الخروج من السجن..
معارك حياتية لا بد من خوضها..
النونية مرة أخرى.. المباحث تحاكم الأشعار!!
رحلة البحث عن الدراسات العليا..
مدارس (فاكس) لتعليم اللغات..!!
وحدي في السنة الثانية..!!
معارك حياتية لا بد من خوضها..
النونية مرة أخرى.. المباحث تحاكم الأشعار!!
رحلة البحث عن الدراسات العليا..
مدارس (فاكس) لتعليم اللغات..!!
وحدي في السنة الثانية..!!
معارك حياتية لا بد من خوضها..
بعد صدور قرار الإفراج عنا -آخر فوج كان في السجن الحربي- وخروجنا من سجن القلعة، آخر محطة في اعتقالنا، نُقل كل منا إلى بلده، فمن كان من أهل القاهرة سُلّم إلى مباحث القاهرة، ومن كان من أهل الأقاليم في الوجه البحري أو الصعيد نقل إلى بلده، وتسلمته المباحث العامة في هذا البلد.
ونظرا لأن الذي تسلمني من منزل خالتي في طنطا، وسلمني إلى السجن الحربي هو: تفتيش مباحث المحلة الكبرى، فقد سلمت إلى طنطا أولا، ومنها إلى مباحث المحلة، ليؤخذ علينا التعهد اللازم بأن لا نمارس نشاطًا سياسيًّا، ولم يكن محمد شديد مفتش مباحث المحلة موجودًا ربما كان في إجازة، فأراحني الله من رؤية وجهه.
وفرغت من إجراءات المباحث، وكان بعض الأقارب ينتظرونني، فذهبت إلى قريتنا (صفط تراب) التي استقبلتني بالفرحة من الرجال، والزغاريد من النساء، وكان الناس ينظرون إليَّ كأنما ولدت من جديد. ألسنا راجعين من السجن الحربي الذي قيل فيه: الذاهب إليه مفقود، والراجع منه مولود؟
وبقيت أيامًا في القرية، كل يوم في بيت من بيوت الأقارب والأحباب الذين أولموا لي كل يوم بما لذّ وطاب، من الطعام والشراب، كأنما يريدون أن يعوضوني عن حرمان مدة الاعتقال.
وكان عليّ في تلك الفترة أن أخوض عدة معارك ضرورية لحياتي ومستقبلي، لا يسعني أن أدعها، ولعلّ تسميتها "رحلات بحث" أولى من تسميتها "معارك". فنحن في حاجة إلى أن نغير "لغة الصراع" إلى "لغة المسالمة".
وكانت الرحلة الأولى: رحلة البحث عن الدراسات العليا، فما ينبغي لمثلي أن يكتفي بالشهادة العالية وتخصص التدريس، وهو قادر على أن يرتقي إلى ما هو أعلى منها، وقد قال أبو الطيب:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمامِ
وينبغي أن يكون المسلم طامحًا إلى المعالي أبدًا، ولا يرضى بالدون، وفي الحديث الصحيح: "إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس الأعلى".
ويقول المتنبي أيضًا:
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجـوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
وإن كان هناك رجال يعشقون المال والثروة، وآخرون يعشقون الجاه والمنصب، فأنا رجل أعشق العلم والفكر.
ربما يقال: ولماذا لا تحصّل العلم عن طريق القراءة الخاصة والاطلاع؟
وأنا أقول: لا بد للإنسان من القراءة الخاصة طوال حياته، ولكن الدراسة المنهجية مطلوبة أيضًا لمن تيسرت له، لتعينه على تنظيم قراءته وتركيزها.
وكان عليّ رحلة أخرى تعتبر من "الضروريات" كما يقول الأصوليون في تقسيم المصالح التي جاء بها الشرع إلى ضروريات وحاجيات وتحسينات.
إنها رحلة البحث عن عمل أتعيش منه، فالله تعالى يقول: "وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ" (الأنبياء: 8)، وقال عز شأنه: "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ" (الفرقان: 20).
وما دام الإنسان جسدًا يأكل الطعام؛ فلا بد من السعي لإشباعه.
وإذا تم مقصود هذه الرحلة، فلا بد من رحلة بحث أخرى، وهي رحلة البحث عن بنت الحلال.
وهذا اقتضاني ألا أمكث في القرية طويلاً، وإن كان المكث فيها مريحًا ولذيذًا، وبعيدًا عن ضوضاء المدينة ومشكلاتها، فالإقامة فيها إقامة بين أهل وأقارب تحبهم ويحبونك.
لهذا توكلت على الله تعالى، وعدت إلى القاهرة، لأبحث فيها -أول ما أبحث- عن مسكن يؤويني، وإن لم يكن معي من المال ما أستأجر به هذا السكن، ولكن الثقة بالله قوية "ومن يتوكل على الله فهو حسبه".
وقد عشت فترة مع بعض إخواني وتلاميذي من أبناء المحلة: الأخ مدحت البسيوني وإخوانه وقد كانوا يسكنون في شبرا، فقد نزلت ضيفًا عليهم حتى أجد السكن الملائم، وقد وجدته في حدائق شبرا، شقة في البلكونة الثالثة، ثلاث حجرات نوم وصالة، بها حجرة بحرية، تطل على ميدان.
وقد استأجرتها بمبلغ ستة جنيهات، ثم خفضت بعد، على أن يسكن معي فيها أخي العسَّال، الذي لم يسكن في شبرا من قبل؛ إذ كان يسكن بالقرب من كلية الشريعة بالدَّراسة.
النونية مرة أخرى.. المباحث تحاكم الأشعار!!
الشيخ المراغي
بعد نحو شهرين أو ثلاثة من خروجنا من المعتقل، استدعيت من المباحث العامة، والاستدعاء من المباحث العامة لا يحمل وراءه خيرا في العادة، ولذا كنا نتوقع الشر أبدا من هؤلاء كما عودونا، وصدق الله إذ يقول: "وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا" (الأعراف: 58).
لهذا حين استدعوني لم أملك إلا أن أقول: يا رب سلم.
وذهبت إلى وزارة الداخلية في "لاظوغلي" وهناك أوصلوني إلى إدارة المباحث العامة، وإلى الضابط المسؤول عن الإخوان، والمعروف لهم، وهو: أحمد صالح داود، والحق أنه كان رقيقا معي، وقابلني مقابلة فيها كثير من اللطف، وقال لي: لقد جاءتنا تقارير عنك تقول: إنك ألفت في السجن الحربي قصيدة طويلة تهاجم فيها الثورة، وتحرض عليها، وكنت تلقيها على الإخوان، وقد حفظوها أو حفظها الكثيرون منهم، وإن هذه القصيدة بمثابة "منشور ثوري" ضد الرئيس عبد الناصر ورجال الثورة، فما قولك في هذا يا شيخ يوسف؟
قلت له: وهل يعقل مثل هذا الكلام؟ وهل كان أمامنا في السجن الحربي فرصة لقول الشعر؟ وهل كان معنا أوراق أو أقلام نكتب بها وفيها هذا الشعر؟
إن أي شاعر ينشئ شعرا يحتاج إلى قرطاس وقلم، حتى يقيد خواطره، قبل أن تتبخر، فكيف إذا كانت قصيدة طويلة كما تصفها؟ وأنت تعلم ماذا كانت عليه حالنا في السجن الحربي.
قال: لعل هذا كان في فترة البحبحة الأخيرة!
قلت له: هذه الفترة كنا فيها في غاية الاسترواح والانبساط، ولا توجد حوافز لأي شاعر في مثل هذه الحالة أن يكتب شعرا من النوع الذي تتحدث عنه.
قال: يعني أنفي حدوث ذلك.
قلت له: انف، ولا حرج عليك.
وخرجت من عنده، وأنا أحمد الله على السلامة، ولكني ساءلت نفسي: هل ما رددت به على ضابط المباحث جائز شرعا أم لا؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص في الكذب في مواضع معينة، لضرورات وحاجات خاصة، ومنها: الكذب في الحرب، فإن الحرب خدعة.
ونحن في حالة أشبه ما نكون بحالة الحرب مع رجال الثورة، وإن كانت حربًا من جانب واحد، فهم الذين يحاربوننا ويطاردوننا في كل مكان.
على أني لم أستعمل الكذب صراحة في ردي، ولكني استخدمت المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. فكل ردي كان بصيغة الاستفهام: هل يعقل كذا؟ وهل كان معنا ورق وقلم… إلخ؟
وماذا يصنع الإنسان أمام هؤلاء الجبابرة المستكبرين إلا أن يلوذ بالإنكار؟ فإن كنت معذورًا، فالحمد لله، وإن كنت مخطئًا، فأستغفر الله.
وأود أن أقول هنا: إن النونية بدأت تنتشر بين المهتمين بهذا اللون من الشعر، حيث نشرها بعض الإخوة من رواة القصيدة، الذين أفرج عنهم، وكانوا يروّونها لمن يثقون به. حتى إن الأخ الصديق، الشاعر الأديب، ابن دار العلوم: عبد الحفيظ صقر، أخبرني أن الشاعر الذي ذاع صيته في الآفاق هاشم الرفاعي، وكان زميلاً له، وقريبًا منه كان يحفظ كثيرًا من أبياتها ويرددها. وممن كانوا يحفظونها ويستشهدون بها في خطبهم من الخطباء المرموقين قبل نشرها في ديواني "نفحات ولفحات": الخطيب المفوّه الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله.
تأميم شركة قناة السويس:
وكان أهم حدث وقع في هذه الفترة من صيف 1956م وهزّ أركان العالم هو: إعلان الرئيس عبد الناصر -في 23 يوليو- تأميم شركة قناة السويس، والاستيلاء على كل أملاكها، والبدء في تسيير قناة السويس بمرشدين مصريين بدل الفرنسيين والإنجليز وغيرهم، الذين تخلوا في الحال عن معاونة السفن وإرشادها، ولم يتعاون مع المصريين في ذلك غير اليونانيين.
لقد شدّ هذا الإعلان انتباه الشرق والغرب، وصفق المصريون والعرب طويلاً لعبد الناصر، وكسب تأييدًا ساحقًا لموقفه هذا الشجاع، حتى الإخوان الذين خرجوا من المعتقلات منذ أسابيع قليلة، والذين لا يزال بعضهم قابعًا في سجون الواحات وغيرها، أيّدوا عبد الناصر.
وكنت أنا ممن أيده بصدق. وقد علمنا الله أن نكون عدولاً حتى مع خصومنا، كما قال تعالى: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة: 8).
وباتت مصر -وبات العرب معها- ينتظرون: ماذا سيفعل الغرب ممثلاً في بريطانيا وفرنسا في مواجهة عبد الناصر؟
هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة، وإن مع اليوم غدًا، وإن غدًا لناظره قريب.
رحلة البحث عن الدراسات العليا
الشيخ كشك
كان من مطالبنا -نحن شباب الأزهر- ونحن طلاب في المعاهد الثانوية: أن يُعاد فتح باب الدراسات العليا لطلاب الأزهر؛ ليجد المتفوقون والنوابغ فيها ما يحقق آمالهم، ويرضي طموحهم المتوثب، فليسوا أقل من غيرهم من زملائهم في الجامعات المصرية الأخرى من جامعات الدولة، مثل جامعتي القاهرة والإسكندرية.
وقد ازداد إصرارنا على هذا المطلب بعد أن انتظمنا في الدراسات الجامعية، وفي تخصص التدريس.
وكان الأزهر قد فتح باب هذه الدراسات من قديم أيام مشيخة الإمام المصلح الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، الذي ترك عهده بصمات في حياة الأزهر، وفي تطوير قانون الأحوال الشخصية.
فقد سنَّ نظام "تخصص المادة" في كليات الأزهر الثلاث: أصول الدين والشريعة واللغة العربية. وكانت الدراسة كلها مرحلة واحدة، يدرس الطالب دراسة منهجية على يد شيوخه، ثم يُعِدّ رسالة في موضوع من موضوعات التخصص يختاره، وتقره عليه الكلية.
وكان في كلية أصول الدين ثلاث شعب للتخصص: شعبة القرآن والسنة أو التفسير والحديث، وشعبة العقيدة والفلسفة وعلم الكلام، وشعبة التاريخ الإسلامي.
وكان في كلية الشريعة شعبتان: شعبة للفقه، وشعبة لأصول الفقه.
كما كان في كلية اللغة العربية -على ما أذكر- شعبتان: شعبة للأدب والنقد، وشعبة لعلوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة.
وكان الطالب يحصل بعد نجاحه على شهادة (العالمية من درجة أستاذ) أو (الأستاذية).
وكان قانون الأزهر يحتم أن يكون كل أساتذة الكليات في المستقبل من خريجي تخصص المادة، وأن يكون شيوخ المعاهد منها.
ودخل عدد كبير من أبناء الأزهر في كل الكليات هذا التخصص، وحصلوا على (الأستاذية) منها بدرجات متفاوتة بين الامتياز وما دونه.
ولكن للأسف لم يطبق معهم الأزهر ما قرره لهم القانون، فرأينا كثيرًا منهم يُعيَّنون في المعاهد الدينية، وقد درس لنا بعضهم في معهد طنطا.
وهذا ما جعل الأزهر يوقف تخصص المادة؛ إذ أصبح خريجوه أكثر من الحاجة، ووقفت معه مسيرة الدراسات العليا تلك السنين الطويلة؛ وهو ما جعلنا نطلب ونلح في طلبنا أن يُعاد فتحها من جديد؛ تسوية بين أبناء الوطن الواحد.
وشاء الله ألا يُستجاب لطلبنا ويعاد فتح الدراسات العليا من جديد إلا ونحن وراء الأسوار في السجن الحربي؛ فقد افتتحت منذ بداية السنة الدراسية 1955/ 1956، فلما خرجنا في النصف الثاني من شهر يونيو سنة 1956 كان أول ما شغلني هو قضية الدراسات العليا، فما كدت أقضي أيامًا في القرية للسلام على الأهل والأقارب حتى أسرعت الرحيل إلى القاهرة؛ لأبحث في إمكان لحاقي بركب الدارسين في تخصص المادة، وهل يمكن أن يسامحوني في تأخر التقديم نظرًا لظروف الاعتقال؟
وكان عميد كلية أصول الدين الفقيه العلامة الشيخ محمد علي السايس رحمه الله، فذهبت إليه، ودخلت عليه، وعرفته بنفسي، وشغفي من قديم بالدراسة العليا، وأني أستطيع أن ألتحق الآن بإخواني في السنة الأولى، وأن أدخل معهم الامتحان المقرر في سبتمبر أو أكتوبر؛ حتى لا تضيع عليّ سنة لا ذنب لي فيها.
فقال الشيخ برقة ولطف: يعلم الله يا ابني أني متعاطف معك غاية التعاطف، ولو كان الأمر بيدي لقبلتك منذ الساعة، ولكنا تحكمنا أنظمة حديدية لا تلين لأحد، ولا نملك إلا أن ننفذها ونخضع لحكمها، وهذه الأنظمة قد حددت مواعيد للقبول لا يجوز اختراقها، وقد انتهت منذ العام الماضي. فما عليك إلا أن تصبر الشهرين أو الثلاثة القادمة، وتقدم طلبك في الموعد المحدد أول السنة الدراسية القادمة. وتحتسب السنة التي ضاعت منك عند الله تعالى، الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة، بجملة ما ضاع منك بسبب ما نزل بك من ابتلاء، وأنا مؤمن بأن الله تعالى سيعوضك خيرًا عما فاتك، حسب سنته في خلقه.
وكانت كلمات الشيخ بردًا وسلامًا على صدري، وأزاحت عن نفسي همًّا كنت أشعر به من ضياع فرصتي بلا جرم مني.
وشاء الله ألا يمتحن طلاب السنة الأولى في الدراسات العليا بالأزهر في صيف سنة 1956م كما هو مقرر ومعتاد، بل أُجِّل وامتد إلى صيف 1957م. ولا أدري لأي سبب حدث هذا إلا التسيب الذي لا يبالي بمصالح الناس، واعتبار الأوقات أرخص من التراب في الطرقات. فما قيمة سنة تذهب في حياة الناس سدى، وتضيع هدرًا، دون أن يحاسب عليها أحد؟!
هذا مع أن سلفنا كانوا يقدرون قيمة الوقت، ويقولون: من علامة المقت إضاعة الوقت.. الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك. ويقولون: يا ابن آدم إنما أنت أيام مجتمعة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك!. ويقول ابن عطاء في حِكمه: "حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها، وحقوق في الأوقات لا يمكن قضاؤها؛ إذ ما من وقت يرد إلا ولله فيه عليك حق جديد، وواجب أكيد".
وقالوا: الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما!
وقيل لعمر بن عبد العزيز: يكفيك ما عملت اليوم، وأخِّر الباقي إلى الغد، فقال: لقد أعجزني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع عليّ عمل يومين؟!
هذه قيمة الوقت عند سلف الأمة، أما هؤلاء الخلَف -أو الخلْف- فهم يضيعون الأوقات بالسنة الكاملة على الناس، دون أن يشعروا أنهم اقترفوا عملاً سيئًا!.
التقديم لمعهد الدراسات العربية العالية:
وكان عليّ أن أستفيد من وقتي في دراسة أخرى متاحة، فعرفت من أخي وصديقي الجزائري محمد الأقصري أن الجامعة العربية افتتحت معهدًا للدراسات العالية، يعطي (دبلومًا) عاليًا في عدة شعب، ويمكن الحصول منه على الماجستير. وإنه قد قبل استثناء في قسم القانون والفقه الذي يرأسه القانوني الكبير الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري. وإن كان طلاب أصول الدين لا يُقبلون أساسًا فيه، لكن يُقبلون في شعبة اللغة والأدب، أو في شعبة التاريخ.
وكنت حريصًا على الالتحاق بقسم القانون؛ للاستفادة من علم الدكتور السنهوري ومنهجيته، ومقارنته بين الفقه والقانون، فقابلته وأبديت له رغبتي في الالتحاق بالقسم، واهتمامي الكبير بدراسة الفقه وتضلعي فيه، برغم تخرجي في كلية أصول الدين، ورجوت منه أن يستثنيني كما استثنى زميلي الجزائري: الأقصري. ولكن السنهوري اعتذر بلطف، وقال: إن القسم مفتوح لطلاب الحقوق، وطلاب الشريعة، وإنه اختار الأقصري لأنه جزائري، وأنه لا يستطيع أن يفتح هذا الباب للمصريين؛ خشية أن يجيئه آخرون لا يملكون ما أملك، فيطلبون منه قبولهم لديه كما قُبل فلان. وعبثًا حاولت أن أقنعه فلم يقتنع. ولا سيما أنه لا يعرف عني شيئًا. في حين قُبل الأخوان: أحمد العسال، وأحمد حمد في هذا القسم بسهولة؛ لأنهما خريجا الشريعة.
وقلت: قدَرُ اللهِ وما شاء فعل، ولا بد أن أختار أحد القسمين: قسم التاريخ الذي يشرف عليه المؤرخ الكبير الأستاذ الدكتور شفيق غربال.. أو قسم الدراسات الأدبية واللغوية الذي يشرف عليه الناقد الكبير الأستاذ الدكتور إسحاق موسى الحسيني، الذي عرفناه قبل من كتابه: (الإخوان المسلمون.. كبرى الحركات الإسلامية الحديثة).
وبعد استخارة واستشارة -وما خاب من استخار، ولا ندم من استشار- اخترت قسم اللغة والأدب، ولي فيهما باع أي باع، وقديمًا طلب مني كثيرون أن ألتحق بكلية اللغة العربية في الأزهر، أو بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة؛ لما عُرفت به من التعمق في علوم اللغة، وفي الأدب والشعر.
وكانت الدراسة في هذا المعهد ممتعة، فتحت لي آفاقًا جديدة في دراسة الأدب واللغة، لم تتح لنا في الأزهر.
كان يدرسنا مادة (القومية العربية) وهي مادة أساسية في المعهد أبو القومية العربية المعروف: الأستاذ ساطع الحصري، الذي كان هذا المعهد من ثمرة سعيه وجهده. الذي درّس لنا نظريات القومية المختلفة لدى الأوربيين، وأهمها: النظرية التي تقوم على اللغة والتاريخ. كما درس لنا (البلاد العربية وعلاقتها بالدولة العثمانية). وكذلك الأمير مصطفى الشهابي الذي حاضرنا في الفصل الثاني عن (الاستعمار) وأهدافه وآثاره في البلاد العربية.
كما درس لنا الشيخ أمين الخولي (قضايا لغوية) وهو أزهري محافظ على جبته وعمامته، ولكنه يتميز بعقل ناقد، ولكنه كثيرًا ما كان يبالغ في النقد، ويتحدى العلماء وإن أجمعوا. وقد ناقشته مرة واحتدَّت المناقشة حول ما قيل: إن أبا حنيفة لم يثبت عنده إلا 17 حديثًا، وقلت له: إن هذا كلام لا أصل له، وإن كتب الحنفية مليئة بالأحاديث، وإن لديهم محدثين كبارًا مثل أبي جعفر الطحاوي المصري، وإن أعظم كتب التخريج لأحاديث الفقهاء هو كتاب "نصب الراية" للزيلعي، وإن القول بأن أبا حنيفة لم يثبت عنده غير 17 حديثا ذكره ابن خلدون بصيغة التضعيف، ورد عليه ردًّا علميًّا قويًّا. ولكن يبدو أن الشيخ رحمه الله لم تعجبه مناقشتي، وحسبني ضمن المشايخ المغلقين.
وقد ناقشه زميلنا السوري عبد الكريم الأشتر حين استخف بابن جِنِّي وأئمة اللغة الكبار، واصطدم به، حتى ترك الشيخ القاعة محتجًا وغاضبًا.
وكان من أساتذتنا الدكتور محمد مندور الذي درسنا طوال الفصول الأربعة التي قضيناها في المعهد: الشعر المصري بعد شوقي. وجماعة (أبولّو). ود. مندور أحد النقاد الأدبيين المعروفين، وله في ذلك أكثر من كتاب.
ومنهم الأديب الناقد الكبير الدكتور عبد القادر القط، الذي درس لنا القصة المصرية، ابتداء من (زينب) قصة الدكتور محمد حسين هيكل.
ومنهم: الدكتور محمد النويهي الذي درس لنا فلسفة النقد الأدبي، وعلاقة النقد بالقيم الأخلاقية، ومدى التزام الفنان بالأخلاق، كما درس لنا (الاتجاهات الشعرية في السودان)، على ما أذكر.
ومنهم: الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد، الذي درس لنا: الاتجاهات الأدبية في فلسطين والأردن.
ومنهم: الأستاذ جميل صليبا الذي درس لنا: الاتجاهات الفكرية في بلاد الشام.
ومنهم: الأستاذ سامي الكيالي الذي درس لنا: النهضة الأدبية في حلب، على ما أذكر.
ونسيت من درس لنا (المذاهب الأدبية): الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية وغيرها، وكان من مراجعنا في ذلك: كتب الأستاذ غنيمي هلال من أساتذة دار العلوم.
وكان الدكتور الحسيني رئيس القسم نفسه يدرس لنا النهضة الأدبية في فلسطين، مُركزًا على علمين كانا متعاصرين من أعلام الأدب والنقد، وهما: إسعاف النشاشيبي، وخليل السكاكيني. وكان أولها أميل إلى مخاطبة القلب، والآخر أميل إلى مخاطبة العقل.
كما حدثنا عن بداية النهضة الفكرية والأدبية في بلاد العرب، مفندًا تلك الدعوى التي تقول: إن بداية النهضة بدأت بالحملة الفرنسية على مصر، مبطلاً تلك المقولة بأدلة عدة، منها: أن النهضة بدأت في تركيا من قبل منذ عهد الإصلاحات.. وأن هناك بدايات سبقت للنهضة في حلب وبيروت وغيرها من بلاد الشام.. وأن الاحتلال لا يمكن أن يبدأ نهضة في أي بلد، وأن الحملة الفرنسية لم تدُم أكثر من ثلاث سنوات في مصر، كلها مقاومة من شعب مصر وعلمائه، انتهت بهزيمتها ورحيلها عن مصر.
وقد أكد هذه المعاني ما قدمه العلامة الأديب المحقق محمود محمد شاكر في كتابه (الطريق إلى ثقافتنا)، وأن مصر كان فيها نهضة كبيرة على مستويات شتى، وفي أكثر من مجال في العلم واللغة والأدب والصناعة، وأن أعداء الأمة هم الذين أجهضوها.
على كل حال أعتقد أني انتفعت بالدراسات المتنوعة التي قدمت إلينا في المعهد من كبار العلماء والنقاد والأدباء في العالم العربي.
وكان يدرس معي عدد من أبناء البلاد العربية النابهين المتميزين، بعضهم كانوا مبعوثين من بلدانهم، منهم: الأديب عبد الكريم الأشتر من سوريا (الأستاذ الدكتور بعد ذلك). وكان هو الأول على دفعتنا. وزميله الأديب عمر الدقاق من سوريا أيضًا (الأستاذ الدكتور بعد ذلك)، والشاب المتألق صالح الحصين في قسم القانون، وهو مبعوث من المملكة السعودية (معالي الأستاذ صالح الحصين بعد ذلك). وكان الدكتور السنهوري معنيًّا به، راجيًا أن يكون له شأن في المملكة، وقد كان.
وقد انتهيت من دبلوم المعهد بعد أن أكملت دراسة السنتين في أربعة فصول، واستدعاني الأستاذ الدكتور إسحاق الحسيني رئيس القسم، وحثّني على أن أستمر في دراستي لنيل الماجستير، وقال: إن لديك استعدادًا قويًّا لمواصلة المسيرة، بل اتفق معي على الموضوع الذي أكتب فيه، وهو (النقد اللغوي) في مقابل (النقد الأدبي). ويريد: أن أعالج ظاهرة الأخطاء اللغوية الشائعة، التي عالجها الأقدمون مثل ابن قتيبة، ومثل الحريري في كتابه (درة الغواص في أوهام الخواص)، وعالجها المحدثون في كتب نشرت وفي المجلات، مثل كتابات العلامة الشيخ محمد علي النجار في مجلة الأزهر تحت عنوان (لغويات).
واتفقت مع الأستاذ الحسيني على التفكير الجدي في الموضوع، ولكني بعد تقليب الأمر على وجوهه، وبعد أن أصبحت مرتبطًا بالدراسات العليا في كلية أصول الدين، وما يتطلبه من جهد وتفرغ.. رأيت -بعد استخارة الله تعالى واستشارة أقرب الناس إلي- أنه ليس من الحكمة ولا من المصلحة تشتيت الجهد في أكثر من جهة بغير ثمرة تجتنى إلا كثرة الشهادات! وأن الخير كل الخير في عودتي إلى دراستي الأصلية في الأزهر، وحسبي ما حصلت من معرفة نافعة باللغة وبالأدب وباتجاهاته في البلاد العربية. وكان الخير فيما اختاره الله، فاعتذرت للدكتور الحسيني بانشغالي الآن بدراستي في كلية أصول الدين، وقد يكون لنا عودة في المستقبل إذا أذن الله.
كامل سعفان:
وفي المعهد التقيت زميلاً قديمًا، وأخًا كريمًا، وصديقًا حميمًا، غاب عني -كما غبت عنه- سنوات عدة منذ أنهى دراسته في معهد طنطا الثانوي، وغادره إلى كلية اللغة العربية، وقد ضمنا قبل ذلك: سكن مشترك في بيت واحد، وعمل مشترك من أجل قضية الأزهر، ومطالب الأزهريين، وتوجه مشترك؛ حيث جمعنا الأدب والشعر. ذلكم الصديق هو الأديب الشاعر المطبوع: الأستاذ كامل سعفان (الدكتور بعد) الذي أسعدني القدر بلقائه في المعهد، ففرحت به، وفرح بي، وأصرّ على أن يعزمني على الغداء في بيته، وأن يصحبني معه على الفور، وقد كان. وكانت جلسة طيبة، استعدنا فيها ذكريات الأمس، كما تحدثنا عن معاناة اليوم، ولم ننسَ آمال الغد، واستشرافات المستقبل.
وكان الأستاذ كامل قد تزوّج فلسطينية، وجد فيها سكنه وأمنه، وجعل الله بينهما مودة ورحمة.
وقد ودعته وشكرته، ثم فرقت بيننا الأيام مرة أخرى؛ حيث أُعرت إلى قطر، ثم انتهت الإعارة إلى إقامة، فتوطن وجنسية، وكنت أعرف أن الصديق كامل سعفان قد انضم إلى ركب (جماعة الأمناء) وهي الجماعة الأدبية التي أسسها الأستاذ أمين الخولي، وكانت لها مجلتها وأدبها ورجالها، وكان للأستاذ سعفان إسهامه معهم.
وأخيرًا عثرت على كتاب من أواخر ما أصدره، عنوانه (هجمة علمانية جديدة: محاكمة النص القرآني) وتحت هذا العنوان: محمد خلف الله 1947 ونصر أبو زيد 1999.
وفي هذا الكتاب وجدت صديقي كالعهد به؛ وفاء لدينه، وغيرة على حرماته، وتوقيرًا للعلم، واحترامًا للمنهج. وجدته لسان صدق، وجندي حق، يحامي عن القرآن، ويدافع عن الإيمان، ويدفع بالحقائق أباطيل الزيف والبهتان.
مدارس (فاكس) لتعليم اللغات
السنهوري
وكان من الأهداف التي اتفقت عليها أنا وصديقي أحمد العسال: أن نعمق معرفتنا باللغة الإنجليزية، وقد كنا بدأنا دراستها معًا في معتقل هايكستب على يد الأخ محمود عباس الطالب بكلية الهندسة، وهو من حلوان، وقد بدأ معنا شوطًا طيبًا، ثم توقفنا عندما انتقلنا إلى معتقل الطور.
ثم بدأنا دراسة الإنجليزية مرة أخرى في الكلية، درسها في الشريعة، ودرستها في أصول الدين، وكنا نمتحن فيها تحريريًّا وشفهيًّا، وكنت أحصل فيها على عشرين من عشرين، وقد شهد الذين درسوني بأن لديّ قدرة لغوية غير عادية، تتجلى في دراسة اللغة العربية، كما تتجلى في غيرها من اللغات؛ فالقدرة اللغوية لا تتجزأ.
ولكن اللغة إذا لم تُنمَّ بالممارسة والاستعمال فسرعان ما تنسى، وخصوصًا عندما تُعلَّم في الكبر؛ لهذا كنا ننادي في مؤتمراتنا لطلبة المعاهد بالأزهر: أن تعلموا اللغة الإنجليزية منذ المرحلة الابتدائية حتى تثبت. وقد قال أحد الحكماء: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر؛ يعني: إنه يثبت ولا يزول. قيل له: إن الكبير أوفر عقلاً، قال: ولكنه أكثر شغلاً.
ولهذا بادرنا بعد خروجنا من المعتقل أن نستفيد من وقتنا بالانتساب إلى (مدارس فاكس) لتعليم اللغات، وكان مقرها في شارع 26 يوليو في وسط القاهرة، وقدمنا طلبنا وقبلتنا، وحددت لنا 3 دروس في الأسبوع، وكان يدرسنا شاب أرمني متمكن حسن الطريقة: اسمه (هارولد)، وأذكر أننا حين سألنا عن اسمه، فقال: هارولد “نوت" ( not) ماكميلان -فقد كان رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت (هارولد ماكميلان)-.
وكان حرصي على تعلم الإنجليزية نابعًا من شعوري بحاجة العالم والداعية المسلم إلى تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس بلغاتهم؛ فالإسلام رسالة عالمية، ولكن كتابه نزل بلسان عربي مبين، وحديث رسوله بالعربية الفصحى، ولا يمكن إيصاله إلى العالمين إلا بتعلم لغاتهم لنبين لهم بلسانهم عن طريق الترجمة، وهو ما ذكره علماؤنا في قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" (إبراهيم: 4).
وهو ما برع فيه غير المسلمين، حتى رأينا النصارى ترجموا الإنجيل إلى مئات اللغات وآلاف اللهجات.
على أن في تعلم اللغات إضافة فكر آخر، وثقافة أخرى، وتجارب أخر للإنسان، ومن أجل هذا حثّ حكماؤنا وآباؤنا من قديم على تعلم اللغات، وقال الشاعر:
بقدر لغـات الـمرء يكثر نفعه فتلك له عند الملمات أعوان
فأقبل على حفظ اللغات ودرسها فكل لسان في الحقيقة إنسان!
وما أصدقها كلمة، وما أبلغها حكمة: كل لسان في الحقيقة إنسان؛ فكأن الإنسان الذي تعلم لغة أصبح إنسانين؛ فإذا تعلم ثلاثا أصبح ثلاثة أناسي، وهكذا...
ونحن نحاول أن نعوض هذا عن طريق قراءة المترجمات، ولكن ليس كقراءتها في لغاتها.
واشتهر عند المسلمين حديث يقول: "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم" ولم أرَ له أصلاً، حتى إن الكتب التي عنيت بما اشتهر من الحديث على ألسنة الناس لم تذكره. على أن معناه غير صحيح، إلا إذا فُسّر بمثل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة يهود، قائلاً: فإني لا آمنهم على كتابي؛ أي أنه يخاف أن يحرفوا الترجمة، ويغيروا المعاني تبعًا لأهوائهم ومصالحهم، فربما فسّر أمن المكر بمثل هذا.
فهذا ما جعلني أحاول أكثر من مرة أن أتقن اللغة الإنجليزية، ولكني لم أوفق في كل محاولاتي؛ إذ لم أستمر فيها، وتشغلني عنها الشواغل. كما حدث في هذه المرة.
فبعد مدة -حين أتيح لنا القبول في الدراسات العليا بالأزهر- أضحى أمامنا: الدراسة بالأزهر، والدراسة بمعهد الجامعة العربية، والدراسة بمدارس (فاكس)، والعمل الصباحي بوزارة الأوقاف؛ فلم نجد الوقت الكافي لهذه الأعباء كلها، فاضطررنا أن نتوقف عن الاستمرار في مدارس (فاكس).
العودة إلى الدراسة العليا بالأزهر:
بعد أن أُجِّل امتحان طلبة السنة الأولى في الدراسة العليا بالأزهر إلى صيف 1957م، وضاعت عليهم -وعلي معهم- سنة كاملة، أجري لهم الامتحان، ونجح من نجح، ورسب من رسب، وأصبح في مقدوري أن أتقدم بطلبي للالتحاق بالشعبة التي أريد.
أيّ الشعبتين أختار؟
وقد كان بكلية أصول الدين شعبتان، عليّ أن أختار إحداهما لأقدم طلبي إليها: شعبة علوم القرآن والسنة (أو التفسير والحديث) وشعبة العقيدة والفلسفة.
فمن كانت درجاته أعلى في مواد التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، قدّم أوراقه إلى هذه الشعبة، ومن كانت درجاته أعلى في التوحيد والفلسفة والمنطق، تقدم إلى الشعبة الأخرى. وهناك شرط: ألا تقل درجات الطالب في مواد الشعبة عن حد معين لا أذكره الآن، لعله ثمانون في المائة (80%)، وسبعون في المائة (70%) في التقدير العام.
وكانت كل هذه الشروط في كلتا الشعبتين عندي موفورة بأكثر من المطلوب، ولكني توقفت كثيرًا في ترجيح اختيار إحدى الشعبتين: أأختار شعبة القرآن والسنة؛ لأنها تصلني مباشرة بمصادر الإسلام الأصلية، وتتيح لي فرصة التعمق في دراستهما، وتصحيح ما طرأ على فهمهما من أغلاط، والرد على ما يثار حولهما من شبهات وافتراءات؟ ولا يمكن للعالم المسلم أن يكون عالمًا حقًّا إلا إذا أتقن علوم القرآن والحديث.
أم يا ترى أختار شعبة العقيدة والفلسفة بما فيها من إغراء بدراسة الفكر الإنساني، وتتبع المذاهب الفكرية، والمدارس الفلسفية، ودراسة أغوارها، والإحاطة بتناقضاتها، وكيف ينقض بعضها بعضًا، وتوظيف هذه المعرفة في خدمة الدعوة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، ومخاطبة الإنسان المعاصر باللغة التي يفهمها؟
الدكتور محمد يوسف موسى يحسم الأمر:
كان الاختيار بين الشعبتين صعبًا، وكان الأمر محيرًا لي، ولم يحسم هذا الأمر عندي إلا باستشارة أهل الذكر والخبرة، كما قال تعالى: "فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا" (الفرقان: 59)، وقال: "وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير" (فاطر: 14).
لهذا توكلت على الله، وعزمت على زيارة أستاذنا الدكتور محمد يوسف موسى، وكان بيني وبينه مودة، رغم أني لم أدركه في كلية أصول الدين، ولم أسعد بتدريسه لي، وإن كنا سعدنا بتدريس كتبه، درسها لنا غيره، وقد زرته قبل ذلك في منزله بالروضة، ورحّب بي مع أنه لم يكن يقبل زيارةَ مَن لم يأخذ موعدًا منه.
كان الدكتور موسى راهبًا من رهبان العلم والفكر، لم يتزوج غير العلم والمكتبة، وكان ضليعًا متمكنًا في علوم الفقه والشريعة، وعلوم الفلسفة والعقيدة، وقد حصل على الدكتوراة من فرنسا، ومن ثَم كان أهلاً لأن يستشار في قضيتي.
ذهبت إليه، وطرقت عليه الباب، ففتح لي، ورحّب بي. قلت له: سامحني أن جئتك بغير موعد سابق.
قال: ومتى جئت بموعد يا قرضاوي؟ بيتي بالنسبة لك مفتوح دائمًا.
قلت: جئت لأستشيرك في قضية في غاية الأهمية بالنسبة لمستقبلي، ولم أجد غيرك يفتيني فيها!
قال: خير.. ما هي؟
محمد حسين هيكل
قلت: أمامي اختياران في الدراسة العليا بكلية أصول الدين: علوم القرآن والسنة أو علوم العقيدة والفلسفة. وأنا مستوفي الشروط للدراسة في كلتا الشعبتين، وربما كانت درجاتي أعلى في شعبة الفلسفة، وقد احترت بينهما حيرة شديدة؛ فأيهما تختار لي يا أستاذ؟
فقال: اسمع يا يوسف، لقد عرفت أني عشت أكثر عمري في كلية أصول الدين أدرس الفلسفة ونظريات الأخلاق، وتاريخ الفلسفات، وما إلى ذلك، وألفت في ذلك ما ألفت من كتب، لعلك درست بعضها في الكلية.
قلت: نعم درسنا أكثر من كتاب، منها حول فلسفة الأخلاق، وتاريخها.
قال: ثم انتهى بي المطاف الآن إلى تدريس الشريعة الإسلامية في كليات الحقوق، وأحمد الله قد ألفت فيها عددًا من الكتب تلقاها أهل العلم والاختصاص بالقبول.
قلت: نعم، وقرأنا الكثير منها، وانتفعنا به.
قال: والآن أجد أن ما درسته من قبل في الفلسفة ومذاهبها ومدارسها الفكرية، كأنما كان تمهيدًا أو مقدمة لدراسة الشريعة؛ فالشريعة هي الغاية، وهي اللب والجوهر، وكل ما عداها يجب أن يكون وسائل إليها.
وأعتقد أنك قد درست في كلية أصول الدين من مذاهب واتجاهات الفلسفة الشرقية واليونانية والإسلامية والحديثة ما أطلعك على أصول الفكر الإنساني والمذاهب الفلسفية الكبرى، والنظريات الأخلاقية المختلفة، وأن لديك الآن من الإمكانات المعرفية ما تستطيع أن تتابع به حركة الفكر الإنساني في تطورها. وإنما الذي يحتاج إلى خدمة حقًّا هو: الشريعة وفقهها وأصولها، ومصدر الشريعة القرآن والسنة، إذا تضلعت في علوم القرآن والسنة أمكنك أن تخدم رسالة الإسلام حقًّا، وأحسب أن لك دورا -إن شاء الله- في الاجتهاد والتجديد لهذا الدين، أرجو ألا يخيب ظني فيه… إلى آخر ما قال رحمه الله رحمة واسعة.
وكانت كلمات الدكتور موسى أشعة من نور أزالت غياهب الشك والتردد والحيرة من ذهني ونفسي تمامًا، وأقنعتني ألا أبتغي بالقرآن والسنة بدلاً، ولا أبغي عنهما حولاً.
وودعت الأستاذ الكبير وشكرت له، ودعوت له من كل قلبي، وخرجت من عنده منشرح الصدر، مطمئن الضمير، مسدد الوجهة، مستبين الغاية والطريق.
التقديم لشعبة القرآن والسنة:
وقدمت إلى كلية أصول الدين في شعبة التفسير والحديث وعلومه.
وكان الذي يدرس لنا التفسير هو أستاذنا الشيخ أحمد علي أستاذنا في الكلية من قبل. والذي يدرسنا علوم القرآن هو أستاذنا الدكتور أبو شهبة، والذي يدرسنا الحديث هو شيخنا الشيخ محمد علي أحمدين، أستاذي في الكلية، والذي جرى بيني وبينه ما جرى في السنة الرابعة، ثم صالحني بعد امتحان التعيين في الشهادة العالمية، كما ذكرت ذلك من قبل. وكان الذي يدرسنا مصطلح الحديث هو أستاذنا الشيخ السماحي. وكان الكتاب المقرر هو "تدريب الراوي على تقريب النواوي" للحافظ السيوطي، وهو من خيرة الكتب في بابه.
وكنا نحو 30 طالبًا مسجلين في هذه الشعبة، بعضنا من خريجي أصول الدين، وبعضنا من خريجي الشريعة.
وكانت شروط الدراسة والامتحان صعبة ومعقدة؛ فمن رسب في الامتحان التحريري أو الامتحان الشفهي، أو امتحان التعيين؛ فقد سقط في امتحان السنة كلها، وليس له فرصة أخرى، وسقط حقه في الدراسات العليا في هذه الشعبة. وفي هذا من التشديد والتعسير ما فيه.
ناصر الدين الأسد
وهذا ما دفع أكثر طلاب الشعبة -أكثر من عشرين منهم- أن يقدموا قبل الامتحان إجازات مرضية؛ لإعفائهم من دخول الامتحان، ولكن فضيلة الشيخ الأكبر عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر قال: ليس معقولاً أن يمرض هؤلاء جميعًا في وقت واحد، واعتبر هذه الإجازات مفتعلة أو مزورة، ورفضها جميعا. والذي دفعهم إلى ذلك هو خوفهم من النتيجة؛ فإن من لم ينجح ضاعت عليه السنة، بل ضاع حقه نهائيًّا في الدراسة العليا في الشعبة.
وبقي 6 طلاب فيما أذكر دخلوا الامتحانات التحريرية والشفهية والتعيين، وكان الامتحان الشفهي في حفظ القرآن، وفي الحديث وعلومه، وكان التعيين في التفسير، وأذكر أن تعيين السنة الأولى كان في تفسير (آية الكرسي) سيدة آي القرآن.
وما زلت أذكر الأسئلة التي حاصرتني حول مسألة التفاضل بين آي القرآن، وهل في القرآن فاضل ومفضول؟ وما معنى أن هذه الآية أو هذه السورة أفضل عن غيرها؟ وهل الفضل راجع إلى موضوع الآية أو السورة أو إلى أمر آخر؟
وكان التعيين –كالعادة- امتحانًا لمدى معرفة الطالب بالعلوم الشرعية والعربية؛ فهو امتحان في اللغة والنحو والصرف والبلاغة والفقه والحديث والمنطق والتوحيد. ويجب أن يكون الطالب مستعدًّا لأي سؤال يوجه إليه مما يتصل بهذا العلوم كلها.
والحمد لله فقد وفقت في إجاباتي في امتحان التعيين، والامتحان الشفهي، وكذلك في الامتحان التحريري، وظهرت النتيجة بنجاحي وحدي في الشعبة، وكل زملائي للأسف أخفقوا: إما في الامتحان التحريري، وإما في الامتحان الشفهي أو التعيين. ومعنى رسوبهم: أنهم (شطبوا) من هذه الشعبة إلى الأبد، ولم يَعُد لهم أي حق في استئناف الدراسة. وهذا تشديد وتعقيد لا ضرورة له فيما أرى، ولا أرى أي جامعة تعامل طلابها بمثل هذه القسوة، والحمد لله الذي نجاني بفضله من هذا البلاء، وهداني بنوره في هذه الظلماء، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وحدي في السنة الثانية!!
ساطع الحصري
وفي السنة الثانية كنت وحدي في الشعبة، فإذا حضرت وُجِدت الشعبة، وإذا غبت فقدت. ولذا كان شيوخي يقولون لي: مر علينا ولو في كل أسبوع مرة (تحلة القسم) حتى نقول: حضرنا ودرسنا. وكنت أفعل ذلك كلما استطعت.
وفي هذه السنة مر علينا -وأنا أدرس الحديث عند الشيخ أحمدين- فضيلة شيخنا الشيخ صالح شرف، السكرتير العام للمعاهد الدينية، وهو الرجل الثالث في الأزهر بعد شيخ الأزهر ووكيل الأزهر، وقال له الشيخ أحمدين: هذا الشيخ يوسف القرضاوي الذي صفته كذا وكذا. ولو كان الأمر بيدي لأعطيته الأستاذية من اليوم.. قال ذلك الشيخ أحمدين بحسن نية، وهو لا يعرف الأزمة التي حدثت لي معه أيام امتحان الشهادة العالمية. ولكن الشيخ صالح شرف كان عالمًا فاضلاً لم يعتبر في هذا الكلام أي تحدٍّ له.
وكنت قد نقلت إلى الأزهر بعد مجيء الشيخ شلتوت شيخًا للأزهر، محاولاً أن أجمع بقدر الإمكان بين ما يطلبه مني الأزهر من أعباء كلفنا بها الدكتور محمد البهي الذي كنا نعمل معه في الإدارة العامة للثقافة الإسلامية، وبين الحضور الممكن في شعبة القرآن والحديث في كلية أصول الدين.
وجاءت الامتحانات، وانتهت بسلام، وانتقلت إلى السنة الثالثة والأخيرة في الدراسات المنهجية المطلوبة للحصول على درجة الأستاذية أو (الدكتوراة).
السنة الأخيرة وبحث الشفاعة:
وفي السنة الأخيرة كان علي -مع الامتحان التحريري والشفهي والتعيين- امتحان آخر، هو تحضير موضوع يحدد للطالب، يعدّ مادته في ظرف أسبوع أو عشرة أيام، على ما أذكر، ويلقيه في صورة محاضرة عامة أمام لجنة من كبار الشيوخ، تسأله في الموضوع بعد إلقائه، ويدعى جمهور من الطلاب والدارسين لشهود المحاضرة، وهي عادة تكون في قاعة الشيخ محمد عبده.
وعندما جاء الموعد حُدِّد لي موضوع في الحديث، هو (أحاديث الشفاعة في صحيح البخاري) وما قيل حولها من كلام بين أهل السنة والمعتزلة.
وقد قرأت الموضوع في شروح البخاري ومسلم، وفي كتب التفسير، وفي كتب علم الكلام، ولا سيما الموسعة منها، مثل شرح المقاصد للسعد التفتازاني، وشرح المواقف للشريف الجرجاني. وكتبت فيها كراسة كاملة. وألقيتها محاضرة مرتجلة أمام لجنة من أربعة من كبار شيوخ الأزهر على رأسهم فضيلة الشيخ محمد نور الحسن وكيل الأزهر، ومن أعضائها الشيخ أحمد علي أستاذ التفسير بالكلية، والشيخ السنوسي أستاذ علم التوحيد بالكلية، ونسيت الرابع.
وبعد أن انتهيت من إلقاء المحاضرة في قاعة الشيخ محمد عبده الشهيرة، وحضور جم غفير من الطلاب وغيرهم، صفق الحاضرون طويلاً؛ دلالة على إعجابهم بما ألقي.. وبدأ أعضاء لجنة الامتحان يناقشونني، يسألونني وأجيبهم، وكان توفيق الله حليفي، ولله الفضل والمنة.
وكان بعض أساتذة جامعة القاهرة حاضرًا، فقال: إن هذا البحث وحده يكفي الطالب للحصول على الماجستير.
وانتهت هذه السنة الأخيرة بالنجاح والتوفيق، ومع هذا العناء كله في السنوات الثلاث، لا تنتهي هذه المرحلة بشهادة (ماجستير) أو ما يعادلها، بل تسمى: (تمهيدي دراسات عليا)!
تسجيل رسالتي عن الزكاة:
وكان عليّ بعدها أن أبدأ باختيار موضوع أسجله لرسالة الأستاذية أو (الدكتوراة). وكنت في أول الأمر متجهًا إلى أن أكتب في موضوع يتصل بالعقيدة، وهو: (براهين القرآن على نبوة محمد)، وأعددت فيه مسوّدات لها قيمتها، لا تزال عندي حتى اليوم.
ثم تغير اتجاهي إلى موضوع آخر يتصل بالشريعة وفقهها، وهو موضوع حول الزكاة، الركن الثالث في الإسلام، وهو ما ترجح لي اختياره وتقديمه إلى الكلية بعنوان: (الزكاة في الإسلام وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية).
وقد تقدمت بموضوعي إلى إدارة الكلية مشفوعًا بخطة البحث، وعينت لي الكلية مشرفًا هو شيخنا الشيخ أحمد علي. ولهذا الحديث بقية ستأتي في موضعها.
بعد صدور قرار الإفراج عنا -آخر فوج كان في السجن الحربي- وخروجنا من سجن القلعة، آخر محطة في اعتقالنا، نُقل كل منا إلى بلده، فمن كان من أهل القاهرة سُلّم إلى مباحث القاهرة، ومن كان من أهل الأقاليم في الوجه البحري أو الصعيد نقل إلى بلده، وتسلمته المباحث العامة في هذا البلد.
ونظرا لأن الذي تسلمني من منزل خالتي في طنطا، وسلمني إلى السجن الحربي هو: تفتيش مباحث المحلة الكبرى، فقد سلمت إلى طنطا أولا، ومنها إلى مباحث المحلة، ليؤخذ علينا التعهد اللازم بأن لا نمارس نشاطًا سياسيًّا، ولم يكن محمد شديد مفتش مباحث المحلة موجودًا ربما كان في إجازة، فأراحني الله من رؤية وجهه.
وفرغت من إجراءات المباحث، وكان بعض الأقارب ينتظرونني، فذهبت إلى قريتنا (صفط تراب) التي استقبلتني بالفرحة من الرجال، والزغاريد من النساء، وكان الناس ينظرون إليَّ كأنما ولدت من جديد. ألسنا راجعين من السجن الحربي الذي قيل فيه: الذاهب إليه مفقود، والراجع منه مولود؟
وبقيت أيامًا في القرية، كل يوم في بيت من بيوت الأقارب والأحباب الذين أولموا لي كل يوم بما لذّ وطاب، من الطعام والشراب، كأنما يريدون أن يعوضوني عن حرمان مدة الاعتقال.
وكان عليّ في تلك الفترة أن أخوض عدة معارك ضرورية لحياتي ومستقبلي، لا يسعني أن أدعها، ولعلّ تسميتها "رحلات بحث" أولى من تسميتها "معارك". فنحن في حاجة إلى أن نغير "لغة الصراع" إلى "لغة المسالمة".
وكانت الرحلة الأولى: رحلة البحث عن الدراسات العليا، فما ينبغي لمثلي أن يكتفي بالشهادة العالية وتخصص التدريس، وهو قادر على أن يرتقي إلى ما هو أعلى منها، وقد قال أبو الطيب:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمامِ
وينبغي أن يكون المسلم طامحًا إلى المعالي أبدًا، ولا يرضى بالدون، وفي الحديث الصحيح: "إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس الأعلى".
ويقول المتنبي أيضًا:
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجـوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
وإن كان هناك رجال يعشقون المال والثروة، وآخرون يعشقون الجاه والمنصب، فأنا رجل أعشق العلم والفكر.
ربما يقال: ولماذا لا تحصّل العلم عن طريق القراءة الخاصة والاطلاع؟
وأنا أقول: لا بد للإنسان من القراءة الخاصة طوال حياته، ولكن الدراسة المنهجية مطلوبة أيضًا لمن تيسرت له، لتعينه على تنظيم قراءته وتركيزها.
وكان عليّ رحلة أخرى تعتبر من "الضروريات" كما يقول الأصوليون في تقسيم المصالح التي جاء بها الشرع إلى ضروريات وحاجيات وتحسينات.
إنها رحلة البحث عن عمل أتعيش منه، فالله تعالى يقول: "وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ" (الأنبياء: 8)، وقال عز شأنه: "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ" (الفرقان: 20).
وما دام الإنسان جسدًا يأكل الطعام؛ فلا بد من السعي لإشباعه.
وإذا تم مقصود هذه الرحلة، فلا بد من رحلة بحث أخرى، وهي رحلة البحث عن بنت الحلال.
وهذا اقتضاني ألا أمكث في القرية طويلاً، وإن كان المكث فيها مريحًا ولذيذًا، وبعيدًا عن ضوضاء المدينة ومشكلاتها، فالإقامة فيها إقامة بين أهل وأقارب تحبهم ويحبونك.
لهذا توكلت على الله تعالى، وعدت إلى القاهرة، لأبحث فيها -أول ما أبحث- عن مسكن يؤويني، وإن لم يكن معي من المال ما أستأجر به هذا السكن، ولكن الثقة بالله قوية "ومن يتوكل على الله فهو حسبه".
وقد عشت فترة مع بعض إخواني وتلاميذي من أبناء المحلة: الأخ مدحت البسيوني وإخوانه وقد كانوا يسكنون في شبرا، فقد نزلت ضيفًا عليهم حتى أجد السكن الملائم، وقد وجدته في حدائق شبرا، شقة في البلكونة الثالثة، ثلاث حجرات نوم وصالة، بها حجرة بحرية، تطل على ميدان.
وقد استأجرتها بمبلغ ستة جنيهات، ثم خفضت بعد، على أن يسكن معي فيها أخي العسَّال، الذي لم يسكن في شبرا من قبل؛ إذ كان يسكن بالقرب من كلية الشريعة بالدَّراسة.
النونية مرة أخرى.. المباحث تحاكم الأشعار!!
الشيخ المراغي
بعد نحو شهرين أو ثلاثة من خروجنا من المعتقل، استدعيت من المباحث العامة، والاستدعاء من المباحث العامة لا يحمل وراءه خيرا في العادة، ولذا كنا نتوقع الشر أبدا من هؤلاء كما عودونا، وصدق الله إذ يقول: "وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا" (الأعراف: 58).
لهذا حين استدعوني لم أملك إلا أن أقول: يا رب سلم.
وذهبت إلى وزارة الداخلية في "لاظوغلي" وهناك أوصلوني إلى إدارة المباحث العامة، وإلى الضابط المسؤول عن الإخوان، والمعروف لهم، وهو: أحمد صالح داود، والحق أنه كان رقيقا معي، وقابلني مقابلة فيها كثير من اللطف، وقال لي: لقد جاءتنا تقارير عنك تقول: إنك ألفت في السجن الحربي قصيدة طويلة تهاجم فيها الثورة، وتحرض عليها، وكنت تلقيها على الإخوان، وقد حفظوها أو حفظها الكثيرون منهم، وإن هذه القصيدة بمثابة "منشور ثوري" ضد الرئيس عبد الناصر ورجال الثورة، فما قولك في هذا يا شيخ يوسف؟
قلت له: وهل يعقل مثل هذا الكلام؟ وهل كان أمامنا في السجن الحربي فرصة لقول الشعر؟ وهل كان معنا أوراق أو أقلام نكتب بها وفيها هذا الشعر؟
إن أي شاعر ينشئ شعرا يحتاج إلى قرطاس وقلم، حتى يقيد خواطره، قبل أن تتبخر، فكيف إذا كانت قصيدة طويلة كما تصفها؟ وأنت تعلم ماذا كانت عليه حالنا في السجن الحربي.
قال: لعل هذا كان في فترة البحبحة الأخيرة!
قلت له: هذه الفترة كنا فيها في غاية الاسترواح والانبساط، ولا توجد حوافز لأي شاعر في مثل هذه الحالة أن يكتب شعرا من النوع الذي تتحدث عنه.
قال: يعني أنفي حدوث ذلك.
قلت له: انف، ولا حرج عليك.
وخرجت من عنده، وأنا أحمد الله على السلامة، ولكني ساءلت نفسي: هل ما رددت به على ضابط المباحث جائز شرعا أم لا؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص في الكذب في مواضع معينة، لضرورات وحاجات خاصة، ومنها: الكذب في الحرب، فإن الحرب خدعة.
ونحن في حالة أشبه ما نكون بحالة الحرب مع رجال الثورة، وإن كانت حربًا من جانب واحد، فهم الذين يحاربوننا ويطاردوننا في كل مكان.
على أني لم أستعمل الكذب صراحة في ردي، ولكني استخدمت المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. فكل ردي كان بصيغة الاستفهام: هل يعقل كذا؟ وهل كان معنا ورق وقلم… إلخ؟
وماذا يصنع الإنسان أمام هؤلاء الجبابرة المستكبرين إلا أن يلوذ بالإنكار؟ فإن كنت معذورًا، فالحمد لله، وإن كنت مخطئًا، فأستغفر الله.
وأود أن أقول هنا: إن النونية بدأت تنتشر بين المهتمين بهذا اللون من الشعر، حيث نشرها بعض الإخوة من رواة القصيدة، الذين أفرج عنهم، وكانوا يروّونها لمن يثقون به. حتى إن الأخ الصديق، الشاعر الأديب، ابن دار العلوم: عبد الحفيظ صقر، أخبرني أن الشاعر الذي ذاع صيته في الآفاق هاشم الرفاعي، وكان زميلاً له، وقريبًا منه كان يحفظ كثيرًا من أبياتها ويرددها. وممن كانوا يحفظونها ويستشهدون بها في خطبهم من الخطباء المرموقين قبل نشرها في ديواني "نفحات ولفحات": الخطيب المفوّه الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله.
تأميم شركة قناة السويس:
وكان أهم حدث وقع في هذه الفترة من صيف 1956م وهزّ أركان العالم هو: إعلان الرئيس عبد الناصر -في 23 يوليو- تأميم شركة قناة السويس، والاستيلاء على كل أملاكها، والبدء في تسيير قناة السويس بمرشدين مصريين بدل الفرنسيين والإنجليز وغيرهم، الذين تخلوا في الحال عن معاونة السفن وإرشادها، ولم يتعاون مع المصريين في ذلك غير اليونانيين.
لقد شدّ هذا الإعلان انتباه الشرق والغرب، وصفق المصريون والعرب طويلاً لعبد الناصر، وكسب تأييدًا ساحقًا لموقفه هذا الشجاع، حتى الإخوان الذين خرجوا من المعتقلات منذ أسابيع قليلة، والذين لا يزال بعضهم قابعًا في سجون الواحات وغيرها، أيّدوا عبد الناصر.
وكنت أنا ممن أيده بصدق. وقد علمنا الله أن نكون عدولاً حتى مع خصومنا، كما قال تعالى: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة: 8).
وباتت مصر -وبات العرب معها- ينتظرون: ماذا سيفعل الغرب ممثلاً في بريطانيا وفرنسا في مواجهة عبد الناصر؟
هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة، وإن مع اليوم غدًا، وإن غدًا لناظره قريب.
رحلة البحث عن الدراسات العليا
الشيخ كشك
كان من مطالبنا -نحن شباب الأزهر- ونحن طلاب في المعاهد الثانوية: أن يُعاد فتح باب الدراسات العليا لطلاب الأزهر؛ ليجد المتفوقون والنوابغ فيها ما يحقق آمالهم، ويرضي طموحهم المتوثب، فليسوا أقل من غيرهم من زملائهم في الجامعات المصرية الأخرى من جامعات الدولة، مثل جامعتي القاهرة والإسكندرية.
وقد ازداد إصرارنا على هذا المطلب بعد أن انتظمنا في الدراسات الجامعية، وفي تخصص التدريس.
وكان الأزهر قد فتح باب هذه الدراسات من قديم أيام مشيخة الإمام المصلح الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، الذي ترك عهده بصمات في حياة الأزهر، وفي تطوير قانون الأحوال الشخصية.
فقد سنَّ نظام "تخصص المادة" في كليات الأزهر الثلاث: أصول الدين والشريعة واللغة العربية. وكانت الدراسة كلها مرحلة واحدة، يدرس الطالب دراسة منهجية على يد شيوخه، ثم يُعِدّ رسالة في موضوع من موضوعات التخصص يختاره، وتقره عليه الكلية.
وكان في كلية أصول الدين ثلاث شعب للتخصص: شعبة القرآن والسنة أو التفسير والحديث، وشعبة العقيدة والفلسفة وعلم الكلام، وشعبة التاريخ الإسلامي.
وكان في كلية الشريعة شعبتان: شعبة للفقه، وشعبة لأصول الفقه.
كما كان في كلية اللغة العربية -على ما أذكر- شعبتان: شعبة للأدب والنقد، وشعبة لعلوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة.
وكان الطالب يحصل بعد نجاحه على شهادة (العالمية من درجة أستاذ) أو (الأستاذية).
وكان قانون الأزهر يحتم أن يكون كل أساتذة الكليات في المستقبل من خريجي تخصص المادة، وأن يكون شيوخ المعاهد منها.
ودخل عدد كبير من أبناء الأزهر في كل الكليات هذا التخصص، وحصلوا على (الأستاذية) منها بدرجات متفاوتة بين الامتياز وما دونه.
ولكن للأسف لم يطبق معهم الأزهر ما قرره لهم القانون، فرأينا كثيرًا منهم يُعيَّنون في المعاهد الدينية، وقد درس لنا بعضهم في معهد طنطا.
وهذا ما جعل الأزهر يوقف تخصص المادة؛ إذ أصبح خريجوه أكثر من الحاجة، ووقفت معه مسيرة الدراسات العليا تلك السنين الطويلة؛ وهو ما جعلنا نطلب ونلح في طلبنا أن يُعاد فتحها من جديد؛ تسوية بين أبناء الوطن الواحد.
وشاء الله ألا يُستجاب لطلبنا ويعاد فتح الدراسات العليا من جديد إلا ونحن وراء الأسوار في السجن الحربي؛ فقد افتتحت منذ بداية السنة الدراسية 1955/ 1956، فلما خرجنا في النصف الثاني من شهر يونيو سنة 1956 كان أول ما شغلني هو قضية الدراسات العليا، فما كدت أقضي أيامًا في القرية للسلام على الأهل والأقارب حتى أسرعت الرحيل إلى القاهرة؛ لأبحث في إمكان لحاقي بركب الدارسين في تخصص المادة، وهل يمكن أن يسامحوني في تأخر التقديم نظرًا لظروف الاعتقال؟
وكان عميد كلية أصول الدين الفقيه العلامة الشيخ محمد علي السايس رحمه الله، فذهبت إليه، ودخلت عليه، وعرفته بنفسي، وشغفي من قديم بالدراسة العليا، وأني أستطيع أن ألتحق الآن بإخواني في السنة الأولى، وأن أدخل معهم الامتحان المقرر في سبتمبر أو أكتوبر؛ حتى لا تضيع عليّ سنة لا ذنب لي فيها.
فقال الشيخ برقة ولطف: يعلم الله يا ابني أني متعاطف معك غاية التعاطف، ولو كان الأمر بيدي لقبلتك منذ الساعة، ولكنا تحكمنا أنظمة حديدية لا تلين لأحد، ولا نملك إلا أن ننفذها ونخضع لحكمها، وهذه الأنظمة قد حددت مواعيد للقبول لا يجوز اختراقها، وقد انتهت منذ العام الماضي. فما عليك إلا أن تصبر الشهرين أو الثلاثة القادمة، وتقدم طلبك في الموعد المحدد أول السنة الدراسية القادمة. وتحتسب السنة التي ضاعت منك عند الله تعالى، الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة، بجملة ما ضاع منك بسبب ما نزل بك من ابتلاء، وأنا مؤمن بأن الله تعالى سيعوضك خيرًا عما فاتك، حسب سنته في خلقه.
وكانت كلمات الشيخ بردًا وسلامًا على صدري، وأزاحت عن نفسي همًّا كنت أشعر به من ضياع فرصتي بلا جرم مني.
وشاء الله ألا يمتحن طلاب السنة الأولى في الدراسات العليا بالأزهر في صيف سنة 1956م كما هو مقرر ومعتاد، بل أُجِّل وامتد إلى صيف 1957م. ولا أدري لأي سبب حدث هذا إلا التسيب الذي لا يبالي بمصالح الناس، واعتبار الأوقات أرخص من التراب في الطرقات. فما قيمة سنة تذهب في حياة الناس سدى، وتضيع هدرًا، دون أن يحاسب عليها أحد؟!
هذا مع أن سلفنا كانوا يقدرون قيمة الوقت، ويقولون: من علامة المقت إضاعة الوقت.. الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك. ويقولون: يا ابن آدم إنما أنت أيام مجتمعة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك!. ويقول ابن عطاء في حِكمه: "حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها، وحقوق في الأوقات لا يمكن قضاؤها؛ إذ ما من وقت يرد إلا ولله فيه عليك حق جديد، وواجب أكيد".
وقالوا: الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما!
وقيل لعمر بن عبد العزيز: يكفيك ما عملت اليوم، وأخِّر الباقي إلى الغد، فقال: لقد أعجزني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع عليّ عمل يومين؟!
هذه قيمة الوقت عند سلف الأمة، أما هؤلاء الخلَف -أو الخلْف- فهم يضيعون الأوقات بالسنة الكاملة على الناس، دون أن يشعروا أنهم اقترفوا عملاً سيئًا!.
التقديم لمعهد الدراسات العربية العالية:
وكان عليّ أن أستفيد من وقتي في دراسة أخرى متاحة، فعرفت من أخي وصديقي الجزائري محمد الأقصري أن الجامعة العربية افتتحت معهدًا للدراسات العالية، يعطي (دبلومًا) عاليًا في عدة شعب، ويمكن الحصول منه على الماجستير. وإنه قد قبل استثناء في قسم القانون والفقه الذي يرأسه القانوني الكبير الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري. وإن كان طلاب أصول الدين لا يُقبلون أساسًا فيه، لكن يُقبلون في شعبة اللغة والأدب، أو في شعبة التاريخ.
وكنت حريصًا على الالتحاق بقسم القانون؛ للاستفادة من علم الدكتور السنهوري ومنهجيته، ومقارنته بين الفقه والقانون، فقابلته وأبديت له رغبتي في الالتحاق بالقسم، واهتمامي الكبير بدراسة الفقه وتضلعي فيه، برغم تخرجي في كلية أصول الدين، ورجوت منه أن يستثنيني كما استثنى زميلي الجزائري: الأقصري. ولكن السنهوري اعتذر بلطف، وقال: إن القسم مفتوح لطلاب الحقوق، وطلاب الشريعة، وإنه اختار الأقصري لأنه جزائري، وأنه لا يستطيع أن يفتح هذا الباب للمصريين؛ خشية أن يجيئه آخرون لا يملكون ما أملك، فيطلبون منه قبولهم لديه كما قُبل فلان. وعبثًا حاولت أن أقنعه فلم يقتنع. ولا سيما أنه لا يعرف عني شيئًا. في حين قُبل الأخوان: أحمد العسال، وأحمد حمد في هذا القسم بسهولة؛ لأنهما خريجا الشريعة.
وقلت: قدَرُ اللهِ وما شاء فعل، ولا بد أن أختار أحد القسمين: قسم التاريخ الذي يشرف عليه المؤرخ الكبير الأستاذ الدكتور شفيق غربال.. أو قسم الدراسات الأدبية واللغوية الذي يشرف عليه الناقد الكبير الأستاذ الدكتور إسحاق موسى الحسيني، الذي عرفناه قبل من كتابه: (الإخوان المسلمون.. كبرى الحركات الإسلامية الحديثة).
وبعد استخارة واستشارة -وما خاب من استخار، ولا ندم من استشار- اخترت قسم اللغة والأدب، ولي فيهما باع أي باع، وقديمًا طلب مني كثيرون أن ألتحق بكلية اللغة العربية في الأزهر، أو بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة؛ لما عُرفت به من التعمق في علوم اللغة، وفي الأدب والشعر.
وكانت الدراسة في هذا المعهد ممتعة، فتحت لي آفاقًا جديدة في دراسة الأدب واللغة، لم تتح لنا في الأزهر.
كان يدرسنا مادة (القومية العربية) وهي مادة أساسية في المعهد أبو القومية العربية المعروف: الأستاذ ساطع الحصري، الذي كان هذا المعهد من ثمرة سعيه وجهده. الذي درّس لنا نظريات القومية المختلفة لدى الأوربيين، وأهمها: النظرية التي تقوم على اللغة والتاريخ. كما درس لنا (البلاد العربية وعلاقتها بالدولة العثمانية). وكذلك الأمير مصطفى الشهابي الذي حاضرنا في الفصل الثاني عن (الاستعمار) وأهدافه وآثاره في البلاد العربية.
كما درس لنا الشيخ أمين الخولي (قضايا لغوية) وهو أزهري محافظ على جبته وعمامته، ولكنه يتميز بعقل ناقد، ولكنه كثيرًا ما كان يبالغ في النقد، ويتحدى العلماء وإن أجمعوا. وقد ناقشته مرة واحتدَّت المناقشة حول ما قيل: إن أبا حنيفة لم يثبت عنده إلا 17 حديثًا، وقلت له: إن هذا كلام لا أصل له، وإن كتب الحنفية مليئة بالأحاديث، وإن لديهم محدثين كبارًا مثل أبي جعفر الطحاوي المصري، وإن أعظم كتب التخريج لأحاديث الفقهاء هو كتاب "نصب الراية" للزيلعي، وإن القول بأن أبا حنيفة لم يثبت عنده غير 17 حديثا ذكره ابن خلدون بصيغة التضعيف، ورد عليه ردًّا علميًّا قويًّا. ولكن يبدو أن الشيخ رحمه الله لم تعجبه مناقشتي، وحسبني ضمن المشايخ المغلقين.
وقد ناقشه زميلنا السوري عبد الكريم الأشتر حين استخف بابن جِنِّي وأئمة اللغة الكبار، واصطدم به، حتى ترك الشيخ القاعة محتجًا وغاضبًا.
وكان من أساتذتنا الدكتور محمد مندور الذي درسنا طوال الفصول الأربعة التي قضيناها في المعهد: الشعر المصري بعد شوقي. وجماعة (أبولّو). ود. مندور أحد النقاد الأدبيين المعروفين، وله في ذلك أكثر من كتاب.
ومنهم الأديب الناقد الكبير الدكتور عبد القادر القط، الذي درس لنا القصة المصرية، ابتداء من (زينب) قصة الدكتور محمد حسين هيكل.
ومنهم: الدكتور محمد النويهي الذي درس لنا فلسفة النقد الأدبي، وعلاقة النقد بالقيم الأخلاقية، ومدى التزام الفنان بالأخلاق، كما درس لنا (الاتجاهات الشعرية في السودان)، على ما أذكر.
ومنهم: الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد، الذي درس لنا: الاتجاهات الأدبية في فلسطين والأردن.
ومنهم: الأستاذ جميل صليبا الذي درس لنا: الاتجاهات الفكرية في بلاد الشام.
ومنهم: الأستاذ سامي الكيالي الذي درس لنا: النهضة الأدبية في حلب، على ما أذكر.
ونسيت من درس لنا (المذاهب الأدبية): الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية وغيرها، وكان من مراجعنا في ذلك: كتب الأستاذ غنيمي هلال من أساتذة دار العلوم.
وكان الدكتور الحسيني رئيس القسم نفسه يدرس لنا النهضة الأدبية في فلسطين، مُركزًا على علمين كانا متعاصرين من أعلام الأدب والنقد، وهما: إسعاف النشاشيبي، وخليل السكاكيني. وكان أولها أميل إلى مخاطبة القلب، والآخر أميل إلى مخاطبة العقل.
كما حدثنا عن بداية النهضة الفكرية والأدبية في بلاد العرب، مفندًا تلك الدعوى التي تقول: إن بداية النهضة بدأت بالحملة الفرنسية على مصر، مبطلاً تلك المقولة بأدلة عدة، منها: أن النهضة بدأت في تركيا من قبل منذ عهد الإصلاحات.. وأن هناك بدايات سبقت للنهضة في حلب وبيروت وغيرها من بلاد الشام.. وأن الاحتلال لا يمكن أن يبدأ نهضة في أي بلد، وأن الحملة الفرنسية لم تدُم أكثر من ثلاث سنوات في مصر، كلها مقاومة من شعب مصر وعلمائه، انتهت بهزيمتها ورحيلها عن مصر.
وقد أكد هذه المعاني ما قدمه العلامة الأديب المحقق محمود محمد شاكر في كتابه (الطريق إلى ثقافتنا)، وأن مصر كان فيها نهضة كبيرة على مستويات شتى، وفي أكثر من مجال في العلم واللغة والأدب والصناعة، وأن أعداء الأمة هم الذين أجهضوها.
على كل حال أعتقد أني انتفعت بالدراسات المتنوعة التي قدمت إلينا في المعهد من كبار العلماء والنقاد والأدباء في العالم العربي.
وكان يدرس معي عدد من أبناء البلاد العربية النابهين المتميزين، بعضهم كانوا مبعوثين من بلدانهم، منهم: الأديب عبد الكريم الأشتر من سوريا (الأستاذ الدكتور بعد ذلك). وكان هو الأول على دفعتنا. وزميله الأديب عمر الدقاق من سوريا أيضًا (الأستاذ الدكتور بعد ذلك)، والشاب المتألق صالح الحصين في قسم القانون، وهو مبعوث من المملكة السعودية (معالي الأستاذ صالح الحصين بعد ذلك). وكان الدكتور السنهوري معنيًّا به، راجيًا أن يكون له شأن في المملكة، وقد كان.
وقد انتهيت من دبلوم المعهد بعد أن أكملت دراسة السنتين في أربعة فصول، واستدعاني الأستاذ الدكتور إسحاق الحسيني رئيس القسم، وحثّني على أن أستمر في دراستي لنيل الماجستير، وقال: إن لديك استعدادًا قويًّا لمواصلة المسيرة، بل اتفق معي على الموضوع الذي أكتب فيه، وهو (النقد اللغوي) في مقابل (النقد الأدبي). ويريد: أن أعالج ظاهرة الأخطاء اللغوية الشائعة، التي عالجها الأقدمون مثل ابن قتيبة، ومثل الحريري في كتابه (درة الغواص في أوهام الخواص)، وعالجها المحدثون في كتب نشرت وفي المجلات، مثل كتابات العلامة الشيخ محمد علي النجار في مجلة الأزهر تحت عنوان (لغويات).
واتفقت مع الأستاذ الحسيني على التفكير الجدي في الموضوع، ولكني بعد تقليب الأمر على وجوهه، وبعد أن أصبحت مرتبطًا بالدراسات العليا في كلية أصول الدين، وما يتطلبه من جهد وتفرغ.. رأيت -بعد استخارة الله تعالى واستشارة أقرب الناس إلي- أنه ليس من الحكمة ولا من المصلحة تشتيت الجهد في أكثر من جهة بغير ثمرة تجتنى إلا كثرة الشهادات! وأن الخير كل الخير في عودتي إلى دراستي الأصلية في الأزهر، وحسبي ما حصلت من معرفة نافعة باللغة وبالأدب وباتجاهاته في البلاد العربية. وكان الخير فيما اختاره الله، فاعتذرت للدكتور الحسيني بانشغالي الآن بدراستي في كلية أصول الدين، وقد يكون لنا عودة في المستقبل إذا أذن الله.
كامل سعفان:
وفي المعهد التقيت زميلاً قديمًا، وأخًا كريمًا، وصديقًا حميمًا، غاب عني -كما غبت عنه- سنوات عدة منذ أنهى دراسته في معهد طنطا الثانوي، وغادره إلى كلية اللغة العربية، وقد ضمنا قبل ذلك: سكن مشترك في بيت واحد، وعمل مشترك من أجل قضية الأزهر، ومطالب الأزهريين، وتوجه مشترك؛ حيث جمعنا الأدب والشعر. ذلكم الصديق هو الأديب الشاعر المطبوع: الأستاذ كامل سعفان (الدكتور بعد) الذي أسعدني القدر بلقائه في المعهد، ففرحت به، وفرح بي، وأصرّ على أن يعزمني على الغداء في بيته، وأن يصحبني معه على الفور، وقد كان. وكانت جلسة طيبة، استعدنا فيها ذكريات الأمس، كما تحدثنا عن معاناة اليوم، ولم ننسَ آمال الغد، واستشرافات المستقبل.
وكان الأستاذ كامل قد تزوّج فلسطينية، وجد فيها سكنه وأمنه، وجعل الله بينهما مودة ورحمة.
وقد ودعته وشكرته، ثم فرقت بيننا الأيام مرة أخرى؛ حيث أُعرت إلى قطر، ثم انتهت الإعارة إلى إقامة، فتوطن وجنسية، وكنت أعرف أن الصديق كامل سعفان قد انضم إلى ركب (جماعة الأمناء) وهي الجماعة الأدبية التي أسسها الأستاذ أمين الخولي، وكانت لها مجلتها وأدبها ورجالها، وكان للأستاذ سعفان إسهامه معهم.
وأخيرًا عثرت على كتاب من أواخر ما أصدره، عنوانه (هجمة علمانية جديدة: محاكمة النص القرآني) وتحت هذا العنوان: محمد خلف الله 1947 ونصر أبو زيد 1999.
وفي هذا الكتاب وجدت صديقي كالعهد به؛ وفاء لدينه، وغيرة على حرماته، وتوقيرًا للعلم، واحترامًا للمنهج. وجدته لسان صدق، وجندي حق، يحامي عن القرآن، ويدافع عن الإيمان، ويدفع بالحقائق أباطيل الزيف والبهتان.
مدارس (فاكس) لتعليم اللغات
السنهوري
وكان من الأهداف التي اتفقت عليها أنا وصديقي أحمد العسال: أن نعمق معرفتنا باللغة الإنجليزية، وقد كنا بدأنا دراستها معًا في معتقل هايكستب على يد الأخ محمود عباس الطالب بكلية الهندسة، وهو من حلوان، وقد بدأ معنا شوطًا طيبًا، ثم توقفنا عندما انتقلنا إلى معتقل الطور.
ثم بدأنا دراسة الإنجليزية مرة أخرى في الكلية، درسها في الشريعة، ودرستها في أصول الدين، وكنا نمتحن فيها تحريريًّا وشفهيًّا، وكنت أحصل فيها على عشرين من عشرين، وقد شهد الذين درسوني بأن لديّ قدرة لغوية غير عادية، تتجلى في دراسة اللغة العربية، كما تتجلى في غيرها من اللغات؛ فالقدرة اللغوية لا تتجزأ.
ولكن اللغة إذا لم تُنمَّ بالممارسة والاستعمال فسرعان ما تنسى، وخصوصًا عندما تُعلَّم في الكبر؛ لهذا كنا ننادي في مؤتمراتنا لطلبة المعاهد بالأزهر: أن تعلموا اللغة الإنجليزية منذ المرحلة الابتدائية حتى تثبت. وقد قال أحد الحكماء: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر؛ يعني: إنه يثبت ولا يزول. قيل له: إن الكبير أوفر عقلاً، قال: ولكنه أكثر شغلاً.
ولهذا بادرنا بعد خروجنا من المعتقل أن نستفيد من وقتنا بالانتساب إلى (مدارس فاكس) لتعليم اللغات، وكان مقرها في شارع 26 يوليو في وسط القاهرة، وقدمنا طلبنا وقبلتنا، وحددت لنا 3 دروس في الأسبوع، وكان يدرسنا شاب أرمني متمكن حسن الطريقة: اسمه (هارولد)، وأذكر أننا حين سألنا عن اسمه، فقال: هارولد “نوت" ( not) ماكميلان -فقد كان رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت (هارولد ماكميلان)-.
وكان حرصي على تعلم الإنجليزية نابعًا من شعوري بحاجة العالم والداعية المسلم إلى تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس بلغاتهم؛ فالإسلام رسالة عالمية، ولكن كتابه نزل بلسان عربي مبين، وحديث رسوله بالعربية الفصحى، ولا يمكن إيصاله إلى العالمين إلا بتعلم لغاتهم لنبين لهم بلسانهم عن طريق الترجمة، وهو ما ذكره علماؤنا في قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" (إبراهيم: 4).
وهو ما برع فيه غير المسلمين، حتى رأينا النصارى ترجموا الإنجيل إلى مئات اللغات وآلاف اللهجات.
على أن في تعلم اللغات إضافة فكر آخر، وثقافة أخرى، وتجارب أخر للإنسان، ومن أجل هذا حثّ حكماؤنا وآباؤنا من قديم على تعلم اللغات، وقال الشاعر:
بقدر لغـات الـمرء يكثر نفعه فتلك له عند الملمات أعوان
فأقبل على حفظ اللغات ودرسها فكل لسان في الحقيقة إنسان!
وما أصدقها كلمة، وما أبلغها حكمة: كل لسان في الحقيقة إنسان؛ فكأن الإنسان الذي تعلم لغة أصبح إنسانين؛ فإذا تعلم ثلاثا أصبح ثلاثة أناسي، وهكذا...
ونحن نحاول أن نعوض هذا عن طريق قراءة المترجمات، ولكن ليس كقراءتها في لغاتها.
واشتهر عند المسلمين حديث يقول: "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم" ولم أرَ له أصلاً، حتى إن الكتب التي عنيت بما اشتهر من الحديث على ألسنة الناس لم تذكره. على أن معناه غير صحيح، إلا إذا فُسّر بمثل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة يهود، قائلاً: فإني لا آمنهم على كتابي؛ أي أنه يخاف أن يحرفوا الترجمة، ويغيروا المعاني تبعًا لأهوائهم ومصالحهم، فربما فسّر أمن المكر بمثل هذا.
فهذا ما جعلني أحاول أكثر من مرة أن أتقن اللغة الإنجليزية، ولكني لم أوفق في كل محاولاتي؛ إذ لم أستمر فيها، وتشغلني عنها الشواغل. كما حدث في هذه المرة.
فبعد مدة -حين أتيح لنا القبول في الدراسات العليا بالأزهر- أضحى أمامنا: الدراسة بالأزهر، والدراسة بمعهد الجامعة العربية، والدراسة بمدارس (فاكس)، والعمل الصباحي بوزارة الأوقاف؛ فلم نجد الوقت الكافي لهذه الأعباء كلها، فاضطررنا أن نتوقف عن الاستمرار في مدارس (فاكس).
العودة إلى الدراسة العليا بالأزهر:
بعد أن أُجِّل امتحان طلبة السنة الأولى في الدراسة العليا بالأزهر إلى صيف 1957م، وضاعت عليهم -وعلي معهم- سنة كاملة، أجري لهم الامتحان، ونجح من نجح، ورسب من رسب، وأصبح في مقدوري أن أتقدم بطلبي للالتحاق بالشعبة التي أريد.
أيّ الشعبتين أختار؟
وقد كان بكلية أصول الدين شعبتان، عليّ أن أختار إحداهما لأقدم طلبي إليها: شعبة علوم القرآن والسنة (أو التفسير والحديث) وشعبة العقيدة والفلسفة.
فمن كانت درجاته أعلى في مواد التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، قدّم أوراقه إلى هذه الشعبة، ومن كانت درجاته أعلى في التوحيد والفلسفة والمنطق، تقدم إلى الشعبة الأخرى. وهناك شرط: ألا تقل درجات الطالب في مواد الشعبة عن حد معين لا أذكره الآن، لعله ثمانون في المائة (80%)، وسبعون في المائة (70%) في التقدير العام.
وكانت كل هذه الشروط في كلتا الشعبتين عندي موفورة بأكثر من المطلوب، ولكني توقفت كثيرًا في ترجيح اختيار إحدى الشعبتين: أأختار شعبة القرآن والسنة؛ لأنها تصلني مباشرة بمصادر الإسلام الأصلية، وتتيح لي فرصة التعمق في دراستهما، وتصحيح ما طرأ على فهمهما من أغلاط، والرد على ما يثار حولهما من شبهات وافتراءات؟ ولا يمكن للعالم المسلم أن يكون عالمًا حقًّا إلا إذا أتقن علوم القرآن والحديث.
أم يا ترى أختار شعبة العقيدة والفلسفة بما فيها من إغراء بدراسة الفكر الإنساني، وتتبع المذاهب الفكرية، والمدارس الفلسفية، ودراسة أغوارها، والإحاطة بتناقضاتها، وكيف ينقض بعضها بعضًا، وتوظيف هذه المعرفة في خدمة الدعوة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، ومخاطبة الإنسان المعاصر باللغة التي يفهمها؟
الدكتور محمد يوسف موسى يحسم الأمر:
كان الاختيار بين الشعبتين صعبًا، وكان الأمر محيرًا لي، ولم يحسم هذا الأمر عندي إلا باستشارة أهل الذكر والخبرة، كما قال تعالى: "فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا" (الفرقان: 59)، وقال: "وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير" (فاطر: 14).
لهذا توكلت على الله، وعزمت على زيارة أستاذنا الدكتور محمد يوسف موسى، وكان بيني وبينه مودة، رغم أني لم أدركه في كلية أصول الدين، ولم أسعد بتدريسه لي، وإن كنا سعدنا بتدريس كتبه، درسها لنا غيره، وقد زرته قبل ذلك في منزله بالروضة، ورحّب بي مع أنه لم يكن يقبل زيارةَ مَن لم يأخذ موعدًا منه.
كان الدكتور موسى راهبًا من رهبان العلم والفكر، لم يتزوج غير العلم والمكتبة، وكان ضليعًا متمكنًا في علوم الفقه والشريعة، وعلوم الفلسفة والعقيدة، وقد حصل على الدكتوراة من فرنسا، ومن ثَم كان أهلاً لأن يستشار في قضيتي.
ذهبت إليه، وطرقت عليه الباب، ففتح لي، ورحّب بي. قلت له: سامحني أن جئتك بغير موعد سابق.
قال: ومتى جئت بموعد يا قرضاوي؟ بيتي بالنسبة لك مفتوح دائمًا.
قلت: جئت لأستشيرك في قضية في غاية الأهمية بالنسبة لمستقبلي، ولم أجد غيرك يفتيني فيها!
قال: خير.. ما هي؟
محمد حسين هيكل
قلت: أمامي اختياران في الدراسة العليا بكلية أصول الدين: علوم القرآن والسنة أو علوم العقيدة والفلسفة. وأنا مستوفي الشروط للدراسة في كلتا الشعبتين، وربما كانت درجاتي أعلى في شعبة الفلسفة، وقد احترت بينهما حيرة شديدة؛ فأيهما تختار لي يا أستاذ؟
فقال: اسمع يا يوسف، لقد عرفت أني عشت أكثر عمري في كلية أصول الدين أدرس الفلسفة ونظريات الأخلاق، وتاريخ الفلسفات، وما إلى ذلك، وألفت في ذلك ما ألفت من كتب، لعلك درست بعضها في الكلية.
قلت: نعم درسنا أكثر من كتاب، منها حول فلسفة الأخلاق، وتاريخها.
قال: ثم انتهى بي المطاف الآن إلى تدريس الشريعة الإسلامية في كليات الحقوق، وأحمد الله قد ألفت فيها عددًا من الكتب تلقاها أهل العلم والاختصاص بالقبول.
قلت: نعم، وقرأنا الكثير منها، وانتفعنا به.
قال: والآن أجد أن ما درسته من قبل في الفلسفة ومذاهبها ومدارسها الفكرية، كأنما كان تمهيدًا أو مقدمة لدراسة الشريعة؛ فالشريعة هي الغاية، وهي اللب والجوهر، وكل ما عداها يجب أن يكون وسائل إليها.
وأعتقد أنك قد درست في كلية أصول الدين من مذاهب واتجاهات الفلسفة الشرقية واليونانية والإسلامية والحديثة ما أطلعك على أصول الفكر الإنساني والمذاهب الفلسفية الكبرى، والنظريات الأخلاقية المختلفة، وأن لديك الآن من الإمكانات المعرفية ما تستطيع أن تتابع به حركة الفكر الإنساني في تطورها. وإنما الذي يحتاج إلى خدمة حقًّا هو: الشريعة وفقهها وأصولها، ومصدر الشريعة القرآن والسنة، إذا تضلعت في علوم القرآن والسنة أمكنك أن تخدم رسالة الإسلام حقًّا، وأحسب أن لك دورا -إن شاء الله- في الاجتهاد والتجديد لهذا الدين، أرجو ألا يخيب ظني فيه… إلى آخر ما قال رحمه الله رحمة واسعة.
وكانت كلمات الدكتور موسى أشعة من نور أزالت غياهب الشك والتردد والحيرة من ذهني ونفسي تمامًا، وأقنعتني ألا أبتغي بالقرآن والسنة بدلاً، ولا أبغي عنهما حولاً.
وودعت الأستاذ الكبير وشكرت له، ودعوت له من كل قلبي، وخرجت من عنده منشرح الصدر، مطمئن الضمير، مسدد الوجهة، مستبين الغاية والطريق.
التقديم لشعبة القرآن والسنة:
وقدمت إلى كلية أصول الدين في شعبة التفسير والحديث وعلومه.
وكان الذي يدرس لنا التفسير هو أستاذنا الشيخ أحمد علي أستاذنا في الكلية من قبل. والذي يدرسنا علوم القرآن هو أستاذنا الدكتور أبو شهبة، والذي يدرسنا الحديث هو شيخنا الشيخ محمد علي أحمدين، أستاذي في الكلية، والذي جرى بيني وبينه ما جرى في السنة الرابعة، ثم صالحني بعد امتحان التعيين في الشهادة العالمية، كما ذكرت ذلك من قبل. وكان الذي يدرسنا مصطلح الحديث هو أستاذنا الشيخ السماحي. وكان الكتاب المقرر هو "تدريب الراوي على تقريب النواوي" للحافظ السيوطي، وهو من خيرة الكتب في بابه.
وكنا نحو 30 طالبًا مسجلين في هذه الشعبة، بعضنا من خريجي أصول الدين، وبعضنا من خريجي الشريعة.
وكانت شروط الدراسة والامتحان صعبة ومعقدة؛ فمن رسب في الامتحان التحريري أو الامتحان الشفهي، أو امتحان التعيين؛ فقد سقط في امتحان السنة كلها، وليس له فرصة أخرى، وسقط حقه في الدراسات العليا في هذه الشعبة. وفي هذا من التشديد والتعسير ما فيه.
ناصر الدين الأسد
وهذا ما دفع أكثر طلاب الشعبة -أكثر من عشرين منهم- أن يقدموا قبل الامتحان إجازات مرضية؛ لإعفائهم من دخول الامتحان، ولكن فضيلة الشيخ الأكبر عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر قال: ليس معقولاً أن يمرض هؤلاء جميعًا في وقت واحد، واعتبر هذه الإجازات مفتعلة أو مزورة، ورفضها جميعا. والذي دفعهم إلى ذلك هو خوفهم من النتيجة؛ فإن من لم ينجح ضاعت عليه السنة، بل ضاع حقه نهائيًّا في الدراسة العليا في الشعبة.
وبقي 6 طلاب فيما أذكر دخلوا الامتحانات التحريرية والشفهية والتعيين، وكان الامتحان الشفهي في حفظ القرآن، وفي الحديث وعلومه، وكان التعيين في التفسير، وأذكر أن تعيين السنة الأولى كان في تفسير (آية الكرسي) سيدة آي القرآن.
وما زلت أذكر الأسئلة التي حاصرتني حول مسألة التفاضل بين آي القرآن، وهل في القرآن فاضل ومفضول؟ وما معنى أن هذه الآية أو هذه السورة أفضل عن غيرها؟ وهل الفضل راجع إلى موضوع الآية أو السورة أو إلى أمر آخر؟
وكان التعيين –كالعادة- امتحانًا لمدى معرفة الطالب بالعلوم الشرعية والعربية؛ فهو امتحان في اللغة والنحو والصرف والبلاغة والفقه والحديث والمنطق والتوحيد. ويجب أن يكون الطالب مستعدًّا لأي سؤال يوجه إليه مما يتصل بهذا العلوم كلها.
والحمد لله فقد وفقت في إجاباتي في امتحان التعيين، والامتحان الشفهي، وكذلك في الامتحان التحريري، وظهرت النتيجة بنجاحي وحدي في الشعبة، وكل زملائي للأسف أخفقوا: إما في الامتحان التحريري، وإما في الامتحان الشفهي أو التعيين. ومعنى رسوبهم: أنهم (شطبوا) من هذه الشعبة إلى الأبد، ولم يَعُد لهم أي حق في استئناف الدراسة. وهذا تشديد وتعقيد لا ضرورة له فيما أرى، ولا أرى أي جامعة تعامل طلابها بمثل هذه القسوة، والحمد لله الذي نجاني بفضله من هذا البلاء، وهداني بنوره في هذه الظلماء، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وحدي في السنة الثانية!!
ساطع الحصري
وفي السنة الثانية كنت وحدي في الشعبة، فإذا حضرت وُجِدت الشعبة، وإذا غبت فقدت. ولذا كان شيوخي يقولون لي: مر علينا ولو في كل أسبوع مرة (تحلة القسم) حتى نقول: حضرنا ودرسنا. وكنت أفعل ذلك كلما استطعت.
وفي هذه السنة مر علينا -وأنا أدرس الحديث عند الشيخ أحمدين- فضيلة شيخنا الشيخ صالح شرف، السكرتير العام للمعاهد الدينية، وهو الرجل الثالث في الأزهر بعد شيخ الأزهر ووكيل الأزهر، وقال له الشيخ أحمدين: هذا الشيخ يوسف القرضاوي الذي صفته كذا وكذا. ولو كان الأمر بيدي لأعطيته الأستاذية من اليوم.. قال ذلك الشيخ أحمدين بحسن نية، وهو لا يعرف الأزمة التي حدثت لي معه أيام امتحان الشهادة العالمية. ولكن الشيخ صالح شرف كان عالمًا فاضلاً لم يعتبر في هذا الكلام أي تحدٍّ له.
وكنت قد نقلت إلى الأزهر بعد مجيء الشيخ شلتوت شيخًا للأزهر، محاولاً أن أجمع بقدر الإمكان بين ما يطلبه مني الأزهر من أعباء كلفنا بها الدكتور محمد البهي الذي كنا نعمل معه في الإدارة العامة للثقافة الإسلامية، وبين الحضور الممكن في شعبة القرآن والحديث في كلية أصول الدين.
وجاءت الامتحانات، وانتهت بسلام، وانتقلت إلى السنة الثالثة والأخيرة في الدراسات المنهجية المطلوبة للحصول على درجة الأستاذية أو (الدكتوراة).
السنة الأخيرة وبحث الشفاعة:
وفي السنة الأخيرة كان علي -مع الامتحان التحريري والشفهي والتعيين- امتحان آخر، هو تحضير موضوع يحدد للطالب، يعدّ مادته في ظرف أسبوع أو عشرة أيام، على ما أذكر، ويلقيه في صورة محاضرة عامة أمام لجنة من كبار الشيوخ، تسأله في الموضوع بعد إلقائه، ويدعى جمهور من الطلاب والدارسين لشهود المحاضرة، وهي عادة تكون في قاعة الشيخ محمد عبده.
وعندما جاء الموعد حُدِّد لي موضوع في الحديث، هو (أحاديث الشفاعة في صحيح البخاري) وما قيل حولها من كلام بين أهل السنة والمعتزلة.
وقد قرأت الموضوع في شروح البخاري ومسلم، وفي كتب التفسير، وفي كتب علم الكلام، ولا سيما الموسعة منها، مثل شرح المقاصد للسعد التفتازاني، وشرح المواقف للشريف الجرجاني. وكتبت فيها كراسة كاملة. وألقيتها محاضرة مرتجلة أمام لجنة من أربعة من كبار شيوخ الأزهر على رأسهم فضيلة الشيخ محمد نور الحسن وكيل الأزهر، ومن أعضائها الشيخ أحمد علي أستاذ التفسير بالكلية، والشيخ السنوسي أستاذ علم التوحيد بالكلية، ونسيت الرابع.
وبعد أن انتهيت من إلقاء المحاضرة في قاعة الشيخ محمد عبده الشهيرة، وحضور جم غفير من الطلاب وغيرهم، صفق الحاضرون طويلاً؛ دلالة على إعجابهم بما ألقي.. وبدأ أعضاء لجنة الامتحان يناقشونني، يسألونني وأجيبهم، وكان توفيق الله حليفي، ولله الفضل والمنة.
وكان بعض أساتذة جامعة القاهرة حاضرًا، فقال: إن هذا البحث وحده يكفي الطالب للحصول على الماجستير.
وانتهت هذه السنة الأخيرة بالنجاح والتوفيق، ومع هذا العناء كله في السنوات الثلاث، لا تنتهي هذه المرحلة بشهادة (ماجستير) أو ما يعادلها، بل تسمى: (تمهيدي دراسات عليا)!
تسجيل رسالتي عن الزكاة:
وكان عليّ بعدها أن أبدأ باختيار موضوع أسجله لرسالة الأستاذية أو (الدكتوراة). وكنت في أول الأمر متجهًا إلى أن أكتب في موضوع يتصل بالعقيدة، وهو: (براهين القرآن على نبوة محمد)، وأعددت فيه مسوّدات لها قيمتها، لا تزال عندي حتى اليوم.
ثم تغير اتجاهي إلى موضوع آخر يتصل بالشريعة وفقهها، وهو موضوع حول الزكاة، الركن الثالث في الإسلام، وهو ما ترجح لي اختياره وتقديمه إلى الكلية بعنوان: (الزكاة في الإسلام وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية).
وقد تقدمت بموضوعي إلى إدارة الكلية مشفوعًا بخطة البحث، وعينت لي الكلية مشرفًا هو شيخنا الشيخ أحمد علي. ولهذا الحديث بقية ستأتي في موضعها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق