الاثنين، 14 أبريل 2008

مذكرات القرضاوي (2)

الصِدام الأول بين الثورة والإخوان
مناوشات الثورة والإخوان والاعتقال الأول في عهد الثورة
إلى السجن الحربي.. مع قيادات الإخوان
الاعتقال بين قصيدتين
أحداث فبراير 1954.. تصاعد وتيرة الصراع
الإضرابات المصنوعة.. لتبرير خنق الحريات
لقاء مع "سيد قطب".. بعد أن أضحى من الإخوان

مناوشات الثورة والإخوان والاعتقال الأول في عهد الثورة:
كان من أهم الأحداث وأخطرها في تلك الفترة ما حدث في 12 يناير سنة 1954م، بجامعة القاهرة.
ذلك أن طلبة الإخوان في جامعة القاهرة، أرادوا الاحتفال بشهداء الجامعة شاهين والمنيسي وغانم، ودعوا الزعيم الإيراني المعروف (نُوّاب صفوي) أحد المعارضين لطغيان الشاه زعيم حركة (فدائيان إسلام) الشهيرة ـ وكان يزور القاهرة وقتها ـ لحضور حفل الجامعة، وعمل مؤتمر بهذه المناسبة، وقد دعوني مع عدد من طلاب جامعة الأزهر للمشاركة في هذا المهرجان الوطني الإسلامي.
وقد تكلم زعيم الجامعة الأخ حسن دوح، وقدموني، فتكلمت كلمة باسم الأزهر، وتكلم بعض الإخوان، كما تكلم نواب صفوي.. وفي أثناء كلامه أراد الطلاب المنتمون إلى (هيئة التحرير) أن يفسدوا هذا الحفل، بإحداث بعض الشغب، لينفرط العقد، وينقسم الناس، ويتشاغلوا بفض النزاع، فينفض الحفل، وهي طريقة معروفة لدى الحزبيين من قديم.
وكانت (هيئة التحرير) هي الحزب الجديد، الذي أنشأته ثورة يوليو، ليستغنوا به عن المساندة الشعبية للإخوان، وليكون سندهم الشعبي في تأييد قراراتهم السياسية، وفي الانتخابات في المستقبل، وهو الذي تطور بعد ذلك إلى الاتحاد القومي، ثم انتهى إلى الاتحاد الاشتراكي.
عزَّ على الإخوان أن يهان ضيفهم الكبير، وأن يضطرب الاحتفال الكبير الذي أقاموه له، فقاوموا طلاب هيئة التحرير، ومن جاء يساندهم من رجال الأمن ومنظمات الشباب من الخارج، واصطدموا بهم اصطداما عنيفا، وكان لدى الإخوان طلاب أشداء أقوياء معروفون من خريجي المعتقلات والسجون، مثل الأخ محمود أبو شلوع وغيره، الذين هتفوا بسقوط هيئة التحرير، بل أحرقوا لها سيارة دخلت الجامعة، لا أدري لماذا، وتكهرب الجو السياسي العام، وتلبدت سماء السياسة بالغيوم الكثيفة، وانفض الجميع، لا يدرون عاقبة ما حدث في الجامعة.
كنت مكلفا في هذا اليوم بإلقاء محاضرة في المساء في مدينة بنها، وقد سافرت إليها، وألقيت محاضرة بدار الإخوان هناك، وسلمت على الإخوة هناك، وعلى رأسهم الأخ محمد عبد الحليم عيسى، وزرت معه الأخ القديم المبارك الشيخ عبد الله النبراوي في منزله، ووصلني الإخوة إلى محطة القطار.
وفي المحطة وجدت أستاذنا البهي الخولي واقفا ينتظر القطار الذي أنتظره، وقد قدم من محاضرة ألقاها في شبين الكوم. وحكيت له ما حدث في صباح اليوم في جامعة القاهرة، وكان لا يعلم شيئا عنه، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. نحن الآن أمام امتحان خطير بعد هذه الواقعة. لا ندري هل سيبلعها (جمال) أي عبد الناصر، ويفوِّتها؟ أم يتخذ منها تكأة ليضرب ضربته؟ ستكشف ذلك الأيام القليلة القادمة.
الاعتقال الأول في عهد الثورة
وفي مساء اليوم التالي، ذهبت أنا والأخ أحمد العسال ـ وكنا زميلين في الدراسة ـ إلى كلية اللغة العربية في الدراسة، لنحضر كعادتنا المحاضرات المقررة علينا في تخصص التدريس.
وما كدنا ننزل من الحافلة (الأوتوبيس) ونصل إلى الباب، حتى وجدنا من يترقبنا، من رجال المباحث، ويأخذ بأيدينا في يسر، ويقول: تفضلوا معنا، ولم يكن لنا بد من أن نتفضل معهم. كل ما طلبناه منهم أن نذهب إلى البيت، لنضع كتبنا الدراسية هناك، ونأتي ببعض الملابس، ولم يمانعوا في ذلك، وأخذنا إلى السجن الحربي، لمجرد أن نبيت فيه ليلة أو ليلتين، ثم أخذونا بعد ذلك إلى معتقل (العامرية) بالقرب من الإسكندرية.
معتقل العامرية.. على درب معتقل الطور
وهناك عملنا على تحويل المعتقل إلى جامع وجامعة وجمعية: جامع للعبادة، وجامعة للتثقيف، وجمعية للتعاون على الخير.
يبدأ يومنا من قبل الفجر في التهجد وتلاوة القرآن، وذكر الله، والتضرع إليه بالدعاء والاستغفار، ثم صلاة الفجر في جماعة، ثم قراءة الأذكار والأدعية المأثورات، ثم درس علمي روحي، ألقيه أنا أو الأخ العسال، أو الأخ عز الدين إبراهيم، أو الأستاذ عطية الشيخ، أو غيرهم من دعاة الإخوان.
ثم طابور الرياضة، فالإفطار، ففترة حرة للقراءة والمناقشة والتزاور، ثم صلاة الظهر في جماعة، وبعدها الغداء والقيلولة. ثم تأتي فترة العصر للمحاضرات والندوات والأنشطة الثقافية المختلفة حتى صلاة المغرب.
وبعد صلاة المغرب وقراءة المأثورات، يكون العَشَاء ثم العِشَاء، ثم قد يكون هناك درس علمي مركز. ثم نخلد إلى النوم.
لقد استفاد الإخوان من معتقل الطور، وأرادوا أن ينقلوا التجربة إلى معتقل العامرية، فكانت صورة أخرى منه.
وما هي إلا أيام قليلة ونحن في معمعة هذا النشاط، حتى نودي على ستة من المعتقلين دون غيرهم، لينقلوا إلى القاهرة، كنت واحدا منهم. وهم: محمود عبده، وعز الدين إبراهيم، ومحمود حطيبة، ومحمود نفيس حمدي، وأحمد العسال، ويوسف القرضاوي.
في أول الأمر ظن الإخوان أن هذا أول كشف من كشوف الإفراج!
ولكن بالنظر في الأسماء التي نودي عليها، يستحيل أن يفرج عنها قبل غيرها، وهم من قادة العمل الطلابي والشبابي والدعوي.
وذهبت ظنون الإخوان وتفسيراتهم مذاهب شتى، لماذا هؤلاء دون غيرهم؟ وهل هم مفرج عنهم؟ ولماذا؟ وكيف؟ وهم من أنشط الإخوان؟ حتى قال بعضهم: إنهم أخذوهم ليحرموا الإخوان في المعتقل من نشاطهم ومحاضراتهم، ولكن قد ينطبق هذا على عز الدين والعسال والفقير إليه تعالى.
وقال بعض الإخوان: لعلهم يريدون أن يتفاوضوا مع شباب الإخوان خاصة، وكله ظن وتخمين، والظن لا يغني من الحق شيئا.
إلى السجن الحربي.. مع قيادات الإخوان
على كل حال أُخذنا نحن الستة في سيارة كبيرة، ووصلتنا إلى مكان في ضواحي القاهرة، أدخلنا إليه، فإذا هو السجن الحربي الذي بتنا فيه ليلة اعتقالنا.
وقد وضعنا في سجن رقم (4) في زنازين انفرادية، وكان هذا هو السجن الذي ضم بعد ذلك الأستاذ الهضيبي المرشد العام وعددا من قادة الإخوان.
ورغم أن كلا منا في زنزانة انفرادية، فقد سمحوا بفتح الزنازين معظم النهار، وكنا نتزاور، ونصلي في جماعة، وقد أمرني الأستاذ المرشد أن أكون إماما لهم، فكنت أصلي بهم، وأطيل في الصلاة الجهرية، بحيث أقرأ ربعا أو أكثر أحيانا في الركعة، فنصحني الأستاذ أن أخفف. وكان هذا من فقهه رحمه الله، رعاية للكبير والضعيف وذي الحاجة.
وهذا ما جعل بعض الإخوان بعد ذلك إذا التقينا في مناسبة ما، يقدمونني للصلاة بهم، ويقولون: أنت الإمام بأمر المرشد.
وكان من الإخوان البارزين الذين شرفوا معنا في السجن الحربي الأستاذ الداعية المعروف سعيد رمضان زوج ابنة الإمام البنا، الذي ساعدته الأقدار، فلم يشارك معنا في معتقل الطور، كما ساعدته مرة أخرى، فلم يدرك الاعتقال الثاني في عهد الثورة، حيث كان في الخارج، وأسقطت عنه الجنسية مع أربعة آخرين من الإخوان.
وكان منهم الأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان، وزوج شقيقة الأستاذ البنا، الشاعر الرقيق المطبوع، وكانت للأستاذ عابدين في الأسحار دعوات واستغاثات يناجي بها ربه، بطرف دامع، وقلب خاشع، يسمعها من حوله في زنازينهم. وقد رآني الأستاذ عابدين يوما أنتفض من البرد، ولم يكن عليَّ من الألبسة الصوفية ما يتدثر به الموسرون عادة، فأهداني من عنده ما يسمونه (بلوفر) رصاصي اللون، لأتدفأ به في برد الشتاء، وهذه أول مرة ألبس فيها هذا النوع من الثياب، وقد بقي معي ودخلت به السجن الحربي في الاعتقال القادم، الذي قضيت فيه شتاءين، فأفادني كثيرا، جزى الله الأستاذ عابدين خيرا عن أخيه الفقير.
ولكن هذه الحال لم تدم كثيرا، فنقل المرشد ومعه مجموعة من القياديين إلى عنبر الإدارة، وبقينا نحن في عنبر (4).
وكانت المعاملة بصفة عامة حسنة، يمر علينا في صباح كل يوم مدير السجون الحربية، وكان اسمه اللواء نظيم، كما يمر بنا طبيب السجن، وأحيانا تحدث غضبة مفاجئة لأي سبب، فيغلقون علينا الزنازين، وهنا ننتهزها فرصة للقراءة فيما حملنا من كتب قليلة، أذكر من الكتب التي كانت معي كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) لابن القيم طبعة صبيح، وهي ليست طبعة أنيقة ولا محققة، ولكنها كانت تؤدي الغرض. وكانت إدارة كلية أصول الدين تعطينا بعض الكتب هدية منها، للاطلاع وتنمية الثقافة، وكان منها (زاد المعاد) وهي سنة حسنة، انقطعت بعد ذلك، ربما لضيق الميزانيات.
وأحسب أنه كان معنا بعض كتب التربية المقررة لنا نراجعها مع الأخ محمد مرسي عبد الله، وكان من خريجي معهد التربية العالي.
الاعتقال بين قصيدتين
وأراد الأخ عز الدين إبراهيم أن يصدر مجلة باسم المعتقل، وطلب إلي أن أشارك فيها بقصيدة، فأنشأت قصيدة (زنزانتي) المنشورة بديواني (المسلمون قادمون) ومن قارن وصف الزنزانة في هذه القصيدة ووصفها في قصيدتي (النونية) الشهيرة يعرف الفرق بين الاعتقال الأول في يناير 1954م والاعتقال الآخر في أكتوبر 1954 وما بعده.
وفي هذه القصيدة قلت:
دارٌ حَلَلْتُ بها أُزار وأُخدم
يسعى إلي بها المدير وجنده
دار السلام، فليس فيها آلة
هي لي، ولي وحدي، فليس منازعي
مَلِك بها أنا، لا يرد رغائبي
حجبت عن الدنيا فلا خبر ولا
أنا في حماها راهب في خلوة
منها أصعّد للسماء ضوارعا
هي علمتني الزهد في مُتع الورى
إن قيل: موحشةٌ، فأُنْسي مصحف
أو قيل: معتمةٌ، فليس بمعتم
أو قيل: مغلقةٌ، فذا كيلا أرى
أو قل: ضيقةٌ فكلّ حوائجي
هي حجرتي فيها نهاريَ مجلسي
هي مكتب حينا، وحينا مطعم
هي ساحة لرياضتي أعدو بها
هي (دورتي) في الليل إنْ طال المدى
هذا وليس عليَّ أوّل شهرها
حييت يا زنزانتي، فلأنت لي
ونزلتها ضيفا أُعَزُّ وأُكْرَم
يزورني فيها الطبيب يسلّم
تدمي، وأنى؟ والمقص محرم!
فيها لئيم أو أخ لي مسلم
ومنايَ، إلا هاشم أو مكرم
أثر، وحتى لست ممن يحلم!!
مع من يرى ما في الضمير ويعلم
حرّى تهز العرش وهو الأعظم
والمرء حتى موته يتعلم
أتلوه، يهدي للتي هي أقوم
عندي سوى قلب يعيثُ ويجرم
وجها عبوسا أو لسانا يشتم
في الرّكن، والباقي فضاءٌ يعظم!
هي غرفتي للنوم حين نُنَوّم
إن جاء ميعاد الطعام فأطعموا
في موضعي، إن الضرورة تحكم
أو في النهار إذا أبوا وتحكموا
أجرٌ لسكناها به أتقدّم!
قفصٌ، وإني في حديدِك ضيغمُ!
وفي قصيدتي (النونية) قلت:
أعرفتَ ما قاسيتُ في زنزانة
لا بل ظلمتُ القبر، فهو لذي التُّقى
هي في الشتاء وبرده (ثلاجةٌ)
نُلقى ثمانيةً بها أو سبعةً
هي منتدانا وهي غرفةُ نومنا
هي مسجد لصلاتنا ودعائنا
وهي (الكنيف) وللضرورة حكمها
هي كلُّ الأرض عندي: أرضها
الأرض كل ما لي في الحياة فلم يعد
فيها انقطَعْتُ عن الوجود فلم أعد
كانت هي القبر الذي يؤويني؟!
روضٌ، وتلك جحيمُ أهل الدِّين!
هي في هجير الصيف مثلُ أتون
متداخلين كعُلْبةِ (السردين)
وهي (البوفيه) وحجرة (الصالون)
هي ساحةٌ للَّعْبِ والتمرين
ما الذنبُ إلا ذنبُ من سجنوني
في الكون ما أرجوه أو يرجون
أما السماء فسقفها يعلوني
أعنيه في شيء ولا يعنيني..
ومما عرفناه ونحن في السجن الحربي: أن الأستاذ الهضيبي بعث برسالة إلى الرئيس محمد نجيب، تتضمن بعض النصائح، ويطالبه فيها بإعادة الحريات والحياة النيابية إلى الشعب، ومما أذكره مما جاء في هذه الرسالة قوله: إنكم عبتم على الأحزاب والزعماء قبل الثورة: أنهم لم يقولوا للملك وبطانته: لا، حيث يجب أن تقال. وأنتم بموقفكم من الإخوان تمنعونهم أن يقولوا لكم: لا، حيث يجب أن تقال.
أحداث فبراير 1954
ثم وقعت أحداث فبراير عام 1954 التي بدأت داخل الجيش وسلاح الفرسان بقيادة خالد محيي الدين، بعد إعلان قبول استقالة محمد نجيب.. خرجت المظاهرات تطالب نجيبا بالبقاء. وكان من المعروف أنها من تدبير الإخوان المسلمين.. وشهدت القاهرة أعنف المظاهرات، واضطر عبد الناصر إلى إعادة نجيب.
وفي يوم 28 فبراير خرجت المظاهرات من جامعة القاهرة والأزهر، ومن أبناء الشعب، فأصيب عدد من المواطنين، منهم الطالب ثروت يونس العطافي الطالب بكلية الهندسة، واستشهد أحد طلاب الإخوان، وهو الطالب توفيق عجينة، وحمل المتظاهرون قمصان المصابين ملوثة بدمائهم وتوجهوا إلى قصر عابدين.. وخرج إليهم محمد نجيب محاولا دفعهم للانصراف.. ولكنهم لم يتحركوا.. ولمح بينهم الأستاذ عبد القادر عودة، فدعاه إلى الشرفة لإلقاء خطاب لفض المتظاهرين - وصعد بالفعل، ووقف بجوار محمد نجيب الذي أعلن أنه سينشئ الجمعية التأسيسية وسيعيد الحياة النيابية.. وانصرفت المظاهرات. وجاء في خطاب نجيب ما يلي:
"إننا قررنا أن تكون الجمهورية جمهورية برلمانية على أساس، هو أن نبدأ فورا بتأليف جمعية تأسيسية تمثل كافة هيئات الشعب المختلفة، لتؤدي وظيفة البرلمان مؤقتا، وتراجع نصوص الدستور بعد أن يتم وضعها. وبعد ذلك تعود الحياة النيابية إلى البلاد في مدة أقصاها نهاية فترة الانتقال. وهذا أمر متفق عليه.. ونحن عند وعدنا الذي قطعناه على أنفسنا من أننا لم نقم إلا لإعادة الدستور على أساس سليم في نهاية فترة الانتقال".
واختتم نجيب كلمته قائلا:
"نحمد الله سبحانه تعالى مرة أخرى على أننا اجتزنا هذا الامتحان القاسي بنجاح.. وأؤكد لكم مرة أخرى أني لا أطمع في حكم أو سلطة أو جاه، وإنما أطمع فقط في أن أؤدي واجبي، وأن تزهق روحي في سبيل بلادي وتحريرها، وفي سبيل اتحاد أبنائها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
وكانت تلك الكلمة سببا في انصراف المتظاهرين.. وفي نفس الوقت ثارت ثائرة عبد الناصر ضد الإخوان المسلمين.. فقد همس معاونوه أن الذي أوحى لنجيب بهذا الكلام هو عبد القادر عودة أحد أقطاب الإخوان، الذي كان يقف إلى جوار نجيب في شرفة قصر عابدين.
ومرت ثلاثة أيام.. وفي يوم 2 مارس قامت سلطات البوليس الحربي باعتقال 118 شخصا بينهم 45 من الإخوان، و20 من الاشتراكيين، و5 من الوفديين، و4 شيوعيين، بادعاء أنهم كانوا يدبرون لإحداث فتنة في البلاد، مستغلين فرحة الشعب بعودة نجيب.. وكان في مقدمة المقبوض عليهم: حسن الهضيبي وعبد القادر عودة وصالح أبو رقيق وأحمد حسين زعيم الاشتراكيين.
وتعرض بعض رجال الإخوان المسلمين لعمليات التعذيب داخل السجن الحربي. وفي 8 مارس 1954 بعث عمر عمر نقيب المحامين برسالة إلى نجيب -وكانت قد عادت له كل السلطات- يطلب فيها التحقيق في وقائع التعذيب التي حاقت بالمحامين المعتقلين، وهم: أحمد حسين، وعبد القادر عودة، وعمر التلمساني.
وأمر نجيب بالتحقيق فورا. ومع هذا لم يبدأ التحقيق إلا بعد مرور عشرة أيام بسؤال الثلاثة. وأكدوا جميعا أن الضابط محمد عبد الرحمن نصير كان يشرف على أعمال التعذيب، وكان يشترك في ضربهم بنفسه.. واستطاع المرشد أن يهرّب رسالة من سجنه إلى محمد نجيب نشرت بجريدة المصري، وكان فيها:
أما بعد، فإن مجلس قيادة الثورة قد أصدر قرارا في 12 يناير 1954 بأنه يجري على جماعة الإخوان المسلمين قانون حل الأحزاب السياسية. ومع ما في هذا القرار من مخالفة لمنطوق القانون ومفهومه، فقد صدر بيان نسبت إلينا فيه أفحش الوقائع، وأكثرها اجتراء على الحق، واعتقلنا ولم نخبر بأمر الاعتقال ولا بأسبابه. وقيل يومئذ: إن التحقيق في الوقائع التي ذكرت به سيجري علنا، فاستبشرنا بهذا القول؛ لأننا انتظرنا أن تتاح لنا فرصة الرد عليه، لنبين أن ما اشتمل عليه وعلى الصورة التي جاءت به لا حقيقة له ـ فيعرف كل إنسان قدره، ويقف عند حده. ولكن ذلك لم يحصل.
وإلى أن تتاح لنا الفرصة، فإننا ندعوكم وندعو كل من اتهمنا وندعو أنفسنا: إلى ما أمر الله به رسوله عليه الصلاة والسلام حين قال: "فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" (آل عمران: آية 61).
وقد استمرت حركة الاعتقالات طوال شهرين كاملين حتى امتلأت المعتقلات والسجون بطائفة من أطهر رجالات البلد وشبابها بلغوا عدة آلاف، لكثير منهم مواقف في الدفاع عن البلاد وعن حرياتها شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولم يكتفوا بالكلام كما يفعل كثير من الناس. أما كيفية الاعتقالات ومعاملة المعتقلين فلن نعرض لها هنا.
وقد بدت في مصر بوادر حركة -إن صحت- فقد تغير من شؤونها وأنظمتها. وإن قرار حل الإخوان وإنزال اللافتات عن دورهم لم يغير الحقيقة الواقعة، وهي أن الإخوان المسلمين لا يمكن حلهم؛ لأن الرابطة التي تربط بينهم هي الاعتصام بحبل الله المتين، وهي أقوى من كل قوة. وما زالت هذه الرابطة قائمة، ولن تزال كذلك بإذن الله. ومصر ليست ملكا لفئة معينة ولا يحق لأحد أن يفرض وصايته عليها أو يتصرف في شؤونها دون الرجوع إليها والنزول على إرادتها.. لذلك كان من أوجب الواجبات على الإخوان المسلمين أن يذكروكم بأنه لا يمكن أن يبت في شؤون البلاد في غيبتهم. وكل ما يحصل من هذا القبيل لن يكون له أثر في استقرار الأحوال ولا يفيد البلاد بشيء.
وإن ما دعوتم إليه من الاتحاد وجمع الصفوف لا يتفق وهذه الأحوال، فإن البلاد لا يمكن أن تتحد وتجمع صفوفها وهذه المظالم وأمثالها قائمة.
نسأل الله تعالى أن يقي البلاد كل سوء، وأن يسلك بنا سبيل الصدق في القول والعمل، وأن يهدينا إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإفراج عن المعتقلين إلا واحدا هو أنا:
في يوم 25 مارس، أي بعد حوالي شهرين ونصف من بدء الاعتقال، صدرت الأوامر من قيادة الثورة بالإفراج عن الإخوان في كل المعتقلات، سواء من كانوا في السجن الحربي أم في العامرية أم في غيرهما.
ونودي على جميع الإخوان الذين كانوا في السجن الحربي، فأفرج عنهم إلا واحدا، لم يناد عليه، وهو أنا. وأسقط في يد المسؤول عن السجن، حين لم يجد اسمي في كشف المفرج عنهم. فقد كان يظن أن الكشف يستوعب جميع المعتقلين. وأبدى تأسفه لي، وقال: لا بد أن اسمك سقط سهوا.. ولا بد أن تبقى ضيفا علينا الليلة حتى نتصل بالمسؤولين في الصباح لتدارك الأمر.
وعرف عدد من الإخوان ما حصل، فصبروني على البقاء هذه الليلة، وأكثرهم لم يعلم بذلك. وبقيت وحدي هذه الليلة في سجن الإدارة، وكانت ليلة طويلة طول ليالي المعتقل الماضية كلها. لأني بقيت فيها وحدي شاعرا بالوحشة، فاقدا الأنس بإخواني، حتى لو كان كل منا في زنزانة انفرادية، وقديما قال العرب: البلايا إذا عمَّت طابت. وعبرت عن ذلك الخنساء قديما في رثائها لأخيها صخر بقولها:
يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حـولي
عـلى إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي، ولكن
أعـزي النفس عنه بالتأسّي
وقد فاتني ببقائي بالمعتقل في هذه الليلة: الاشتراك في المؤتمر الكبير الذي عقده الإخوان في المركز العام ليلة خروجهم من قفص الاعتقال، وقد بلغني عنه بعد ذلك: أنه كان مؤتمرا حاشدا، تحدث فيه عدد من دعاة الإخوان، منهم الأستاذ سيد قطب، الذي قال: لن نعتقل بعد اليوم. لن نمسّك كالفراخ (الدجاج) ونوضع في المعتقلات.
وأوصى الأستاذ الهضيبي المرشد العام الإخوان: ألا يكثروا الحديث عما أصابهم من المحن في سبيل الله، فإنهم لا يدرون ما ينتظرهم مما يخبئه الغد. وكأنما كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق!
وفي حوالي الساعة العاشرة من صباح الغد جاءني الضابط المسؤول، وقال لي: لقد صحح الخطأ، وجاءت الأوامر بالإفراج عنك، ونأسف لما حدث، وسنأمر بسيارة توصلك إلى منزلك، تكفيرا عن غلطة الأمس.
قرارات مجلس الثورة التي لم تنفذ:
يوم 25 مارس هذا الذي تقرر فيه الإفراج عن آخر دفعة من المعتقلين هو نفس اليوم الذي اجتمع فيه مجلس الثورة اجتماعا استمر خمس ساعات بحث خلالها الموقف الداخلي. وبعد انتهاء الاجتماع خرج الصاغ كمال الدين حسين إلى الصحفيين وأذاع عليهم القرار التاريخي وهذا نصه:
قرر مجلس الثورة بجلسته اليوم25/3/1954:
أولا: يسمح بقيام أحزاب.
ثانيا: المجلس لا يؤلف حزبا.
ثالثا: لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير على الانتخابات.
رابعا: تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا مباشرا بدون أن يعين أي فرد وتكون لها السيادة الكاملة والسلطة الكاملة، وتكون لها سلطة البرلمان كاملة، وتكون الانتخابات حرة.
خامسا: حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة.
سادسا: تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها.
المصالحة مع الإخوان:
وبعد أن نشرت الصحف هذه القرارات، نشرت ما يأتي:
"تم الإفراج أمس عن الأستاذ حسن الهضيبي من السجن الحربي، كما أفرج عن باقي أعضاء جماعة الإخوان المعتقلين. وقد تم اتصال أمس بين المسؤولين وبين السيد حسن الهضيبي المرشد العام قبل الإفراج عنه بشأن عودة جماعة الإخوان المسلمين إلى نشاطها السابق.
وقد تم الاتفاق معهم على ثلاث نقط:
أولا: أن تعود الجماعة إلى سابق نشاطها وكيانها بدون أي حد من حرياتها، وإعادة أموالها المصادرة وشعبها ومركزها العام.
ثانيا: الإفراج فورا عن جميع الإخوان مدنيين أو عسكريين مع إعادة من فصل منهم إلى الخدمة العسكرية.
ثالثا: أن يصدر مجلس الثورة بيانا يوضح فيه حقيقة الأسباب التي اعتبرها داعية إلى حل الإخوان. ويكون هذا البيان بمثابة الختام في هذه المسألة المؤسفة.
وقد صرح السيد حسن الهضيبي للمسؤولين بأن الإخوان سيكونون بعد عودتهم عونا للحكومة على طرد الإنجليز من منطقة قناة السويس، ورد اعتداءاتهم الوحشية. وفي منتصف ليلة أمس توجه البكباشي جمال عبد الناصر إلى منزل الأستاذ الهضيبي حيث اجتمع به في منزله.
وكانت صحيفة (المصري) الناطقة بلسان حزب الوفد، والتي يصدرها آل أبو الفتح، هي الجريدة المعارضة الوحيدة المسموح لها حتى الآن، والتي كانت تنطق بلسان الشعب، وتتبنى مطالبه بقوة، وقد اتسع انتشارها في الآونة الأخيرة لتجاوبها مع الجماهير، ولهذا سرعان ما أغلقتها الحكومة.
وكذلك كانت مجلة (روز اليوسف) الأسبوعية، التي كان يرأس تحريرها الكاتب المعروف الأستاذ إحسان عبد القدوس، الذي كتب في هذا الوقت مقالات نارية ضد الثورة، ما زلت أذكر عنوان واحد منها، وهو (الجمعية السرية التي تحكم مصر) مما وضعه عندهم في القائمة السوداء، ولقي جزاءه بعد ذلك.
الإضرابات المصنوعة.. لتبرير خنق الحريات
وبدأت جماعة الإخوان المسلمين تستأنف نشاطها من يوم 26 مارس.. واعتقد الجميع أن الحياة النيابية ستعود.. وفي نفس اليوم بدأ عبد الناصر تنفيذ خطته.. وفوجئت القاهرة بتوقف جميع وسائل النقل بها في الساعة الواحدة ظهرا ما عدا الترام، وبعد أن استطاع أن يستميل إليه الصاوي أحمد الصاوي رئيس اتحاد نقابات عمال النقل، الذي دفع له عبد الناصر أربعة آلاف جنيه، وكانت مبلغا محترما في ذلك الوقت، ليعلن إضرابا شاملا لمطالب خاصة.. ثم بدأت الإذاعة تذيع إضراب العمال بسبب قرارات عودة الحياة النيابية للبلاد، ورغبتهم في الإبقاء على مجلس الثورة.
وخرجت جريدتا الأهرام والأخبار تؤيدان هذا الاتجاه، وتطالبان ببقاء مجلس الثورة.. بينما انفردت جريدة المصري بالوقوف ضد هذا الاتجاه.. ومحاولة الكشف عن المؤامرة التي تدبر للقضاء على الحياة النيابية الدستورية الطبيعية للبلاد.
وبدأت المظاهرات تشتد.. وهي المظاهرات التي كان يدبرها البوليس الحربي، وكانت تطالب بعدم عودة الحياة النيابية.. وتهتف بسقوط المثقفين! وذهبت إلى مجلس الدولة، فاعتدت على رئيسه القانوني الكبير د.عبد الرزاق السنهوري!
بيان من الإخوان حول الأزمة:
وأصدر المرشد العام بيانا يوم 28 مارس هذا نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم.. لا ريب أن مصر الآن تمر بفترة بالغة الدقة والخطورة في تاريخها، بعيدة الأثر في كيانها ومستقبلها. وهي فترة تقتضي من كل مواطن أن يهب البلاد نفسه، ويبذل لها وجوده، ويؤثرها بالخالص من رأيه ومشورته حتى يأذن الله بانجلاء هذه الغمرة، ويبدل الوطن منها حياة أمن واستقرار ووحدة.
وقد فوجئ الإخوان المسلمون غداة خروجهم من السجون والمعتقلات بتوالي الأحداث الخطيرة التي تتعرض لها البلاد في حدة وسرعة لم يتيسر معها معرفة أسبابها والعوامل التي تؤثر فيها، ثم تحديد وسائل العلاج التي تلائمها.
من أجل ذلك بادر الإخوان المسلمون إلى العمل على أداء واجبهم في التماس المخرج من هذه الأزمة، فبدا لهم أن من العسير أن ترسم الخطط الصالحة، ويوضع العلاج لهذه المشاكل، وتسمع المشورة الصادقة المستقلة في جو الغضب والانفعال، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل الله ألا يستجيب له وهو غضبان.
لهذا لم يكن بد من الإسراع بلقاء المسؤولين والاتصال بطرفي الخلاف للدعوة إلى اتخاذ مهلة تتجنب فيها المضاعفات، وتنتهي فيها حالة التوتر القائمة حتى يتيسر لأولي الرأي والإخلاص أن يتقدموا للمسؤولين من الأمة بخطة كاملة مدروسة تكشف عن البلاد هذه الشدة، وتضع الحلول الكفيلة بوقاية البلاد من أن تتعرض لمثلها في أية مناسبة.
وعلى هذا الأساس قام وفد من الإخوان المسلمين برياسة المرشد العام بلقاء البكباشي جمال عبد الناصر في الليلة الماضية ثم بزيارة اللواء محمد نجيب لانشغاله في هذه الليلة بالاجتماع بجلالة الملك سعود ضيف مصر الكبير، الذي آثر مشكورا بكريم وساطته في علاج هذا الموقف العصيب.
وما زال الإخوان المسلمون يواصلون خطواتهم في إقناع المسؤولين باتخاذ مهلة، مع قيامهم في الوقت نفسه بدراسة خطة العلاج الشاملة، آملين أن يستجيب المسؤولون إلى ندائهم، فتتغلب الحكمة والوطنية على بواعث الخلاف والفرقة، ويلتقي الجميع بإذن الله على كلمة سواء.
وإذا كانت الجهود تتوالى في العمل على جمع الكلمة وحل الأزمة، فإننا نناشد شعب مصر الكريم أن يعتصم بالهدوء والسكينة ورباطة الجأش، وأن ينصرف أبناؤه جميعا إلى أعمالهم في انتظام وطمأنينة، مع التوجه إلى الله العلي الكبير أن يحفظ البلاد من كل سوء، وأن يعين الساعين، ويجمع المسؤولين على الحل الكامل السليم الذي يخرج بالبلاد من المأزق الحاضر، ويحفظ وحدة الأمة، ويصون حقوق الشعب وحرياته، ويحقق الاستقرار المنشود، في ظل حياة نيابية نظيفة محوطة بالضمانات التي تجنبها مساوئ الماضي، وتوفر الجهود لتخليص الوطن من الغاصب المستعمر، ولمتابعة حركة الإصلاحات الإيجابية التي تستكمل البلاد بها نهضتها والله ولي التوفيق".
وأذيع هذا البيان الذي طلبه عبد الناصر من المرشد بعد اتفاق الاثنين على أن توقف المظاهرات لحين انتهاء زيارة الملك سعود، وإيجاد حل للأزمة ـ ونشر البيان يوم 29 مارس نفس يوم مغادرة الملك سعود مصر.
ما بعد إفراج مارس 1954:
بعد هذا الإفراج عدت إلى حياتي العادية: عدت إلى القرية ليراني الأهل والأقارب والأحبة وأراهم، وعدت إلى الخطابة في مسجد آل طه بالمحلة كالمعتاد، بل بصوت أجهر، ونشاط أظهر، ووجدت مكتبتي، ولكن لم أجد فيها المبلغ الذي كان فيها، فقد نبهتهم عليه، فاستحلوا أخذه ولم يعترف أحد منهم بذلك، واستعضته عند الله، وهو مبلغ بسيط -أكثر من خمسين جنيها- ولكنه كان في ذلك الوقت يعتبر ثروة بالنسبة لمثلي.
ومما أذكره في تلك الفترة: أننا أردنا أن نبني دارا للإخوان في قريتنا صفط تراب، وذلك في مكان ليس مملوكا لأحد، إنما هو ملك عام، كان مقابر قديمة جدا. وجهزنا الحجارة، وأحضرنا الطين اللازم للبناء، وأعددنا العدة لذلك، ولم نعلن عنها، إلا قبلها بقليل، وكان البناؤون والمساعدون لهم جاهزين، فبدأنا في الليل، ولكن شيخ الخفراء، وخفراءه جاءوا واصطدموا بنا، وكانوا قد بلغوا مركز المحلة الكبرى، فجاءت الشرطة، وكنا تفرقنا، فأخذونا من بيوتنا، وذهبوا بنا إلى حجز مركز الشرطة بالمحلة، وبتنا به ليلة، وقد حققوا معنا ثم أفرجوا عنا، وعدنا إلى القرية يهتف الشباب بحماس: الله أكبر ولله الحمد، إخوان مسلمون ولو كره المجرمون، وكانت هذه الحادثة في بداية التوترات بعد الإفراج في مارس.
شركة الأخوّة الإسلامية بالمحلة:
وكان مما فكر فيه إخوان المحلة أمام المد الإخواني: أن ينشئوا شركة تجارية عامة، تساهم فيها الجماعة، كما يساهم فيها الإخوان بأموالهم الخاصة، ويكون جزء من أرباحها للدعوة، وقد أنشئت بالفعل باسم "شركة الأخوّة الإسلامية" وساهمت فيها بكل ما أملك مما ادخرته من راتبي.
ولم تكد الشركة تجري سفينتها باسم الله مجراها ومرساها، وجرت بهم بريح طيبة، حتى جاءتها ريح عاصف، فأحاط بها الموج من كل مكان، وكانت المحنة مع الثورة، فصودرت الشركة وأغلقت، واستطاع أحد الأخوان ـ وهو الحاج سليمان مطاوع ـ أن يشتريها من الحكومة بطريقة خاصة، ويحولها إلى شركة خاصة باسم (شركة الشرق) وهي لا تزال تعمل إلى اليوم، المهم أن الذين دفعوا أموالهم فيها أولا خسروا نقودهم وعوضهم على الله.
وليست هذه أول مرة يخسر الإخوان فيها شركاتهم، فقد جربوا ذلك في عهد الملكية، فقد كان من رأي الإمام البنا أن يثبت الإخوان شمول دعوتهم عمليا، كما أثبتوا شمولها نظريا، فإذا قالوا: الإسلام نظام اقتصادي أسسوا شركات اقتصادية ليؤكدوا مصداقيتهم بأعمالهم.
ومن هنا أنشئوا أيام الشهيد البنا: شركة المعاملات الإسلامية، وشركة المناجم والمحاجر، وشركة الصحافة وغيرها، فلما حلت الجماعة حلت معها هذه الشركات، واعتبرت من ممتلكات الجماعة، فصودرت مع كل ما تملكه من دور ومؤسسات.
والذي أراه أن الشمول النظري لا يستلزم الشمول العملي، وأن مهمة الدعوة أن تربي أبناءها على هذا الشمول، وأن تطلقهم في ميادين الحياة يطبقونه بالفعل، كل فيما يحسنه ويختص به.
فهذا ينشئ وحده أو مع آخرين شركة تجارية، وآخر يؤسس مع آخرين مصرفا إسلاميا، وثالث يقيم مدارس إسلامية، وآخرون يقيمون مصنعا، وهكذا.
وبهذا لا يكون من السهل أن تصادر الحكومة كل هذه المؤسسات لأنها ستصطدم بحقوق الأفراد.
الرجوع إلى القاهرة:
ثم عدت إلى القاهرة لأصل ما انقطع من دروس ومحاضرات في قسم إجازة التدريس، استعدادا لامتحان السنة الأولى في أوائل الصيف، وعكفت على ما فاتني من محاضرات في المقررات المختلفة، قارئا لكتبها، ومستعينا ببعض الزملاء فيما عندهم من مذكرات شارحة عند اللزوم.
ومن فضل الله تعالى علي أن وفقني في الامتحان توفيقا عظيما، كان عوضا من الله جل جلاله عما فاتنا وما أصابنا في تلك المرحلة "وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ" (هود: آية 88).
كما كنت أمارس نشاطي المعتاد في الإخوان، سواء في قسم الطلاب أم في قسم نشر الدعوة أم في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، وخصوصا بعد الإفراج وإعلان عبد الناصر ورجال الثورة الصلح مع الإخوان، وزيارة جمال عبد الناصر للأستاذ المرشد حسن الهضيبي في بيته.
لقاء مع "سيد قطب".. بعد أن أضحى من الإخوان
تحدثت عن الأستاذ سيد قطب في المرحلة السابقة باعتباره الكاتب الإسلامي المرموق، صاحب القلم السيال، والأسلوب الرفيع، والذي دخل الساحة الإسلامية بقوة، بكتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وما بعده، واقترب من الإخوان، وإن لم يصبح واحدا منهم.
واليوم أتحدث عن سيد قطب بعد أن اندمج في الإخوان، وأصبح واحدا منهم، بل غدا من قادة الفكر والتوجيه فيهم، وأضحى موضع الثقة عند مرشدهم، حتى أسند إليه رئاسة (قسم نشر الدعوة) في الجماعة، كما أسندت إليه رئاسة تحرير مجلة "الإخوان المسلمون" الأسبوعية، كما كان سكرتير تحرير المجلة معه الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ محمد فتحي عثمان.
وفي هذه الفترة طلبني الأستاذ سيد قطب لألقاه، فذهبت إليه في المجلة، وقال لي: إنه كُلف رئاسة قسم نشر الدعوة، وهو يريد أن ينهض بالقسم على أسس منهجية سليمة، ويرجو من دعاة الإخوان أن يعاونوه على ذلك، فهو لا يستطيع أن يحقق ما يريد إلا بتعاون الجميع معه، وخصوصا شباب الدعاة المرجوين أمثالك.
قلت له: أنا معك في كل ما تصبو إليه إن شاء الله، ونحن جنودك في تحقيق آمالك الكبيرة المرجوة في نشر الدعوة بطريقة علمية.
قال: تعلم أن أحاديث الثلاثاء، أصبحت متروكة للمصادفات، في كل ثلاثاء يقدَّم أحد الإخوان الدعاة ليلقي ما يخطر بباله بدون إعداد ولا تحضير، وإنما هو حديث مرتجل عفو الخاطر، ومثل هذا لا يليق بجماعة كبيرة مثل الإخوان.
لهذا رأيت أن ننظم هذا الأمر، بحيث نكلف عددا من دعاة الإخوان، كل واحد يأخذ شهرا، يلقي فيه أربعة أحاديث في موضوع محدد يتفق معه عليه، ويحضر له المادة المطلوبة، ويلقيه على الإخوان، فيستفيدون علما وثقافة، لا مجرد عواطف ومشاعر، قلت له: نعم الرأي هذا.
قال: وعلى هذا الأساس أعرض عليك واحدا من موضوعين، تختار أحدهما لتعده وتلقيه في الوقت المناسب، الموضوع الأول: مواقف من السيرة النبوية، والثاني: من أخلاق القرآن، فهل ترى هذين مناسبين؟
قلت: كلاهما ملائم، ولكني أختار الثاني، فربما عندي فيه ما يقال مما يفيد إن شاء الله.
قال: على بركة الله، فليكن ذلك في شهر نوفمبر تقريبا، أي في أثناء السنة الدراسية إن شاء الله.
قلت: وهو موعد مناسب لي، وأسأل الله التوفيق.
ولكن الأمور تغيرت بسرعة مذهلة، وحدث ما حدث، حتى إن شهر نوفمبر الموعود حينما جاء، كان قد ضمه وضمني وضم الإخوان معنا السجن الحربي، والعبد يفكر، والله يقدر، ولله في خلقه شئون.
وكانت هذه المرة الثانية التي ألقى فيها الشهيد سيد قطب رحمه الله وأجلس إليه منفردا به. أما المرة الأولى، فكنت أنا الذي طلبت لقاءه، فقد كنت مشغولا بإصلاح الأزهر، لعلمي بأن الأزهر مؤسسة علمية دينية كبرى ذات تأثير في مصر وفي العالم الإسلامي كله، بل في المسلمين خارج العالم الإسلامي حيثما كانوا، وأن بإضاعة الأزهر يضيع خير كثير على الأمة، وبإصلاحه يصلح كثير من شأن الأمة، وقديما قالوا:
يا أيها العلماء يا ملح البلد ما يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟
ذهبت إلى الأستاذ سيد رحمه الله، وعرضت عليه ما عندي من أفكار لإصلاح الأزهر، والرقي بمناهجه، والنهوض بعلمائه ورجاله، وشرحت له ذلك في جلسة مطولة، في دار الإخوان بالحلمية، وقد أثنى على جهدي وتوجهي الإصلاحي، وشجعني تشجيعا سرني وشرح صدري، وأضاف إليّ بعض النصائح والتوجيهات المهمة من ثمرات قراءته، ومن تجاربه في الحياة، وأذكر مما قاله لي، وأنا أحدثه عن الفلسفة الإسلامية: إنها في الحقيقة ليست فلسفة إسلامية، إنها في الواقع ظلال للفلسفة اليونانية، مترجمة إلى العربية، مضافا إليها بعض إضافات لم تغير جوهرها.
إننا في حاجة إلى فلسفة تعبر عن حقائق الإسلام الكبرى، وعن فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان، بصورة تبين مزايا النظرة الإسلامية عن سائر النظرات والفلسفات الأخرى، سواء كانت نظرة الديانات السماوية الأخرى التي حرفت، أم الديانات الوثنية الأرضية، أم الفلسفات البشرية الوضعية.
ولم يقدر لي بعد هاتين الجلستين مع الشهيد، أن أسعد به مرة أخرى، فقد كنت في القاهرة صيف سنة 1964 حين أفرج عنه من سجنه بشفاعة الرئيس العراقي عبد السلام عارف، وأردت أن أسلم عليه بعد خروجه من السجن، وذهبت مع أحد الإخوة الأزهريين العراقيين الذين كانوا يدرسون للدكتوراة في مصر، وهو الأخ الشيخ حسيب السامرائي، الذي تفضل بأخذنا في سيارته أنا والأخ الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، وذهبنا إلى بيته في حلوان، ولكنا للأسف لم نجده، ولم تتح لنا زيارته مرة أخرى، إذ في السنة القادمة كانت محنة 1965، والتي جرى فيها ما جرى، والحمد لله على كل حال..

ليست هناك تعليقات: