ما بعد المرحلة الجامعية ..
§ نحو التخصص.. الدعوة أم التدريس؟!!
§ مؤتمر طلاب الأزهر.. القرضاوي يقود المؤتمر
§ لجنة البعث الأزهري.. الطلاب يتحركون
§ ماذا قال القرضاوي في رسالته إلى الأزهر؟
§ نحو التخصص.. الدعوة أم التدريس؟!!
§ مؤتمر طلاب الأزهر.. القرضاوي يقود المؤتمر
§ لجنة البعث الأزهري.. الطلاب يتحركون
§ ماذا قال القرضاوي في رسالته إلى الأزهر؟
نحو التخصص.. الدعوة أم التدريس؟!!
كان في الأزهر نوعان من التخصص لحملة الشهادة العالية أو العالمية، أوقف أحدهما وبقي الآخر.
أما النوع الذي أوقف فهو (تخصص المادة) وفيه يتخصص الخريج في مادة معينة ويقدم فيها رسالة يحصل بها على شهادة (العالمية من درجة أستاذ).
وكان في كلية أصول الدين ثلاث شعب لهذا التخصص: شعبة التفسير والحديث، وشعبة العقيدة والفلسفة، وشعبة التاريخ.
كما كان في كلية الشريعة شعبة الفقه، وشعبة أصول الفقه.
وفي كلية اللغة العربية شعبة النحو والصرف، وشعبة البلاغة والأدب.
وقد خرج هذا التخصص بشعبه المختلفة عددًا لا بأس به ثم أغلقت أبوابه، وكان من مطالبنا في المرحلة الثانوية وفي المرحلة الجامعية: إعادة فتح باب تخصص المادة لإتاحة الفرصة لطالب الأزهر المتفوق لينال حقه في الدراسات العليا، كسائر طلاب مصر، وطلاب العالم كله.
وأما التخصص الآخر فيسمى (تخصص المهنة). وكان في الأزهر ثلاثة تخصصات للمهنة: تخصص تنفرد به كلية الشريعة، وهو (تخصص القضاء) وهو الذي يُعِدّ القضاة الشرعيين بما يلزمهم من دراسات معينة في أصول القضاء والمرافعات والإجراءات والإثبات ونحوها.
وتخصص تنفرد به كلية أصول الدين، وهو تخصص (الدعوة والإرشاد) ومهمته تخريج وعاظ وخطباء مساجد، مؤهلين للدعوة والخطابة دارسين لفنونها ووسائلها.
وتخصص ثالث تشترك فيه الكليات الثلاث، وإن كان -إداريًّا- تابعًا لكلية اللغة العربية، وهو: تخصص التدريس. ومهمته إعداد مدرس علوم الدين أو اللغة العربية، وتأهيله بما يلزمه من أصول التربية ووسائلها وطرق التدريس العامة والخاصة.
كان أمامي -وقد تخرجت في كلية أصول الدين- إذن تخصصان عليَّ أن أختار أحدهما: الأول وهو تخصص الدعوة والإرشاد، والآخر هو تخصص التدريس.
ولم أتردد في اختيار الثاني، رغم إلحاح بعض الأصدقاء أن ألتحق بتخصص الدعوة والإرشاد؛ لأنها أصبحت وظيفتي الأولى، وقد عُرفت بها، وبرعت فيها؛ فأولى بي أن أتخصص فيها.
بيد أن لي وجهة أخرى أكننتها في نفسي؛ فقد كانت فكرتي أن يكون التدريس هو مهنتي التي أتعيش من ورائها، وأن أقوم بالدعوة محتسبًا متطوعًا، هذه هي الفكرة التي غلبت عليَّ.
حتى إن الدكتور محمد خميس حميدة نائب المرشد العام للإخوان عرض علي أن أتفرغ بعد تخرجي لدعوة الإخوان براتب مناسب يقدر لي؛ لحاجة الجماعة إلى مثلي، فاعتذرت بلطف؛ لأني أحب أن أعمل للدعوة محتسبًا، لا موظفًا. ولأني أخشى أن يستهلكني هذا التفرغ في أمور جزئية تعطلني عما أريده لنفسي من مستقبل علمي ودعوي. مع أني أومن بضرورة تفريغ أشخاص للدعوة، ولكن في نظر نفسي لا أصلح أن أكون أحدهم.
على أية حال لقد حسمت الأمر، وتقدمت لتخصص التدريس، وهو يتبع إداريًّا كلية اللغة العربية، كما أشرت، ومقره بالدَّرَّاسة، مع مباني كلية اللغة العربية الجديدة.
وكان تخصص التدريس يتكون من سنتين دراسيتين، وتدرس مقرراته في سنتين. هكذا مضى منذ نشأ، وهكذا تخرج فيه إخواننا ومشايخنا من قبل.
ولكن ابتداء من هذه السنة التي التحقنا فيها به، ستتم الدراسة على نظام السنتين في سنة دراسية واحدة، بحيث تنتهي السنة الأولى في أوائل أشهر الصيف، ثم تبدأ السنة الثانية وتنتهي في شهر أكتوبر.
وأعتقد أن العلوم التي درسناها في هذا التخصص قد أفادتنا، وأضافت إلينا جديدًا، فقد توسعنا في دراسة علم النفس، الذي كنا درسنا شيئًا منه في كلية أصول الدين في إحدى سنوات الدراسة، فدرسنا هنا علم النفس التربوي، والغرائز أو الدوافع النفسية، وعلم نفس النمو، والصحة النفسية، وغيرها.
كما درسنا أصول التربية، والتربية المقارنة، وتاريخ التربية، والطرق العامة والخاصة للتدريس، والتربية العملية، وغيرها.
أعتقد أنا أخذنا جرعة كافية ومروية من علوم النفس والتربية، وصلتنا أكثر بالحياة المعاصرة والثقافة المعاصرة. وكان مدرسونا وأساتذتنا في هذه العلوم من خريجي الجامعات المدنية العصرية، وليسوا من الأزهريين، فكان في ذلك تلقيح لثقافتنا الأزهرية العتيقة.
وأذكر ممن درسونا التربية العملية: الأستاذ الدكتور محمد قدري لطفي، وكان من أعلام التربية العملية في تدريس اللغة العربية، وله مؤلفات في ذلك، وفي أواخر الفصل الدراسي يأخذ طلبته إلى المدارس الحكومية، ليلقي كل منهم درسًا نموذجيًّا يختاره ويحضره، ثم يلقيه أمام الأستاذ وأمام زملائه، وفي اليوم الواحد نحضر عدة دروس، ثم نجتمع مع الأستاذ في جلسة خاصة للنقد والتقويم، وتعطى الفرصة أولاً للطلاب ليقوّموا عمل زميلهم، ويُبدوا ملاحظاتهم عليه، ثم يبدأ الأستاذ.
وأذكر ذلك اليوم الذي كان فيه درسي، وكان في إحدى مدارس العباسية بالقاهرة، وكنا أربعة من طلاب التخصص، وبعد أن ألقينا دروسنا اجتمعنا كالعادة، ونقد بعضنا بعضًا، ثم استمعنا إلى نقد الأستاذ الدكتور قدري، وكان نقده في الصميم: هذا كان عابس الوجه، وهذا كان قلق الشخصية، وهذا كان درسه تلقينيًّا لم يشرك الطلبة معه، ولم يستثرهم بالأسئلة المناسبة، إلى أن جاء عندي فقال: أما القرضاوي فكان درسه مثالاً يُحتذى: في شخصيته، وفي وقفته، وفي ابتسامة وجهه، وفي إقباله على التلاميذ، وفي إشراكهم معه في كل الخطوات، وفي تلخيص درسه في النهاية. ولا يسعني إلا أن أشكر له، وأن أتمنى له دوام التوفيق في مستقبل حياته، وقد أعطاني الدرجة النهائية (50/50).
كما فعل معي ذلك في الفصل الثاني -أو قل في السنة الثانية- الأستاذ الدكتور الريدي، رحم الله الجميع، فقد أعطاني (50/50).
الشيخ محمد عبد الله دراز:
ومن أهم ما استفدته في تخصص التدريس أن كان من أساتذتنا فيه الشيخ الدكتور العلامة محمد عبد الله دراز، الذي كان يدرسنا (علم الأخلاق).
وكان يتدفق في معارفه كأنما يغرف من بحر، ويبهر سامعه كأن كلامه السحر. ويشرح الدقائق فيجليها، والغوامض فيكشف عن خوافيها، ويبين عن معانيها، لقد كنت أستمع إليه، وأنا معجب متابع، ورأيت أنه ينطبق عليه ما كان يكتبه الأولون عن علمائهم ومؤلفيهم، مثل: العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة.
فهذا ما يمكن أن نقوله عن الشيخ، فقد أحاط بعلوم الدين من التفسير والحديث والتوحيد والأصول والفقه، وبعلوم اللغة من النحو والصرف والبلاغة، وبالأدب وتاريخه، وبالعلوم الإنسانية العصرية، التي درسها في (السوربون) وحصل بها على الدكتوراة، وقدّم فيها أكثر من رسالة، وبخاصة رسالته للدكتوراة (دستور الأخلاق في القرآن الكريم).
كان الشيخ دراز علمًا من أعلام الفكر، وإمامًا من أئمة الدين، وبحرًا من بحور العلم والثقافة، جمع -حقًّا- بين الأصالة والمعاصرة، فإن شئت نسبته إلى جامع (الأزهر) فهو ابنه البار، وتكوينه الأزهري قوي متين، وإن شئت نسبته إلى جامعة (السوربون) فهو من خريجيها الذين تعتز بهم، وتفخر بانتمائهم إليها، وهو أحد رجال الفلسفة والأخلاق المعدودين في عالمنا العربي والإسلامي.
كان الشيخ يدرّسنا علم الأخلاق، وقد كتب فيه بالعربية رسالة لطيفة موجزة مركزة، صغيرة الحجم، ولكنها كبيرة القيمة، سماها (كلمات في مبادئ علم الأخلاق) يتجلى فيها علم الشيخ وثقافته الموسوعية، كما يتجلى أدبه وبيانه الرائع المشرق.
كما تجلى علم الشيخ وأدبه وأصالته فيما صدر عنه من كتب، ليست كثيرة من ناحية الكم، ولكنها قيمة من ناحية الكيف، سواء في فكرتها ومضمونها أم في بيانها وأسلوبها.
منها: (النبأ العظيم) وهو: نظرات جديدة في علوم القرآن وإعجازه، لم ينسجه على منوال أحد، كما لم ينسج أحد على منواله.
ومنها: (المختار من كنوز السنة) وهو: شروح عميقة متميزة لعدد من الأحاديث النبوية.
وله كتب شرع فيها، وظهر منها بعض الملازم ولم يكملها، مثل كتاب: (الميزان بين السنة والبدعة) كأنما كان يريد أن يحدِّث به كتاب (الاعتصام) للشاطبي.
كان الشيخ متمسكًا بزيه الأزهري الأصلي، بجبته وعمامته، رغم أنه كان يدرس في (كلية الآداب) بجامعة فؤاد الأول، التي ألقى فيها عددًا من المحاضرات في تاريخ الأديان، دعاه لإلقائها صديقه الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي، رئيس قسم الاجتماع في الكلية. وكان من ثمرات محاضراته فيها كتابه (الدين): دراسة ممهدة لتاريخ الأديان، كما كان يدرس في (كلية دار العلوم) محاضرات في تفسير القرآن الكريم.
وله رسائل عميقة متميزة في موضوعات كتبها للمشاركة في مؤتمرات عالمية مثَّل فيها الأزهر، مثل رسالته عن (الربا) التي قدمها لمؤتمر الحقوق الدولي في باريس سنة 1951م، ورسالته عن (الإسلام والعلاقات الدولية) ورسالته عن (موقف الإسلام من الأديان الأخرى) التي ألقاها في مؤتمر الأديان في لاهور سنة 1958م، الذي وافته المنية فيه، وهو يمثِّل الأزهر هناك، وكان نبأ وفاته فجيعة هزت الأزهر والأوساط الإسلامية؛ لما كان يتمتع به -رحمه الله- من منزلة بين أهل العلم والدين.
وكان صبيح الوجه، يتلألأ وجهه نورًا وإشراقًا لكل من يراه، وتبدو عليه ملامح الربانية.
وقد كانت هذه الصلة الدراسية سببًا لصلة أخرى فكرية وروحية، سنتحدث عنها فيما بعد.
مؤتمر طلاب الأزهر
استمر نشاطي المعتاد داخل الإخوان في المجالات التي كان لي بها صلة قوية: في قسم نشر الدعوة، حيث أذهب إلى بعض المحافظات في مناسبات مختلفة، وفي قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، حيث كنت أشرف على عدد من الإخوة السوريين، وفي قسم الطلاب، حيث كنت مسؤولاً عن طلاب الأزهر في كلياته الثلاث، وفي معهد القاهرة، وهو مجال نشاطي الأول.
وكان من أهم الأنشطة التي أقمناها في هذه المرحلة: المؤتمر الأزهري العام، الذي عقد في ساحة كلية الشريعة وكلية اللغة العربية، في مبانيها الجديدة بالأزهر، وقد حضر هذا المؤتمر طلاب الكليات الثلاث، وطلاب معهد القاهرة الديني، وكان من مطالب أبناء الأزهر التي طالبنا بها من قديم منذ كنا طلابًا في القسم الثانوي، ولم يستجب لها. وقد ذكرت طائفة منها في حديثي عن المرحلة الثانوية من قبل، مثل فتح باب الدراسات العليا لطلاب الأزهر كغيرهم، وفتح باب الكليات العسكرية -مثل الحربية والشرطة- أمامهم، والعمل كملحقين دينيين في سفارات مصر، وفتح مجالات العمل في المصالح والوزارات المختلفة أمام أبناء الأزهر، وفتح معاهد للطالبات... إلخ.
قدمني إخواني وزملائي (أحمد العسال، وعلي عبد الحليم محمود، ومحمد الراوي، ومحمد المطراوي، وصلاح أبو إسماعيل، وغيرهم) لأكون المتحدث الرئيسي باسمهم في هذا الملتقى، وتوليت شرح المطالب، وضرورة إرسال نسخة من مطالبنا إلى شيخ الأزهر.
وكان مما قلته في هذه المناسبة قصيدة كان لها وقعها وصداها بينطلبة الأزهر، ضاعت إلا أبياتًا منها، ويذكرني بها زملائي من أبناء الأزهر كلما لقوني، وقد حفظوا الكثير منها. حتى إني سمعت الخطيب الشهير الشيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله- ينشد أبياتًا منها في إحدى خطبه؛ مما يدل على أنه حضر هذا المؤتمر وهو طالب، وسمع القصيدة يومها، فالتقطتها ذاكرته القوية واختزنتها. ومطلعها:
صبرنا إلى أن ملَّ من صبرنا الصبر
وقلنا: غدًا أو بعده ينجلي الأمر
فكان غـد عـامًا، ولـو مـد حبله
فقد ينطوي في جوف هذا الغد الدهر
وقـلنا: عسى أن يدرك الحقَّ أهلُه
فصاحت "عسى" من "لا" و"لا" طعمها مر
ومـاذا عـلينا بعد أن فار مـرجل
مـن الغيظ والإهمال يغلي به الصدر
سددنا بطول الصبر منا صمامه
فزادت عليه النار فانفجر القِدْر
ومنها:
عجبت لمصر تهـضم الليث حقـه
وتسرف للسِّنَّوْر، ويحك يا مصر!
سلام على الدنيا، سلام على الورى
إذا ارتفع العصفور وانخفض النسر!
أيعطى لـزيد ما يشاء مـن المُنَى
ويحرم حتى من ضروراته عمْرو؟
أيُعطَى لنا -يا قومنا- القشر والنوى
ومَن دوننا يعطى له اللب والتمر؟
إذا العدل والإنصاف في الأرض لم يقم
فمن أين يأتي أهلها العز والنصر؟
ووصّلنا مطالبنا إلى الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر محمد الخضر حسين، وكان متجاوبًا معنا في كل مطالبنا، وكان رجلاً له هيبته ومقامه العلمي والديني الكبير، وصاحب تاريخ مجيد في العلم والجهاد، ولكن الدولة لم تكن تتجاوب مع آماله، وهو صاحب المقولة الشهيرة التي قالها لرجال الحكومة: "إن لم يزد الأزهر في عهدي فلا ينقص منه".
وفي أوائل ثورة يوليو ذهب إليه اللواء محمد نجيب قائد الثورة وزاره في مكتبه في مشيخة الأزهر، وقال: "إن من واجب الرؤساء أن يزوروا العلماء".
أنا والأزهر:
أحببت الأزهر منذ صباي المبكر، وشغفت به، وتمنيت أن أكون واحدًا من علمائه. فقد كان الأزهر في نظري معقل الدين والعلم، ومعهد الثقافة والأدب، ومركز الدعوة والتوجيه. وعلى أيدي علمائه في قريتنا يتعلم الجاهلون، ويهتدي الحائرون، ويتوب العاصون.
ولما حفظت القرآن الكريم بعد التاسعة بقليل ظللت أترقب اليوم الذي أدخل فيه معاهد الأزهر؛ لأتعلم فيه الدين واللغة والأدب، وأقدر على الخطابة والتدريس والوعظ، مثل مشايخ قريتي الذين سمعتهم في صغري، وتأثرت بهم: الشيخ أحمد محمد صقر، والشيخ أحمد عبد الله، والشيخ أحمد البتة، والشيخ عبد المطلب البتة رحمهم الله جميعًا.
ولقد حفظت فيما بعد رائعة شوقي الرائية عن (الأزهر)، وكنا نحن الأزهريين نعتز بها ونفخر، وفيه يقول:
قم في فم الدنيا، وحيّ الأزهرا وانثر على سمع الزمان الجوهرا
واخشع مليًّا، واقض حق أئمة طـلعوا به زُهرا، وماجوا أبحرا
كانوا أجـل من الملوك جلالة وأعـز سـلطانًا، وأفخم مظهرا
وفيها يقول:
والله ما تدري لعل كفيفهم يومًا يكون أبا العلاء المبصرا
وفيها يخاطب أبناء الأزهر:
هزوا القرى من كهفها ورقيمها أنتم -لعمر الله- أعصاب القرى
الغـافـل الأمي ينطق عنكمو كـالببّغـاء مـرددًا ومكـررا
لو قلتم: اختر للنيابة جاهـلا أو للخطـابة باقـلاً لتخـيرا
كان الأزهر هو (المنجم) الفذ الذي تستخرج منه كنوز العلم، ويتخرج فيه العلماء على مستوى العالم الإسلامي كله، ففي رحابه الفيح يلتقي طلبة العالم من المشرق والمغرب، أو قل: تلتقي الأمة الإسلامية كلها: عربها وعجمها؛ ولذا قلّما تجد بلدًا إلا وللأزهر فيها وجود بسبب خريجيه المنتشرين في الأرض انتشار الشرايين في الجسم.
ولقد حفظنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: أن العلماء ورثة الأنبياء، وإذا كانت النبوة هي أعلى الرتب، فوراثتها تليها في الفضل.
كما حفظنا من المأثور: صنفان من الأمة إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والعلماء. ونسبه بعضهم حديثًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يصح سندًا، وإن كان معناه صحيحًا في الجملة، فالأمراء لهم القيادة السياسية والتنفيذية، والعلماء لهم القيادة الفكرية والروحية، وبصلاح القيادتين يصلح المجتمع، وتصلح حياة الناس.
ولكن الخطر: أن تفسد القيادتان أو تفسد إحداهما، ولا سيما قيادة أهل العلم، فهم الأمل في الخلاص، إذا فسد الساسة والمتسلطون من أهل الإمارة والسلطان.
والإمام الغزالي يرى أن فساد المجتمعات بسبب فساد الملوك والحكام، وإنما يفسد الملوك بفساد العلماء، وإنما فساد العلماء بفساد قلوبهم، وفساد قلوبهم إنما هو بسبب حب الدنيا، ونسيان الآخرة.
ولهذا يبدأ الإصلاح الحق بإصلاح العلماء، وإصلاح العلماء في نظرنا يدور على أمرين: إصلاح العقول والأفكار، وإصلاح القلوب والضمائر.
وإصلاح العقول ينبغي أن يبدأ من المحضن، من المعهد الذي يصنع عقل طالب الأزهر، بحيث يتعلم فيه ثقافة إسلامية خصبة وإيجابية، تعتمد على لباب العلم لا على قشوره، وعلى الجوهر لا على الشكل، وعلى المعنى لا اللفظ، وتهدف إلى إيقاظ الروح والقلب، إلى جوار إضاءة العقل والفكر، وأن تجمع إلى هذه الثقافة الإسلامية: ثقافة عصرية مناسبة، تصل الطالب بزمانه وبيئته. وهذا ما شغلنا ونحن طلاب منذ عهد مبكر.
وحين قدّر الله لي دخول الأزهر، مبتدئًا بمعهد طنطا الابتدائي، ومثنيًا بمعهدها الثانوي، ومثلثًا بكلية أصول الدين، ثم بإجازة التدريس.. كنت مهتمًّا بكل ما يصلح الأزهر، ويرفع شأن أبنائه، وينهض بهم في أداء رسالتهم التي هي رسالة الإسلام، ويزيل المعوقات من طريقهم، حتى يقوموا بمهمتهم خير قيام.
فكنت أحضر وأنا طالب في القسم الابتدائي -المعادل للإعدادي الآن- مع طلاب القسم الثانوي ممثلاً لزملائي في المناداة بمطالب الأزهريين، ومساواتهم بغيرهم من خريجي الجامعات المصرية.
وفي المرحلة الثانوية شاركت في عدة مؤتمرات عقدناها في طنطا وفي غيرها من عواصم المديريات (المحافظات)، حضرها ممثلون عن المعاهد الدينية في أنحاء المملكة المصرية (لم تكن الجمهورية قد نشأت بعد) حددنا فيها مجموعة من المطالب، ونقلناها إلى المسئولين بالأزهر وبالحكومة. أذكر منها:
* إدخال اللغة الإنجليزية إلى معاهد الأزهر.
* فتح باب الكليات العسكرية والمدنية أمام حملة الثانوية الأزهرية.
* فتح معاهد دينية للبنات فهن نصف المجتمع، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
* إتاحة الفرصة للمتفوقين بإعادة فتح باب الدراسات العليا، وتعيين معيدين بكليات الأزهر.
* إعادة النظر في المناهج والكتب الدراسية.
* الاهتمام بالجانب التربوي والسلوكي لطلاب الأزهر.
ولم نكن نكتفي بعقد المؤتمرات، ورفع المطالب والتوصيات، بل كنا أحيانًا نقيم المظاهرات، أو ندعو إلى الإضراب. وكثيرًا ما جعلنا هذا نصطدم بالشرطة، ونجرّ إلى "الأقسام"، ونتعرض للإيذاء من أجل الأزهر.
وفي المرحلة الجامعية تبلورت المطالب وتحددت أكثر من قبل. وقد التقينا مع عدد من المسئولين في الأزهر للحوار حول هذه القضايا: فكان منهم المتجاوب إلى أقصى حد، كالمغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين، ومنهم من لم يُعِر هذه التطلعات بالاً، واعتبرها أماني بعيدة المنال.
وما زلت أذكر آخر مؤتمر عقدناه -وأنا طالب في تخصص التدريس أواخر سنة 1953م- في ساحة كلية الشريعة بالدرّاسة، حضره أبناء الكليات الثلاث، ومعهد القاهرة، ومعهد البعوث، وتحدثت فيه طويلاً -باسم إخواني ونائبًا عنهم- عن مطالبنا وتطلعاتنا الدينية والعلمية والأدبية والاجتماعية.
وفي هذه الفترة التي بدأت بعد أن أوقفت معارك القناة، التي شارك فيها الأزهر بكتيبته التي ذهبت إلى الشرقية، واحتفل بها في قاعة الشيخ محمد عبده بالدراسة في يوم من أيام الأزهر الخالدة.. عدنا إلى القاهرة لنوجّه عناية أكبر إلى إصلاح الأزهر من داخله، وبعث الحيوية في كلياته ومعاهده؛ ليتبوأ مكانه في قيادة الأمة تحت لواء الإسلام كما كان من قبل.
وبعد تفكير وبحث وحوار بين مجموعة من الأزهريين الواعين والمخلصين لقضية الأزهر، وقضية الإسلام، منهم: أحمد العسال، وعلي عبد الحليم محمود، ومحمد المطراوي، ومحمد الراوي، وصلاح أبو إسماعيل، ومحمد عبد العزيز خالد، ومحمد الدمرداش مراد، ومحمد الصفطاوي، وغيرهم ممن قضى نحبه وممن ينتظر.
قررنا أن ننشئ لجنة سميناها "لجنة البعث الأزهري".
وليسمح لي القارئ أن أنقل له هنا أهداف هذه اللجنة ووسائلها كما وجدتها في أوراقي القديمة.
لجنة البعث الأزهري
مجموعة من شباب الأزهر آمنوا بربهم ورسالتهم، وآلوا على أنفسهم أن يرفعوا صرح الأزهر عاليًا أو يموتوا تحت أنقاضه.
أهدافها:
* المساهمة في إيقاظ الوعي الإسلامي وتكوين جيل جديد يفقه الإسلام ويعمل به ويجاهد في سبيله.
* جمع أبناء الأزهر من خريجيه وطلابه حول هذا الهدف الرفيع.
* إصلاح أوضاع الأزهر ومناهجه إصلاحًا شاملاً يمكنه من حمل رسالة القرآن إلى العالم الإسلامي والعالم الإنساني.
* تأمين مستقبل الثقافة الإسلامية المهددة، وإيجاد الينابيع الدائمة التي تصب في الأزهر، وذلك بتقرير حفظ أجزاء من القرآن في مدارس الدولة، وتكثير جمعيات التحفيظ وضمها إلى الأزهر.
وسائلها:
* تنبيه الرأي العام في داخل الأزهر، وذلك عن طريق إلقاء المحاضرات وتنظيم الندوات، وطبع الرسائل والنشرات.
* إعداد المراجع والتشجيع على البحث للنابهين من شباب الأزهر؛ ليتخصصوا في شعب الثقافة الإسلامية المختلفة.
* العمل على إصدار مجلة دورية تنطق باسم شباب الأزهر.
* العمل على أن يكون قادة الأزهر وموجِّهوه من الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله.
وقد كلفني الإخوة الزملاء مؤسسو اللجنة أن أبدأ بكتابة الرسالة الأولى من رسائلها المعرفة بها والمعبرة عن مهمتها.
ولم تكن أمامي إلا الاستجابة لهذه الرغبة وكتبت رسالة بعنوان "رسالتكم يا أبناء الأزهر"، وما زلت أذكر أني عرضتها على الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي ليقرأها ويبدي ملاحظاته عليها، فأجاب ذلك مشكورًا، وقرأها، وقال عنها: إنها من أمتع ما قرأت، فكرة وعاطفة وأسلوبًا. وعرضتها كذلك على الداعية والمربي الجليل الأستاذ عبد العزيز كامل، فسُرّ بها كثيرًا، ولكنه نصحني بأن أخرّج أحاديثها، حتى تأخذ الصبغة العلمية.
وتمت الرسالة وذهبت بها إلى المطبعة (دار الكتاب العربي)، وذلك في أواخر سنة 1953، ولكن أحداثًا قاهرة حدثت في أوائل سنة 1954، انتهت بنا إلى معتقل العامرية، ثم إلى السجن الحربي، فتوقف عمل اللجنة، كما توقف طبع الرسالة، واسترددتها بعد ذلك من المطبعة. وظلّت مطمورة ضمن أوراقي التي سلمت من الضياع في المحن المتتابعة التي لحقت بدعاة الإسلام في مصر.
وحين بعث إليّ بعد ذلك بأكثر من عشرين سنة الأخ الأستاذ الدكتور الحسيني أبو هاشم الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية والأخ الدكتور عبد الودود شلبي المشرف على العدد التذكاري لمجلة الأزهر بمناسبة عيده الألفي سنة 1997م بطلب كتابة مقالة عن الأزهر في هذا العدد رجعت إلى أضابيري (الأضبارة -بالفتح والكسر- هي الحزمة من الصحف)؛ لأجد الرسالة القديمة مكتوبة بخط الأخ الحبيب الشاعر الأديب محمد حوطر، الذي طالما سجّل بقلمه أحاديثي وخطبي بمدينة المحلة الكبرى.
ولقد وجدت أن في الرسالة أفكارًا ومعانيَ يجب أن تنشر من جديد، وإن كانت تحمل حرارة الشباب وحماسه المتوقد. كما رأيت أن أُعمل فيها يد التهذيب والإضافة والحذف والتعديل، وإن بقيت في جوهرها كما كانت قديمًا.
ومما حذفت منها مقدمتها؛ لأن شدتها لم تَعُد مناسبة للأوضاع، كما حذفت بعض المباحث لعدم ملاءمتها لما جدّ من أحوال، ولأن بعض ما نادت به قد تحقق فيما بعد.
وقد أعجبني فيما قرأته منها الإهداء في الصفحة الأولى، وكانت صيغته هكذا:
"إلى كل مسلم يعنيه مستقبل الأزهر
وإلى كل أزهري يعنيه مستقبل الإسلام
وإلى كل عاقل يعنيه مستقبل الإنسانية
أهدي هذه الرسالة..
عسى أن يتحرك المسلمون لتجديد رسالة الأزهر.
وعسى أن يتحرك الأزهريون لتجديد رسالة الإسلام.
وعسى أن يتحرك العقلاء لإنقاذ سفينة الإنسانية."
كما أعجبني من تلك الرسالة خاتمتها المتوثبة توثب الشباب في كاتبها وفيمن وجهت إليه، ولا بأس أن أسجلها هنا كما وجدتها للتاريخ:
القضية الكبرى
"حذار يا شباب الأزهر أن تشغلنا قضيتنا الصغرى (قضية الأزهر) عن قضيتنا الكبرى (قضية الإسلام). الذي تألب المتألبون عليه، وافترق خصومه على أمور شتى، ولكنهم اجتمعوا على محاربته والكيد له، والتربص بأهله، والتعدي على حرماته، وبات يعاني الآلام، ويشكو الجراح من اليهودية العالمية، والشيوعية الدولية، والصليبية الغربية، والنزعات القومية، والشهوات الحزبية، والموجات الإلحادية، والإباحية.
وأصبحت بلاد الإسلام نهبًا مقسمًا في أيدي أعدائه، يستنزفون خيراتها ويمتصون دماءها، ويوجهونها وجهتهم التي يريدون.
كم صرفتنا يد كنا نصـرفها وبات يملكنا شعب ملكناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصًا جناحاه
واجبنا مضاعف:
يا ابن الأزهر، إذا كان بعض الناس يشعر بواجبه مرة واحدة في هذه المرحلة الدقيقة الحاسمة من تاريخنا؛ فعليك أن تشعر بواجبك أربع مرات:
فأنت يا أخي مسلم:
والمسلم يعيش في هذه الحياة لهدف أسمى، ورسالة عظمى، لخّصها الله تبارك وتعالى في كتابه بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ" (الحج: 77،78).
فالمسلم في المحراب عابد خاشع، راكع ساجد.
وهو في المجتمع بار خير، منتج نافع.
كما هو في ميادين الكفاح بطل مجاهد، وجندي مناضل.
فإياك أن تظن نفسك كمًّا مهملاً، وسطرًا مطموسًا، فإنما أنت منفذ أحكام الله في الأرض، ووارث رسالات النبيين، وحامل هداية الله إلى العالمين.
اختصك الله بأعظم كتاب أنزل، وأفضل نبي أرسل، وأكمل دين شرع "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" (المائدة: 3).
وأنت أخي شاب، والشباب حيوية هائلة، وطاقة جبارة، فإن الذي خلق الشمس وأودعها الضياء، وخلق النار وأودعها الحرارة، وخلق الحديد وأودعه الصلابة، وخلق الشباب وأودعه الحيوية والعزيمة. ولو نظرت إلى التاريخ لرأيت الكثير من أعلام الهدى، وأنصار الحق كانوا شبابًا:
كان أتباع موسى شبابًا: "فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِه" (يونس: 83).
وكان أهل الكهف شبابًا: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" (الكهف: 13).
وكان أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم شبابًا، تقدموا الصفوف، وهل فينا من يجهل مثل علي، والزبير، وأسامة، ومعاذ رضي الله عنهم جميعًا؟
ومن الشباب في الصدر الأول من كان يحمل راية العلم في السلم وراية الجهاد في الحرب.
حفظ الشافعي القرآن وهو ابن سبع سنين، والموطأ وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة، وصحّح عليه الأصمعي أشعار البدويين وهو شاب.
ومما يفخر به تاريخ الشباب أن قائد الكتائب الإسلامية لفتح الهند التي تحوي الآن أكبر دولة إسلامية "باكستان" لم يكن إلا شابًا في السابعة عشرة ألا وهو "محمد بن القاسم" الثقفي الذي قال عنه الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندى لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حِجة يا قرب ذلك سؤددًا من مولد
فإذا اعتذر الشيوخ لضعف القوة، وغلبة اليأس، وابيضاض الرأس، وإدبار الحياة، فما لك من عذر.
وأنت يا أخي مثقف، قد رشفت من رحيق الثقافة، واستنار عقلك بنور العلم، وللثقافة ضريبة لا بد أن تدفع، وللعلم زكاة لا مفر من أن تُؤدى، فعليك أن تعلم الجاهل، وتنبه الغافل، وتنشر الوعي، وتأخذ بيد الحائر.
واعلم أنك إذا قصّرت فلن تجد من يعذرك، والجاهل قد يعذر إذا قصر، فأفقه ضيق، ونظره قريب، وعلمه محدود.
وقد قال شوقي: "الجاهل غريب في وطنه، مقبور في بدنه، رافل في كفنه".
أما الذي نوّر الله بصيرته بالعلم، فمسئوليته أكبر، وعذره أقل.
العلم فضيلة توجب لصاحبها رفعة في الدنيا والآخرة، وهو كذلك تبعة توجب عليه مسئولية أمام الله والناس، وفي الحديث "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به".
وأنت يا أخي أزهري:
منَّ الله عليك فحفظت كتابه الكريم، وهداك إلى معهد تدرس فيه لغة القرآن وأصول الإسلام، وعلوم الشريعة، فأنت -لو علمت- وارث الأنبياء، وهمزة الوصل بين الأرض والسماء، تؤدي أمانة العلم، وتبلغ رسالة الله - رسالة محمد صلى الله عليه وسلم - رسالة الإسلام.
فعليك ما على أصحاب الأمانات الكبرى من أعباء ثقيلة، وواجبات جمة، فالهدف بعيد، والسفر طويل، والحمل ثقيل، وقُطّاع الطريق كثير، والسبيل محفوفة بالأشواك، مملوءة بالعقبات.
وعليك أن تزيل الغشاوات عن العيون لترى، والسداد عن الآذان لتسمع، والأكنة عن القلوب لتفقه، مستعينًا بالله متوكلاً عليه، معلنًا في الناس: "فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِين" (الذاريات: 50).
ومعك الضياء الذي لا يخبو، والدليل الذي لا ينحرف. كتاب الله "من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم".
يا أبناء الأزهر، أنتم مسلمون، فعليكم واجب عظيم بقدر هدى العقيدة التي تميزكم عن الضالين.
وأنتم شباب، فعليكم واجب ثانٍ بقدر الحيوية والحرارة التي تميزكم عن الشيوخ المحطمين.
وأنتم طلاب علم، فعليكم واجب ثالث بقدر الثقافة التي تميزكم عن الجاهلين.
وأنتم حملة رسالة الإسلام، فعليكم واجب رابع بقدر الدراسات الإسلامية التي تميزكم عن المدنيين.
والآن يا أخي الأزهري:
إن مجدنا في الأولى والآخرة مرتبط بالعمل للإسلام، "ونحن إن لم نكن به لم نكن أبدًا بغيره"، وهو إن لم يكن بنا كان بغيرنا، وقد نِمنا زمنًا طويلاً فقيّض الله للدين أفرادًا وجماعات نفضت عنه غباره، وذادت عن حياضه، ونشرت تعاليمه، وأحيت في النفوس الأمل في سيادته.
ولولا نهوض هؤلاء في غفلة الأزهر، لكانت العاقبة تسوء المؤمنين وتسر الكافرين، ولكن دين الله أعز عبده من أن يتخلى عنه ويتركه بلا دعاة وجنود.
فالبدار البدار يا إخوة.
والعمل العمل للإسلام.
فإن العالم الإسلامي الآن يجتاز مرحلة دقيقة من حياته، وشبابه المؤمن في كل قطر يعمل جاهدًا من أجل دينه.
وعلينا أن نقوم بواجبنا الكامل في هذا الجهاد، وأن نشعل مصابيح الهدى في ليل الشك الذي أطبق على المسلمين ظلامه.
لا ننتظر جزاء إلا من الله الذي لا تضيع عنده الودائع، رابطين حاضرًا متحفزًا بماضٍ مجيد، متطلعين إلى غدٍ مزهر ومستقبلٍ منير.
يا شباب الأزهر
تستطيعون أن تكونوا قوة دافعة لهذا الركب المؤمن، وصوتًا عاليًا يجمع هذه القلوب على كلمة سواء، وأدلاء أمناء لهذه القوافل التي يحدوها الإيمان إلى ربها.
ففي رحاب الأزهر صورة مصغرة للجامعة الإسلامية، وميدان يجب أن تصنع فيه النماذج الإسلامية الكريمة.
فإذا انتشرت في قراها وأقطارها كانت خير عنوان للإسلام، واستطاعت بعزم وعلم وعمل أن تحول الآمال إلى حقائق، والفرقة إلى وحدة، والتخلف إلى سبق بعيد.
هذه مهمتنا التي ندبنا أنفسنا لها، وينتظرها منا مجتمعنا، ويحاسبنا عليها ربنا.
فاعملوا.. فسيرى الله عملكم ورسوله المؤمنون. وإن تتولّوْا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".
كان هذا ما كتبته سنة 1953 عن الأزهر ورسالة أبنائه، وكان الذي هيأت له نفسي: أن حياتي العملية بعد تخرجي ستكون كلها في رحاب الأزهر، فمن حقي -باعتبار تفوقي- أن أُعيَّن مدرسًا في معاهد الأزهر، ومن واجبي: أن أظلّ حاملاً راية الإصلاح للأزهر، التي حملتها وأنا طالب، وأن أتعاون في ذلك مع إخواني العاملين فيه من أبناء الأزهر المهمومين بقضيته وقضية الإسلام معه بل قبله.
ولكن الأقدار لم تسعدني بتحقيق ما أردت وما أعددت له عدتي، فمنعت من التعيين في الأزهر، وإن عدت إليه فترة قليلة من الزمن (نحو ثلاث سنوات) لا في التدريس ولا في الوعظ، ولكن في الإدارة العامة للثقافة الإسلامية، مع الأستاذ الكبير الدكتور محمد البهي رحمه الله، في المكتب الفني لإدارة الدعوة والإرشاد مع مدير الوعظ في ذلك الوقت العالم الجليل الشيخ عبد الله المشد رحمه الله. وذلك في عهد شيخنا الأكبر الفقيه العلامة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله.
ومن الأزهر أعرت إلى حكومة قطر للعمل في وزارة المعارف، وإدارة معهدها الديني الثانوي.
وسأعود إلى الحديث عن هذه الحقبة في قطر، عندما يأتي أوانها في هذا الجزء إن شاء الله.
كان في الأزهر نوعان من التخصص لحملة الشهادة العالية أو العالمية، أوقف أحدهما وبقي الآخر.
أما النوع الذي أوقف فهو (تخصص المادة) وفيه يتخصص الخريج في مادة معينة ويقدم فيها رسالة يحصل بها على شهادة (العالمية من درجة أستاذ).
وكان في كلية أصول الدين ثلاث شعب لهذا التخصص: شعبة التفسير والحديث، وشعبة العقيدة والفلسفة، وشعبة التاريخ.
كما كان في كلية الشريعة شعبة الفقه، وشعبة أصول الفقه.
وفي كلية اللغة العربية شعبة النحو والصرف، وشعبة البلاغة والأدب.
وقد خرج هذا التخصص بشعبه المختلفة عددًا لا بأس به ثم أغلقت أبوابه، وكان من مطالبنا في المرحلة الثانوية وفي المرحلة الجامعية: إعادة فتح باب تخصص المادة لإتاحة الفرصة لطالب الأزهر المتفوق لينال حقه في الدراسات العليا، كسائر طلاب مصر، وطلاب العالم كله.
وأما التخصص الآخر فيسمى (تخصص المهنة). وكان في الأزهر ثلاثة تخصصات للمهنة: تخصص تنفرد به كلية الشريعة، وهو (تخصص القضاء) وهو الذي يُعِدّ القضاة الشرعيين بما يلزمهم من دراسات معينة في أصول القضاء والمرافعات والإجراءات والإثبات ونحوها.
وتخصص تنفرد به كلية أصول الدين، وهو تخصص (الدعوة والإرشاد) ومهمته تخريج وعاظ وخطباء مساجد، مؤهلين للدعوة والخطابة دارسين لفنونها ووسائلها.
وتخصص ثالث تشترك فيه الكليات الثلاث، وإن كان -إداريًّا- تابعًا لكلية اللغة العربية، وهو: تخصص التدريس. ومهمته إعداد مدرس علوم الدين أو اللغة العربية، وتأهيله بما يلزمه من أصول التربية ووسائلها وطرق التدريس العامة والخاصة.
كان أمامي -وقد تخرجت في كلية أصول الدين- إذن تخصصان عليَّ أن أختار أحدهما: الأول وهو تخصص الدعوة والإرشاد، والآخر هو تخصص التدريس.
ولم أتردد في اختيار الثاني، رغم إلحاح بعض الأصدقاء أن ألتحق بتخصص الدعوة والإرشاد؛ لأنها أصبحت وظيفتي الأولى، وقد عُرفت بها، وبرعت فيها؛ فأولى بي أن أتخصص فيها.
بيد أن لي وجهة أخرى أكننتها في نفسي؛ فقد كانت فكرتي أن يكون التدريس هو مهنتي التي أتعيش من ورائها، وأن أقوم بالدعوة محتسبًا متطوعًا، هذه هي الفكرة التي غلبت عليَّ.
حتى إن الدكتور محمد خميس حميدة نائب المرشد العام للإخوان عرض علي أن أتفرغ بعد تخرجي لدعوة الإخوان براتب مناسب يقدر لي؛ لحاجة الجماعة إلى مثلي، فاعتذرت بلطف؛ لأني أحب أن أعمل للدعوة محتسبًا، لا موظفًا. ولأني أخشى أن يستهلكني هذا التفرغ في أمور جزئية تعطلني عما أريده لنفسي من مستقبل علمي ودعوي. مع أني أومن بضرورة تفريغ أشخاص للدعوة، ولكن في نظر نفسي لا أصلح أن أكون أحدهم.
على أية حال لقد حسمت الأمر، وتقدمت لتخصص التدريس، وهو يتبع إداريًّا كلية اللغة العربية، كما أشرت، ومقره بالدَّرَّاسة، مع مباني كلية اللغة العربية الجديدة.
وكان تخصص التدريس يتكون من سنتين دراسيتين، وتدرس مقرراته في سنتين. هكذا مضى منذ نشأ، وهكذا تخرج فيه إخواننا ومشايخنا من قبل.
ولكن ابتداء من هذه السنة التي التحقنا فيها به، ستتم الدراسة على نظام السنتين في سنة دراسية واحدة، بحيث تنتهي السنة الأولى في أوائل أشهر الصيف، ثم تبدأ السنة الثانية وتنتهي في شهر أكتوبر.
وأعتقد أن العلوم التي درسناها في هذا التخصص قد أفادتنا، وأضافت إلينا جديدًا، فقد توسعنا في دراسة علم النفس، الذي كنا درسنا شيئًا منه في كلية أصول الدين في إحدى سنوات الدراسة، فدرسنا هنا علم النفس التربوي، والغرائز أو الدوافع النفسية، وعلم نفس النمو، والصحة النفسية، وغيرها.
كما درسنا أصول التربية، والتربية المقارنة، وتاريخ التربية، والطرق العامة والخاصة للتدريس، والتربية العملية، وغيرها.
أعتقد أنا أخذنا جرعة كافية ومروية من علوم النفس والتربية، وصلتنا أكثر بالحياة المعاصرة والثقافة المعاصرة. وكان مدرسونا وأساتذتنا في هذه العلوم من خريجي الجامعات المدنية العصرية، وليسوا من الأزهريين، فكان في ذلك تلقيح لثقافتنا الأزهرية العتيقة.
وأذكر ممن درسونا التربية العملية: الأستاذ الدكتور محمد قدري لطفي، وكان من أعلام التربية العملية في تدريس اللغة العربية، وله مؤلفات في ذلك، وفي أواخر الفصل الدراسي يأخذ طلبته إلى المدارس الحكومية، ليلقي كل منهم درسًا نموذجيًّا يختاره ويحضره، ثم يلقيه أمام الأستاذ وأمام زملائه، وفي اليوم الواحد نحضر عدة دروس، ثم نجتمع مع الأستاذ في جلسة خاصة للنقد والتقويم، وتعطى الفرصة أولاً للطلاب ليقوّموا عمل زميلهم، ويُبدوا ملاحظاتهم عليه، ثم يبدأ الأستاذ.
وأذكر ذلك اليوم الذي كان فيه درسي، وكان في إحدى مدارس العباسية بالقاهرة، وكنا أربعة من طلاب التخصص، وبعد أن ألقينا دروسنا اجتمعنا كالعادة، ونقد بعضنا بعضًا، ثم استمعنا إلى نقد الأستاذ الدكتور قدري، وكان نقده في الصميم: هذا كان عابس الوجه، وهذا كان قلق الشخصية، وهذا كان درسه تلقينيًّا لم يشرك الطلبة معه، ولم يستثرهم بالأسئلة المناسبة، إلى أن جاء عندي فقال: أما القرضاوي فكان درسه مثالاً يُحتذى: في شخصيته، وفي وقفته، وفي ابتسامة وجهه، وفي إقباله على التلاميذ، وفي إشراكهم معه في كل الخطوات، وفي تلخيص درسه في النهاية. ولا يسعني إلا أن أشكر له، وأن أتمنى له دوام التوفيق في مستقبل حياته، وقد أعطاني الدرجة النهائية (50/50).
كما فعل معي ذلك في الفصل الثاني -أو قل في السنة الثانية- الأستاذ الدكتور الريدي، رحم الله الجميع، فقد أعطاني (50/50).
الشيخ محمد عبد الله دراز:
ومن أهم ما استفدته في تخصص التدريس أن كان من أساتذتنا فيه الشيخ الدكتور العلامة محمد عبد الله دراز، الذي كان يدرسنا (علم الأخلاق).
وكان يتدفق في معارفه كأنما يغرف من بحر، ويبهر سامعه كأن كلامه السحر. ويشرح الدقائق فيجليها، والغوامض فيكشف عن خوافيها، ويبين عن معانيها، لقد كنت أستمع إليه، وأنا معجب متابع، ورأيت أنه ينطبق عليه ما كان يكتبه الأولون عن علمائهم ومؤلفيهم، مثل: العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة.
فهذا ما يمكن أن نقوله عن الشيخ، فقد أحاط بعلوم الدين من التفسير والحديث والتوحيد والأصول والفقه، وبعلوم اللغة من النحو والصرف والبلاغة، وبالأدب وتاريخه، وبالعلوم الإنسانية العصرية، التي درسها في (السوربون) وحصل بها على الدكتوراة، وقدّم فيها أكثر من رسالة، وبخاصة رسالته للدكتوراة (دستور الأخلاق في القرآن الكريم).
كان الشيخ دراز علمًا من أعلام الفكر، وإمامًا من أئمة الدين، وبحرًا من بحور العلم والثقافة، جمع -حقًّا- بين الأصالة والمعاصرة، فإن شئت نسبته إلى جامع (الأزهر) فهو ابنه البار، وتكوينه الأزهري قوي متين، وإن شئت نسبته إلى جامعة (السوربون) فهو من خريجيها الذين تعتز بهم، وتفخر بانتمائهم إليها، وهو أحد رجال الفلسفة والأخلاق المعدودين في عالمنا العربي والإسلامي.
كان الشيخ يدرّسنا علم الأخلاق، وقد كتب فيه بالعربية رسالة لطيفة موجزة مركزة، صغيرة الحجم، ولكنها كبيرة القيمة، سماها (كلمات في مبادئ علم الأخلاق) يتجلى فيها علم الشيخ وثقافته الموسوعية، كما يتجلى أدبه وبيانه الرائع المشرق.
كما تجلى علم الشيخ وأدبه وأصالته فيما صدر عنه من كتب، ليست كثيرة من ناحية الكم، ولكنها قيمة من ناحية الكيف، سواء في فكرتها ومضمونها أم في بيانها وأسلوبها.
منها: (النبأ العظيم) وهو: نظرات جديدة في علوم القرآن وإعجازه، لم ينسجه على منوال أحد، كما لم ينسج أحد على منواله.
ومنها: (المختار من كنوز السنة) وهو: شروح عميقة متميزة لعدد من الأحاديث النبوية.
وله كتب شرع فيها، وظهر منها بعض الملازم ولم يكملها، مثل كتاب: (الميزان بين السنة والبدعة) كأنما كان يريد أن يحدِّث به كتاب (الاعتصام) للشاطبي.
كان الشيخ متمسكًا بزيه الأزهري الأصلي، بجبته وعمامته، رغم أنه كان يدرس في (كلية الآداب) بجامعة فؤاد الأول، التي ألقى فيها عددًا من المحاضرات في تاريخ الأديان، دعاه لإلقائها صديقه الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي، رئيس قسم الاجتماع في الكلية. وكان من ثمرات محاضراته فيها كتابه (الدين): دراسة ممهدة لتاريخ الأديان، كما كان يدرس في (كلية دار العلوم) محاضرات في تفسير القرآن الكريم.
وله رسائل عميقة متميزة في موضوعات كتبها للمشاركة في مؤتمرات عالمية مثَّل فيها الأزهر، مثل رسالته عن (الربا) التي قدمها لمؤتمر الحقوق الدولي في باريس سنة 1951م، ورسالته عن (الإسلام والعلاقات الدولية) ورسالته عن (موقف الإسلام من الأديان الأخرى) التي ألقاها في مؤتمر الأديان في لاهور سنة 1958م، الذي وافته المنية فيه، وهو يمثِّل الأزهر هناك، وكان نبأ وفاته فجيعة هزت الأزهر والأوساط الإسلامية؛ لما كان يتمتع به -رحمه الله- من منزلة بين أهل العلم والدين.
وكان صبيح الوجه، يتلألأ وجهه نورًا وإشراقًا لكل من يراه، وتبدو عليه ملامح الربانية.
وقد كانت هذه الصلة الدراسية سببًا لصلة أخرى فكرية وروحية، سنتحدث عنها فيما بعد.
مؤتمر طلاب الأزهر
استمر نشاطي المعتاد داخل الإخوان في المجالات التي كان لي بها صلة قوية: في قسم نشر الدعوة، حيث أذهب إلى بعض المحافظات في مناسبات مختلفة، وفي قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، حيث كنت أشرف على عدد من الإخوة السوريين، وفي قسم الطلاب، حيث كنت مسؤولاً عن طلاب الأزهر في كلياته الثلاث، وفي معهد القاهرة، وهو مجال نشاطي الأول.
وكان من أهم الأنشطة التي أقمناها في هذه المرحلة: المؤتمر الأزهري العام، الذي عقد في ساحة كلية الشريعة وكلية اللغة العربية، في مبانيها الجديدة بالأزهر، وقد حضر هذا المؤتمر طلاب الكليات الثلاث، وطلاب معهد القاهرة الديني، وكان من مطالب أبناء الأزهر التي طالبنا بها من قديم منذ كنا طلابًا في القسم الثانوي، ولم يستجب لها. وقد ذكرت طائفة منها في حديثي عن المرحلة الثانوية من قبل، مثل فتح باب الدراسات العليا لطلاب الأزهر كغيرهم، وفتح باب الكليات العسكرية -مثل الحربية والشرطة- أمامهم، والعمل كملحقين دينيين في سفارات مصر، وفتح مجالات العمل في المصالح والوزارات المختلفة أمام أبناء الأزهر، وفتح معاهد للطالبات... إلخ.
قدمني إخواني وزملائي (أحمد العسال، وعلي عبد الحليم محمود، ومحمد الراوي، ومحمد المطراوي، وصلاح أبو إسماعيل، وغيرهم) لأكون المتحدث الرئيسي باسمهم في هذا الملتقى، وتوليت شرح المطالب، وضرورة إرسال نسخة من مطالبنا إلى شيخ الأزهر.
وكان مما قلته في هذه المناسبة قصيدة كان لها وقعها وصداها بينطلبة الأزهر، ضاعت إلا أبياتًا منها، ويذكرني بها زملائي من أبناء الأزهر كلما لقوني، وقد حفظوا الكثير منها. حتى إني سمعت الخطيب الشهير الشيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله- ينشد أبياتًا منها في إحدى خطبه؛ مما يدل على أنه حضر هذا المؤتمر وهو طالب، وسمع القصيدة يومها، فالتقطتها ذاكرته القوية واختزنتها. ومطلعها:
صبرنا إلى أن ملَّ من صبرنا الصبر
وقلنا: غدًا أو بعده ينجلي الأمر
فكان غـد عـامًا، ولـو مـد حبله
فقد ينطوي في جوف هذا الغد الدهر
وقـلنا: عسى أن يدرك الحقَّ أهلُه
فصاحت "عسى" من "لا" و"لا" طعمها مر
ومـاذا عـلينا بعد أن فار مـرجل
مـن الغيظ والإهمال يغلي به الصدر
سددنا بطول الصبر منا صمامه
فزادت عليه النار فانفجر القِدْر
ومنها:
عجبت لمصر تهـضم الليث حقـه
وتسرف للسِّنَّوْر، ويحك يا مصر!
سلام على الدنيا، سلام على الورى
إذا ارتفع العصفور وانخفض النسر!
أيعطى لـزيد ما يشاء مـن المُنَى
ويحرم حتى من ضروراته عمْرو؟
أيُعطَى لنا -يا قومنا- القشر والنوى
ومَن دوننا يعطى له اللب والتمر؟
إذا العدل والإنصاف في الأرض لم يقم
فمن أين يأتي أهلها العز والنصر؟
ووصّلنا مطالبنا إلى الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر محمد الخضر حسين، وكان متجاوبًا معنا في كل مطالبنا، وكان رجلاً له هيبته ومقامه العلمي والديني الكبير، وصاحب تاريخ مجيد في العلم والجهاد، ولكن الدولة لم تكن تتجاوب مع آماله، وهو صاحب المقولة الشهيرة التي قالها لرجال الحكومة: "إن لم يزد الأزهر في عهدي فلا ينقص منه".
وفي أوائل ثورة يوليو ذهب إليه اللواء محمد نجيب قائد الثورة وزاره في مكتبه في مشيخة الأزهر، وقال: "إن من واجب الرؤساء أن يزوروا العلماء".
أنا والأزهر:
أحببت الأزهر منذ صباي المبكر، وشغفت به، وتمنيت أن أكون واحدًا من علمائه. فقد كان الأزهر في نظري معقل الدين والعلم، ومعهد الثقافة والأدب، ومركز الدعوة والتوجيه. وعلى أيدي علمائه في قريتنا يتعلم الجاهلون، ويهتدي الحائرون، ويتوب العاصون.
ولما حفظت القرآن الكريم بعد التاسعة بقليل ظللت أترقب اليوم الذي أدخل فيه معاهد الأزهر؛ لأتعلم فيه الدين واللغة والأدب، وأقدر على الخطابة والتدريس والوعظ، مثل مشايخ قريتي الذين سمعتهم في صغري، وتأثرت بهم: الشيخ أحمد محمد صقر، والشيخ أحمد عبد الله، والشيخ أحمد البتة، والشيخ عبد المطلب البتة رحمهم الله جميعًا.
ولقد حفظت فيما بعد رائعة شوقي الرائية عن (الأزهر)، وكنا نحن الأزهريين نعتز بها ونفخر، وفيه يقول:
قم في فم الدنيا، وحيّ الأزهرا وانثر على سمع الزمان الجوهرا
واخشع مليًّا، واقض حق أئمة طـلعوا به زُهرا، وماجوا أبحرا
كانوا أجـل من الملوك جلالة وأعـز سـلطانًا، وأفخم مظهرا
وفيها يقول:
والله ما تدري لعل كفيفهم يومًا يكون أبا العلاء المبصرا
وفيها يخاطب أبناء الأزهر:
هزوا القرى من كهفها ورقيمها أنتم -لعمر الله- أعصاب القرى
الغـافـل الأمي ينطق عنكمو كـالببّغـاء مـرددًا ومكـررا
لو قلتم: اختر للنيابة جاهـلا أو للخطـابة باقـلاً لتخـيرا
كان الأزهر هو (المنجم) الفذ الذي تستخرج منه كنوز العلم، ويتخرج فيه العلماء على مستوى العالم الإسلامي كله، ففي رحابه الفيح يلتقي طلبة العالم من المشرق والمغرب، أو قل: تلتقي الأمة الإسلامية كلها: عربها وعجمها؛ ولذا قلّما تجد بلدًا إلا وللأزهر فيها وجود بسبب خريجيه المنتشرين في الأرض انتشار الشرايين في الجسم.
ولقد حفظنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: أن العلماء ورثة الأنبياء، وإذا كانت النبوة هي أعلى الرتب، فوراثتها تليها في الفضل.
كما حفظنا من المأثور: صنفان من الأمة إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والعلماء. ونسبه بعضهم حديثًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يصح سندًا، وإن كان معناه صحيحًا في الجملة، فالأمراء لهم القيادة السياسية والتنفيذية، والعلماء لهم القيادة الفكرية والروحية، وبصلاح القيادتين يصلح المجتمع، وتصلح حياة الناس.
ولكن الخطر: أن تفسد القيادتان أو تفسد إحداهما، ولا سيما قيادة أهل العلم، فهم الأمل في الخلاص، إذا فسد الساسة والمتسلطون من أهل الإمارة والسلطان.
والإمام الغزالي يرى أن فساد المجتمعات بسبب فساد الملوك والحكام، وإنما يفسد الملوك بفساد العلماء، وإنما فساد العلماء بفساد قلوبهم، وفساد قلوبهم إنما هو بسبب حب الدنيا، ونسيان الآخرة.
ولهذا يبدأ الإصلاح الحق بإصلاح العلماء، وإصلاح العلماء في نظرنا يدور على أمرين: إصلاح العقول والأفكار، وإصلاح القلوب والضمائر.
وإصلاح العقول ينبغي أن يبدأ من المحضن، من المعهد الذي يصنع عقل طالب الأزهر، بحيث يتعلم فيه ثقافة إسلامية خصبة وإيجابية، تعتمد على لباب العلم لا على قشوره، وعلى الجوهر لا على الشكل، وعلى المعنى لا اللفظ، وتهدف إلى إيقاظ الروح والقلب، إلى جوار إضاءة العقل والفكر، وأن تجمع إلى هذه الثقافة الإسلامية: ثقافة عصرية مناسبة، تصل الطالب بزمانه وبيئته. وهذا ما شغلنا ونحن طلاب منذ عهد مبكر.
وحين قدّر الله لي دخول الأزهر، مبتدئًا بمعهد طنطا الابتدائي، ومثنيًا بمعهدها الثانوي، ومثلثًا بكلية أصول الدين، ثم بإجازة التدريس.. كنت مهتمًّا بكل ما يصلح الأزهر، ويرفع شأن أبنائه، وينهض بهم في أداء رسالتهم التي هي رسالة الإسلام، ويزيل المعوقات من طريقهم، حتى يقوموا بمهمتهم خير قيام.
فكنت أحضر وأنا طالب في القسم الابتدائي -المعادل للإعدادي الآن- مع طلاب القسم الثانوي ممثلاً لزملائي في المناداة بمطالب الأزهريين، ومساواتهم بغيرهم من خريجي الجامعات المصرية.
وفي المرحلة الثانوية شاركت في عدة مؤتمرات عقدناها في طنطا وفي غيرها من عواصم المديريات (المحافظات)، حضرها ممثلون عن المعاهد الدينية في أنحاء المملكة المصرية (لم تكن الجمهورية قد نشأت بعد) حددنا فيها مجموعة من المطالب، ونقلناها إلى المسئولين بالأزهر وبالحكومة. أذكر منها:
* إدخال اللغة الإنجليزية إلى معاهد الأزهر.
* فتح باب الكليات العسكرية والمدنية أمام حملة الثانوية الأزهرية.
* فتح معاهد دينية للبنات فهن نصف المجتمع، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
* إتاحة الفرصة للمتفوقين بإعادة فتح باب الدراسات العليا، وتعيين معيدين بكليات الأزهر.
* إعادة النظر في المناهج والكتب الدراسية.
* الاهتمام بالجانب التربوي والسلوكي لطلاب الأزهر.
ولم نكن نكتفي بعقد المؤتمرات، ورفع المطالب والتوصيات، بل كنا أحيانًا نقيم المظاهرات، أو ندعو إلى الإضراب. وكثيرًا ما جعلنا هذا نصطدم بالشرطة، ونجرّ إلى "الأقسام"، ونتعرض للإيذاء من أجل الأزهر.
وفي المرحلة الجامعية تبلورت المطالب وتحددت أكثر من قبل. وقد التقينا مع عدد من المسئولين في الأزهر للحوار حول هذه القضايا: فكان منهم المتجاوب إلى أقصى حد، كالمغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين، ومنهم من لم يُعِر هذه التطلعات بالاً، واعتبرها أماني بعيدة المنال.
وما زلت أذكر آخر مؤتمر عقدناه -وأنا طالب في تخصص التدريس أواخر سنة 1953م- في ساحة كلية الشريعة بالدرّاسة، حضره أبناء الكليات الثلاث، ومعهد القاهرة، ومعهد البعوث، وتحدثت فيه طويلاً -باسم إخواني ونائبًا عنهم- عن مطالبنا وتطلعاتنا الدينية والعلمية والأدبية والاجتماعية.
وفي هذه الفترة التي بدأت بعد أن أوقفت معارك القناة، التي شارك فيها الأزهر بكتيبته التي ذهبت إلى الشرقية، واحتفل بها في قاعة الشيخ محمد عبده بالدراسة في يوم من أيام الأزهر الخالدة.. عدنا إلى القاهرة لنوجّه عناية أكبر إلى إصلاح الأزهر من داخله، وبعث الحيوية في كلياته ومعاهده؛ ليتبوأ مكانه في قيادة الأمة تحت لواء الإسلام كما كان من قبل.
وبعد تفكير وبحث وحوار بين مجموعة من الأزهريين الواعين والمخلصين لقضية الأزهر، وقضية الإسلام، منهم: أحمد العسال، وعلي عبد الحليم محمود، ومحمد المطراوي، ومحمد الراوي، وصلاح أبو إسماعيل، ومحمد عبد العزيز خالد، ومحمد الدمرداش مراد، ومحمد الصفطاوي، وغيرهم ممن قضى نحبه وممن ينتظر.
قررنا أن ننشئ لجنة سميناها "لجنة البعث الأزهري".
وليسمح لي القارئ أن أنقل له هنا أهداف هذه اللجنة ووسائلها كما وجدتها في أوراقي القديمة.
لجنة البعث الأزهري
مجموعة من شباب الأزهر آمنوا بربهم ورسالتهم، وآلوا على أنفسهم أن يرفعوا صرح الأزهر عاليًا أو يموتوا تحت أنقاضه.
أهدافها:
* المساهمة في إيقاظ الوعي الإسلامي وتكوين جيل جديد يفقه الإسلام ويعمل به ويجاهد في سبيله.
* جمع أبناء الأزهر من خريجيه وطلابه حول هذا الهدف الرفيع.
* إصلاح أوضاع الأزهر ومناهجه إصلاحًا شاملاً يمكنه من حمل رسالة القرآن إلى العالم الإسلامي والعالم الإنساني.
* تأمين مستقبل الثقافة الإسلامية المهددة، وإيجاد الينابيع الدائمة التي تصب في الأزهر، وذلك بتقرير حفظ أجزاء من القرآن في مدارس الدولة، وتكثير جمعيات التحفيظ وضمها إلى الأزهر.
وسائلها:
* تنبيه الرأي العام في داخل الأزهر، وذلك عن طريق إلقاء المحاضرات وتنظيم الندوات، وطبع الرسائل والنشرات.
* إعداد المراجع والتشجيع على البحث للنابهين من شباب الأزهر؛ ليتخصصوا في شعب الثقافة الإسلامية المختلفة.
* العمل على إصدار مجلة دورية تنطق باسم شباب الأزهر.
* العمل على أن يكون قادة الأزهر وموجِّهوه من الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله.
وقد كلفني الإخوة الزملاء مؤسسو اللجنة أن أبدأ بكتابة الرسالة الأولى من رسائلها المعرفة بها والمعبرة عن مهمتها.
ولم تكن أمامي إلا الاستجابة لهذه الرغبة وكتبت رسالة بعنوان "رسالتكم يا أبناء الأزهر"، وما زلت أذكر أني عرضتها على الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي ليقرأها ويبدي ملاحظاته عليها، فأجاب ذلك مشكورًا، وقرأها، وقال عنها: إنها من أمتع ما قرأت، فكرة وعاطفة وأسلوبًا. وعرضتها كذلك على الداعية والمربي الجليل الأستاذ عبد العزيز كامل، فسُرّ بها كثيرًا، ولكنه نصحني بأن أخرّج أحاديثها، حتى تأخذ الصبغة العلمية.
وتمت الرسالة وذهبت بها إلى المطبعة (دار الكتاب العربي)، وذلك في أواخر سنة 1953، ولكن أحداثًا قاهرة حدثت في أوائل سنة 1954، انتهت بنا إلى معتقل العامرية، ثم إلى السجن الحربي، فتوقف عمل اللجنة، كما توقف طبع الرسالة، واسترددتها بعد ذلك من المطبعة. وظلّت مطمورة ضمن أوراقي التي سلمت من الضياع في المحن المتتابعة التي لحقت بدعاة الإسلام في مصر.
وحين بعث إليّ بعد ذلك بأكثر من عشرين سنة الأخ الأستاذ الدكتور الحسيني أبو هاشم الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية والأخ الدكتور عبد الودود شلبي المشرف على العدد التذكاري لمجلة الأزهر بمناسبة عيده الألفي سنة 1997م بطلب كتابة مقالة عن الأزهر في هذا العدد رجعت إلى أضابيري (الأضبارة -بالفتح والكسر- هي الحزمة من الصحف)؛ لأجد الرسالة القديمة مكتوبة بخط الأخ الحبيب الشاعر الأديب محمد حوطر، الذي طالما سجّل بقلمه أحاديثي وخطبي بمدينة المحلة الكبرى.
ولقد وجدت أن في الرسالة أفكارًا ومعانيَ يجب أن تنشر من جديد، وإن كانت تحمل حرارة الشباب وحماسه المتوقد. كما رأيت أن أُعمل فيها يد التهذيب والإضافة والحذف والتعديل، وإن بقيت في جوهرها كما كانت قديمًا.
ومما حذفت منها مقدمتها؛ لأن شدتها لم تَعُد مناسبة للأوضاع، كما حذفت بعض المباحث لعدم ملاءمتها لما جدّ من أحوال، ولأن بعض ما نادت به قد تحقق فيما بعد.
وقد أعجبني فيما قرأته منها الإهداء في الصفحة الأولى، وكانت صيغته هكذا:
"إلى كل مسلم يعنيه مستقبل الأزهر
وإلى كل أزهري يعنيه مستقبل الإسلام
وإلى كل عاقل يعنيه مستقبل الإنسانية
أهدي هذه الرسالة..
عسى أن يتحرك المسلمون لتجديد رسالة الأزهر.
وعسى أن يتحرك الأزهريون لتجديد رسالة الإسلام.
وعسى أن يتحرك العقلاء لإنقاذ سفينة الإنسانية."
كما أعجبني من تلك الرسالة خاتمتها المتوثبة توثب الشباب في كاتبها وفيمن وجهت إليه، ولا بأس أن أسجلها هنا كما وجدتها للتاريخ:
القضية الكبرى
"حذار يا شباب الأزهر أن تشغلنا قضيتنا الصغرى (قضية الأزهر) عن قضيتنا الكبرى (قضية الإسلام). الذي تألب المتألبون عليه، وافترق خصومه على أمور شتى، ولكنهم اجتمعوا على محاربته والكيد له، والتربص بأهله، والتعدي على حرماته، وبات يعاني الآلام، ويشكو الجراح من اليهودية العالمية، والشيوعية الدولية، والصليبية الغربية، والنزعات القومية، والشهوات الحزبية، والموجات الإلحادية، والإباحية.
وأصبحت بلاد الإسلام نهبًا مقسمًا في أيدي أعدائه، يستنزفون خيراتها ويمتصون دماءها، ويوجهونها وجهتهم التي يريدون.
كم صرفتنا يد كنا نصـرفها وبات يملكنا شعب ملكناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصًا جناحاه
واجبنا مضاعف:
يا ابن الأزهر، إذا كان بعض الناس يشعر بواجبه مرة واحدة في هذه المرحلة الدقيقة الحاسمة من تاريخنا؛ فعليك أن تشعر بواجبك أربع مرات:
فأنت يا أخي مسلم:
والمسلم يعيش في هذه الحياة لهدف أسمى، ورسالة عظمى، لخّصها الله تبارك وتعالى في كتابه بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ" (الحج: 77،78).
فالمسلم في المحراب عابد خاشع، راكع ساجد.
وهو في المجتمع بار خير، منتج نافع.
كما هو في ميادين الكفاح بطل مجاهد، وجندي مناضل.
فإياك أن تظن نفسك كمًّا مهملاً، وسطرًا مطموسًا، فإنما أنت منفذ أحكام الله في الأرض، ووارث رسالات النبيين، وحامل هداية الله إلى العالمين.
اختصك الله بأعظم كتاب أنزل، وأفضل نبي أرسل، وأكمل دين شرع "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" (المائدة: 3).
وأنت أخي شاب، والشباب حيوية هائلة، وطاقة جبارة، فإن الذي خلق الشمس وأودعها الضياء، وخلق النار وأودعها الحرارة، وخلق الحديد وأودعه الصلابة، وخلق الشباب وأودعه الحيوية والعزيمة. ولو نظرت إلى التاريخ لرأيت الكثير من أعلام الهدى، وأنصار الحق كانوا شبابًا:
كان أتباع موسى شبابًا: "فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِه" (يونس: 83).
وكان أهل الكهف شبابًا: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" (الكهف: 13).
وكان أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم شبابًا، تقدموا الصفوف، وهل فينا من يجهل مثل علي، والزبير، وأسامة، ومعاذ رضي الله عنهم جميعًا؟
ومن الشباب في الصدر الأول من كان يحمل راية العلم في السلم وراية الجهاد في الحرب.
حفظ الشافعي القرآن وهو ابن سبع سنين، والموطأ وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة، وصحّح عليه الأصمعي أشعار البدويين وهو شاب.
ومما يفخر به تاريخ الشباب أن قائد الكتائب الإسلامية لفتح الهند التي تحوي الآن أكبر دولة إسلامية "باكستان" لم يكن إلا شابًا في السابعة عشرة ألا وهو "محمد بن القاسم" الثقفي الذي قال عنه الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندى لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حِجة يا قرب ذلك سؤددًا من مولد
فإذا اعتذر الشيوخ لضعف القوة، وغلبة اليأس، وابيضاض الرأس، وإدبار الحياة، فما لك من عذر.
وأنت يا أخي مثقف، قد رشفت من رحيق الثقافة، واستنار عقلك بنور العلم، وللثقافة ضريبة لا بد أن تدفع، وللعلم زكاة لا مفر من أن تُؤدى، فعليك أن تعلم الجاهل، وتنبه الغافل، وتنشر الوعي، وتأخذ بيد الحائر.
واعلم أنك إذا قصّرت فلن تجد من يعذرك، والجاهل قد يعذر إذا قصر، فأفقه ضيق، ونظره قريب، وعلمه محدود.
وقد قال شوقي: "الجاهل غريب في وطنه، مقبور في بدنه، رافل في كفنه".
أما الذي نوّر الله بصيرته بالعلم، فمسئوليته أكبر، وعذره أقل.
العلم فضيلة توجب لصاحبها رفعة في الدنيا والآخرة، وهو كذلك تبعة توجب عليه مسئولية أمام الله والناس، وفي الحديث "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به".
وأنت يا أخي أزهري:
منَّ الله عليك فحفظت كتابه الكريم، وهداك إلى معهد تدرس فيه لغة القرآن وأصول الإسلام، وعلوم الشريعة، فأنت -لو علمت- وارث الأنبياء، وهمزة الوصل بين الأرض والسماء، تؤدي أمانة العلم، وتبلغ رسالة الله - رسالة محمد صلى الله عليه وسلم - رسالة الإسلام.
فعليك ما على أصحاب الأمانات الكبرى من أعباء ثقيلة، وواجبات جمة، فالهدف بعيد، والسفر طويل، والحمل ثقيل، وقُطّاع الطريق كثير، والسبيل محفوفة بالأشواك، مملوءة بالعقبات.
وعليك أن تزيل الغشاوات عن العيون لترى، والسداد عن الآذان لتسمع، والأكنة عن القلوب لتفقه، مستعينًا بالله متوكلاً عليه، معلنًا في الناس: "فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِين" (الذاريات: 50).
ومعك الضياء الذي لا يخبو، والدليل الذي لا ينحرف. كتاب الله "من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم".
يا أبناء الأزهر، أنتم مسلمون، فعليكم واجب عظيم بقدر هدى العقيدة التي تميزكم عن الضالين.
وأنتم شباب، فعليكم واجب ثانٍ بقدر الحيوية والحرارة التي تميزكم عن الشيوخ المحطمين.
وأنتم طلاب علم، فعليكم واجب ثالث بقدر الثقافة التي تميزكم عن الجاهلين.
وأنتم حملة رسالة الإسلام، فعليكم واجب رابع بقدر الدراسات الإسلامية التي تميزكم عن المدنيين.
والآن يا أخي الأزهري:
إن مجدنا في الأولى والآخرة مرتبط بالعمل للإسلام، "ونحن إن لم نكن به لم نكن أبدًا بغيره"، وهو إن لم يكن بنا كان بغيرنا، وقد نِمنا زمنًا طويلاً فقيّض الله للدين أفرادًا وجماعات نفضت عنه غباره، وذادت عن حياضه، ونشرت تعاليمه، وأحيت في النفوس الأمل في سيادته.
ولولا نهوض هؤلاء في غفلة الأزهر، لكانت العاقبة تسوء المؤمنين وتسر الكافرين، ولكن دين الله أعز عبده من أن يتخلى عنه ويتركه بلا دعاة وجنود.
فالبدار البدار يا إخوة.
والعمل العمل للإسلام.
فإن العالم الإسلامي الآن يجتاز مرحلة دقيقة من حياته، وشبابه المؤمن في كل قطر يعمل جاهدًا من أجل دينه.
وعلينا أن نقوم بواجبنا الكامل في هذا الجهاد، وأن نشعل مصابيح الهدى في ليل الشك الذي أطبق على المسلمين ظلامه.
لا ننتظر جزاء إلا من الله الذي لا تضيع عنده الودائع، رابطين حاضرًا متحفزًا بماضٍ مجيد، متطلعين إلى غدٍ مزهر ومستقبلٍ منير.
يا شباب الأزهر
تستطيعون أن تكونوا قوة دافعة لهذا الركب المؤمن، وصوتًا عاليًا يجمع هذه القلوب على كلمة سواء، وأدلاء أمناء لهذه القوافل التي يحدوها الإيمان إلى ربها.
ففي رحاب الأزهر صورة مصغرة للجامعة الإسلامية، وميدان يجب أن تصنع فيه النماذج الإسلامية الكريمة.
فإذا انتشرت في قراها وأقطارها كانت خير عنوان للإسلام، واستطاعت بعزم وعلم وعمل أن تحول الآمال إلى حقائق، والفرقة إلى وحدة، والتخلف إلى سبق بعيد.
هذه مهمتنا التي ندبنا أنفسنا لها، وينتظرها منا مجتمعنا، ويحاسبنا عليها ربنا.
فاعملوا.. فسيرى الله عملكم ورسوله المؤمنون. وإن تتولّوْا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".
كان هذا ما كتبته سنة 1953 عن الأزهر ورسالة أبنائه، وكان الذي هيأت له نفسي: أن حياتي العملية بعد تخرجي ستكون كلها في رحاب الأزهر، فمن حقي -باعتبار تفوقي- أن أُعيَّن مدرسًا في معاهد الأزهر، ومن واجبي: أن أظلّ حاملاً راية الإصلاح للأزهر، التي حملتها وأنا طالب، وأن أتعاون في ذلك مع إخواني العاملين فيه من أبناء الأزهر المهمومين بقضيته وقضية الإسلام معه بل قبله.
ولكن الأقدار لم تسعدني بتحقيق ما أردت وما أعددت له عدتي، فمنعت من التعيين في الأزهر، وإن عدت إليه فترة قليلة من الزمن (نحو ثلاث سنوات) لا في التدريس ولا في الوعظ، ولكن في الإدارة العامة للثقافة الإسلامية، مع الأستاذ الكبير الدكتور محمد البهي رحمه الله، في المكتب الفني لإدارة الدعوة والإرشاد مع مدير الوعظ في ذلك الوقت العالم الجليل الشيخ عبد الله المشد رحمه الله. وذلك في عهد شيخنا الأكبر الفقيه العلامة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله.
ومن الأزهر أعرت إلى حكومة قطر للعمل في وزارة المعارف، وإدارة معهدها الديني الثانوي.
وسأعود إلى الحديث عن هذه الحقبة في قطر، عندما يأتي أوانها في هذا الجزء إن شاء الله.
ننقل هذه المذكرات عن موقع اسلام أون لاين . نت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق