اغتصاب الأرض المقدسة
بدأ تحويل الولايات المتحدة إلى قاعدة عمليات يهودية على نطاق عالمي، مع وصول أول سفينة محملة باليهود الروس. قد تدفق إلى أمريكا هؤلاء اليهود، الذين ينتسبون في الغالب إلى يهود الخزر ويتحدثون الييدية، والذين جاءوا إليها فقراء معدمين. وبلغ عددهم ما بين 1881 و1920 مليونين. وفي سنة 1928 كان من بين الأربعة ملايين وربع مليون يهودي في الولايات المتحدة ثلاثة ملايين ونصف من أصل أوروبي شرقي، مولداً أو نسباً.
كان اليهود الروس جميعاً سواء منهم المحافظ أو المتدين أو المتطرف، اشتراكيين ملحدين. ولما كانوا لا يشعرون بارتباط يشدهم إلى ارض ميلادهم، اتجهت غرائزهم الوطنية للوعد النبوي باستعادة مجد إسرائيل. وقد اعتبر اليهود الروس أنفسهم أمة في المنفى، سواء منهم من كان يعيش تحت القبضة الحديدية لشرطة القيصر السرية، ومن كان يستنشق هواء الحرية في أمريكا. وقد كانوا يخضعون لتعليمات اليهود، وندر أن التقوا بالأمميين في عمليات التبادل الاقتصادية أو وقت الأزمات الحكومية. ولم تكن أمريكا بالنسبة لهم إلا منفى جديداً، حملوا إليها يهوديتهم الساخنة، والشعور بالتضامن، وبغض حكومات الأمميين. ولما كان اليهود الروس قد تشربوا هذه العقائد والتقاليد فقد أصبحوا صهاينة متعصبين.
وهكذا، وقبل الاعتداء الوحشي على فلسطين، خطط يهود أمريكا لمستقبل حكومة الدولة التي سيقيمونها في الأرض المقدسة، حالما ينتزعون الأرض بالقوة من أصحابها الشرعيين.
وانتشرت في الولايات المتحدة شبكة من المؤسسات التي لم تكن إلا البداية(1). فقد تضاعفت مرات ومرات مع ازدياد نفوذ اليهود وتصاعد ثروتهم. وكانت جماعات يهود الخزر، ممن لم تطأ أقدام أجدادهم الأرض المقدسة، أشد الصهاينة حماساً. أما يهود إسبانيا والبرتغال ووسط وشمالي أوروبا، فقد وجدوا في الولايات المتحدة أرضاً مناسبة لعيشهم، وكانوا على وشك القبول بها واعتبارها (الأرض المقدسة) مع القناعة بصهيونية روحية. إلا أن نواياهم الطيبة تلونت وتأثرت بالهاربين من الشرطة الروسية، الذين ألفوا العنف والعدوان. فانتزع اليهود الروس غيرهم من اليهود من (أمريكيتهم) ووجهوهم بكل صفاقة على طريق جديد نحو فلسطين، وللاستيلاء على العالم كله. وبذلك أصبح يهود (الجمعية الاشتراكية اليهودية) من الخزر، قادة اليهود الأمريكيين.
وقد شده يهود إسبانيا وألمانيا لما رأوا من عادات غريبة ولغة غريبة عند القادمين الجدد ونظروا إليهم كأجانب، لا كيهود أخوة لهم.. فرغم أن اللغة الييدية(2) كانت تكتب بالحروف العبرية، لكنها لم تكن لغة اليهود الإسبان أو الألمان.. غير أن اليهود الألمان حاولوا جعل القادمين من روسيا يهوداً أمريكيين وحسب..
ومع أن اليهود الألمان بسطوا منظماتهم خارج نطاق دور العبادة، لكن منظمتهم العلمانية كانت تساير الخطوط العامة للحياة الأمريكية. وقد قنعوا بالنشاط في مجال الأعمال الخيرية. وفي محاولاتهم المبذولة لتحويل اليهود الروس إلى يهود أمريكيين، أصبحوا قوة مسيطرة، ولكنهم في النهاية ابتلعوا داخل التيار الكاسح للقومية اليهودية التي رفضت أن تذوب في قلوب المهاجرين الروس.
في الوقت الذي وجد فيه اليهودي الروسي الحرية والثروة في الولايات المتحدة، لم يجد القناعة والطمأنينة. فقد كان ثائراً على كل سلطة حكومية موجودة، أو قلقاً متعنتاً ضيق الأفق. وكان يشغل ذهنه، من جهة، (جمع المشتتين) في إسرائيل جديدة، وكان، من جهة أخرى، مشغول البال بإقامة مثالية (يوطوبيا) اشتراكية على غرار (السنهدريم)(3) الاستبدادي المطلق. وسواء أكان هذا اليهودي الروسي متعصباً إلى حد الجنون، أم ملحداً متطرفاً، فقد ظل يهودياً من ناحية الانتماء العرقي. وكذلك أصبح تاريخ اضطهاده في أوروبا الشرقية درعاً ورمحاً في أمريكا، يستطيع بها إخفاء عيوبه ورذائله، وإخراس منتقديه. وكان انقضاضه على الاقتصاد والسياسة الأمريكية وتقاليدها، دون صد من شرطة سرية أو (مذابح مدبرة)، مشجعاً له على بذل جهود أعظم وأشد عدوانية. وعندما كان يواجه بالمعارضة كان يعرف كيف يصيح متهماً معارضيه بالاضطهاد ومعاداة السامية. وسواء كان يتكلم كحبر متعصب داعياً (لوحدة الشعب اليهودي)، أو ينادي للإطاحة بالجمهورية بالعنف والقوة كماركسي ملحد، فقد كان دوماً يرد على منتقديه بنفس التهمة (معاداة السامية).
وكانت هذه القاعدة الجديدة في أمريكا مليئة بالوعود والبشائر.. ففيها شعب متسامح يحمل مفاهيم غريبة عن الحرية، حرية الكلام التي أعطت مناعة لمن كانوا يخضعون للرقابة، وحرية الاجتماعات لمن كانوا يحرضون على الشعب والثورة، وحرية الصحافة التي يمكن تسييرها كما يشتهون، ومفهوم الولاء الذي لا يعتبر التآمر العالمي خيانة. وفي هذا البلد الغربي يمكن للغريب أن يهاجمه ويمكن للمواطن الذي ولد فيه أو نال جنسيته أن ينخرط في تنظيم لتدمير البلد.. وكذلك لا يمكن لأي فرد أن يتمتع بكل مزايا الإقامة فيه، وأن يسمح، في نفس الوقت، لقلبه وطموحه وولائه بالاتجاه إلى مكان آخر. وأكثر من ذلك، كان هذا المفهوم للديمقراطية شيئاً عظيم الفائدة. ولأن الناس كانوا طموحين يتوقون لبلوغ المراكز العامة فقد كانوا عرضة للمساعدة المالية في حملاتهم السياسية، شديدي الحساسية لمزاولة الضغط حالما يتسلمون المراكز والوظائف. وقد كان تبادل المصالح بين المسؤولين في الاتحاد السوفييتي أمراً ضرورياً للبقاء، في أمريكا أصبح ذلك سلاحاً سياسياً ذا قوة مذهلة.
كان الكثيرون، بالطبع، يريدون أن يكونوا أمريكيين صالحين قانعين بالحرية في عبادة الله على طريقتهم الخاصة، مندمجين في الحياة الأمريكية العامة.. وكان آخرون يريدون أن يصبحوا اشتراكيين يتبنون نظريات أجنبية مستوردة من أقبية ومواخير آسيا وأوروبا.. ويريد البعض أن يكون متطرفاً مهذباً يخلط العقائد الثورية بالآراء الجديدة عن الحرية، ويريد آخرون أن يقدموا النظريات الثورية الداعية للقوة والعنف، ولكن آخرين كانوا مايزالون يلتهبون حماساً لتحقيق وعد الأنبياء والعيش من أجل العودة إلى (صهيون). غير أن الجميع كانوا يريدون أن يظلوا يهوداً، مع التفاوت في درجة المغالاة في التعصب لليهودية.
وبعد زمن ليس بالطويل أصبح الشيوعي اليهودي يرفض المثول أمام لجنة تشريعية حكومية، وأصبح التلمود يستخدم للدفاع عن يهود آخرين يحاكمون لتآمرهم على أكرم حكومة عرفوها.. وبذلك يظل اليهودي المرتد عن دينه يجد طريقاً للعودة إلى أصله العرقي والتلمودي، مع القيام بنشاط الخيانة في الولايات المتحدة.
يرجع أساس الادعاء الصهيوني بحق اليهود في فلسطين إلى المغالطة القائلة أن أبناء الديانة اليهودية هم أعضاء (الجنس اليهودي) القديم، الجنس الذي أصبح (شعباً مشرداً) في بلدان العالم. وقد كان يروج لهذه القصة الخرافية (القوميون) اليهود، ثم تلامذة ثيودور هرتزل منذ سنة 1897.
رغم أن أجداد اليهود قد حكموا ذات مرة البلد الصغير فلسطين، وانتهى وجودهم فيه قبل آلاف السنين، فإن الصهاينة لا يجدون ما ينافي الأخلاق في طلب انتزاع البلد من سكانه ليصبح مكاناً لتجمع المشتتين ـ الشعب اليهودي ـ في العالم (وإعادة بناء الدولة اليهودية). ويبدو أن حقيقة مرور ألفي سنة على الادعاء بسيطرة الأجداد على فلسطين، أمر قليل الأهمية عند الصهاينة. وقد فشلت حقيقة وجود السكان العرب قروناً متوالية والدعوة لطردهم من بيوتهم، وفشلت في إثارة غريزة العطف والعدل في قلوب الصهاينة وعقولهم. فالضمير الحي لا يجد أدنى مقارنة بين الادعاء التاريخي بفلسطين، حتى ولو صدق، وبين اغتصاب فلسطين من سكانها العرب. وحتى هذا الأساس الواهي لتعليل وجود الطابور الخامس الصهيوني في فلسطين وما تلاه من أعمال عنف وانتزاع الأرض من العرب، ليس له وجود في واقع الأمر.
إن كل المراجع المعترف بها في العالم حول تاريخ أمم أوروبا وآسيا وأفريقيا تخالف الادعاء الصهيوني. فالأفراد الذين يعتنقون الديانة اليهودية، المبعثرون في أنحاء العالم اليوم، هي أحفاد سكان محليين منتشرين على نطاق واسع.
فقد انتشرت الديانة اليهودية من الأرض المقدسة فيما بين سنة 1500 و1000 قبل الميلاد، ووصلت شعوب شمال أفريقيا، على البحر المتوسط، ووصلت غرب أوروبا، والجزيرة العربية، والهند والصين والحبشة. وتحول بعض السكان الوثنيين إلى يهود إلى أيدي البعثات الدينية والتجار والمنفيين، الذين استقروا في هذه البلدان واندمجوا مع السكان المحليين. وقد تصهروا مع المواطنين، الأمر الذي أدى إلى اختفاء الأصول العرقية السابقة، وبذلك أصبح السكان الذين اعتنقوا اليهودية غير ساميين في غالب الأمر(4).
والواقع أنه ليس هناك أساس تاريخي لادعاء الصهاينة بوجود حق شرعي في فلسطين لأبناء الديانة اليهودية من شرق أوروبا. فالمراجع الرسمية، اليهودية منها وغير اليهودية، متفقة على أن هؤلاء الناس هم من نسل جنس تركي تتاري غير سامي، جاءوا إلى أوروبا من آسيا في القرن الأول الميلادي، سالكين طريقاً برياً شمال بحر قزوين، وأصبحوا بعد ذلك يعرفون بشعب خزر. وقد كانوا شعباً يحب الحروب، استقر في شرق أوروبا، وتمكن أبناؤه بالانتصارات المستمرة والناجحة من توسيع رقعتهم حتى شملت الجزء الأكبر من شرق أوروبا، غرب الأورال وشمال البحر الأسود. وقد اعتنق شعب خزر اليهودية قرب نهاية القرن الثامن، ولم يسمح بعدها باعتلاء عرش خزر إلا لملك يهودي، وأصبحت اليهودية دين الدولة.
وقد ظل التوسع هو الاهتمام الرئيسي لمملكة خزر، وجمعت في قمة انتصاراتها الجزية مما لا يقل عن خمسة وعشرين شعباً محتلاً. وفي أواخر القرن العاشر زحف الروس من الشمال وتغلبوا على خزر، وبذلك ذاب سكان خزر وولاياتها في الدولة الروسية الواسعة وهذا ما يفسر كثرة السكان اليهود في هذا البلد. ثم أصبحت أجزاء كبيرة من السكان اليهود بولنديين ولثوانيين ورومانيين.. الخ، وذلك على مجرى سنوات الانتصارات التالية.
كانت فلسطين تبعد أكثر من ألف وخمسمائة ميل عن مملكة خزر، ولذا لم يكن ليهود أوروبا الشرقية، أحفاد يهود خزر، أي ارتباط تاريخي أو عرقي باليهود الأصليين في الأرض المقدسة.
ولكن اليهود كانوا من سنة 1916 مستميتين في مطالبتهم بفلسطين، ليس إلا.. وقد فشلت كل الجهود في إقامة ما يسمى بـ (الوطن القومي) لليهود في جزء آخر من العالم، لا يتعرض فيه سكان للانتزاع من أرضهم، وعارض الصهاينة ذلك بكل ما أوتوا من قوة.
ولكن لماذا ؟
يبين التقرير الرسمي الذي أعده (وكلاء التاج البريطاني للمستعمرات)، لحساب (حكومة فلسطين)، بأن البحر الميت يحتوي على 42 مليار طن متري من معادن كلوريد البوتاسيوم وبروميد المغنيسيوم، وكلوريد المغنيسيوم، والكالسيوم، وكلوريد الصوديوم، وكذلك (كميات لا تنفد من البوتاس)، والقيمة الإجمالية لذلك خمسة آلاف مليار دولار حسب السعر الحالي (1953)، وتلك ثروة خيالية تتحدى الخيال. وهذا المصدر الطبيعي الذي يملكه العرب قانونياً، يقوم اليوم باستغلاله أبناء خزر الجشعين من خلال (شركة بوتاس فلسطين المحدودة)، وهي شركة (واجهة) للقيادة الصهيونية السرية العليا. وبهذه الثروة ينوي أبناء خزر إقامة مملكتهم اليهودية السابقة التي قامت في أوروبا الشرقية.
ولا بد من التأكيد بأن الصهاينة لا يشملون كل اليهود الأمريكيين في حركتهم، فهناك الكثير من اليهود الأمريكيين الوطنيين الذي ينظرون ببغض إلى النشاطات الصهيونية الأمريكية ووكالاتها، ويحتقرون الحركة الصهيونية بنفس قوة احتقار الأمريكيين الآخرين لها، بل ربما كان احتقار اليهود أكبر لأنهم على معرفة أكبر بحقيقة الأمر.. ويحق لهؤلاء اليهود الأمريكيين أن يكون احتقارهم أشد، لأنهم مورطون دون إرادة بينما يرغبون في مشاركة يهود العالم في الأخوة الروحية، مع الإصرار على الحرية الفردية وحقهم في أن يكونوا مواطنين صالحين مخلصين للبلد الذي ولدوا فيه أو اختاروه دار إقامة لهم.
كانت اليهودية المنظمة موالية لألمانية في الأيام الأولى من الحرب العالمية الأولى. فقد كانت اليهودية، أولاً وأخيراً، لا تستطيع تأييد قضية روسيا القيصرية. ولكنها كذلك توجهت إلى القيصر وإلى ألمانيا لانتزاع فلسطين من الأتراك لصالح اليهود. وقام بدعم ألمانيا يهود ألمان وأمريكيون من أمثال بول وفليكس وربرغ، ويعقوب تشيف من مؤسسة (كوهين ـ لويب وشركاهم).
ولكن الممولين الأمريكيين ورجال الصناعة الأمريكيين، الذي يجنون الذهب الكثير من حاجة الحلفاء، قاموا دون تردد بتأييد قضية الحلفاء، رغم الشك في أن يكون أي من هؤلاء الأمريكيين قادراً على تعريف تلك القضية بوضوح. ولكن السبب يظل محيراً، لمن يحاول التشبث بالحقائق السطحية، في تورط فرنسا وبريطانيا في كارثة دموية مع ألمانيا لمجرد أن حفنة من السفاحين الصرب قتلوا ولي عهد النمسا، ثم إعلان النمسا الحرب على الصرب. ولكن هناك خلف الأسباب المزعومة والبائسة، سياسة الإمبراطورية البريطانية القديمة حول توازن القوى، والتي كان يخشاها جورج واشنطن. فحصار إنجلترا لألمانيا حرم الصناعة الأمريكية من الأسواق الألمانية، الأمر الذي يغير مجرى التاريخ. والذين يجنون سبعة مليارات دولار من التجارة لا بد وأن يذعنوا بأن الزبون دائماً على حق، في الحرب والسلم !
ولكن الشعب الأمريكي الذي كان عليه خوض الحرب ودفع الثمن وتقديم الضحايا، لم يكن في حالة تسمح له باختيار الجانب الذي ينضم إليه. وقد كان معظم الأمريكيين قد سمعوا جورج واشنطن في تلك الأيام وهو يخبرهم عما سيصلون إليه بالتورط في حروب أوروبا الخارجية. ومع ذلك، ولأسباب غير قابلة للشرح، كان الكثير من المسؤولين الأمريكيين يعملون محمومين لإيجاد عذر للتدخل في الحرب.
لماذا ؟
مع زحف الجيش البريطاني نحو الأرض المقدسة، أخذ يتلاشى الأمل اليهودي في نيل فلسطين على يدي القيصر الروسي، ومع ازدياد احتمال الاحتلال البريطاني لفلسطين، عرف البريطانيون ما يجنونه من استقطاب اليهودية العالمية لمساعدة قضية الحلفاء.. فإذا صدر وعد بريطاني لصالح الصهيونية، أمكن استقطاب الرأي العالمي اليهودي ودفع الولايات المتحدة لدخول الحرب !
كان الصهاينة أنفسهم هم الذين كتبوا المسودة الأصلية لوعد بلفور(5). فقد حررها القاضي اليهودي برانديس واعتمدها الرئيس ويلسون، ثم قدمت بعد ذلك للسير آرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا لتوقيعها.
الواقع أنه لا توجد في تاريخ الولايات المتحدة حادثة أشد إذلالاً من هذه الحادثة.
وفي السادس من إبريل 1917ن وبتوجيه من الرئيس ويلسون، أعلن مجلس الشيوخ الأمريكي الحرب على ألمانيا، وأعلن ويلسون أن السلام الدائم لا بد أن يكون (سلاماً بدون انتصار)، وأعلن أنها (حرب لإنهاء الحرب) وأن الهدف منها خلق أمن عالمي للديمقراطية . واليوم فقط أصبح العالم يدرك ويؤكد بلاهة هذا الكلام المخادع.
ولم يعلن (وعد بلفور) إلا في الثاني من نوفمبر 1917، حيث كتب بلفور إلى اللورد روتشيلد:
(عزيزي اللورد روتشيلد: يسرني أن أنقل إليكم، نيابة عن حكومة صاحب الجلالة، الوعد التالي الذي يتعاطف مع مطامح الصهاينة اليهود: (( إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل بلوغ هذه الغاية، على أن يفهم جلياً بأنه لا يجوز الإقدام على ما من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين، ولا الحقوق أو المراكز السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر )). وأكون ممتناً لو نقلتم هذا الوعد للاتحاد الصهيوني).
وفي 10 يونيو 1917 التقى (المؤتمر اليهودي الأمريكي) الأول وكان يتحدث باسم اليهود الأمريكيين فقط. وقد طالب بأن يرسي (مؤتمر السلام) القادم: (حقوقاً مدنية وسياسية ودينية ومذهبية وقومية متساوية، وكذلك إدارة مستقلة ذاتياً لمؤسساتهم الطائفية، سواء كانت دينية أم تعليمية أو خيرية، أم غير ذلك، بواسطة أعضاء من مختلف الهيئات القومية والدينية، والاعتراف بالمطالب التاريخية للشعب اليهودي في فلسطين، وإقامة الظروف السياسية والإدارية والاقتصادية في ذلك البلد لتأمين تطويره إلى دولة يهودية).
ربما لا توجد حادثة أخرى في تاريخ العالم تمثل مدى سخافات هذا المؤتمر اليهودي المذهلة والمتناقضة. فبعد أن اكتسب اليهود في أمريكا حقوق المواطن الكاملة، أخذوا يعلنون بجرأة أنهم أمة منفردة ومستقلة، وأنهم كذلك أمة داخل الأمة. وقد كذبوا عندما قبلوا الجنسية الأمريكية الطبيعية، حالفين بالمحافظة على القانون وترك كل ولاء لأي سلطة أجنبية، وأية تابعية خارجية. ولكنهم اجتمعوا والتقوا على (العهد) وطالبوا لأنفسهم بوضع خاص، لهم ولكل إخوانهم من بني جنسهم في كل بلدان العالم. وطلبوا على وجه الخصوص الاعتراف بمطامعهم (التاريخية) في أرض شعب آخر، وطالبوا قوى العالم بمساعدتهم لسلب تلك الأرض.
وفي سنة 1922 أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قراراً يشرك الولايات المتحدة في (وعد بلفور).
كان انتصار الحلفاء قد تم في 11 نوفمبر 1918، واندفع الرئيس ويلسون إلى باريس لحضور مؤتمر السلام. وقد مثل العرب في المؤتمر الأمير فيصل بن حسين شريف مكة الذي قاد القوات العربية كحليف للإنجليز، معتقداً أن البريطانيين سيحافظون على وعدهم ويعطون الاستقلال للشعوب كلها، بما فيها فلسطين(6). ولكن فيصل لم يفهم تماماً كل المخادعات التي كانت تدور حوله، ونظراً لعدم تمكنه من الإنجليزية والفرنسية، فقد وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه. وقد حدث في فلسطين اضطراب شديد، إلى حد دعا ويلسون أخيراً لإرسال لجنة تقص أمريكية إلى فلسطين.
وجاء تقرير كرين كينج(7) المقدم إلى ويلسون، يؤيد الجانب العربي من كل الوجوه. فكان أكثر من تسعة أعشار السكان الفلسطينيين يعارضون الهجرة اليهودية إلى البلد. وجاء في تقرير اللجنة: (إن إخضاع شعب بهذه العزيمة لهجرة غير محددة، وتصعيد الضغط المالي والاجتماعي لتسليم الأرض، يخالف تماماً المبدأ الذي وضع منذ وقت قريب، وحقوق الشعب، رغم إبقائه في إطار القانون.. ومهما حسنت نوايا اليهود، من المشكوك فيه أن يظهروا، للمسلمين والمسيحيين، حراساً أمناء على الأماكن المقدسة، أو الأرض المقدسة بشكل عام).
كانت السلطات البريطانية، بلا شك، أكثر اهتماماً بأصحاب المصارف اليهود منها بالشعوب العربية. فطرحت معاهدة مكمهون ـ حسين جانباً، وأصبح وعد بلفور أساساً للانتداب البريطاني على فلسطين.
وكانت الحكومة البريطانية قد أصدرت في السابق بياناً تفسر فيه (وعد بلفور) على أنه لا يعني (فرض قومية يهودية على سكان فلسطين، بل تطوير الطائفة اليهودية الموجودة، لكي يمكن أن تصبح مركزاً يعتز ويهتم به الشعب اليهودي كله، على أساس ديني وعرقي).
وقد أصبح الانتداب فعالاً في 23 سبتمبر 1923، وسجل وعد بلفور في مقدمة قرار الانتداب الذي يعالج مختلف الوسائل، ومشاكل الهجرة كذلك.
وكانت قد شكلت إدارة مدنية في فلسطين في يوليو 1920. وقد شنت (المنظمة الصهيونية العالمية) قبل ذلك حملة لشراء الأراضي، وبدأ تدفق المهاجرين اليهود على فلسطين. وفيما بين 1918 و1935 دخل فلسطين نحو 280 ألف يهودي وفي نهاية سنة 1936 قدر عدد اليهود في فلسطين بنحو 400 ألف نسمة.
كان اليهود سنة 1914 يملكون في فلسطين 177 ميلاً مربعاً فقط، وفي سنة 1936 أصبحوا يحتلون 545 ميلاً مربعاً. وقد أسسوا فيما بين سنتي 1919 و1933 أربعة آلاف مركز صناعي.. ورغم ذلك كانوا ما يزالون أقلية صغيرة بين السكان العرب (تبلغ مساحة فلسطين نحو عشرة آلاف ميل مربع).
وكادت أن تفلس المنظمة الصهيونية العالمية، فكانت في حاجة إلى النقود لاستغلال مصادر البلد وزيادة عدد اليهود في فلسطين. فدخل حاييم وايزمان في مباحثات مع اليهود الأمريكيين بواسطة (لويس مارشال). وتوسعت نتيجة لذلك الوكالة اليهودية في فلسطين وانتعشت. وأعلن وايزمان قائلاً: (نشعر أنه قد حان الوقت لإظهار رغبتنا الشديدة والمجددة في بسط قضية الصهيونية أمام العالم اليهودي كمسألة تحتاج إلى اتخاذ قرار أخلاقي.. إن هدفنا هو كسب الشباب كي يقرر الاعتراف بمسؤولياته القومية).
وتفجرت كراهية العرب في حوادث 1929 وتطور الخلاف اليهودي العربي على الحقوق اليهودية والإسلامية في حائط المبكى إلى صراع مكشوف وقف فيه العرب المسيحيون مع المسلمين ضد اليهود. وقد كتبت لجنة بريطانية في تقرير حول الموضوع بأن القلاقل قد تسببت عن مخاوف العرب من تصاعد أغلبية يهودية، واستيلاء الغزاة المنظم على أراضيهم. وأوصت اللجنة بفرض قيود على الهجرة وشراء الأراضي. وقد قبلت التوصيات، رغم الضجة الصهيونية، وأصدرت الحكومة نتائج عمل اللجنة فيما يعرف باسم (الكتاب الأبيض)، وذلك في 20 أكتوبر 1930.
وفي إبريل 1936 انفجر العرب من جديد، وقاموا بثورة مكشوفة على اليهود وعلى بريطانيا العظمى، أيديتهم نننننبلللللرللللأيدتهم فيها هذه المرة البلدان العربية.. وقد كانت الخسائر كبيرة في الأرواح. وأرسلت في نوفمبر لجنة بريطانية أخرى إلى فلسطين برئاسة (ايرل بيل) وذكر البيان مرة أخرى أن العرب يخشون من سيطرة اليهود، وأن الصهيونية أحبطت آمالهم ومطالبهم في الحكم الذاتي. ولما وجدت لجنة بيل أن المطامع اليهودية والمطامع العربية لا يمكن أن تتوافق أو تتهادن، أوصت بتقسيم فلسطين بين الفريقين. ووافق (المؤتمر اليهودي) على ذلك بتردد في اجتماعه بزيورغ 1937، ولكن العرب عارضوا ذلك معارضة تامة.
واجه البريطانيون العنف الذي تفجر سنة 1937 بإجراءات شديدة. فحرمت (الهيئة العربية العليا) من الصفة القانونية، وسجن أعضاؤها، ولكن مفتي القدس (الحاج أمين الحسيني) تمكن من مغادرة البلد. وأقيمت المحاكم العسكرية ونفذت عمليات عسكرية كاملة للسيطرة على البلد. ولكن الثورة تواصلت، رغم كل الإجراءات الصارمة، وازدادت حدتها. وفي سنة 1938 لجأ اليهود إلى الإرهاب العنيف. ورغم معاناة العرب من إصابات مرعبة (في مواجهة اليهود والبريطانيين) كانوا ما يزالون مسيطرين على معظم البلد، وكانت حركة المواصلات في فلسطين مازالت متوقفة تماماً.
في نوفمبر 1938 أعلنت الحكومة البريطانية عن عزمها على إسقاط اقتراح التقسيم ومحاولة إيجاد تفاهم بين العرب والصهاينة عن طريق المفاوضات المباشرة في لندن. ولكن العرب اتخذوا موقف من يعتبر بلده يتعرض لعملية قرصنة، وأن المفاوضات ليست إلا مساومة مع لص لإعادة جزء من الأملاك المسروقة. وعندما لم يتمكن العرب واليهود من التوصل إلى اتفاق فيما بينهم، أعلن البريطانيون عن ضرورة التفتيش بأنفسهم عن حل للمشكلة. وفي (الكتاب الأبيض) الذي صدر في 17 مايو 1939، بين البريطانيون أن تفسيراتهم السابقة لوعد بلفور تعاكس التزاماتهم نحو العرب، واقترحوا استقلال فلسطين مع حماية المصالح الأساسية للعرب واليهود على حد سواء. وتقرر السماح بهجرة 75 ألف يهودي على مدى خمس سنوات، وهجرات أخرى بموافقة العرب.
ورفض اليهود والعرب مقترحات الكتاب الأبيض وأعلن اليهود الإضراب العام وشنوا موجة أخرى من أعمال العنف والإرهاب، وتواصلت الهجرة اليهودية غير القانونية، بينما اندفعت اليهودية العالمية لدعم الغزاة.
ربما أدرك ساسة بريطانيا ظلم وعد بلفور للعرب، ولكن بعد فوات الأوان للتصرف حيال ذلك. فكان الكتاب الأبيض لسنة 1939 رغبة واضحة في تصحيح خطأ سنة 1917. وفي محاولة الكتاب الأبيض لتفسير وعد بلفور تفسيراً جديداً، أصر على أن (الوطن اليهودي) قد تحقق فعلاً في فلسطين، وأعلن الكتاب الأبيض: (لذا، فإن حكومة جلالة الملك تعلن الآن بشكل قاطع بأنه لا يعتبر جزءاً من سياساتها أن تصبح فلسطين دولة يهودية ، بل تعتبر ذلك معاكساً لالتزاماتها نحو العرب، حسب الانتداب، ومعاكساً للضمانات التي أعطيت للشعب الفلسطيني في الماضي، بألا يصبح السكان العرب في فلسطين خاضعين لدولة يهودية ضد إرادتهم).
لم يعرف الغضب الصهيوني حدا له. فالسياسة البريطانية الجديدة في فلسطين تعني فشل الخطط التي وضعوها بعناية، ولم يكن عندهم أدنى استعداد للسماح بأن تنتهي المعركة بالكتاب الأبيض.. لذا عمد اليهود إلى شن حملة عالمية من التشهير بالحكومة البريطانية، تدعمهم في ذلك الدعاية التي تطمس الحقائق..
ولم تكن تلك إلا البداية !
بدأ تحويل الولايات المتحدة إلى قاعدة عمليات يهودية على نطاق عالمي، مع وصول أول سفينة محملة باليهود الروس. قد تدفق إلى أمريكا هؤلاء اليهود، الذين ينتسبون في الغالب إلى يهود الخزر ويتحدثون الييدية، والذين جاءوا إليها فقراء معدمين. وبلغ عددهم ما بين 1881 و1920 مليونين. وفي سنة 1928 كان من بين الأربعة ملايين وربع مليون يهودي في الولايات المتحدة ثلاثة ملايين ونصف من أصل أوروبي شرقي، مولداً أو نسباً.
كان اليهود الروس جميعاً سواء منهم المحافظ أو المتدين أو المتطرف، اشتراكيين ملحدين. ولما كانوا لا يشعرون بارتباط يشدهم إلى ارض ميلادهم، اتجهت غرائزهم الوطنية للوعد النبوي باستعادة مجد إسرائيل. وقد اعتبر اليهود الروس أنفسهم أمة في المنفى، سواء منهم من كان يعيش تحت القبضة الحديدية لشرطة القيصر السرية، ومن كان يستنشق هواء الحرية في أمريكا. وقد كانوا يخضعون لتعليمات اليهود، وندر أن التقوا بالأمميين في عمليات التبادل الاقتصادية أو وقت الأزمات الحكومية. ولم تكن أمريكا بالنسبة لهم إلا منفى جديداً، حملوا إليها يهوديتهم الساخنة، والشعور بالتضامن، وبغض حكومات الأمميين. ولما كان اليهود الروس قد تشربوا هذه العقائد والتقاليد فقد أصبحوا صهاينة متعصبين.
وهكذا، وقبل الاعتداء الوحشي على فلسطين، خطط يهود أمريكا لمستقبل حكومة الدولة التي سيقيمونها في الأرض المقدسة، حالما ينتزعون الأرض بالقوة من أصحابها الشرعيين.
وانتشرت في الولايات المتحدة شبكة من المؤسسات التي لم تكن إلا البداية(1). فقد تضاعفت مرات ومرات مع ازدياد نفوذ اليهود وتصاعد ثروتهم. وكانت جماعات يهود الخزر، ممن لم تطأ أقدام أجدادهم الأرض المقدسة، أشد الصهاينة حماساً. أما يهود إسبانيا والبرتغال ووسط وشمالي أوروبا، فقد وجدوا في الولايات المتحدة أرضاً مناسبة لعيشهم، وكانوا على وشك القبول بها واعتبارها (الأرض المقدسة) مع القناعة بصهيونية روحية. إلا أن نواياهم الطيبة تلونت وتأثرت بالهاربين من الشرطة الروسية، الذين ألفوا العنف والعدوان. فانتزع اليهود الروس غيرهم من اليهود من (أمريكيتهم) ووجهوهم بكل صفاقة على طريق جديد نحو فلسطين، وللاستيلاء على العالم كله. وبذلك أصبح يهود (الجمعية الاشتراكية اليهودية) من الخزر، قادة اليهود الأمريكيين.
وقد شده يهود إسبانيا وألمانيا لما رأوا من عادات غريبة ولغة غريبة عند القادمين الجدد ونظروا إليهم كأجانب، لا كيهود أخوة لهم.. فرغم أن اللغة الييدية(2) كانت تكتب بالحروف العبرية، لكنها لم تكن لغة اليهود الإسبان أو الألمان.. غير أن اليهود الألمان حاولوا جعل القادمين من روسيا يهوداً أمريكيين وحسب..
ومع أن اليهود الألمان بسطوا منظماتهم خارج نطاق دور العبادة، لكن منظمتهم العلمانية كانت تساير الخطوط العامة للحياة الأمريكية. وقد قنعوا بالنشاط في مجال الأعمال الخيرية. وفي محاولاتهم المبذولة لتحويل اليهود الروس إلى يهود أمريكيين، أصبحوا قوة مسيطرة، ولكنهم في النهاية ابتلعوا داخل التيار الكاسح للقومية اليهودية التي رفضت أن تذوب في قلوب المهاجرين الروس.
في الوقت الذي وجد فيه اليهودي الروسي الحرية والثروة في الولايات المتحدة، لم يجد القناعة والطمأنينة. فقد كان ثائراً على كل سلطة حكومية موجودة، أو قلقاً متعنتاً ضيق الأفق. وكان يشغل ذهنه، من جهة، (جمع المشتتين) في إسرائيل جديدة، وكان، من جهة أخرى، مشغول البال بإقامة مثالية (يوطوبيا) اشتراكية على غرار (السنهدريم)(3) الاستبدادي المطلق. وسواء أكان هذا اليهودي الروسي متعصباً إلى حد الجنون، أم ملحداً متطرفاً، فقد ظل يهودياً من ناحية الانتماء العرقي. وكذلك أصبح تاريخ اضطهاده في أوروبا الشرقية درعاً ورمحاً في أمريكا، يستطيع بها إخفاء عيوبه ورذائله، وإخراس منتقديه. وكان انقضاضه على الاقتصاد والسياسة الأمريكية وتقاليدها، دون صد من شرطة سرية أو (مذابح مدبرة)، مشجعاً له على بذل جهود أعظم وأشد عدوانية. وعندما كان يواجه بالمعارضة كان يعرف كيف يصيح متهماً معارضيه بالاضطهاد ومعاداة السامية. وسواء كان يتكلم كحبر متعصب داعياً (لوحدة الشعب اليهودي)، أو ينادي للإطاحة بالجمهورية بالعنف والقوة كماركسي ملحد، فقد كان دوماً يرد على منتقديه بنفس التهمة (معاداة السامية).
وكانت هذه القاعدة الجديدة في أمريكا مليئة بالوعود والبشائر.. ففيها شعب متسامح يحمل مفاهيم غريبة عن الحرية، حرية الكلام التي أعطت مناعة لمن كانوا يخضعون للرقابة، وحرية الاجتماعات لمن كانوا يحرضون على الشعب والثورة، وحرية الصحافة التي يمكن تسييرها كما يشتهون، ومفهوم الولاء الذي لا يعتبر التآمر العالمي خيانة. وفي هذا البلد الغربي يمكن للغريب أن يهاجمه ويمكن للمواطن الذي ولد فيه أو نال جنسيته أن ينخرط في تنظيم لتدمير البلد.. وكذلك لا يمكن لأي فرد أن يتمتع بكل مزايا الإقامة فيه، وأن يسمح، في نفس الوقت، لقلبه وطموحه وولائه بالاتجاه إلى مكان آخر. وأكثر من ذلك، كان هذا المفهوم للديمقراطية شيئاً عظيم الفائدة. ولأن الناس كانوا طموحين يتوقون لبلوغ المراكز العامة فقد كانوا عرضة للمساعدة المالية في حملاتهم السياسية، شديدي الحساسية لمزاولة الضغط حالما يتسلمون المراكز والوظائف. وقد كان تبادل المصالح بين المسؤولين في الاتحاد السوفييتي أمراً ضرورياً للبقاء، في أمريكا أصبح ذلك سلاحاً سياسياً ذا قوة مذهلة.
كان الكثيرون، بالطبع، يريدون أن يكونوا أمريكيين صالحين قانعين بالحرية في عبادة الله على طريقتهم الخاصة، مندمجين في الحياة الأمريكية العامة.. وكان آخرون يريدون أن يصبحوا اشتراكيين يتبنون نظريات أجنبية مستوردة من أقبية ومواخير آسيا وأوروبا.. ويريد البعض أن يكون متطرفاً مهذباً يخلط العقائد الثورية بالآراء الجديدة عن الحرية، ويريد آخرون أن يقدموا النظريات الثورية الداعية للقوة والعنف، ولكن آخرين كانوا مايزالون يلتهبون حماساً لتحقيق وعد الأنبياء والعيش من أجل العودة إلى (صهيون). غير أن الجميع كانوا يريدون أن يظلوا يهوداً، مع التفاوت في درجة المغالاة في التعصب لليهودية.
وبعد زمن ليس بالطويل أصبح الشيوعي اليهودي يرفض المثول أمام لجنة تشريعية حكومية، وأصبح التلمود يستخدم للدفاع عن يهود آخرين يحاكمون لتآمرهم على أكرم حكومة عرفوها.. وبذلك يظل اليهودي المرتد عن دينه يجد طريقاً للعودة إلى أصله العرقي والتلمودي، مع القيام بنشاط الخيانة في الولايات المتحدة.
يرجع أساس الادعاء الصهيوني بحق اليهود في فلسطين إلى المغالطة القائلة أن أبناء الديانة اليهودية هم أعضاء (الجنس اليهودي) القديم، الجنس الذي أصبح (شعباً مشرداً) في بلدان العالم. وقد كان يروج لهذه القصة الخرافية (القوميون) اليهود، ثم تلامذة ثيودور هرتزل منذ سنة 1897.
رغم أن أجداد اليهود قد حكموا ذات مرة البلد الصغير فلسطين، وانتهى وجودهم فيه قبل آلاف السنين، فإن الصهاينة لا يجدون ما ينافي الأخلاق في طلب انتزاع البلد من سكانه ليصبح مكاناً لتجمع المشتتين ـ الشعب اليهودي ـ في العالم (وإعادة بناء الدولة اليهودية). ويبدو أن حقيقة مرور ألفي سنة على الادعاء بسيطرة الأجداد على فلسطين، أمر قليل الأهمية عند الصهاينة. وقد فشلت حقيقة وجود السكان العرب قروناً متوالية والدعوة لطردهم من بيوتهم، وفشلت في إثارة غريزة العطف والعدل في قلوب الصهاينة وعقولهم. فالضمير الحي لا يجد أدنى مقارنة بين الادعاء التاريخي بفلسطين، حتى ولو صدق، وبين اغتصاب فلسطين من سكانها العرب. وحتى هذا الأساس الواهي لتعليل وجود الطابور الخامس الصهيوني في فلسطين وما تلاه من أعمال عنف وانتزاع الأرض من العرب، ليس له وجود في واقع الأمر.
إن كل المراجع المعترف بها في العالم حول تاريخ أمم أوروبا وآسيا وأفريقيا تخالف الادعاء الصهيوني. فالأفراد الذين يعتنقون الديانة اليهودية، المبعثرون في أنحاء العالم اليوم، هي أحفاد سكان محليين منتشرين على نطاق واسع.
فقد انتشرت الديانة اليهودية من الأرض المقدسة فيما بين سنة 1500 و1000 قبل الميلاد، ووصلت شعوب شمال أفريقيا، على البحر المتوسط، ووصلت غرب أوروبا، والجزيرة العربية، والهند والصين والحبشة. وتحول بعض السكان الوثنيين إلى يهود إلى أيدي البعثات الدينية والتجار والمنفيين، الذين استقروا في هذه البلدان واندمجوا مع السكان المحليين. وقد تصهروا مع المواطنين، الأمر الذي أدى إلى اختفاء الأصول العرقية السابقة، وبذلك أصبح السكان الذين اعتنقوا اليهودية غير ساميين في غالب الأمر(4).
والواقع أنه ليس هناك أساس تاريخي لادعاء الصهاينة بوجود حق شرعي في فلسطين لأبناء الديانة اليهودية من شرق أوروبا. فالمراجع الرسمية، اليهودية منها وغير اليهودية، متفقة على أن هؤلاء الناس هم من نسل جنس تركي تتاري غير سامي، جاءوا إلى أوروبا من آسيا في القرن الأول الميلادي، سالكين طريقاً برياً شمال بحر قزوين، وأصبحوا بعد ذلك يعرفون بشعب خزر. وقد كانوا شعباً يحب الحروب، استقر في شرق أوروبا، وتمكن أبناؤه بالانتصارات المستمرة والناجحة من توسيع رقعتهم حتى شملت الجزء الأكبر من شرق أوروبا، غرب الأورال وشمال البحر الأسود. وقد اعتنق شعب خزر اليهودية قرب نهاية القرن الثامن، ولم يسمح بعدها باعتلاء عرش خزر إلا لملك يهودي، وأصبحت اليهودية دين الدولة.
وقد ظل التوسع هو الاهتمام الرئيسي لمملكة خزر، وجمعت في قمة انتصاراتها الجزية مما لا يقل عن خمسة وعشرين شعباً محتلاً. وفي أواخر القرن العاشر زحف الروس من الشمال وتغلبوا على خزر، وبذلك ذاب سكان خزر وولاياتها في الدولة الروسية الواسعة وهذا ما يفسر كثرة السكان اليهود في هذا البلد. ثم أصبحت أجزاء كبيرة من السكان اليهود بولنديين ولثوانيين ورومانيين.. الخ، وذلك على مجرى سنوات الانتصارات التالية.
كانت فلسطين تبعد أكثر من ألف وخمسمائة ميل عن مملكة خزر، ولذا لم يكن ليهود أوروبا الشرقية، أحفاد يهود خزر، أي ارتباط تاريخي أو عرقي باليهود الأصليين في الأرض المقدسة.
ولكن اليهود كانوا من سنة 1916 مستميتين في مطالبتهم بفلسطين، ليس إلا.. وقد فشلت كل الجهود في إقامة ما يسمى بـ (الوطن القومي) لليهود في جزء آخر من العالم، لا يتعرض فيه سكان للانتزاع من أرضهم، وعارض الصهاينة ذلك بكل ما أوتوا من قوة.
ولكن لماذا ؟
يبين التقرير الرسمي الذي أعده (وكلاء التاج البريطاني للمستعمرات)، لحساب (حكومة فلسطين)، بأن البحر الميت يحتوي على 42 مليار طن متري من معادن كلوريد البوتاسيوم وبروميد المغنيسيوم، وكلوريد المغنيسيوم، والكالسيوم، وكلوريد الصوديوم، وكذلك (كميات لا تنفد من البوتاس)، والقيمة الإجمالية لذلك خمسة آلاف مليار دولار حسب السعر الحالي (1953)، وتلك ثروة خيالية تتحدى الخيال. وهذا المصدر الطبيعي الذي يملكه العرب قانونياً، يقوم اليوم باستغلاله أبناء خزر الجشعين من خلال (شركة بوتاس فلسطين المحدودة)، وهي شركة (واجهة) للقيادة الصهيونية السرية العليا. وبهذه الثروة ينوي أبناء خزر إقامة مملكتهم اليهودية السابقة التي قامت في أوروبا الشرقية.
ولا بد من التأكيد بأن الصهاينة لا يشملون كل اليهود الأمريكيين في حركتهم، فهناك الكثير من اليهود الأمريكيين الوطنيين الذي ينظرون ببغض إلى النشاطات الصهيونية الأمريكية ووكالاتها، ويحتقرون الحركة الصهيونية بنفس قوة احتقار الأمريكيين الآخرين لها، بل ربما كان احتقار اليهود أكبر لأنهم على معرفة أكبر بحقيقة الأمر.. ويحق لهؤلاء اليهود الأمريكيين أن يكون احتقارهم أشد، لأنهم مورطون دون إرادة بينما يرغبون في مشاركة يهود العالم في الأخوة الروحية، مع الإصرار على الحرية الفردية وحقهم في أن يكونوا مواطنين صالحين مخلصين للبلد الذي ولدوا فيه أو اختاروه دار إقامة لهم.
كانت اليهودية المنظمة موالية لألمانية في الأيام الأولى من الحرب العالمية الأولى. فقد كانت اليهودية، أولاً وأخيراً، لا تستطيع تأييد قضية روسيا القيصرية. ولكنها كذلك توجهت إلى القيصر وإلى ألمانيا لانتزاع فلسطين من الأتراك لصالح اليهود. وقام بدعم ألمانيا يهود ألمان وأمريكيون من أمثال بول وفليكس وربرغ، ويعقوب تشيف من مؤسسة (كوهين ـ لويب وشركاهم).
ولكن الممولين الأمريكيين ورجال الصناعة الأمريكيين، الذي يجنون الذهب الكثير من حاجة الحلفاء، قاموا دون تردد بتأييد قضية الحلفاء، رغم الشك في أن يكون أي من هؤلاء الأمريكيين قادراً على تعريف تلك القضية بوضوح. ولكن السبب يظل محيراً، لمن يحاول التشبث بالحقائق السطحية، في تورط فرنسا وبريطانيا في كارثة دموية مع ألمانيا لمجرد أن حفنة من السفاحين الصرب قتلوا ولي عهد النمسا، ثم إعلان النمسا الحرب على الصرب. ولكن هناك خلف الأسباب المزعومة والبائسة، سياسة الإمبراطورية البريطانية القديمة حول توازن القوى، والتي كان يخشاها جورج واشنطن. فحصار إنجلترا لألمانيا حرم الصناعة الأمريكية من الأسواق الألمانية، الأمر الذي يغير مجرى التاريخ. والذين يجنون سبعة مليارات دولار من التجارة لا بد وأن يذعنوا بأن الزبون دائماً على حق، في الحرب والسلم !
ولكن الشعب الأمريكي الذي كان عليه خوض الحرب ودفع الثمن وتقديم الضحايا، لم يكن في حالة تسمح له باختيار الجانب الذي ينضم إليه. وقد كان معظم الأمريكيين قد سمعوا جورج واشنطن في تلك الأيام وهو يخبرهم عما سيصلون إليه بالتورط في حروب أوروبا الخارجية. ومع ذلك، ولأسباب غير قابلة للشرح، كان الكثير من المسؤولين الأمريكيين يعملون محمومين لإيجاد عذر للتدخل في الحرب.
لماذا ؟
مع زحف الجيش البريطاني نحو الأرض المقدسة، أخذ يتلاشى الأمل اليهودي في نيل فلسطين على يدي القيصر الروسي، ومع ازدياد احتمال الاحتلال البريطاني لفلسطين، عرف البريطانيون ما يجنونه من استقطاب اليهودية العالمية لمساعدة قضية الحلفاء.. فإذا صدر وعد بريطاني لصالح الصهيونية، أمكن استقطاب الرأي العالمي اليهودي ودفع الولايات المتحدة لدخول الحرب !
كان الصهاينة أنفسهم هم الذين كتبوا المسودة الأصلية لوعد بلفور(5). فقد حررها القاضي اليهودي برانديس واعتمدها الرئيس ويلسون، ثم قدمت بعد ذلك للسير آرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا لتوقيعها.
الواقع أنه لا توجد في تاريخ الولايات المتحدة حادثة أشد إذلالاً من هذه الحادثة.
وفي السادس من إبريل 1917ن وبتوجيه من الرئيس ويلسون، أعلن مجلس الشيوخ الأمريكي الحرب على ألمانيا، وأعلن ويلسون أن السلام الدائم لا بد أن يكون (سلاماً بدون انتصار)، وأعلن أنها (حرب لإنهاء الحرب) وأن الهدف منها خلق أمن عالمي للديمقراطية . واليوم فقط أصبح العالم يدرك ويؤكد بلاهة هذا الكلام المخادع.
ولم يعلن (وعد بلفور) إلا في الثاني من نوفمبر 1917، حيث كتب بلفور إلى اللورد روتشيلد:
(عزيزي اللورد روتشيلد: يسرني أن أنقل إليكم، نيابة عن حكومة صاحب الجلالة، الوعد التالي الذي يتعاطف مع مطامح الصهاينة اليهود: (( إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل بلوغ هذه الغاية، على أن يفهم جلياً بأنه لا يجوز الإقدام على ما من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين، ولا الحقوق أو المراكز السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر )). وأكون ممتناً لو نقلتم هذا الوعد للاتحاد الصهيوني).
وفي 10 يونيو 1917 التقى (المؤتمر اليهودي الأمريكي) الأول وكان يتحدث باسم اليهود الأمريكيين فقط. وقد طالب بأن يرسي (مؤتمر السلام) القادم: (حقوقاً مدنية وسياسية ودينية ومذهبية وقومية متساوية، وكذلك إدارة مستقلة ذاتياً لمؤسساتهم الطائفية، سواء كانت دينية أم تعليمية أو خيرية، أم غير ذلك، بواسطة أعضاء من مختلف الهيئات القومية والدينية، والاعتراف بالمطالب التاريخية للشعب اليهودي في فلسطين، وإقامة الظروف السياسية والإدارية والاقتصادية في ذلك البلد لتأمين تطويره إلى دولة يهودية).
ربما لا توجد حادثة أخرى في تاريخ العالم تمثل مدى سخافات هذا المؤتمر اليهودي المذهلة والمتناقضة. فبعد أن اكتسب اليهود في أمريكا حقوق المواطن الكاملة، أخذوا يعلنون بجرأة أنهم أمة منفردة ومستقلة، وأنهم كذلك أمة داخل الأمة. وقد كذبوا عندما قبلوا الجنسية الأمريكية الطبيعية، حالفين بالمحافظة على القانون وترك كل ولاء لأي سلطة أجنبية، وأية تابعية خارجية. ولكنهم اجتمعوا والتقوا على (العهد) وطالبوا لأنفسهم بوضع خاص، لهم ولكل إخوانهم من بني جنسهم في كل بلدان العالم. وطلبوا على وجه الخصوص الاعتراف بمطامعهم (التاريخية) في أرض شعب آخر، وطالبوا قوى العالم بمساعدتهم لسلب تلك الأرض.
وفي سنة 1922 أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قراراً يشرك الولايات المتحدة في (وعد بلفور).
كان انتصار الحلفاء قد تم في 11 نوفمبر 1918، واندفع الرئيس ويلسون إلى باريس لحضور مؤتمر السلام. وقد مثل العرب في المؤتمر الأمير فيصل بن حسين شريف مكة الذي قاد القوات العربية كحليف للإنجليز، معتقداً أن البريطانيين سيحافظون على وعدهم ويعطون الاستقلال للشعوب كلها، بما فيها فلسطين(6). ولكن فيصل لم يفهم تماماً كل المخادعات التي كانت تدور حوله، ونظراً لعدم تمكنه من الإنجليزية والفرنسية، فقد وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه. وقد حدث في فلسطين اضطراب شديد، إلى حد دعا ويلسون أخيراً لإرسال لجنة تقص أمريكية إلى فلسطين.
وجاء تقرير كرين كينج(7) المقدم إلى ويلسون، يؤيد الجانب العربي من كل الوجوه. فكان أكثر من تسعة أعشار السكان الفلسطينيين يعارضون الهجرة اليهودية إلى البلد. وجاء في تقرير اللجنة: (إن إخضاع شعب بهذه العزيمة لهجرة غير محددة، وتصعيد الضغط المالي والاجتماعي لتسليم الأرض، يخالف تماماً المبدأ الذي وضع منذ وقت قريب، وحقوق الشعب، رغم إبقائه في إطار القانون.. ومهما حسنت نوايا اليهود، من المشكوك فيه أن يظهروا، للمسلمين والمسيحيين، حراساً أمناء على الأماكن المقدسة، أو الأرض المقدسة بشكل عام).
كانت السلطات البريطانية، بلا شك، أكثر اهتماماً بأصحاب المصارف اليهود منها بالشعوب العربية. فطرحت معاهدة مكمهون ـ حسين جانباً، وأصبح وعد بلفور أساساً للانتداب البريطاني على فلسطين.
وكانت الحكومة البريطانية قد أصدرت في السابق بياناً تفسر فيه (وعد بلفور) على أنه لا يعني (فرض قومية يهودية على سكان فلسطين، بل تطوير الطائفة اليهودية الموجودة، لكي يمكن أن تصبح مركزاً يعتز ويهتم به الشعب اليهودي كله، على أساس ديني وعرقي).
وقد أصبح الانتداب فعالاً في 23 سبتمبر 1923، وسجل وعد بلفور في مقدمة قرار الانتداب الذي يعالج مختلف الوسائل، ومشاكل الهجرة كذلك.
وكانت قد شكلت إدارة مدنية في فلسطين في يوليو 1920. وقد شنت (المنظمة الصهيونية العالمية) قبل ذلك حملة لشراء الأراضي، وبدأ تدفق المهاجرين اليهود على فلسطين. وفيما بين 1918 و1935 دخل فلسطين نحو 280 ألف يهودي وفي نهاية سنة 1936 قدر عدد اليهود في فلسطين بنحو 400 ألف نسمة.
كان اليهود سنة 1914 يملكون في فلسطين 177 ميلاً مربعاً فقط، وفي سنة 1936 أصبحوا يحتلون 545 ميلاً مربعاً. وقد أسسوا فيما بين سنتي 1919 و1933 أربعة آلاف مركز صناعي.. ورغم ذلك كانوا ما يزالون أقلية صغيرة بين السكان العرب (تبلغ مساحة فلسطين نحو عشرة آلاف ميل مربع).
وكادت أن تفلس المنظمة الصهيونية العالمية، فكانت في حاجة إلى النقود لاستغلال مصادر البلد وزيادة عدد اليهود في فلسطين. فدخل حاييم وايزمان في مباحثات مع اليهود الأمريكيين بواسطة (لويس مارشال). وتوسعت نتيجة لذلك الوكالة اليهودية في فلسطين وانتعشت. وأعلن وايزمان قائلاً: (نشعر أنه قد حان الوقت لإظهار رغبتنا الشديدة والمجددة في بسط قضية الصهيونية أمام العالم اليهودي كمسألة تحتاج إلى اتخاذ قرار أخلاقي.. إن هدفنا هو كسب الشباب كي يقرر الاعتراف بمسؤولياته القومية).
وتفجرت كراهية العرب في حوادث 1929 وتطور الخلاف اليهودي العربي على الحقوق اليهودية والإسلامية في حائط المبكى إلى صراع مكشوف وقف فيه العرب المسيحيون مع المسلمين ضد اليهود. وقد كتبت لجنة بريطانية في تقرير حول الموضوع بأن القلاقل قد تسببت عن مخاوف العرب من تصاعد أغلبية يهودية، واستيلاء الغزاة المنظم على أراضيهم. وأوصت اللجنة بفرض قيود على الهجرة وشراء الأراضي. وقد قبلت التوصيات، رغم الضجة الصهيونية، وأصدرت الحكومة نتائج عمل اللجنة فيما يعرف باسم (الكتاب الأبيض)، وذلك في 20 أكتوبر 1930.
وفي إبريل 1936 انفجر العرب من جديد، وقاموا بثورة مكشوفة على اليهود وعلى بريطانيا العظمى، أيديتهم نننننبلللللرللللأيدتهم فيها هذه المرة البلدان العربية.. وقد كانت الخسائر كبيرة في الأرواح. وأرسلت في نوفمبر لجنة بريطانية أخرى إلى فلسطين برئاسة (ايرل بيل) وذكر البيان مرة أخرى أن العرب يخشون من سيطرة اليهود، وأن الصهيونية أحبطت آمالهم ومطالبهم في الحكم الذاتي. ولما وجدت لجنة بيل أن المطامع اليهودية والمطامع العربية لا يمكن أن تتوافق أو تتهادن، أوصت بتقسيم فلسطين بين الفريقين. ووافق (المؤتمر اليهودي) على ذلك بتردد في اجتماعه بزيورغ 1937، ولكن العرب عارضوا ذلك معارضة تامة.
واجه البريطانيون العنف الذي تفجر سنة 1937 بإجراءات شديدة. فحرمت (الهيئة العربية العليا) من الصفة القانونية، وسجن أعضاؤها، ولكن مفتي القدس (الحاج أمين الحسيني) تمكن من مغادرة البلد. وأقيمت المحاكم العسكرية ونفذت عمليات عسكرية كاملة للسيطرة على البلد. ولكن الثورة تواصلت، رغم كل الإجراءات الصارمة، وازدادت حدتها. وفي سنة 1938 لجأ اليهود إلى الإرهاب العنيف. ورغم معاناة العرب من إصابات مرعبة (في مواجهة اليهود والبريطانيين) كانوا ما يزالون مسيطرين على معظم البلد، وكانت حركة المواصلات في فلسطين مازالت متوقفة تماماً.
في نوفمبر 1938 أعلنت الحكومة البريطانية عن عزمها على إسقاط اقتراح التقسيم ومحاولة إيجاد تفاهم بين العرب والصهاينة عن طريق المفاوضات المباشرة في لندن. ولكن العرب اتخذوا موقف من يعتبر بلده يتعرض لعملية قرصنة، وأن المفاوضات ليست إلا مساومة مع لص لإعادة جزء من الأملاك المسروقة. وعندما لم يتمكن العرب واليهود من التوصل إلى اتفاق فيما بينهم، أعلن البريطانيون عن ضرورة التفتيش بأنفسهم عن حل للمشكلة. وفي (الكتاب الأبيض) الذي صدر في 17 مايو 1939، بين البريطانيون أن تفسيراتهم السابقة لوعد بلفور تعاكس التزاماتهم نحو العرب، واقترحوا استقلال فلسطين مع حماية المصالح الأساسية للعرب واليهود على حد سواء. وتقرر السماح بهجرة 75 ألف يهودي على مدى خمس سنوات، وهجرات أخرى بموافقة العرب.
ورفض اليهود والعرب مقترحات الكتاب الأبيض وأعلن اليهود الإضراب العام وشنوا موجة أخرى من أعمال العنف والإرهاب، وتواصلت الهجرة اليهودية غير القانونية، بينما اندفعت اليهودية العالمية لدعم الغزاة.
ربما أدرك ساسة بريطانيا ظلم وعد بلفور للعرب، ولكن بعد فوات الأوان للتصرف حيال ذلك. فكان الكتاب الأبيض لسنة 1939 رغبة واضحة في تصحيح خطأ سنة 1917. وفي محاولة الكتاب الأبيض لتفسير وعد بلفور تفسيراً جديداً، أصر على أن (الوطن اليهودي) قد تحقق فعلاً في فلسطين، وأعلن الكتاب الأبيض: (لذا، فإن حكومة جلالة الملك تعلن الآن بشكل قاطع بأنه لا يعتبر جزءاً من سياساتها أن تصبح فلسطين دولة يهودية ، بل تعتبر ذلك معاكساً لالتزاماتها نحو العرب، حسب الانتداب، ومعاكساً للضمانات التي أعطيت للشعب الفلسطيني في الماضي، بألا يصبح السكان العرب في فلسطين خاضعين لدولة يهودية ضد إرادتهم).
لم يعرف الغضب الصهيوني حدا له. فالسياسة البريطانية الجديدة في فلسطين تعني فشل الخطط التي وضعوها بعناية، ولم يكن عندهم أدنى استعداد للسماح بأن تنتهي المعركة بالكتاب الأبيض.. لذا عمد اليهود إلى شن حملة عالمية من التشهير بالحكومة البريطانية، تدعمهم في ذلك الدعاية التي تطمس الحقائق..
ولم تكن تلك إلا البداية !
(1) ـ تشكلت (المنظمة الصهيونية بأمريكا) سنة 1907، وكان أول رئيس لها هو ريتشارد جوثيل من جامعة كولومبيا، وأول أمين سر هو الحبر ستيفن وايز. وسرعان ما نظمت فروعاً للنساء والأطفال. وقد عمل لويس برانديس رئيسا للمنظمة قبل تحوله إلى المحكمة العليا للولايات المتحدة. وكان القاضي جوليان ماك ولويس لبسكي من أعضائها الهامين. وفي سنة 1907 أيضاً تأسست (المنظمة الصهيونية العالمية بأمريكا) (بول صهيون) على أيدي أعضاء من الجمعية الاشتراكية اليهودية، وأصدرت عدة مطبوعات. وكانت أهدافها في أمريكا دعم العمال والقوى (التقدمية) في فلسطين. ومن المنظمات الأخرى (منظمة مرزافي بأمريكا) (1911)، التي عملت على بناء إسرائيل كاتحاد يهودي تجمعه الروح اليهودية. وفي سنة 1920 تأسس (حزب العمال الصهيوني المتحد)، وكان يهدف إلى إنشاء نظام اشتراكي (ديموقراطي) في إسرائيل وتقوية حركة العمال اليهود في الولايات المتحدة.
(2) ـ الييدية لغة طورها أحفاد يهود خزر، وليست لغة في ذاتها، بل خليط من الكلمات الألمانية والبولندية والروسية، أضيفت إلى لغة خزر، بالحروف العبرية، وتبناها ملك خزر، أول من اعتنق اليهودية. والمعرف أن العبرية ظهرت قبل الييدية بنحو ألفين وخمسمائة سنة.
(3) ـ السنهدريم هو المجلس الأعلى عند قدماء اليهود.
(4) ـ ومن هؤلاء (فلاشة في الحبشة)، والصينيون في الصين، وتاميل في الهند، والمغاربة والبربر في شمال أفريقيا، والخزر في شرق أوروبا، والنوبيون في جنوب مصر، وفالا في سنغامبيا، والبولنديون في بولندا، والكثيرون غيرهم من كل أجناس أوروبا وأفريقيا وآسيا.
(5) ـ يخبرنا الدكتور يعقوب دوهاس في كتابه (سيرة حياة القاضي برانديس) قصة ما وراء الكواليس، فقال: "جهزت في لندن عدة مسودات (من وعد بلفور) وبعثت إلى الولايات المتحدة عن طريق وزارة الحرب لتسلم إلى اللجنة السياسية الصهيونية الأمريكية. وكانت الهيمنة الأمريكية على مجالس الحرب قوية إلى درجة أجبرت البريطانيين على طلب موافقت الرئيس ويلسون على الوعد قبل إصداره. وبعد إبراق المسودة من حكومة إلى حكومة، سلمت إلى (سلطة برانديس) لاعتمادها وإقرارها. وبعد إجراء مراجعة هامة لها، خول الرئيس ويلسون (عن طريق العقيد هاوس المؤيد للمطامع الصهيونية) بالإبراق إلى الحكومة البريطانية بالنص الذي صدر نهائياً، والذي وافقت عليه جميع حكومات الحلفاء".
(تشير عبارة "سلطة برانديس" إلى اللجنة التنفيذية المؤقتة للشؤون الصهيونية العامة، والتي كان برانديس رئيساً لها).
(6) ـ حسب معاهدة (مكمهون ـ حسين).
(7) ـ اختفى تقرير كرين ـ كينج من ملفات الرئيس، ولكن، لحسن الحظ، كان قد طبع وصدر في مجلة (المحرر والناشر).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق