الاثنين، 14 أبريل 2008

مذكرات القرضاوي (8)

الإخوان يرسمون صورة عبد الناصر في ساحة السجن
ومن غرائب الطرائف: أن يكلف أحد الإخوان الرسامين البارعين في رسم الصور الشخصية، أن يرسم بيده صورة زيتية كبيرة على جدار السجن الحربي بأمر حمزة البسيوني، وأن يكتب تحت هذه الصورة عبارة عبد الناصر الشهيرة: ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد!
وكانت هذه الكلمة موضع السخرية والتنكيت من الإخوان، فهذا يقول: كان الواجب أن يكتبوا تحت الصورة: ارفع رجلك يا أخي فأنت في عهد الكرباج! وآخر يقول: ارفع رأسك يا أخي لنقطعها، فنحن في عهد الإطاحة بالرءوس! إلى آخر هذه التعليقات التي يتقنها المصريون؛ فهم شعب الفكاهة والنكتة حقا.
حتى إني اقترحت يومًا أن يتتبع أحد الباحثين النكات السياسية التي قيلت منذ أول عهد الثورة حتى اليوم، منذ عهد عبد الناصر والسادات ومبارك، فسيجد كمًّا هائلاً، يمكن أن يكون مجالاً لدراسات أدبية وفلكلورية ونفسية وسياسية واجتماعية.
وقد بلغني أن بعضهم جمع شيئًا غير قليل في ذلك.
طعام السجن:
كان طعامنا في السجن ـ كما أشرت من قبل ـ قليلاً من حيث الكمية، رديئا من حيث الكيفية. كان فطورنا غالبا من العدس المليء بالحصى والرمل، ولا أدري: أذلك لرداءة نوع العدس أم هم يتعمدون إلقاء الرمل فيه، ليحرمونا لذة الطعام؟
وأحيانا يأتون لنا بالفول بدل العدس، ولا أسوأ من هذا إلا هذا. فالسوس يطفو على سطحه بكثرة تلفت النظر، حتى قال بعض الظرفاء من إخواننا: هذا لا يقال له: فول مسوِّس، بل سوس مفوِّل! فصارت مثلا.
وفي الغَداء كانت الفاصوليا الجافة مع الأرز، هي الطعام اليومي المقرر إجباريا علينا. وقد كانت الفاصوليا هي طعامنا اليومي حينما اعتقلنا في الطور سنة 1949 في عهد الملكية.
ومن الطريف هنا أني حينما تزوجت قلت لامرأتي: هناك طعام عندي مخزون منه يكفيني لنصف قرن، فلا أريد أن تطبخيه أبدا؟ قالت: ما هو؟ قلت لها: الفاصوليا الناشفة.
وفعلا، نفذت ما اتفقنا عليه، ولا أحسب أننا طبخنا هذه الفاصولية أو دخلت بيتنا إلى يومنا هذا!
وفي العشاء كانوا يأتوننا بطعام لعله من بعض الخضار المطهو، أو من شيء لا نعلمه.
وكل زنزانة يغرف لها نصيبها في صحن متوسط الحجم، أو قل: في صحنين، صحن للفاصوليا أو الخضار، وصحن للأرز.
أما خبزهم فكان عجيبا حقا، لا ندري من أي مادة عجنوه وخبزوه، حتى نحسبه أحيانا كأنما صنع من مادة الإسمنت.
ومع هذا، كان هذا الطعام يؤكل ولا يبقى منه شيء؛ لأن قلته وعدم كفايته جعلته مرغوبا، ومن أكل أي طعام وهو جائع شعر بلذته، وإن لم يكن من الطيبات المستلذات. وقد قيل لبضعهم: أي الطعام أطيب؟ قال: الجوع أعلم.
وأكل أعرابي يوما على مائدة الحجاج فقال له الحجاج: كل، إنه طعام طيب. قال: والله ما طيبه خبازك ولا طاهيك، ولكن طيبه الجوع والعافية!
ولقد مر علينا شهر رمضان ـ وكان في عز الصيف ـ ونحن على هذا الحال من التقشف والإقلال، وقد مر بنا ـ بحمد الله ـ خفيفا ظريفا، رقيقا كنسمات الفجر، لا أذكر أننا شكونا فيه جوعا أو عطشا، رغم ما هو معلوم من طول أيام الصيف وشدتها، ولم نشعر بأنَّا فقدنا شيئا كبيرا حين مر علينا رمضان بلا تمر ولا زبيب ولا تين، ولا قمر الدين، ولا كنافة ولا قطائف. وأشد من هذا كله وأقسى أننا قضيناه بعيدًا عن أسرنا وأهلينا، ولا نستطيع أن نصلي التراويح جماعة في زنازيننا، فهذا محظور.
واستعضنا عن طيب المأكولات بطيب الأذكار والدعوات، وبتلاوة ما نحفظ من القرآن بعد أن أخذوا منا المصاحف.
ومن الذكريات الأليمة في هذا الرمضان: مرور حمزة البسيوني علينا فيه، بوجهه الأغبر، وشعره الأشعث، وجبينه المقطب، وخده المشجوج، وشاربه المتهدل، ولسانه الذي يسيل بالكلمات البذيئة سيلا، كأنما لا يعرف من اللغة غير السباب والشتم وسوء الأدب، وقد كان يوم مروره ـ كما هو دائما ـ يوما أسود، لأنه لا يصدر عنه إلا الأذى، كما لا يصدر عن العقرب إلا أن تلدغ وتؤذي، ولا عن الأفعى إلا أن تعض وتنفث السم، وكل إناء بالذي فيه ينضح. ونحمد الله تعالى أننا لم نر وجهه في رمضان كله إلا هذا اليوم، لا أرانا الله وجهه!
وقد عرضت لطعامنا في السجن في النونية، فكان مما قلت في ذلك:
الماء والنظافة في السجن:
فطورنا عدس مزين بالحَصَى
إن الحَصَى فرض على (التعيين)1
قد عفته حتى اسمه وحروفه
من عينه أو داله والسين
وغداؤنا (فاصولية) ضاقت بها
نفسي، فرؤية صَحْنها تؤذيني
وعشاؤنا شيءٌ يحيِّرك اسمه
وكأنما صنعوه من غِسْلين
لا طعم فيه ولا غذاء، وإنما
يحلو لنا من قلة التموين
طبقٌ يُكال لسبعة أو نصفُه
وعليَّ أن أرضى وقد ظلموني
كان الماء في السجن إحدى المشكلات العويصة، فالسجن ـ كما ذكرنا ـ لم يهيأ ليستقبل هذا العدد الضخم من النزلاء، الذي يزيد على عشرة أضعاف طاقته العددية.
فلا يكفي الماء الواصل إلى السجن للشرب والطبخ والطهارة، وغسل الثياب، وغيرها. مهما قتر المقترون في استخدام المياه إلى الحد الأدنى.
وكنا نقضي مددا طويلة دون استحمام، كما تبقى ثيابنا كذلك دون غسل وتنظيف، وكانوا في أول الأمر يتلذذون بإبقائنا دون نظافة في أجسامنا وثيابنا، تشفيا فينا، وانتقاما منا، وبخاصة أن ظروف السجن في أشهره الأولى لم تكن تسمح لنا بذلك، فكان كل معتقل لا يكاد يحصل على خمس دقائق لدخوله المرحاض ووضوئه، وكانوا يدخلون على من اضطرته ظروفه أن يتأخر قليلا في المرحاض ليخرجوه منه بالكرباج، قائلين له: إنك لست في بيت أبيك وأمك، حتى تأخذ راحتك! وذلك ليخرج من أضلاع السجن، ليفسح المجال لنزلاء الضلع الآخر. على أنه لا يوجد من الماء ما يكفي لأن تأخذ راحتك في الطهارة والوضوء.
وفي يوم من الأيام كان بعض المعتقلين يحفرون في ساحة السجن، لا أدري لأي سبب، وإذا بالماء يتفجر من تحت أقدامهم، حتى فوجئ السجانون بهذه العين الثرة التي ساقها الله إلى المعتقلين وهم أحوج ما يكونون إليها، حتى قال أمين جاويش السجن: يا أولاد الـ … رزقكم تحت رجليكم. واتخذت الإجراءات للإفادة منها.
وكانت هذه البئر أو هذه العين مِنَّة من الله تعالى على المعتقلين، ليستطيعوا أن يشربوا ويرتووا، وأن يتطهروا ويغتسلوا، وأن يغسلوا ثيابهم ويتنظفوا.
وكانوا يسمحون لنا في كل أسبوع مرة لمدة قليلة للنزول لغسيل الملابس والاستحمام إن أمكن ذلك. وكانوا يعطوننا قطعا رديئة من الصابون مصنوعة خصيصا لعساكر الجيش، قلما تصدر منها رغوة.
تمزق الملابس:
وكان الكثير منا لم يحمل معه ملابس كافية، فلم نكن نقدر أن الزمن سيطول بنا، ولم نكن نحسب أننا سنمنع من زيارة أهلينا وأقاربنا، وبعضنا أُخذ من عمله أو منزله أو من الطريق، على أساس أنه مطلوب لخمس دقائق، ولم يصْدُقوه فينبئوه بما نووه وصمموا عليه من سجن طويل.
ولهذا بدأت ثياب الإخوان تتخرق وتبلى، وطفق الإخوان يرقعون ما معهم من ملابس، وهذا يحتاج إلى إبرة وخيط ورقعة وصنعة أيضا، فليس كلنا يحسن ترقيع ملابسه، وأنا من هؤلاء، ولم يعد منظرا غريبا أو شاذا أن تجد أخا يلبس جلبابا مرقوعا، كما كان سيدنا عمر رضي الله عنه.
بل ذكر الأخ محمود عبد الحليم أنه كان في منامته (بيجامته) أكثر من ثلاثين رقعة.
كنت شخصيا ممن حمل معه من الملابس ما يكفي لسنة على الأكثر، وكانت من الملابس المستعملة لا الجديدة، وبعد سنة بدأ البلى يظهر على الثياب، وخصوصا مع بدء الشتاء الثاني في السجن، وقد رآني بعض الإخوة الأصدقاء من جيران زنزانتنا أنتفض من البرد، فأسعفني وأتحفني بجلباب من عنده من الكستور المصري المحلاوي، ذلكم هو الأخ محمد كمال إبراهيم، وكان الأخ كمال أسمن مني بكثير، فكان ثوبه فضفاضا علي، ولكن المطلوب في تلك الفترة هو الستر لا التجميل.
روح معنوية عالية:
ومع هذا كله وما هو أكثر منه مما لم يذكر، كانت روح الإخوان عالية، ومعنوياتهم قوية، وإيمانهم راسخا، وثقتهم بالله لم تضعف أبدا، وأملهم في فرج الله ونصره لم تنقطع خيوطه من قلوبهم يوما.
كانوا يؤمنون بأن هذه سُنة أصحاب الدعوات، وحمَلة الرسالات، وأن الطريق إلى النصر في الدنيا، وإلى الجنة في الآخرة، مفروش بالأشواك، مضرج بالدماء، مليء بجثث الشهداء، وأن الأمر كما قال ابن القيم:
يا مخنث العزم! الطريق تعب فيه آدم، وناح نوح، وألقي في النار إبراهيم، وتعرض للذبح إسماعيل، وأوذي فيه موسى، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح فيه السيد الحصور يحيى… إلى آخر ما قال.
وحسبنا ما ذكره القرآن: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214).
كان عامة الإخوان يقابلون هذه الأهوال بصدور منشرحة، وقلوب منفتحة، وثغور مبتسمة، فتراهم داخل الزنازين يضحكون وينكتون، ويرددون المُلَحَ والطرائف، ويتفننون في ذلك مما لا يخطر على بال.
فهناك الشعراء الذين ينشئون القصائد، مثل قصيدتي (النونية). وهناك الزجالون الذين يؤلفون الأزجال، مثل زجل أحد الإخوة:
اللي ما شافش السجن الحربي
مهما اتربّى ما تربّاش
وهناك الذين يقلبون الأغنيات المشهورة لتصبح لأمته بالحال، ويتغنون بها، مثل أحد الإخوة الذي كان يقلد أغنية أم كلثوم الشهيرة: يا ظالمني. وكان يغير عباراتها وينشدها بصوته العذب، فيقول:
وتضربني وتؤذيني وتنفخني وتكويني
وتزعل لما أقول لك يوم: يا ظالمني
وكان قليل من الإخوة هم الذين قصرت طاقتهم عن احتمال هذه الألوان من الأذى والعذاب البدني والنفسي. وهم في هذا معذورون، لأن هذا فوق طاقتهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. والشاعر يقول:
ما كلف الله نفسا فوق طاقتها ولا تجود يد إلا بما تجد
حكى لي الأخ الشيخ عبد التواب هيكل وكان رفيقنا في السجن، كما كان زميلي في كلية أصول الدين، أن أحد الإخوان في زنزانتهم كان رجلا رقيقا جدا، مرهف الإحساس، لا يتحمل الضرب بحال من الأحوال، إذا وقع له، ويرتعد خوفا منه قبل أن يقع، وكان رفقاؤه من الإخوان في زنزانة يحاولون تصبيره وتسكينه والتخفيف عنه، فيستجيب لهم، ولكن طبيعته تغلبه، حتى إنه نذر على نفسه نذرا لله تعالى إذا خرج من السجن حيا أن يضرب أبناءه بالسياط حتى يتعودوا الضرب، ويتحملوا ألمه، ولا يشق عليهم، كما شق عليه، إذا ابتلوا بمثل ما ابتلي أبوهم.
وكالة (أبشروا)
من المعروف أن السجون من قديم مظنة لكثرة الرؤى والأحلام من نزلاء السجن، كما أنهم يهتمون بها وبالحديث عنها وبتعبيرها ومعرفة ما تؤول إليه من خير أو شر، وقد ذكرنا فيما سبق قول الشاعر عن المسجون معبرا عن نفسيته ونفسية رفقائه من المساجين:
ونفرح بالرؤيا، فجل حديثنا إذا نحن أصبحنا: الحديث عن الرؤيا
ولقد ذكر لنا القرآن الكريم في قصة يوسف حكاية الفتيين اللذين دخلا مع السجن ورأى كل منهما رؤيا، قصها على يوسف، ونشداه تأويلها لهما، لما لمسا من فضله وإحسانه ومكارم أخلاقه. يقول تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:36).
وقد نبأهما بتأويل ما رآياه، ولكن بعد أن أراهما من فضل الله عليه، ثم دعاهما إلى توحيد الله تعالى والإيمان به، ونبذ الشرك.
ولهذا لا نعجب إذا وجدنا في إخواننا من نزلاء السجن الحربي فئة مشغولة أبدا بالأحلام والرؤى، وفي كل صباح عند النزول إلى دورات المياه، تسأل الإخوان عما رأوا في تلك الليلة، وقد سماهم الأستاذ عبد العزيز كامل جماعة القسم الليلي، لأن كل عملهم في الليل.
وقد وجدوا كثيرا من الإخوة الذين لا تكاد تخلو لياليهم من منامات. ومن المعلوم شرعا أن ما يراه الإنسان في نومه بعضها حديث نفس، كما قيل: الجوعان يحلم أنه في سوق العيش. وبعضها رؤى صادقة، وبعضها من الشيطان.
وبعض الرؤى الصادقة يكون صريحا ناطقا، وهو قليل، وأكثرها يكون رموزا تحتاج إلى تأويل، كرؤيا صاحبي يوسف، ورؤيا ملك مصر في عهد يوسف عليه السلام.
وصدق الرؤيا لا يدل على إيمان صاحبها ولا تقواه، فقد صدقت رؤيا الفتيين صاحبي يوسف، وكانا مشركين، وصدقت رؤيا الملك في البقرات السمان، والبقرات العجاف، وكان الملك مشركا.
المهم أن هذه المجموعة من الإخوان ـ وعلى رأسهم الأخ عبد الفتاح الشريف من إخوان دمنهور ـ يرصدون في كل صباح الرؤى من الإخوان، ويؤولونها على ما يحبون دائما، تأويلا يبشر بالنصر، ويؤذن بالفرج القريب، وبهلاك الظالمين، وذهاب سلطانهم.
فإذا رأى أحدهم في المنام شمسا تبزع وتشرق، كان تأويلها أن شمس الإسلام ـ أو شمس الإخوان ـ قادمة، وستملأ الدنيا نورا، وإذا رأى أحدهم في منامه شمسا تغرب، قالوا: هذه شمس الأعداء، أو شمس الثورة، يوشك أن تغرب وتغيب.
وإذا رأوا أرضا خضراء نضرة قالوا: أبشروا، هذه أرضنا نحن الإخوان، وإذا رأوا أرضا أصبح نباتها هشيما تذروه الرياح، قالوا: أبشروا هذه أرض عبد الناصر وجماعته.
ولهذا أطلق الإخوان على هؤلاء الإخوة: وكالة "أبشروا" فإذا كانت وكالات الأنباء تذيع الأخبار، فهذه الوكالة تذيع الأحلام المبشرات.
لجنة الفرفشة:
وإذا كانت جماعة "أبشروا" مهمتها نشر الأمل بين الإخوان عن طريق الرؤى والمنامات، فقد وجدت جماعة بين الإخوان تشيع الرضا وسكينة النفس بين الإخوان عن طريق نشر النكت والفكاهات والمداعبات الإخوانية، حتى لا يغلب جو الكآبة على السجن.
مثل نكتة أن بعضهم ضبطه شرطي، وهو يقول: الله يخرب بيتك يا عبد الجبار، فقبض عليه وقدمه إلى الضابط، فسأله: ماذا فعل؟ قال: يا سيادة الضابط، أخطأ في اسم رئيس الجمهورية!
ومثل نكتة أن بعضهم قبض عليه وهو يشتم الحكومة الظالمة، فلما سئل عن ذلك قال: أنا أقصد حكومة المجر، فقال له: تريد أن تضحك علينا، وهل فيه حكومة ظالمة إلا حكومتنا؟!
ومثل نكتة أن الحكومة كانت تقبض على الجِمال، فوجد حمار يعدو ليختبئ من رجال الحكومة، فقيل له: لماذا تختبئ وإنما تأخذ الحكومة صنف الجمال، وأنت من صنف الحمير؟ فقال: حتى أثبت لهم أني حمار ولست جملا، يكون قد ضاع نصف عمري!
كانت إشاعة هذه النكات وأمثالها من عمل جماعة من الإخوان كنت منهم، سميناها: "جماعة الفرفشة".
وكان قد ظهرت شائعة بين المعتقلين، وهي أن ما نزل بالإخوان من أهوال ومحن شداد، قد أفقدتهم القدرة على الإنجاب، وأنهم لن يقدروا على متطلبات الزواج، وإذا تزوجوا فلن يقدروا على إنجاب الأولاد، فاتخذت جماعة الفرفشة شعارات لها هي: تشجيع العزاب على الزواج، والمتزوجين على كثرة الإنتاج، والفرفشة حتى الإفراج!
الملحمة النونية.. سجل الآلام
كان الإخوة قد علموا من قبل أني أقول الشعر، وأن المحن تفجر الطاقة الشعرية عندي، وقد سمع منهم من سمع بعض شعري في معتقل الطور، مثل "مناجاة ليلة القدر" ومنهم من سمع قصيدتي في ميدان السيدة زينب في القاهرة.
ولهذا كان بعضهم يلقاني في دورة المياه ويسألني: ألم تقل شيئا في هذه المحنة؟ فأقول لهم: لا، لم يفض علي بشيء.
وكانت السنة الأولى من الاعتقال جد قاسية، لا يكاد يجد المرء فيها فرصة، ليخلو إلى نفسه، ويناجي خواطره، والهول شديد، والسكين حامية، والنار موقدة، والمعركة منصوبة، فمن أين يصفو الفكر، ويفيض الخاطر، ويتدفق الشعر؟
ولكن في أواخر سنة 1955، وبعد أن استقر بنا المقام في السجن، وهدأت الأحوال نسبيا، بدأت خواطر الشعر تفيض عليّ فيضا، وكان المشكل أني في حاجة إلى أن أكتبها حتى لا تتفلت مني، ولكن أنى لي أن أكتب ولا قرطاس عندي ولا قلم؟ فقد أخذوا منا الأوراق والأقلام، وكل ما له علاقة بالعلم والثقافة والفكر.
ولهذا كان علي أن أقول الأبيات، وأرددها على من حولي حتى أحفظها، ثم إذا نزلنا إلى دورة المياه، رويتها للإخوة المشهورين بالحفظ، الذين يحفظون الأبيات من مرة أو مرتين، وفي مقدمتهم الأخ عبد الشفوق عبد الباري الشحات من طلبة المعهد الديني بدمياط، رحمه الله. وكذلك الأخ "علي" من إخوان المحلة من طلاب الأزهر، من قرية منية ششتا غياش بجوار قريتنا، والأخ فؤاد قنديل، والأخ مسعد زين العابدين سلامة، وكلاهما من طلبة الإخوان بطنطا، وآخرين من الإخوان.
وفي كل يوم أنشئ نحو عشرين أو ثلاثين بيتا، وأعتمد في تثبيتها على الرواية الشفهية، كما كان يفعل العرب في الجاهلية غالبا، فلم يَكتب فيهم إلا القليل، بل النادر، وكانوا يختزنون الأشعار في ذواكرهم.
ولم أزل كذلك حتى اكتملت القصيدة، وزادت أبياتها على الثلاثمائة. وكان الإخوان يحفّظها بعضهم لبعض، فغدا رواتها عددًا يبلغ التواتر كما يقول العلماء، وإن كان أكثرهم كل منهم يحفظ جزءا منها لا كلها.
ونظرا لاختلاف وقت التلقي، فربما اختلفت الرواية، واختلف الرواة في بعض الألفاظ، وتبدأ القصيدة بهذه الفقرة التي تصور كيف بدأت أنشئ القصيدة:
ثار القريض بخـاطري فـدعوني
أُفْضِي لكـم بفجائعي وشُجـوني
فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى
والشعر عُودي عند عَزْف لُحوني
كم قال صحبي: أين غَرّ قصائد
تُشْجِي القلوب بلحنها المحزون؟
وتخلد الذكرى الأليمة للورى
تُتلى على الأجيال بعد قرون
ما حيلتي والشعر فَيْض خواطر
ما دمت أبغيه ولا يبغيني؟!
واليوم عاودني الملاك فهزني
طربا إلى الإنشاد والتلحين
ألهمتها عصماء تنبع من دمي
ويمدها قلبي وماء عيوني
نونية والنون تحلو في فمي
أبدا فكدت يقال لي: (ذو النون)
صورت فيها ما استطعت بريشتي
وتركت للأيام ما يعييني
ما همت فيها بالخيال فإن لي
بغرائب الأحداث ما يغنيني
أحداث عهد عصابة حكموا بني
مصر بلا خلق ولا قانون
أنست مظالمهم مظالم من خلوا
حتى ترحَّمنا على (نيرون)!
حسبوا الزمان أصم أعمى عنهم
قد نوموه بخطبة وطنين
ويراعة التاريخ تسخر منهمو
وتقوم بالتسجيل والتدوين
وكفى بربك للخليقة محصيا
في لوحه وكتابه المكنون
التنقل بين الزنازين:
وكان من أشد المحرمات علينا في السجن: أن يزور بعضنا بعضا، ولو ضبط أحدنا يفعل ذلك لعوقب هو وزنزانته، والزنزانة الأخرى عقوبة بليغة، فكنا لا نلتقي إلا في دورة المياه، ولكن دورة المياه لا يلتقي فيها إلا نزلاء ضلع واحد من الأضلاع الاثني عشر في السجن، فلا نلتقي بشكل جماعي إلا في تكدير عام، ينادى على الجميع لينزلوا في الساحة، ويقفوا في الشمس قياما على أقدامهم مددًا طويلة، فيسقط منهم من يسقط إغماء من طول الوقوف، وضعف الجسم من قلة الغذاء، أو من ضربة الشمس، ومع هذا كنا نجد في هذا التكدير العام فسحة يرى فيها بعضنا بعضا، فكثيرًا ما يوجد عدد من الإخوة في السجن أو من الأقارب، أو من الأصدقاء المقربين، ولا يرى بعضهم بعضا.
وعلى الرغم من هذا التضييق والتشديد، كنا ننتهز بعض الفرص، ليزور بعضنا بعضا، وكنت أنا من أكثر الناس تنقلا بين الزنازين، مع ما في ذلك من خطورة، لأن الإخوان كانوا يطلبونني ليسألوني في بعض النواحي الشرعية، وكانت الفرصة المناسبة للتنقل ما بين النزول إلى الدورة قبل الفجر، وما بين توزيع الفطور عند شروق الشمس، فيمكن لأحدنا أن ينتقل خلسة إلى الزنزانة الأخرى، وكلما كانت في الدور نفسه وفي الضلع نفسه كان الأمر أسهل.
وأذكر أني كدت أكشف مرة، ولكن الله سلم، وذلك حين دخل أحد العساكر يطلب شيئا معينا، وهنا وقفت مع أهل الزنزانة كأني واحد منهم، ولم يلتفت العسكري للعدد.
وكان مما يطلبه مني الإخوة أن أنشدهم ما تيسر من "النونية" فقد انتشر خبرها بين المعتقلين.
نزح بئر الصرف الصحي
ومما لا أنساه أن فتحت الزنزانة في صباح يوم، وكان يوم جمعة، وأشار العسكري إليّ، وقال: تعال أنت، فسأله الإخوة: ماذا تريدون منه؟ قال: تنظيف "البكابورت". قالوا له: إنه لا يصلح لهذه المهمة، خد أحدنا مكانه، فهذا شيخنا وعالمنا. قال: لا، لا أريد غيره.
وذهبت معه إلى هذه البئر الذي سدته بعض الأوساخ والقاذورات، وكان لا بد من تسليكه، وقد وجدت هناك عددا من الإخوة كأنهم انتقوهم انتقاء، كلهم من الأطباء والمهندسين والمحامين، أذكر منهم الأخ أحمد حشاد "الدكتور العالم أحمد حشاد بعد ذلك".
وكنا نؤدي عملنا بهمة ونشاط، ونحن نضحك ونمزح، وماذا جرى؟ ذهبت وأنا يوسف القرضاوي، ورجعت وأنا يوسف القرضاوي! وشكر الله لإخواني الذين حرصوا على أن يعفوني من هذه المهمة الكريهة في نظرهم، فأجروا بنيتهم، وإنما لكل امرئ ما نوى.
مرض الصدر:
وكنت في السجن أدعو الله تعالى دائما أن يعافيني وإخواني من الأمراض كلها، وأن يمنحنا من فضله العفو والعافية، وهذا شأن المسلم في كل حين وكل حال، أن يسأل ربه العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة.
ومن الأدعية المأثورة التي أرددها ولا أمل من ترديدها أبدا: "اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي. واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي".
ومن الأدعية المأثورة بين السجدتين في الصلاة: "اللهم اجبرني وارزقني وعافني...".
وفي القنوت الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت...".
ومن المأثور أيضا: "اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من أمراض شتى مثل الجذام والبرص ويستعيذ من سيئ الأسقام.
وإذا كان هذا هو شأني ـ وشأن كل مسلم ـ في الأحوال العادية، ففي السجن الحربي يكون المرء أحوج إلى العافية وسلامة البدن من الأسقام، لعدم توافر الدواء، وقد لا يوجد الطبيب المختص، وإذا وجد من الإخوة المعتقلين الطبيب المتخصص، فقد لا يمكنك الوصول إليه.
وقد أصيب أحد إخواني في الزنزانة ـ الأخ محمد الشافعي ـ بمغص كُلوي حاد، عافانا الله وإياكم منه، وكان الأخ يتلوى ويصرخ من شدة الألم، ويقوم ويقعد، ويبكي ويصيح، ولا من مجير ولا من سميع، وكان ذلك بعد منتصف الليل، واستيقظنا كلنا على ألمه وصراخه الذي يحاول أن يكتمه ويكبته حتى لا يقلقنا، ولكن طفح الكيل، وطغى السيل، فاجتهدنا أن نخفف من آلامه بالدعاء والرقية الشرعية: "اللهم رب الناس، أذهب الباس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما".
لم نجرؤ أن نقرع باب الزنزانة، حتى لا تحدث مأساة كمأساة الذين قرعوا الباب لطلب الماء. وصبرنا حتى فتح الباب قبل الفجر للنزول إلى دورة المياه، وسألنا بعض الإخوة الذين دلونا على من أعطانا بعض المسكنات للأخ، وقد تناوله وسكت عنه الألم، ولله الحمد والمنة.
وأنا لم أنس ما حدث لي حين أصابني الإسهال، وهو مرض خفيف إذا قيس إلى غيره من الأمراض.
على كل حال مرت معظم المدة بخير، وحمدنا الله على السلامة رغم موجبات المرض.
ولكن شاء الله سبحانه في الأشهر الأخيرة أن أصبت بمرض في صدري، ولم أعرف له سببا، حيث ابتليت بنوع من السعال أمسى يقلقني في ليلي، ويكدر علي نهاري، أشبه بالربْو، وما هو بربو.
وكان الجو قد هدأ كثيرا، وأضحى بإمكاننا أن نذهب إلى الأطباء من الإخوان في السجن ليفحصونا، كما كان بالإمكان الإرسال إلى الخارج لشراء بعض الأدوية الضرورية.
وكان في السجن عدد من الأطباء المهرة في عدد من الاختصاصات مثل الدكتور أحمد الملط، والدكتور يوسف جعفر، والدكتور كمال العشماوي.
وكان معالجي هو الدكتور العشماوي الذي أخذ الأمر بعين الجد، وقال لي: الحمد لله الذي أتاح لنا كشف المرض قبل أن يستفحل، وطلب عددًا من الإبر، فأحضرت من الخارج، ودفع ثمنها بعض الموسرين من الإخوان، وظللت آخذ إبرة لا أذكر كل يوم أو كل يومين. وما هي إلا مدة لم تطل، حتى بشرني الدكتور ـ جزاه الله خيرا ـ بأني شفيت تماما، وفي وقت قياسي، وقال لي: إن هذا المرض عادة يحتاج على الأقل إلى شهرين كاملين، مع الراحة التامة، والغذاء الجيد، بحيث يطلب من المريض أن يأكل في كل يوم فرخة!
وأوصاني أن أتابع الفحص بعد خروجي من المعتقل، حتى أطمئن تماما إلى كمال الشفاء واستقراره. وفعلا بعد الإفراج ذهبت إلى الدكتور فتحي قداح طبيب الصدر بالمحلة، وفحصني فحصا كاملا، وزادني اطمئنانا إلى أني سليم الصدر تماما. نسأل الله جل وعلا سلامة الصدر من الأمراض المادية، ومن الأمراض المعنوية جميعا.
توعية المعتقلين:
كان المعتقل أيام الملكية في جبل الطور يعد فرصة للإخوان لتنمية إيمانهم بدعوتهم، وتقوية صلتهم بربهم، وتوثيق ترابطهم فيما بينهم، وتعميق ثقافتهم الإسلامية، حتى اعتبرنا معتقل الطور هو المخيم الدائم للإخوان لسنة 1949م وأن نفقات السفر والإقامة على حساب الحكومة المصرية!
أما معتقل سنة 1954 ـ 1956 فكان شيئا آخر، فقد استفاد رجال الثورة من تجربة العهد السابق، ولهذا رأوا أن يحرموا الإخوان من أي فرصة للتجمع، ووضعوهم في زنازين مغلقة، وسحبوا منهم الكتب حتى لا يقرءوا، والمصاحف حتى لا يأنسوا بها، وفرضوا عليهم ألوانا من الأذى والتكدير الدائم، حتى يكرهوا أنفسهم، ويكرهوا دعوتهم التي جلبت عليهم ما جلبت.
ومع هذا كله لم يكفهم ذلك، فأرادوا أن يهيئوا للإخوان لونا من "غسيل المخ" تستخدم فيه الأساليب العلمية، بعدما جربوا الأساليب الوحشية. فخصصوا محاضرات لتوعية الإخوان، لمحاولة التأثير عليهم، وإقناعهم بتغيير أفكارهم، وإخراج هذا "التعصب" الأعمى! وهذا الهوس المجنون من صدورهم، وأن يعيشوا في المجتمع كما يعيش الناس.
وانتقوا لهذه التوعية المنشودة عددا من الأساتذة النفسيين والاجتماعيين والوعاظ الدينيين، ليلقوا بعض المحاضرات على الإخوان.
وما زلت أذكر من علماء النفس الذين حاضرونا. أ. د. ملاك جرجس.
كما أذكر من الوعاظ فضيلة الشيخ محمد عثمان مفتش الوعظ الذي كان يأتينا مرة أو مرتين في كل أسبوع، وكان رجلا عاقلا، يعلم من هم الذين يخاطبهم، فكان يبتعد عن الأمور الشائكة، والقضايا المحرجة، ويتناول في أحاديثه "الرقائق" المتفق عليها، والتي تنشرح بها الصدور، وتطمئن بها القلوب. وأذكر مما كان يستشهد به كثيرا هذين البيتين:
اللهُ قل، وذر الوجود وما حوى إن كنت مرتادا بلوغ كمالِ
فالكون دون الله -إن حققتــه- عدم على التفصيل والإجمال
يشير إلى قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام:91) والآية لا تدل على المعنى الذي يشير إلى وحدة الوجود كما يفهم من الشعر المذكور، وأنه لا يوجد سوى الله، إن أخذ الكلام على حقيقته، بل الآية لا بد أن تفهم في سياقها، فقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي قل: الله هو الذي أنزل الكتاب النور الذي جاء به موسى فلا دلالة فيها على نفي ثنائية الوجود، بل إن هناك كونا ومكونا، وخالقا ومخلوقا.
وقد استمرت دروس الشيخ عثمان فترة ثم انقطع، ربما لأن التقارير عنه أثبتت أن دروسه لم تؤثر في تفكير الإخوان، وربما لغير ذلك.
* التعيين: عبارة من العبارات المستعملة في السجن، ويقصد به (الطعام المعين لك).

ليست هناك تعليقات: