الاثنين، 21 أبريل 2008

مذكرات الفريق / سعد الدين الشاذلي (2)

الفصل السابع عشر: قصة الخلاف بيني وبين صادق،
أعمدة السلطة الثلاثة:
لقد كانت القوات المسلحة المصرية هي أداة التغيير في ثورة 23 يوليو عام 52. وقد كانت الثورة تعتبر ولاء القوات المسلحة من أهم أهدافها، وقد كان تعيين عبد الحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة يهدف في المقام الأول إلى تأمين القوات المسلحة وضمان ولائها.
كانت وظيفة القائد العام للقوات المسلحة هي وظيفة جديدة خلقتها الثورة، وهي وظيفة غير موجودة إطلاقا لا في التنظيم الغربي ولا في التنظيم الشرقي، حيث يعتبر(ر.ا.ح.ق.م.م) في كل من الكتلتين الشرقية والغربية هو قمة الجهاز العسكري ويتبع وزير الحربية الذي يمثل القيادة السياسية. أما في مصر فإن إدخال هذا النظام قد خلق تنازعا على السلطات وأضاع المسئولية بين القيادة السيـاسية والقيادة العسكرية، فبينما لا يوجد خـلاف حول. شخصية(ر.ا.ح.ق.م.م) من حيث كونه رجلا عسكريا فهناك جدل كبير حول شخصية وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة. هل هو رجل عسكري أم مدني؟ هل أي خطأ يرتكبه يعتبر خطأ للقيادة السياسية أم لا؟ هل أي قرار يتخذه يعتبر هو المسئول عنه كقائد عسكري أم أن مسئوليته تتوقف عند القرار السياسي.
وفي سبيل أن يضمن عبد الحكيم عامر ولاء القوات المسلحـة جعل ثلاث إدارات تتبع له تبعية مباشرة بحيث لا يكون لرئيس أركان حرب القوات المسلحة أي سلطات عليها، اللهم إلا من ناحية الشكل فقط وهذه الإدارات هي إدارة المخابرات الحربية، وإدارة شئون الضباط وهيئـة الشئون المالية. إنه عن طريق إدارة المخابرات الحربية يستطيع أن يحدد من هم الموالون ومن هم السـاخطون. وهو عن طريق إدارة شئون الضـباط يستطيع أن يقصر القيادات والمناصب الحسـاسة على العناصر الموالية له، وعن طريق الهيئة المالية والحسابات السرية يستطيع أن يغدق عطائه على المخلصين والتابعين. وبعد ذهاب المشير عامر حل محله الفريق فوزي فحافظ على التراث وقننه. كان عبد الحكيم عامر يستمد قوته وسلطاته من الشرعية الثورية بحكم انتمائه إلى الثورة وكونه عضوا بارزا في مجلس قيادة الثورة، فلم يكن في حاجة إلى قانون أو قرار جمهوري يحدد له سلطاته، بل العكس هو الصحيح. فمنذ أوائل الستينيات كان قد اصبح في استطاعته أن يتحدى سلطات رئيس الجمهورية. فلما ورث الفريق محمد فوزي هذا المنصب لم يكن يطمع في تحدي سلطات رئيس الجمهورية ولكنه كان يطمع في كل ما هو دون ذلك، فاستصدر من رئيس الجمهورية قرارا جمهوريا يعطي له سلطات ضخمة وكانت جميع هذه السلطات طبعا على حساب سلطات ر.ا.ح.ق.م، وبذلك اصبح الفريق محمد فوزي يمارس سلطاته طبقا لقرار جمهوري. ثم جـاء من بعده الفريق محمد صادق فوجد هذه السلطات فبدا يمارسها بالأسلوب نفسه الذي كان يمارسها به عبد الحكيم عامر ومحمد فوزي.
لقد كان هذا هو الوضع عندما تسلمت عملي كـ ر.ا.ح.ق.م. وجدت نفسي مبعدا تماما عن تلك الإدارات الثلاث لم تكن لدى أية رغبة في أن أقحم نفسي في مشكلات السلطة، فقد كانت أمامي مجالات كثيرة للعمل يمكن أن تستنفد طاقاتي كلها، ولكن تتابع الأحداث جرفني لكي أجد نفسي في قلب المشكلة.
كنت اجلس في أحد الأيام في نادي هليوبوليس الرياضي ومعي أحد الضبـاط القدامى الذي كان قد ترك القوات المسلحة في أوائل الخمسينيات وعين في وزارة الخـارجية ووصل إلى درجة سفير بها، ثم تقاعد بعد ذلك. اشتكى لي بأنه لا يستطيع الحصول على تأشيرة خروج من مصر إلا إذا حصل على موافقة من القوات المسلحة لأنه كان ضابطا يوما من الأيام، على الرغم من انه ترك القوات المسلحة منذ اكثر من 18 عاما. تعجبت من هذه الأوامر التعسفية ووعدته بان ابحث الموضوع. طلبت مدير المخابرات الحربية وبحثت معه الموقف فاتضح أن ما قاله السيد السفير كان صحيحا. فطلبت إليه إلغاء هذه التعليمات ولكنه طلب منى بأدب أن ابحث الموضوع مع السيد الوزير. بحثت الموضوع مع السيد الوزير فوجدته يرى ضرورة الإبقاء على هذا النظام! (1) لماذا؟ لأن بعض الضباط القدامى مقيدين في القائمة السوداء التي بموجبها لا يصرح لهم بمغادرة البلاد. قلت له "لماذا لا ترسلون القائمة السوداء إلى إدارة الجوازات وبذلك تعفون آلاف الضباط غير المقيدين في تلك القائمة من تلك القيود البيروقراطية ؟" قال لأننا لا نريد أن يعرف من هو في القائمة السوداء انه مقيد عندنا وذلك لأغراض الأمن! " ولعلم القارئ فإن الاصطلاح "لأغراض الأمن " هو الاصطلاح الذي يمكن به إنهاء أية مناقشة، وتحت ستار هذا الاصطلاح تتعاظم سلطة الحاكم ومعاونيه في النظم الاوتوقراطية وتمتهـن الديمقراطية وتنتهك الحرمات، أي أمن هذا؟! كيف تحافظ إسرائيل على أمنها وهي في الوقت نفسه تمارس الديمقراطية وتحترم حرية الفرد اليهودي إلى ابعد الحدود!!
كانت إدارة شئون الضباط في وضع مختلف. فقد كنت بحكم وظيفتي أعتبر رئيسا للجنة شئون الضباط التي تتكون من حوالي 15 ضابطا من رتبة لواء، وتختص هذه اللجنة بالنظر في شئون الضباط من ترقية وطرد وعقاب ولكنها لا تختص بشئون التعيين في وظائف القيادة أو النقل من وظيفة إلى أخرى، حيث أن ذلك يتم بتعليمات مبـاشرة من الوزير إلى مدير إدارة شئون الضباط. كنا نجتمع في هذه اللجنة في المساء وكان اجتماعنا يمتد إلى ما بعد منتصف الليل لعدة ليال متتالية لكي نقوم بهذا العمل بما يرضي الله والضمير. كنا نستمع إلى جميع الآراء ثم نجرى التصويت. ويكون القرار دائما طبقا لرأى الأغلبية. وبعد كل هذا العناء كان يتحتم عرض قرار اللجنة على السيد الوزير. كنت أظن أن تصديق الوزير هو أمر شكلي إذ لا يعقل أن يبحث الوزير في خلال خمس دقائق ما قام به 15 ضابطا كبيرا في ثلاثيين ساعة عمل ( أي 450 رجل ساعة)!! ولكني كنت مخطئا في تصوري! إن الوزير يقوم بشطب أي قرار لا يعجبه ويضع بدلا منه قراره هو فإذا ناقشته في ذلك فإنه يقول "أنا أعرف هذا الضابط اكثر منكم،، قلت له "لماذا إذن أضيع وقتي ووقت 14 جنرالا معي في عمل يمكن أن يشطب بجرة قلم منك؟ لماذا لا تقوم أنت بالعمل كله وتعفينا من هذا العناء".
لقد كـان صادق هو أحد رجال الانقلاب الذي قام به السادات في مايو 71، وكانت هذه الصفة بالإضافة إلى كونه وزيراً للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة تعطيه سلطات واسعة على المستويين السياسي والعسكري. كان الجميع يعرفون قوة صادق بما فيهم أنا طبعا. ولكنه مع ذلك- كبشر- كان أحيانا يحب أن يستعرض هذه القوة وفي ساعة من ساعات التجلي كنت في مكتبه أتناقش معه في بعض الموضوعات قبل سفره إلى السعودية في طائرة بوينج خاصة تنتظره في المطار، فاخرج من جيبه كتابا ناولني إياه وقال لي أقرا، كان الكتاب في ظرف غير مغلق وهو معنون باسم الملك فيصل، وموقع من قبل الرئيس السادات، وفيه يقول السادات للملك فيصل: "أن الفريق صادق هو موضع ثقتي الكاملة، أن أي شيء يقوله أو يعد به هو باسمي تستطيع أن تتكلم وتتعامل معه كما لو كنت تتعامل معي". (2)
قاتل الله السلطة التي تجمع بصاحبها فتدمره لقد أخذت سلطات صادق تتعاظم يوما بعد يوم حتى دمرته. لقد ارتكب صـادق أخطاء من سبقوه نفسها. أنه يبطش بأي ضابط يعترض طريقه ويغدق العطاء على من يسير في ركابه. ويضيق صدره إذا سمع رأيا يختلف عن رأيه. لقد بدأت السلطة تجمح به في أواخر عام 1971 وبدا الخلاف بيني وبينه يظهر ولم نكن قد عملنا معا سوى ستة أشهر. لقد كان صادق صديقا عزيزاً لي منذ أيام شبابنا. وأنا مازلت احبه وأقدره إني اختلف معه في كثير من الآراء ولكني مازلت اعتقد انه عنصر وطني يمكن أن يخطئ وأني اقف بجانبه ضد الاتهامات الباطلة التي يوجهها إليه السادات اليوم دون أن يعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه. أن كل ما ألوم صادق عليه هو انه خضع للسلطة فجمحت به حتى اصبح لا يطيق أن يسمع رأيا يخالف رأيه. انه الضعف الإنساني. لم يكن صـادق أول هؤلاء ولن يكون قطعا أخرهم أني اشعر أن من واجبي أن أظهر هذه الحقائق عسى أن يستفيد منها بعضهم فلا يقعوا في الخطأ نفسه الذي وقع فيه أسلافهم.
الخلاف أثناء اجتماع مجلس الدفاع المشترك:
وقع أول تصادم بيني وبين صادق في أواخر نوفمبر 71 خلال فترة انعقاد مجلس الدفاع العربي المشترك. (3) كنت اعرض مشروعا جديدا على المجلس بصفتي الأمين المساعد العسكري للجامعة العربية" بينما كان هو يحضر الاجتماع مندوبا عن مصر بصفته وزيرا للحربيـة. لم يعجـبه الخط الذي كنت أسير فيه فجـاء يلومني خلال فترة الاستراحة بين الجلسات ويطلب إليّ تغيير المسار لكي يتفق مع وجهة نظره فرفضت قائلا " أنك بصفتك وزيرا للحـربية في مصر تستطيع أن تصدر إليّ التوجيهات بصفتي (ر.ا.ح.ق.م.م)، أما بصفتي الأمين العام المساعد العسكري للجامعة العربية فإنه ليس من حقك أن تصدر إليّ أية توجيهات انك تمثل مصر وتستطيع أن تتكلم باسم مصر كيفما تشاء ويستمع إليك الآخرون ويناقشونك أما أنا فإنني أتكلم باسم جميع رؤساء أركان حرب القوات المسلحة العربية،، فرد غاضبا بنبرة لا تخلو من التهديد "ولكنك تعلم أن وظيفتك أمينا عسكريا مساعدا للجامعة العربية هي نتيجة لكونك (ر.ا.ح.ق.م.م)، فأجبت نعم اعرف ذلك ولكنـي لن أساوم على حريتي في العمل أمينا مساعدا للاحتفاظ بوظيفتي (ر.ا.ح.ق.م.م)، وهذه الحقيقة يجب أن تعرفها جيدا".
الخلاف حول سلطات (ر.ا.ح.ق.م.م):
حاول صادق أن يتوسع في سلطاته في شئون القوات المسلحة كما لو انه ليس هناك من يشغل منصب ر.ا.ح.ق.م.م، وكان علىّ أن أقف ضده كان يعتقد انه بصفته وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة فإنه هو وحده الذي له سلطة اتخـاذ القرار وأنه يتحتم علي أن أخطره بكل شيء وألا اتخذ أي قرار، قلت له "إنك تريدني أن أقوم بأعمال مدير مكتب وليس ر.ا.ح.ق.م.م وهذا ما لا أقبله!". فما كان منه إلا أن اخرج من مكتبه القرار الجمهوري الذي استصدره سلفه الفريق فوزي وقال لي"تفضل واقرأ هذا القرار وأنت تعرف أني اعمل في حدود سلطاتي!". لقد كان القرار غامضاً في بعض النواحي ولكنه كـان على العموم يعطي سلطات واسعة للقائد العام للقوات المسلحة الذي قام هو نفسه بتحريره والتصديق عليه من رئيس الجـمهورية دون أيـة دراسة من الأجهزة الفنية المتخصصة. إن هذا هو أحد من الدروس التي يجب أن نتعلمها في مصر من أخطاء الماضي. "عندما يكون شخص ما في السلطة فإنه يقوم باستصدار قانون أو قرار جمهوري يخدم أغراضه ويقنن تصرفاته".
ولإصلاح هذا الوضع بالنسبة للأجيال القادمة دعوت لجنة لدراسة هذا الموضوع، تتكون من اللواء عمر جوهر رئيس هيئة التنظيم واللواء محـمد عبـد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات وآخرين. وقد كـان رأي الجميع دون استثناء هو أن تكون هناك شخصيـة سياسية هي شخص وزير الحربية وتختص باتخاذ القرار السيـاسي والقرار الاستراتيجي، أما جميع القرارات ما دون ذلك بما في ذلك- إدارة العمليات الحـربية والسيطرة والإدارة اليومية للقوات المسلحة- فإنها تكون من اختصاص وظيفة عسـكرية هي رئيس أركان حرب القوات المسلحة. وحتى لا يكون هناك أي إحراج لأحد، اقترحت أن يطبق هذا النظام بعد تغيير كل من وزير الحربية الحالي ورئيس أركان الحرب الحـالي حتى لا يتهمني أحـد بأنني أبحث عن السلطة. ولما عرضت هذه الاقتراحات على الوزير رفضها.
الخلاف حول توزيع الدبابات ت 62:
في خلال المفاوضات بين مصر والسوفيات في فبراير 72 وافق الجـانب السوفيتي على إمدادنا بعدد من الدبابات ت 62. وفي يوم 26 من فبراير اجتمعت لجنة برئاسة الوزير لبحث طريقة استيـعاب وتنظيم هذه الدبابات. لقد كان رأي الوزير ومعه رئيس هيئة العمليات ورئيس هيـئة التنظيم هو أن نسلم هذه الدبابات إلى اللواءين المدرعين المستقلين، وأن تحل الدبابات ت 54 و ت 55- التي كـانت أصلا ضـمن تنظيم هذين اللواءين- مـحل الدبابات ت 34 في التشكيلات الأخـرى. أما أنا فقد عارضت هذا الرأي وطالبت بتسليم الدبابات ت 62 إلى الفرقتين المدرعتين بدلا من اللواءين المسـتقلين. وقد بنيت رأيي على أساس أن وجود هذه الدبابة القوية ذات المدفع 115 مم ضمن الفرق المدرعة وفي احتياط القوات المسلحة يجعلنا قادرين على توجيه ضـربة قوية وحاسمة في الاتجاه الذي قد يظهر لنا أثناء المعركة. (4) أما
توزيعها على الألوية المدرعة المستقله فسوف يترتب عليه ان تستخدم هذه الألوية في الأغراض الأولى من المعركة وفي اتجاهات قد لا تكون ذات أهمية كبيرة وقد وافقني الفريق عبد القادر حسن على هذا الرأي.
في اليوم التالي اجتمعنا مرة أخرى لبحث الموضوع نفسه ولكن في هذه المرة بعد أن انضم إلينا الجنرال اوكينيف وبعض المستشارين السوفيت. قام السيد الوزير بصفته رئيسا للمؤتمر طلب رأي الحـاضرين واحدا بعد الآخر. أيد الجمسي وعمر جوهر رأيهم السابق وعدل عبد القادر حسن رأيه لكي ينضم أليه. أما أنا فقد قمت بتأكيد رأيي الذي أعلنته في اليوم السابق، وبذلك أصبحت المعارض الوحيد لوجهة نظر الوزير. استمعنا بعد ذلك إلى رأي المستشارين فكانوا جميعا ذوي رأي واحد يتطابق مع وجهة نظري. وهنا علق الوزير موجها كلامه إلى كبير المستشارين بأسلوب لا يخلو من الغمز "أرى انك تتفق تماما مع الفريق الشاذلي "! (5)
وقد عرفت فيما بعد أن السبب الحقيقي الذي دفع صادق للوقوف ضد اقتراحي هو انه كان يشك في ولاء العميد عادل سوكه الذي كان قائدا لإحدى الفرق المدرعة. وان تسليم 100 دبابة جديدة ت 62 إليه قد يخل بالتوازن الأمني الداخلي الذي تضعه القيادة السياسية المصرية دومـا في مقدمـة المتطلبات العسكرية للمعركة. وهكذا اتخذ الوزير القرار بتسليم الدبابات ت 62 إلى كل من اللواءين المدرعين المستقلين 15 و25
موضوع اللواء عبد الرؤوف:
كان يوم 20 من أبريل 72 هو قمة الخلاف بيني وبين الفريق صادق، وذلك عندما اتخذ صادق إجراء تعسفيـا ضد اللواء عبد الرؤوف كان اللواء عبد الرؤوف يعمل في تصفية أعمال القيادة العربية الموحدة وكان البند الثامن من قرارات مجلس الدفاع المشترك في دورته الثانية عشرة التي انعقدت في القاهرة ما بين 27 و30 نوفمبر 71 ينص على "تخصيص مبلغ مليون ونصف المليون جنيه إسترليني من الرصيد المتبقي لدى القيادة العربية الموحدة لشراء لنشي مساحة، على أن تقوم جمهورية مصر العربية بتدبير الفنيين اللازمين لتشغيل هذين اللنشين وعلى أن تلتزم بعملية المسح الهيدروغرافي لجميع السواحل العربية طبقا للأسبقية التي يضعها مجلس الدفاع المشترك" .لقد وافقت جميع الدول العربية بالإجماع -بما فيها مصر- على هذه القرارات وكنت بحكم وظيفتي أمينا مسـاعدا عسكريا للجامعة العربية مسئولا عن تنفيذ هذا القرار. وبعد القيام بالدراسات الأولية قررت إرسال اللواء عبد الرؤوف إلى لندن للقيام بالإجراءات النهائية والتوقيع على العقود اللازمة. وفى يوم سفر اللواء عبد الرؤوف قام الفريق صادق بإجراء تعسفي عنيف ضده أثناء قيامه بتنفيذ هذه المهمة.
لقد أمر صادق رجـال مخابراته بإيقافه في المطار أثناء تحركه في اتجاه الطائرة وعومل في المطار معاملة غير كريمة وكأنه طفل هارب !! لقد كـان خطا كبيرا من صادق لا يليق بجمهورية مصر العربية! إنني لم ارغب في إثارة هذا الموضوع على المستوى العربي حينذاك خوفا من أن يؤثر ذلك على العلاقات والتعاون الذي يربط مصر- بصفتها الدولة المضيفة لمنظمات جامعة الدول العربية- بباقي الدول العربية. أما الآن وبعد أن مضى اكثر من سبع سنوات على هذا الحادث، فإن من حق الدول العربية أن تعرف هذه الحقيقة حتى تعمل على ضمان عدم تكرار مثل هذه الحوادث في المستقبل، لذلك فأنى أثير السؤال التالي أمام العرب كله:
"هل من حق السلطات المصرية أن تتخذ إجراءات تعسفية ضد المصريين الذين يعملون في الجامعة العربية بطريقة تمنعهم من تنفيذ قرارات اتخذتها الجـامعة العربية ومنظماتها المختلفة؟ إذا كانت الإجـابة من الناحية النظرية هي"لا"، فما الضمانات التي تكفلها الجامعة العربية لموظفيها حتى يمكنهم أن يحتفظوا بحريتهم في العمل وعدم خضوعهم للإرهاب الذي قد تمارسه السلطات المصرية ضدهم كما حدث للواء عبد الرؤوف"؟
لقد قضيت نهار يوم 20 من أبريل 72 في الجيش الثـالث، حيث كانت الفرقة الرابعة المدرعة تقوم بإجراء مشروع تدريبي. وعندما وصلت إلى مكتبي حوالي السـاعة 1730 علمت بالحادث المحزن الخاص باللواء عبد الرؤوف. وفى الساعة 2000 قابلت الوزير في مكتبه. لقد كانت مقابلة صاخبة. وقد قلت له "لا يمكن أن تسير الأمور بهذا الشكل، يجب أن نقابل رئيس الجمهورية ليحكم بيننا" وعندما قلت له ذلك ثار غضبه وكأن عقربا قد لدغه وصاح قائلا "فكرة كويسة. لازم نروح لرئيس الجمهورية. سوف أقول لرئيس الجمهورية يجب أن يختار يا أنا يا سعد الشاذلي في القوات المسلحة!". كانت الساعة حوالي التاسعة من مساء يوم الخميس عندما غادرت مكتب الوزير على أمل أن نقابل الرئيس يوم السبت التالي. إن صادق الرجل القوي الذي لم يكن ليخشـى رئيس الجمهورية لم يضع الوقت سدى،فاصدر أمرا بعزل اللواء عبد الرؤوف من منصـبه وعين اللواء طلعت حسن علي بدلا منه. وتحت مختلف أساليب القهر والتهديد أرغم اللواء عبد الرؤوف على إرسال برقية إلى لندن لاسترجاع الأموال التي حولها البنك الأهلي المصري لتكون تحت تصرف اللواء عبد الرؤوف واللجنة المرافقة له. وهكذا خلال يوم الجمعة- وهو عطلة رسمية- أتم صادق تنفيذ ما يريده، وعند عرض الموضوع على الرئيس فإنه سوف يجد نفسه أمام الأمر الواقع Fait accompli. في تمام الساعة 1130 من يوم 23 من أبريل ذهبت أنا وصادق إلى منزل الرئيس في الجيزة. وفي حضور صادق أخبرت الرئيس بكل شئ، أخبرته بقصة اللواء عبد الرؤوف. أخبرته بقصـة توزيع الدبابات ت 062 أخبرته كيف ينفرد صادق بالسلطة في المخابرات الحربية وشئون الضباط و أضفت قائلا" سيادة الرئيس تحت هذه الظروف حيث لا سلطان لي على إدارة المخابرات الحربية ولا على إدارة شئون الضباط فأني لا يمكن أن أكون مسئولا عن أمن القوات المسلحة (6) ! كان دفاع الفريق صادق لتبرير تصرفاته عنيفا من وجـهة نظري على الأقل.
فيما يتعلق بقصة اللواء عبد الرؤوف ذكر أن المبالغ المحولة إلى لندن كان من الممكن صرفها من البنك بتوقيع واحـد هو توقيع اللواء عبد الرؤوف، وأن ذلك يعطيه الحق في التصرف في هذه الأموال كأنها أمواله الشـخصية و أضاف قائلا: " إننا نعرف في إدارة المخابرات الكثير عن اللواء عبد الرؤوف مما لا يعرفه الفريق الشاذلي. (7) لقد أمرت يا سيادة الرئيس بإجراء تحـقيق في هذا الموضوع وسأعرضه عليكم خلال أيام". وفيما يتعلق بإدارة المخـابرات تكلم بغموض وعدم تحديد فقال إنه يوافق على أن يقوم بإخباري بما يجري في إدارة المخابرات، ولكن هذا لايعني بالضرورة انه يتحتم عليه أن يأخذ رأيي في كل شئ حيث إن هذا يعني فرض حدود على حريته في العمل. وفيما يتعلق بإدارة شئون الضباط قال إن من حقه اعتماد قرارات لجنة شئون الضباط وانه لم يمارس حقه في تعديل هذه القرارات إلا مرة أو مرتين (8) رددت عليه" إن المسالة مسـالة مبدأ إذا كان لك أن تنقض قرار لجنة مكونة من 15 ضابطا كبيرا فيجب أن تكون هناك أسباب قوية، أسباب أقوى من مجرد معـرفتك الشخصية لهذا الضابط. إن مستقبل الضباط يجب ألا يترك في يد شخص واحد"! وعلى الرغم من شعوري بأن ما أقوله كان منطقيـا فقد حاول صادق أن يستـخدمه ضدي وصاح قائلا شوف يا سيادة الرئيس سعد الشاذلي عايز يحرمني من سلطاتي!!" (9) وفيما يتـعلق بقصـة الدبابات ت 62 أتهمني صـادق بأني اقف دائما ضده وفى صف المستشارين السوفيت. لقد مكثنا مع الرئيس حوالي ثلاث ساعات ولم يتخذ الرئيس أي قرار حاسم بخصوص الموضوع. كل ما قاله هو بعض النصائح العامة. قال موجها كلامه لصادق "لا يا محمد لازم تقول لسعد على كل حاجة في المخـابرات وتستشيره في تعيينات وتنقلات الضباط الراجل مشترك في المسئولية!"، وقال موجها كلامه لي "شوف يا سعد، لازم تأخذ بالك، الروس حيخدعوك، كل الناس بتكرههم حا يحاولوا يستغلوك حتكون أنت الخسران!". كان واضـحا من كلام الرئيس أن صادق نجح في أن يزرع الشكوك في نفسه على اعتبار إني صديق للروس. ولكـني رددت بحدة "سيـادة الرئيس.. إذا تصادف وكانت أرائي أحيانا متطابقة مع آراء الروس، فليس معنى ذلك أني أتعاون معهم ضد أي شخص. إني أقول دائما وبصراحة ما اعتقد انه الحق وانه في مصلحة بلادي، بصرف النظر عما إذا كان ذلك يتمشى مع إنسان ما أو يتعارض معه". وهنا علق الرئيس قائلا: إني اعرف انك رجل وطني وانك لا يمكن أن تقوم بعمل ضد وطنك ولكن أخشى أن يخدعوك وان يجروك إلى الاتجاه الخاطئ". وهكذا غادرنا منزل الرئيس دون أن نحل أية مشكلة. سـارت الأمور في هدوء ويسـر لمدة أسابيع قليلة ثم ارتدت مرة ثانية إلى طبيعتها السابقة. (10)
ولكي يثبت الفريق صادق أن اللواء عبد الرؤوف لم يكن أهلا ليؤتمن على ما يقرب من مليون جنيـه إسترليني، فإنه أمر بتشكيل لجنة تحـقيق لبحث أية مخالفات ماليـة يكون قد ارتكبها أثناء قيامه بعمله كرئيس أركان بالنيابة للقيادة العربية الموحدة، وكان رئيس هذه اللجنة هو اللواء طلعت حسن علي الذي عينه صادق ليحل محل اللواء عبد الرؤوف. (11) كان قرار مجلس التحقيق مخيبا للآمال، فقد وجه اللوم إلى اللواء عبد الرؤوف لارتكابه بعض الأخطاء المالية التافهة مثال ذلك استخدامه الهاتف الرسمي في مكالمة خـاصة مع ابنته في أمريكا دون أن يدفع ثمنها، وقيامه بشراء قلم حبر من الأموال العربية لا المصرية لاستعماله الخاص، وغير ذلك من المخالفات التافهة. (12)
ومع أنني شخصيا لا أؤيد أية مخالفة سواء أكانت كبيرة أم صغيرة فإنني أود أن أعلن أن هناك أخطاء جسيمة ترتكب يوميـا من قبل كبـار الشخصيـات المصرية، أخطاء تزيد في جسامتها مئات المرات على تلك الأخطاء التي نسبت إلى اللواء عبد الرؤوف، ما قـيمة مكالمة هاتفيـة إلى أمريكا إذا قورنت بهاتف خـاص ذي خط خاص إلى جميع بلاد غرب أوروبا؟ ما قيمـة ثمن قلم حبر إذا قورنت باستخدام طائرة تملكها الدولة وتتسع لأكثر من 100 راكب من قبل فرد واحد في تنقلاته وأحيانا زوجته وأولاده؟ لماذا عندما يسافر بعض المصريين للخارج- وإلى لندن بالذات- يصرف لبعضهم بدل سفر يومي 10 جنيهات إسترلينية بينما بعض المحظيين يكون لهم حساب مفتوح، وينفق بعضهم حوالي مائتي جـنيه إسترليني في اليوم؟ هناك الكثير من المخـالفات المالية ولكن لم يأت بعد وقت الحساب. عموما فإن هذا هو المنطق السائد في مصر.. منطق القول عندما يكون الشخص في السلطة فإن كل ما يقوم به من عمل هو صحـيح وقانوني، فإذا سقط فإن من في السلطة يستطيع دائما أن يبحث، وان يستخرج الكثير من الأخطاء. لقد حاكم السادات وشوه سمعة الكثيرين ممن خدموا في عهد عبد الناصر. و هاهم هؤلاء رجاله يرتكبون أضعاف أضعاف ما نسب إلى رجال عبد الناصر، ألا يعلم هؤلاء الناس أن عجلة الزمن تدور دون توقف وأنه سيأتي اليوم الذي يحاسبون فيه؟!
الفصل الثامن عشر: أبريل 72.. أكتوبر 72
وأخيراً تم التوقيع على الصفقة:
في يوم 27 من أبريل سافر الرئيس إلى موسكو للمرة الثانية خـلال فترة اقل من ثلاثة شهور وعاد في 10 من مايو، فكانت بذلك أطول زيارة قضاها في الاتحاد السوفيتي. وفي 14 من مايو-أي بعد عودة الرئيس السادات بأربعة أيام فقط- وصل المارشال جريشكو. وفي اليوم نفسه قام المارشال جريشكو والسفير السوفيتي في الساعة السابعة مساء بزيارة السيد الرئيس، ولم يحضر هذه الزيارة أي من الفريق صادق وزير الحربية أو السيد مراد غالب وزير الخارجية. لقد كانت الترتيبات تقضي بان المارشال جريشكو ستسـتمر زيارته للرئيس لمدة ساعة يقوم بعدها بزيارة مجاملة للفريق صادق في منزله ثم يحضر الوزيران إلى نادي الضباط بالزمالك لحضور حفل العشاء الذي يقام على شرف المارشال جريشكو. ولكن زيارة المارشال جـريشكو للرئيس امتدت حتى السـاعة الحادية عشـرة وعندما وصل المارشال أخيرا إلى منزل صادق بادره قائلا "ليس لدى شئ أعطيه لك، لقد اخذ الرئيس كل ما كـان في جيوبي"، ورد عليه صادق "أرجو أن يكون الرئيس قد اخذ من جيوبك كل ما نريده". وفي خلال حفل العشاء تم الاتفاق على أن يقوم الفريق عبد القادر حسن بالتوقيع صباح اليوم التالي على الاتفاقية.
وفي صباح اليوم التالي كنت مع الفريق صادق في مكتبه ننتظر زيارة مجاملة يقوم بها المارشال جـريشكو إلى السيد الوزير. فسألته عن الأصناف التي تم الاتفاق عليها، فـاقسم يمينا مغلظا بأنه لا يعرف. واستدعينا الفريق عبد القادر حسن الذي كان مجـتمعا مع الجانب السوفييتي لسؤاله فقال إن الجانب السوفييتي يعرض:
- 16 طائرة سو 17
- 8 كتائب بيتشورا (سام 3)
- 1 فوج كوادرات يتم تسليمه عام 73
- 200 دبابة ت 62 يتم توريد نصفها خلال عام 72 والنصف الباقي خلال عام 73.
- قطع غيار مختلفة.
سالت الفريق عبد القادر حسن عن الأثمان فقال انه لم يصل معهم بعد إلى هذه النقطة. ولكنه سيقوم بإخطارنا عندما يعرف هو ذلك. بعد خروج الفريق عبد القادر حسن قلت لصادق. لماذا لا تتصل بالرئيس لتسأله عما تم الاتفاق عليه وتخطر به عبد القادر حسن. ان لم تفعل فإنك تترك عبد القادر حسن في موقف صعب للغاية"، وهنا طلب الوزير الرئيس هاتفيا.
وفي أثناء المكالمة حـاول صادق ان يلفت نظري إلى ما يقوله السـادات على الطرف الآخر وذلك بأنه تعمد تكرار ما يقوله السادات: "لا تناقش الأسعار.. لا تناقش توقيتات التوريد. فيما يتعلق بالدبابات لقد اتفقنا ان يتم توريد 60 دبابة خلال شهر يوليو ، 60 دبابة خلال 72، 80 خلال 73، فوج الكوادرات يتم توريده خلال 72". وبعد انتهاء الحديث التفت إلىّ وقال "لقد سمعت المحادثة. انك الشاهد الوحيد أمام الله وأمام التاريخ. سوف أوقع الاتفاقية دون مناقشة الأسعار ودون مناقشة توقيتات التوريد. ومع ذلك فإني سوف أمارس بعض الضغط بغرض الحصول على جميع الأصناف قبل نهاية عام 73، ولكن إذا لم يوافق الجانب السوفيتي فسوف أوقع على الاتفاقية"، فقلت له "تأكد أنني أقول الصدق دائما". وبعد خروجي من مكتب الوزير قمت بتسجيل ما دار من حـديث في مذكرتي الخاصة.
إنني لا اعرف ماذا دار بين السادات والقيادة السياسيـة السوفيتية خلال زيارته الأخيرة ولكني أتصور انه قال لهم وسمع منهم ان صـادق هو العقبة الكؤود في سبيل تحسين العلاقـات بين روسيـا ومصر، ولا أستبعد ان يكون قد وعدهم بأنه سيطرده وأن قيام السادات باستبعاد صادق من المفاوضات الخـاصة بالصفقة الأخيرة كان الغرض منه هو ان يثبت للجانب السوفيتي انه هو وحده الرجل القوي في مصر، ومن ناحية الاتحاد السوفيتي فأنه كان يرمي إلى الوصول إلى اتفاق مع مصر حول هذه الصفقة، حتى يمكنه ان يحضر مؤتمر قمة بريجنيف- نيكسون، الذي كان مزمعا عقده في موسكو في 20 من مايو 72 من موقع قوة.
مؤتمر الرئيس في القناطر الخيرية 6 من يونيو 72:
في 6 من يونيو 72 اجتمعنا في استراحة الرئيس في القناطر الخيرية. كان اجتمـاعا مصغرا ولا يشمل سوى الدائرة الصغرى من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحـة. وقد حضر هذا المؤتمر كل من: صادق، الشاذلي، محمد علي فهمي محمود علي فهمي، المسيري، محرز، الجمسي، علي عبد الخبير، عمر جوهر، حسن الجر يدلي (للسكرتارية). وبناء على تكليف من صادق اخذ الجمسي يقرأ تقريرا عن موقف القوات المسلحة تم إعداده خلال فترة زيارتي للعراق (26 من مايو- 2 من يونيو)، كما أشير أيضا إلى تقرير أعده اللواء أحمد إسماعيل بصفته مدير المخابرات العامة وبه يؤكد ان القوات المسلحة ليست في وضع يسمح لها بالقيام بعملية هجومية؛ وبعد ذلك فتح باب المناقشة طبقا لما يلي:
الرئيس:
يجب ان نفرق بين رجال السياسة ورجال الحرب ويجب ان تركزوا على المعركة القادمة.أنا والفريق صادق يشاركني الرأي انه يجب ألا نعمل إلا بعد تكوين قوة الردع أي أن يكون عندنا طيران يستطيع ان يضـرب عمق العدو " ولكن يجب ان نفكر "ما هو العمل إذا اضطرنا الموقف السياسي إلى بدء المعركة قبل الانتهاء من بناء قوة الردع؟ ".
الشاذلي:
إن ما ورد في التقرير حقائق لا يمكن إنكارها والمجادلة في صحتها، ولكن السؤال الآن هو: "ما العمل؟ ما هو الممكن عمله ؟" إن ربط المعركة بإعداد القوات البرية المصرية يعنى تأجيل المعركة سنوات أخرى لا يعلم أحد مداها. إن الفجوة التي بين القوات الجوية الإسـرائيلية والقـوات الجوية المصريـة تميل إلى الاتسـاع لا إلى الضيق. إن الاستراتيجية الأمريكية المعلنة والمنفذة في المنطقة هي الإبقاء على إسرائيل قوية بحيث تكون- قواتها أكـثر قوة من القوات الجوية للدول العربيـة مجتمعة. إننا لم نحصل بعد على طائرة ردع يمكن مقارنتها بطائرات الفانتوم التي يملكها العدو، وحتى لو حصلنا الآن على طائرة مماثلة فإن قدرتنا على استيعـاب هذه الطائرة ستحـتاج إلى فترة طويلة تكون إسرائيل قد حصلت مثلها على طائرة أخرى اكثر تقدما، وهكذا فإني لا أرى أملا في إغلاق أو تضييق الفجوة التي بيننا وبين إسرائيل في القوات الجوية في المستقبل القريب. لذلك فإني أرى انه يجب علينا أن نخطط لمعركة هجومية محدودة في ظل تفوق جوي معاد، ويمكننا ان نعتمد في تحدينا للتفوق الجوي خلال تلك المعركة على الصواريخ المضادة للطائرات سام.
المسيري:
أوافق تماما على كل ما قاله الفريق الشاذلي.
الرئيس (مازحـا):
والله يا مسيري إذا ما كنتم تحـاربوا كويس لأربطك في شجرة في الجنينة دي وأشنقك كمان.
رحلة صادق إلى موسكو يونيو 72:
سافر الفريق صادق إلى الاتحاد السوفيتي في الفترة ما بين 8 و13 يونيو 72. وفي يوم 20 من يونيو دعا الوزير إلى مؤتمر مصغر حضره- بالإضافة إلى الوزير- أنا وقائد القوات الجوية وقائد الدفاع الجـوي وقائد البحرية وقائد الجيش الثاني وقائد الجيش الثالث ومدير إدارة المخابرات الحربية. وقد افتتح صادق المؤتمر بان طلب إلـى مدير المخابرات أن يقرأ تقريرا كان قد سبق إعداده وقد جاء في التقرير أن وفدا من الصحفيين السوفيت زار بعض الوحدات الميدانية وكان يوجـه الأسئلة الآتية "ان إسرائيل لديها أسلحة حـديثة ومتقدمة. وعندما نقوم بأمدادكم بأسلحة متقدمة فإنكم تكتشفون ان إسرائيل قد أصبحت لديها أسلحة اكثر تقدما فتطلبون منا أسلحة أخرى اكثر تقدما وهكذا. ان الفجوة بينكم وبين إسرائيل قد تبقى كما هي بل قد تزيد، فهل يعني هذا أنكم لن تقاتلوا لتحرير أرضكم؟ لماذا يقاتل الفيتناميون أمريكا بالأسلحة نفسها التي معكم، يقاتلون الرأس أما انتم فتواجهون الذنب ؟".
وهنا علق الفريق صادق قائلا "إن هذا هو نفس كلام سعد الشاذلي".
الوزير:
شرح الوزير تفاصيل زيارته وتتلخص أقواله فيما يلي:
1- رأي المارشال جريشكو:
(أ) يجب تجهيز القوات المسلحة والدولة والشعب لمعركة طويلة الأمد.
(ب) يجب ان تحصلوا على ما تحتـاجون إليه من أسلحـة هجومية بالأعداد التي تطلبونها لضمان كسب المعركة. (5)
2- رأي المستر بريجنيف:
أ- إن الموقف الداخلي في مصر غير مستقر. مازال هناك أفراد من الجيل القديم يحاولون إرجـاع الماضي. هناك في مصـر من ينظر إلى الشرق ولكن هناك أيضـا من ينظر إلى الغرب.
ب- إن الموقف في الشرق الأوسط بالغ التعقيد. إن إسرائيل تعرض حلولا لا يمكن قبولها من قبل مصر ولا يمكن قبولها من قبلنا.
ج- أننا نؤمن بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وإننا متضامنون معكم ونؤيدكم في نضالكم.
د- يجب ان نعمل معا في المحافل الدولية اعتمادا على قرار مجلس الأمن 242.
هـ- إن تحرير الأرض يتطلب أولا بناء الجيش الدفاعي لمنع العدو من توسيع رقعة الأرض التي يحتلها، وبعد ذلك يجري بناء الجيش الهجومي الذي يقوم بتحرير الأرض. ولكن قبل بناء الجيش الهجومي يجب التأكد مما إذا كان هذا الجيش سيحارب أم لا؟ فقد لا يحارب الجيش بعد هذا كله. (6)
و- إن الإبقاء على المستشارين السوفيت في مصر ضرورة دولية. (7)
ز- لن نقوم بعقد اتفاقية مع أمريكا على حساب مصر.
ح- أنت من واجبك (الكلام موجه إلى صادق) تحرير الأرض ومسـاعدة أصدقائكم في سوريا.
3- انطباع الفريق صادق:
انتقل صادق بعد ذلك إلى ذكر انطباعاته عن هذه الزيارة فقال:
أ- إن السوفيت مهتمون جدا بالجبهة الداخلية، بل انهم طلبوا تنحية الأشخاص الذين تتعارض سياستهم مع الاتجاه السوفيتي.
ب- إنه لا تغيير في السياسة السوفيتية بعد مؤتمر قمة بريجنيف- نيكسون.
ج- إن السوفيت يريدون تهدئة الموقف في المنطقة إلى ان ينجح نيكسون في الانتخابات في نوفمبر القادم، وبعد نجاحه فانهم سوف يماطلون في إمدادنا بالسـلاح لتمييع القضية، بأمل الوصول إلى حل سلمي للقضية.
تامين الأهداف الحيوية ضد العمليات الإرهابية:
عند بحث الإجـراءات المضادة التي نتخـذها في مواجهة العمليات الإرهابية، كان هناك اقتراح بان تقوم القوات المسلحة بالتعاون مع الشرطة في توفير الحماية للأهداف المدنية. وقد أوضحت أنه يكاد يكون من المستحيل تدبير القوات اللازمة لتوفير الحماية لجميع الأهداف، وإننا سوف نكون ضعفاء في كل مكان. إننا لا نستطيع ان نحمي جـميع الفنادق والمدارس والنوادي ودور السينما ومكاتب الحكومة وآلافا غيرها من الأهداف. ولمقابلة هذا التهديد فإنه يجب ان نوفر قدرا من الدفاع الذاتي لكل هدف من هذه الأهداف مع الاحـتفاظ بقوة خفيفة الحركة يمكن دفعها فورا إلى المكان الذي يكون هدفا للهجوم.
ولتحقيق هذه الفكرة فإن ذلك يتطلب توزيع بعض الأسلحة على المدنيين الذين يعملون في تلك الأمكنة، ولكن هذه الفكرة كانت مرفوضـة تماما لأنها- كما يقول رجال الأمن- تعرض الأمن الداخلي للخطر. وكحل بديل اقترحت ان يسمح لضباط القوات المسلحة بان يحملوا أسلحتهم معهم أينما ذهبوا، لأن هذا الإجراء سيوفر لنا بصفة مستديمة حوالي 10000 رجل مسلح خارج المعسكرات منتشرين في طول البـلاد وعرضها. فإذا وقع اعتداء على أي هدف من أهدافنا المدنية فإن هؤلاء الرجـال المسلحين يستطيعون القيـام بما يستطيعون إلى ان تصل إليهم النجدة من القوة الاحتيـاطية المخصصة لنجدة هذا الموقف. وعندما عرضت هذه الفكرة على الوزير في 3 من يوليو 72 أخبرني بأنه سيقوم بإبلاغ ذلك إلى الرئيس.
في 5 من يوليو 72-أي بعد فترة امتدت أكثر من شهر تصورت خلالها ان الاقتراح قد رفض- أخطرني الوزير بأن الرئيس قد وافق على ان يسمح للضباط بحمل السلاح خارج معسكراتهم، والآن فإن المرء ليتساءل ما الذي دفع الرئيس إلى ان يتردد طوال هذه المدة؟ هل هناك علاقة ما بين هذا القرار وقرار طرد المستشارين والوحدات السوفيتية الذي كان قد بدأ يتبلور في رأس السادات؟
مغامرة النقيب عيد:
في حوالـي الساعة 1845 يوم 12 من أكتوبر 72 رن جرس الهاتف في منزلي وكان المتكلم هو الفريق سعد الدين الشريف كبير الياوران بالنيـابة. أخطرني الفريق بان عددا من الدبابات قد دخلت القاهرة وإنها تعصي أوامر الشرطة العسكرية، وقال ان هذا الموقف يهدد أمن وسلامة الرئيس ويشكل خطورة على موكب الرئيس المزمع تحـركه الليلة لحضور اجتماع مجلس الأمة الاتحادي في مصر الجديدة كما أخبرني بأنه اخطر الفريق صادق بهذا الحـادث قبل ان يتصل بي مبـاشـرةتحركت فورا إلى مكتبي حـيث علمت ان الشـرطة العسكرية
قد قبضت على قائد تلك القوة وأخذته إلى قيادة المنطقة المركزية فتحركت على الفور إلى هـناك حيث وجدت الفريق صادق قد حضر قبلي بدقائق، وبعد أقل من نصف ساعة حضر اللواء عبد الخبير قائد المنطقة العسكرية المركزية، وقد ظهر أن قائد القوة الذي قبضت عليه الشرطة العسكرية هو النقيب على حسني عيد وهو قائد سرية مشاة ميكانيكية ضمن لواء مدرع يتمركز شرق القاهرة بحوالي 20 كيلومترا.
تتلخص رواية النقيب عيد فيما يلي: "لقد كانت سريتي مكلفة بواجب القضاء على أية جماعات منقولة جوا قد يقوم العدو بإسقاطها في المنطقة. وقد رأيت ان أقوم بتدريب رجالي على تنفيذ المهمة التي كلفنا بها واختبار مدى كفاءتهم في تنفيذها، وفي الساعة 1400 بدأ المشروع التدريبي وبعد الانتهاء من التدريب فكرت في أن نقوم بأداء صلاة المغرب في جامع الحسين بالقاهرة. وعند وصولنا إلى الجامع تركنا عرباتنا في ميدان الحسين ودخلنا الجامع، حيث صلينا وبعد الانتهاء من الصلاة فوجئنا بالشرطة العسكرية تحيط بنا وتقبض علينا.
كان الفريق صادق يتولى التحقيق بنفسـه بينما كنت أنا واللواء علي عبد الخبير نستمع إلى أقوال النقيب المذكور والشهود ونتدخل من وقت لآخر لتوجيه سؤال أو لاستيضاح نقطة غامضة. (9) لقد كانت قصة النقيب عيد غير منطقيـة وليست هناك إجابة مقبولة للعديد من الأسئلة. لماذا أشرك النقيب عيد معه أفرادا ومركبات أخرى من الكتيبة، مع أنهم ليسوا ضمن تنظيم السرية التي يقودها هو؟، لماذا لم يخطر قائد كتيبته مسبقا بأنه ينوي القيام بإجراء مثل هذا المشروع حتى يمكن اتخاذ إجـراءات الأمن الداخلي المعتـادة؟ لماذا لم يمتثل لأوامر الشرطة العسكرية التي تقف على مدخل مدينة القاهرة لمنع أية قوات مسلحـة من دخول القـاهرة إلا إذا كان ذلك طبعا لتصديق كتابي مسـبق ومبلغة صورة منه إلى الشـرطة العسكرية؟ هل من المعتاد أن يذهب المرء إلى الجامع راكبا دبابة أو عربة قتال مدرعة؟
ومن أقوال ضباط الصف والجنود اتضح ان النقيب عيد أخطر أفراد كتيبته بأنه سيقوم بمشروع تدريبي، وانه تحرك من منطقة تضعه في 12 عربة قتـال مدرعة مجنزرة (6 مركبات من سريته، و6 مركبات من باقي سـرايا الكتيبة)، وبعد أن غادر منطقة معسكرات هاكستب تحوّل إلى طريق القاهرة ثم مر خلال نقطة الشرطة التي عند مدخل القاهرة (علامة الكيلو 14,5) بالقوة وقد استطاعت 7 مركبات أن تتـبعه ولكن الخمس الأخريات امتثلت لأوامر الشرطة وتوقفت عند هذه النقطة. اندفـع النقيب عيد داخـل شوارع القـاهرة بتلك المركبات السبع بسرعة عالية وأخذ يصدر باللاسلكي أوامر وتعليمـات غير واضحة وبعض الآيات القرآنية. بدا الشك يخـامر نفوس بعضهم فـتوقفت أربع مركبـات أخرى في منتصف الطريق داخل شوارع القاهرة وهي لا تدري ماذا تفعل. وصل النقيب ومعه ثلاث مركبات إلى ميدان سيدنا الحسين حيث ترجلوا ودخلوا المسجد للصلاة.
في أثناء استجواب النقيب كان يظهر شيئا من عدم الاتزان والتعصب الدينـي ويتهم المجتمع المصري بأنه نسي الله ونسي دينه، وكان يتوقف عن الإجابة في كثير من الأحيان لكي يتمتم بآيات من القرآن الكريم. وبعد انتهاء التحقيق أخطرني صادق بأنه سوف يقوم بإبلاغ نتـيجة التحقيق بنفسه إلى الرئيس. أعلن بعد ذلك أن النقيب عيد مجنون وأرسل للمستشفى، وبالتالي لم يحاكم على هذه المغامرة المثيرة.
- لقد قام الرئيس السادات بطرد الفريق صادق بعد أسبوعين من هذا الحادث ومهما قال الرئيس في أسباب هذا الطرد فإن مغامرة النقيب عيد لابد أنها كانت أحد الأسباب الرئيسية. وقد أكد لي هذا الشعور ما قاله لي السادات بعد ذلك بأنه لم يصدق ما قاله له صادق بأن النقيب عيد هو شخص مريض وغير متزن العقل.
مؤتمر الرئيس يوم 24 من أكتوبر 72:
كان يوم 24 من أكتوبر 72 يوما حـافلا بالأحداث السريعة والمتلاحقة، فقد بدأت في الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم مؤتمري الشهري المعتاد ولكني فوجئت بان الوزير يطلب الاجتمـاع بي وبأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحـة في الساعة الثانيـة عشرة مما اضطرني إلى إنهاء مؤتمري حوالي الساعة 1130. كـان الهدف من مؤتمر الوزير هو الاستماع إلى رأي القادة عن الموقف العسكري وذلك قبل حضورنا اجتماعا آخر في الساعة 2030 من اليوم نفسه بمنزل الرئيس بالجيزة تكلم كل من أعضاء المجلس عن موقف قواته وعن المتاعب والمشكلات، التي مازالت تواجهه. وفي نهاية الحديث علق الوزير كما يلي"إن كل ما أريده هو ان يقوم كل منكم بإعطاء صورة حقيقية عن موقف قواته أمام الرئيس هذا المساء. إن الرئيس يعتقد إنني أبالغ في ذكر المشكلات ولذلك فإنه يريد ان يسـمعها منكم شخصيا"، فأجاب الجميع بأنهم سيفعلون ذلك. وان ما قالوه أمام الوزير سوف يقولونه أمام الرئيس.
لقد بدأنا نتوافد على منزل الرئيس بالجيزة اعتبارا من الساعة 2030 وبدأ الاجتماع في الساعة التاسعة مساء وامتد حتى منتصف الليل. وقد بدأ الرئيس باستعراض الموقف وتطور العلاقات بينه وبين السوفيت منذ توليـه الحكم وحتى هذا التاريخ، وكان أهم مـا جرى في حديثه هو ما يلي:
1- إن رحلاتي إلى الاتحاد السوفيتي في مارس 71 وأكتوبر 71 وفبراير 72، كانت بناء على طلبي، أما رحلاتي في أبريل 72 فكانت بناء على طلب القيادة السياسية السوفيتية.
2- أخطرت القيادة السوفيتيـة في إبريل 72 بان القضية لن تتحرك سياسيا إلا إذا أمكن تحريكها عسكريا. وقلت لهم أن إعداد الهند للقيام بحربها ضد باكستان قد استغرق منكم ستة شهور ويمكنكم أيضا ان تفعلوا الأمر نفسه مع مصر. إني اتفق معكم على العمل على إعادة انتخـاب نيكسون في انتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة في نوفمبر 72 حيث إنه سيكون افضل من رئيس جديد يصل الى الحكم وتحكم تصرفاته رغبته في البقاء في الحكم لفترة ثانية. (11)
3- عندما حضر المارشال جريشكو في مايو 72 أرسلت معه كتابا الى القيادة السيـاسية السوفيتية طلبت فيه توردنا بطائرات ميج 25 ومعدات وأجهزة الحـرب الإلكترونية. وقد أخبرتهم صراحة بأنني لا اقبل بقاء أية وحدات سوفيتية في مصر ليست تحت القيادة المصرية.
4- في يوم 6 من يوليو قيل لي أن السفير السوفيتي يطلب مقابلتي، ولكني حددت يوم الزيارة ليكون يوم 8 يوليو، وعندما مقابلتي للسفير وجدت الرسالة لم تتعرض للرد على رسالتي المرسلة لهم. وبعد انتهاء السفير من قراءة الرسالة قلت له إن الرسـالة مرفوضة ثم أبلغته بقراري الخاص بإنهاء عمل المستشارين والوحدات السوفيتية. (12)
5- قبل إعلان قراري في 17 من يوليو 72 أرسلت عزيز صدقي-رئيس الوزراء- إلى موسكو ليشرح لهم الموقف وليعرض عليهم إصدار بيان مشترك حول هذا الموضوع، ولكنهم لم يوافقوا. قالوا ان السادات اتخذ هذا القرار من جانب واحد لذلك فإن الإعلان أيضا يجب أن يكون من جانب واحد. لقد كانوا يظنون أنني لا أعني ما أقول ولكن عزيز صدقي أكد لهم إننا جادون في تنفيذ ذلك.
6- بعد الاجتماع بنيكسون في موسكو في مايو 72 وصل الروس والأمريكيون الى وفاق، بل عناق وانتهت الحرب الباردة نهائيا، وينتظر ان يستمر هذا الوفاق لمدة عشرين سنة على الأقل. وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لكي اتخذ قراراتي في يوليو 72 حتى أقف على أرض صلبة. ومنذ ذلك التـاريخ اتصل بي الأمريكيون والإنجليز والفرنسيون والإيطاليون.القضية ابتدأت تتحرك لأننا أصبحنا أولياءأمورأنفسنا. (13)
7- حاول الروس الاتصـال بي مرة أخرى في 31 من يوليو 72، ولكني تعمدت أن امكث شهرا قبل أن أرد عليهم في 31 من أغسطس 072 (14)
8- تدخل الرئيس حافظ الأسد لتحسين العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتي وسافر سرا إلى الاتحاد السوفيتي فوجد منهم استعدادا طيبا لتحسين العلاقات سافر على اثر ذلك عزيز صدقي إلى موسكو ودخل معهم في مناقشات عنيفة أكدوا بعدها ان سيـاستهم تجاه مصر لم ولن تتغير على الرغم من قرار السيد الرئيس بإنهاء عمل المسـتشارين الروس في مصر.
وكانت حصيلة هذه الزيارة هي إدخال الروس في الفورمة حـتى تكون علاقتهم معنا في المرحلة القادمة على أساس عدم التدخل في شئوننا وقد وعدوا عزيز صدقي بإمدادنا بالأسلحة التالية:
- سرب ميج 23 في الربع الثالث من عام 73.
- سرب سوخوى 20 في الربع الثالث من عام 73.
- وحدة صواريخ سطح سطح SSM مداه 300 كيلومتر ويتم إبلاغنا في أوائل 73 عن تواريخ التوريد
9- ويمكنني أن ألخص الموقف العام على ضوء ما سبق في أن أمريكا حـاولت أن تقوم بتحويل مبادرتي لكي تصبح حلا جزئيا يشمل انسحاب إسرائيل وعبور قواتنا للقناة على أن يخـضع الانسحـاب الكامل لمرحلة أخرى من المفاوضـات. لقد أخبرت الفريق صادق منذ الصيف الماضي بأنه يجب ان تتحرك القضية عسكريا قبل ان ندخل الجولة الثانيـة مع إسرائيل بعد الانتخابات الأمريكية. كان ذلك يعتبر قرارا أبلغكم به وليس لأخذ رأيكم، حيث إن هذا الموقف يعتبر اختبارا للقوات المسلحة. وإذا لم نقم بعمل عسكري قبل نهاية هذا العام فإن القضية سوف تنتهي ويفقد المصريون والعرب ثقتهم بأنفسهم.
10- تكلم الرئيس بعد ذلك عن التصنيع العسكري، وعن ضرورة تصنيع الطائرة المقاتلة والحوامة والزوارق والعربات المجنزرة وأجهزة الحرب الإلكترونية، واتهم من سبقوه بالسفه لأنهم لم يفهموا قيمة الجنزير في حرب الصحراء ولم يشتروا العربات المجنزرة التي كانت تباع بعد الحرب الثانية بتراب الفلوس.
11- عندما تكلم الرئيس عن موقف السوفيت من المعركة كان كلامه متناقضا، ففي بعض الأحيان قال إن الاتفاق الودي بين روسيا وأمريكا هو أساس الاستراتيجية السوفيتية لمدة 10-25 سنة، وانهم لذلك لا يرغبون في قيام حرب جديدة بيننا وبين إسرائيل، حيث أن ذلك قد يجرهم إلى نوع من التدخل والاشتراك، فإنهم لذلك يفضلون الوصول إلى حل سلمي للمشكلة. وفي أحيان أخرى قال أن السوفيت ليست لديهم الثقة بعزمنا على القتال، وانهم لذلك يترددون في إمدادنا بالسلاح. وقد علق الرئيس على هذه النقطة قائلا "كـان الروس فيما مضى يشيرون إلينا بأسلوب خفي بأنه يجب علينـا أن نبدأ القتال أما هذه المرة فقد قالوها بصراحة لعزيز صدقي. قالوا له لو إننا في مثل موقفكم لقاتلنا لتحرير أرضنا حتى لو لم يكن لدينا سوى البنادق! وأني واثق أنهم كانوا يودون لو أنهم قالوا اكـثر من ذلك لأني اعرف ما قاله الرئيس بودجورنى عنا في تركيـا بعد هزيمة 67". وفي مناسبة ثالثة قال الرئيس : إن الروس قد أخطروا عزيز صدقي خلال زيارته الأخيرة بان علاقاتهم معنا والتزامهم بإمدادنا بالسلاح لن يتأثر نتيجة الاتفاق الودي الذي عقد بينهم وبين أمريكا.
- وبعد هذأ الاستعراض للموقف فتح باب المناقشة والأسئلة.
الجمسي:
ما موقف سوريا وليبيا من المعركة؟
الرئيس:
الرئيس حافظ الأسد سيشترك معنا عن قناعة إنه مقتنع تماما بان أي عمل نقوم به سوف يكون أفضل مما نحن فيه الآن مهما كانت التضحيات. سوف يسافر الفريق صادق قريبا إلى سوريا للتنسيق بين الجبهتين، أما ليبيا فإنها تضع ما لديها كله للمعركة. إن ليبيا لديها خمسون طائرة ميراج جاهز منها للمعركة سرب واحـد، وكذلك عندها 24 مدفعا 155 مم ذاتي الحركة و 100 عربة مدرعـة لنقل المشاة وعدد من الهاونات 120 مم المحملة على عربات جنزير.
عبد المنعم واصل:
إن التدريب والروح المعنوية على مستوى عال، ولكن يجب ان نعلم انه إذا قمنا بالهجوم في ظل الأوضاع الحالية فيجب علينا ان نتوقع خسـائر كبيرة. إن الساتر الترابي الذي أقامه العدو على الضفة الشرقية قد اصبح متصلا وبارتفاع يصل في بعض أجزائه إلى 20 مترا. إن العدو يراني ويكشف موقعي لمسافة طويلة وأنا لا أراه ولا اعرف ما يدور خلف هذا الساتر. وتحت هذه الظروف فإنه يستطيع ان يحدث خسائر كبيرة في قواتنا المهاجمة. يجب ان نزيد من ارتفاع الساتر الترابي من ناحيتنا حتى يصل إلى ارتفاع سـاتر العدو او يزيد، وبذلك نستطيع ان نكشف العدو ونحرمه من فرصة التدخل ضد قواتنا المهاجمة.
الشاذلي:
سيادة الرئيس، هل ستقوم سيادتكم بتحرك عربي لتعبئة القوى العربية، أم ان المعركة ستكون مقصورة على دول الاتحاد؟
الرئيس:
ستكون المعركة مصرية أساسا، وسوف يقف العرب موقف المتفرج (17) في البداية، ولكنهم سوف يجدون أنفسهم في موقف صعب أمام شعوبهم فيضطرون في النهاية إلى أن يغيروا من موقفهم.
الوزير:
يجب أن نأخذ في حسابنا قدرة العدو الضرب في العمق، وأنه من المحتمل جدا أن تقوم إسرائيل-بتشجيع من الولايات المتحدة وآخرين لا أريد تسـميتهم- بهجوم مفاجئ على مصـر. إنهم جميعا يتآمرون على مصر بهدف تدمير قواتها المسلحة التي تشكل تهديا خطيرا لإسرائيل.
الرئيس:
أني أوافق تماما، قد تبدأ إسرائيل ضربتها قبل 7 من نوفمبر القادم، وفي هذه الحالة سوف ينسى العالم المشكلة الأصلية ويبدأ في الحديث عن وقف إطلاق النار.
علي عبد الخبير:
إن القوات المسلحـة لم يتم تدعيمها بأية أسلحة جديدة تزيد من قدراتها الهجومية، بل العكس هو الصحيح. إن الاستهلاك العادي في أسلحتنا يجعل قوتنا في تناقص وليس في تزايد. إن ضعف قواتنا الجوية مازال كما هو، ألا تكفي هذه العوامل المهمة كلها لكي نفكر جيدا قبل أن نقرر الدخول في حرب نتحمل فيها خسائر جسيمة؟
الرئيس:
لو أنني أجريت حـساباتي على هذا الأساس لما اتخـذت قراري بطرد الروس في 8 من يوليو. إن المشكلة الآن هي "To be or not to be" يجب ألا نلقي باللوم كله على الروس. لقد قام الروس بإمدادنا بأسلحة مكنتنا من تسليـح جيشين ميدانيين، بصرف النظر عن أنهم هم الذين يختارون السلاح الذي يمدوننا به.
علي عبد الخبير:
إذا كنا نقول "نكون أو لا نكون " فإنه يجب علينا أن نعبئ مواردنا لإمكاناتنا كلها للمجهود الحربي كما تفعل الدول الأخرى عندما تقرر الدخول في حرب.
الرئيس:
إن تعبئـة موارد الدولة للمجهود الحربي هي مسئوليتي وليست مسئوليتك، الكثير من الناس لا يصدقون انه ستكون هناك حرب. وإذا بقينا كما نحن الآن فسوف تنهار الجبـهة الداخلية، يجب ان نقبل المخاطرة المحسوبة.
علي عبد الخبير:
المخاطرة المحسوبة؟ لماذا لانعمل على تلافي الخطر؟
نوال السعيد:
هل المقصود هو تحرير الأرض أم تنشيط العمليات لإعطاء الفرصة للحل السياسي؟
الرئيس:
لقد سبق أن قلت ذلك للفريق صادق منذ أغسطس وهو "كسر وقف إطلاق النار".
عبد القادر حسن:
قد نبدأ بمعركة محدودة ولكنها قد تتطور إلى حرب شاملة.. قد ننجح في المراحل الأولى من المعركة ولكننا سوف نتحول في النهاية إلى اتخـاذ موقف دفاعي. ستبقى إسرائيل في شرم الشيخ وفي معظم سيناء وستكون في موقف افضل من موقفها الحالي، وقد يدفـعها ذلك إلى أن تدعي حقـوقا في تلك الأراضي التي تكون مازالت في قبضتها.. يجب أن نضع في حسابنا قدرة العدو على ضرب العمق عندنا وعند سوريا اكثر، لأن سوريا لم تستكمل دفاعها الجوي. لا يصح ان ندفع أنفسنا إلى وضع قد يضطرنا إلى ان نصرخ طالبين النجدة من الاتحاد السوفيتي مرة أخرى ونقول له "ولّعْ".
الرئيس (بغضب):
يا عبد القادر دي تاني مرة تغلط فيها. أنا مسئول عن استقلال البلد، وأنا اعرف ماذا اعمل. يجب ألا تتدخل فى شئ ليس من اختصاصك أنت رجل عسكري ولست رجـلا سياسيّا!
محمود فهمي (محاولا تلطيف الجو):
إننا جميعا نؤمن بأن المشكلة لن تحل سلميا، وان الحرب هي الأسلوب الوحيد لحلها، وإذا كان هناك رأي او سؤال فإن المقصود منه هو الحرص على مصر ومصلحتها.
الرئيس (بغضب):
هل تدافع عن عبد القادر حسن؟ كل واحد لازم يتكلم في حدوده أنا لا اقبل من أحد ان يفهمني واجبي.
الرئيس (في صوت هادئ وبعد فترة صمت طويلة):
إننا اليوم نواجه تحديا صعبا To be or not to be. هناك حل جزئي معروض علي وينتظر موافقتي ولكني لم اقبله، قد يقبل شخص آخر هذا الحل الجزئي أما أنا فإني لن اقبله، وان عليكم بالتخطيط الجيد، والتغلب على نواحي النقص الموجودة في قواتنا المسلحة وفقكم الله. وانتهى الاجتماع بعد منتصف الليل بقليل.
غادرت منزل الرئيس بعد منتصف ليل 24 من أكتوبر بقليل، وبينما كنت أهم بركوب عربتي لحق بي أحـد معاوني الرئيس وأخبرني بان الرئيس يطلبني فلما عدت وجـدته ينتظرني في مكتبه بالطابق الأرضي فقال لي "لقد أبلغوني أنك ستقوم بتزويج إحدى بناتك وانك ترغب فى دعوتي لحضور حفل عقد القران" فقلت له نعم يا سيـادة الرئيس ولكني وجـدت أن الوقت غير مناسب للحديث في مثل هذا الموضوع الليلة بعد هذا الاجـتماع الصاخب"، فقال "لا لا مش مهم. متى سيكون تاريخ عقد القران؟"، فأجبته بأنني لم احدده بعد انتظارا لمعرفة التواريخ المناسبة لسيادته، وبعد مناقشة قصيرة تحدد يوم 9 من نوفمبر ليكون تاريخ عقد القران.
الفصل التاسع عشر: تعيين أحمد إسماعيل وزيرا للحربية
خلفيات الخلاف بين أحمد إسماعيل و الشاذلي:
لم اكن قط على علاقة طيبة مع احمد إسماعيل. لقد كنا شخصيتين مخـتلفتين تماما لا يمكن لهما أن تتفقا. وقد بدا أول خلاف بيننا عندما كنت أقود الكتيبة العربية التي كانت ضمن قوات الأمم المتـحدة في الكونجو عام 1960. كـان العميد أحمد إسماعيل قد أرسلته مصر على راس بعثة عسكرية لدراسة ما يمكن لمصر ان تقدمه للنهوض بالجيش الكونجولي. وقبل وصول البعثة بعدة أيام سقطت حكومة لومومبا التي كانت تؤيدها مصـر بعد نجاح انقلاب عسكري دبره الكولونيل موبوتو الذي كان يشغل وظيفة رئيس أركان حرب الجيش الكونجولي، وقد كانت ميول موبوتو والحكـومة الجديدة تتعارض تماما مع الخط الذي كانت تنتهجه مصر، وهكذا وجدت البعثة نفسها دون أي عمل منذ اليوم الأول لحضورها، وبدلا من أن تعود البعثـة إلى مصر أخذ أحمد إسماعيل يخلق لنفسه مبررا للبقاء في ليوبولدقيل على أساس ان يقوم بإعداد تقرير عن الموقف.. وتحت ستـار هذا العمل بقي مع اللجنة ما يزيد على شهرين. وفي خلال تلك الفترة حاول ان يفرض سلطته على باعتبار انه ضابط برتبة عميد بينما كنت أنا وقتئذ برتبة عقيد، وبالتالي تصور أن من حقه ان يصدر إلي التعليمات والتوجيهات. رفضت هذا المنطق رفضا باتا وقلت له إنني لا اعترف له بأية سلطة عليّ أو على قواتي. وقد تبادلنا الكلمات الخشنة حتى كدنا نشتبك بالأيدي. وبعد ان علمت القاهرة بذلك استدعت اللجنة إلى القاهرة وانتهى الصراع في ليوبولدقيل ولكن آثاره بقيت في أعماق كل منا. كنا نتقابل في بعض المناسبات مقابلات عابرة ولكن كان كل منا يحاول ان يتحـاشى الآخر بقدر ما يستطيع. واستمر الحال كذلك إلى ان عين اللواء أحمد إسماعيل رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية في مارس 69.
وبتعيين اللواء احمد إسماعيل ر.ا.ح.ق.م.م اختلف الوضع كثيرا، إذ لم يعد ممكنا أن أتحاشى لقاءه وألا يكون هناك أي اتصال مباشر بيني وبينه. ان وظيفته هذه تجعل سلطاته تمتد لتغطي القوات المسلحـة كلها، لذلك قررت ان استقيل. وبمجرد سماعي بنبأ تعيين احمد إسماعيل رئيسا للأركان تركت قيادتي في انشاص وتوجهت إلى مكتب وزير الحربية حيث قدمت استقالتي وذكرت فيها الأسباب التي دفعتني إلى ذلك ثم توجهت إلى منزلي. مكثت في منزلي ثلاثة أيام بذلت فيها جهود كبيرة لإثنائي عن الاستقالة ولكني تمسكت بها، وفي اليوم الثالث حضر إلى منزلي أشرف مروان زوج ابنة الرئيس وأخبرني بأن الرئيس عبد الناصر قد بعثه لكي يبلغني الرسالة التالية: "إن الرئيس عبد الناصر يعتبر استقالتك كأنها نقد موجه إليه شخصيا حيث إنه هو الذي عين أحمد إسماعيل "ر.ا.ح.ق.م.م ".
أوضحت وجهة نظري في احمد إسماعيل وأنني لا أعني مطلقا أن أنتقد الرئيس، ولكني لا أستطيع أن اعمل تحت رئاسة أحمد إسماعيل، ولأن الثقة بيني وبينه معدومة. نقل اشرف مروان إجابتي إلى الرئيس عبد الناصر ثم عاد مرة أخرى ليقول "إن الرئيس تفهم جيدا وجهة نظرك. إنه يطلب إليك ان تعود إلى عملك وأنه يؤكد لك أن أحمد إسماعيل لن يحتك بك". وبناء على هذا الوعد عدت إلى عملي في اليوم الرابع. وهنا يجب أن أؤكد أن جمال عبد الناصر قد وفى بما وعدني به. ففي خـلال الأشهر الستة التي قضاها اللواء احمـد إسماعيل في وظيفتـه ر.ا.ح.ق.م.م ، لم تطأ قدماه قط قاعدة انشاص حيث كانت تتمركز القوات الخاصة التابعة لي، كما انه لم يحاول قط ان يحتك بي.
ومنذ أن قام الرئيس عبد الناصر بعزل احمد إسماعيل من منصب ر.ا.ح.ق.م.م في سبتمبر 69، فإني لم أره قط إلى ان قام الرئيس السادات باستدعائه من التقاعد في 15 مايو 71، لكي يعينه رئيسا لهيئة المخـابرات العامة. وهكذا بينما كنت أنا أشغل منصب ر.ا.ح.ق.م.م كان أحمد إسماعيل يشغل منصب رئيس هيئة المخابرات العامة، وبالتالي أخذنا نتقابل احيانا في بعض المناسبات الرسمية او الاجتماعية وكنا نتبادل التحيات الشكلية ولكن علاقاتنا بقيت باردة.
كيف عين أحمد إسماعيل وزيرا للحربية:
في منتصف يوم 26 أكتوبر72 أبلغني مكتب الرئيس أن الرئيس يطلب حضوري إلى منزله في الجيزة في تمام الساعة 1530 من اليوم نفسه، وفي هذه المقابلة أبلغني الرئيس انه قرر إقالة وزير الحـربية وانه يعتبرني منذ هذه اللحظة قائدا عاما للقوات المسـلحة بالنيابة، ونظر في ساعته. سألته عما إذا كان قد اخطر صادق بهذا القرار فقال لا، سألته عما إذا كان ينوي إخطاره بذلك أم انه سيترك لي ذلك؟ أجاب بأنه سيرسل له سكرتيره الخاص بعد حوالي ساعتين من لقائه معي لكي يعطي لي الفرصة لاتخاذ بعض الإجراءات الأمنية.
أخطرني الرئيس بعد ذلك بقراره بطرد كل من اللواء عبد القادر حسن واللواء علي عبد الخبير، ولم أستطع ان أجادله فيما يتعلق بهذا القرار، حيث انه كان يعتبر هذا القرار تأمينا شخصيا له، بـاعتبـارهما من مؤيدي الفريق صادق. ولكنه عندما أخبرني بمقالة كل من اللواءين محمود فهمي قائد البحرية، وعبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث، تدخلت أملا أن أنقذهما فوجه إلى الرئيس كـلامه مندهشا "كيف تقول ذلك؟ ألم تسمع ما قالاه في مؤتمر أمس الأول؟ لقد كنت أظن ان عبد المنعم واصل ضابط ممتاز وأنه "راجل"! ولكن هل سمعت ما قال؟". فقلت :"إن عبد المنعم واصل "راجل" وضابط ممتاز. أن كل ما قاله هو إبداء قلقه من الخسائر المحـتملة. كان ما قاله عن الساتر الترابي هو حقيقة يجب ان ندخلها في الاعتبار. أني أرجو سيادتكم أن تعطوه الفرصـة لكي يثبت ذاته..أما بخصوص اللواء محـمود علي فهمي فهو من أكفأ ضباط البحرية لدينا وان طرده سيكون خسارة كبيرة لنا".
أجاب الرئيس بشيء من الحدة " قد تكون على معرفة بعبد المنعم واصل لأنه ضابط جيش مثلك. اما محمود فهمي فأنا أعرفه اكثر منك أنه من هذا الطراز الذي يحب الإطراء والتفخيم مثله في ذلك مثل صادق. لقد اكتشف صادق هذه الصفات في محمود فهمي كما ان محمود فهمي قد اكتشف ذلك في صادق فأخذ كلاهما يكيل المديح للاخـر إلى ان صدق كل منهما ما يقوله الآخر. أنى اعرفهما أكثر منك".
وبعد فترة سكون قال الرئيس "والآن لنفكر معا فيمن سيكون وزيرا للحربية". لم أعلق. واستمر الرئيس" إني أفكر في احمد إسماعيل "! لقد فوجئت بالاسم وعلقت بطريقة فورية سيادة الرئيس إن هناك تاريخا طويـلا من الخلافات بيني وبـين احمد إسماعيل يمتد إلى حوالي 12 سنة مضت منذ ان تقابلنا في الكونجو عام 60، وأن علاقاتنا حـتى الآن تتسم بالفتور و البرود. واعتقد أن التـعاون بيننا سيكون صعبّا". قال الرئيس إني اعلم تماما بتاريـخ هذا الخلاف وتفاصيله، ولكني أؤكد لك ان علاقته بك ستكون افضل بكثير من علاقتك بصادق". كررت وجهة نظري وأبديت مخاوفي من ان هذه العلاقة قد تؤثر على الموقف العسكري بينما نقوم بالإعداد للمعركـة التى سوف تحدد مصير بلدنا لعدة سنوات قادمـة، ولكنه كرر وجهة نظره وأكد لي انه لن يحدث شئ من هذا الذي أتخوف منه. لقد كان الموقف يتطلب مني قرارا فوريا: إما ان أقبل و اما ان استقيل.
لقد كان علي أن أجري في ذهني تقديرا سريعا للموقف وان اصل الى قراري بهذا الخصوص اثناء تلك المقابلة. لقد كنا قائمين بالإعداد لمعركة المصير، ولقد بذلت مجهودا خلال عام ونصف العام كرئيس للأركان العامة ولقد مضت الأيام الصعبة، وأن الأيام المقبلة لن تكون مثل الأيام الماضية. وإنه ليصعب علي أن استقيل واترك خلفي الجهد والعرق اللذين بذلتهما دون أن استمتع بنصر تحققه القوات المسلحة بعد هذا العناء كله. قلت لنفسي: قد تتحقق تأكيدات الرئيس بأنه لن يحدث خلاف بيننا كما تحققت تأكيدات الرئيس عبد الناصر عام 69. وعموما فإذا لم تتحقق تأكيدات السادات فإنه يمكنني أن أستقيل عندئذ. وعلاوة على ذلك فلو أنني استقلت الآن فإن هذه الاستقالة سوف تفسر على إنها تضامن مع صادق في الاستقالة. وقد يفسرها بعضهم بأني لا أريد دخول الحـرب في حين أن الحقيقة هي عكس ذلك تماما. وهكذا أقنعت نفسي بعدم الاستقالة، وانصرفت من منزل الرئيس بعد ان امتدت مقابلتنا الى حوالي الساعة.
في منتصف يوم 26 أكتوبر وبينما أنا في مكتبي تلقيت أول مكالمة هاتفيـة من أحمد إسماعيل في حوالي السـاعة 2230 يخطرني فيها بأن السيد الرئيس قد استدعاه الى منزله وعينه وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة. وفي المكالمة نفسها أبلغني بقرار الرئيس بطرد اللواء محمود فهمي قائد البحرية وتعيين اللواء زكرى بدلا منه.
لماذا اختار السادات الفريق أحمد إسماعيل:
أن طرد صادق وتعيين احمد إسماعيل في مكانه كانا خطوة مهمة اتخذها السادات لتدعيم مركزه كما قلت فيما سبق. فقد كان صادق هو أحد الرجال الثلاثة الذين أعتمد عليهم السادات في انقلاب 15 مايو 71، ونتيجة لذلك فقد كان صادق يشعر بأنه يجب أن يكون له نصيب أكبر في ممارسـة السلطة. حيث كان يعبر عن آرائه بصراحة وعلنية حتى وإن كانت هذه الآراء تتعارض مع آراء السادات كان صادق بالإضافة الى ذلك شخصية محبوبة نتيجة اللمسات الاذسانيـة والخدمات التى يؤديها للكثيرين من الضباط والجنود كتحسين الرواتب والمعاشات وتوزيع الأوسمة، وإيفاد بعضهم في رحلات ترفيهية إلى الخارج، والإغداق على بعض المحيطين به بالأموال والامتيازات الخ. وان شخصية بهذه المواصفات لابد إنها تنازع رئيس الجمهورية سلطاته وتعارض الهدف الذي كان يعمل السـادات من اجله، والذي كان يرمي إلى أن يجعل من نفسه حاكما مطلقا لا ينازعه في السلطة أحد. وقد وجد السادات في احمد إسماعيل الصفات جميعها التى يبحث عنها في شخص يعينه وزيرا للحـربية وقائدا عاما للقوات المسلحة، وكان أهم هذه الصفات ما يلي:
1- كراهيته الشديدة لعبد الناصر:
كان احمد إسماعيل يكره عبد الناصر كراهية شديدة لأنه قام بطرده من القوات المسلحة مرتين. كـانت المرة الأولى في أعقاب هزيمة يونيو 67، حيث كان احمد إسماعيل يشغل منصب رئيس أركان جبهة سيناء، ولكن عبد الناصر أعاده إلى الخدمة بعد ان تدخل بعض الأصدقاء لديه لكي يعفو عنه. ثم قام بطرده من القوات المسلحة للمرة الثانية في سبتمبر 69 بعد ان شغل منصب ر.ا.ح.ق.م.م لمدة ستة اشهر فقط وقد جـاء الطرد هذه المرة في أعقاب عملية إغارة ناجحة قام بها العدو في منطقة البحر الأحمر. ففي صباح يوم 9 من سبتمبر 69 عبر العدو خليج السويس بقوة بحرية برمائية وانزل في منطقة الزعفرانة قوة تتكون من 10 دبابات وعدد من العربات المجنزرة، وقامت هذه القوة بمهاجمة عدة أهداف في المنطقة ثم انسحـبت بعد حوالي عشر ساعات من نزولها دون أي تدخل من القيادة العامـة للقوات المسلحة، بل حتى دون ان يعلم ر.ا.ح.ق.م.م بهذه الإغارة إلا بعد انسحابها!! وكان العدو قد قام بعمليـة إغارة في الليلة السابقة دمر لنا خلالها قاربين من قوارب الطوربيد التى كانت تتمركز في المنطقة. وهكذا قام العدو بتنفيذ إغارته دون أي تدخل من جانب قواتنا الجوية او البحرية.
2- ولاؤه المطلق للسادات:
بعد ان بقي احمد إسماعيل متقاعدا لمدة تزيد على عشرين شهرا، قام الرئيس السادات باستدعائه إلى الخدمة وعينه رئيسـا لهيئة المخابرات العامة، و ها هو ذا -بعد ثمانية عشر شهرا- أخرى يعينه وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة. لقد كان ذلك اكثر مما يستطيع أحمد إسماعيل أن يحلم به. لقد كان يعتقد ان حياته العملية قد انتهت في سبتمبر 69، ولكن ها هو ذا السادات يبعث فيه الحياة من جديد. لقد كان ينظر الى السادات على انه سيده وولي نعمته. وبالتالي فلا يجوز له ان يعارضه او يعصي أمرا من أوامره.
3- شخصيته الضعيفة:
لقد كان لطرد أحمد إسماعيل من الخدمة في القوات المسلحة مرتين خلال عهد جمال عبد الناصر اثر كبير على أخلاقه، حـيث اصبح بعد ذلك يخشى المسئولية واتخـاذ القرارات، وأصبح يفضل أن يتلقى الأوامر وينفذها على أن يصدرها، وقد زاد في ترسيخ هذه الصفات الحادث الذي يتعلق بقيام العدو بسرقة محطة رادار كـاملة من منطقة البحر الأحمر في ديسمبر 69. ومع ان هذه الواقعة حدثت بعد عزله من منصب ر.ا.ح.ق.م.م بثلاثة اشهر، فإن أسمه كان قد ذكر في أثناء التحقيق في هذا الحـادث على أساس انه اتخذ قرارا نتج عنه إعطاء الفرصة للعدو لتنفيذ هذه العملية.
لقد وقع حـادث سرقة الرادار خلال فترة حرب الاستنزاف، وكان العدو خلال النصف الثاني من عام 69 يستخدم قواته الجوية في قصف وتدمير أهدافنا الحيوية بصفـة عامة وأهداف ومواقع الدفاع الجوي بصفة خاصة. ورغبة منا في امتصاص بعض هجمات العدو الجوية، فقد أقمنا بعض المواقع الهيكلية لمواقع الرادارات والدفاع الجوي، ولكن هذه المواقع الهيكلية لم تخدع العدو ولم يحدث قط ان قام بقصفها بينما استمر في قصف مواقعنا الأصلية. لقد كـان أهم ما ينقص المواقع الهيكلية هو مظاهر الحيـاة التى لا يمكن توفيرها إلا بالرجال (1). كان موقـع الرادار الأصلي يشغله حوالي 300 رجل (فنيون، وأطقم رشاشات ومدافع مضادة للطائرات، وعناصر إدارية، الخ)، بينما كان الموقع الهيكلي ليس به فرد واحد. وهنا فكر أحـد القادة المحليين في منطقة البحـر الأحمر لماذا لا ننقل الرادار الأصلي ومـعه عشرة أفراد فقط، لتشغيله إلى الموقع الهيكلي بينما ننقل الرادار الهيكلي إلى الموقع الأصلي؟ لقد اعتقد هذا -الضابط- أنه بفكرته هذه سوف ينجح أيضا في خداع وسائل استطلاع العدو الإلكترونية التى تحدد مواقع راداراتنا نتيجـة النبضات التى ترسلها اثناء التشـغيل اعتمادا على ان المسافة بين الرادار الأصلي والرادار الهيكلي حوالي كيلو متر واحد. وان هذه المسافة التى تعتبر قصيرة نسبيا يمكن ان تنخـدع بها وسائل الاستطلاع الإلكتروني. ولاسيما إنما كانت نتائجها تتعارض مع ظواهر الحياة الأخرى التى يحصل عليها العدو نتيجة التصوير الجوي. وكأية أفكار جديدة فقد أرسلت الفكرة إلى القيادة العامة للحصول على موافقة رئيس أركان حرب القوات المسلحـة فوافق على الفكرة. لم ينخـدع العدو بهذه الإجراءات وقام بعملية إغارة ليليـة على الرادار المنعزل الذي كان هدفا مثاليا لعملية إغارة ناجحة. فطبعا نظام الخدمة والراحة لم يكن مستيقظا لحراسة الرادار سوى فردين. بينما كان الثمانية الآخرون نائمين. قام العدو بهجوم ليلى مفاجئ اشترك فيه 60 رجـلا فقتل الحارسين وقتل واسر باقي أفراد الطاقم ثـم سرق الرادار وعاد به، وقد حدث ذلك كله في سكون وهدوء لم يتنبه له الموقع الأصلي الذي كان يبعد عن موقعه كيلومترا واحدا!!
4- كان رجلا مريضا:
لقد كان احمد إسماعيل رجلا مريضا وكان السادات يعلم ذلك. لقد مات أحمد إسماعيل بمرض السرطان في ديسمبر 74 في مستشفي ولنجتون في لندن، وقد سجل الأطباء في تقريرهم الطبي ان إصابته بهذا المرض لابد إنها كانت واضحة وظاهرة قبل ذلك بثلاث سنوات على الأقل. وفي إحدى خطب الرئيس عام 1977، اعترف بأنه كان يعلم بمرض احمد إسماعيل قبل و اثناء حرب اكتوبر 73، وان الأطباء أخطروه بأن حالته الصـحية لا تسمح له باتخاذ القرارات أن مثل هذا الموقف يجب ألا يمر دون مناقشـة جادة. إن الصحة هي هبة من الله يشكر أصحابها ربهم على ما آتاهم به من فضله وكرمه، ولا يجوز لأحد ان يتباهى بها على غيره من المرضى. ولكن هل يعني ذلك أن نكلف المريض بما لا يستطيع ولاسيما إذا كان خطؤه نتيجـة مرضه قد تعرض للخطر حياة الآخرين؟ إننا لكي نمنح رخصة قيادة سيارة خاصة لأحد الأفراد نقوم بإجراء الكشف الطبي عليه للتأكد من سلامة نظره وقدرته على قيـادة السيارة حتى لا تعرض حياة الآخرين الذين يسيرون على الطريق العام للخطر فكيف - والحال هكذا- نقوم بتعيين رجل مريض لا يستطيع ان يتخذ قرارا، قائدا عاما للقوات المسلحة؟! إن أي خطأ يرتكبه هذا الرجل لن يؤثر على حياة آلاف المواطنين فحسب بل انه قد يؤثر أيضا على تاريخ ومستقبل أمة! ان اعتراف السادات بتعيين احمد إسماعيل قائدا عاما- وهو يعلم بمرضـه- يعتبر جريمة كبرى يرتكبها في حق الشعب والوطن لا لشيء إلا لكي يصون مصالحه الشخصية ونزعته الدكتاتورية.
5- كان شخصية غير محبوبة:
كانت شخصية احمد إسماعيل من الشـخصيات غير المحبوبة بين أفراد القوات المسلحة. كانت مناقشاته مع الضـباط والجنود تتسم بالخشونة والغلظة. كان لا يعير اهتماما للعوامل النفسية والمشكلات العائلية للأفراد، في الوقت الذي يهتم فيه هو شخصيا بمشكلاته العائلية ويقبل الوساطة من الوزراء ورجال الدولة الأقوياء، ولقاء ذلك يطلب أيضا وساطتهم لخدمة أفراد عائلته، فكان ذلك يبعده عن قلوب الضباط والجنود.
6- كان على خلافات مع (ر.ا.ح.ق.م.م):
كان الخلاف بين احمد إسماعيل وبين سـعد الدين الشاذلي أيضا من الأسباب القوية التى تدعو السـادات إلى تعيينه وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة. لقد كـان السادات يطبق مبدأ "فرق تسد" الذي مارسه الحكام الطغاة منذ فجر التاريخ.
ولهذه الأسباب كلها فاني اقرر أن تعيين احمد إسماعيل وزيرا للحربية وقائدا عاما كان قرارا خاطئا.
تعيين أحمد إسماعيل وزيرا للحربية ، صفحه رقم 110
كان قرارا لا يـخدم مصالح مصر بل يخدم مصالح السادات وطموحه فقط. لقد كان في استطاعتنا أن نحقق خلال حرب اكتوبر 73 نتائج أفضل بكثير مما حققناه في هذه الحرب لو ان هناك قائدا عاما اكثر قوة وأقوى شخصية من الفريق أحمد إسماعيل. لو تيسر هذا لكان في إمكاننا أن نكبح جماح الرئيس السادات ونرفض تدخله في الشؤون العسكرية البحتة. لو تيسر هذا لما كان في استطاعة العدو أحداث ثغرة الدفرسوار. ولو افترض وحدثت الثغرة لكان في استطاعتنا أن تقضي عليها فور وقوعها، لو تيسر قائد عام قوي يستطيع معارضة السادات لاستمر القتال طبقا للأسلوب الذي نريده وليس طبقا للأسلوب الذي يختاره العدو.
أني اشعر بالأسف وأنا أتكلم بمثل هذه الصراحة على رجل ميت ولكنه السادات هو الذي دفعني إلى ذلك. إنه يريد أن يخفي الحـقائق عن الشعب فيدعي ان سبب الثغرة هو أنني ضيعت ليلة كاملة لكي أشكل فيها قيادة أنافس بها غريمي احمد إسماعيل، وهو إدعاء باطل لا أساس له من الصحة. (2) وبالإضافة الى ذلك فإن ما قلته هو حقائق وهو ملك التاريخ، تاريخ مصر وتاريخ العرب. وأنى أرجو الله تعالى ان تتعلم الأجيال المصرية والعربية القادمة من تلك الأخطاء التى ارتكبها أسلافهم.
أحمد إسماعيل والمحسوبية:
أني أومن بضرورة تكافؤ الفرص، وأومن بأن الحصول على وظيفة أو الترقي إلى درجة أعلى يجب ان يخضع لكفاءة وقدرات الفرد دون ان يكون للوسـاطة والقرابة اعتبار في ذلك. وتطبيقا لهذا المبدأ فإنه لم يحدث مطلقا أنني قمت بدفع أحد أفراد عائلتي الى أي منصب أو أية ترقية. وإن مثل هذا التصرف يعتبر أمرا غريبا في مصر حيث الوساطة والقرابة هما من الأمور المعترف بهما في التعامل بين الأفراد على الرغم من كل ما يقال خلاف ذلك. ولتغطية مثل هذه الأفعال فإن الأشخاص ذوي السيطرة والقوة يتبادلون الخدمات فيما بينهم، فيقوم كل منهم بتأدية الخدمـات والوساطات لعائلة الآخر وبذلك ينكر الجميع ان أيا منهم قد أدى خدمة لأحـد أقربائه بطريق مباشـر، وتأييدا لذلك فإنه يندر ان تجد أحدا من أبناء هذه الفئة المحظوظة لا يشغل منصبا ممتازا.
بعد تعييني رئيسا للأركان وجدت نفسي هدفا لكثير من الوساطات، ولكن حيث أني لم أكن انتظر أية وساطة من أحد فقد كنت ارفض كل وساطة غير قانونية. كنت ادرس كل موضوع على حدة وأخذ فيه القرار الذي يرضى ضميري، و يتمشى مع العدل وروح القانون، ونتيجة لذلك فقد رفضت الكثير من الوساطات مما أثار ضدي بعضـا من الشخصيات القوية، وكان من بين الحالات التى رفضتها ابن إسماعيل فهمي الذي كان وقتئذ وزيرا للسياحة.
لقد كـان ابن إسماعيل فهمي جنديا في القوات المسلحة، وفي أحد الأيام عرضت على مذكرة من هيئـة التنظيم والإدارة تقترح إنهاء خدمة الجندي المذكور حيث انه مطلوب للعمل في هيئة المخابرات العامة فرفضت، فقيل لي إنه ابن إسماعيل فهمي، فقلت لهم حتى ولو كان ابن السادات فأني لن أخالف القانون. حاول رئيس هيئة التنظيم ان يقنعني بأن هذه الحالة في حدود القانون اعتمادا على مادة في قانون التجنيد تعطي وزير الحـربية الحق في إعفاء أي فرد او مجـموعة أفراد من الخدمة العسكرية الإجبـارية إذا كان يقوم بعمل من الأعمال المهمة التى تساعد في المجـهود الحربي، وحيث ان المخابرات العامة تعتبر من الأجهزة المهمة في الدولة التي تساعد في المجهود الحربي فإن حالة هذا الجندي تعتبر في حدود القانون. لم اقتنع بهذا التفسير وقلت له كان هذا إسراف في التفسير ولا يتمشى مع روح القانون.. ما هو هذا الدور المهم الذي سوف يلعبه ابن إسماعيل فهمي في المجهود الحربي؟ لماذا لم نوافق على التماس وزير الكهرباء إعفاء مهندسي الكـهرباء، على الرغم من انه لم يحدد اسما معينا، وعلى الرغم من انهم مطلوبون لإدارة شبكة الكهرباء التي هي في الواقع جـزء مهم من المجهود الحربي؟ لماذا لم نوافق على التماس وزير التربية والتعليم إعفاء المدرسين على الرغم من ان عدم إعفائهم سوف يؤثر على عدد الفصول التعليمية الجديدة التى سوف يقوم بافتتـاحها في العام الدراسي الجديد؟ لم اقتنع بأن عدم إعفاء ابن إسماعيل فهمي قد يؤثر على المجهود الحربي للدولة، وبالتالي اشّرت على المذكرة"لا أوافق" ووقعت على ذلك.
وبعد حوالي يومين اتصل بي اللواء أحمد زكي وكيل وزارة السياحة، وهو زميل قديم كان قد ترك القوات المسلحة منذ سنتين فقط، وكـان قبل ذلك رئيسا لهيئة التنظيم والإدارة في القوات المسلحة ويعرف قانون التجنيد معرفة جيدة كلمني احمد زكي في موضوع ابن إسماعيل فهمي فكررت له وجهة نظري وكرر هو نص المادة التى تعطي لوزير الحربية الحق في إعفاء من يتأثر المجهود الحربي نتيجة عدم إعفائهم، فقلت له "حـسنا يمكن للوزير أن يعفيه " فرد قائلا "ولكنك وضعت الوزير في مأزق بوضع رأيك هذا" ثم اقترح أن تعاد كتابة مذكرة جديدة وتعرض عليّ من جديد فإذا كنت ما أزال غير مقتنع بالموافقة فإني أفوض الأمر للوزير وبذلك اترك له الباب مفتوحاً، ولكني رفضت هذا الاقتراح.
وقد علمت فيما بعد أن مذكرة أخرى بالموضوع عرضت على الوزير مباشرة دون أن تمر علي، وان احمد إسماعيل- الذي كان يعلم بالقصة من أولها إلى آخرها- صدق على إنهاء خدمة الجندي ابن الوزير إسماعيل فهمي حيث أن بقاءه في الخدمة وعدم نقله إلى المخابرات العامة سوف يؤثران على المجهود الحربي للدولة. وبعد فترة وجيزة من نقل ابن إسماعيل فهمي إلى المخابرات العامة قامت المخابرات العامة بإنهاء خدمته بها وتمكن والده من أن يجد له وظيفة في نيويورك
أكثر راحة وأوفر مالا! وهكذا بينما كان أبناء مصر يقتحـمون قناة السويس في أكتوبر 73 ويموتون وهم يهتفون "الله اكبر"، كان ابن إسماعيل فهمي وغيره من أبناء الطبقة المحظية في مصر يتسكعون في شوارع نيويورك وغيرها من المدن الأمريكية والأوروبية. لم يكن احمد إسماعيل ليقدم هذه الخـدمة إلى إسماعيل فهمي دون مقابل. لقد كانت صفقة مشتركة كانت نتيجتها أن عين ابن احمد إسماعيل أيضا ضمن وفد مصر في الأمم المتحدة في نيويورك.
لم أخلق من مشكلة ابن إسماعيل فهمي موضوع خـلاف ومجـابهة بيني وبين أحـمد إسماعيل، فقد كانت هناك موضوعات أخرى اكثر أهمية واشد خطورة تستحوذ على تفكيري وجهودي، وهي إعداد القوات المسلحـة للحرب، وكل ما هو دون ذلك يمكن التغاضي عنه ولو مؤقتا.
علاقتي مع أحمد إسماعيل في أثناء الحرب وبعدها:
في خلال الأحد عشر شهرا التي قضاها احمـد إسماعيل وزيراً للحربية قبل حرب أكتوبر 73 لم تكن هناك خلافات تذكر بيننا. كان كل منا يحاول أن يتحاشى هذه الخلافات بقدر ما يستطيع. لقد استمر في ممارسة سلطاته المباشرة على إدارة المخابرات الحربية وإدارة شئون الضباط، شأنه في ذلك شان جميع من سبقوه في هذا المنصب.أما بخصوص العمليات فلم يكن هناك إلا القليل لكي نناقشه، كـانت لدينا خططنا التي أدخلنا عليها-بـالتأكيد- بعض التعديلات الطفيفة نتيجة للتطور المستمر في قوات العدو وفي قواتنا،ولكن جوهرها بقى كما هو في أثناء الحـرب كان الموقف مخـتلفا. لقد قاسيت الكثير من كل من الرئيس السادات والفريق احمد إسماعيل. كانا يعترضان على كل اقتراح أتتقدم به وعندما يكتشفان بعد يومين او ثلاثة ان وجهة نظري كانت سليمة يكون الوقت قد فات. استمر الوضع على هذا الحال منذ 13 من اكتوبر 73 وحتى وقف إطلاق النار، بل حتى بعد ذلك. لابد ان السادات اقتنع بعينه وبين نفسه انه هو ووزير الحربية كـانا على خطأ في قراراتهما الخاصة بإدارة العمليات الحـربية وأنني كنت على صواب. ولاشك ان السادات قد اقتنع بأنه لو عرفت الحقائق لاهتز موقفه ولأصبح الفريق الشاذلي شخصية شعبية تهدد سلطانه وجيوشه. وهنا عمد بعد الحرب الى ان يكيل إليّ اتهامات باطلة هو اول من يعلم ببطلانها لأنه هو خالقها. وسكت ولم أرد، لا عزوفا عن ذكر الحقيقة، حيث أن هذه الحقائق ملك للتاريخ وليس من الأمانة أخفاها، ولكنى صمت لأن الوقت لم يكن مناسبا لكي أتكلم. لم اكن أريد ان أحكي كيف خدع السادات أشقاءنا السوريين؟ لم اكن أريد ان أعطيه الفرصة ليتهمني بأنني أعرقل جهوده للحصول على السلم المشرف الذي كان ينادي به، وهو الانسحاب الكامل من جميع الأراضي المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية، اما الآن -و بعد أن سقطت جميع الأقنعة- فقد حان الوقت لكي أقول كلمة الحق للشعب العربي الكريم.
كان أحمد إسماعيل أقل سوءا من السادات إنه لم يخف قط كراهيته لي في مقابلاته الخاصة ولكنه لم يهاجمني قط بطريقة علنية. لقد حكى لي أحد النقاد العسكريين الإنجليز قصة طريفة عن هذا الموضوع، بينما كنت سفيرا لمصر في لندن. لقد ذهب هذا الرجل - لا أريد ان أذكر اسمه الآن- لمقابلة احمد إسماعيل لمناقشته في بعض الأمور التى تتعلق بالحرب وقد نصحه المصريون الذين رتبوا المقابلة بالا يذكر اسم سعد الشاذلي مطلقا خلال المقابلة، وكما قال لي هذا الناقد الإنجليزي اخـذ يتحـاشى ذكر أسمي، ولكنه وجد ذلك مستحيلا. فاستخـدم منصب (ر.ا.ح.ق.م.م) كبديل عن ذكر أسمي. وعلى الرغم من ذلك فقد تجهم وجه احمد إسماعيل وهاجمني بما فيه الكفاية. ومع ذلك كله فإن الله كبير ذو اقتدار يمهل ولا يهمل ولابد ان يظهر الحق مهما طال الظلام.
وإليكم القصة التالية التي تظهر قوة الخالق وعظمته:
بينما كنت سفيرا لمصر في لندن حضر احمد إسماعيل الى لندن للعلاج خلال عام 74، وقد قمت بزيارته في المستشفى عددا من المرات وفي زيارتي الأخيرة له كانت حالتـه قد تدهورت ولابد انه شعر بقرب منيته، وأراد ان يطهر نفسه من الأوزار التى ارتكبها ضدي فقال "إنني أعلم انك كنت هدفا لهجوم شـرس وظالم، ولكني أريد أن أؤكد لك أنني لست أنا الذي وراء ذلك. إنه الرئيس والرئيس شخصيـا. وحتى الفيلم التسجيلي الذي أعددناه عن البشرية اما الصراع غير الشريف والادعاء الباطل على الخصوم فهما عملان لا أخلاقيان سوف يحاسب الفرد عليهما في دنياه وفي اخرته. اللهم لا شماتة، اللهم أنت القوي الأكبر، اللهم وفقني لأن أقول كلمة الحق وألا اظلم أحدا أبدا. نظرت الى الرجل المريض وهو على فراش الموت وقلت له "الله اعلم بالحقائق والأسرار كلها. انه يعلم أيضا ما نجهر به وما نخفي، الله يجازي كل فرد منا بقدر ما يعلمه عنه" هل نسي السادات الذي يطلق على نفسه لقب الرئيس المؤمن انه سيرقد يوما ما على فراش الموت وانه سوف يمر أمام نظره شريط من الأخطاء والمظالم التى اقترفها في حياته وأن التوبة لن تقبل منه وهو على فراش الموت ؟!. إن الإيمان هو علاقة بين المرء وخـالقه ولا يمكن ان يكون بقرار جمهوري يصدره الحاكم ليضيف لنفسه لقبا جديدا. ان الإيمان الحقيقي هو صفة لا يعلمها إلا الله عز وجل حيث انه هو الذي يعلم ما في أعماق قلوبنا.
الفصل العشرون: ماذا بعد أقالة صادق
إنشاء 30 مصطبة جديدة:
بعد أيام قليلة من تعيين احمد إسماعيل وزيرا للحربية، تم تخصيص 23 مليون جنيه مصري من ميزانية الطوارئ لإتمام التحصـينات، وإن الأمانة التاريخية تقتضي ان اقرر هنا ان الفريق صـادق قد سبق له ان طلب اعتماد هذا المبلغ للغرض نفسه ولكنه لم يوفق في الحصول على التصديق المالي. لقد كنا نطلب هذا المبلغ لإنشاء مصاطب على الضفة الغربية ولتعلية الساتر الترابي الذي في ناحيتنا، وكان هذا هو الذي دفع اللواء عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث إلى إثارة هذا الموضوع اثناء اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 24 من أكتوبر 72، و أثار غضب الرئيس السادات. وبعد ان حصلنا على الاعتماد المالي بدأنا فوراً في العمل الجـار لتنفيذ هذه التحصـينات. وقبل نهاية عام 72 كنا قد بنينا 30 مصطبة يصل ارتفاع كل منها إلى 22 مترا، وتحتوي الواحدة منها على 180000 متر مكعب من الأتربة. كانت هذه المصاطب تشكل أحد التجـهيزات الهندسية المهمة لخدمة الخطة الهجومية، فقد كنا نستهدف ان نحتل هذه المصـاطب بواسطة الدبابات والأسلحـة المضـادة للدبابات الموجهة ATGWS وذلك لتقديم الـعون اللازم لمشاتنا أثناء عمليـة الاقتحام وتدمير الدبابات المعادية التي تحاول الهجوم المضاد عليها. وعلاوة على ذلك فقد كانت هذه المصاطب توفر لنا مراقبة جيدة لكل ما يجري في الجانب الآخر.
ضابط ينتقد الرئيس السادات:
بعد إقالة صادق وقع حادثان مهمان يبينان انه كـان هناك ضبـاط آخرون يشـاركون صادق آراءه فيما يتعلق بالحـرب. وقع الحادث الأول يوم 29 من أكتوبر، أي بعد يومين فقط من الإقالة، إذ أخبرني اللواء سعيد الماحي قائد المدفعيـة -هو حاليا كبير ياوران الرئيس السادات- في الساعة الخامسة بعد ظهر ذلك اليوم أن أحد ضباط المدفعية انتقد علنا رئيس الجمهورية. لقد وقع هذا الحـادث في مدرسة المدفعية عندما كان قائد المدرسـة يقوم بتوعية الضباط عن الأحداث الأخيرة (1). وأثناء قيام قائد مدرسة المدفعية بالتلقين علق الضابط قائلا"طيب وهو رئيس الجمهورية يعرف حاجة". وقد شكل مجلس تحقيق للتحقيق مع الضابط المذكور فيما نسب إليه ولكنه أنكر- أو بمعنى أصح أوحى إليه ان ينكر- حتى يمكن حـصر الموضوع في أضيق نطاق، وقد قبل إنكار الضـابط ولم يحاول المجلس التـعمق في البـحث والاستقصاء عن حقيقة ما قاله، وهكذا حفظ الموضوع.
إنشاء انقلاب فاشل بقيادة اللواء علي عبد الخبير:
اما الحادث الآخر فقد وقع بعد الأول بأقل من أسبوعين ولكنه كان أكثـر خطورة وأبعد أثرا. لقد كان محاولة انقلاب كاملة اشترك فيها بعض كبار الضباط وبعض ضباط المخابرات الحربية. فقد حدث ان ضابطا برتبة نقـيب من المخابرات الحربية وقع على معلومات جعلته يشك في أن هناك بعض ضباط من المخابرات يتعاونون مع المتآمرين، فأبلغ شكوكه إلى أحد أصدقائه الذي قام بدوره بإبلاغها إلى الرئيس. وبعد أن استمع السـادات إلى قصـة هذا النقيب ازدادت شكوكـه بإدارة المخابرات الحربيـة وأخذ يعتمد اكثر فأكثر على المخابرات والمباحث العامة. وقد أكدت المراقبة أن ضباطا من المعروفين بولائهم لصادق يجتمعون ولكن اجتماعاتهم ومقابلاتهم كانت تتم تحـت إجراءات أمن مشـددة، ولم تستطـع المخابرات أو المباحث العامة ان تعلم بما يدور داخل هذه الاجتماعات. لقد زادت هذه المعلومات من شكوك الرئيس فرأى عدم الانتظار حـتى يتم الحصول على قرائن تدل على التآمر وقرر أن يضرب التنظيم المشتبه فيه قبل أن يستفحل الأمر.
في الساعة 1745 يوم 11 من نوفمبر 72 ذهبت لمقابلة السيد الرئيس في منزله بالجيزة بناء على طلبه، وبعد حوالي نصف سـاعة انضم إلينا ممدوح سالم وزير الداخلية (2) " وبعد حوالي نصف ساعة أخرى أنضم إلينا عزت سليمان نائب مدير المخابرات العامة. (3) وقد قرأ علينا عزت سليمان المعلومات المتيسرة لديهم عن تنظيم سري في القوات المسلحـة يسمى "إنقاذ مصر".
قبل أن أحكي قصة هذا الانقلاب الفاشل يجب أن أؤكد مرة أخـرى ان آراء صادق التي أوضحها في اجتماع 24 من أكتوبر و أيده فيها كل من الفريق عبد القادر حسن واللواء علي عبد الخبير، كان يؤمن بها الكثيرون من ضـباط القوات المسلحة. لقد كانوا يعتقدون أن هناك قوة سـياسية خـفيـة تريد ان تدفع القوات المسلحـة المصرية إلى الحـرب قبل أن تسـتكمل استعداداتها بهدف تدميرها. فإذا دمرت القوات المسلحة فسوف يسقط النظام الحاكم وتعم الفوضى البـلاد وبذلك يصبح الجو ملائما لانتشـار الشيوعيـة في مصر ومنها إلى العالم العربي. لقد سمعت هذا الرأي من صادق عدة مرات قبل مؤتمر 24 من أكتوبر 72 ولم أقبله قط وكان ذلك من نقاط الخلاف الرئيسيـة بيني وبينه. ومع ذلك فإني لم اشك مطلقا في شجاعته ووطنيته. أو أنه كان يقوم بهذه اللعبة لحساب جهة أجنبيه أخرى. لذلك فقد حزنت كثيرا عندما سمعت السادات يتهمه أمامي بأنه ألعوبة في يد الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية وعميل له.
ولقد اندفع الرئيس إلى ابعد من ذلك فقال إنه ليحصل على المال والذهب والهدايا الثمينة من الملك السعودي وفي مقابل ذلك فإنه يقوم بتنفيذ كل ما يـأمره به، وقد أيد ممدوح سالم ما يقوله السادات وعلق على ذلك قائلا: "ألم أقل لك هذا منذ زمن يا سيادة الرئيس"!. لم اكن في وضع يسـمح لي بأن أؤيد او أنفي ما يقولون، فكنت استمع وأنا صـامت ولكني كنت اشعر بالحزن والأسى. إني اعرف صادق منذ ان كنا في العشرينيات من عمرنا، وعلى الرغم من خلافاتنا في الرأي ونحن في الخمسينيات من عمرنا فإني لا أتصور مطلقا أن يكون صادق عميلا. وبينما كان السادات يكيل الاتهامات له خلال هذا اللقاء تذكرت فجأة الكتاب الذي كـان السادات قد أرسله إلى الملك فيصل قبل ذلك بعـام وكان يقول فيـه له إنه يثق بصادق ثقة مطلقة. لم يكن السادات يعلـم ان صادق قد أطلعني على هذا الكتاب. ولم أشأ أن أثير هذا الموضوع في مثل هذا الجو الصاخب ولكني كنت أشعر في قرارة نفسي بالأسى والاشمئزاز من هذا الأسلوب الرخيص في مهاجمة الخصوم.
كـانت الساعة العاشرة مساء عندما غادرنا نحن الثـلاثة- ممدوح سالم وأنا وعزت سليمان- منزل الرئيس في الجيزة بعد أن تلقينا تعليمات الرئيس بالقبض على المشتبه فيهم واستجوابهم. ذهبنا إلى مبنـى هيئة المخابرات العامة باعتبارها صـاحبة الخيط الرفيع، وعلى أساس الاعتقاد بأن إدارة المخابرات الحربية هي نفسها متورطة في العـملية وقد مكثنا في المخابرات العامة طوال الليل حيث استدعيت إلى هناك المدعي العسكري العام وأصدرت عددا من الأوامر بالقبض على المشتبه فيهم، وكانت الساعة الخامسة صباحا عندما انتقلت من المخابرات العـامة إلى مكتبي لكي أحـصل على ساعتين من النوم قبل أن أستـأنف عملي في الصبـاح. وفي هذا اليوم نفسـه أصدر الرئيس السـادات أمرا بطرد اللواء محـرز مدير إدارة المخابرات الحربيـة. وباستمرار التحـقيق خلال يوم 12 نوفمبر ظهرت الحاجة لاستجواب أسماء جديدة وبالتالي إصدار أوامر جديدة للقبض على عدد آخر من الضباط.
اضطررت للسفر إلى الكويت بعد ظهر يوم 13 من نوفمبر لحضور اجتماع اللجنة المشكلة من عدد من أعضاء مجلس الدفاع المشترك، وعدت بعد ظهر يوم 15 من نوفمبر دون انتظار انتهاء أعمال اللجنة. لقد كان استجواب أفراد تنظيم "إنقاذ مصر" مازال مستمرا. وفى خلال ليلة 15/16 من نوفمبر طلب إلى المدعى العسكري العام ان اصدر امرا بالقبض على اللواء على عبد الخبير الذي كان قائدا للمنطقة العسكرية منذ أسبوعين فقط نظرا لأن التحقيقات قد أظهرت ارتباطه بهذه العملية وتورطه. وفى تلك الليلة تم القبض على "عبد الخبير" كما تم القبض على عدد آخر من القادة من بينهم العقيد عمران وهو قائد فرقة مشاة ميكانيكية، والعقيد احمد عبد الوهاب وهو رئيس أركان فرقة ميكانيكية، والمقدم عادل وهو ضابط أركان حرب يعمل فى وزارة الحربية، والمقدم عصام وهو قائد مجموعة صاعقة. لقد اتسع التحقيق واتضح لنا مدى خطورة الموقف من حيث عدد الضباط من ذوي الرتب الكبـيرة والمناصب الحساسة الذين كانوا يعدون لهذا الانقلاب.
بعد طرد اللواء محـرز من وظيفته كمدير لإدارة المخابرات الحربية يوم 12 من نوفمبر انتقل التحقيق من المخابرات العامة إلى المخـابرات الحربية، حـيث إن المقبوض عليهم كلهم كـانوا من العسكريين كـمـا ان المحقق هو المدعي العسكري العـام. وبعد ظهر يوم 16 من نوفمبر قمت بزيارة مكان التحقيق لكي ألم بآخر التفاصيل. وهناك اطلعت على اعتراف كامل كان قد أدلى به اللواء على عبد الخبير والمقدم عادل. لم أكن أصدق عيني وأنا أقرأ اعترافات علي عبد الخبيـر التى وقع عليها بإمضائه الذي كنت أعرفه جيدا فطلبت ان أقـابله شخصيا، فلما حضر أمامي سـألته بأسلوب أخوي" هل قمت يا علي بالإدلاء بهذه الأقوال والتوقيع عليها بمحض إرادتك ودون أى ضغط أو تهديد؟!، فقال نعم. لقد كان علي عبد الخـبير رجلا شهما في اعترافه، ولقد أراد ان يتحمل المسئولية كلها ليعفي الآخرين جميعهم من المسئولية. وعلى الرغم من خلافنا فى الرأي فقد كنت أنظر إليه كصديق وزميل، وزادني موقفه الشجاع أثناء التحقيق احتراماً له. اختليت بالمدير العسكري العام وقلت له إني رأيت بنفسي على عبد الخـبير وأن منظره لا يدل على وقـوع أي اعتـداء جسماني عليه، ولكنى أريد أن أؤكد أنه لا يجوز أيضا استخدام التهديد أو الوعيد، وانه هو وزملاءه يجب معاملتهم بمنتهى الاحترام والتقدير اللذين تمليهما رتبهم العسكرية. أكـد لي أنه هو شخصيا يؤمن بكل كلمة قلتها وأنه على استعداد لأن يحضر أي شخـص آخر لكي أتأكد بنفسي أنه لم يمارس الضغط على أحد، ولكنى اكتفيت بأقواله. لقد كانت الاعترافـات واضحة وتبين عملية انقلاب محبوكة الأطراف. كانت خطتهم هي أن يقوموا بالعملية ليلة 9 من نوفمبر، وقد اختاروا هذه الليلة بالذات لأنها كانت الليلة المحددة لعقد قران ابنتي ناهد. وكانت الخطة تقضى بأن تهاجم وحدة منهم مكان عقد القران فتعتقل الموجودين كلهم، ولابد ان يكون من بينهم رئيس الجمهورية ووزير الحربية ورئيس الأركان والكثيرون من الوزراء وكبار الضباط. ولكنهم فوجئوا باحتياطات أمن مشددة لحراسة المنطقة مما جعلهم يؤجلون تنفيذ العملية الى وقت أخر.
كنت مدعواً في مساء يوم 16 من نوفمبر لحضور حفل زفاف السيد عبد المنعم الهونى وهو أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة الليبية، كـان الحفل يجرى فى نادى الرماية بالهرم وكان الرئيس السادات يحـضر هذا الاحتفال. انتحيت بالرئيس جـانبا و أخبرته بآخر التفصيلات والاعترافات بخصوص الانقلاب الفاشل، وبعد حوالي ساعتين هم الرئيس بالانصراف فنزل معه المضـيف لتوصيله الى عربته، بينما بقيت أنا فى الدور العلوي أعد نفسي للرحيل وانتظر عودة الداعي لكي أسلم عليه. وبينما أنا واقف أتحدث الى بعض المدعوين إذا بأكثر من شخص يصرخ "سيادة الرئيس عايزك ". فنزلت الى الدور الأرضي وعند وصولي إلى الباب كان الرئيس قد غادر المكان تاركـا من يبلغني بأن اتبعه مباشرة الى منزله فى القبة. وفجأة وجدت نفسي داخل عربة من عربات الحراسة، ألاحق ركب الرئيس فوصلت عقبه، وبينما كان يصعد سلم منزله كنت قد لحقت به.
قال الرئيس" أنت شغلتني قوى يا سعد بالكلام اللي قلته "ـ لقد بدا يشعر بأبعاد المؤامرة ولكنى طمأنته و أكدت له انه قد تم القبض على جميع الرؤوس المدبرة. وعلى الرغم من ان اسم الفريق صادق لم يرد ذكره مطلقا على لسان أي من الذين جرى التحقيق معهم إلا أنه كان واضحـا ان المقبوض عليهم جميعهم يدينون بأفكاره نفسها وأنهم كـانوا ينوون القيام بانقلابهم لأنهم كانوا يعتقدون انهم بذلك يؤدون عملا وطنيا لبلادهم. قال الرئيس لا لقد كان صادق يخدعني فيما يتعلق بالأشخاص وكان يزرع رجاله فى المناصب المهمة ويستبعد من يختلف معه فى الرأي، ما رأيك فى عادل سوكه ؟،، فقلت له أنه ضابط جيد، فقال طيب ابعت هاتة من تركيا، بكره تبعت تجيبه، (5) "فقلت له سيادة الرئيس إذا قبلت نصيحتي فإني اقترح تأجيل ذلك، فاستوضح الرئيس "لماذا؟"، فقلت له "كان الفريق صادق للأسف يتهم كل من يختلف معه فى الرأي بأنه شيوعي، لقد قاسيت أنا نفسي من هذه التلميحـات فإذا نحن أحضرنا عادل سوكه في مثل هذه الظروف فقد يجري تفسير هذا التصـرف فى القوات المسلحة تفسيرا خاطئا"، فهز الرئيس رأسه موافقا وقال "اعتقد أنك على حق. أجل هذا الموضوع الآن " ناقشنا بعض الموضوعات الأخرى التى تتـعلق بتـأمين القوات المسلحـة واستغرقت مناقشتنا لهذه الموضوعات حوالي نصف السـاعة، عدت بعدها مرة أخرى إلى نادي الرماية لكي آخذ زوجتي وننصرف من الحفل.
الفصل الحادي والعشرون: التعاون المشوب بالحذر
تسهيلات الأسطول السوفيتي فى الموانئ المصرية:
في الساعة 2000 يوم 19 من مايو 71 اجتمع وفد عسكري سوفيتي مع وفد عسكري مصري لبحث التسهيلات البحرية التي يطلبها الجانب السوفيتي في الموانئ المصرية. كان الوفد السوفيتي برئاسة الجنرال يفيموف Yeflmov وعضوية الأدميرال فاسيلىVassily والجنرال اوكينيف OKUNEV، وكان الوفد المصري برئاسة الفريق صادق وزير الحربية وعضويـة اللواء الشاذلي (ر.ا.ح.ق.م.م) والعميد أمير الناظر الأمين العام لوزارة الحـربية. وكان الجانب السوفيتي يطلب زيادة في التسهيلات البحرية التي كان يمارسها فعلا، وكانت هذه الطلبات الجديدة تشمل ما يلي:
مرسى مطروح:
1- تعميق الميناء ثمانية أمتار أخرى.
2- بناء او تأجير أماكن لإيواء الأفراد بحيث تكون قريبة من المينـاء، وبحيث تكفى لإيواء 2000 رجل و 160 عائلة.
3- بناء مطار على مسافة 35-40 كيلومترا غرب الميناء.
4- رفع كفاءة المطار الحالي في مرسى مطروح بحيث يصبح قادرا على استيعاب لواء جوي سوف يتم إرساله من الاتحاد السوفيتي لتامين الميناء.
5- بناء محطة رادار على مسافة 100 كيلومتر شرق مرسى مطروح، وأخرى على مسافة مماثلة غربها.
الإسكندرية:
طلب الجانب السوفيتي تدبير مبنى واحد كبير او مجموعة من المباني المتجاورة حتى يمكنهم ان يجمعوا فيها عائلات رجال بحريتهم المتناثرة داخل مدينة الإسكندرية، وكان المطلوب هو تدبير مكان مجمع يتسع ل200 عائلة، وقد اقترحوا الحصول على فندق سان ستيفانو. أجاب الفريق صادق بان هذه الطلبات لها جانب سياسي وأنه لا يستطيع البت فى هذه الأمور قبل بحث الموضوع مع السيد الرئيس، وسيكون جاهزا للرد على هذه التساؤلات بعد حوالي أسبوع. وبعد انتهاء اللقاء طلب مني الوزير أن أشكل لجنة برئاستي لبحث هذه المطالب، وكان بين أعضاء هذه اللجنة اللواء بغدادي قائد القوات الجوية واللواء محمود فهمي قائد القوات البحرية. وبعد عدة لقاءات تقدمنا بالاقتراحات التالية:
1- الموافقة على إعطاء البحرية السوفيتية تسهيلات في ميناء مرسى مطروح تشابه التسهيلات الممنوحة لها في كل من الإسكندرية وبور سعيد.
2- عدم تخصيص أية منطقة محددة لخدمة الوحدات السوفيتية حتى لا يأخذ ذلك شكل قاعدة سوفيتية.
3- الموافقة على تمركز لواء جوي سوفيتي في مرسى مطروح شريطة ألا تقتصر مهمته على الدفاع عن القاعدة البحرية، بل تمتد مسئوليته لكي تشمل الدفاع عن الأراضي المصرية ما بين غرب الإسكندرية وحتى الحدود المصرية الليبية. وان يكون اللواء الجوي السوفيتي تحت القيادة المصرية.
4- يكون تمركز اللواء الجوي السوفيتي في مرسى مطروح بصفة مؤقتة وإلى أن تصبح القوات الجوية المصرية قادرة على تحمل مسئولية الدفاع الجوي عن المنطقة غرب الإسكندرية وتقوم بتخصيص لواء جوي مصري لكي يعفي اللواء الجوي السوفيتي من هذه المهمة.
قمت بتسليم مقترحات اللجنة إلى السيد الوزير الذي عرضها بدوره على السيد الرئيس ثم عاد إلينا ليقول إن الرئيس وافق على تلك المقترحات وأوصى بان تكـون الاتفاقية لمدة 5-10 سنوات.
اجتمع الوفد العسكري السوفيتي والوفد العسكري المصري مرة أخرى يوم 27 من مايو، وكان رئيس الوفد السوفيتي في هذه المرة هو الجنرال PAVLOVSKY وهو أحد أفراد وفد الرئيس بودجورنى الذي كـان في زيارة رسميـة لمصر ما بين 25 و 28 من مـايو 71.
أخبرنا الجانب السوفيتي "أن الرئيس السادات شخصيا كان قد طلب خلال زيارته الأخيرة لموسكو ان نستخدم ميناء مرسى مطروح وان الفريق فوزي وزير الحربية السابق كان معه في هذه الزيارة، و أكد الطلب وان كل ما نطلبه الآن هو وضع ترتيبات أسلوب إعاشة الأفراد الذين يستخدمون هذه الميناء وتامين راحتهم. وان الدفاع عن اللواء الجوي أثناء تواجده على الأرض يستلزم وجود لواء صواريخ مضاد للطائرات" قدم الجانب السوفيتي مقترحاته وقدمنا مقترحاتنا المضادة وطالت المفاوضات والأخذ والرد واستغرقت يومي 27 و 28 من مايو دون الوصول الى أي اتفاق، وفي يوم 29 من مايو عاد الوفد العسكري السوفيتي إلى بلاده دون التوقيع على أي اتفاق.
ضبط شبكة أمريكية تتجسس على السوفيت في مصر:
في خلال الأسبوع الأول من سبتمبر 71 تمكنت المخابرات المصرية من القبض على شبكة تجسس أمريكية، وكان المتهم الرئيسي في هذه الشبكة هو طناشى راندوبولو وهو مصري الجنسية من اصل يوناني، اما العنصر الأمريكي في الحلقة فقد كانت الآنسة سوأن هاريس وهي أمريكية الجنسـية وكانت تعمل في قسم رعاية المصالح الأمريكية في القاهرة. (2) أدلى طناشى بعد القبض عليه باعتراف كامل اظهر فيه ان المعلومات جميعها التى حصل عليها كانت من أفراد سوفيت من بين أصدقائه العديدين في قاعدة جاناكليس الجوية، وأنه كان يقوم بإبلاغ تلك المعلومات الى الآنسة سو في السفارة الأمريكية. وقد بدأت علاقته مع المستر بيليكوف BELEKOV الذي خدم بـالقاعدة من سنـة 69 حتى 71 وبعد عودته إلى الاتحاد السوفيتي أرسل له كتابا يقدم فيه خلفه فكتور VICTOR وتوطدت صداقة متينة بين فكتور وطناشى إلى أن تم القبض عليه، وعن طريق فكتور تعرف على يورى (مساعد فكتور) واصبحوا يتزاورون فقام هو بدعوتهما إلى العشاء في منزله عدة مرات، كما انهما قاما بدعوته إلى العشاء في القاعدة وقد تجول داخل القاعدة بما في ذلك غرفهم الخاصة.
كان من بين اعترافات طناشى ما يلي:
1- انه زار أحد ملاجئ (هناجر) الطائرات الخـرسانية وكـانت مصر اول دولة في العالم تقوم ببناء هذه الملاجئ الخرسانية وذلك لوقاية طائراتنا من أي هجوم جوي مفاجئ بعد أن دمرت قواتنا الجوية وهي على الأرض مرتين: المرة الأولى من قبل بريطانيا أيام الاعتداء الثلاثي عام 1956، والمرة الثانية من قبل إسرائيل عام 1967.
2- إنه حضر فيلما عن الجاسوسية مع جميع أفراد القاعدة.
3- إن لديهم في روسيا رادارات افضل بكثير من الرادارات الروسية الموجودة في مصر.
4- إن المصريين غير مستعدين وغير جاهزين للحرب الآن، وقد يمر وقت طويل قبل ان يصبحوا قادرين على استئناف القتال من جديد.
5- إن هناك أسرابا جوية سوفيتية أخرى في مصر غير تلك التي في قاعدة جاناكليس وأن تلك القواعد مدافع عنها بصواريخ سام 4 وسام 6 أما قاعدتهم في جاناكليس فمدافع عنها بصواريخ سام 2 وسام 3.
ولقد قرر الرئيس السادات الا نضخم هذا الموضوع، وان يكتفي بإبلاغ السوفيت بذلك. وفي يوم 13 من سبتمبر استدعيت كـبير المستشارين السوفيت في مصر و أبلغته القصة كاملة، وطلبت منه ان يلفت نظر جميع الضباط والجنود السوفيت بضرورة مراعاة احتياطات الأمن، والعمل على تلافي وقوع مثل هذا الحادث مستقبلا- واضفت قائلا " إننا على يقين من أن جميع المعلومـات التى سلمهـا طناشى بابادويلو الى الآنسـة سوآن هاريس سوف تجد طريقها الى إسرائيل. ورغبة في الحفاظ على العلاقات الطيبة بين بلدينا نقية وخالية من أية شوائب فقد أمر السيد الرئيس بطي الموضوع تاركين لكم حرية التصـرف في اتخـاذ الإجراءات المناسبة ضد الأفراد السوفيت الذين تسببوا في تسرب تلك المعلومات، كما نرجو أن تتخذوا الإجراءات المناسبة التى تضمن عدم تكرار مثل هذا الحادث مستقبلا".واستمرت الدراسة عدة ايام. وبعد ان اتفقنا على ما هو مطلوب جهزت كشفا بذلك وقدمته إلى الفريق صادق.
في 21 من سبتمبر 71 سـافر اللواء عبد القادر حسن واللواء عمر جوهر الى موسكو لعقد المباحثات الأولية مع الجانب السوفيتي بخصوص صفقة أسلحة في حدود 130 مليون روبل. وفي 8 من اكتوبر سافر الفريق صادق على راس وفد عسكري لإجـراء المباحـثات النهائية والتوقيع على الاتفاقية. وعاد من موسكو يوم 16 من اكتوبر (3) وفي يوم 17 من اكتوبر عقد الفريق صادق مؤتمرا أعلن فيه ان الاتحاد السوفيتي سيقوم بإمدادنا بالأسلحة التالية:
10 طائرات تى يو 16 مجهزة بصواريخ جو ارض ذات مدى 150 كيلومترا.
100 طائرة ميج 21. يتم تسليم نصف هذا العدد خلال عام 71 والباقي خلال 72.
20 طائرة ميج 23 خـلال عام 72 بطياريها السوفيت الى ان يتم تدريب الطيـارين المصريين على قيادتها.
فوج كوادرات (صواريخ مضادة للطائرات خفيفة الحركة تعرف في الغرب سام 6).
كتيبة مدفعية 180 ميللمتر.
كتيبة هاون 240 ميللمتر.
ثلاثة كبارى PMP
وفي مجـال إنتاج الأسلحـة أشار الوزير الى ان الاتحاد السوفيتي سوف يقدم جميع المساعدات ليجعلنا قادرين على إنتاج الأصناف التالية:
المدفع 122 مم دى 30
الرشاش 23 مم المزدوج (ذو ماسورتين).
البندقية الآلية AKM.
القاذف الصاروخي RPG.
التعاون المشوب بالحذر، صفحه رقم 121
وفي مجال إنتاج الذخيرة يقوم الاتحاد السوفيتي بتقديم المساعدة ليجعلنا قادرين على إنتاج الذخيرة اللازمة للأسلحة التالية:
23 ميللمتر مضادة للطائرات.
82 ميللمتر للمدفع عديم الارتداد ب 10.
122 ميللمتر للمدفع ام 30 والمدفع دى 30.
130 ميللمتر للمدفع ام 46.
152 ميللمتر هاوتزر.
120 ميللمتر هاون.
القاذف الصاروخي RPG.
القنبلة اليدوية RKG.
وفي مجـال إنتاج الأسلحـة أشار الوزير الى ان الاتحاد السوفيتي سوف يقدم جميع المساعدات ليجعلنا قادرين على إنتاج الأصناف التالية:
المدفع 122 مم دى 30.
الرشاش 23 مم المزدوج (ذو ماسورتين).
البندقية الآلية AKM.
القاذف الصاروخي RPG.
وفي مجال المعدات وقطع الغيار يقوم الاتحاد السوفيتي بإنشاء المصانع التالية:
مصنع لإنشاء قطع الغيار اللازمة للطائرات ميج 21 والميج 17 والسوخوي.
7 مصنع لإنتاج التانكات الاحتياطية للطائرات DROP TANKS.
مصنع لإنتاج الرادار ب 15.
مصنع لإنتاج الأجهزة اللاسلكية 123 R والأجهزة 124 R التي تستخدم في الدبابات.
مصنع لإنتاج الطابات والبوادي.
وفي مجـال تنظيم التعاون بين الطرفين في النواحي العسكرية وافق الجانب السوفيتي على أن تمتد مسئولية اللواءين الجويين السوفيتي المتمركزين في مصر إلى خط وهمي يقع على بعد 20 كيلومترا غرب القناة لكي يشاركا في الدفاع الجوي (كان القائد المحلي الروسي يريد أن يلتزم بالدفاع حتى خط طول 32 والذي كان يقع غرب ذلك بكثير).
ذكر الوزير أيضا ان الجانب السوفيتي سيسعى لإنجاز الورش الرئيسية وورشة العمرة التي كان بصدد إنشائها لصالح قواتنا الجوية في أسرع وقت ممكن، ولكنه رفض الاستجابة لطلب الفريق صادق بإنشاء مصنع لإنتـاج طائرة الهيليكوبتر مى 24 ووعد ببحث هذا الموضوع فيما بعد.
السوفيت وسنة الحسم:
في يوم 25 من ديسـمبـر 71 وصل المارشال جـريشكو الى القاهرة حيث أمضى 24 ساعة فقط قبل أن يغادرها إلى موسكو. لم تكن زيارة جريشكو زيارة رسمية و إنما كانت مرورا عابرا في طريق عودته من مقديشو (حيث كان في زيارة رسمية للصومال) إلى موسكو. لقد كانت الزيارة في أعقاب الحرب الهندية الباكستانية التي انتهت بانتصار الهند واستقلال باكستان الشرقية تحت اسم بنجلاديش. وبالطبع كانت تلك الزيارة الى الصومال في ذلك الوقت ذات معنى سياسي في لعبـة الأمم، فقد كان السوفيت يساعدون الهند في حربها ضـد باكستان، كما كـانت لهم علاقات طيبة مع الصومال. وهكذا كان الاتحـاد السوفيتي يتمتـع بموقف ممتاز في المحيط الهندي على شاطئيه الشرقي والغربي. كان المارشال جريشكو في قمة السعادة خلال حفل العشاء الذي أقامه السفير السوفيتي على شرفه في هذه الليلة. كان يمزح ويضحك من أعماقه وهو يقول لي تصور أنني أنا والوفد الذي يرافقني سبحنا أمسى في المحيط الهندي، كـانت المياه دافئة والجو جميل لاشك أنها كانت مناسبة سـعيدة للسوفيت ان يسبحـوا في مياه المحيط الهندي الدافئة التى تراود أحلامهم منذ ايام القياصرة !!
لقد تحسنت العلاقات السوفيتية المصرية بعد اتفاقية اكتوبر 71 بعض التحسن، ولكنه كان واضحا انهم لا يشجعوننا على القيام بالهجوم قبل نهاية عام 71 كما كان السادات يعلن دائما. وكـان السفير السوفيتي قد قابل الرئيس السـادات يوم 20 من ديسمبر وابلغه بان الاتحاد السوفيتي قد علم بما يلي:
1- قامت إسرائيل بإدخال قوات جديدة في سيناء.
2- حصلت إسرائيل على ضمانات جديدة من أمريكا لتأييدها في حالة استئناف القتال.
3- يحتمل ان تقوم إسرائيل بمهاجمة أكثر من دولة عربية في وقت واحد.
وزير الحربية يهاجم السوفيت:
كان الفريق صادق لا يخفي انتقاده وعدم ثقتـه بالاتحاد السوفيتي في أحاديثه كلها ولكن هذه الأحاديث وتلك الآراء كانتا دائما على المستويات العليا، وقد بدا يخـرج عن هذه القاعدة اعتبارا من يناير 72. وفي يوم 24 من يناير 72 خطب صادق في اجـتماع عقد في المنطقة المركزية حضـره عدة آلاف من الضباط من جميع الرتب وهاجم الاتحاد السوفيتي هجوما عنيفا، و أعلن ما يلي:
1- إن الروس لم يقوموا بتوريد الأسلحة المطلوبة، وانهم بذلك هم الذين يحولون دون تحقيق رغبتنا في الهجوم.
2- إذا لم يصل الرئيس إلى اتفاق في لقائه معهم في نهاية يناير و أوائل فبراير، فإننا سنقوم بشراء السلاح الذي نحتاج إليه من أية جهة أخرى.
3- إن الروس ينشرون شائعاتهم بين صغار الضـباط والجنود والطلبة بان القوات المسلحة لديها الأسلحة الكافية التى تمكنها من القيام بالهجوم ولكن كـبار القادة هم الذين لا يرغبون فى القتال. وان هذه الشائعات المسمومة غير صحيحة.
الفصل الثاني والعشرون: قرار الاستغناء عن الوحدات السوفيتية
رحلة السادات الى موسكو في فبراير 72:
سافر الرئيس الى الاتحاد السوفيتي يوم 2 من فبراير، بينما بدأت أنا رحلتي الى الجزائر والمغرب وليبيا يوم 6 من فبراير، والتي عدت منها يوم 14 من فبراير 72، وقد علمت يوم 15 فبراير ان الاتحاد السوفيتي قد أكد للرئيس التزامه باتفاقية اكتوبر 71 لتوريد الأسلحة و إقامة الصناعات العسكرية وانه وعد علاوة على ذلك بإمدادنا بما يلي:
200 دبابة ت 62 يتم تسليم عشر منها خلال شهر مارس لإجـراء تدريب الأطقم عليها على ان يتم توريد باقي الدبابات خلال عام 72.
20 طائرة TU 22 يتم توريد اثنتين منها خـلال شهر مارس لتدريب الأطقم عليها، ويتم توريد الباقي خلال عام 72.
25 طائرة ميج 17 يتم تسليمها فورا كهدية.
تدعيم وزيادة طاقاتنا في الحرب الإلكترونية.
اعتذر الجانب السوفيتي عن عدم قيامه بإمدادنا بالطائرات ميج 21 في التوقيتات السابق تحديدها في اتفاقية أكتوبر، ولكنه وعد بتعويض ذلك بان يورد لنا 70 طائرة في النصف الأول من عام 72 والثلاثين الأخـرى في النصف الثاني من عام 72، كما أكد إمكان تصنيع الطائرة ميج 21 MF تصنيعا كاملا في مصر عام 1979.
وصل المارشال جريشكو يوم 18 من فبراير في زيارة رسمية لمصر تستغرق ثلاثة أيام. لقد كانت الزيارة سياسية في مضمونها وكـان الهدف منها هو تليين الفريق صادق حتى يخفف من حدة هجومه عليهم. وقد حضرت مع الوزيرين عدة لقاءات, ولكن هذه اللقاءات لم تخفف- إن لم تكن قد زادت- من حدة المرارة التى يشعر بها كل طرف تجاه الآخر.
وقد بودلت اثناء هذه اللقاءات بعض الجمل والتعليقات الخشنة، وفي الليلة السابقة لسفر المارشال جريشكو دعاه الفريق صادق الى عشاء خاص وطلب مني حضور هذا العشاء، فاعتذرت لكي أعطى لهما الفرصـة لكي يصفيا ما بنفسيهما. وبعد سفر جريشكو سالت صادق عما يشعر به الآن بعد تلك الزيارة فوجدت ان موقفه لم يتغير، وانه مازال على اعتقاده بان الروس غير مخلصين وغير جادين في التعاون معنا.
صفقة الأسلحة في مايو 72:
سافر الفريق عبد القادر حسن في شهر مارس الى موسكو للتوقيع على الاتفاقية بالأصناف التى تم الاتفاق عليها بين الرئيس السادات والقيادة السياسية السوفيتية في فبراير. ولكنه عاد يوم 19 من مارس دون ان يوقع على البندين الخاصين بالدبابات ت 62 والطائرات TU 22. دعا الفريق صـادق المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى اجتماع عاجل في اليوم نفسـه وهاجم الاتحـاد السوفيتي هجوما عنيفا، لأنه طلب ان يتم دفع ثمن هذين الصنفين كاملا وبالعملة الصعبة.
ولكي يستطع القارئ ان يتفهم معنى دفع الثمن كاملا وبالعملة الصعبة فسوف اشرح بالتفصيل أسلوب الدفع بين مصر والاتحاد السوفيتي فيما يتعلق بثمن الأسلحة والمعدات الحربية. كان جمال عبد الناصر قد اتفق مع السوفيت على ان يتم دفع ثمن الأسلحة والمعدات التى تشتريها مصر من الاتحاد السوفيتي طبقا لما يلي:
1- يقوم الاتحـاد السوفيتي بخـصم 50% من ثمن السلاح، وبالتالي فإن السلاح يباع بنصف الثمن فقط.
2-يقوم الاتحـاد السوفيتي بإقراض مصر قرضّا يغطى ثمن السلاح الذي نشـتريه( أعني ال50% التي يجب على مصر ان تدفعها) ويتم دفع هذا القرض على أقساط سنوية لمدة 10- 15 سنة بفائدة 2%، و يبدأ القسط الأول بعد فترة سماح طويلة.
ونظرا لأن السـلاح السوفيتي- دون أي حسم من ثمنه الكامل- يعتبر رخـيصـا جدا بالنسبة للسلاح الغربي ويمكن القول بأنه في حالة تعادل الخصائص بين السلاح السوفيتي والسلاح الغربي فإن السلاح السوفيتي يكون ثمنه 50% من ثمن مثيله الغربي. فإذا خصمنا 50% من هذا الثمن، فإن ذلك يعني أن الثمن الذي تدفعه مصر ثمنا للسلاح الروسى يعادل 25% من ثمنه في السوق العالمية. وعلاوة على ذلك فإنه يدفع بالجنيه المصري وبالتقسيط المريح. وتطبيقا لذلك فقد كنا نشتري الطائرة ميج 21 بمبلغ 250000 جنيه مصري وكنا نشترى الدبابة ت 55 بمبلـغ 25000 جنيه مصري. كان الوفد المكلف بعقد الصفقـة يسافر إلى موسكو وليس معه دولار واحد، فيوقع مثلا على صفقة من الأسلحة تبلغ قيمتها- طبقا للأسـعار العـالمية- 1000 مليون دولار، ثم يوقع على قرض بحوالي 250 مليون دولار، يدفع بالتـقسـيط على 10- 15 سنة بفائدة 2% وبعد فترة سماح طويلة. ويتم التسـديد بالجنيه المصري وبأية أصناف يمكن لمصر تصديرها.
وهكذا فإن الاتحاد السوفيتي عندما أخطر عبد القادر حسن خـلال شهر مارس 72 بان يتم دفع الثمن كاملا وبالعملة الصعبـة كان يعني عدم خصم نسبة إلى 50% المعتادة وان يتم تسديد الثمن بالعملة القابلة للتـحويل !! وانه- طبقا لذلك- أصـبح ثمن الدبابة ت 62 حوالي 250000 دولار والطائرةTU 22 أصبح ثمنها 5,6 مليون دولار، وهذه الأثمان- وإن كانت لا تزال تعادل حوالي 50% من ثمن مثيلتها الغربية كـانت تعتبر من وجهة نظرنا عملا غير مقبول، بل يكاد يكون عدائيا. (1)
في خلال شهري أبريل ومايو دارت عدة مناقشات ولقاءات- كـما سبـق ان ذكرنا في الباب الثالث/ الفصل الثـامن عشر انتهت بالتوقيع يوم 15 من مايو 72 على اتفـاقية تشمل ما يلي:
16 طائرة سو 17 يتم تسليم 4 منها في شهر يوليو والبـاقي يتم تسليمه قبل نهاية عام 72.
8 كتائب صواريخ بتشورا (سام 3) يتم تسليمها خلال عام 73.
1 فوج كوادرات يتم تسليمه عام 73.
200 دبابة ت 62 يتم توريدها خلال عام 72.
قرار الاستغناء عن الوحدات السوفيتية ، صفحه رقم 125
مصر تعلن ملكيتها لطائرة الميج 25:
في يوم 15 من مايو وبحـضور الرئيس السادات والمارشـال جريشكو جرى استـعراض جوي في مطار غرب القاهرة اشتركت فيه الطائرة ميج 25 والطائرة سو 17. كما حضر هذا العرض أيضا المارشال كوتاكوف KOTAKOV قائد القوات الجوية السوفيتية. وبعد انتهاء العرض الجـوي منح الرئيس السادات المـارشال جريشكو وسـام نجمـة الشرف، كـما منح المارشال كوتاكوف وسام النجمة العسكرية. وفي المساء أمر الرئيس بإصدار بيان وزع على الصحف يعلن امتلاك مصر لطائرة سرعتها 3000 كيلو متر في الساعة وتطير على ارتفاع 24 كيلومترا وامتلاكها أيضا لطائرات قاذفة مقاتلة بعيدة المدى. كان هذا البيان كاذبا تماما: فلم تكن مصر تملك شيئا مما ذكر في البيان، كان الروس يمتلكون 4 طائرات ميج 25 وكانت هذه الطائرة تعتبر أفضل ما أنتجته الصناعة السوفيتية وبالتالي فقد كـانت من الأسرار العسكرية المهمة ولم تعرض قط للبيع، وكان يقوم بتشغيلها طيارون سوفيت. كـما ان الطائرة سو 17 لا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال طائرة قاذفة مقاتلة بعيدة المدى. هذه هي صورة أخرى تبين كيف يخدع السادات الشعب المصري وبعض العرب بهذه البيانات الكاذبة. انه قطعا لا يستطيع ان يخدع أمريكا او إسرائيل حيث أن لديهما الوسائل والإمكانات التى تمكنهما من معرفة الحقائق. بل على العكس قد يخدم بذلك إسرائيل إعلاميا فتتمادى في تظاهرها بالضعف وانها كالحمل الوديع الذى تحـيط به الذئاب العربية التى تتربص به لافتراسه من كل جانب وبذلك تكتسب عطف الراى العام العالمي وتجد المبرر للمطالبة بالمزيد من السلاح.
ولكي يقوم السادات بحبك التمثيلية، قامت طائراتا ميج 25 سوفيتيتان برحلة استطلاعية فوق سيناء مبتدئة من بور فؤاد شمالا وحتى راس محمد جنوبا بعمق 10-30 كم داخل سيناء قام العدو باعتراض الطائرتين بطائرتي من طراز فانتوم أقلعتا من مطار المليز (في وسط سيناء) وطائرتي أخريين من مطار راس نصراني الذى يقع في الطرف الجنوبي من سيناء. ونظرا لأن طائرة الميج 25 تتفوق على طائرة الفانتوم تفوقا كثيرا من حيث السرعة والقدرة على الارتفاع فإن اعتراض العدو والصواريخ جو جو التي أطلقها عليها لم يكن لها أي تأثير عليها وسقط أحد هذه الصواريخ سليما في أيدينا في المنطقة الواقعة غرب القناة، وبفحص هذا الصاروخ اتضح أنه الصاروخ جو جو الأمريكي طراز سبارو Sparrow وقد ذكرنا هذا الموضوع ضمن التقرير اليومي الذي يرسل إلى الرئيس عن الأحداث المهمة في القوات المسلحـة، وعندما اطلع الرئيس على التقرير يوم 17 من مايو امر بتسليم الصاروخ Sparrow إلى الخبراء السوفيت الذين كانوا في غاية الفرح بالغنيمة الأمريكية.
تدهور العلاقات:
خلال النصف الأول من عام 72 كان يبدو ان الفريق صادق هو العدو رقم واحـد للسوفيت في مصر، بينما كان السادات يحاول ان يظهر بمظهر الصديق لهم. وبينما كان السادات يقوم بأطول زيارة له للاتحاد السوفيتي خلال الفترة ما بين 27 من ابريل و 10 من مايو 72 وقع حادثان مهمان كان بطلهما الفريق صادق.
في أوائل شهر مايو أخطرنا الجانب السوفيتي بان بحريتهم في البحر الأبيض سوف تقوم بمشروع تدريبي وانها تطلب السماح لها ان تنزل بعض أفرادها في منطقة مرسى مطروح يوم 8 من مايو على ان يتم سحبهم في اليوم التالي، وذلك كجزء من المشـروع التدريبي ولكن صادق رفض هذا الطلب.
أما الحادث الآخر فهو اتهام بعض الأفراد الروس بتهريب الذهب كانت الساعة الخامسة مساء يوم 8 من مايو 72 عندما جاءني كبير المستشارين السوفيت في قيادة المنطقة المركزية، حيث كنت أدير مشروعا لتدريب قيادة المنطقة. قال الجنرال اوكينيف بلهجة ملؤها الحزن والأسى، ان بعض الجنود السوفيت الذين تقترب عودتهم الى الاتحاد السوفيتي بعد انتهاء مدة خدمتهم في مصر قد جرى تفتيش اثنين منهم في مطار القاهرة بطريقـة استفزازية، مما أثار سخط الآخرين فرفضوا التفتيش وهم الآن في صالة الجمرك. قد يكون بعضهم قد اشترى "دبلة" أو خاتما أو سواراً لكي يهديها لخطيبته او صديقته. وإن مثل هذه الأشياء التافهة ذات الصفة الشخصية البحتة لا يمكن اعتبارها تهريبا كما يريد المسئولون في المطار أن يصوروها"، اتصلت هاتفيا بمدير المخابرات الحربية فـاشار إلى أن المعلومات التى لديهم تفيد بأنهم يحملون كميات كبيرة من المهربات، وانهم كانوا يراقبونهم منذ عدة أسابيع وهم يشترون الذهب بكميات كبيرة وأمام هذا التضارب في الأقوال قررت الذهاب إلى مكتبي حيث يمكن الاتصال بالجهات المختصة كلها وبحث الموضوع بطريقة افضل.
لم أكد أصل إلى مكتبي حـتى وصل وزير الحربيـة وفي أعقابه اللواء حسن الجريدلى الأمين العام للوزارة, كان من الواضح أن وصول الوزير الى المكتب في هذا الوقت لم يكن مجرد مصادفة و إنما كان لكي يتأكد من ان موضوع التهريب يسير في الطريق الذي رسمه. ولهذا السبب، فقد تنحيت جـانبـا عن الموضوع وجلست أتفرج على ما يدور بين الوزير والجنرال اوكينيف. كان صادق يقول للجنرال اوكينيف "أنا ليست لدى أية سلطة على رجال الجمارك. إنهم تابعون لوزير الاقتصاد. إنهم يفتشون الوزراء ."، ولكنه همس لي أنا واللواء حسن الجريدلى "إن المعلومات التي لدينا تؤكد ان معهم 80 كيلوجراما من الذهب .", اقترح صادق على أوكينيف ما يلي: "يقوم كل فرد بملء تصريح للجمرك يسجل فيه ما يتحمله من ذهب او خلافه ويقوم بتسليمه إلى الجمرك. يوقع اوكينيف على إقرار يفيد أنه مسئول عن إحضار كل من يطلب من هؤلاء الأفراد من قبل المحكمة. سوف يتدخل صادق بعد ذلك وبعد أن تهدا نفوس رجال الجمارك لحفظ هذا الموضوع بحيث لن يطلب أحد للمحكمة"، وقد رفض أوكينيف هذا الاقتراح قائلا "ليس لدى الأفراد اى شىء ليصرح لهم به.. لابد ان أي فرد سوف ينتابه غضب شديد إذا نحن طلبنا منه ان يسلم "دبلة" أو خاتما اشتراه للذكرى بعد ان خدم في مصر عاما كاملا أو اكثر".
اخذ الكلام يدور بين صادق واوكينيف في حلقة مفرغة الى أن دق جرس الهاتف في مكتب الوزير، وكان الوزير يناديه باسم "محمد" (2). بعد هذه المكالمة اظهر الوزير بعض المرونة ولكنه لم يتخذ أية إجراءات إيجابية لحل الموضوع. وبعد اقل من نصف ساعة رن جرس الهاتف مرة أخرى وكان المتحدث هذه المرة هو "محمد" أيضا بعد تلك المكالمة الثانية تغيـر موقف صادق تغييرا جذريا وطلب إليّ أن اذهب إلى المطار لكي احل الموضوع ولكني اعتذرت.. لماذا يسألني الآن؟ إنه هو صاحب هذا الموضوع. انه هو الذى خلقه. وهو الذى عقده وهو الذى يحـاول الآن أن يجد له حلا. فليحله هو وحده. ذهب اللواء حسن الجريدلى الى المطار مندوبا عن الوزير لحل الموضوع. كانت مجموعة المستشـارين والخبراء السوفيت تقيم حفلا ساهرا في مساء هذا اليوم احتفالا بعيد النصر وكنت مدعوا لهذا الاحتفال الذى يبدأ في الثامنة مسـاءا ولكنى شعرت بأن العلاقات بيننا كانت تخيم عليها الكآبة ففضلت أن أعود مرة أخرى إلى المنطقة المركزية لكي اتابع المشروع التدريبي الذي كنت قد انقطعت عنه لمدة ساعتين شـاهدت فيهما أحد فصول هذه القصة المثيرة. اننى لا أحب أن أمثل دورا لست مقتنعا به وقد وجدت ان ذهابي لحضور حفل الأصدقاء الروس في مثل هذه الظروف لا يحمل المعنى المقصود من الدعوة فقررت الاعتذار.
وفي صباح اليوم التالى سألت عن موضوع التهريب وكيف تم حله فاتضح ان 71 فرداً سوفيتيا سافروا بعد ان سمح لهم أ ن يأخذوا معهم الهدايا التى اشتروها، وانه قد تم حصر جميع هذه الهدايا فكان بيانها كما يلي: 26 سلسلة، 45 خاتما، 75 دبلة، 41 قرطا، 7 غوايش، 3 بروش.
كان الوزن الإجمالي لهذه الأصناف جميعها هو حوالي 1200 جرام من الذهب أي بمعدل 17 جراما لكل فرد!
قرار الاستغناء عن الوحدات السوفيتية:
في يوم الأحد 9 من يوليو 72 كنت مدعوا في سفارة المملكة العربية السعودية لحضور مأدبة عشـاء أقامها السـيد السفير السعودي على شرف الأمير سلطان وزير الدفاع السعودي. (3) وفي أحد أركان السـفارة همس الفريق صادق في أذني بقرار الرئيس بخصوص طرد المستشـارين والوحدات السوفيتية. كان يقف معي الفريق عبد القادر حسن عندما اخبرنا الوزير بهذا الخبر وطلب إبقاءه سرا حيث أن الرئيس طلب منه الا يخبر أحدا، وقد قص علينا صادق ما يلي "اتصل الرئيس بي هاتفيا في منزلي صباح يوم الجـمعة وسألني ماذا أفعل هذا اليوم فقلت له لا شىء سوى أني سـأقوم بتأدية صلاة الجـمعة في الجـامع عندما يحل وقت الصلاة، فقال لي: لماذا لا تحـضر الى استراحـة القناطر وتؤدي الصلاة هنا فأجبته بأنني سأحضر. وعندما وصلت الى هناك أخبرني بأنه قرر طرد جميع المستشارين السوفيت والوحدات السوفيتية المتمركزة في مصر. وطلب مني ألا أخطر أحدا إلى ان يـعلن هو ذلك في الأيام القليلة القادمة.
وفي خلال اليومين الماضيين كنت أغالب نفسي لكي انفذ تعليمات الرئيس بعدم إخطار أحد ولكني قررت اليوم ان أخبركما، ولاسيما بعد ان شعرت بان الرئيس قد اخطر غيري بهذا الخبر. قلت له "ولكنك تعلم مدى خطورة هذا القرار، إنه سوف يؤثر تأثيرا كبيرا على قدراتنا القتالية. أن الروس يسهمون إسهاما فعالا في مسـئوليـة الدفاع الجوي، إن لديهم لواءين جويين وفرقة صواريخ ارض جو والعديد من وحدات الحرب الإلكترونية". أجاب صادق" أني أعلم ذلك وقد حاولت اثناء الرئيس عن قراره ولكني لم افلح فقد قال لي أني دعـوتك لكي أخطرك بالقرار وليس لمناقشته،. وللحقيقة فإنه على الرغم من اتجاهات صادق المعادية للسوفيت فقد كان يبدو عليه القلق وعدم الاطمئنان لهذا القرار، وقد أضاف قائلا "لقد كنت أنادي دائما بضرورة ممارسـة الضغط على الاتحاد السوفيتي للحصول على ما نحتاج أليه" ولكنني لم أتصور مطلقا ان نذهب الى هذا المدى" كان الفريق عبد القادر حسن هو الآخر في غاية الضيق والقلق لهذا القرار.
إذا أعدنا قراءة ما قاله الرئيس بريجنيف للفريق صادق خـلال زيارته لموسكو في يوليو 72 (الباب الثالث/ الفصل الثامن عشر) فسوف يلفت نظرنا قوله "ان وجود المستشارين السوفيت في مصر هو ضرورة دولية". وأني لا اعتقد ان بريجنيف قد قال هذه الجملة بطريقة عفوية. لابد أن الروس قد علموا بان هناك تفكيرا في هذا الموضوع، وان بريجنيف بقوله هذا كـان يريد أن يوضح الأمور. وإذا كـان هذا الافتراض سليما فمن هم الأشـخاص الذين أسهموا في خلق هذه الفكرة في ذهن الرئيس السادات وتشجيعه على إخراجها الى حيز الوجود؟ والنقطة التى تثير التساؤل أيضا هي لماذا يحـاول السادات الادعاء بأنه اخطر السفير الروسى بقراره يوم 6 من يوليو في حين انه أخطره فعلا يوم 8 يوليو؟ ان ما قاله السادات في كـتابه من انه أخطر السفير الروسي بقراره يوم 6 من يوليو لا يمكن ان يكون خطأ مطبعيا لأنه كان مقرونا بمعلومات تؤكد ان الخطأ مقصود وهو قوله للسفير "وسأعلم وزير الحربية غدا بهذا الأمر" (4) في حين أن الحقيقة هي أن الرئيس اخطر وزير الحربية يوم الجمعة 7 من يوليو أي قبل أن يخطر السفير. إن هذا يعنى دون شك أن قرار السادات بطرد المستشـارين والوحدات السوفيتية لم يكن قرارا عفويا، لقد شاركت فيه عناصر في الداخل والخارج يحرص الرئيس على أخفائها. أن وصول الأمير سلطان وزير الدفاع السعودي إلى القاهرة قادما من أمريكا واتصاله بالسادات قبل ان يقوم السادات بإبلاغ الفريق صادق يوم 7 من يوليو بقراره بطرد المستشارين والخبراء والوحدات السوفيتية، يوحي إيحاءاً قويا بأن المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة قد لعبتا دورا هاما في دفع السـادات لاتخاذ قراره هذا. وأن حرص السادات على إخفاء تلك الضغوط السعودية الأمريكية عليه، هو الذي دفعه إلى الادعاء بأنه ابلغ السفير السوفيتي بقراره يوم 6 من يوليو وليس يوم 8 من يوليو كما حدث فعلا.
أخطرنا الوحدات بقرار الرئيس بعد ظهر يوم 16 من يوليو على أساس ان يبدأ التنفيذ اعتـبارا من صباح اليوم التالي، وفي صباح يوم 17 من يوليو اجتمع الفريق صادق وأنا وكبير المستشارين لمناقشة الخطوط العريضة لتنفيذ قرار الرئيس. كان الاقتراح المصري بهذا الشان يتضمن ما يلي:
1- إنهاء عقود الخدمة بجميع المستشارين.
2- إنهاء العقود الخاصة بالخبراء (6) فيما عدا الأشخاص الذين يطلب الجـانب المصري الاحتفاظ بهم.
3- القوات الصـديقة (7) التي تقوم بتشغيل أسلحة ومعدات مصرية تقوم بتسليم هذه الأسلحة والمعدات الى الجانب المصري في خلال أسبوع من الآن.
4- القوات الصـديقة التى تقوم بتشغيل أسلحة ومعدات من ممتلكات الاتحاد السوفيتي - نظرا لأنه ليس لدينا الأفراد القادرون على تشغيلها- فقد اقترحنا بقاء هذه الوحدات في مصر شريطة ان تكون تحت القيادة المباشرة للقيادة المصرية. وينطبق ذلك بصفة خاصة على وحدات الحرب الإلكتروني وفوج الكوادرات.
5- جميع الأفراد الذين تنطبق عليهم شروط الترحيل يجب أن يغادروا الأراضي المصرية قبل اول أغسطس إذا تيسرت وسائل النقل اللازمة لذلك، اما الأفراد الذين لم يتمكنوا من مغادرة الأراضي المصرية قبل هذا التاريخ لعدم توافر وسائل النقل، فإنه يتحتم عليهم التوقف عن ممارسة اى عمل عسكري اعتبارا من هذا التاريخ.
وافق الجنرال اوكينيف على هذه الاقتراحات جميعها فيما عدا البند الرابع الخاص ببقاء الوحدات السوفيتية، فقد أشار الى ان التعليمات التى لديه هي أن يسحب جميع الأفراد وجميع الأسلحة والمعدات السوفيتية، ووعد بأنه سينقل هذه الرغبة الجديدة الى موسكو ثم يقوم بإخطارنا بمجرد ان يتلقى الجواب.
كانت الأيام والأسابيع التالية أياما عصيبة ومشحونة بالأعمال الخاصة بترحيل الوحدات الروسيـة. كنت أتلقى كل يوم عشـرات المكالمات الهاتفية من القوات الجوية والدفاع الجوى على أحداث متعددة "الروس يقومون الآن بفك الرادار الموجود في بني سويف! الروس يقومون الآن بفك الرادار الموجود في بير عريضة ، وسوف يترتب على ذلك ايجاد ثغرة في التغطية الرادارية! الروس يقومون الآن بنقل عدة اطنان من قطع الغيار من الوحدات الصديقة التى سوف يسلمونها لنا، الخ.. ". وفي الوقت نفسه يحضر الجنرال اوكينيف ليقول "بينما كانت قواتنا تقوم بتكديس الأصناف التى سيتم ترحيلها الى الاتحاد السوفيتي اختفي أحد الصواريخ الحديثة غير المستخدمة في القوات الجوية المصرية! من الذي سرق هذا الصاروخ ولمصلحة من يعمل؟" إلى غير ذلك من عشرات الحوادث.
لقد كـانت أوامرنا صريحـة وهي تقضي بان للسوفيت كامل الحق في سحب معداتهم وأنهم غير مطالبين إلا بتسليم الأسلحة والمعدات التي هي ملك مصر طبقا للعقود الرسمية الموقعة عليها من الطرفين. وأني عندما انظر الى الوراء لأرى كيف تمت هذه العملية دون أية حوادث خطيرة فإنه لا يسعني الا ان أثني على كل من القيادة المصرية وكبير المستشارين السوفيت وتعاونهما الصادق للتغلب على المشكلات التي أثارها الضباط الأصاغر والجنود من الطرفين، الذين كانوا اقل قدرة على التحكم في عواطفهم. عرضنا على الاتحاد السوفيتي المساعدة بتوفير الطائرات والمراكب اللازمة لترحيل الوحدات السوفيتية ولكنهم اعتذروا عن قبول هذه المساعدة وقد أوقفنا الدراسة في الكلية الحربية في الفترة ما بين 28 من يوليو و 1 من أغسطس حتى يمكن استخدامها كمنطقة تجمع للأفراد السوفيت الذين يبقون في مصر بعد اول أغسطس انتظارا لوسائل النقل المختلفة.
كان إجمالي الأفراد المرحلين هو 7752، وتفصيلهم كما يلي:
1000 مستشار وخبير.
6014 إجمالي الأفراد في الوحدات الصديقة.
738 عائلات المستشارين.
7752 إجمالي.
وبنهاية شهر يوليو كان قد تم ترحيل 2590 ، تم ترحيل 1973 منهم بواسطة الطائرات، و 617 تم ترحـيلهم بواسطة النقل البحري. وبذلك كـان الباقي هو 5163 (539 من المستشارين وعائلاتهم، 4633 من الوحدات الصديقة)، وقد تم ترحيلهم جميعا خلال النصف الأول من شهر أغسطس 72، وذلك فيما عدا فوج الكوادرات فقد تم ترحيله في نهاية أغسطس.
كانت الوحـدات الصديقة التى تعمل بمعدات سوفيتية لم يسبق لنا التعاقد على مثلها تشمل الوحدات التالية:
- رف طائرات ميج 25.
- سرب استطلاع و إعاقة إلكتروني.
- وحدة سمالطا وهي وحدة إلكترونية يمكنها ان تعوق جهاز التوجيه في الصواريخ الهوك.
- وحدة تاكـان وهي وحدة إلكترونية يمكنها ان تعوق أجهزة التوجيه في الطائرات المعادية.
وقد قام السوفيت بسحب هذه الوحدات ورفضوا منذ البداية إبقاءها في مصر لأنهم كانوا يعتبرون هذه المعدات على درجة عالية من السرية.
اما بخصوص الكوادرات فقد كان الموقف مختلفا، حيث انه سبق لنا ان تعاقدنا على فوجي كوادرات ولكن لم نكن قد انتهينا من تدريب الأفراد اللازمين لتشغيل هذه الصواريخ. عرض الروس أن يسلموا الفوج لنا كواحد من الفوجين المتعاقد عليهما فرفضنا. (9) عرض الرئيس السادات أن يبقى أفراد الفوج في مصر حتى نهاية عام 72 شريطة الا يقوموا بأية مهمـة قتالية فرفضوا. واستغرقت هذه المناقشات الكثير من الوقت الى ان أتصل بى قائد المنطقة الجنوبية يوم 29 من أغسطس واخطرني بان الروس قد بدأوا يسـحبون الفوج. اتصلت بالجنرال أوكينيف فأكد بأنه قد وصلته تعليمات بسحب الفوج وإعادته إلى الاتحاد السوفيتي. اتصلت يوم 30 من أغسطس بالرئيس وأبلغته بقرار السوفيت النهائي بخصوص الفوج فعلق قائلا"مع السـلامة" وهكذا انسحب الفوج. ومعه 18 قطعة شيلكا و 48 ستريلا (سام 7).
الفصل الثالث والعشرون: تحسنت العلاقات.. ولكن الشكوك بين الطرفين ظلت قائمة
رحلة عزيز صدقي إلى موسكو:
تدهورت العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتي بعد قرار الاستغناء عن المستشارين السـوفيت على الرغم من المظاهر الشكلية التي كان كل طرف يقوم برسمها وفي 4 من اكتوبر طلبت السلطات السوفيتية الإذن لثلاث ناقلات جنود بالتمركز مجددا في بور سعيد التي كانت قد غادرتها منذ شهرين. اتصلت بالرئيس واقترحت عليه ان نوافق حتى يساعد ذلك على تحسين الجو وخلق فرص طيبة لإنجـاح رحلة الدكتور عزيز صدقي رئيس الوزراء إلى موسكو. فقال الرئيس "لا مانع، أن اتفاقية التسهيلات تعتبر سارية المفعول حتى مارس 73، وإذا لم تنجح رحلة عزيز صدقي فسوف أنهي هذه التسهيلات واصدر قرارا بإخراجهم". وفي يوم 5 من اكتوبر دخلت الناقلات الثلاث ميناء بور سعيد فكانت اول ظاهرة عملية على بدء تحسن العلاقات بين الدولتين.
سافر الدكـتور عزيز صدقي إلى موسكو يوم 12 أكتوبر وحققت رحلته نجاحا كـبيرا، ووعده القادة السوفيت بإمداد مصر بأسلحة متقدمة لم يسبق إمدادنا بها قبل ذلك، ويشمل ذلك ما يلي:
- سرب ميج 23 يتم توريده في الربع الثالث من 1973.
- سرب سوخوي 20 يتم توريده في الربع الثالث من 1973.
- لواء صواريخ سطح سطح SSM ذات مدى 300 كيلومتر، ويتم إبلاغنا في أوائل عام 73 عن تواريخ التوريد.
صفقة أسلحة جديدة في مارس 73:
وفي 5 فبراير 73 وصل الى القاهرة وفد عسكري سوفيتي برئاسة الجنرال لاشنكوف LASHENKOV وعادت اللجنة الى موسكو يوم 12 فبراير بعـد ان قامت بدراسة احتياجاتنا. وفي مارس 73 سافر وزير الحربية لتوقيع اتفاقية جديدة شملت الأصناف الرئيسية التالية:
- سرب ميج 23 (يتم إرسال الطيارين المصريين إلى الاتحاد السوفيتي للتدريب خلال شهري مايو و يونيو هذا العام).
- لواء صواريخ R-17-E يتم توريده خلال الربع الثالث (1) من عام 73
- فوج كوادرات.
- 200 عربة قتال مدرعة ب.م.ب (2) يسلم جزء منها فورا لأغراض التدريب ويسلم الباقي خلال الربع الثالث من عام 1973.
- 50 مالوتكا يتم توريدها فورا.
- العديد من قطع مدفعية الميدان بما في ذلك المدافع 180 مم.
اخبرني الفريق احمد اسماعيل بعد عودته من موسكو في رحلة مارس 73 أن الاتحاد السوفيتي وعده بأنه سيعيد تمركز طائرات الميج 25 الأربع وسرب الاستطلاع والإعاقة الإلكتروني في مصر، إلا أنه لم توقع أية اتفاقية مكتوبة بخصوص هذا الموضوع. كانت اتفاقية مارس 73 تتويجا للرحلة التي قام بها الدكتور عزيز صدقي في أكـتوبر72، فقد قام السوفيت بتنفيذ وعودهم للدكتور عزيز صدقي كلها وزادوا عليها، وذلك فيما عدا استبدال سرب السوخوي 20 بفوج كوادرات. كانت الصفقة تشمل ثلاثة أسلحة جديدة لم يسبق إدخالها ضـمن القوات المسلحة هي ميج 23 وصواريخ R-17-E وعربة القتال المدرعة BMP.
وفي يوم 9 من يوليو اتصل بي السيد حافظ اسماعيل مستشـار رئيس الجمهورية لشئون الأمن القومي وأخطرني بأنه سيقوم برحلة إلى الاتحاد السوفيتي، وسـألني عن الموضوعات التي يمكنه إثارتها مع القيادة السياسية السوفيتية بخصوص القوات المسلحة، فطلبت منه أن يستعجل إرسال الأصناف التالية:
- لواء الصواريخ R-17-E ضمن اتفاقية مارس 73.
- سرب الاستطلاع والإعاقة الإلكتروني.
- 4 طائرة ميج 25.
في يوم 12 من يوليو اتصل بي الجنرال ساماخودسكى. وهو كبير ضبـاط الاتصال بالسفارة السوفيتية، و أخطرني بأن الجنرال سـابكوف SAPKOV ومعه خمسة ضـباط سيصلون صباح اليوم التالي لإجراء الترتيبات اللازمة لاستقبال معدات اللواء R-17-E . وفي خلال8-10 أيام سوف يصل 63 خبيرا سوفيتيا يعود منهم 26 خبيرا بعد تسليم معدات اللواء، ويبقى في مصـر ال 37 الآخرون لتدريب الأفراد المصـريين. وفي يوم 14 اجتمع في مكتبي الجنرال SAPKOV لبحث الخطوط العريضة لتنظيم وتدريب اللواء الجديد. كان علينا ان نتفق أولا على تنظيم اللواء ثم نقرر الأمكنة اللازمة لتمركزه والمغر اللازمة للتحفظ فيها على الصواريخ ثم تدبير الضباط والجنود اللازمين طبقا للتنظيم. وفي خلال 48 ساعة تم وضع التنظيم الخاص باللواء على الورق وبدأت المشكلة الحقيقية وهي التشكيل.
عقدت مؤتمرا موسعا مع جميع الأفرع المختصة في مكتبي يوم 17 من يوليو وأخبرت المجتمعين أن تشكيل هذا اللواء الذي ليس لدينا أي خبرة سابقة به يعتبر تحديا لنا ويجب أن نقبل هذا التحدي، وكان التجاوب رائعا من جميع الحاضرين، وفي خلال أسبوعين كان اللواء قد تم تشكيله، وأصبح جاهزا للتدريب. وبينما كان تشكيل اللواء يجري على قدم وساق كان الخبراء السوفيت يقومون باستلام المعدات وتخزينها في المغـر التي اختيرت لذلك. وفي الأول من أغسطس بدا اللواء تدريبه الفني تحت إشراف الخـبراء السوفيت، وفي يوم 23 من أكتوبر 73- قبل وقف إطلاق النـار ببضع دقائق- احـتفل اللواء بانتهاء تدريبـه بأن أطلق ثلاث قذائف على العدو في منطقـة الدفرسوار. إن تشكيل هذا اللواء في خـلال أسبوعين وإتمام تدريبه في أقل من ثلاثة أشـهر يعتبر مفخـرة لدقة التنظيم وقوة التحدي لدى أبناء مصر.
تحسنت العلاقات.. ولكن الشكوك بين الطرفين ظلت قائمة، صفحه رقم 133
أما سرب الميج 23 الذى نص عليه في اتفاقيـة مارس 73 فهو السلاح الوحـيد الذى لم يشترك في معركـة أكتوبر 73 حيث إنه عند قيام الحرب كان الطيـارون مازالوا قيد التدريب في الاتحاد السوفيتي، أما الأصناف الأخرى جميعها فقد تم استيعابها و إشراكها في الحرب، بما في ذلك عربات القتال المدرعة BMP التي كانت تدخل قواتنا المسلحة لأول مرة فقد تمكنا من تجهيز كتيبتين بهذه المركبات قبل 12 من سبتمبر 73، وانتهينا من تجهيز ثلاث كتائب أخرى قبل اول أكتوبر 73.
إخفاء نوايانا عن السوفيت:
كـان تخطيطنا وتحـضـيرنا للهـجـوم يتمان في سـرية تامـة دون أي إخطار للاتحـاد السوفيتي. وقبل المعركة بأسبوع أمر الرئيس السادات بأن نقوم أخطار الجانب العسكري السوفيتي باحتمال قيام العمليات ولكن بشكل عام لا يبدو منه نيتنا بالهجوم. وهكذا كلف مدير المخابرات الحربية بأن يقوم بإبلاغ الجنرال ساماخودسكى (3) يوم 2 من اكتوبر بأنه قد وصلتنا معلومات تفيد بان إسرائيل سوف تقوم بعملية إغارة على الأراضي المصرية ولكننا لم نعلم متى وأين ستكون هذه الإغارة ثم يطلب إليه ان يحاول الاتحاد السوفيتي التحقق من هذه المعلومات وفي اليومين الثالث والرابع من اكتوبر يقوم بتصعيد هذه الأخبار فيقول له ان لدينا معلومات مؤكدة بان إسرائيل ستقوم بعملية إغارة واسعة النطاق، وقد تقوم خلالها بضربة جوية مركزه وهكذا سارت الأمور كما هو مخطط لها على الرغم من مظاهر الاستعدادات للهجوم، والتي ما من شك قد أثارت اهتمام الخـبراء السوفيت الذين كانوا مازالوا يعملون في مصر، وبعضهم كان يعيش داخل بعض وحداتنا العسكرية.
لابد ان الخبراء السوفيت قد قاموا بإخطار قياداتهم بالاستعدادات غير العادية التى يرونها تتم داخل الوحدات، ولاشك ان الاتحاد السوفيتي قد أكدت له أقماره الصناعية بأن هناك استعدادات غير عادية تتم على الجبهتين المصرية والسورية مما يؤكـد تقارير الخبراء من رجاله. كما انه من المحتمل ان يكون الرئيس السادات او الرئيس حافظ الأسد قد قام بإخطار القيادة السوفيتية بأننا سنقوم بالهجوم. (4) ان تصرف الاتحاد السوفيتي ليلة 4/5 أكتوبر توحي بأنه كان يعلم او- على الأقل- يحس ويشك بأن الحرب وشيكة الوقوع. ففي خـلال هذه الليلة أرسل 4 طائرات نقل كبيرة لإجـلاء معظم الخبراء الذين كانوا مازالوا يعملون في مصر، وقبل منتصف نهار الجمعة 5 اكتوبر كان قد أجلى جميع من يريد إجلاءهم من الخبراء والعائلات لماذا اقدم الاتحاد السوفيتي على هذه الخطوة ؟ ان القول بأنه أراد ان يغسل يديه مسبقا من أية مسئولية تترتب على هذه الحرب قول غير مقنع لعدة أسباب: أولا ان الإجلاء لم يكن شاملا فقد بقى عدد ليس بالقليل من الخبراء السوفيت دون إجلاء.
ومنهم خبراء R-17-E ولو أن الاتحاد السوفيتي سحب خبراء R-17-E ليلة 4/5 أكتوبر لما استطاع اللواء ان يتم تدريبه ويطلق قذائفه يوم 22 اكتوبر كما حدث ثانيا أن ارتباط الاتحاد السوفيتي بالحرب ونتائجها هو حقيقة تفرضها الاستراتيجية العالمية، وسواء تواجد بافراد ام لا فإنه بالتأكيد يتأثر بنتيجة المعركة ان نصرا أو هزيمة سواء أعلن عن ذلك أم لم يعلن. وثالثا لماذا يسحب الاتحاد السوفيتي خبراءه من مصر ولا يسحبهم من سوريا؟ إني اعتقد أن هناك أسبابا أخرى وراء أقدام الاتحاد السوفيتي على إرسال 4 طائرات نقل من طراز انتنوف 22 ليلة4/5 أكتوبر 73 !
وكما أخفينا عن الروس نوايانا في الهجوم، فقد أخفينا عنهم المعلومات التفصيلية كلها خـلال سير العمليات لم نكن نخطرهم مطلقا بما ننوي عمله في الأيام المقبلة، ولم نكن نخطرهم بنتائج المعارك الماضية. لم يكن يسمح للجنرال ساماخودسكى بدخول غرفة العمليات وقد كان يحصل على المعلومات من خـلال أحد ضباط المخابرات بحيث لا تزيد المعلومات التى تسلم إليه على المعلومات التي تصدر في البيانات الرسمية. وفي خلال الفترة من 16-22 اكتوبر عندما كان موقف العدو غرب القناة يتطور يوما بعد يوم، كانت بياناتنا الى الجنرال ساماخودسكى دائما مضللة ولا تعطي صورة حقيقية للموقف كان هذا خطأ جسيما وعملا معيبا، كان الأسلوب الذى نتعامل به مع السوفيت بصفته حليفنا الرئيسي يختلف اختلافا كبيرا عن الأسلوب الذي تتعامل به إسرائيل مع حليفتها أمريكا. يقول الجنرال اليعازر -رئيس أركان حرب القوات المسلحة الإسرائيلية خلال حرب اكتوبر 73- في مذكراته انه بمجرد اندلاع الحرب أجرى الاتصال المباشر مع وزارة الدفاع الأمريكية واخذوا يطلعونهم على خططهم ويطلبون نصيحتهم وحرصوا ان يظل هذا الاتصـال مباشرا طوال مدة الحرب لاشك ان هذا التعاون الإسرائيلي الأمريكي على مستوى القيـادات العسكرية العليا هو الأسلوب الصحيح للتعاون بين الحلفاء إذ كيف يستطيع الحليف ان يقدم العون الى حليفه أن لم يكن يعرف حقيقة موقفه؟ ومع ذلك- و للاسف الشديد- فقد كانت تعليمات الرئيس السادات تقضي بالا يعرف حلفاؤنا السوفيت اكثر مما يعلن في الصحف والبيانات الرسمية.
وكما كان الاتصال مقطوعا بين القيادتين العسكريتين فقد كـان التعاون بين القيادتين السياسيتين في مصر والاتحاد السوفيتي يكاد يكون معدوما. لقد رفض السادات جميع العروض التى تقدم بها السوفيت لوقف إطلاق النار. ان السـادات يقول انه رفض طلبـات الروس المتكررة لوقف إطلاق النار وقال لهم انه لن يوافق علـى وقف إطلاق النار إلا بعد إتمام المهام التى تتضمنها الخطة.
والذي لم يقله السـادات هو أن الاتحاد السوفيتي- كحليف مشترك معنا في المشكـلة-أرسل سفيره إليه يوم 9 من أكتوبر يستفسر عن الهدف العسكري الذي تعمل القوات المسلحة المصرية على تحقيقه. فماذا قال السادات؟ نظر الى السفير وقال "انك تتكلم مع القائد الأعلى للقوات المسلحـة.. ان سؤالك هذا سؤال سياسي لا يوجه الى القائد الأعلى ولذلك فسـأعتبر نفسي وكأني لم اسمع هذا السؤال الذي وجهته. إذا كان لديك سؤال سياسي فيمكنك ان تذهب إلى الدكتور محمود فوزي وتوجهه إليه !!؟" (5).
هل يمكن أن يكون هناك تعاون بين القيادتين السياسيتين المصرية والسوفيتية إذا كانت القيادة السـياسية السوفيتية لا تعرف ماذا تريد القيادة السياسية المصرية؟؟ ما الذي كان يقصـده السادات عندما طلب من السفير الروسي أن يتصل بـالدكتور محمود فوزي فيما يتعلق بالشئون السـياسية ؟ هل بلغ استهزاء السادات بعقول الناس هذا الحد. وهل يستطيع الدكتور محمود فوزي الإجابة حقا عن هذا السؤال ؟ وبعد انتهاء الحرب وفك الاشتباك الثاني في سبتمبر 1975، تكلم السادات ولأول مرة بان هدف القوات المسلحة من حرب أكتوبر 73 كان هو"احتلال شريحة من الأرض بعمق حوالي 10 كيلومترات شرق القناة".
لماذا إذن أمرت يا سادات بتطوير الهجوم نحو الشرق يوم 14 من أكتوبر على الرغم من معارضـة القادة جميعهم. ولماذا إذن رفضت يا سادات وقف إطلاق النار وقد حـققت القوات المسلحة هذا الهدف اعتبارا من يوم 7 أكتوبر ونجحنا في صـد الهجمات المضـادة جميعها خلال يومي 8 و 9 من أكتوبر؟ هناك أسئلة كثيرة يجب ان يجيب عنها السادات إذا كان هذا هو هدف القوات المسلحة، فلمـاذا إذن اخذ يضلل القيادة السيـاسيـة السوفيتيـة ويرفض نصائـحها عندما كانت قواتنا المسلحة في وضـع ممتاز؟ وبعد أن حـدثت الثغرة لماذا يقلل السادات من أهميتها ويرفض الحلول العملية للقضـاء عليها ثم يطلب وقف إطلاق النار وهو في موقف ضعف ويأمر قواته بعدم اتخاذ أي إجـراء مسبق لمنع محاصـرة الجيش الثالث؟ إنها جريمة كبرى يجب الا تترك دون تحقيق نزيه حتى يمكننا معرفة هذه الأمور الغامضة.
الفصل الحادي والعشرون: تقييم المساعدات العسكرية السوفيتية
حجم الأسلحة السوفيتية:
ليس من الصواب ان نقلل من أهمية المساعدات السوفيتية العسكرية لمصر من ناحية الكم والكيف، حيث ان الأرقام وحدها كفيلة بإثبات خطأ هذا الادعاء. لقد ذكرت في هذا الباب ما حصلت عليه مصر في الفترة من اكتوبر 71 الى اكتوبر 73 (أنظر اتفاقيات اكتوبر 71 ومايو 72 ومارس 73) من الأصناف الرئيسية. قد يطول الموقف لو أننا استعرضنا ما حصلت عليه مصر من الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية منذ ان كسر جمال عبد الناصر احتكار السلاح عام 1955، ولكننا سنكتفي بذكر حجم الأسلحة التي كانت تحت تصرف مصر قبل اكتوبر 73 متناسين ما خسرته مصر في حربين سابقتين هما حرب عام 1956 وحرب عام 1967. لقد كان حجم القوات المسلحة المصرية صباح يوم 6 اكتوبر 73 كما يلي:
القوات البرية:
19 لواء مشاة راكب (عربات ذات العمل).
8 ألوية مشاة ميكانيكية (عربات جنزير).
10ألوية مدرعة.
3 ألوية جنود الجو.
لواء برمائي.
لواء صواريخ ارض ارض R-17-E
وكان مع هذه القوات حوالي 1700 دبابة، 2000 عربة مدرعة. 2500 مدفع وهاون، 700 قاذف صاروخي موجه، 1900 مدفع مضاد للدبابات، 5000 رب.ج RPG عدة آلاف من القنبلة اليدوية المضادة للدبابات رب ج 43.
القوات الجوية:
305 طائرات قتال (إذا أضيفت إليها الطائرات المخصصة للتدريب فإن العدد يرتفع الى ما يزيد على 400 طائرة).
70 طائرة نقل.
140 طائرة هيليوكوبتر.

قوات الدفاع الجوي:
150 كتيبة صواريخ SAM.
2500 مدفع مضاد للطائرات من عيار 20 مللمتر فما فوق.
القوات البحرية:
12 غواصة.
5 مدمرات.
3 فرقاطات.
12 قناصا.
17 قارب صواريخ.
30 قارب طوربيد.
14 كاسحة الغام.
14 قارب إنزال.
ان حجم السلاح الذى كان تحت يدنا قبل حرب اكتوبر كان يفوق ما لدى الكثير من دول حلف وارسو وحلف الناتو، وقد يدهش الكثيرون اذا علموا ان قواتنا البرية واكـرر البرية وليس الجوية او البحرية- كانت تتفوق على القوات البرية في كل من بريطانيا وفرنسا!
ولكن يجب ألا ننسى أيضا ان أمريكا كانت تمد إسرائيل بأسلحة متقدمة وبكميات وفيرة حتى جـعلت منها ترسانة من الأسلحة. كانت سياسة أمريكا- وما تزال- هي ان تضمن لإسرائيل التفوق على جيرانها مجتمعين. لقد كانت القوات الجوية الإسرائيلية مـتفوقة تفوقا كبيرا على القوات الجوية المصرية والسورية مجتمعتين ولقد لعب التفوق الجوي الإسرائيلي دورا كبيرا وفعالا في إسكات واحتواء قواتنا البرية والبحرية. وإذا أخذنا المعونة السوفيتية لمصر والمعونة الأمريكية لإسرائيل كأساس للمفاضلة في مدى صداقة كل منهما لحليفه كان واضحا ان صداقة أمريكا لإسرائيل كانت أقوى بكثير من صداقة روسيا لمصر. ان هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، ولكن ذلك قد يثير لنا سؤالا اخر وهو هل هناك دولة أخرى في العالم اجمع تستطع ان تعطى السلاح لمصر بالكم والكيف وأسلوب الدفع الذي كان يقدمه الاتحاد السوفيتي؟ أعتقد أن الإجابة هي لا. وان هذه الإجابة أيضا هي بديهية ولا يختلف فيها اثنان. ومن هنا فإنه يمكن القول بأمانة "ان الاتحاد السوفيتي لم يكن الصديق المثالي ولكنه كان افضل صديق في الساحة العالمية".
لقد ذكرنا حجم الأسلحة السوفيتية التي كانت في أيدي أبناء مصر قبل حرب اكتوبر 73، أما إذا حاولنا حصر الأسلحة التي قام الاتحاد السوفيتي بإمداد الدول الغربية بها خلال الثماني عشرة سنة التى سبقت هذه الحرب فسوف نجد أرقاما تكـاد تكون خرافية (حوالي 7000 دبابة، حوالي 1800 طائرة حوالي 18000 ألف مدفع من مختلف الأعيرة حوالي 150 قطعة بحرية، واكـثر من مليوني قطعة سلاح صغيرة من بنادق ورشاشات و ر.ب.ج. الخ) . وإن هذا الحجم من السلاح يوضح لنا مدى قدرة الاتحـاد السوفيتي كدولة عظمى على التأثير في الأحداث في منطقة الشرق الأوسط.
الإمدادات السوفيتية أثناء حرب أكتوبر 73:
وفي خلال الحرب قام الاتحاد السوفيتي بإقامة اكبر جسر جوي في تاريخه الحربي إلى كل من مصر وسوريا. لقد قام بتنفيذ 900 رحلة بواسطة طائرات انتنوف 12 وانتنوف 22 (1) نقل خلالها 15000 طن من المعدات الحربية. فإذا علمنا أن هذا الكوبري الجوي لم يكن مخططا له، وانه قد بدئ به بعد ثلاثة ايام من بدء الحرب، اتضحـت لنا المشكلات والثغرات التي يمكن ان تظهر نتيجة لهذه الظروف. وعلى سبيل المثال فقد كانت معدلات الاستهلاك خـلال حرب اكتوبر مختلفة تماماً عن معدلات استهلاك الحروب السابقة والتي بنى على أساسها حجم وأوزان الأصنـاف التى ترسل بواسطة الكوبري الجوي، فهناك أصناف من الذخيرة كـان استهلاكنا منها أقل بكثير من مما قدرناه وفي الوقت نفسه كان استهلاكنا من بعض الأصناف الأخرى اكثـر بكثير مما قدرناه وكان علينا ان نسرع بإخطارالاتحاد السوفيتي بهذه المعلومات لكي يجري التعديلات اللازمة في النقل الجوي حتى تتمشى مع احتياجاتنا الفعلية، ولكن هذا لم يمنع أن تصل احيانا بعض الأصناف التي لا نحتاج إليها فى حين كنا نعاني النقص فى صنف أخر. ومع ذلك فإن هذه الأخطاء لا يمكن ان تقلل من تقديرنا للكفاءة والسرعة اللتين تم بهما هذا الكوبري الجوي. إن هذا الكوبري يعتبر مفخرة للاتحاد السوفيتي من حيث الحجم والسرعة في التخطيط والتنفيذ، ومفخرة لسوريا ومصر من حيث السرعة في التفريغ والفرز والدفع الى الجبهة بالنسبة لهذا الحجم الكبير من الإمدادات.
لاشك ان هذا الكوبري الجوي السوفيتي يعتبر متواضعا اذا قورن بالكوبري الجوي الأمريكي إلى إسرائيل. لقد نقل الأمريكيون خلال 566 رحلة 22395 طنا من الإمدادات مستخدمين الطائرات سى 5 ،سى 141 (2) وقد قامت شركة العال الإسرائيلية بنقل 5500 طن أخرى وبذلك أصبح أجمالي الجسر الجوي إلى إسرائيل هو 27895 طنا (3).
فإذا أدخلنا في حسابنا أن المسافة من أمريكا الى إسرائيل هي 7000 ميل والمسافة من الاتحـاد السوفيتي إلى مصر وسوريا هي 2000 ميل اتضح لنا ان الكوبري الجوي الأمريكي الإسرائيلي يساوي 6,5 مرة الكوبري الجوي السوفيتي على أساس وحدة الطن/ ميل وذلك طبقا لما يلي:
كوبري شركة العال: 5500 طن× 7000 ميل= 38500000 طن ميل.
الكوبري الجوي الأمريكي: 22395 طن × 0 0 0 7 ميل= 0 0 0 156765 طن ميل.
الإجمالي الأمريكي الإسرائيلي: 27895 طن ×0 0 0 7 ميل= 0 0 0 195265 طن ميل.
الكوبري الجوي السوفيتي: 15000 طن × 2000 ميل= 30000000 طن ميل.
النسبة على أساس طن ميل: 0 0 0 195265- 30000000= 6,5 مرة.
كان الكوبري الجوي الأمريكي يشمل طائرات الفانتوم وطائرات الهليوكوبتر 53 CH53. الدبابات M60 واحدث أنواع المعدات الخاصة بالحرب الإلكترونية (4) اما الكوبري الجوي السوفيتي فقد شمل الدبابات (للجبهة السورية فقط)، وسائل الدفاع الجوي والذخائر. وقد ارسل أكثر من نصف الكوبري الجوي إلى الجبهة السورية.
وعلاوة على الكوبري الجوي فقد قام السوفيت أيضا بعملية نقل بحري واسعة النطاق بلغت- حتى وقت وقف إطلاق النار- 63000 طن. وقد وجه مجهود النقل البحري الرئيسي إلى الجبهة السورية. (5)
نشاط الأسطول السوفيتي في البحر الأبيض:
اما الأسطول السوفيتي في البحر الأبيض فقد اخذ يزداد بأقصى سـرعة تسـمح بها معاهدة مونترو 1936 والتي تحدد عدد القطع الحربية التي تعبر المضـائق في وقت واحد كما تتطلب إخطار تركيا قبل عبور أية قطعة بحرية بثمانية ايام على الأقل. وهكذا عندما بدأت الحرب كان للسوفيت في البحر الأبيض 20 قطعة قتال بحرية. وبنهاية شـهر اكتوبر وصل هذا العدد الى 40 سفينة قتال بينما وصل إجمالي السفن عموما إلى 85 سفينة.
الإنذار السوفيتي:
وبالإضافة إلى المساعدات التي قدمها الاتحاد السوفيتي إلى مصر فقد وقف يوم 23 أكتوبر موقفا حازما كان له اثر واضح في كبح جماح إسرائيل وإرغامها على احترام وقف إطلاق النار (6). كانت إسرائيل قد تجاهلت قرار وقف إطلاق النار الذي كانت قد قبلته مساء يوم 22 اكتوبر واستأنفت عمليـاتها صباح يوم 23 أكتوبر و أكملت حصار الجـيش الثالث الميداني. كان هجوم إسرائيل يوم 23 أكتوبر يتم بتنسيق تام مع كيسنجر الذي اغمض عينيه عما تقوم به إسرائيل بهدف الوصول إلى موقف معـين يمكن منه فرض شروط الصلح على مصـر.
أما الاتحـاد السوفيتي فقد اتخذ موقفا يختلف تماما عن الموقف الأمريكي. فعلى الصعيد العسكري قام برفع درجة الاستعداد لعدد 6 فرق جنود جـو قوامها 43000 رجل وأخذت طائرات النقل تتجمع لنقل هذه القوة في مناطق تحشدها. وعلى الصعيد السياسي قام الرئيس بريجنيف يوم 24 أكتوبر بإرسال كتاب إلى الرئيس نيكسون قال فيه: "سأقولها بصراحة: إذا لم يكن في استطاعتكم ان تعملوا معنا في هذا المجال فسوف نجد أنفسنا أمام موقف يضطرنا إلى اتخـاذ الخطوات التى نراها ضرورية وعاجلة. إن إسـرائيل لا يمكن أن يسمح لها بالاستمرار في تجاهل وقف إطلاق النار".
كـان العالم كله يقف على شـفـا الحرب يوم 24 أكتوبر. فقد ردت أمريكا على الإنذار السوفيتي بأن رفعت درجة استعداد جميع القوات المسلحة الأمريكية في جميع أنحاء العالم. وقد أثار هذا القرار الأمريكي غضب وقلق حلفاء أمريكا اكثر مما أثار قلق الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية. لقد شعر أعضاء حلف الناتو أن أمريكا تعرض السلم العالمي للخطر لكي تحقق بعض المصالح الإقليمية لإسرائيل، وفي سبيل ذلك فإنها مستعدة للتضحية بمصالح حلفائها الغربيين فى حلف الناتو. لقد احدث رفع درجة استعداد الوحدات النووية الأمريكية فى دول حلف الناتو دون أخطار هذه الدول، جرحا غائرا فى العلاقات الأمريكية-الأوربية احتاج إلى عام كامل لكي يلتئم. وبينما كانت أمريكا تتخذ هذا الموقف المتشدد فى مواجهة الإنذار السوفيتي، فإن الإنذار السوفيتي أقنعها بان العدوان الإسرائيلي قد تجاوز الخط الأحمر الذي قد لا يستطيع الاتحاد السوفيتي ان يتحمله، ومن هنا بدأت أمريكا فى ممارسة الضغط الحقيقي على إسرائيل واضطرتها الى قبول وقف إطلاق النار.
السادات وادعاءاته الباطلة:
من مساوئ السادات انه اذا غضب على صديق فإنه لا ينسى فضـائل هذا الصديق كلها فحسب، بل أنه يحاول أن يبدل حسناته بسيئات يبتكرها من عنده. وكما يطبق السادات تلك المبادئ في علاقاته مع الأفراد فإنه يطبقها أيضا في علاقاته مع الدول. فإذا رجعنا إلى خطبه في الأعوام 71 و 72 و 73 وجدناه يكيل المديح الى الاتحاد السوفيتي ولكنه انقلب عليه اعتبارا من عام 74. وهو حر في أن يمدح من يشاء ويهجو من يشاء ولكن ذلك لا يعطيه الحق في ان يزور التاريخ من اجل نواته، يقول السادات أن مصر صنعت 60% من الكباري والمعديات التي استخدمتها قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس كان ال 40% الباقية هي التي أمدنا بها الاتحاد السوفيتي وهي كباري قديمة من ايام الحرب العالمية الثانية. (7)
وإن الأمانة التاريخية تفرض على ان أعطي الأرقام الحقيقية لوسائل العبور. قبل أكتوبر 73 كان لدينا 12 كوبري ثقيل (8) كان اثنان منهما فقط من اصل غرب من طراز بيلى. اما العشرة الأخرى فهي سوفيتية الصنع منها 3 من نوع PMP و 7 من نوع TPP وان نوع TPP ولو إنه اقل كفاءة من PMP ،كان افضل بكثير من نوع البيلى
لقد قمنا فعلا بتصنيع خمسة كباري هيكلية بهدف اجتذاب قصف العدو الجوي وبذلك نخفف هجوم العدو الجوي على الكباري الرئيسية ولكي نبعث الحـياة في هذه الكباري جعلناها قادرة على تحمل عبور مركبات لا يزيد وزنها الإجمالي على 4 اطنان، واستخدمنا عددا من عربات الجيب لكي تعبر عليها ولكننا لم ندخلها قط ضمن حساباتنا في عملية العبور. وفي خـلال حرب اكتوبر قام السوفيت بإمدادنا بكوبري PMP،أخر ضمن الكوبري الجوي الذي أقامه الاتحاد السوفيتي بعد إقامة الحرب بثلاثة أيام. إننا فخورون بما استطعنا تصنيعه محليا لإكمال بعض القصور في وسائل العبور ولكن هذا الفخر يجب الا يتحول الى غرور كاذب أن الشعور بالعزة صفة حميدة اما الادعاء بالباطل فهو صفة مرذولة. ان 90% من دباباتنا وعرباتنا قد عبرت على كبارى ومعديات سوفيتية الصنع وهذه حقيقة لا تقلل من شأننا حيث إننا نحن الذين عبرنا فوقها. لقد استخدمنا مضخات مياه إنجليزية وألمانية الصنع في فتح الثغرات في الساتر الترابي، فهل يذهب فخر هذا العمل الذى قمنا به الى من صنعوا هذه المضخات ام إلى من استخدموها؟ انه لا يضيرنا مطلقا ان نعترف بان الكباري كانت سوفيتية وان المضخات كانت إنجليزية وألمانية. إننا نحن أبناء مصر الذين خططنا وعبرنا وانتصرنا.
لقد كذب السادات أيضا عندما ادعى ان الاتحـاد السوفيتي لم يكن يمدنا قط بأية صور جوية من تلك التى يلتقطها بواسطة طائراته الميج 25 أو أقماره الصناعية. لقد كان الاتحاد السوفيتي يمدنا بمثل هذه الصور وان لم يكن ذلك بصفة دورية منتظمة. كانت صور الأقمار الصناعية تصل من موسكو برفقة ضابط خاص لكي تعرض علينا ونأخذ منها ما نحتاج إليه شريطة الا نعيد تصويرها، وقد عرضت هذه الصور على السادات مرتين- على الأقل- قبل الحرب وعندما حضر كوسيجين الى القاهرة خلال الحرب في الفترة من 16- 19 اكتوبر عرض على الرئيس شخصيا صورا تؤكد حجم الاختراق الإسرائيلي غرب القناة وبعد وقف إطلاق النار في 24 أكتوبر 73 كانت صور الأقمار السوفيتية هي المصدر الرئيسي للمعلومات عن العدو.
الأخطاء السوفيتية:
إن المساعدات العسكرية الضخمة التي قدمها الاتحاد السوفيتي الى مصر لا تعني ان السوفيت ملائكة وانهم دون أخطاء لقد كانت لهم أخطاء وكنا نختلف معهم في كثير من الأحيان وسوف اركز هنا على مشكلتين رئيسيتين بصفتهما أساس المشكلات الأخرى كلها. المشكلة الأولى هي القيود المفروضة على السلاح والمشكلة الأخرى هي الأخلاق والطبـاع السوفيتية.
السلاح السوفيتي:
كان السوفيت هم الذين يحددون حجم ونوعية وتاريخ التوريد بالنسبة للسلاح الذي يتم توريده الى مصر. لقد كان المفاوض المصري يستطيع ان يطلب ويناور ويحاول إقناع الجانب السوفيتي بحجم ونوعية السلاح الذي نطلبه. وقد ينجح احيانا ولكن نجاحه يتوقف على درجة استعداد الجانب السوفيتي لقبول وجهة النظر المصرية. كان الجانب السوفيتي هو صاحب الكلمة الأخيرة في القبول أو الرفض.
كان هذا الموضوع يمكن ان يكون مجال حديث طويل ولكننا نود ان نلفت النظر الى الحقائق التالية:
1- أن سياسة الاتحاد السوفيتي في تأييده للدول العربية واضحة تماما، وهي مبنية على أساس مساعدة الدول العربية في استعادة أراضيها التي أحتلت بعد عام 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية. وهو لا يوافق مطلقا على تدمير دولة إسرائيل. وعن طريق سيطرته على الإمداد بالسلاح فإنه يستطيع ان يؤثر على سير الأحداث بحيث لا تخرج عن المسار الذي رسمه.
2- ان الصراع العربي الإسرائيلي ليس مجرد مشكلة محلية إقليمية. إنها تدخل ضمن الاستراتيجية العالمية وتوازن القوى بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. وقد وقف العالم على شفا الحـرب مرتين بسبب هذا الصراع. كانت الأولى عام 1956 عندمـا ارسل السوفيت إنذارهم الشهير الى كل من بريطانيا وفرنسا لوقف اعتدائهما على مصر. وكانت الأخيرة يوم 24 اكتوبر 73 عندما ارسل السوفيت إنذارهم الى أمريكا للضغط على إسرائيل وإرغامها على احترام وقف إطلاق النار. أضف الى ذلك الكـتاب العنيف الذي أرسله كوسيجين الى الحكومة الأمريكية في يناير 70 لكي توقف إسرائيل غاراتها على العمق المصري. وهكذا نجد ان الاتحاد السوفيتي هو عضو أساسي في المشكلة. ومن هنا فإنه يعتقد ان من حقه ان يسيطر على سير الأحداث في المنطقة.
3- إن الاتحاد السوفيتي دولة غير غنية اذا ما قورنت بالولايات المتحدة وبالتالي فإنه لا يستطيع أن يغدق العطاء على مصر بالقدر نفسه الذي تغدق به أمريكا على إسرائيل. ان أمريكا كانت تغدق على إسرائيل قبل عام 1973 بما يوازى 1500 مليون دولار سنويا وقد رفعت هذا المبلغ بعد 73 الى ما يوازى 3000 مليون دولار سنويا، وكانت هذه المبالغ تفوق بكثير طاقة الاتحاد السوفيتي في التبرع وطاقة مصر في الدفع كـثمن للسلاح الذي تريده.
4- إن الأسلحة الحديثة هي أجهزة بالغة التعقيد ويحتاج استيعابها الى مستويات ثقافية عالية والى وقت طويل. وعلى الرغم من ان مصر كانت تعمل بأقصى طاقتها منذ عام67 لرفع كفاءة قواتها المسلحة، إلا إنها كانت تجد صـعوبة كبيرة فى استيعاب الأسلحة الحديثة كلها التى تقدم لها. وقد اضطرها هذا الموقف إلى الاستعانة بافراد سوفيت لتشغيل بعض هذه المعدات كما حدث عام 1970 حيث اشترك ما يزيد على 6000 فرد روسي فى تشغيل معدات فنية معقدة لا تتوافر الأيدي المصرية لتشغيلها. وقد كانت هذه الصورة ظاهرة بشكل واضح فى القوات الجوية وفى وحدات الحرب الإلكترونية. وبعد إنهاء خدمة الوحدات السوفيتية كـان عدد طائرات الميـج 21 التي لدينا يفوق عدد الطيارين الذين يستطيعون قيادتها.
5- هناك حقيـقة أخرى وهي تخلف التكنولوجيا السـوفيتية عن التكنولوجيـا الأمريكية في مجـال الأسلحة التقليدية بصفة عامة وفي مجال الطيران بصفة خـاصة. في أوائل الستينيات كانت أمريكا تسبق الاتحـاد السوفيتي بحوالي جيل كامل. (9) وقد أخذت هذه الفجوة تضيق حتى أغلقت في أوائل السبعينيات. وحيث إن سياسـة الاتحاد السوفيتي هى الا يعطى أفضل ما عنده لأية دولة أجنبية رغبـة منه في المحافظة على أسرار أسلحـته. فإن أفضل أصـدقائه لا يمكن أن يطمح لأكـثر من الرقم الثاني في أفضلية السلاح، وقد يحصل الأصدقاء العاديون على الرقم الثـالث او الرابع تبعا لقوة صداقتهم مع الاتحاد السوفيتي. اما أمريكا فإنها تعطي أفضل مـا عندها من سلاح إلى إسرائيل، إذ ان الأسلحة الحـديثة تدخل في خدمة القوات المسلحة الإسرائيلية والقوات المسلحة الأمريكية في وقت واحـد. وتطبيقا لهذه المبادئ فقد كانت الأسلحة المتـاحة لإسرائيل خلال الستينيات تتقدم جيلين عما هو متيسر في أيدي العرب، وقد ضاقت هذه الفجوة لتصبح جيـلا واحدا خلال السبعينيات وإذا أستـمر تقدم التكنولوجيا السوفيتية بهذا المعدل فمن المحـتمل ان تتسـاوى الأسلحـة التى بين أيدي العرب وإسرائيل في الثمانينيات.
الخشونة في المعاملة:
كانت الأخلاق والطبائع الروسية مثار كثير من الخلافات. كانت أحاديثهم فيها خشونة وغلظة. وكانوا أحيانا يوجهون انتقاداتهم بشكل مثير. مثال ذلك " إنكم تطلبون من الاتحاد السوفيتي ان يمدكم بالأسلحـة وتلوموننا اذا تأخرنا في توريد هذه الأسلحة، علمـا بأن الاتحاد السوفيتي يتحمل نصف ثمنها ويمدكم بقرض لتمويل النصف الثاني، ومع ذلك فانتم لا تعبئون مواردكم كلها للحرب كما تفعل الدول التى في حالة حرب وكـما فعلنا نحن خلال الحرب الوطنية الكبرى (10) ان من يسر في شوارع القاهرة لا يمكن ان يشعر بأن مصر في حالة حرب. إن الشوارع مليئة بالعربات الفاخرة والحوانيت مليئة بالبضائع وبالذهب والجواهر". كانت هذه الآراء وغيرها يتبادلها المستشارون والخبراء السوفيت الذين يتواجدون في الوحدات مع نظرائهم المصريين كانت هذه الآراء السوفيتية تجـد تجاوبا وقبولا لدى بعض الأفراد ولكنها كانت تسبب إزعاجا كبيرا للقيادة السياسية لأنها كانت تعتبرها حضا على انتقاد السلطة وتشجيعا لانتشار الشيوعية في مصر.
وفي حالات أخرى كانوا يعرضون رأيهم وكأنه هو الراي الوحيد الصحيح وليس مجرد راى يقبل المناقشة والجـدل. وقد مررت أنا شخصيا بعدد من مثل هذه الحـالات ولكنى سأقص قصة واحدة كان بطلها هو الجنرال لاشنكوف LASHNEKOV خلال زيارته لمصر في نوفمبر 1973. لقد كان الجنرال لاشنكوف يعمل كبيرا للمستشارين السوفيت في مصر خلال عامي 68-69 وخلال هذه الفترة لم يكن بيني وبينه أي اتصـال مباشر. كنت في خلال هذه الفترة اشغل منصب قائد القوات الخاصة وكنت التقى به احيانا في أحد المشاريع التدريبية او البيانات
العملية ونتبادل التحية وبعض الكلمات وبعدما توليت منصب (ر.ا.ح.ق.م.م) في مايو 71 شاهدت الجنرال لاشكنوف مرتين، مرة عندما كان مرافقا للمارشال جريشكو في إحدى زياراته والأخرى عندما حضر الجنرال لاشنكوف رئيسا للجنة عسكرية سوفيتية خلال شهر فبراير 73. وفي النصف الثاني من شهر نوفمبر 73 حضر على راس وفد لدراسة الموقف فكان هذا هو لقاؤنا الثالث وأنا اشغل منصب ر.ا.ح.ق.م.م.
في يوم 19 من نوفمبر كان هناك اجتماع مصغر في غرفة العمليـات في المركز 10 (مركز عمليـات القوات المسلحة المصرية)، وقد حضر هذا الاجتماع الوزير وأنا واللواء سعد مأمون وحضر معنا الجنرال لاشنكوف. عندما تكلمت عن خبرتنا في الدفاع ضد الدبابات, أثنيت على المالوتكا وعلى ر.ب. ج 7 ولكني انتقدت المدافع عديمة الارتداد ب 10، ب 11 (11) لأنها ثقيلة وصعبة التداول بواسطة أفراد المشاة المترجلين. حيث ان المدى المؤثر لهذه المدافع هو 600- 800 متر ومخصصـة أساسا لكي تغطى الأرض الميتة للمقذوفات الموجـهة المضادة للدبابات (مالوتكا) (12) والتي تصل الى 500 متر. وهنا اقترحت ما يلي "لو أن العلماء السوفيت استطاعوا ان يطوروا المالوتكا بحيث تصبح الأرض الميتة 300 متر فقط أو طوروا ر.ب.ج بحيث يصبح مداه المؤثر 600 متر مثلا لأصبح في استطاعتنا الاستغناء عن المدفعين ب 10 وب 11، وان يكون اساس الدفاع المضاد للدبابات لوحدات المشـاة هو المقذوفات المضادة للدبابات الموجهة (المالوتكا أوأي جيل يظهر بعد ذلك) والقاذف الصاروخي ر.ب. ج 7" كنت اعتقد أنني بهذه الأفكار أؤدي خدمة الى الأصدقاء الذين أعطونا السلاح. فهم صنعوا هذا السلاح ولكنهم لم يقاتلوا به، اما نحن فقد كنا اول من استخدم هذه الأسلحة ضـد عدو حسن التنظيم والتجهيز. ولكني فوجئت بالجنرال لاشنكوف يقول "إن السلاح الروسي هو افضل سلاح في العالم. وان العلماء الروس يحسبون كل شىء ولا اعتقد انهم في انتظار سماع هذه الأفكار". كان ردى عليه فوريا وبروح التحدي نفسها وقلت له "أولا أنا لم اقل أن السلاح الروسى رديء، لقد حاربنا وعبرنا وانتصرنا بالسلاح الروسي وإنما أقول عن خبرة قتال لكي نعمل على تحسين مواصفات بعض هذه الأسلحة. لقد صنعتم انتم هذه الأسلحة ولكنكم لم تقاتلوا، بها اما نحن فقد قاتلنا بهذه الأسلحة واكتسبنا نتيجة ذلك خبرات قتالية. وإذا كنتم تعرفون كل شيء، فلماذا حضرتم لتسألونا عن تلك الخـبرة القتالية التى اكـتسبناها في هذه الحرب، وهنا أسرع الفريق احمد إسماعيل بالتدخل لتلطيف الجو و إعطاء تفسيرات هادئة لما قال الجنرال لاشكنوف وما قلته أنا، وقبل ان ننتقل الى موضوع آخر.
وعندما جاء دور الجنرال لاشنكوف في التعليق على سير العمليات وبدا يتكلم عن دور القوات الجوية المصرية قال "ان مصر لم تستخدم قواتها الجوية بأسلوب جيد كما فعلت سوريا. كان عدد الطلعات التى قامت بها القوات الجوية المصرية خلال فترة القتال تعتبر قليلة جداً إذا قورنت بعدد الطائرات المتيسرة، ولهذا فإن خسائركم في الطائرات تعتبر قليلة جدا اذا ما قورنت بخسائر سوريا في الطائرات. وان هذا يدل على أن رئيس أركان حرب القوات المسلحة لم يخصص المهام الكافية للقوات الجوية لكي تقوم بتنفيذها. وقد رددت عليه قائلا " انني سعيد بما تقول. أن ما تعتقد أنت خطأ اعتبره أنا صوابا. ان سلامة قواتنا الجوية وبقاءها بعد نهاية الحرب سليمة وقوية هو مفخرة اعتز بها. وبعد نهاية المؤتمر جاءني اللواء سعد مأمون وسألني على انفراد عما اذا كان هناك خـلاف سابق بيني وبين الجنرال لاشنكوف، فأجبت بالنفي وقلت له أن هذه هى المرة الأولى التى أتعامل فيها مع هذا الرجل، فقال متعجبا، لقد دهشت عندما سمعتكما تتناقشان، وتصورت انه لابد أن تكون هناك خلافات قليلة بينكما"!
هناك قصة اخرى تبين أيضا أسلوب السوفيت في توجيه النقد وإن كنت لست طرفا في هذه القصة ولكني كنت أحد شهودها. كـان بطلا هذه القصة الرئيس السـادات والمارشال جريشكو. بدأت القصة بأن تقدم السادات في إحـدى زياراته إلى موسكو بكشف مبينا به كميات الذخيرة التي نطلبها، وفي أثناء إحـدى الجلسات علق المارشـال جريشكو على هذا الكشف قائلا: "لماذا تطلبون هذه الذخيرة كلها؟ إن لديكم كذا مليون طلقة ذخيرة. بما يزيد على اكثر من 1000 طلقة لكل جندي إسرائيلي!". كـان الرقم من وجهة نظر السادات رقما كبيرا ولم يستطع ان يجادل في هذا الموضـوع ولكنه قام بكتابة الرقم الذي ذكره المارشال جريشكو عن عدد ملايين الطلقات الموجودة في قواتنا المسلحة في سجله الخاص اعتقادا منه أنه قد حصل على معلومة مهمة.
وفي أحد اجـتماعات الرئيس مع المجلس الأعلى للقوات المسلحـة دون أن نكون على علم بهذه القصة، التفت إلىّ حيث كنت أجلس على يساره وسألني"كم عدد الطلقات الموجودة في القوات المسلحة؟". اعتقدت أن الرئيس يمزح فابتسمت وقلت له لا أعرف. كان رد فعل الرئيس يدل على انه لم يكن يمزح، وانه كان يعني ما يقول فقد علق قائلا "كيف- وأنت رئيس أركان حرب القوات المسلحة- لا تعرف عدد الطلقات الموجودة في القوات المسلحة؟". فأجبت " سيادة الرئيس.. على مستوى القيادات العليا في القوات المسلحة فإننا لا نحسب كـمية الذخـيرة بالطلقة بل إننا نحسبها بالوحدة النارية (13) وعدد أيام القتال التى يمكن أن تسـتنفد فيها الذخيرة". أجـاب الرئيس غاضبا كيف تقول ذلك والمارشال جريشكو يعرف عدد الطلقات التي لدينا وأخبرني بالرقم وهو كذا مليون طلقة!" أجبت قائلا "سيـادة الرئيس.. إن هذه البيانات يمكـننا الحصول عليها بواسطة العقل الإلكتروني (الكمبيوتر) في أي وقت تشاء". فقال الرئيس غاضبا "بصفتك رئيس الأركـان يجب ان تعرف هذه البيانات" ورغبة في تهدئة الموقف وعدم إحـراجه اكثر من ذلك، قلت له "سوف أقوم بإعداد هذا البيان وعرضه على سيادتكم".
لاشك أن السادات قد أحس بان المارشـال جريشكو قد غرر به وسخـر منه عندما ذكر له عدد الطلقات الموجودة في القوات المسلحة المصرية , لأن الرئيس السادات لم يطلب مني قط هذه البيانات بعد هذا اللقاء.
الفصل الخامس والعشرون: المشاريع الاستراتيجية
أداء يمين الولاء للجامعة العربية:
في يوم 30 من يوليو 1971 وفـي اجتماع عادي لمجلس الجامعة العربية في القاهرة أديت اليمين القانونية بصفتي الأمين العام المساعد للجامعة العربية للشئون العسكرية. وبموجب هذا المنصب فإني اصبح رئيسا للجنة الاستشارية العسكرية للجامعة العربية والتي تتكون من رؤسـاء أركان حرب القوات المسلحـة في جميع الدول العربيـة، و أقوم بتقديم توصيات اللجنة الاستشارية الى مجلس الدفاع في الدول العربية. وقد بدأت عملي في هذا المنصب بأن قمت بدراسـة دقيقة لمعاهدة الدفاع المشترك ولجميع المحاضر والقرارات التي اتخذت منذ عقد هذه المعاهدة، وقد خرجت من هذه الدراسة بأربع نقاط رئيسية. كانت النقطة الأولى هي التحمس الواضح والخطب الرنانة التي كـانت تلقى خلال هذه الاجتماعات من جميع الأعضـاء، ثم القرارات القوية التي يتخذها المجلس حتى ليتصور المرء ورجل الشارع العربي ان كل شىء يسير على احسن ما يكون. وكانت النقطة الثانية هي أن الدول العربية - سواء كانت من دول المواجهة ام من غير دول المواجهة- كانت تنظر الى الدعم العربي على أنه معونة مالية فحسب، فقد كان كل ما تطلبه دول المواجهة هو الدعم المالي، وكانت الدول العربية الأخرى تعتقد أنها بتقديم الدعم المالي لدول المواجهة قد أدت دورها النضالي نحو القضية العربية. وكانت النقطة الثالثة هي عدم فاعلية قرارات مجلس الدفاع المشترك. فعلى الرغم من ان قرارات مجلس الدفاع المشترك- طبقا لمعاهدة الدفاع المشترك- تعتبر ملزمة لجميع الأعضاء، إذا اتخـذ القرار بأغلبية ثلثي الأصوات، الا ان هذه القرارات ولاسيما ما يتعلق منها بالدعم المالي كانت تبقى معطلة وكان يتوقف تنفيذها أو تنفيذ جـزء منها على مدى النشاط والزيارات التي يقوم بها المسئولون في دول المواجـهة إلى الدول العربيـة الأخرى. اما النقطة الرابعة والأخيرة فهي ان مؤتمرات القمة العربية (الملوك والرؤساء) هي المؤتمرات الوحيدة التي يتحقق فيها شىء من النجاح، لأن الملوك والرؤساء هم الأشخاص الوحيدون الذين يمسكون بزمام السلطة في البلاد العربية.
قومية المعركة تتطلب عدالة توزيع الأعباء:
قمت بإجراء دراسـة تشمل الدخل القومي والإنفاق العسكري في كل من الدول العربية وإسرائيل، فكانت الأرقام تثيرالدهشة حقا. كان أجمالي الدخل القومي للدول العربية ذات ال 110 ملايين نسمة، هو26000 مليون دولار، بينما كـان الدخل القومي لإسـرائيل (2,822000 نسمة) هو 3672 مليون دولار، وهذا يعني ان متوسط دخل الفرد العربي في العام هو 236 دولارا بينما متوسط دخل الفرد الإسرائيلي هو 1300 دولار في العام (1) فإذا نظرنا الى كيفية توزيع الثروة في المنطقة العربية فإننا نجد تباينا واضحا. ففي بعض الدول العربية نجد أعلى متوسط لدخل الفرد في العالم، وفي دول عربية اخرى نجد اقل مستويات الدخل في العالم.
واكثر من ذلك فإن جميع الدول ذات الحدود المشتركة مع إسرائيل والتي تتحمل العب الأكبر من التهديد الصهيوني هي من مجموعة الدول العربية الفقيرة , اما الدول العربية الغنية فإنها تقع بعيدا عن إسرائيل وبالتالي فإنها لا تشعر بالتهديد الصهيوني والخطر الصهيوني بالقدر نفسه الذى تشعر به وتتحمله الدول الفقيرة المتاخمة لها. وبدراسة حـجم الإنفاق العسكري في الدول العربية اتضح لي أن مصر التي كـان متوسط دخل الفرد فيها هو 303 دولارات كانت تنفق 21,1% من دخلها القومي على شئون الدفاع، بينما كانت هناك دول اكثر غنى لا يصل إنفاقها العسكري الى 3% من دخلها القومي.
كانت الأرقام مفجعة ومثيرة للتساؤل. هل حقا المعركة قومية وانها مسئولية العرب جميعا ام أنها مسئولية دول المواجهة؟ إذا كانت الإجابة بان المعركة قومية كما ينادي الجميع فهل قام العرب بتوزيع أعباء هذه الحرب بأسلوب عادل؟ هنا يجب ان تكون الإجابة لا ثم لا. إذا نحن راعينا العدل الاجتماعي في توزيع الأعباء فالمفروض ان تتحمل الدول الغنيـة أكثر مما تتحمله الدول الفقيرة ولكن الواقع كان يصرخ ويقول ان العكس هو الصحيح. كانت الدول الفقيرة،- وفي مقدمتها مصـر- هي التي تدفع أكثر والدول الغنية- او على الأقل معظمها- هي التي تدفع اقل. قد يتصور بعضهم ان مؤتمر الخرطوم المنعقد عام 1967 قد حل هذا التناقض وذلك عندما تعهدت بعض الدول العربية الغنية بان تخصص مبلغا من المال لتدعيم دول المواجهة، ولكن الحقيقة هي غير ذلك. (3) لاشك ان مقررات مؤتمر الخرطوم هي اول خطوة عملية في اتجاه التضامن العربي، وان الدول الثلاث التي أسهمت في هذه المعونة لها ان تفخر بأنها كانت أولى الدول التي حاولت أن تخطو خطوة عملية لمساعدة الأشقاء في معاناتهم بدلا من مجرد كلمات التشجيع الجوفاء ولكن هل كـانت هذه الخطوة كافية؟ وهل يعني ذلك قومية المعركة ؟ كلا، ثم كلا. ان قومية المعركة تعني اشتراك الدول العربية جميعها - ليس ثلاثا منها فقط - كل في حدود إمكاناته البشرية والمالية. أن قومية المعركة تعني أن تقوم الدول الغنية بتخصيص نسبة من دخلها القومي للمعركة تكون اكبر من النسبة التي تخصصها الدول الفقيرة وكلا هذين الشرطين قد أهمل في مقررات مؤتمر الخرطوم. حاولت أن أطبق شعار قومية المعركة مستعينا بالأرقام. استخدمت أرقام الدخل القومي لكل دولة عربية ومتوسطة دخل الفرد السنوي فيها. استخدمت أرقام الأنفاق العسكري في كل بلد عربي وما تتطلبه المعركة من اعتمادات مالية,الخ.
وفي النهاية تبلور في ذهني مشروع متكامل يحدد ما يجب ان تخصصـه الدول العربية لشئون الدفاع عنها. كان المشروع يتكون من النقط الرئيسية التالية:
الدولة التي متوسط دخل الفرد السنوي فيها بالدولار
من----------إلى النسبة التي تخصصها سنويا من دخلها القومي لشئون الدفاع
100----------200 10%
200----------500 15%
500----------1000 20%
1000----------2000 25%
2000----------فأكثر 30%
2- ينشأ صندوق قومي للمعركة في الجامعة العربية يتولى توزيع هذه الاعتمادات على جميع الدول حسب احتـياجـات الدفاع بحـيث لا يقل ما يخصص لدول المواجهة مع إسرائيل عن 50% من تلك الاعتمادات ويخصص الباقي للدول العربية الأخرى جميعها.
3- النسب المذكورة أعلاه هي الحـد الأدنى للإنفاق العسكري في كل دولة عربية طبقـا لمتوسط دخل الفرد. ولكن ليس هناك حد أقصى لمن يريد ان يخصص أكثر من ذلك.
كنت أرى في هذا المشروع تجسـيدا لقومية المعركة وتكافلا اجتماعيـا بين الدول العربية و تصحيحا للتناقضات الموجودة في العالم العربي حيث يتحمل الفرد في الدول الفقيرة اكثر مما يتحمل الفرد في الدول الأغنى. وعندما أخذت أناقش هذه الآراء مع بعض المصريين والاخوة العرب لم أجد أحدا على استعداد لأن يقبل ذلك. كانوا يظنون إنها خطوة تقدمية اكثر من اللازم قد تفسر تفسيرات خاطئة. فأحجمت عن تقديم المشروع الى مجلس الدفاع المشترك بصفة رسمية. ومع ذلك فأني انتهزت فرصة اول اجتماع لي مع رؤساء أركان حرب القوات المسلحة في الدول العربية فبينت لهم بالأرقام حجم الإنفاق العسكري في كل دولة ونسبته الى الدخل القومي لكي أبين لهم مدى التناقض الكبير بين ما تنفقه الدول الفقيرة وما تنفقه الدولة الغنية. وطالبت بتعديل هذه الأوضاع المقلوبة، ولكن لم اقترح تلك النسب التصاعدية في الإنفاق العسكري.
قرارات مجلس الدفاع المشترك:
عندما اجتمع مجلس الدفاع المشترك في دورته الثانية عشرة في المدة من 27- 29 نوفمبر 71 تقدمت أليه بمشروعين. كان المشروع الأول يرمي إلى تعبئة الإمكانات العسكرية الفعلية في الدول العربية، وهذا يعني بحث موقف القوات المسلحة في كل دولة عربية وتحديد حجم القوات التي تشارك بها في المعركة، وهكذا فأنه بدلا من ان تطلب دول المواجهة دعما ماليا من أشقائها العرب فإنها تطلب منهم دعما عسكريا. وقد كنت أرمي من وراء ذلك الاقتراح ان أحقق ثلاثة أهداف: الهدف الأول هو ان أجنب دول المجابهة هوان طلب المال، فقد كان طلب المال ينظر إليه كنوع من الاستجداء وليس بصفته فريضة على جميع الدول العربية. وثانيا، فقد كنت أرمي ان أجعل الدول العربية التي ليست من دول المواجهة، تشعر بالكبرياء وتشعر بالذنب في وقت واحد. تشعر بالكبرياء إذ تسهم في المعركة بصورة إيجابية، وفي الوقت نفسه تشعر بالذنب عندما تقارن بين حجم مساعداتها العسكرية وحجم القوات التي تسهم بها دول المواجهة.أما الهدف الثالث فهو توفير الوقت. إن النقود لا تقاتل، وأن تحويل هذه النقود الى قدرات قتالية على شكل لواء مدرع او سرب طائرات الخ قد يحتاج الى سنتين او ثلاث (4). لذلك فإن الوحدة المدرعة لمن يريد ان يقاتل تعتبر افضل بكثير من مجرد التبرع بالمال. أن الإسهام بسرب من المقاتلات افضل بكثير من التبرع بخمسين مليونا من الدولارات.
واقتناعا مني بهذا الخط اقترحت ان تقوم الدول العربية التالية بتدعيم دول المواجهة بالتعزيزات التالية:
الجمهورية العرا قية:
سربي هوكر هنتر 11 [ الجبهة الأردنية].
ثلاثة اسراب ميج 21 [ الجبهة السورية ]
سرب ميج17 [ الجبهة السورية ]
فرقة مدرعة [الجبهة الأردنية ]
فرقة مشاة [الجبهة الأردنية ]
المشاريع الاستراتيجية، صفحه رقم 150
المملكة العربية السعودية:
سربي ليتننج [الجبهة الأردنية]
الجمهورية الليبية:
سرب ميراج 3 [الجبهة المصرية]
الجمهورية الجزائرية:
سربي ميج 21 [الجبهة المصرية]
سربي ميج 17 [الجبهة المصرية]
المملكة المغربية:
سرب اف 5 [الجبهة المصرية]
لواء مدرع [الجبهة المصرية]
(تم تحديد هذه القوات بعد زيارتي للمملكة المغربية في فبراير 71)
لم اخطر الفريق صادق بهذا المشروع قبل ان اعرضه على مجلس الدفاع المشترك، إذ أنني لم اكن أرى سببا واحدا يدعوني الى ان اخطر وزير الحربية المصري قبل ان اخطر وزراء حربية الدول العربية الأخرى. وعندما كنت أقدم المشروع أمام المجلس لم أذكر أهدافي من هذا المشروع كما ذكرتها في تلك المذكرات ولكني ركزت فقط على عامل الوقت وان الاعتمادات المالية لن تتحول الى قدرات قتالية قبل مرور2-3 سنوات في حـين أن تلك الوحدات يمكن الاستفادة منها فورا او بعد أشهر قليلة. فوجئ صادق بالمشروع وبتعليقاتي التي كنت اشرح بها المشروع وأسبابه وأهدافه فأرسل لي ورقة كتب فيها"ان هذا الخط الذي تسير فيه يتعارض مع مصالح مصر". بعد ان قرأت ما في الرسالة استرسلت في الخط نفسه الذي كنت أنادى به وكـان شيئا لم يحدث كنت ومازلت اعتقد بأن ذلك كان في مصلحة العرب ومصلحة مصر على السواء.
وفي خلال فترة الراحة انتحى بي الوزير جـانبا وقال لي كـيف تطلب قوات بدلا من المال؟ إننا في مصر محتاجون الى المال ؟. قلت له "أنا لا امثل مصر في هذا المجلس أنت الذي تمثل مصر ولك ان تتكلم وتطلب باسم مصر ما تشاء". فقال غاضـبا " لماذا لم تخطرني بهذا المشروع قبل ان تعرضه؟". فقلت له "ولماذا اعرضه عليك؟ وأني اعرضه على المجلس بصفتي الأمين العام المساعد العسكري للجامعة العربية. وليس بصفتي ر.ا.ح.ق.م.م"، وتطور الحديث بيننا إلى ان قال "سأقوم بإخطار الرئيس بتصـرفاتك هذه" فقلت له وتستطيع ان تفعل ما تشاء". وافق مجلس الدفاع المشترك على المشروع بالإجماع بما في ذلك مصر. وطلب المجلس مني أن أقوم بزيارة الدول التي أوصى القرار بأن تقوم بتدعيم دول المواجـهة بالوحـدات لتأكيد هذا القرار وللتأكد من مستوى كفاءة هذه الوحدات.
كان المشروع التالي الذي تقد مت به هو مشروع رسم خرائط عن أعماق البحار المحيطة بالسواحل العربية. لقد اتضح لي أن السواحل العربية للدول الأعضـاء في جامعة الدول العربية في ذلك الوقت تبلغ 16480 كـيلومترا، وهي تأتي بعد الاتحاد السوفيتي الذي يبلغ طول سواحله 19860 كـيلومترا وقبل الولايات المتحدة التي يبلغ طول سواحلها 15530 كـيلومترا. وعلى الرغم من أننا نقف في المركز الثاني في العالم من حيث طول سواحلنا العربية إلا انه لم تكن لدينا خريطة عن أعماق البحار حول هذه الشواطئ!! كانت أساطيلنا تعتمد على الخرائط التي قامت البحرية البريطانية والبحرية الفرنسية بوضعها عن بعض السواحل العربية. وحيث ان مثل هذه الخرائط تعتبر من الأسرار الحربية التي لا يجوز للدولة صاحبة الشان ان تعتمد على دولة أجنبية في عملها فقد رأيت أن نقوم بوضع هذه الخرائط لقد كانت لدينا الخبرة الفنية لرسم هذه الخرائط وكان كل ما ينقصنـا هو السفينة والمعدات اللازمة لتنفيذ هذا العمل. وبدراسة الموقف اتضح انه يمكن شراء السفينة والمعدات الفنية المطلوبة من بريطانيـا في حدود مبلغ مليون ونصف المليون جنيه إسترليني. وكـان المبلغ المطلوب موجودا وبذلك لم تكن هناك أية مشكلة.
كانت الدول العربية قد تبرعت منذ عدة سنوات بمبالغ مالية باسم القيادة العربية الموحدة وكانت هذه القيـادة قد جمدت ولكن بقي في حوزتها مبلغ 3 ملايين جنيه إسترليني كانت مودعة في البنك الأهلي المصري باسم تلك القيادة وعندما علمت بوجود هذا المبلغ اقترحت أن نأخذ منه مليونا ونصف المليون لهذا المشروع، وعندما عرضت المشروع على مجلس الدفاع المشترك، صدق المجلس عليه بالإجماع، كما صدق على سحب مبلغ المليون ونصف المليون جنيه إسترليني من الرصيد المتبقي باسم القيادة العربية. وعلى الرغم من أهمية هذا المشروع ومن توافر الإمكانات الفنية والاعتمادات المالية لتنفيذه إلا انه لم ينفذ لمجرد أن وزير الحربية المصري راى ان يعرقل تنفيذه!! (5)
الرئيس لا يوافق على زيارتي للجزائر والمغرب:
لكي أقوم بزيارة دول الدعم العسكري (6) تنفيذا لتوصيات مجلس الدفاع المشـترك كان على أن أستأذن السيد الرئيس في السفر إلى تلك البلاد. كانت العلاقـات. بيني وبين وزير الحربية قد ساءت ولم أكن أدرى كيف ينظر السادات إلى هذا الموضوع، ماذا قال له صادق؟ وهل تأثر بكلام صـادق أم لا؟ وإذا كـان قد تأثر بكـلام صادق فلابد انه لا يشعر نحوي بالارتياح، فكيف يمكنني أن أعالج هذا الموضوع؟ قررت الا أثير موضوع خلافي مع صادق أمام الرئيس إلا اذا سألني شخصيا عن هذا الموضوع، كما قررت الا أتعجل موضوع سفري إلى البلاد العربية واكتفيت بان أرسلت مذكرة إلى السيد الرئيس أخطره فيها بتوصـية المجلس واطلب منه الإذن بالسفر.
مضت عدة أسابيع دون أن أتلقى أي رد على مذكرتي إلى السيد الرئيس، ولم أحاول أن أساله عن هذا الموضوع في المناسبات التي كنت أقابله فيها إلى أن جاء يوم 27 من يناير 72، وكان قد مضى ما يقرب من شهرين دون ان يتخـذ الرئيس أي قرار سواء بالرفض أم الموافقة، سألته عن قراره بخصوص هذه الزيارة فقال، لا أوافق أنها مضيعة للوقت ولن تكون هناك أية نتـائج مفيدة لهذه الزيارة.. إني أوافق على ان تزور ليبيا والسعودية لأن هاتين الدولتين فقط علـى استعداد حـقا لتقديم العون أما الدول الأخرى- الجـزائر والمغرب والعراق- فإنها لن تعطي شيئـا. إنهم يزايدون فقط . سوف يسـتفيدون دعائيا من زيارتك ولكنهم لن يعطوا شيئا للمعركة". قلت له وسوف يكون سفري إلى هذه البلاد بصفتي الأمين العام المسـاعد العسكري للجـامعة العربية وليس بصفتي (ر.ا.ح.ق.م.م) "، قال الرئيس "إن سفرك بصفتك الأمين العام المسـاعد العسكري للجـامعة العربيـة لن يلغي صفـتك(ر.ا.ح.ق.م.م) وسوف يستغلون صفتك هذه في دعاياتهم إلى ابعد الحدود ". قلت له "سيادة الرئيس، ان علاقة مصر مع تلك الدول سيئه فإذا نجحت زيارتي في الحصول على أي شيء لمصر فهو مكسب وإذا لم تستطع زيارتي أن تحقق أي نجاح فليس هناك شىء نخسره. وهنا ثار الرئيس وقال غاضبا " شوف يا سعد أنت راجل عسكري محترف ولا تفهم في السياسة. إني اعمل في السياسة و أتعامل مـع هؤلاء الناس منذ عشرين عاما واعرفهم جيدا. انهم يزايدون احيانا، وينتقدون احيانا، و أحيانا يعرضون مساعدتهم بعد ان يفرضوا شروطا غير مقبولة. ليس هناك أي أمل يرجى من هؤلاء الناس. كيف تقوم بزيارة دول تقوم يوميا بالتهجم علينا وانتقاد سياستنا؟ " أجبت بهدوء "سيادة الرئيس- قد تكون لك تجربة سابقة مع بعض الناس جعلتك تفقد الثقة بالناس جميعا، ولكن اسمح لي يا سيادة الرئيس بان أذكرك بقول رسول الله " أحبب حبيبك هونا ما عسى ان يكون بغيضك يوما ما. وابغض بغيضك هونا ما عسى ان يكون حبيبك يوما ما"، أنصت الرئيس الى الحديث النبوي الشريف وطلب مني أن أعيد قوله مرة اخرى ففعلت عاد الهدوء إليه وقال ضاحكا "الله يجازيك يا سعد أنا لم اسمع بهذا الحديث قبل ذلك ولكن كلماته محبوكة ومنطقية. فعلا يجب الا ندمر الجسور بيننا وبينهم يمكنك ان تزورهم وسوف نرى ما سوف تتمخض عنه هذه الزيارة. بدأت في الإعداد للزيارة مع سفراء المغرب والجزائر وليبيا وبعد التنسيق معهم جميعا تقرر أن أغادر القاهرة يوم 6 من فبراير الى الجزائر ومنها الى المغرب ثم الى ليبيا ومنها الى القاهرة.
زيارة الجزائر:
قابلت الرئيس هوارى بومدين صباح يوم 7 من فبراير، أخبرته عن طبيعة مهمتي وأفكاري بخصوص تعبئة الموارد العربية للمعركة، تطبيقا لشعار قومية المعركة. أنصت الرئيس بومدين إلى ما كنت أقوله وعبر عن تحمسه للاشتراك بكل جندي وكل قطعة سلاح تستطيع الجزائر أن تقدمهما للمعركة ولكنه أعرب عن شكوكه في جدية العزم على استئناف القتال و أضاف قائلا "اذا قامت الحرب فيجب ان تتأكد ان الجزائر ستقوم بإرسال كل ما عندها لكي يقاتل الجزائريون جنبا الى جنب مع إخوانهم المصريين ".
قلت "سيادة الرئيس.. أني أتفهم شكوكك في انه ليست هناك جدية لإثارة الحرب من جديد- في مصر أيضا هناك الكثيرون ممن يعتقدون انه لن تكون هناك حرب اخرى وان الكلام عن الحرب هو للاستهلاك المحلي. (7) ولكن عندما تقع الحرب فلن يكون هناك وقت لإرسال القوات الجزائرية الى الجبهة والاستفادة منها في المعركة. وبالإضافة الى ذلك فإنه لا يمكننا إدخال القوات الصديقة في الخطة الهجومية ما لم تكن هذه القوات الصديقة موجودة فعلا في الجبهة. لا يمكن ان ندخل ضمن خطتنا وحدات غيبية قد لاتصل لأي سبب كان، فتترتب على ذلك ارتباكات كبيرة" أبدى الرئيس بومدين اقتناعه برأيي ولكنه لفت نظري الى المشكلات المعنوية والإدارية والاجتماعية التي تترتب على إرسال قوات جزائرية الى مصر حيث تبقى سنة أو اكثر في انتظار حرب قد تقوم وقد لا تقوم وعلق قائلا " نحن الجزائريين دماؤنا ساخنة، إذا كانت هناك حرب فإننا نقاتل. أن رجالنا عندما نرسلهم للحرب فإنهم سوف يكونون ذوى معنويات عالية وعلى أهبة الاستعداد لها، فإذا طالت المدة دون ان تكون هناك حرب فإنهم سيثيرون المشكلات لكم ولنا وسوف تزداد المشكلات الإدارية: سوف يطلبون ان ترحل لهم عائلاتهم، وسوف يطالبون بإجازات دورية ليقضوها بين عائلاتهم و أهلهم بالجزائر، الخ. أن هذه المشكلات كلها يمكن تلافيها اذا نحن أرسلنا الدعم العسكري الجزائري بعد ان يتحدد ميعاد المعركة،. كان واضحا ان وصول الدعم العسكري قبل ميعاد المعركة بوقت طويل هو أمر غير مستحب كما ان إرسالهم عند قيام الحرب او قبلها بأيام هو امر غير مستحب أيضا،. وكحل وسط اتفقنا على ان ترسل الإمدادات الجزائرية الى الجبهة بناء على طلبنا بحيث نضمن ان الحرب سوف تشتعل في أي وقت وبحد أقصاه 90 يوما من تاريخ طلب هذه القوات، ويتم سحب هذا الدعم أما من قبل الرئيس السادات شخصيا او من قبلي.
وفي أثناء لقائي مع الرئيس بومدين، تحدث الرئيس بمرارة عن القيادات السياسية المصرية وعن السادات أنه لم يستعمل قط لفظ القيادة السياسية في مصر، كذلك لم يذكر قط اسم السادات ولكن قصده كان واضحا عندما يقول "انتم في مصر، فقد قال لي الرئيس بومدين "إنكم في مصر تهاجمونني باستمرار وتقولون أنني أريد أن انصب نفسي زعيما على العرب بعد موت عبد الناصر. هذا غير حقيقي وأني أريد أن تفهموا في مصر إنني لم أفكر في ذلك مطلقا. أني أريد ان أضع يدي في أيديكم بنية صادقة لطرد الإسرائيليين من أراضينا المحتلة. انه من المهانة ان نرى هذه الدولة التوسعية تستمر في احتلال الأراضي العربية دون ان نستطيع نحن العرب ان نقوم بردعها".
قضيت اليومين التاليين في زيارة الوحدات العسكرية والوحدات الجوية الجزائرية، وقد أدركت مدى المشكلات والتحديات التي واجهت الجزائر منذ استقلالها. لقد حققت الجزائر تقدمـا كبيرا منذ استقلالها قبل عشر سنوات مضت في جميع المجالات. لقد ابتدأت من الصفر. لم تكن هناك حكومة او جهاز أداري. لم تكن هناك قوات مسلحة نظامية. لم يكن هناك نظام اقتصادي. وأكثر من ذلك لم تكن هناك لغة. كانت فرنسا قد قضت على اللغة العربية و أحلت محلها الفرنسية التي اخذ الجزائريون يستخدمونها بينهم. وبعد عشر سنوات تغير كل شىء وكان أهم ما فتنني هو إصرار الدولة على إعادة تعريب الجزائر بعد فرنستها لمدة تزيد على قرن من الزمان.
زيارة المغرب:
قابلت جلالة الملك الحسن الثاني في الرباط يوم 9 من فبراير 72، وكانت إجراءات ومظاهر المقابلة مثيرة للغاية. لقد تحركت أولا إلى مبنى وزارة الحربية حيث استقبلني الجنرال أوفقير (8) الذي رافقني إلى القصر الملكي، وفي مدخل القصر كان هناك حرس شرف بالملابس العربية، وعلى مدخل باب غرفة الملك كان يقف المعلن ومعه عصاه التقليدية. وبينما كنت أخطو الى داخل المكتب ضرب المنادي الأرض بعصا. ليلفت الأنظار ثم أعلن بصوت جهوري "الفريق سعد الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، (9) كان الملك يقف في نهايـة الغرفة بجوار مكتبه ويدير به عدد من مستشاريه. لقد أوحى لي هذا الاستقبال بان الملك يحاول ان يحافظ على التقاليد العربية بعد ان ادخل عليها بعض اللمسات الغربية وفي خلال الأيام القليلة التي قضيتها بعد ذلك في المغرب ازددت اقتناعا بحقيقة ذلك. ان المغرب هي- في الحقيقة- مزيج غريب من الشرق والغرب" ففي بعض المظاهر قد تبدو شرقية اكثر من أي بلد عربي، وفي مظاهر أخرى قد تبدو المغرب وكأنها غربية اكثر من أي بلد عربي آخر.
حضر مقابلتي مع الملك الجنرال اوفقير ورئيس الديوان الملكي. أنصت الملك الى كلامي ثم علق في النهاية "ان القوات المسلحة المغربية جميعها تحت تصرفك ان كل فرد في المغرب سوف يكون سعيدا عندما يرى قواتنا المسلحة تقاتل من اجل القضية العربية". قلت "يا صاحب الجلالة قبل ان احضر الى هنا كانت لدى فكرة عامة عن القوات المغربية من حيث الحجم والتنظيم، وأني أود أن تتاح الفرصة لزيارة تلك الوحدات للتعرف على مستواها التدريبي وقدراتها القتالية"، قال الملك واعتبارا من باكر يمكنك ان تزور أية وحدة ترغب في زيارتها. وبعد ان تنتهي من زياراتك كلها تعالى لمقابلتي مرة اخرى وقل لي ماذا تريد", ثم أضاف قائلا "لا تشغل نفسك طوال الوقت حاول أن توفر بعض الوقت لكي تزور بلادنا،. بعد ان تحدثنا عن هذا الموضوع الرئيسي الذي حضرت من اجله وبعد ان أعطى الملك تعليماته الى الجنرال اوفقير بان يقوم بترتيب بعض الزيارات الترفيهية لي، انتقل إلى موضوع آخر هو موضوع العقيد معر القذافي. لقد تكلم الملك بمرارة عن موقف القذافي وقال "ان القذافي يخصص ساعة كل يوم في الإذاعة الليبية لكي يهاجم المغرب انه يشتمنا ويتهمنا باتهامات باطلة. ماذا يريد منا القذافي؟ ماذا فعلنا لكي يهاجمنا هذا الهجوم. هل من مصلحة العرب ان نستنفد جهودنا في مهاجمة بعضنا بعضا بدلا من ان نوجهها الى عدونا المشترك؟ أن القذافي صديقكـم في مصر وقد تستطيعون ان تنصحوه لكي يقلع عن هذه التصرفات و أرجو ان تقوم بإبلاغ ذلك الى السادات عسى ان يؤثر على صديقة القذافي لكي يعدل موقفه منا".
قضيت اليومين التاليين في زيارة عدد من الوحدات المغربية حيث قمت ببحث موقفها من حيث التنظيم والتسليح والتدريب وبعد ان انتهيت من هذه الزيارات قابلت الملك للمرة الثانية وطلبت ان تشمل الإمدادات المغربية ما يلي:
- سرب اف 5.
- لواء دبابات.
وافق الملك وسألني عن ملحوظاتي عن الوحدات التي زرتها فذكرت له وجهة نظري بأمانة. ثم ناقشت معه أسلوب نقل هذه الوحدات الى الجبهة وبعض التفصيلات الأخرى وقبل أن اتركه قال بحماس "يا اخ شاذلي قد تكتب مذكراتك في يوم من الأيام ولسوف تكتب ان شاء الله فيها: لقد وعد الملك الحسن فأوفي بوعده، فقلت له "ان شاء الله " وفي يوم 11 من فبراير غادرت المغرب الى ليبيا.
زيارة ليبيا:
في يوم 12 من فبراير 72 قابلت الرئيس معمر القذافي في مكتبه بمجلس قيادة الثورة وقد حضر هذه المقابلة المقدم أبو بكر يونس ر.ا.ح.ق.م الليبية، والرائد مصطفي الخروبي مساعد ر.ا.ح.ق.م والرائد عبد السلام جلود رئيس الوزراء، والرائد عبد المنعم الهوني وزير الداخلية وجميعهم أعضاء مجلس قيادة الثورة الليبية. كانت القوات المسلحة الليبية محدودة ولم يكن هناك ما يمكن الاستعانة به-في ذلك الوقت- للمعركة إلا القليل، ولكن القذافي كان يضع قواته المسلحة كلها في خدمة المعركة. كان أهم ما عنده هو طائرات الميراج 3 الفرنسية التي كانت تصله بأعداد لا تستطيع ليبيا استيعابها فكان يستعين بمصر للتغلب على ذلك. كنا نقوم بإرسال الطيارين المصريين وهم يحملون جوازات سفر ليبية إلى فرنسا حيث يتلقون تدريبا أوليا على الطائرة قبل أن يعودوا بها إلى ليبيا. كان في ليبيا في ذلك الوقت سربان عاملان أحدهما كان يقوده طيارون ليبيون مازالوا قيد التدريب أما السرب الآخر فكان يقوده طيارون مصريون وكان متمركزا في ليبيا وجاهزا للتحرك إلى مصر إن دعت الحاجة إلى ذلك، وقد تم ذلك كله بناء على اتصالات ثنائية مباشرة بين مصر وليبيا، وهكذا كانت رحلتي إلى ليبيا تختلف في طبيعتها عن رحلتي إلى الجزائر والمغرب. لقد كان التعاون العسكري بين مصر وليبيا تعاونً كاملا، فقد كانت مدارسنا العسكرية مفتوحة على مصراعيها لتأهيل الضباط وضباط الصف الليبيين من مختلف التخصصات وكان لدينا في ليبيا مئات من الضباط وضباط الصف المصريين لتدريب الوحدات الليبية وتقديم الخبرة الفنية لها، وعلاوة على ذلك فقد كانت بعض الوحدات الميدانية المصرية تتمركز في ليبيا، وكان المصريون يقومون بتشغيل العديد من الأسلحة والمعدات الليبية التي لم يكن في استطاعة ليبيا تدبير الأطقم اللازمة لتشغيلها. ونتيجة لهذا الموقف فقد كان الهدف الأساسي من زيارتي إلى ليبيا هو إطلاع الرئيس القذافي على نتيجة رحلتي إلى الجزائر والمغرب ثم انتهز الفرصة بعد ذلك لكي أصور الوحدات المصرية، التي كانت متمركزة في القواعد الليبية.
في مكتب متواضع وبعيدا عن جميع مظاهر الأبهة، اجتمعنا مساء ذلك اليوم. كان الجميع يلبسون "الأوفرولات" البسيطة حتى خيل إلي وكـأني في اجتماع ميداني في أحد مواقعنا النائية في الصحراء أخطرت المجلس بنتيجة لقائي بكل من الرئيس هواري بومدين والملك الحسن ولكني لم أخطرهم بشكوى الملك من هجوم القذافي على النظام الملكي في المغرب؛ وبعد أن انتهيت علق القذافي قائلا بأنه لا يعتقد أن الملك الحسن سوف يبعث بقواته إلى الجبهة كما وعد، ولكني قلت له أنني اعتقد أنه سيبعث بها، تدخل القذافي قائلا ما الذي يجعلك تقول هذا؟"، فأجبت، إنني أتعامل مع الرجال منذ اكثر من ثلاثين عاما واعتقد أن لدي الخبرة الكافية لكـي اعرف من يعني ما يقول ومن لا يعني ما يقوله، أدار القذافي وجهه إلى أعضاء المجلس وقال "إذا فعل الحسن ذلك فإن ذلك يعني أنه يخشى على نفسه من جيشه وأنه لذلك يريد أن يرسلهم خارج البلاد لكي يتخلص منهم ويتفادى تهديدهم لعرشه".
تدخلت بسرعة لكيلا أعطى الفرصة لأحد من أعضاء المجلس ان يعلق على ما قاله القذافي وقلت له "سيادة الرئيس لنفترض ان ما تقوله حقيقي، هل يغير ذلك شيئا بالنسبة لك أو بالنسبة لنا مادامت هذه القوات سوف تشترك في المعركة؟، هز القذافي رأسه وقال "حقا ما تقول.. انه لن يغير شيئا"ـ وبنهاية الجلسة كان القذافي سعيدا جدا بنتائج رحلتي وقال وهو في قمة السعادة موجها كلامه الى أعضاء مجلس قيادة الثورة "أيها الاخوة. يبدو ان قومية المعركة التي طالبنا بها قد بدأت تظهر نتائجها".
قضيت اليومين التاليين في زيارة بعض الوحدات الليبية والمصرية وعدت الى مصر يوم 14 من فبراير. وفي مساء اليوم نفسه حضرت حفل عشاء كان يقيمه الرئيس السادات تكريما لرئيس الوزراء البلغاري الذي كان في زيارة رسمية لمصر. وفي كلمتين قصيرتين خلال حفل الاستقبال قلت له "كانت الرحلة ناجحة".
وبعد أيام قليلة قدمت تقريرا كاملا عن الرحلة الى الرئيس. وبعد حوالي ثلاثة أسابيع كنت اجلس مـع السادات لمناقشة تقريري عن الرحلة. كنت اعتقد انه سيكون سعيدا بهذه النتائج ولكنه قال "ضحكوا عليك وجعلوك تبرئهم بتصريحاتك أنا كنت اتابع تصريحاتك وأنت هناك. الملك الحسن سبق ان أعطى وعودا مماثلة أمام الملوك والرؤساء (10) ولكنه لم ينفذها قط اما بخصوص بومدين فإن الشروط التي يضعها شروط غير مقبولة. كيف يمكننا ان نقول له أن الحرب سوف تبدأ بعد ثلاثة اشهر؟ "حاولت بقدر ما أستطيع أن أوضح ما دار من حديث بيني وبين كل من الملك الحسن والرئيس هواري بومدين ولكن كان يبدو لي انه غير مقتنع بما أقول وانه كان مقتنعا تماما بأنهما لن يقوما بإرسال أي دعم إلى الجبهة وان ما قالاه هو مجرد أقوال".
انتقل الحديث بعد ذلك الى موقف الأردن فهاجم السادات الملك حسين هجوما عنيفا وقال انه غير مخلص ولا أمل يرجىّ منه. وانه قد باع نفسه للأمريكان والاستعمار الغربي وبالتالي فإننا لا يمكن ان نتعامل معه. ورفض رفضا باتا ان اقبل دعوة الأردن لزيارته.
وعلى الرغم من التعليقات المتشائمة التي أدلى بها السادات عن رحلتي الى الجزائر والمغرب، فأن هذه الرحلة قد نجحت في هدم الحواجز التي كانت تقف بين مصر وبين تلك الدولتين، لقد كنت اول شخصية مصرية كبيرة تزور هاتين الدولتين منذ سنوات، وبعد بضعة اشهر من زيارتي تلك قام وزير خارجية مصر بزيارتهما، وبعد ذلك قام السادات نفسه بزيارة لهما.
الفصل السادس والعشرون: الدورة الثالثة عشرة لمجلس الدفاع العربي المشترك
لجنة الكويت:
لقد كان ضمن قرارات مجلس الجامعة في دورته رقم 58 المنعقدة بالقاهرة في المدة من 9 إلى 13 من سبتمبر 72، تأليف لجنة من وزراء الخارجية والدفاع في دول المواجهة والكويت والسعودية لتقييم الموقف من جميع نواحيه ووضـع الأسس لخطة عمل عربي مشترك محدد الوسائل والالتزامات لمواجهة العدوان الإسرائيلي. كما تقرر ان تجتمع هذه اللجنة في الكويت في 15 من نوفمبر 72. (1) بعد ان وصل عدد الدول المشتركة في هذه اللجنة إلـى 13 دولة من مجموع 19 دولة هي الدول الأعضاء في الجامعة العربية في ذلك الوقت أصبحت اللجنة وكأنها اجتماع محدود لمجلس الدفاع المشترك.
تقدمت أمام اللجنة في الكويت بتقرير يعتبر اكثر صراحة من التقرير الذي تقدمت به أمام مجلس الدفاع المشترك في نوفمبر 71. وفي الحقيقة فإن كل ما قلته في نوفمبر 72 كان في ذهني في نوفمبر 71 ولكني أحجمت عن ذكره في ذلك الوقت ويتلخص ما ورد في التقرير فيما يلي:
1- أن قومية المعركة أفعالاً وليست أقوالاً. وأن الدول العربية التي ليست من دولة المواجهة لا تشارك في المعركة بالقدر الكافي، وأن المساعدات التي تقدمها إلى دول المواجهة هي مساعدات محدودة لا يمكن ان ترقى الى مستوى المشاركة في الأعباء. وللتدليل على ما أقول قدمت لهم الأرقام التالية:
أ- أنفقت مصر على قواتها المسلحة منذ 1967 حتى 1972، 4125 مليون جنيه، فإذا أضفنا الى ذلك خسائرنا في الممتلكات ارتفع الرقم الى حوالي 4500 مليون جنيه ولا يدخل ضمن هذا الرقم خسائرنا نتيجة إغلاق قناة السويس وفقدان أبار البترول في سيناء مما يصل بهذا الرقم الى حوالي 6000 مليون جنيه.
ب- بلغت خسائر مصر في الأرواح نتيجة أعمال العدو خلال هذه الفترة 2882 شهيدا علاوة على 6285 جريحا.
ج- حصلت مصر خلال هذه الفترة على دعم مالي من السعودية والكويت وليبيا يبلغ 566 مليون جنيه. أي ما يعادل حوالي 9% مما تنفقه مصر دون حساب للأرواح التي تستشهد من اجل القضية العربية.
د- إن الدخل القومي المصري يمثل 36% من أجمالي الدخل القومي العربي، ومع ذلك فإن مصر تتحمل 50% من الإنفاق العسكري العربي. (2)
2- وقد أخبرت اللجنة انه يجب ان تكون لدينا سياسة بعيدة المدى وسياسة اخرى لمجابهة الموقف في الحاضر والمستقبل القريب، وقد اقترحت أن تشمل سياسة المستقبل القريب ما يلي:
أ- كل دولة عربية يجب ان تلتزم بان تخصص 15% على الأقل من دخلها القومي كميزانية عسكرية مع إعطاء الأولوية للقوات الجوية والدفاع الجوي. لا يمكن أن نقبل المناداة بقومية المعركة، بينما إحـدى الدول العربيـة تخصص 22,7% من دخلها القومي للإنفاق العسكري ودولة اخرى تخصص 3% فقط من دخلها القومي للإنفاق العسكري.
ب- إذا كانت إحدى الدول العربية غير قـادرة على إنفاق نسبة 15% من دخلها القومي لشئون الدفاع نتيجة النقص في عدد الأفراد أو الفنيين فإنها تقوم بتحويل هذا الفائض الذي لا يستطيع استيعابه الى صندوق قومي يطلق عليه "صندوق المعركة" يخصص لدعم دول المواجهة مع إسرائيل.
3- اما السياسة البـعيدة المدى فيجب ان تشـمل ضرورة اعتمادنا على أنفسنا في إنتاج أسلحتنا بأنفسنا، وقدمت لهم الأمثلة التاريخية التي تؤيد أن الدول التي تصنع أسلحتها تستطيع في النهاية أن تهزم عدوها الذي لا يقوم بتصنيع أسلحته.
أ- أجريت مقارنة بين الإنتاج الحربي في إسـرائيل والدول العربية ووضعت أمـامهم الأرقام التالية:
الإنتاج الحربي في إسرائيل والدول العربية (ملايين الدولارات)

عام 1966
عام 1972
إسرائيل
90
428
الدول العربية (مصر)
70
93
ب- طالبت بإنشـاء مؤسسة للإنتاج الحربى تسهم فيها كل دولة عربية بنسبة 2% من دخلها القومي لمدة 5 سنوات متتالية وذلك لتكوين راس مال الشركات التي تنتج مختلف أنواع الأسلحة.
ج- طالبت بان تكون هذه المؤسسة العربية للإنتاج الحربي مستقلة تماما عن الدول العربية جميعها وان تعتمد المؤسسة على المبادئ والأسس الاقتصادية السليمة بحيث يمكنها أن تقوم بإمداد الدول العربية باحتياجاتها من الأسلحة المتطورة بأسعار لا تزيد على الأسعار العالمية مع توزيع الأرباح على المساهمين فيها. (3) هذا ويجب مراعاة توزيع المصانع التابعة لهذه المؤسسة على الدول العربية بحيث يخضع هذا التوزيع إلى العوامل الاستراتيجية والفنية والاقتصادية.
4- أوضحت لهم مدى الضعف العربي و أخبرتهم أن القوات الجوية الإسرائيلية بما لديها من طائرات وطيارين تستطيع ان تقصف أهل المواجهة بما يعادل 2500 طن يوميا من القنابل في حين أن طاقة القوات الجوية المصرية والسورية مجتمعة تعادل 760 طنا من القنابل يوميا. وقد أكدت في اكثر من مجال ان الدول العربية يجب ان تعمل جاهدة لزيادة مقدرة قواتها الجوية ودفاعها الجوي.
اجتماع رؤساء أركان حرب الجيوش العربية (الهيئة الاستشارية لمجلس الدفاع المشترك):
في يوم 13 من ديسمبر 1972 اجتمع رؤساء أركـان حرب القوات المسلحـة العرب في القاهرة وفي هذا الاجتماع التاريخي دارت مناقشات قوية وبناءه (4) " انتهت بالتوصيات التالية:
1- تستمر الدول العربية في تقد يم الدعم العسكري طبقا لمقررات مجلس الدفاع المشترك في دورته الثانية عشرة فيما عدا التعديلات التالية:
أ- تقوم المملكة العربية السعودية بتقديم سرب ليتننج إلى الجبهة المصرية الآن. وتقوم بتقديم سرب ليتننج آخر عام 74.
ب- تقوم دولة الكويت بتقديم سرب ليتننج للجبهة المصرية الآن وتقوم بتقديم سرب آخر في وقت يتم الاتفاق عليه فيما بعد.
ج- تقدم ليبيا سربي ميراج الآن، وسوف تعمل على تقديم سرب اَخر يتم الاتفاق عليه فيما بعد، وعلاوة على ذلك فإن ليبيا تلتزم بوضع كافة إمكاناتها العسكرية لخدمة المعركة.
2- توصى الهيئـة بأن تلتزم كل دولة عربية بتخصيص 15% على الأقل من دخلها القومي لتطوير ورفع الكفاءة القتالية لقواتها المسلحة مع إعطاء الأسبقية الأولى في التطوير والدعم للقوات الجوية والدفاع الجوي، وإذا كانت ظروف الدولة لا تتيـح لها إنفاق هذه النسبة على قواتها المسلحة نتيجة نقص في الأفراد والخبرات فعلى هذه الدولة ان تدعم دول المواجهة بالأموال التي تستكمل بها هذه النسبة.
3- إن الهيئة الاستشارية وهي تؤمن بأهمية بناء قاعدة صناعية حربيـة متطورة داخل الوطن العربي لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الصناعات الحربية للقوات المسلحـة العربية والصمود أمام الاحتكارات العالمية في مجال توريد الأسلحة توصى بضرورة الإسراع في إنشاء
مؤسسة عربية للإنتاج الحربي تسهم فيها كل دولة بنسبة 2 % على الأقل من دخلها القومي ولمدة خمس سنوات. ويجب الا تخضع هذه المؤسسـة لسلطة أي بلد عربي بل تكون لها حرية العمل على أسس اقتصادية وتجارية بحتة. وتوضع النقط التالية موضع الاعتبار عند إنشاء المؤسسة:
أ- يشرف على المؤسسة مجلس إدارة من الدول الأكثر اشتراكا في راس المال والأكثر تعاملا مع المؤسسة.
ب- يتم توزيع المصانع التـابعة لهذه المؤسسة على الأراضي العربيـة جميعـها، على أن يوضع في الحسبان التوزيع الإستراتيجي والاقتصادي ومصادر المواد وتوفيـر الخبرات والأيدي العاملة.
ج- يجوز للمؤسسة أن تشتري المصانع الحربية القائمة فعلا على الأراضي العربية من الدول صاحبة الشأن وذلك إذا توافرت فيها الشروط الفنية والاقتصادية التى تحقق أهداف المؤسسة.
د- لا تقوم المؤسسة بتوزيع أرباح عن الأسهم عن السنوات الخمس الأولى.
اعتقد ان توصيات الهيئة الاستشارية في دورتها الثالثة عشرة تعتبر أهم وأخطر قرارات اتخذها رؤساء الأركان العرب. حقيقة ان قراراتهم في هذا الشأن لا تعدو أن تكون توصيات وان التنفيذ يتوقف في النهاية على مدى رغبة كل دولة في تنفيذ التزاماتها. ولكن هذه التوصيـات عندما تصدر من القمة العسكرية في العالم العربي فلابد ان يكون لها أثر بعيد حتى ولو لم تظهر هذه النتائج مباشـرة. إن التوصية بان تلتزم كل دولة بإنفاق 15% من دخلهما على قواتها المسلحة- كما جاء في البند رقم 2- تعتبر تجسيدا لقوميـة المعركة. لقد مضت ست سنوات على هذا القرار وقد تغيرت نسب الإنفاق العسكري في بعض الدول ولم تتغير في دول أخرى، ولكن- على الأقل- اصـبح هناك مقيـاس يحسب على أساسـه مدى جدية كل دولة في المساهمة الفعالة في المعركة، كذلك فإن قرار إنشاء المؤسسة العربية للإنتاج ولو انه لم يخـرج إلى حيز التنفيذ، فإنه أنار الطريق أمام بعض الدول، فقد قامت مصر والسعودية وقطر والإمارات العربية بالاشتراك في إنشاء مؤسسة خاصة بها.
لي تحفظات كثيرة حول هذه المؤسسة. وبصفة عامة يمكن القول إن الدعاية التي تصاحب هذه المؤسسة تفوق بكثير حقيقة ما قامت به او ما سوف تقوم به.
إن الخطوط التى تسير عليها تختلف تماما عن الخطوط التي كنت أتصورها وارسمها في خيالي عن المؤسسة وأهدافها. إنني إذا نظرت إلى ما حققته تلك المؤسسة التي أسست عام 1975 براس مال قدره 1040 مليون دولار، وجـدت أنها لم تحـقق شيئا يذكر في مجـال الإنتاج الحربي الحقيقي. إنها تعاقدت لإنتاج محركات لطائرات تدريب وعربات جيب وطائرات مروحـية (هيلوكوبتر)LYNX وجميع هذه الأصناف لا يمكن ان تضـيف شـيئـا إلى قوة العـرب في الميدان، وليست هناك أية قيود في الدول الغربية على بيع هذه الأصناف.
إنني أريد ان نصنع الأصناف المتطورة التى تفرض الدول التي تصنعها قيودا علـى بيعها، وكنت أريد أن أعتمد على شـراء العقول والخبرة لتحـقيق ذلك، وليس مجـرد التعـاقد مع الدول لتصنيع هذه الأصناف لأنني اعلم مسبقا ان تلك الدول لن تساعدنا في إنتاج السلاح المتطور. لن تساعدنا في إنتاج طائرة قتال متطورة او دبابة متطورة او صواريخ متطورة. ان الشيء الوحيد الذى يمكن ان نعترف بان هذه المؤسسة قد قامت به هو التعاقد على تصنيع المقذوفـات الموجهة سوينج فاير Swing fire مع العلم بأن هذا الصـاروخ لم يتم إنتاجه في مصانع المؤسسة حتى الآن (يوليو 1979)0 إن فكرة التضامن لإنتاج السـلاح هي فكرة صحيحة اما الأسلوب الذي اتبعته تلك المؤسسة والنتائج التي حققتها خلال أربع سنوات من عمرها فتعتبر نتائج محزنة. (5)
عندما قابلت السادات يوم 13 من ديسمبر 72 أخبرته بتوصيات رؤساء الأركان العرب الخاصة بإنشاء الصناعات الحربية، وقلت له "طبقا لتقديراتي فإن راس مال هذه المؤسسة سوف يصل في نهاية السنوات الخمس الى 3000 مليون دولار" فرد السادات " أنك متفائل جدا. إذا استطعنا ان نحصل على 10% فقط من هذا المبلغ فإننا نستطيع ان ننشئ صناعات حربية حقيقية".
قرارات مجلس الدفاع المشترك:
لم يجتمع مجلس الدفاع المشترك في دورته الثالثة عشرة خلال شهر ديسمبر 72 كما كان مقررا و إنما انعقد في الفترة من 27-30 يناير 73. وكانت قرارات المجلس تنحصر في تأكيد التزامات كل دولة من الدول التي ليست من دول المواجهة بتقديم الدعم العسكري السابق تحديده بواسطة اللجنة الاستشارية التي تتكون من رؤساء أركان الحرب في الدول العربية جميعها.

ليست هناك تعليقات: