الأحد، 20 أبريل 2008

الأمن الغذائي العربي (4)

أثر التغيرات الاقتصادية الدولية في الأمن الغذائي العربي
تعرض هذه الدراسة لأحد التحديات الكبرى التي تواجه النظام الاقتصادي العربي خاصة في جانبه الغذائي فترصد أهم التغيرات الاقتصادية الدولية وعلى رأسها العولمة وتحرير الاقتصاد. وقد ركز الباحث بشكل خاص على اتفاقية منظمة التجارة العالمية وجولاتها المختلفة بدءا بالأروغواي فمراكش مبينا ما انبثق عن ذلك من فرص وما نجم عنه من مخاوف تتعلق بالأمن الغذائي العربي.
إن التغيرات الاقتصادية العالمية المتلاحقة وبوتيرة متسارعة تفرض تحديات جسيمة على العالم العربي على مستوى حرية التجارة الدولية وتحرير رؤوس الأموال العالمية. هذه التحديات تمس في الصميم أمنه السياسي وتنميته الاقتصادية وتحديثه الاجتماعي كما تمس وبشكل مقلق أمنه الغذائي. لقد تناولت أقلام جادة ذات مشارب وإيديولوجيات مختلفة آثار هذه التحولات الاقتصادية الدولية على العالم ما بين منتقد لها ومشيد بها، متناولة بالدرس والتحليل التحدي الأعظم في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن الجديد: تحدي العولمة.
وقد أبرزت التحولات العالمية لهذه العولمة جدليات وتساؤلات معقدة، يعتبرها الأستاذ الشاذلي العياري تحولات تشكل قطيعة كلية لا على المستوى الإبيستمولوجي فحسب، بل كذلك على مستوى المبادئ والأسس والأخلاقيات التي تقوم عليها علاقة الإنسان بالأشياء وعلاقة الإنسان بالمجتمع، علاقة الإنسان بالمادة، وعلاقة الإنسان بالثروة، وعلاقة الإنسان بالتقدم، علاقة الإنسان بالسلطة وعلاقة الإنسان بالحريات. هذه التحولات الدولية تؤسس لنظام عالمي مطلوب من العالم العربي الاندماج فيه سواء كان ذلك عن اقتناع أو على مضض. يحمل هذا النظام العالمي في طياته -خصوصا بالنسبة للدول النامية والوطن العربي في مقدمتها- الكثير من المخاطر وإن كان يحمل أيضا في طياته الكثير من الفرص التي يمكن استثمارها. والمحصلة النهائية لأي قطر أو أمة سوف تتحدد بمدى الكفاءة والجدية في التعامل معه. فالتكتلات الاقتصادية العالمية بأسواقها الضخمة، ومنظمة التجارة العالمية وما تفرضه من أوضاع جديدة، لها آثار جسام، وسنحاول في هذا المقال تبيان تأثير التحولات الاقتصادية الدولية على الأمن الغذائي العربي مركزين بالخصوص على تأثير اتفاقيات منظمة التجارة العالمية.
التحولات الاقتصادية العالمية
1- خصائص التحولات الاقتصادية العالمية على مستوى الثروة الاقتصاديةمن الصعب حصر جميع خصائص التحولات الاقتصادية الدولية، إلا أننا سنركز على ميزتين أساسيتين هما:
الانتقال من اقتصاد صناعي تتشكل فيه الثروة من عناصر مادية بحتة إلى اقتصاد معرفي.
العوامل الإنتاجية أصبحت عوامل رمزية أكثر منها عوامل مادية.
- الثروة الاقتصادية الحديثة ثروة معرفيةمع التحولات الاقتصادية العالمية الراهنة تم الانتقال من الاقتصاد الصناعي المادي إلى الاقتصاد المعرفي. فبعد أن كانت الثروة الاقتصادية تتشكل من مكونات مادية وخدمية بسيطة انتقلت إلى مكونات مادية خدمية- معرفية. فلم تعد الثروة الاقتصادية مخزونات من أملاك عقارية واحتياطات معدنية نفطية وغير نفطية ومنتجات صناعية تحويلية وسلع زراعية أو أرصدة نقدية، بل أصبحت تشتمل كذلك على تدفقات خدمية رمزية تقانية ومعلوماتية ومالية ووسيطة واستشارية منظورة حقيقية وافتراضية. لذلك فإن دعم المحتوى المعرفي في الإنتاج الاقتصادي إنما أصبح بمثابة القاسم المشترك للسياسات الحديثة.
- عوامل الإنتاج الحديثة عوامل رمزيةإن عوامل الإنتاج تعني مجموع المدخلات الضرورية لإنتاج الثروة الجديدة من خدمات طبيعية ومواد وسيطة أو نصف مصنعة وطاقات ومعدات ميكانيكية وقوى عاملة موصوفة وغير موصوفة وموارد مالية ذاتية وخارجية وكفاءات ريادية وتنظيمية وتسييرية وقدرات ابتكاري. إلا أن هذه العوامل عرفت تحولات جذرية أدخلتها التغيرات الاقتصادية الدولية المصاحبة للعولمة الاقتصادية. يتمثل هذا التحول الجذري في ارتقاء عوامل الابتكار العلمي والتكنولوجي وكذلك الريادة والتنظيم والتسيير والتدبير والكفاءة المهنية والقدرة على اجتذاب رأس المال الأجنبي الخارجي. فلم يعد للخامات الطبيعية ولا للمواد الوسيطة ولا للطاقة ولا للمكننة ولا للعمالة البسيطة والنمطية الرخيصة ولا حتى للموارد الذاتية الدور والأهمية اللذان تحظى بهما في إنتاج الخيرات التقليدية.
2- التحولات الاقتصادية الدولية.. المزايا والفرص
إن الأدبيات الاقتصادية لمنظري العولمة تروج لهذه التحولات معتبرة إياها مرادفة للشفافية والوفرة والرخاء والتشغيل الكامل واستقرار الأسعار والتنمية المستديمة وحلول مجتمع العلم والمعرفة والابتكار وأنها تدفع الأمم والشعوب إلى الإنتاج النوعي وإلى تنمية قدراتها التنافسية. إلا أن هذه التحولات الاقتصادية تواجه انتقادات من مفكرين وبعض منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية باعتبارها مرادفة للظلم والحرمان والفقر والتهميش والإقصاء لجموع الشعوب المستضعفة.
3- المخاطرتعرض التحولات الاقتصادية الراهنة الاقتصاد العالمي إلى جملة من المخاطر نلخصها فيما يلي:
مخاطر الانكماش: أدت التحولات الاقتصادية إلى وفرة في السلع المعروضة ونقص في الطلب نتيجة لضعف القوة الشرائية مما يهدد الاقتصاد العالمي بمخاطر الانكماش والكساد.
تفاقم الثنائية الاقتصادية في اقتصادا الدول النامية: أدى إعطاء الأولوية لقطاع التصدير إلى احتكاره لعدد كبير من الاستثمارات والامتيازات والإعانات الحكومية وكذلك من التمويلات الدولية. مما زاد الهوة بين الاقتصاد المنتج والاقتصاد الاستهلاكي وبين اقتصاد العرض واقتصاد الطلب وبين الاقتصاد الرسمي واقتصاد الظل وبين الاقتصاد الذكي والاقتصاد الروتيني.
نقص الإنفاق الحكومي على الإعانات الاجتماعية: لقد أدت العولمة الاقتصادية وما رافقها من ليبرالية متوحشة إلى إضعاف دخول فئات اجتماعية كبيرة وتسريح الكثير من العمال مما أدى إلى تفاقم آفات البطالة والفقر والعوز والمرض والجهل والإقصاء والتهميش وزاد من هذه الآفات نقص الإعانات الاجتماعية والإنفاق الحكومي المخصص لتخفيف المعاناة الاجتماعية وحماية المواطنين.
تنامي النزاعات الحمائية الاقتصادية والتجارية ضد صادرات البلدان النامية: رغم اتفاقيات منظمة التجارة العالمية , فإن الأقطاب الاقتصادية الثلاثة الكبرى تتصارع وتتحايل على هذه الاتفاقيات وتحول دون دخول صادرات الدول النامية متخذة ذرائع مختلفة من بينها عدم مطابقة سلع البلدان النامية للمعايير الدولية المتفق عليها خصوصا إذا كانت سلعا غذائية وكذلك لعدم مطابقتها لمعايير أمان الغذاء.
و السؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كانت التحولات الاقتصادية الدولية تعد بالنماء والرخاء والتقدم والسلم والاستقرار والتعاون وتتوعد المنكمشين عنها بالتخلف والبطالة والجوع والعوز والتهميش والإقصاء والحرمان، فأين العالم العربي من مزايا الاقتصادية الاقتصادي ومخاطره؟ ذلك ما سنحاول الإجابة عليه من خلال تحليل نماذج الانفتاح الاقتصادي لدى البلدان العربية في ظل التحولات الاقتصادية العالمية الراهنة في الفقرات الموالية .
التوجهات العامة للسياسات التنموية العربية حيال التغيرات الاقتصادية العالمية
إن العالم العربي يعتبر حسب الاقتصادي الكبير الشاذلي العياري مجموعة من اقتصادات قطرية متناثرة ومتباينة من حيث مواردها الطبيعية وقدراتها الإنتاجية الذاتية، ومتباينة كذلك من حيث ارتباطها بالقوى الاقتصادية العالمية لذا فإن تقويم أثر التغيرات الاقتصادية الدولية في العالم العربي لا يحتمل التعميم ولا التنظير مما يجعل التقويم القطري المنهجية الوحيدة الكفيلة بإبراز ما تنطوي عليه الأوضاع الاقتصادية العربية الراهنة من تعقيد وتباين وتمايز. ويمكن تلخيص القواسم المشتركة للتوجهات العامة للسياسات التنموية في النقاط التالية:
عجز الإصلاح الاقتصادي العربي الراهن: لقد قام العديد من الأقطار العربية من بدء الثمانينات بإصلاحات عرفت ببرامج التكييف الهيكلي تحت رعاية البنك الدولي صندوق النقد الدولي ومكنت من إنجازات عديدة في ميادين الإصلاح الاقتصادي والتجاري والمالي والإداري والاستثماري والمؤسساتي العربي إلا أنها لم تعد ملائمة لرفع التحديات التي يواجهها العالم العربي في ظل تحديات العولمة . فهذه الإصلاحات عرفت أوجهاً ثلاثة للخلل:- الاهتمام بالسياسات الإصلاحية التي تركز فقط على الموازنات الاقتصادية الكلية على حساب تحسين البنية المؤسساتية الوطنية الحكومية والإدارية والإنتاجية الخاصة والعمومية.- انفتاح العالم العربي بصورة انفرادية على التكتلات الاقتصادية العالمية الكبرى دون اللجوء إلى أي تكتل إقليمي عربي.-عدم التدرج في الانتقال من مركزية القرار والتنفيذ والرقابة إلى التحرير الكامل أو شبه الكامل للسياسات الإنتاجية والنقدية والمالية.
التردد والحذر اتجاه اقتصاد السوق: لقد لوحظ في السنوات الأخيرة ارتفاع نصيب القطاع الخاص في مجموع الاستثمارات المحققة وإلى اقتحامه ميادين مختلفة. كما لوحظ تقلص تدخل الدولة مما ينعكس إيجابيا على العجز في الميزانيات العمومية العربية. إلا أن القطاع الخاص العربي يبدو غير مستعد للتخلي عن كل الحمايات والتسهيلات والضمانات والتمويلات والاحتكارات التي كان ينعم بها في ظل الدولة التدخلية مما يعبر عن موفق متردد وهش حيال مبادئ اقتصاد السوق.
الاقتصاديات العربية ومنظمة التجارة العالمية مزايا تحرر التبادل التجاري
تقوم نظرية حرية التجارة الدولية التي أسسها آدم اسميث وطورها بشكل أساسي ريكاردو وجون استوارت ميل على فكرة جوهرية تقضي بأن من مصلحة دولة ما أن تنتج سلعة ما إذا كان بإمكانها استيرادها بتكلفة مادية أقل كليا (اسميث) أو نسبيا (ريكاردو وميل). وعلى هذا الأساس فإن من مصلحة دولة ما أن تتخصص في فروع الإنتاج التي تتوافر لها فيها ميزة نسبية وأن مشاركتها في التجارة الدولية الحرة، استنادا إلى هذا التخصص، سيؤدي إلى تعظيم منفعتها. ولا شك أن التركيز على التبادل التجاري الحر وما يعنيه من تدويل للإنتاج العربي يتضمن الكثير من الفرص والمزايا مما يجعل دعمه وتعميقه وتوسيع رقعته الجغرافية أمرا مرغوبا فيه باعتباره عنصرا حاسما من عناصر التنمية المنفتحة والتوظيف الأمثل للموارد الإنتاجية المتاحة، وضمان أسواق للمنتجات التقليدية ودعم القدرة التنافسية الدولية وتنوع القاعدة التصديرية والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة، والحث على المزيد من الاستثمارات في البحث والتطوير وتقوية أواصر التعاون العمل المشترك والإنتاج الإقليمي. إلا أن الاقتصاديين يتحفظون على حرية التجارة بين قطرين أو كتلتين أو قطبين اقتصاديين الأول متقدم والآخر متخلف ويعتبرون أن ذلك سيؤدي إلى تكريس تخلف هذا الأخير.
واقع التجارة العربية الدوليةعرفت الصادرات العربية خلال عقد التسعينات زيادة كبيرة يرجعها الاقتصاديون إلى نمو الطلب العالمي ككل أكثر من كونها نتيجة لتحسن القدرة التنافسية العربية الدولية أو لتنوع القاعدة التصديرية. فالتجارة العربية الدولية تعاني من خلل أساسي يتمثل في تركيبة الصادرات والواردات العربية. فعلى الرغم من أهمية إيرادات الدول العربية من العملة الصعبة إلا أنها تكاد تنحصر في السلع التحويلية والخدمات التقليدية مثل السياحة وتحويلات العمال المهاجرين، إلا أن نصيبها من السلع الرأسمالية وبخاصة المتطورة ضعيف مما يعكس موازنة تكنولوجية مفقودة في التبادل العربي الدولي.آثار منظمة التجارة العالمية على الأمن الغذائي العربي
لقد تم تأسيس ثلاث مؤسسات اقتصادية عالمية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتي تعتبر أول نواة لمنظمة التجارة العالمية الحالية. وتضمنت الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية أحكاما خاصة تأخذ بعين الاعتبار توازنا ضروريا بين حماية الإنتاج المحلي وزيادة معدلات التجارة الدولية. وقد نجحت الدول الموقعة على اتفاقية "الجات" في تخفيض التعرفة الجمركية بصفة عامة على المنتجات المصنعة, من متوسط يتجاوز 40 % إلى نحو 5 % حاليا. إلا أن هذه الاتفاقيات استثنت الزراعة بصفة عامة من أحكامها. وقد ظلت التجارة الدولية عقودا عديدة تعاني من مشاكل كبيرة بسبب ما تطرحه الزراعة من مشاكل. وفي التحولات الاقتصادية الحالية تم تطوير اتفاقيات ما يعرف ب"الجات" على ما يعرف اليوم بمنظمة التجارة العالمية لتشمل الزراعة وذلك بعد سلسلة من المفاوضات الشاقة. ففي عام 1994 تم التوقيع من طرف 121 دولة في مراكش على اتفاقيات جولة الأوروغواي حول التبادل الدولي. وقضت هذه الاتفاقية بأن يرفع الدعم تدريجيا وخلال عشر سنوات من حينه, عن المنتجات الزراعية المعدة للتصدير وهذا يعني أن أسعار هذه السلع سيرتفع بشكل ملحوظ خلال السنوات القادمة مما سيؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار هذه المنتجات في سائر البلدان العربية التي تعتمد بشكل رئيسي على استيراد هذه المنتجات المدعومة حاليا. ولكن يجب أن نحاول تناول الموضوع من حيث الآثار الإيجابية والسلبية لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية على الأمن الغذائي العربي. و قد أصبحت هذه الاتفاقية سارية المفعول ابتداء من يناير 1995 وتتولى منظمة التجارة العالمية إدارة وتنفيذ الاتفاقيات التي تم التوصل إليها. وبميلاد هذه المنظمة تشكل الإطار التنظيمي المؤسسي لتطبيق الاتفاقيات التي حلت محل "الجات" وقد شملت المنظمة ثلاث مجالس هي : مجلس التجارة للسلع ومجلس التجارة للخدمات ومجلس التجارة لحقوق الملكية الفكرية. يضاف إلى المجالس الثلاثة جهاز تسوية المنازعات ونظام مراجعة السياسات التجارية للدول الأعضاء. وتضمنت اتفاقيات منظمة التجارة العالمية حول تحرير التجارة الدولية للسلع الزراعية مجموعة من الأحكام نوجزها فيما يلي:
تخفيض القيود الجمركية.
فتح الأسواق أمام الواردات.
تخفيض دعم الإنتاج.
التزام الدول المتقدمة بتخفيض قيمة الدعم الكلي بمقدار معين خلال فترة محددة.
ومع ذلك فهناك الكثير من الاستثناءات ببرامج الخدمات الحكومية: الأبحاث الخاصة لإنتاج المحاصيل الزراعية، مقاومة الآفات والرقابة على الحجر الزراعي والتدريب والاستثمارات في تقديم المعلومات ونتائج البحوث بين المنتجين والمستهلكين، خدمات التسويق والترويج ومعلومات السوق، البنية التحتية من طرق وموانئ ومشروعات الصرف. وتتمتع الدول النامية على نفس الاستثناءات مع استثناءات أخرى تتعلق بالاستثمارات الزراعية ودعم مدخلات الإنتاج للزراع الفقراء. ويجري تطبيق الاتفاقيات طبقا لجدول زمني يشتمل على فترات سماح.
1-الآثار السلبية المتوقعة لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية على الأمن الغذائي
ينص التقرير الاقتصادي العربي الموحد (سبتمبر/ أيلول 2001) على أنه من المتوقع أن تتأثر أوضاع الزراعة العربية بشكل مباشر عند اكتمال تنفيذ اتفاقيات دورة أوروغواي في عام 2005 , وبخاصة من الجوانب المتصلة بإدخال الزراعة في عملية تحرير التجارة, وتلك المتصلة بتدابير الصحة النباتية وحقوق الملكية الفكرية، بالإضافة إلى أمور أخرى تتصل بقواعد المنشأ والفحص قبل الشحن وفي هذا الإطار سنحاول التركيز على بعض النقاط:
ارتفاع أسعار السلع الغذائية : تتوقع دراسة أعدتها المنظمة العربية للتنمية الزراعية حول الآثار المتوقعة لتحرير التجارة الزراعية الدولية أن تحرير التجارة العالمية في السلع الزراعية سوف يسبب ارتفاع أسعار الحبوب الغذائية وكذلك انخفاض الإنتاج الحيواني في دول المجموعة الأوروبية بسبب تخفيض الدعم، وبالتالي تتوقع ارتفاعا في الأسعار العالمية للحوم والألبان. وأغلب النماذج تتوقع ارتفاعا في أسعار معظم السلع الزراعية... وتقدر خسائر الدول العربية، نتيجة ارتفاع أسعار الغذاء الناجم عن تحرير التجارة الزراعية العالمية، بنحو 664 مليون دولار (زيادة في قيمة الواردات للدول العربية). وكذلك تقدر الخسائر في صورة نقص الرفاهية الاجتماعية للدول العربية بمقدار 887 مليون دولار7. ولبيان ذلك نشير إلى أن الدول المتقدمة كانت تتبع سياسة دعم الزراعة وبذلك تكون صادراتها إلى الدول النامية من المواد الغذائية رخيصة مما يؤدي إلى تشجيع هذه الدول إلى الاستيراد بدل أن تنتج غذاءها محليا. إلا أن الدول المتقدمة مضطرة الآن لرفع الدعم الزراعي مما سينعكس سلبا على واردات الدول العربية من السلع، وبالتالي زيادة كبيرة في قيمة فاتورة الغذاء المستورد.
تراجع مؤسسات التمويل وتوفير مستلزمات الإنتاج والتسويق تعتمد الزراعة العربية على مستوى مستلزمات الإنتاج على مجموعة من المؤسسات تهدف إلى توفير مستلزمات الإنتاج الحديث كالأسمدة الكيميائية والمبيدات والبذور المحسنة والجرارات والآلات الزراعية. أما على مستوى التمويل فإنه يوجد في البلدان العربية مجموعة من المؤسسات المختصة في الإقراض الزراعي على المديين المتوسط والطويل تؤمن في حدود معينة –مع اختلاف كبير بين الدول العربية- الحاجة إلى التمويل وبفوائد منخفضة، وتوجد مؤسسات عربية أخرى تقوم بتسويق المنتجات العربية وتشجيع المنتجين على زيادة إنتاجهم, وتشجيع المستهلكين على زيادة الاستهلاك من خلال إيجاد طلب جديد أو استعمال جديد لسلعة معروفة. إلا أن هذه المؤسسات سيرفع عنها الدعم الحكومي العربي مما سيؤثر عليها سلبا ولو لبعض الوقت إضافة إلى معوقاتها في السابق وذلك نتيجة مضامين اتفاقيات منظمة التجارة العالمية.
ارتفاع أسعار التكنولوجيا الحيوية الحديثةفي ظل تآكل الموارد الطبيعية الزراعية العربية فإن الدول العربية ستصبح مضطرة على الاعتماد وبالأساس على قدرات العلم والتكنولوجيا التي ستشكل فيه التكنولوجيا الحيوية الحديثة من هندسة للوراثة وزراعة الأنسجة وتكنولوجيا المعلومات الدور الأساسي في الارتقاء بإنتاج الغذاء. وتشمل التكنولوجيا الحيوية مدى واسعا من التكنولوجيات الحيوية التقليدية والمستخدمة على نطاق واسع والقائمة على الاستخدام التجاري للميكروبات والكائنات الحبيبية الأخرى والطور الثاني ويشمل زراعة الأنسجة والطور الثالث الهندسة الوراثية. وتفسح التكنولوجيا الحيوية الحديثة مدخلا بعيد الأثر لتحسين المحاصيل الزراعية النباتية وتحسين الإنتاج الحيواني. إلا أنه في ظل اتفاقيات منظمة التجارة العالمية فإن حقوق الملكية الفكرية سوف يكون لها آثر بعيدة المدى خاصة في مجال التكنولوجيا الحيوية الحديثة وعلى وجه الخصوص هندسة الوراثة والتكنولوجيات المتقدمة لزراعة الخلايا والأنسجة سواء للحاصلات النباتية أو الثروة الحيوانية. هذه التكنولوجيا الحيوية الحديثة سترتفع أسعارها وتكلفتها وبصفة خاصة تربية الأصناف النباتية والسلالات الحيوانية والصناعات الغذائية والبيطرية وغيرها.
2- الإيجابيات المحتملة لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية على الأمن الغذائي
من المتوقع أن تستفيد الدول العربية من التحولات الاقتصادية العالمية وخصوصا التغيرات المتعلقة بتحرير التبادل التجاري. إلا أن الدول العربية تختلف فيما بينها حسب درجة تأثرها واستفادتها تبعا لهيكل صادراتها ووارداتها. فالدول العربية التي تعتمد على صادراتها الزراعية ستستفيد من فتح الأسواق العالمية نتيجة لتخفيض القيود الجمركية وغير الجمركية وستستفيد أيضا وبصفة عامة من فتح الأسواق أمام صادراتها. وستستفيد كذلك الدول العربية من ضبط قواعد السلوك فيما بينها ومن وضع محكمة لتسوية المنازعات الناشئة عن العلاقات التجارية اعتمادا على القواعد العامة الواردة في الاتفاقيات الدولية. وسنحاول فيما يلي التركيز على بعض إيجابيات اتفاقيات منظمة التجارة العالمية على الأمن الغذائي العربي:
تشجيع الاستثمار في الزراعة لقد أدى دعم الدول المتقدمة لزراعتها في السابق إلى آثار سلبية على الدول النامية المستوردة للمنتجات الغذائية نتيجة لتأثير هذه المنتجات الرخيصة السعر على التنمية الزراعية ولو أنه يوفر في قيمة فاتورة الغذاء التي تقوم هذه الدول بدفعها. وفي ظل التحولات الاقتصادية العالمية المصاحبة لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية سيتم رفع الدعم عن السلع الزراعية وسيؤدي ذلك إلى رفع فاتورة الغذاء. إلا أن رفع هذا الدعم سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار في السوق المحلي والعالمي مما سيؤدي في النهاية إلى تشجيع الاستثمار في الزراعة ومن ثم إلى زيادة في الإنتاجية والإنتاج الكلي وبالتالي زيادة درجة الاكتفاء الذاتي وانخفاض الواردات من السلع الزراعية.و سنحاول تقديم أمثلة على دور ارتفاع الواردات الغذائية في تشجيع الاستثمار الزراعي. فإذا ما نظرنا إلى الحالة المصرية فسنلاحظ أنه ابتداء من 1987-1988 حرصت الدولة المصرية على إعادة النظر في مراجعة السياسات السعرية الزراعية في إطار سياسات الإصلاح الاقتصادي. وقد تبنت وزارة الزراعة خطة تتعلق بالسياسة الزراعية تقر تحرير قطاع الزراعة من القيود المفروضة عليه تدريجيا وإعطاء الحرية الكاملة للمزارع بزراعة المحاصيل وتسويقها وشراء مستلزمات الإنتاج وإلغاء الدعم. ونتج عن سياسة تحرير الأسعار الزراعية بعض الآثار الإيجابية كالزيادة في المساحات المزروعة بالمحاصيل الإستراتيجية من قمح وأرز وذرة شامية... وإذا ما حاولنا التركيز على سياسة القمح في مصر فإنها ظلت ولفترة طويلة تعتمد على واردات القمح الرخيص المدعوم من طرف الدول المنتجة المصدرة, وأسعار قمح محلية منخفضة وعندما تغيرت الظروف, وارتفعت أسعار القمح المستورد وقاربت أسعار القمح المحلي الأسعار العالمية زاد ذلك من اهتمام المزارعين بمحصول القمح والاستثمار فيه, فزادت الإنتاجية والمساحة المزروعة ومن ثم زاد الإنتاج الكلي وزادت نسبة الاكتفاء الذاتي وفيما بين عامي 1985 و1993 زادت الإنتاجية من 3760 إلى 5255 كجم/هكتار وزادت المساحة المزروعة من 498 إلى 894 ألف هكتار وزاد الإنتاج الكلي من 1,87 إلى 4,78 مليون طن ومن ثم أنخفض الاعتماد على الاستيراد وزادت نسبة الاكتفاء الذاتي من 21 % إلى 49 % . من الأمثلة على تأثير قرارات منظمة التجارة العالمية نذكر أن التوسع في زراعة القمح في المملكة العربية السعودية كان تجربة رائدة لإثبات القدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه السلعة الإستراتيجية دفعا لمخاطر الاعتماد السابق على الاستيراد, هذا على الرغم من أن تكاليف الإنتاج عالية ونسبة الدعم عالية. فقد تحملت الدولة نسبة 45 % من قيمة الأسمدة المحلية والمستوردة وقدمت البذور بأسعار رمزية. وتعهدت الدولة بشراء محاصيل القمح والشعير من المزارعين بأسعار تشجيعية. ونتيجة لهذه الإجراءات بلغ الإنتاج السنوي من القمح في المملكة العربية السعودية نحو 3,8 مليون طن عام 1991 و4,2 مليون طن عام 1992 بعد ما كان سنة 1970 حوالي 26 ألف طن فقط. وفي ظل اتفاقيات منظمة التجارة العالمية فإن على المملكة العربية السعودية لكي تتأقلم مع هذه التحولات الاقتصادية العالمية أن ترفع الدعم. إلا أن رفع الدعم سيؤدي إلى ارتفاع أسعار القمح وبالتالي تشجيع المزارعين على الاستثمار فيه مما سيحقق كفاءة إنتاجية أكبر. فمن الطبيعي أن تواجه هذه السلعة الإستراتيجية مشاكل نتيجة لرفع الدعم إلا أنها في المدى المتوسط والطويل سوف تعزز من قدرتها التنافسية.
خاتمة:
يعتبر الأستاذ المتميز الشاذلي العياري: "أن المخاض التنموي العربي لم يزل مخاضا تائها بين جدلياته ومتناقضاته وثنائياته المستعصية التي فقدت نصيبا وافرا من أهميتها ومكانتها في ظل التغيرات الاقتصادية الدولية الراهنة... وأن التهميش الذي يعاني منه الاقتصاد العربي المعاصر يبقى إلى حد كبير تهميشا إراديا. فلا البلدان العربية اهتدت إلى استنفار مواردها الضخمة لصالح التنمية ولا هي أهلت نفسها لاقتحام تحديات التغيرات الكونية الجارفة ولا هي أعتقت شعوبها من رقبة وركام المأساة المستديمة, وجذرت فيها قيم الإبداع والخلق والابتكار والتقدم والمبادرة والتوق إلى ما هو أفضل". إن التغيرات المحتملة لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية على الزراعة العربية ستجعل الاقتصاد العربي أمام استحقاق كبير وذلك عند اكتمال تنفيذ اتفاقيات أوروغواي عام 2005 . فعند إدخال الزراعة في تحرير التجارة سيجد العالم العربي نفسه أمام مجموعة من التحديات: فمن جهة ستزداد فاتورة الغذاء على الدول العربية المستوردة وما ينجر عن ذلك من آثار سلبية نتيجة لاحتمال ارتفاع أسعار المواد المستوردة وتخفيض الدعم الذي كانت تتمتع به بعض المنتجات الزراعية في الدول الصناعية مما يؤدي إلى زيادة في قيمة وارداتها الزراعية. ورغم الآثار السلبية المحتملة جراء تحرير التبادل التجاري الزراعي فإن القواعد التي من المحتمل أن تجنيها الدول العربية من انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية أكثر مما قد يترتب على عدم انضمامها من آثار سلبية. لذلك فإن منظمة التجارة العالمية تفرض أوضاعا عديدة على الزراعة العربية وعلى الأمن الغذائي بصفة عامة وتخلق صعوبات وتنتج فرصا, لذلك فإن أثرها، إيجابيا كان أو سلبيا، يتوقف على قدرة الاقتصاد العربي على تقليل الخسائر وتعظيم المكاسب وما يتطلب ذلك من استراتيجية وتكيف مع التحولات الاقتصادية العالمية الراهنة. ولذلك فإننا نقترح موجهات كبرى للتكيف مع الظروف الاقتصادية العالمية الجديدة:
العمل على تحسين القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية العربية في الأسواق المحلية والعالمية في ظل التحولات الاقتصادية الراهنة التي فرضتها اتفاقيات منظمة التجارة العالمية ولن يتم ذلك إلا من خلال إستراتيجية تجعل من بين أهدافها تحقيق الكفاءة الإنتاجية وما يتطلبه ذلك من خفض للتكاليف. ثم إن القدرة التنافسية ليست مبنية فقط على خفض التكاليف وإنما أيضا على الرفع من مستوى الجودة.
تفعيل وتسريع خطوات التكامل العربي, فعلى الرغم من المبادرات والمشاريع والمقترحات وجهود العمل الاقتصادي العربي المشترك والتي امتدت لعدة عقود فإنها ليست على مستوى الطموح ولا تتناسب مع الموارد والإمكانيات المتاحة من ناحية ومن الضرورات الموضوعية لمزيد من خطى التكامل من ناحية أخرى.
ففي ظل التحولات الاقتصادية العالمية وما فرضته اتفاقيات منظمة التجارة العالمية من تحديات على الاقتصاد العربي بصفة عامة وعلى الأمن الغذائي بصفة خاصة فإن على الدول العربية من أجل رفع هذه التحديات ومواجهة التكتلات الاقتصادية العالمية والإقليمية تسريع خطوات التكامل سواء في إطار منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى أو بالمزيد من الاقتصادية على بعضها البعض.

ليست هناك تعليقات: