتشاف الخطأ يعني بالضرورة إسراع المهندسين والخبراء إلى إصلاحه· ولم يكن أي موظف في مايكروسوفت يعوزه الاقتناع من أن أي تباطؤ في إصلاح الأخطاء المكتشفة لابد أن يؤدي إلى خسارة الزبائن· وفي عام ،1999 ظهر الجيش العرمرم من موظفي مايكروسوفت في أقوى مظهر لهم من مظاهر القوّة بعد أن تمكنوا من جمع حصيلة هائلة لاتقدّر قيمتها بثمن من الخبرات والمعارف المستقاة من أخطاء سابقة ارتكبوها بأنفسهم عندما كانوا يضعون اللمسات الأخيرة على النسخة الأحدث من برنامج ويندوز والذي تضمن ملايين سطور الشفرة الرقمية، وبحيث يكون قادراً على التصدّي لعدد لايحصى من الفيروسات· وهو البرنامج الذي كتب له أن يحقق أضعاف النجاح الذي توقعوه منه·
وكان جيتس يفهم جيداً أن عملية اكتساب المعارف الجديدة وإخضاعها لخدمة الأهداف الجديدة لمايكروسوفت هي عملية لانهاية لها· ونظراً لأن المؤسسة الاحتكارية التي أقامها جيتس ذات طابع تجاري بأكثر مما تحمل من صبغة تكنولوجية، فإنه كان يعلم ضرورة استخدام كافة الوسائل المتاحة لجمع المعلومات وإدارة المعارف المتعلقة بالزبائن·
وكانت هناك مشكلة أساسية وعويصة أمام مايكروسوفت كمنظومة تعليمية، حيث كانت عاجزة عن معرفة كل شيء عن كل الزبائن، وكانت في عوز شديد حتى الى الكثير من الأمور المتعلقة بالتكنولوجيا الرقمية ذاتها بالرغم من أنها هي ميدان عملها وتخصصها· ولعل الحال هنا أشبه بحال ملاكم يصعد إلى الحلبة وهو مفتقر إلى معرفة فنيات خصمه العنيد، فهل هناك من منقذ له من السقوط بالضربة القاضية سوى الاحتكام إلى الذكاء والقدرة على الاستفادة من أخطائه وأخطاء خصمه؟·
وكانت كافة أدوات إدارة المعرفة في مايكروسوفت مسخرة لتعزيز دورها الرائد في مجالات الابتكار والإبداع المعنيّة بها· وكان وضعها مهدداً بما تتوصّل إليه الشركات المنافسة من ابتكارات وتطورات تكنولوجية من النوع الذي لم تكن لمايكروسوفت اليد الطولى فيها· ومن المعروف في عالم التنافس الصناعي والتكنولوجي أنه في بعض الحالات يمكن شراء المعارف الجديدة وتبنّي أساليب العمل المتبعة في استغلالها على المستوى التجاري، أو إقامة إتفاقيات الشراكة مع المؤسسات التي تمتلك حقوق استغلالها· وفضّل جيتس طرق هذين البابين معاً من أجل مواجهة التحديات التنافسية الخارجية· وسرعان ما اتضح عندئذ بأن جيتس كان يدافع عن نفسه من موقف شديد الضعف في السوق· وهكذا كان له أن يتعلّم درساً جديداً مفاده أن شركة المعرفة لايجوز لها أن تركن إلى الراحة حتى لدقيقة واحدة· وفي هذه الفترة العصيبة بالذات، توصل جيتس إلى نتيجة حاسمة تفيد بضرورة الالتزام بقواعد صارمة من أجل مجابهة كافة المواقف والهزّات المفاجئة في مؤسسة عصر النظام العصبي الرقمي لخّصها في الوصايا السبع التالية:
- عليك أن تتوقع من الآخرين دائماً القفز بإمكاناتهم الى الحدود التي يمكنها أن تضمن لهم التفوق عليك·
- ينبغي عليك الإسراع في تأمين المصادر العقلية وإدماجها في مؤسستك، وبما يكفي لإدارة شؤون العمل والإدارة كلها·
- عليك أن تستغل إمكانات موظفيك كلها حتى تحقق الفعالية القصوى لإنتاجيتهم·
- اعتمد على مواقع الإنترنت لتحديث المخزون المعرفي في مؤسستك دون انقطاع واجعل هذه المواقع قيد الاستعمال الدائم بالنسبة لكافة الموظفين دون استثناء·
- وظّف الأذكياء من الناس وادفعهم إلى البقاء على تواصل دائم فيما بينهم·
- تعامل مع كل إنسان في مؤسستك على أنه يمثل جزءاً ذكياً من منظومة العمل كلها·
- عليك باستقاء كافة المعلومات والمعارف المتعلقة بالزبائن وبشكل متواصل، والعمل على الاستفادة منها·
الاستثمار في البحث والتطوير :
ولم تكن الحقيقة التي تفيد بأن سرّ النجاح في الأسواق يعتمد أيضاً وبشكل أساسي على البحث والتطوير تغيب عن ذهن جيتس للحظة واحدة· وفي مجال صناعة البرمجيات، تغيّرت استراتيجيات مايكروسوفت في البحث والتطوير بشكل جذري بين النصف الأول والثاني من عقد التسعينيات· ففي بدايته كان التوجّه يتركّز على البحوث الأساسية التي ترمي إلى ابتكار الأساليب والأنظمة والطرق الجديدة، وأما في نصفه الثاني فلقد أصبح البحث يتجه إلى تطوير الأنظمة القائمة أصلاً وزيادة فعاليتها· وعندما شعر جيتس بالأزمة الشهيرة التي كادت تعصف بمايكروسوفت في بداية النصف الثاني من العقد الماضي بسبب تأخرها الشديد في تبنّي تكنولوجيا الإنترنت، أسرع ببناء طاقم جديد من الباحثين ضمّ 645 خبيراً توزعوا على خمسة مراكز رئيسية حول العالم بما فيها الإدارة العامة لمايكروسوفت في ريدموند بولاية واشنطن، وأيضاً في المدينة الجامعية الشهيرة التابعة لجامعة كمبريدج في إنجلترا·
وكان بعض عتاة البحّاثة من الذين استقدمهم جيتس إلى مايكروسوفت معروفين بصيتهم الذائع في مجال تطوير تكنولوجيا الإلكترونيات المصغّرة بمن فيهم جوردون بيل الذي يعود إليه فضل ابتكار خط الحواسيب المصغّرة الجديدة من نوع فاكس ، والتي استخدمت لتشغيل التجهيزات الرقمية اللازمة لتأسيس أول خطّ من الحواسيب القادرة على الاتصال ببعضها البعض· وكان بيل في الحقيقة عمل لمايكروسوفت لعدة سنوات قبل أن يقرر جيتس تأسيس مايعرف باسم المختبر الضخم للبحوث المستقبلية · وأعلن بيل عن اعتقاده من أن تخصيص مايكروسوفت مبلغ 100 مليون دولار فحسب لإجراء البحوث التي تضمن لها السيطرة على الأسواق في مجال البرمجيات، يعد استثماراً ضئيلاً للغاية في مشروع يُراد منه أن يسجّل عوائد هائلة للشركة في المستقبل· ولاشك أن جيتس كان يعلم ماينطوي عليه التعاون مع بيل في هذا المجال من أهميات استراتيجية طالما أن أول ترانزيستور يصلح للاستخدام في الكومبيوتر الحديث هو الذي ابتكرته مختبرات بيل التي كانت تملكها شركة إيه تي أند تي شفشء للاتصالات·
وكانت الأحداث اللاحقة كفيلة بإثبات مدى الدقّة التي ينطوي عليها هذا الحكم الذي أطلقه جوردون بيل مثلما سنرى الآن·
ويقول هيلير بأن جيتس كان يشدّد على التركيز على أن من يريد تحديد حقل البحث الذي سيخوض فيه، ينبغي عليه قبل كل شيء أن يحدّد الأهداف المرتجاة منه في مجال خدمة المستهلكين والفوز بنصيب كبير من عوائد الأسواق· وكان أحد أهداف مايكروسوفت المعلنة في هذا الصدد هو إلغاء لوحة مفاتيح الكومبيوتر من خلال ابتكار نظام يسمح للحواسيب الشخصية بتفهّم الكلام والاستجابة للأوامر الصوتية· وهذا مادفع الباحثين إلى التركيز على خمسة توجّهات رئيسية في هذا المجال هي : معالجة اللغة، وتكنولوجيا تمييز الكلام، وتأسيس التكنولوجيات التي تبني العلاقة بين الكومبيوتر ومستخدمه، وابتداع تطبيقات معالجة اللغات· وكان على بيل جيتس في هذه المرحلة بالذات أن يدفع ثمناً باهظاً جديداً مقابل خطأ بسيط جداً في الحسابات والتوجّهات ارتكبه في غفلة من زمنه· فلقد استلزمت هذه التوجهات المعقدة الخمسة في البحث انصراف أكثر من 80 بالمئة من كبار باحثي مايكروسوفت في أواخر العام 1997 إلى الإعداد لهذه البحوث· ولكن مايكروسوفت لم تكن تشغّل فيها إلا 20 بالمئة فحسب من طاقتها البحثية في هذا المجال فيما انصرف الباقون إلى ابتداع الأساليب والأنظمة المتخصصة في زيادة عوامل الأمن والخصوصية في تكنولوجيا التجارة الإلكترونية·
وكان لهذه الهفوة الكبيرة أن تصيب مايكروسوفت بكارثة جديدة عندما سجّلت تأخراً كبيراً في تكنولوجيا تمييز الكلام المنطوق بالمقارنة مع ماسجّلته الشركات المنافسة من نجاحات خارقة في هذا الصدد· وفيما كانت الأنظمة التطبيقية لتمييز الكلام المنطوق من قبل الكومبيوتر والتي طرحتها الشركات الأخرى وعلى رأسها آي بي إم و دراجون سيستمز و كورتسفيل تسجّل مبيعات هائلة في الأسواق، كانت مايكروسوفت لم تزل غارقة في بحوثها المتعلقة بالتجارة الإلكترونية· وينطوي هذا المثال على أهمية كبرى لأنه يؤكد بأن مجرّد امتلاك الخبرات ومصادر المعلومات والإمكانات الهائلة لايكفي لتحقيق النجاح في أسواق اليوم التي تتميّز بحساسية بالغة إلى الحد الذي يجعل من أي خطأ في توجيه البحث يكلّف المؤسسة غالياً· وربما يكون السبب في هذا الذي حدث هو أن بيل جيتس لم يكن حتى ذلك الوقت قد تحدّث عن نظامه العصبي الرقمي الذي لم يكن له، لو استخدم على النحو السليم، أن يقود إلى مثل هذه الهفوة الكبيرة·.
النظام العصبي الرقمي هو الحل :
وهكذا يتضح أن من أهم الفوائد التي ينطوي عليها النظام العصبي الرقمي أنه يسمح بتدفق المعلومات والبيانات المتعلقة بالحاجات الحقيقية للأسواق إلى كل الفرق العاملة بالبحث وبشكل مستمر· وهو يقدّم أيضاً معلومات متكاملة حول المستهلكين وتوجّهات الشركات المنافسة لتلبية حاجاتهم· كما أن الجهاز العصبي الرقمي يحقق للمؤسسة إمكانية الاستجابة السريعة والمناسبة لحاجات الزبائن وتحدّيات المنافسين· ومنذ عام ،1999 أصبح جيتس يعتمد على النظام العصبي الرقمي لتنفيذ خطة مُحكمة ترمي إلى تحقيق تحوّل جذري في استراتيجيات مايكروسوفت·
ويقول جيتس بأن فهم النظام العصبي الرقمي، وإتقان أساليب استغلال تجهيزاته وبرمجياته لتحقيق الإدارة الناجحة للمؤسسات الإنتاجية أو الخدماتية لايحتاج إلى مستويات عالية من البراعة التقنية· وهو يذهب في هذا الطرح حتى إلى حد القول بأنك إذا كنت تعرف كيف تطبع على لوحة مفاتيح الآلة الكاتبة، وتجيد استخدام الهاتف، فإنك ستكون عندئذ قد امتلكت البراعات الأساسية لتشغيل النظام العصبي الرقمي والاستفادة منه في إدارة أعمال مؤسستك· ثم لايلبث جيتس أن يضيف إلى هذه المقولة رشّة خفيفة من التعقيد حيث يشير إلى أن الأمر يحتاج أيضاً إلى اكتساب مهارة خاصة في أربعة مجالات أخرى حتى ينطبق عليك لقب مدير شركة المعرفة البارع والفعّال · وهذه المجالات تتعلق كلها بالقدرة على معالجة المعلومات، وهي:
- فهم المعلومات·
- معالجة المعلومات·
- تناقل المعلومات·
- ربط المعلومات·
ويمكنك أن تبدأ بفهم هذا النظام بالطريقة المبسّطة التالية:
تخيّل نفسك وكأنك تمثّل شركة تتألف من شخص واحد هو أنت (شركة أنا المحدودة!)، وحاول أن تصبح رجلاً عملياً في إدارة المعارف التي يمكن أن تتدفق إلى حاسوبك عبر الإنترنت· وبمعنى آخر، حاول أن تضع مبادىء وأسس خطتك الإنتاجية أو الإدارية قيد التنفيذ انطلاقاً من المستوى الشخصي الذي يعدّ أضيق مستوى بشري لأداء أي عمل على الإطلاق· ثم ابدأ بعد ذلك بجمع المعلومات التي تبرز مقوّماتها الإيجابية في تنفيذ الخطة التي رسمتها لشركتك· وينبغي عليك بعد ذلك تشجيع كلّ موظف في مؤسستك على تفهّم الأساس الجديد للعمل والاستفادة من المعلومات المتدفقة، وحثّه على الانصراف الذهني لأداء هذا العمل بكلّ ما أوتي من مقدرات ذهنية·
وعندما يبدأ الموظفون الأفراد باستيعاب هذه الطريقة فإنهم سرعان مايتعلموا كيف يستفيدون من الخبرات المشتركة المتراكمة عندهم· وفي هذه المرحلة بالذات سوف يلاحظون بأن النظام العصبي الرقمي أصبح مسخّراً لفتح آفاق لانهاية لها أمامهم لابتداع وتطوير أساليب معالجة المشاكل واتخاذ القرارات الصائبة لحلّها من خلال القدرات الكامنة فيه على زيادة قيمة حاصل الذكاء المشترك·
وحالما تقطع هذا الشوط الأول المهم من عملية تحويل مؤسستك إلى شركة المعرفة تكون قد أصبحت مديراً معرفياً · وهنا تأتي الخطوة التالية المتمثلة في تطبيق الوصايا الخمس التي حدّدها بيتر سينج· ويكون في غاية الأهمية في هذه الخطوة التالية أن تتفهّم هذه الوصايا جيداً، وأن تعرف كيف تطبقها بالدقة الكافية حتى تقف عملياً على الفوائد التي تنطوي عليها في مجال رفع مستويات الإنجاز لموظفيك إلى مستويات أعلى· ولابد لك أيضاً من تحقيق الانسجام الكامل بين هذه الوصايا وأسلوبك في إدارة هذه الشركة المعرفية الجديدة التي تكون قد أسستها· وتحمل هذه الوصايا الخمس صفة التعليمات التي يوجهها لك سينج من أجل تجاوز المرحلة الثانية في بناء منظومتك الجديدة التي تعتمد على النظام العصبي الرقمي، ولقد أوردها على النحو التالي:
- إرفع من مستوى كفاءتك الشخصية في مجال تفهّم تفاصيل هذا الأسلوب الجديد في العمل·
- إدفع النخبة المختارة من موظفيك المهرة لاتباع أسلوبك الجديد في الإنجاز·
- أظهر أمام موظفيك قناعتك التامة بالأسلوب العصري الذي تبنّيته للقفز بمؤسستك إلى أعلى مستوى·
- إعمل على تحقيق كافة الشروط اللازمة للرفع من قدرات موظفيك على التفكير·
- عليك أن تتأكد تماماً من أن نشاطاتك وقراراتك كلها تصبّ في النهاية في إطار مصلحة المؤسسة كلها من خلال تبنّي هذا الأسلوب العصري·
ويعدّ الجهاز العصبي الرقمي أداةً ممتازة لتحقيق طريقتين متكاملتين في التفكير· تكمن الأولى في تسخير فوائده العظيمة في العمل من أجلك، وترتكز الثانية على تعلّم الطرق التي تجعلك تبلغ مرحلة جني الفوائد الكاملة من هذه التكنولوجيا الجديدة·
وخلافاً لكل أنواع التكنولوجيات المسخّرة لتحقيق أغراض العمل والإنتاج، فإن النظام العصبي الرقمي يمثّل التكنولوجيا المتيسّرة لأي إنسان وبسعر زهيد· وهو يحقق لك الميزات الفورية التي تجعلك مجهّزاً في كل لحظة بالمعلومات الجديدة والمتجددة التي تتدفّق إلى مؤسستك لمدة 24 ساعة من كل يوم· ويفضّل هيلير إدراج هذه الفوائد في البنود الأربعة التالية:
- إنتاج واستقبال وإدخال وتخزين وتوزيع المستندات والمعلومات والبيانات من كافة الأنواع وفي كافة أرجاء المؤسسة·
- تبادل وتناقل المعلومات مع الموظفين والزبائن وشركاء العمل في أي مكان من العالم وبشكل مستمر لا انقطاع فيه·
- الاستقبال المستمر للمعلومات الفورية المتعلقة بسير العمليات المتعلقة بإدارة العمل والوقوف على نتائجها لحظة بلحظة·
- عقد الصفقات الإلكترونية الفورية مع المستهلكين وشركاء العمل·
وبالإضافة لما تحققه لك هذه التكنولوجيا العصرية من قدرة على إدارة أعمالك عبر العالم أجمع من وراء شاشة الكومبيوتر، فإنك سوف تلاحظ أنها طريقة يمكن الاعتماد عليها بكل ثقة باعتبارها الأكثر أمناً والأقل تكلفة· ولايبقى عليك بعد ذلك إلا أن تعمل على إيجاد الطرق المناسبة لاستبدال الأدوات والوسائل اليدوية في إنجاز العمل بأخرى رقمية·
هذا هو العالم الجديد لإنجاز الأعمال كما يرسمه ويتصوّره بيل جيتس· إنه عالم التدفّق الدائم للمعلومات، وهو أيضاً عالم لايعمل فيه المسيّرون والموظفون شيئاً على الإطلاق سوى الغرق حتى الآذان بتلقّي هذا السيل الذي لاينقطع من المعلومات والقيام بفرزها ومكاملة بعضها مع بعض لحوصلة معلومات وقرارات جديدة تعود لترفد هذا النهر المتدفّق·
وهذه هي صورة العالم الجديد الذي يبشّر بيل جيتس بقدومه الوشيك· ولكنّه عندما كان يرسم لنا هذه الصورة، لم تكن لتفوته أبداً الإشارة إلى أن هذا العالم لاينطوي على المفاجآت السارّة وحدها، بل إنه يعجّ بالأخبار السيئة أحياناً· ويبقى المهم في نظره أن يكون خدم النظام العصبي الرقمي مسلّحين أيضاً بالقدرة الخارقة التي ينطوي عليها هذا النظام لتحويل السلبيات المطلقة للإنجاز إلى إيجابيات مطلقة تصبّ في مصلحة المؤسسة·
جميع الحقوق محفوظة لجريدة الإتحاد الإماراتية
وكان من الضروري التركيز أيضاً على مناقشة مشروع النظام العصبي الرقمي الذي يعود لجيتس الفضل في وضع أسسه والتبشير بعصره المقبل الذي سيغيّر أساليب العمل والإدارة والإنتاج بشكل جذري، وحيث أشار جيتس إلى أن هذا العصر الذي أصبح الآن على الأبواب سوف يشهد انقلاباً كاملاً في أساليب إدارة الأعمال والخدمات من خلال الاستفادة من التدفّق الدائم للمعلومات في كافة أرجاء المؤسسات بما يحقق لها قدرة استثنائية على الوقوف على مشاكل الإنتاج والضرورات التي يقتضيها تحقيق رغبات الزبائن وربح معركة المنافسة في الأسواق· كما عرضنا في الحلقة الرابعة للطروحات والتعاليم التي وضعها جيتس لبناء أسس ما أطلق عليه هيلير الجمهورية الإدارية الفاضلة في عصر المعلومات ·
ونعرض في هذه الحلقة للتعاليم التي وضعها جيتس كشرط لنجاح المؤسسات الإنتاجية والخدماتية في الأسواق، وللرؤية الناقدة التي قيّم بها هيلير هذه الطروحات والأفكار·
من بين المزايا الشخصية المتعددة للعبقري بيل جيتس والتي يصعب عدّها أو حصرها، احتكامه إلى قدرة فذّة على الاستفادة من الأخطاء والتعلّم من الدروس· ولم تكن مايكروسوفت تهتمّ بتحليل أسباب ومقومات نجاحها بقدر ماكانت تهتمّ بتدارس أخطائها وعثراتها· كما لم يكن يجوز لأحد في مايكروسوفت أن يتجاهل عملية البحث والتمحيص في أسباب ودواعي الفشل في كل من هذه الحالات· وكانت الشركة تحرص على تصنيف وأرشفة أخطائها بأكثر من حرصها على أي شيء آخر· ويرى جيتس أن الأخطاء التي ترتكبها أية مؤسسة يجب أن تضاف إلى رأس المال العقلي الذي تمتلكه· ولم يكن هذا التوجّه لينطوي على أية فائدة لولا أن الشركة حضّرت نفسها منذ بداية تأسيسها لاستقاء الدروس من الأيام السود· ودأب جيتس على نشر مذكّرة سنوية تحت عنوان الأخطاء العشرة الكبرى في مايكروسوفت وتوزيعها على الموظفين كافة· ولم يكن الدافع الكامن وراء هذا السلوك هو اجترار الخطأ، بل يهدف إلى دفع المايكروسوفتيين إلى الاستفادة من الدروس· وعادة ماكان يخلص جيتس من تدارس هذه الأخطاء بعناية إلى أنها جميعاً تعود إلى البطء في استصدار الحكم السليم على الأمور وما ينتج عنه من تأخّر في دخول السوق·
وبالرغم من أن المستهلكين كانوا في الكثير من الحالات عاجزين عن اكتشاف الأخطاء التي كانت ترتكبها مايكروسوفت في صناعة برمجياتها، وعدم كفاية هذه البرمجيات في بعض الأحيان، إلا أن اكتشاف مايكروسوفت ذاتها لهذه الأخطاء كان يمثّل مصدراً غنياً للدروس المفيدة· وقد لايكون السبب الكامن وراء ذلك معقداً طالما أن مجرّد اكتشاف الخطأ يعني بالضرورة إسراع المهندسين والخبراء إلى إصلاحه· ولم يكن أي موظف في مايكروسوفت يعوزه الاقتناع من أن أي تباطؤ في إصلاح الأخطاء المكتشفة لابد أن يؤدي إلى خسارة الزبائن· وفي عام ،1999 ظهر الجيش العرمرم من موظفي مايكروسوفت في أقوى مظهر لهم من مظاهر القوّة بعد أن تمكنوا من جمع حصيلة هائلة لاتقدّر قيمتها بثمن من الخبرات والمعارف المستقاة من أخطاء سابقة ارتكبوها بأنفسهم عندما كانوا يضعون اللمسات الأخيرة على النسخة الأحدث من برنامج ويندوز والذي تضمن ملايين سطور الشفرة الرقمية، وبحيث يكون قادراً على التصدّي لعدد لايحصى من الفيروسات· وهو البرنامج الذي كتب له أن يحقق أضعاف النجاح الذي توقعوه منه·
وكان جيتس يفهم جيداً أن عملية اكتساب المعارف الجديدة وإخضاعها لخدمة الأهداف الجديدة لمايكروسوفت هي عملية لانهاية لها· ونظراً لأن المؤسسة الاحتكارية التي أقامها جيتس ذات طابع تجاري بأكثر مما تحمل من صبغة تكنولوجية، فإنه كان يعلم ضرورة استخدام كافة الوسائل المتاحة لجمع المعلومات وإدارة المعارف المتعلقة بالزبائن·
وكانت هناك مشكلة أساسية وعويصة أمام مايكروسوفت كمنظومة تعليمية، حيث كانت عاجزة عن معرفة كل شيء عن كل الزبائن، وكانت في عوز شديد حتى الى الكثير من الأمور المتعلقة بالتكنولوجيا الرقمية ذاتها بالرغم من أنها هي ميدان عملها وتخصصها· ولعل الحال هنا أشبه بحال ملاكم يصعد إلى الحلبة وهو مفتقر إلى معرفة فنيات خصمه العنيد، فهل هناك من منقذ له من السقوط بالضربة القاضية سوى الاحتكام إلى الذكاء والقدرة على الاستفادة من أخطائه وأخطاء خصمه؟·
وكانت كافة أدوات إدارة المعرفة في مايكروسوفت مسخرة لتعزيز دورها الرائد في مجالات الابتكار والإبداع المعنيّة بها· وكان وضعها مهدداً بما تتوصّل إليه الشركات المنافسة من ابتكارات وتطورات تكنولوجية من النوع الذي لم تكن لمايكروسوفت اليد الطولى فيها· ومن المعروف في عالم التنافس الصناعي والتكنولوجي أنه في بعض الحالات يمكن شراء المعارف الجديدة وتبنّي أساليب العمل المتبعة في استغلالها على المستوى التجاري، أو إقامة إتفاقيات الشراكة مع المؤسسات التي تمتلك حقوق استغلالها· وفضّل جيتس طرق هذين البابين معاً من أجل مواجهة التحديات التنافسية الخارجية· وسرعان ما اتضح عندئذ بأن جيتس كان يدافع عن نفسه من موقف شديد الضعف في السوق· وهكذا كان له أن يتعلّم درساً جديداً مفاده أن شركة المعرفة لايجوز لها أن تركن إلى الراحة حتى لدقيقة واحدة· وفي هذه الفترة العصيبة بالذات، توصل جيتس إلى نتيجة حاسمة تفيد بضرورة الالتزام بقواعد صارمة من أجل مجابهة كافة المواقف والهزّات المفاجئة في مؤسسة عصر النظام العصبي الرقمي لخّصها في الوصايا السبع التالية:
- عليك أن تتوقع من الآخرين دائماً القفز بإمكاناتهم الى الحدود التي يمكنها أن تضمن لهم التفوق عليك·
- ينبغي عليك الإسراع في تأمين المصادر العقلية وإدماجها في مؤسستك، وبما يكفي لإدارة شؤون العمل والإدارة كلها·
- عليك أن تستغل إمكانات موظفيك كلها حتى تحقق الفعالية القصوى لإنتاجيتهم·
- اعتمد على مواقع الإنترنت لتحديث المخزون المعرفي في مؤسستك دون انقطاع واجعل هذه المواقع قيد الاستعمال الدائم بالنسبة لكافة الموظفين دون استثناء·
- وظّف الأذكياء من الناس وادفعهم إلى البقاء على تواصل دائم فيما بينهم·
- تعامل مع كل إنسان في مؤسستك على أنه يمثل جزءاً ذكياً من منظومة العمل كلها·
- عليك باستقاء كافة المعلومات والمعارف المتعلقة بالزبائن وبشكل متواصل، والعمل على الاستفادة منها·
الاستثمار في البحث والتطوير :
ولم تكن الحقيقة التي تفيد بأن سرّ النجاح في الأسواق يعتمد أيضاً وبشكل أساسي على البحث والتطوير تغيب عن ذهن جيتس للحظة واحدة· وفي مجال صناعة البرمجيات، تغيّرت استراتيجيات مايكروسوفت في البحث والتطوير بشكل جذري بين النصف الأول والثاني من عقد التسعينيات· ففي بدايته كان التوجّه يتركّز على البحوث الأساسية التي ترمي إلى ابتكار الأساليب والأنظمة والطرق الجديدة، وأما في نصفه الثاني فلقد أصبح البحث يتجه إلى تطوير الأنظمة القائمة أصلاً وزيادة فعاليتها· وعندما شعر جيتس بالأزمة الشهيرة التي كادت تعصف بمايكروسوفت في بداية النصف الثاني من العقد الماضي بسبب تأخرها الشديد في تبنّي تكنولوجيا الإنترنت، أسرع ببناء طاقم جديد من الباحثين ضمّ 645 خبيراً توزعوا على خمسة مراكز رئيسية حول العالم بما فيها الإدارة العامة لمايكروسوفت في ريدموند بولاية واشنطن، وأيضاً في المدينة الجامعية الشهيرة التابعة لجامعة كمبريدج في إنجلترا·
وكان بعض عتاة البحّاثة من الذين استقدمهم جيتس إلى مايكروسوفت معروفين بصيتهم الذائع في مجال تطوير تكنولوجيا الإلكترونيات المصغّرة بمن فيهم جوردون بيل الذي يعود إليه فضل ابتكار خط الحواسيب المصغّرة الجديدة من نوع فاكس ، والتي استخدمت لتشغيل التجهيزات الرقمية اللازمة لتأسيس أول خطّ من الحواسيب القادرة على الاتصال ببعضها البعض· وكان بيل في الحقيقة عمل لمايكروسوفت لعدة سنوات قبل أن يقرر جيتس تأسيس مايعرف باسم المختبر الضخم للبحوث المستقبلية · وأعلن بيل عن اعتقاده من أن تخصيص مايكروسوفت مبلغ 100 مليون دولار فحسب لإجراء البحوث التي تضمن لها السيطرة على الأسواق في مجال البرمجيات، يعد استثماراً ضئيلاً للغاية في مشروع يُراد منه أن يسجّل عوائد هائلة للشركة في المستقبل· ولاشك أن جيتس كان يعلم ماينطوي عليه التعاون مع بيل في هذا المجال من أهميات استراتيجية طالما أن أول ترانزيستور يصلح للاستخدام في الكومبيوتر الحديث هو الذي ابتكرته مختبرات بيل التي كانت تملكها شركة إيه تي أند تي شفشء للاتصالات·
وكانت الأحداث اللاحقة كفيلة بإثبات مدى الدقّة التي ينطوي عليها هذا الحكم الذي أطلقه جوردون بيل مثلما سنرى الآن·
ويقول هيلير بأن جيتس كان يشدّد على التركيز على أن من يريد تحديد حقل البحث الذي سيخوض فيه، ينبغي عليه قبل كل شيء أن يحدّد الأهداف المرتجاة منه في مجال خدمة المستهلكين والفوز بنصيب كبير من عوائد الأسواق· وكان أحد أهداف مايكروسوفت المعلنة في هذا الصدد هو إلغاء لوحة مفاتيح الكومبيوتر من خلال ابتكار نظام يسمح للحواسيب الشخصية بتفهّم الكلام والاستجابة للأوامر الصوتية· وهذا مادفع الباحثين إلى التركيز على خمسة توجّهات رئيسية في هذا المجال هي : معالجة اللغة، وتكنولوجيا تمييز الكلام، وتأسيس التكنولوجيات التي تبني العلاقة بين الكومبيوتر ومستخدمه، وابتداع تطبيقات معالجة اللغات· وكان على بيل جيتس في هذه المرحلة بالذات أن يدفع ثمناً باهظاً جديداً مقابل خطأ بسيط جداً في الحسابات والتوجّهات ارتكبه في غفلة من زمنه· فلقد استلزمت هذه التوجهات المعقدة الخمسة في البحث انصراف أكثر من 80 بالمئة من كبار باحثي مايكروسوفت في أواخر العام 1997 إلى الإعداد لهذه البحوث· ولكن مايكروسوفت لم تكن تشغّل فيها إلا 20 بالمئة فحسب من طاقتها البحثية في هذا المجال فيما انصرف الباقون إلى ابتداع الأساليب والأنظمة المتخصصة في زيادة عوامل الأمن والخصوصية في تكنولوجيا التجارة الإلكترونية·
وكان لهذه الهفوة الكبيرة أن تصيب مايكروسوفت بكارثة جديدة عندما سجّلت تأخراً كبيراً في تكنولوجيا تمييز الكلام المنطوق بالمقارنة مع ماسجّلته الشركات المنافسة من نجاحات خارقة في هذا الصدد· وفيما كانت الأنظمة التطبيقية لتمييز الكلام المنطوق من قبل الكومبيوتر والتي طرحتها الشركات الأخرى وعلى رأسها آي بي إم و دراجون سيستمز و كورتسفيل تسجّل مبيعات هائلة في الأسواق، كانت مايكروسوفت لم تزل غارقة في بحوثها المتعلقة بالتجارة الإلكترونية· وينطوي هذا المثال على أهمية كبرى لأنه يؤكد بأن مجرّد امتلاك الخبرات ومصادر المعلومات والإمكانات الهائلة لايكفي لتحقيق النجاح في أسواق اليوم التي تتميّز بحساسية بالغة إلى الحد الذي يجعل من أي خطأ في توجيه البحث يكلّف المؤسسة غالياً· وربما يكون السبب في هذا الذي حدث هو أن بيل جيتس لم يكن حتى ذلك الوقت قد تحدّث عن نظامه العصبي الرقمي الذي لم يكن له، لو استخدم على النحو السليم، أن يقود إلى مثل هذه الهفوة الكبيرة·.
النظام العصبي الرقمي هو الحل :
وهكذا يتضح أن من أهم الفوائد التي ينطوي عليها النظام العصبي الرقمي أنه يسمح بتدفق المعلومات والبيانات المتعلقة بالحاجات الحقيقية للأسواق إلى كل الفرق العاملة بالبحث وبشكل مستمر· وهو يقدّم أيضاً معلومات متكاملة حول المستهلكين وتوجّهات الشركات المنافسة لتلبية حاجاتهم· كما أن الجهاز العصبي الرقمي يحقق للمؤسسة إمكانية الاستجابة السريعة والمناسبة لحاجات الزبائن وتحدّيات المنافسين· ومنذ عام ،1999 أصبح جيتس يعتمد على النظام العصبي الرقمي لتنفيذ خطة مُحكمة ترمي إلى تحقيق تحوّل جذري في استراتيجيات مايكروسوفت·
ويقول جيتس بأن فهم النظام العصبي الرقمي، وإتقان أساليب استغلال تجهيزاته وبرمجياته لتحقيق الإدارة الناجحة للمؤسسات الإنتاجية أو الخدماتية لايحتاج إلى مستويات عالية من البراعة التقنية· وهو يذهب في هذا الطرح حتى إلى حد القول بأنك إذا كنت تعرف كيف تطبع على لوحة مفاتيح الآلة الكاتبة، وتجيد استخدام الهاتف، فإنك ستكون عندئذ قد امتلكت البراعات الأساسية لتشغيل النظام العصبي الرقمي والاستفادة منه في إدارة أعمال مؤسستك· ثم لايلبث جيتس أن يضيف إلى هذه المقولة رشّة خفيفة من التعقيد حيث يشير إلى أن الأمر يحتاج أيضاً إلى اكتساب مهارة خاصة في أربعة مجالات أخرى حتى ينطبق عليك لقب مدير شركة المعرفة البارع والفعّال · وهذه المجالات تتعلق كلها بالقدرة على معالجة المعلومات، وهي:
- فهم المعلومات·
- معالجة المعلومات·
- تناقل المعلومات·
- ربط المعلومات·
ويمكنك أن تبدأ بفهم هذا النظام بالطريقة المبسّطة التالية:
تخيّل نفسك وكأنك تمثّل شركة تتألف من شخص واحد هو أنت (شركة أنا المحدودة!)، وحاول أن تصبح رجلاً عملياً في إدارة المعارف التي يمكن أن تتدفق إلى حاسوبك عبر الإنترنت· وبمعنى آخر، حاول أن تضع مبادىء وأسس خطتك الإنتاجية أو الإدارية قيد التنفيذ انطلاقاً من المستوى الشخصي الذي يعدّ أضيق مستوى بشري لأداء أي عمل على الإطلاق· ثم ابدأ بعد ذلك بجمع المعلومات التي تبرز مقوّماتها الإيجابية في تنفيذ الخطة التي رسمتها لشركتك· وينبغي عليك بعد ذلك تشجيع كلّ موظف في مؤسستك على تفهّم الأساس الجديد للعمل والاستفادة من المعلومات المتدفقة، وحثّه على الانصراف الذهني لأداء هذا العمل بكلّ ما أوتي من مقدرات ذهنية·
وعندما يبدأ الموظفون الأفراد باستيعاب هذه الطريقة فإنهم سرعان مايتعلموا كيف يستفيدون من الخبرات المشتركة المتراكمة عندهم· وفي هذه المرحلة بالذات سوف يلاحظون بأن النظام العصبي الرقمي أصبح مسخّراً لفتح آفاق لانهاية لها أمامهم لابتداع وتطوير أساليب معالجة المشاكل واتخاذ القرارات الصائبة لحلّها من خلال القدرات الكامنة فيه على زيادة قيمة حاصل الذكاء المشترك·
وحالما تقطع هذا الشوط الأول المهم من عملية تحويل مؤسستك إلى شركة المعرفة تكون قد أصبحت مديراً معرفياً · وهنا تأتي الخطوة التالية المتمثلة في تطبيق الوصايا الخمس التي حدّدها بيتر سينج· ويكون في غاية الأهمية في هذه الخطوة التالية أن تتفهّم هذه الوصايا جيداً، وأن تعرف كيف تطبقها بالدقة الكافية حتى تقف عملياً على الفوائد التي تنطوي عليها في مجال رفع مستويات الإنجاز لموظفيك إلى مستويات أعلى· ولابد لك أيضاً من تحقيق الانسجام الكامل بين هذه الوصايا وأسلوبك في إدارة هذه الشركة المعرفية الجديدة التي تكون قد أسستها· وتحمل هذه الوصايا الخمس صفة التعليمات التي يوجهها لك سينج من أجل تجاوز المرحلة الثانية في بناء منظومتك الجديدة التي تعتمد على النظام العصبي الرقمي، ولقد أوردها على النحو التالي:
- إرفع من مستوى كفاءتك الشخصية في مجال تفهّم تفاصيل هذا الأسلوب الجديد في العمل·
- إدفع النخبة المختارة من موظفيك المهرة لاتباع أسلوبك الجديد في الإنجاز·
- أظهر أمام موظفيك قناعتك التامة بالأسلوب العصري الذي تبنّيته للقفز بمؤسستك إلى أعلى مستوى·
- إعمل على تحقيق كافة الشروط اللازمة للرفع من قدرات موظفيك على التفكير·
- عليك أن تتأكد تماماً من أن نشاطاتك وقراراتك كلها تصبّ في النهاية في إطار مصلحة المؤسسة كلها من خلال تبنّي هذا الأسلوب العصري·
ويعدّ الجهاز العصبي الرقمي أداةً ممتازة لتحقيق طريقتين متكاملتين في التفكير· تكمن الأولى في تسخير فوائده العظيمة في العمل من أجلك، وترتكز الثانية على تعلّم الطرق التي تجعلك تبلغ مرحلة جني الفوائد الكاملة من هذه التكنولوجيا الجديدة·
وخلافاً لكل أنواع التكنولوجيات المسخّرة لتحقيق أغراض العمل والإنتاج، فإن النظام العصبي الرقمي يمثّل التكنولوجيا المتيسّرة لأي إنسان وبسعر زهيد· وهو يحقق لك الميزات الفورية التي تجعلك مجهّزاً في كل لحظة بالمعلومات الجديدة والمتجددة التي تتدفّق إلى مؤسستك لمدة 24 ساعة من كل يوم· ويفضّل هيلير إدراج هذه الفوائد في البنود الأربعة التالية:
- إنتاج واستقبال وإدخال وتخزين وتوزيع المستندات والمعلومات والبيانات من كافة الأنواع وفي كافة أرجاء المؤسسة·
- تبادل وتناقل المعلومات مع الموظفين والزبائن وشركاء العمل في أي مكان من العالم وبشكل مستمر لا انقطاع فيه·
- الاستقبال المستمر للمعلومات الفورية المتعلقة بسير العمليات المتعلقة بإدارة العمل والوقوف على نتائجها لحظة بلحظة·
- عقد الصفقات الإلكترونية الفورية مع المستهلكين وشركاء العمل·
وبالإضافة لما تحققه لك هذه التكنولوجيا العصرية من قدرة على إدارة أعمالك عبر العالم أجمع من وراء شاشة الكومبيوتر، فإنك سوف تلاحظ أنها طريقة يمكن الاعتماد عليها بكل ثقة باعتبارها الأكثر أمناً والأقل تكلفة· ولايبقى عليك بعد ذلك إلا أن تعمل على إيجاد الطرق المناسبة لاستبدال الأدوات والوسائل اليدوية في إنجاز العمل بأخرى رقمية·
هذا هو العالم الجديد لإنجاز الأعمال كما يرسمه ويتصوّره بيل جيتس· إنه عالم التدفّق الدائم للمعلومات، وهو أيضاً عالم لايعمل فيه المسيّرون والموظفون شيئاً على الإطلاق سوى الغرق حتى الآذان بتلقّي هذا السيل الذي لاينقطع من المعلومات والقيام بفرزها ومكاملة بعضها مع بعض لحوصلة معلومات وقرارات جديدة تعود لترفد هذا النهر المتدفّق·
وهذه هي صورة العالم الجديد الذي يبشّر بيل جيتس بقدومه الوشيك· ولكنّه عندما كان يرسم لنا هذه الصورة، لم تكن لتفوته أبداً الإشارة إلى أن هذا العالم لاينطوي على المفاجآت السارّة وحدها، بل إنه يعجّ بالأخبار السيئة أحياناً· ويبقى المهم في نظره أن يكون خدم النظام العصبي الرقمي مسلّحين أيضاً بالقدرة الخارقة التي ينطوي عليها هذا النظام لتحويل السلبيات المطلقة للإنجاز إلى إيجابيات مطلقة تصبّ في مصلحة المؤسسة·
جميع الحقوق محفوظة لجريدة الإتحاد الإماراتية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق