الاثنين، 14 أبريل 2008

مذكرات القرضاوي (9)

صلاة المغرب التي لا تنسى..
بعد هذه الأحداث الجسام، وضرب الإخوة الذين اجترأوا على دق باب الزنزانة لاستسقاء الماء ليشربوا، ثم ضرب الأخ الصبور البطل حلمي مؤمن… وغير ذلك من الأحداث التي تراكمت، ظهرت بادرة غريبة من إدارة السجن لم تكن معهودة ولا متوقعة؛ فقد أراد باشجاويش السجن أمين السيد وأعوانه أن يتقربوا من الإخوان، ويعتذروا إليهم عما حدث في المدة الماضية، ويسألوهم العفو والصفح؛ فهم أهل للعفو والسماح، وأن يبدءوا معهم صفحة جديدة، وعفا الله عما سلف.
ويبدو -والله أعلم- أن هذه البادرة كانت مقدمة لسياسة جديدة، يريدون أن يداووا بها بعض جراح نفوس الإخوان، حين بدءوا يفكرون في الإفراج عنهم بالتدريج. وقد قيل: إن هذا الانفتاح كان بناء على وساطة من الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية.
على كل حال نودي على الإخوان بعد أن فُتحت الزنازين، ونزل الإخوان من الدورين الثاني والثالث، وانضموا إلى إخوانهم من نزلاء الدور الأول في ساحة السجن الفسيحة. وجلس الجميع كأن على رؤوسهم الطير، وطلب من أحدهم أن يبتدئ هذا الجمع بتلاوة من القرآن الكريم، فقرأ أحد الإخوة آيات كريمة من سورة آل عمران؛ مما نزل في محنة غزوة أحد، ابتداء من قول الله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} إلى قوله تعالى: {فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 138-148). وكانت هذه الآيات بردا وسلاما على قلوب الإخوان.
ثم طلب من الإخوان أن يتكلم واحد منهم؛ ليعلن عن عفو الإخوان عما أصابهم، وصفحهم عمن أساء إليهم، فتطوع بالكلام عنهم فضيلة الأخ الواعظ الجليل الشيخ مختار الهايج -وكان له من اسمه نصيب- قائلا بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله: إني لا يسعني إلا أن أزف خالص تهنئتي إلى جنود مصر البواسل حرس السجن على انتصاراتهم في معاركهم المتواصلة ضد نزلاء السجن من مواطنيهم الذين لم يقترفوا جرما إلا أن يقولوا: ربنا الله.. أهنئهم بهذه الانتصارات الساحقة التي حققوها وأخضعوا بها رقاب المسجونين، وأتمنى لهم من كل قلبي انتصارات مماثلة على اليهود المغتصبين في أرض فلسطين!!
وما كاد الشيخ مختار يتم كلمته حتى تكهرب الجو، وتطاير الشرر، وهيج الشيخ الهايج عش الدبابير، وعادت ريمة لعادتها القديمة، ورُد الإخوان إلى الزنازين، وأُخذ الشيخ الهايج إلى زنزانة انفرادية؛ عقوبة له على سخريته بالسجانين. حتى أذن بالانفراج مرة أخرى. وقد قال الشاعر:
اشتدي أزمة تنفرجــي قد آذن ليلك بالبلــج
ومن الوقائع التي أذكرها ولا أنساها، ويذكرها معي كثير من الإخوة، ويذكرونني بها كلما لقوني: صلاة المغرب الوحيدة التي سمح لنا أن نؤديها كلنا جماعة في السجن الحربي، بعد أن بدأت الغيوم تتكشف، والأحوال تتحسن، وكان باكورة ذلك أن نودي علينا لنقيم الجماعة في ساحة السجن، ودوى الأذان في ساحة السجن: الله أكبر، الله أكبر، وتجمع كل الإخوان من أدوار السجن الثلاثة، ونحن لا نكاد نصدق ما يجري: أحلم هذا أم حقيقة؟
وقدمني الإخوان لأؤمهم في صلاة المغرب، واعترتني حالة من الرقة والخشوع لا أنسى حلاوتها، وتلوت القرآن بصوت مؤثر يكاد يهز أركان السجن الأربعة، قرأت في الركعتين الربع الأخير من سورة آل عمران: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) ومررت بالآيات التي تتضمن دعاء أولي الألباب (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
وكان من هذه الأدعية (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
كنت أشعر كأني لا أقف على الأرض، ولكني أحلق في أفق عال، وكنت كأنما أسمع رجفات قلوب الإخوان من خلفي، وأنا أتلو الآيات من خواتيم سورة آل عمران. وكأنما أجد في الآيات معانيَ جديدة ما كنت أجدها من قبل، حتى انتهيت إلى ختام السورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وقد وجدتني أقرؤها هكذا:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وسلمت وسلم الإخوان، ووجدت الدموع على الخدود، لا أدري أهي دموع الخشية، أم دموع الرحمة، أم دموع الفرحة؟
يا سبحان الله، كيف أصبحت ساحة السجن التي طالما كانت ساحة للتعذيب والتكدير، والتي عوقبنا فيها ليلة المحاكمة المشهودة، والتي كُم نصبت فيها "العروسة" (صليب خشبي يحتضنه المعذب موثوق الأيدي والأرجل، ويجلد عليه) لعقاب المتمردين، والتي شهدنا فيها الضرب الوحشي للأخ حلمي مؤمن، والتي جُمعت فيها المصاحف وحُرقت… وغيرها وغيرها، كيف تحولت إلى جامع كبير لمثل هذه الصلاة التاريخية؟! لا نقول إلا: سبحان مغير الأحوال.
ووقف جنود السجن مشدوهين متأثرين من هذه الصلاة.
وطلب إليّ الإخوان بعد الصلاة أن ألقي كلمة، فاعتذرت، فلم تكن عندي رغبة في الكلام بعد هذه الصلاة. فتقدم الأخ الأستاذ فريد عبد الخالق، فقال: إنها والله فرصة تُغتنم، وإنما لكل امرئ ما نوى. وألقى كلمة توجيهية، بعث بها الأمل في النفوس، وأن الفجر قريب، وأنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.
بين رمضانين
ولكن هذه الصلاة الحلوة التي قرت بها الأعين، واطمأنت بها القلوب، لم تتكرر بعد ذلك؛ فكانت هي الأولى والأخيرة، ويبدو أنهم شاهدوا بأعينهم أثر هذه الصلاة الجماعية في تثبيت الأفئدة، وشد العزائم؛ فلم يسمحوا لنا بصلاة أخرى على غرارها، حتى فتحت الزنازين، وأذن لنا بالاختلاط، والزيارات، عند بداية الإفراجات، سمحوا لنا بصلاة الجماعة داخل كل زنزانة، أو لا مانع أن يجتمع أكثر من أفراد زنزانة للصلاة، ولكن داخل الزنازين.
وظل الإخوة يذكرون هذه الصلاة بعد مرور السنين، ويذكرونني بها إذا لقوني.
أذكر أني أول ما لقيت الأخ "يوسف ندا" في سويسرا في السبعينيات قال لي: هل تذكر صلاة المغرب التي أممتنا فيها في السجن الحربي؟
قلت: وهل مثل هذه الصلاة تنسى؟ إني لم أشعر في حياتي بحلاوة صلاة تساوي أو تداني هذه الصلاة التي أحسست وتذوقت فيها قول رسولنا الحبيب: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"!!
بين رمضانين: توسعة وفرج بعد ضيق وشدة..
وصمنا رمضان آخر في السجن، ولكن ما أعظم الفرق بين الرمضانين! كان رمضان الأول في عهد شدة ومجاعة وتضييق في كل شيء، وجاء رمضان الآخر ونحن في حالة يسر وشبع وتوسعة في كل شيء.
لم نعرف في رمضان الماضي أكل (الخشاف) من الزبيب والتين، ولا شرب قمر الدين، وفي رمضان هذا كان لدى الإخوة الموسرين من هذا الكثير، وكانوا يجودون على إخوانهم الفقراء من أمثالنا، بل كانوا يقاسمونهم كل ما عندهم ولا يستأثرون عليهم بشيء.
كنا في رمضان الماضي نخاف أن نجهر في الزنازين بقراءة القرآن أو بصلاة التراويح؛ فهذا من الممنوعات، فأمسينا اليوم نتلو القرآن جهارا، ونصلي التراويح علنا، دون أن يلومنا أحد؛ فسبحان مغير الأحوال.
كان الإخوة يقدمونني لأصلي بهم في إحدى زنازين الركن، وهي عادة أوسع من غيرها، وكان يصلي ورائي عدد من الإخوة الكبار: عبد العزيز كامل، وتوفيق الشاوي، وفريد عبد الخالق، وأحمد الملط، وأحمد العسال، ويوسف توبة، وكامل سليم، والحاج عبد الحكيم شاهين… وآخرون لا أذكرهم.
السماح بزيارة أقارب المعتقلين لهم
ومما سمح به أخيرا للمعتقلين: زيارة أقاربهم لهم، وقبول الرسائل والطرود الواصلة من ذويهم إليهم، وكان هذا محظورا تماما.
وكان جل الذين انتفعوا بهذه الزيارات -وخصوصا في مناسبات معينة مثل عيد الفطر وعيد الأضحى، وما سمي عيد الأم في 21 مارس- إخوان القاهرة والجيزة؛ فهم الذين علموا بهذا الإذن، وأبلغ بعضهم بعضا بذلك. أما أبناء الأقاليم، فقلما يعرفون بذلك إلا بعد أن يفوت الأوان.
وقد التقت في هذه الزيارات الوجوه بالوجوه، وتصافحت الأيدي، وتعانقت الأبدان، وذرفت الأعين الدموع، دموع الفرح باللقاء بعد الشوق والحرمان الطويل على نحو ما قال القائل:
ورد الكتاب من الحبيب بأنه سيزورني فاستعرت أجفاني
غلب السرور علي حتى إنه من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين قد صار البكا لك عادة تبكين في فرح وفي أحزان
وفي أيام الزيارات حدثت مفاجآت مذهلة، ومفارقات عجيبة، خليقة أن تفتت الأكباد، وتقطع نياط الفؤاد.
فكم من إخوة جاءوا ليزوروا أخاهم الذي اعتقل من بينهم فلم يجدوه، وكم من أم اختُطف وحيدها من بين أحضانها، فلم تجد له أثرا، ولم تسمع عنه خبرا، ولم يجرؤ أحد أن يفضي إليها بسره؛ فقد خر شهيدا في أتون العذاب، ووري جسده التراب، وهذه الحالة هي التي عبرت عنها في قصيدتي: أم زائرة ولا مزور!
قدمت إلى السجن الكبير يهزهاوقفت مع الزوار ترقب لحظةهي لحظة اللقيا الحبيبة بعد ماطال انتظار الأم أصعب برهةرأت النساء مزغردات حولهاإلا فتاها! ياترى ما عاقه؟!أم يا ترى يشكو السقام؟ فديتهفرغ الفؤاد من التصبر، بعد ماصاحت مزمجرة كنمرة غابة:ما بالكم لا تنطقون؟ هبلتموا!!خرس الجميع سوى دموع أحبةصرخت، وقد وعت الحقيقة مرةخرت من الإغماء، هد بناءهاقتل الفتى، والأم لا تدري بهكم عذبوه وهو يحتمل الأذىراموه معترفا بما لم يأتهلم يغرّه وعد بما مَنُّوه منفتكالبوا مثل السباع لنهشهصبوا عليه عذابهم ونكالهمحتى قضى نحبا، وأسلم روحهلم ينهزم، والله، بل هزم الألىرحمى الله وقد استردت وعيهاقتلوك يا ولدي! ألا شُلت يدما كان جرمك يا بني، ولم تكنلو أنهم سألوا المكارم والتقىهل كان جرمك أن عزفت عن الخناهل كان جرمك أن تعيش لفكرةتدعو لنهج الله، نهج محمدكم أرقتك هموم أمتك التيهام الشبيبة في سعاد، ولم تهمعشقوا ملاهيهم، وعِشْقُك مصحفما كنت تصحب غير أرباب التقىلم تَحْنِ رأسك للطغاة، ولم تدنُووقفت في صف الضعيف، ولم تمِللم ترضَ يوما أن تباع بضاعةوأبيت تركع للجبابرة الألىورفعت بالتوحيد رأسك عاليايا ويل أرض تقتل الأطهار منويبيت فيها الفرد حرا آمناكم كنت آمل أن أراك وإن تكنيا يوم عيد قد رجوت صباحهورجعت بالحسرات تأكل مهجتيأضناني الثكل الحزين، فليتنيما الأرض إلا غابة قد موهتما أهلها إلا وحوش غطيتضاقت علي الأرض وهي فسيحة
فرح اللقاء ببدرها الموعودعدت بعمر في الزمان مديدذاقت عذاب البعد والتشريدممزوجة الخفقات بالتنهيد!فرحا بلقيا ابن وضم حفيدأولم يزل في القيد والتصفيد؟!بالنفس! أسئلة بغير ردود!يئست، فليس الصبر دون حدودلم قد تأخر فارسي ووحيدي؟أين الرجاء، الحلم؟ أين عمودي؟!والدمع خير معبر وشهيد!لا، لا! أعيدوا لي بني وليدي!نبأ يزلزل ركن أي مشيد!من بعد ليلة خطفه المشهودبثبات أطواد وقلب أسودفأبى إباء الفارس الصنديددنيا، ولم يحفل بهول وعيدصنع الجبان الخائن الرعديدبأكف سفاح وقلب حقودمتغنيا بشهادة التوحيدقتلوه قتلة مؤمني الأخدودوغدت تصيح بحسرة وشرود!مُدت إليك بقسوة وجحود!في الناس غير الطاهر المحمود؟!والبر عنك، لكن خير شهود!وعففت عن ورد لهم مورود؟!لا للمجون ولا ابنة العنقود؟!لا نهج فرعون ولا نمرود؟!كسرت جحافلها أمام يهود!إلا بسعد تراثنا وسعيد!تتلوه بالترتيل والتجويدمن صائمين وركع وسجوديوما لغير الواحد المعبودنحو القوي ورفده المرفودللأجنبي وماله الممدودحكموا، ولم يك حكمهم برشيدقتل الألى قتلوك للتوحيد!أبنائها في غلظة وكنود!ما عاش عيش الفاجر العربيد!أمسيت ترسف في دم وصديدففجعتني، لا كنت يوم العيدورجعت بالعبرات فوق خدوديووريت قبل اليوم بطن لحود!بزخارف العمران والتشييد!أنيابها بملابس وبرود!ما أضيق الدنيا بدون شهيدي!
ومن دلائل الانفراج، وبشائر الإفراج: عودة الكتب التي كانوا قد صادروها منا، وقد فرحنا برجوعها إلينا كما تفرح الأم بوحيدها إذا عاد إليها بعد سفر وطول اغتراب. وشرعنا ننظم القراءة فيها، ويتبادلها بعضنا من بعض. وأذكر أننا قرأنا في تلك الفترة بعض الفصول من كتاب (نيل الأوطار) للشوكاني، وخصوصا في أبواب البيوع وما يتعلق بها، وكنت أقرؤها أنا والأخ أحمد العسال، والأخ يوسف علي يوسف نوبة، الذي كان له وقفات وتعليقات جيدة من وجهة النظر الاقتصادية التي درسها، وقد عرفت في هذا أن تكامل الاختصاصات وتلاقحها في الدراسة يمكن أن يكون له ثمرات طيبة، تفيد الطرفين جميعا، بخلاف العزلة الثقافية، فإنها لا تثمر إلا الجمود والانغلاق.
دروس توجيهية.. وجلسات فقهية
وفي فترة الحرية والبحبحة لم يضيعها الإخوان سدى، بل اجتهدوا أن يستغلوها استغلالا حسنا، ولا سيما بعد المدة الطويلة التي أرادوا أن يمحوا فيها معارفنا، وينسونا كل ما تعلمنا، حتى حرمونا من الكتب والمصاحف.
ولهذا نظم الإخوة بعض الدروس العلمية المنهجية للارتفاع بمستوى الإخوان الثقافي والعلمي؛ فكنت أشارك في هذه الدروس بإلقاء أضواء على علوم القرآن وضوابط فهمه وتفسيره، وأضواء أخرى على علوم الحديث أو علم مصطلح الحديث.
وكانت هذه الدروس تشمل الإخوان عموما، والشباب والطلبة خصوصا، وكان معظم الطلبة من الجامعات، ولكن كان بعضهم من المدارس أو المعاهد الثانوية، مثل الأخ سعد زين العابدين سلامة، الطالب بمدرسة طنطا الثانوية، وأحسبه كان أصغر طالب في المعتقل، ومثل الأخ عبد الشفوق الشحات من طلبة معهد دمياط الثانوي، وكان كلاهما من رواة قصيدتي النونية.
وكان الأخ وائل شاهين -شقيق الشهيد عمر شاهين- من الإخوة الحريصين على تنظيم هذه الدروس، وتحديد أوقاتها وموضوعاتها، وإحضار المستفيدين منها.
كما كنت أشرح للإخوان بعض المفاهيم الإسلامية، وخصوصا ما كان منها حول (الأصول العشرين) للإمام البنا، وكنت معنيا بها من قديم.
كما طلب منا الإخوان: أن يجتمع الإخوة من علماء الشريعة ورجال الدعوة لمناقشة بعض القضايا الكبيرة والوصول إلى رأي فيها.
وكان من أولى القضايا التي بحثناها: قضية المرأة، لما فيها من إشكالات شتى، واختلافات كثيرة بين المضيقين والموسعين.
وكان مؤسس الجماعة الأستاذ البنا من المضيقين في قضية المرأة، ولكن الظروف الآن تغيرت، وهذا يقتضي منها اجتهادا جديدا.
ولم نكن نحن الشرعيين على نهج واحد، فمنا من يميل إلى التضييق، ويكاد يحبس المرأة في بيتها، لترعى زوجها، وتربي أطفالها.
وكان أكثر المشاركين من دعاة التوسعة، وبخاصة أخونا العالم البحاثة الحاج محمود عبية، الذي كان له اطلاع واسع على (المحلى) لابن حزم، كما كان شديد الإعجاب بآرائه، وهو ظاهري النزعة مثله، وقد تبنى آراءه في كثير من المسائل، وأضاف إليها اجتهادات من عنده، أحدثت ضجة في المعتقل، مثل قوله: إن تناول الدخان في الصيام لا يفطر، لأنه ليس أكلا ولا شربا، مع إجماع المسلمين في أقطار الأرض على أنه من المفطرات؛ لأنه من الشهوات المرغوبة، التي ينبغي للصائم أن يدعها من أجل الله "يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي". على أنه ينبغي أن يفطّر باعتباره معصية، والمعاصي تفطّر عند ابن حزم.
ومثل قوله: إن تناول حبة إسبرين للصائم بدون ماء لا يفطره؛ لأن هذا لا يُعتبر أكلا لغة ولا عرفا.
وكان من حظ الحاج محمود عبية أن ابن حزم في قضية المرأة كان تقدميا جدا، حتى إنه ذهب في كتابه (الفصل في الملل والنحل) أن المرأة تكون نبية، واعتبر مريم وأم موسى نبيتين.
كما أجاز للمرأة أن تكون قاضية في كل المجالات، حتى في الحدود والجنايات، وأنها يمكن أن تتولى الولايات المختلفة، ما عدا الخلافة أو الإمامة العظمى، التي جاء في مثلها الحديث الصحيح "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
كما رأى ابن حزم أن المرأة مشروع لها أن تصلي الصلوات كلها في المسجد، وإذا طلبت ذلك فلا يجوز لزوجها ولا لوليها أن يمنعها، كما في الحديث المتفق عليه "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله".
وضعف ابن حزم الحديث الذي يجعل صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، ضعفه من جهة السند، ومن جهة المعنى؛ إذ كيف ترك الرسول نساء الصحابة يذهبن إلى المسجد في الصلوات كلها حتى العشاء والفجر، وهو يعلم أن الصلاة في بيوتهن أفضل لهن.
ويرى ابن حزم إباحة كشف المرأة لوجهها وكفيها، ويذكر قول الله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) النور. قال: فلو كان ستر الوجه واجبا لقال: (وليضربن بخمرهن على وجوههن).
إلى غير ذلك من القضايا التي أشرت في بعض كتبي إلى أنها تصلح أن تكون أطروحة ماجستير في الدراسات الشرعية.
المهم أن ابن حزم كان معنا، ونحن نبحث قضية المرأة: مكانتها، وأثرها في البيت والمجتمع، ومرتبتها، ونشاطها الاجتماعي والسياسي.
وأعددنا بذلك ورقة جيدة تتضمن عدة أحكام وتوجيهات تتعلق بالمرأة، وقلنا: ينبغي أن يواصل الإخوة البحث في هذا الجانب ويوسعوه ويعمقوه، مؤيَّدا بالأدلة من الكتاب والسنة، وموثَّقا بأقوال الأئمة والعلماء الثقات، وقد بقيت هذه الورقة معي بعد الإفراج مدة من الزمن، ثم عدت عليها العوادي، فذهبت فيما ذهب من أوراق.
جلسات أدبية
وكان بجوار هذه الجلسات الفقهية جلسات أخرى أدبية، نتحدث فيها عن الأدب والأدباء، وعن الشعر والشعراء، ونتناول فيها المُلَح والطرائف الأدبية، ويلقي فيها الشعراء ما لديهم من قصائد جديدة، ولدتها أحداث الساعة، وأجواء المحنة.
وكان يشارك في هذه الجلسات عدد من الإخوان المهتمين بالأدب، منهم الأستاذ عبد العزيز كامل، والأستاذ فريد عبد الخالق، والأستاذ محمود الفوال، والأستاذ سعد غزال، والأستاذ عبد الحكيم شاهين… وغيرهم ممن لم أعد أذكره.
وكنت أنشدهم بعض ما أنشأته في السجن من قصائد، منها: النونية، ومنها قصيدة (السعادة). ومنها قصيدة (فلسفة الموت) التي ضاعت مني تماما.
وكان للأخ سعد غزال قصيدة نونية أيضا جميلة من بحر الرمل، أذكر منها بيتا واحدا يقول:
كيف يقضي الأمر فينـــا ضابط عسكري العقل مطموس الجبين؟
ولأول مرة أعرف أن الأستاذ فريد يقول الشعر، وقد أنشدنا قصيدة قافِيَّة، أذكر عجز بيت منها يقول: وبشير الغيث إرعاد وبرق!
مناقشة أسباب المحنة.. فرصة لمراجعة الذات
ناصر مع الشيخ محمد فرغلي وحامد أبو النصر مالذي بدل الحميمية إلى عداوة
وكانت هناك جلسات لمناقشة أسباب المحنة، وإن كانت قليلة جدا؛ فلم يتعود الإخوان أن يبحثوا في مثل ذلك؛ فهم يعتبرون أن أسباب المحنة ظلم الآخرين لهم واستكبارهم في الأرض، شأنهم شأن المؤمنين مع أصحاب الأخدود (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) البروج.
لذلك كان من غير المعتاد أن يناقش الإخوان بعد كل محنة تصيبهم: لماذا أصابتهم؟ وهل يتحملون أي جزء من المسؤولية عما حدث؟
هذا مع أن القرآن الكريم علمهم أن يرجعوا باللائمة على أنفسهم، وذلك في تعقيب القرآن على ما وقع للمسلمين في أُحد كيف فقدوا 70 من رجالهم اتخذهم الله شهداء، في حين أصابوا في معركة بدر من قبل 70 من صناديد قريش قتلى، و70 آخرين أسرى. وقال القرآن في ذلك: {أو لما أصابتكم مصيبة (في أحد) قد أصبتم مثليها (أي في بدر) قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران).
هكذا قال الله تعالى لصحابة محمد صلى الله عليه وسلم، وقائدهم رسول الله وقال في آية أخرى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 152).
لقد أشارت الآية إلى سبب ما أصابهم في أحد، وهو فشلهم وتنازعهم في الأمر، وعصيانهم لتوجيه قائدهم رسول الله، وأن فيهم من أراد الدنيا وغلب عليه حب الغنيمة، ثم ذكر في النهاية أنه عفا عنهم؛ لأن هذا الخطأ والخلل لم يكن خطًّا ثابتا في حياتهم، بل هو خلل عارض، ومثله يعفو الله تعالى عنه، كما قال تعالى في نفس السياق: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (آل عمران: 155)
كنا نتناقش فيما أصاب الإخوان مع الأستاذ عبد العزيز كامل، الذي كشف لنا أن كثيرا مما نحسبه أمجادًا لنا إنما ساقنا أعداؤنا إليه، وجرونا إليه جرا، ونحن لا ندري، مثل دخول حرب فلسطين.
كما ناقشنا في هذه القضية: محن الإخوان المتتابعة، وماذا وراءها؟ وهل هناك خلل أو لا؟ وكان يعز علينا نحن الإخوان أن نقر يوما بأن فينا قصورا أو تقصيرا؛ فنحن -في نظر أنفسنا- نمثل الكمال البشري، وهذا خطأ جوهري.
وكان الأخ فتحي عثمان من السباقين إلى النقد الذاتي، ودعوتنا إلى أن نسأل أنفسنا: لماذا؟ وما العلاج؟
وأذكر أني زرته في زنزانته في الدور الثاني، وكان من رفقائه في الزنزانة الأخ الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، وكان سؤاله: ما الذي تحتاج إليه جماعة الإخوان في المستقبل، والذي يجب أن نركز عليه؟ وأذكر أننا اتفقنا على وجوب الاهتمام بالجانب العلمي والفكري، وتعميقه في أفراد الجماعة الذين تغلب عليهم السطحية والعاطفية والتعميمية، وأن من الضروري أن تخطط الجماعة لمستقبلها، بناء على معرفة حاضرها، معرفة علمية قائمة على الإحصاء والأرقام والدراسة والمقارنة والتحليل. ومن ذلك: أن تحدد مواقفها وعلاقتها بالآخرين -ومنهم الحكومة- تحديدا قائما على أسس شرعية وموضوعية، لا أن تترك الأمور تسيرها عواطف الرضا أو الغضب، وردود الأفعال. وهذا لا يعني إغفال الجانب الرباني في التربية؛ فهو ضروري للدعوة، وهو الذي يحقق شعارها الأول: الله غايتنا.
عبد العزيز كامل
وبالنسبة لتكرر ذكر الأستاذ عبد العزيز كامل، أولا أن أقف عنده وقفة، رحمه الله.
عرفت عبد العزيز كامل أول ما عرفته من قراءتي لمقالاته في مجلة (الإخوان المسلمون) الأسبوعية، وكنت من المعجبين بهذه المقالات، والمداومين لقراءتها، هي ومقالة الشيخ الغزالي، وإن كان لكل منهما طابعه المتميز، ومذاقه الخاص.
فقد كان الشيخ الغزالي يكتب -عادة- للمسلمين عامة، وكان عبد العزيز كامل يكتب للإخوان خاصة، بل كثيرا ما يكتب للإخوان العاملين منهم.
كان الغزالي يركز على التوعية العامة، وكامل يركز على التربية الخاصة، بغرس الجانب الرباني في تكوين الشخصية المسلمة، وكانت له سلسلة مقالات تحت عنوان: (كونوا ربانيين). كما كتب سلسلة مقالات عن (البناء والهدم في الدعوات) وعن (المحن في الدعوات) كان لها تأثيرها في إضاءة العقول بالمعرفة، وإنارة القلوب بالإيمان.
والعجيب أن هذه المقالات التي كتبها عبد العزيز كامل لعدة سنين لم يسعَ أحد لجمعها ونشرها؛ ليستفيد الناس منها؛ فالأفكار لا تموت بموت أصحابها. بل يموت العلماء وتبقى آثارهم حية.
وعندما قدر لي أن ألتقي بالأستاذ عبد العزيز ازداد إعجابي به، وحبي له، وقد كان أول لقاء لي به حينما زارنا في طنطا قبل حل الإخوان بقليل، وألقى محاضرة مؤثرة في دار الإخوان بطنطا، وكان في ذلك الوقت معلما بمعهد شبين الكوم العالي للتربية، ولم يكن قد حصل على الدكتوراه بعد.
ثم زادت معرفتي به حين لقيته في معتقل الطور، واستمعنا بشغف إلى أحاديثه العميقة، وكنا نسمع من إخوان القاهرة: أن الأستاذ البنا كان يعدّه ليكون (المرشد) من بعده. وبعد الإفراج عن الإخوان زرته أكثر من مرة في بيته أنا والأخ أحمد العسال. وتوثقت هذه الصلة أكثر حين كان مسؤولا عن (قسم الأسر) بالمركز العام للإخوان، وقد اجتهد أن يرقى بهذا القسم، وأن يقيمه على دعائم راسخة من العلم الشرعي، والثقافة التربوية، وكان معنيا بالتأصيل أكثر من اهتمامه بالتفريع، ولا سيما فكرة المحاسبة للنفس أو النقد الذاتي للجماعة؛ فإن الله لم يجعل العصمة إلا لمجموع الأمة. أما أي جماعة فيمكن أن تخطئ كما يمكن أن تصيب. وبدأ بنشر سلسلة تنويرية للإخوان سماها: (نحو جيل مسلم) لا تستنكف أن تضمن النقد لبعض للأفكار، وبعض السلوكيات السائدة في الجماعة.
ثم توثقت العلاقة أكثر حين جمعنا السجن الحربي، والمحن بطبيعتها تجمع ولا تفرق، وبعد خروجنا من السجن كنت أتردد عليه أنا وأخي العسال للاقتباس منه، والاقتطاف من ثمار معرفته وخبرته.
وهذا الاتصال به كان سببا في اعقتالي أنا والعسال في صيف سنة 1962 بعد إعارتنا إلى دولة قطر من الأزهر، وبعد وصولنا من قطر إلى مصر بعد عدة أيام، ولم نعرف سبب اعتقالنا إلا بعد الإفراج عنا؛ فقد كان عبد العزيز كامل وحسن عباس زكي وعمر مرعي وآخرون متهمين مع بعض الضباط في الجيش المصري بعمل انقلاب ضد عبد الناصر. وأننا -باعتبارنا في الخليج- كنا همزة الوصل لتمويل هذا الانقلاب المزعوم الذي لم نعلم عنه شيئا إلا بعد خروجنا من سجن المخابرات! مع أني لم يكن لي في الخليج إلا بضعة أشهر.
ومن عرف عبد العزيز كامل واقترب منه، وجده من أوسع الناس ثقافة؛ فرغم أنه خريج الجامعة المصرية من قسم الجغرافيا بكلية الآداب، تجد ثقافته العربية والإسلامية مؤسسة تأسيسا قويا، وقد نشأ في الإسكندرية قريبا من جماعة أنصار السنة المحمدية، فاستفاد من مصادرها واهتماماتها السلفية، وتعرف على مدرسة ابن تيمية وابن القيم، كما كان على اطلاع على الفكر الغربي ومدارسه، وعُني كذلك بالفكر التربوي وفلسفته وأصوله النظرية، وتطبيقاته العملية.
وكان كثير من الإخوان يرشحون الأستاذ عبد العزيز كامل ليكون خليفة للمرشد العام الأول الإمام حسن البنا؛ لما رأوا فيه من مواهب وفضائل، ربما لا تتوافر في غيره، ولما رأوا قربه من الأستاذ البنا، بل قيل: إن الأستاذ البنا نفسه كان يرشحه لهذا المنصب في وقت من الأوقات.
وكان آخرون يعيبون على الأستاذ عبد العزيز الغموض في موقفه من بعض القضايا الكبرى داخل الجماعة، ومحاولته أن يمسك العصا من الوسط، وأن يرضي جميع الأطراف، وربما كان هذا ناشئا عن خلق الرفق واللين عنده؛ فهو لا يحسم الأمر حيث ينبغي أن يحسم، ولا يعلن موقفه الصريح حين ينبغي أن يعلن.
وبعد ذلك غير أكثر الإخوان موقفهم منه، حين انضم إلى ركب الثورة، وقرر أن يسلك سبيل التعاون معهم لا المعارضة لهم. وقد عرفت من الأستاذ محمد فريد عبد الخالق أنه أخبره في أواخر أيامه في السجن الحربي أنه سيعمل وحده بعيدا عن الإخوان، وكلفه أن يبلغ ذلك إلى الإخوان، وأنه استخار الله في ذلك وصمم عليه، ويبدو من هذا: أنه رأى أن يغير خطه بعد خروجه من السجن، وأنه لا فائدة من الصراع مع الثورة، وأن العمل معهم أجدى من الصراع ضدهم.
وكان هذا اجتهادًا منه رحمه الله، رضيه منه رجال الثورة، وعُين على أساسه وزيرا للأوقاف وشؤون الأزهر، ثم نائبا لرئيس الوزراء لهذه الشؤون الدينية. ولم يرض ذلك منه جمهور الإخوان، واعتبروه قد خان الدعوة، التي نشأ فيها، وسار في ركاب أعدائها، وأنه قد أحبط عمله، وضيع تاريخه، وختم حياته خاتمة سوء، وإنما الأعمال بالخواتيم.
والإخوان بهذا قساة في حكمهم على إخوانهم الذين يختلفون معهم، كما ذكرنا من قبل قسوتهم على صالح عشماوي والشيخ الغزالي، ورأيي أن الناس تتفاوت طاقاتهم في احتمال البلاء والصبر عليه، وهذا أمر مشاهَد ومتفَق عليه، وأن من ضعف احتماله عن السير في الطريق إلى نهايته، فمن حقه أن يستريح ويريح، ولا يكلف نفسه ما لا تطيق. وفي الحديث الشريف: "لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: يحملها من البلاء ما لا تطيق". والقرآن يقول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (البقرة: 286).
والعمل الجماعي لخدمة الإسلام يقوم على الإرادة الطوعية الاختيارية، وهي منبية على اقتناع الإنسان بأهمية هذا العمل وقدرته على الإسهام فيه، فإذا تغير هذا الاقتناع، ورأى المرء المسلم أن وجوده في العمل الجماعي غير نافع له، بل ربما أضر به، أو أنه لم يعد قادرا على الإسهام فيه؛ فلا جناح عليه أن يعمل بما يقدر عليه من وسائل، وفقا لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن)، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
والأجدر بالمسلم أن يحسن الظن بالمسلمين عامة، ولا يظن بهم السوء، ويحمل تصرفاتهم على الوجه الحسن ما استطاع؛ فقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} (الحجرات)، وقال عليه الصلاة والسلام: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" (متفق عليه).
وهذا في المسلمين عامة؛ فكيف بإخوانك الذين عرفتهم وخبرتهم، ولم تعلم عنهم طوال تاريخهم إلا خيرا؟ فهم أولى بحسن ظنك بلا ريب، وقد قال بعض السلف: "ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعل له عذرا آخر لا أعرفه"! والمؤمن أبدا يلتمس المعاذير، والمنافق يبحث عن العثرات.
لا نملك إلا أن ندعو للأخ الكبير الدكتور عبد العزيز كامل -وإن اختلفنا معه في مواقفه الأخيرة- أن يغفر الله له ويرحمه ويتقبله في الصالحين من عباده، ويجزيه خيرا عما قدم لدينه وأمته، وألا يحرمه أجر المجتهد المخطئ فيما أخطأ فيه من مواقف، ويجعلنا وإياه من الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون.
تحول الذئب الكاسر إلى حمل وديع
وفي الأشهر الأخيرة لنا في السجن الحربي رأينا عجبا، رأينا حمزة البسيوني المتكبر الجبار، الذي كان يتحدى الله جل جلاله فوق عرشه، يحاول التودد إلى الإخوان، والتقرب منهم، والظهور بمظهر الحمل الوديع، وهو الذي كان يحمل وجه خنزير، وقلب وحش، وأنياب كلب عقور.
فليت شعري ما هذه الوداعة التي هبطت فجأة عليه؟! وما هذا اللطف الذي يبديه لنا حين يمر يوما لزيارتنا؟! وكيف تحول الذئب الكاسر إلى هرٍّ أليف؟! وما تفسير ذلك يا أولي الألباب؟!
يبدو أن حمزة البسيوني حين شعر بأن الأزمة قد بدأت تنفرج، وأن الإفراج عن المعتقلين قد بات وشيكا، وأن هذا الحصن الذي يختبئ فيه لن يدوم له، وأن دوام الحال من المحال، وأن الليل مهما طال فلا بد له من قمر، وكان يخشى هو هذا الفجر أن تشرق أنواره، وأن يزول الظلام الذي يحتمي به، ويختفي في مسوحه السوداء.
كان البسيوني يخاف مما اقترفت يداه من مظالم، وما ارتكبه وجنوده من مآثم أن يحل به القصاص على أيدي من ظلمهم من الإخوان، ولا يلوم أحد المظلوم إذا اقتص من ظالمه؛ لذا حاول أن يسترضي الإخوان ليسامحوه ويعفوا عنه، ولا يفكروا في الانتقام منه.
ونسي البسيوني هنا أمورا هامة كان يجب أن يعلمها أو يتعلمها:
الأول: أن الإخوان لم يفكروا يوما أن ينتقموا من ظالميهم؛ فإنهم وهبوا ما أصابهم لله وفي سبيله، واحتسبوه عند الله، راجين منه تعالى أن يجعله كفارة لسيئاتهم، وزيادة في حسناتهم، ورفعة لدرجاتهم.
وقد أصيب الإخوان في عهد الملكية بما أصيبوا، فلم يثأروا من أحد، وتركوا ثأرهم للحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة.
الثاني: أن الإخوان لو عفوا وصفحوا في حق أنفسهم باعتبارهم أفرادا، وتنازلوا عن حقوقهم الفردية؛ فأين حق الله تعالى، وحق الدعوة، وحق الإسلام؟ ومن يملك أن يتنازل عن هذه الحقوق؟ وقد تطاول البسيوني على الله الواحد القهار، وعلى دينه وعلى دعوته.
الثالث: أن الإخوان قد اعتادوا ألا ينتقموا لأنفسهم، وإنما يدعون الانتقام للرب الأعلى الذي لا يظلم أحدا، ولا يحابي أحدا، وهو يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102).
ولقد ترك الإخوان البسيوني لسلطان القدر الأعلى.. فماذا فعل به؟
لقد قتل شر قتلة بغير أيدي الإخوان. كان يسوق سيارته من الإسكندرية إلى القاهرة، وفي جنح الليل دخلت سيارته في سيارة كبيرة أمامها تحمل أسياخا من الحديد، فمزقت الرجل الجبار شر ممزق، وقطعت جسده أشلاء، وكان ذلك أمام قرية من قرى المنوفية؛ فلما عرف الناس صاحب السيارة أمطروه بلعناتهم (إن الله عزيز ذو انتقام).
آخر فوج يغادر السجن الحربي
ظلت أفواج الإفراج من السجن الحربي تتوالى، في كل أسبوعين يغادر فوج السجن الحربي، لا إلى قضاء الحرية مباشرة، ولكن إلى سجن آخر هو (سجن القلعة) الذي يقضي فيه المغادرون أسبوعين قبل الإفراج النهائي عنهم.
وسر ذلك أن السجن الحربي يتبع الجيش ووزارة الحربية، أما سجن القلعة فهو تابع لوزارة الداخلية.. ولهذا أرادت الداخلية وجهاز (المباحث العامة) المسؤولة عن الأمن السياسي أو أمن الدولة، ويدخل في اختصاصها قضية الإخوان: أن تضع المفرج عنهم من المعتقلين تحت رقابتها فترة من الزمن، تشعرهم بأنها هي التي ستتولى زمام أمرهم فيما بعد، وتقوم بملاحقتهم في بيوتهم وأعمالهم، وتراقب كل تحركاتهم، وتحصي عليهم أنفاسهم إن استطاعت.
ومن هنا فتحت لكل معتقل ملفًّا، ووضعت فيه ما شاء من المعلومات، واستكملت بالأسئلة كل ما ينقصها.
وكان سجن القلعة سجنا قديما كريها ليس فيه من الشمس والهواء والفسحة خارج الزنازين ما في السجن الحربي.
ولهذا كانت أيام القلعة أيامًا كئيبة، هونها علينا علمنا بأن وراءها الإفراج المرتجى، كلنا نقول ما قال العرب من قديم: إن مع اليوم غدا، وإن غدا لناظره قريب.
وكنا نحن آخر مجموعة تغادر السجن الحربي في أوائل شهر يونيو (حزيران) 1956م، وبقينا في سجن القلعة أسبوعين، تم الإفراج عنا -على ما أذكر- يوم 16 يونيو 1956م.
ونقلنا من القاهرة إلى طنطا، ومنها إلى المحلة الكبرى، ومباحثها العامة، التي تسلمنا أولا، وبعد أن أخذ علينا تفتيش المباحث التعهد اللازم بأن أبتعد عن كل نشاط سياسي، فكوا أسري، وأطلقوا سراحي، وكان بعض الأهل والأقارب ينتظرونني، فانطلقت معهم إلى القرية، حامدا الله تعالى على ما حدث لي خلال تلك المدة، والمطلوب من المسلم أن يحمد الله في السراء والضراء، والنعماء والبأساء، وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيرا له".
لاحظ خالي رحمه الله أني لم أكن منشرحا ومنطلقا، مثل انشراحي وانطلاقي، حينا أفرج عني سنة 1949م، وسألني عن ذلك، فقلت له: هناك فرق كبير بين الإفراجين: في الإفراج الأول كانت الحكومة التي اعتقلتنا قد سقطت وذهبت مشيعة باللعنات، أما في هذا الإفراج فلا تزال الحكومة التي اعتقلتنا باقية ومتمكنة، ولن تدعنا في حالنا. ولكن الله أكبر منهم، وهو من ورائهم محيط {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30).
على كل حال بخروجنا من السجن الحربي انتهت مرحلة أليمة مريرة من حياتي، وإن كانت آثارها ستظل غائرة في الجسم وفي النفس إلى أمد لا يعلمه إلا الله..
على أن من رحمة الله بالإنسان أنه رزقه نعمة النسيان للمصائب والآلام الماضية، (واختلاف النهار والليل ينسي) كما قال شوقي، كما منحه نعمة الأمل والرجاء في الغد، وقال له في كتابه (فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا) ولن يغلب عسر يسرين. وكما قال ابن مسعود: لو دخل العسر جحرا لتبعه اليسر حيث كان.
وعلى هذا الأمل في فضل الله ورحمته نعيش معتصمين بالله، متوكلين عليه {وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (الطلاق: 3).

ليست هناك تعليقات: