من القاهرة إلى الدوحة
أخيرًا سُمح لي بالسفر!!
التعرف على قطر ورجالاتها
كيف تسلمت عملي بالمعهد الديني؟
زيارة الشيخ خليفة بن حمد
أخيرًا سُمح لي بالسفر!!
التعرف على قطر ورجالاتها
كيف تسلمت عملي بالمعهد الديني؟
زيارة الشيخ خليفة بن حمد
أخيرا سُمح لي بالسفر!!
بعد أن وافقت الجهات الأمنية في مصر على سفري معارًا إلى قطر، انزاحت العقبة الكأداء التي كانت تقف في طريقي دائما. فقد وقفت في طريق تعييني في معاهد الأزهر من قبل، كما وقفت في سبيل تعييني خطيبا بالأوقاف، ووقفت في سبيل سفري إلى قطر. والحمد لله على كل حال.
بقي عليّ أن أعد العدة للسفر إلى قطر، فالسفر إلى قطر ليس سفرًا لعدة أيام أو أشهر، كما كانت سفرتي السابقة إلى بلاد الشام، ولكنه سفر إعارة لمدة أربع سنوات، قد تمد فتصبح خمس سنوات أو ستا. فهو "سفر اغتراب" يلزم المسافر أن يتهيأ له بما يناسبه.
ثم إنه سفر لي ولعائلتي معي، وكانت عائلتي تتكون من زوجتي وابنتي الصغيرتين: إلهام، وهي لم تكمل السنتين، وسهام وهي تقترب من إكمال السنة. فكان عليّ أن أعد جواز السفر، ولم يعد هناك عقبة في استخراجه.
وكان عليّ أن أهيئ الزي المناسب، وهو الزي الأزهري الذي ألفته وألفني مدة طويلة، ثم قهرتني الظروف الاجتماعية والاقتصادية على أن أخلعه، حين عينت بمدارس الشرق الأوسط الخاصة بالزمالك. والآن لم يعد هناك مانع من العودة إليه، بل هناك مقتض لذلك. فهو الملائم لعلماء الأزهر المبعوثين، فعدت إليه مختارًا، وقد قالوا في الأمثال: من فات قديمه تاه. وهذا يقال في الماديات والأدبيات على السواء.
ولكن كان عليّ أن أبحث عمن يخيط "الجبب" أو "الكواكيل" التي أريدها، و"الكاكولا" هي الجبة ذات الطوق، ولا أدري لماذا سميت "كاكولة" ومن أي لغة أخذت، ويقال: إن أول من لبسها وقلده الناس فيها هو الإمام الأكبر الشيخ المراغي، شيخ الأزهر في زمنه.
لقد قل الخياطون أو "الترزية" المتخصصون في تفصيل الكاكولة، بعد أن قل من يلبسها من الأزهريين، بعد أن غلب على أكثرهم ارتداء الزي الإفرنجي.
كما قَلَّ الذين يصنعون "طربوش العمامة" بعد أن أضحى عامة الناس لا يلبسون الطرابيش على رؤوسهم، وأضحى أكثر الأزهريين لا يلبسون العمائم، لهذا انحصرت صناعة الطرابيش في محلين معروفين في شارع الغورية بحيِّ الأزهر، وهما اللذان أتعامل معهما أو مع أحدهما "محمد أحمد" من سنين طويلة إلى اليوم.
وقد كانت مادة الطرابيش من قبل تستورد من مصانع في النمسا، وكان بعضها في غاية الجودة والرقي، فلما منع الطربوش في تركيا من قبل، وألغي عمليا ـ من بعد ـ في البلاد العربية: أغلقت هذه المصانع أبوابها، وبدأت صناعة محلية، ولكنها للأسف لا تزال رديئة، ولم ترتق إلى المستوى المطلوب أو تقاربه إلى اليوم، ومرد ذلك إلى قلة الإنتاج غالبا.
وأنا أعتمد في الطرابيش على ما يبعثه إليَّ الأصدقاء من المغرب، فصناعة الطرابيش فيها أرقى منها في مصر؛ لأن الطربوش يعتبر من الزي الرسمي للملك والأمراء والوزراء والسفراء وغيرهم.
ولكن تبقى مشكلة "شال العمامة" فقد كان من قبل هناك شيلان تعرف بـ "الإستانبلي" ناعمة كأنها الحرير، ثم اختفت، ولم يوجد للأسف البديل لها.
على كل حال: عند سفري إلى قطر، كانت هذه الأشياء لا تزال متوافرة إلى حد معقول، إلا "الترزية"، ثم دلني بعض الإخوة على ترزي عريق، يخيط لشيوخ الأزهر الكبار، ودكانه في خان الخليلي، وهو "عم يوسف العدوي". وكان ترزيا متقنا، فخطت عنده كاكولتين، وفي كل صيف آتي له بالقماش ليفصل لي عدة كواكيل بعضها للشتاء، وبعضها للصيف. وكان يطلب أجرة خياطة الكاكولة "خمسة جنيهات". وظل على ذلك عدة سنوات، وكنت أقول له: يا عم يوسف، ألا تزيد في الأجرة قليلا؟ فيقول لي: رضا والحمد لله. ثم بعد مدة بدأت الحياة تغلو، والأسعار ترتفع، فظل يزيد الأجرة إلى عشرة جنيهات، فعشرين، فأربعين، فخمسين، إلى أن وصلت إلى مائة وخمسين جنيها، أي ارتفعت إلى ثلاثين ضعفا!
وكان عم يوسف حريصا على أن يقول لي: خياط الكاكولة: ترزي أفرنجي، أما خياط الجبة العادية فهو ترزي عربي.
قال لي الإخوة الذين سبقوني: لا تأخذ كتبا معك، فهناك الكتب الشرعية والعربية موفورة وميسرة في مكتبة حاكم قطر السابق الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني.
كل ما عنيت بأخذه من الكتب: نسخ من الكتابين اللذين صدرا لي، وهما: "الحلال والحرام في الإسلام"، و"العبادة في الإسلام" لأهدي منها إلى العلماء والمشايخ في قطر.
وقبل السفر بأيام ذهبت إلى القرية، لأزور الأقارب فيها وأودعهم قبل هذا السفر، الذي قد يطول، ولأكسب دعاءهم لي، ولأكسب فضل صلة الرحم وما لها من بركة في بسط الرزق، وإنساء الأثر، كما صح في الحديث.
استدعاء المباحث العامة
ومن المفاجآت التي أزعجتني قبل السفر: استدعاء المباحث العامة لي في وزارة الداخلية في "لاظوغلي" بالقاهرة، وكان الذي استدعاني هو الرائد أحمد راسخ "اللواء منذ سنوات" المسؤول عن إخوان القاهرة خاصة، بالمباحث العامة، وقد استقبلني بلطف ونعومة. وقال لي: أريد أن تتعاون معنا من أجل مصلحة البلد. قلت له: كلنا جنود من أجل مصلحة الوطن، ولكنني معار لعمل محدد هناك. وأنتم حذرتمونا أن نشتغل بالسياسة، فما لكم تريدون أن تعيدونا إليها؟
قال: لا نريدك أن تشتغل بالسياسة، ولكن إذا رأيت شيئا مهمًا، نرجو أن تبلغنا به. وهذا لا يكلفك إلا رسالة بريدية، وهذا عنواني.
وانصرفت من عنده مستغربًا من فكرة رجال الأمن الذين عمُوا عن معرفة معادن الناس، واعتقادهم أن كل إنسان صالح لأن يعمل لحسابهم، وأن يكون عينا لهم، أو أذنا لهم، وأنهم ـ بالتهديد المبطن ـ يستطيعون أن يجندوا حتى العلماء والدعاة، وهم في ذلك جد مخطئين. وسنعود إلى أحمد راسخ مرة بعد مرة في حينها.
إطلاق اللحية
وجاء موعد السفر، ولبست جبتي وعمامتي، وكنت قد أعفيت لحيتي منذ أسابيع، إحياء للسنة، ورجوعا إلى ما كنت قد بدأت به من قبلُ قبل دخولي إلى السجن الحربي.. وكان إعفاء اللحية عند سفري أمرًا منطقيا وطبيعيا، فقد تغيرت الظروف التي أجبرتني على حلقها. وأنا ذاهب إلى مجتمع أغلب رجاله ملتحون، ولا يستغربون إطلاق اللحية، بل لعلهم يستغربون من عالم الدين أن يكون حليقا.
الطيارة الكوميت
كان سفرنا بطبيعة الحال بالطائرة، وكنت قد ركبت الطائرة في رحلة قصيرة من قبل، من عمان إلى القاهرة، ولكن كانت الطائرة صغيرة بمحركات. واليوم نركب طائرة نفاثة من نوع "كومت"، وهي أول مرة تذهب من القاهرة إلى الدوحة، فقد كان المعارون قبلنا يستخدمون الطائرات ذات المحركات، وكانت الرحلة تستغرق ست ساعات، وربما أكثر، واليوم تستغرق هذه الرحلة نحو ثلاث ساعات، أي نصف زمن الطائرات السابقة.
وقرأنا أدعية السفر والركوب المأثورة، وحفظتها لزوجتي لتقرأها معي: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون"، اللهم هون علينا سفرنا، واطو عنا بعده. اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى.
لقد كنت أدعو بهذا الدعاء حين أركب القطار أو السيارة، فأولى أن أدعو به، ونحن معلقون في الفضاء. وقد قال طيار أمريكي: إن الإنسان أقرب ما يكون من الله، وهو في الجو، حيث لو حدث أي كرب، فلا منجاة من الله إلا إليه.
الوصول إلى الدوحة وحر الخليج:
ووصلنا الدوحة حوالي الساعة التاسعة مساء، وعندما فتح باب الطائرة لننزل منها: فوجئنا لأول مرة بهذا اللهيب الذي يستقبلنا، وهذا الجو الخانق المشبع بالرطوبة والبخار الذي لم يكن لنا عهد به، وإذا كان هذا هو الحال في الساعة التاسعة مساء، فماذا يكون الحال في الهاجرة والشمس في كبد السماء؟
قال الإخوة الذين استقبلونا: هذا هو جو الخليج، ولا بد أن توطنوا أنفسكم على احتماله، والتعايش معه. فليس هو جو مصر، ولا جو الشام. والشاعر يقول:
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
د. العسال
كان في استقبالنا بعض الإخوة الأصدقاء، منهم الشيخ محمد مصطفى الأعظمي العالم الهندي الذي يعمل أمينا لمكتبة الدوحة. والأخ الشيخ عبد اللطيف زايد الذي يعمل في وزارة المعارف منذ سنتين. والأخ أحمد العسال الذي كان قد سبقنا إلى الدوحة، وصحبنا في سيارة الأعظمي ـ وهي سيارة قديمة سقفها من القماش ـ إلى مسكنه لنبيت عنده في شقته.
صوت المكيف
وأعطينا حجرة لننام فيها أنا وزوجتي وابنتاي، ولأول مرة أرى "المكيف" الذي يبرد الهواء، وأسمع صوته، وعندما أردنا النوم قلت لهم: هل ننام وهذا المكيف يزعجنا بصوته؟ إنني لا يمكنني أن أنام وأنا أسمع أي صوت؟
قالوا: جرّب وأغلقه. وجربت وأغلقنا المكيف، فلم تمر دقائق حتى بدأ الجو يسخن، ثم يسخن، وقلت: مستحيل أن أنام في هذا العرق!
كان لا بد إذن من تشغيل المكيف، فهو ضرورة من ضرورات الحياة في تلك البلاد، أو على الأقل حاجة من حاجاتها الأساسية.
وقد اعتادت آذاننا بعد ذلك على صوته، وربما أصبح مساعدًا على النوم، فهو يحجب عنا أصوات الشارع الآتية من الخارج، ثم تطورت صناعته وظهرت أنواع من المكيفات لا يكاد يسمع لها صوت.
كان وصولي إلى الدوحة في غرة ربيع الآخر سنة 1381هـ الموافق "12-9-1961" الثاني عشر من شهر سبتمبر "أيلول" سنة واحد وستين وتسعمائة وألف.
التعرف على قطر ورجالاتها
ولم أكن عرفت من أهل قطر غير رجلين: أحدهما الشيخ عبد الله بن تركي مفتش العلوم الشرعية، والذي لقيته في القاهرة أكثر من مرة، والذي طلبني من قديم من وزارة الأوقاف، ثم طلبني وألح في طلبي من الأزهر. وكان من مآثر الشيخ ابن تركي أنه هو الذي سعى بجد وحرص لجلب علماء الأزهر من مصر لتدريس العلوم الشرعية، وكان يعتز بذلك ويفتخر به.
الشيخ سحيم بن حمد
الشيخ سحيم بن حمد
والرجل الثاني الذي عرفته من أهل قطر: هو الشيخ سحيم بن حمد آل ثاني الذي كان يزور مصر في الصيف، وكان معه معلمه الخاص الشيخ علي شحاتة، وهو الذي أخبرني بوجود الشيخ، واستحسن مني أن أزوره، فهو من الشخصيات المهمة في قطر، فهو ابن عم الحاكم، وأخو ولي العهد ونائب الحاكم. وقلت للأخ الشيخ علي: إني أرحب بهذه الزيارة، فالرجل ضيف على مصر، ومن حقه علينا أن نكرم وفادته، ولا أقل من الزيارة. وزرته في فندق شبرد ـ على ما أذكر ـ وأهديت إليه كتابيّ "الحلال والحرام" و"العبادة في الإسلام".
البحث عن مسكن ملائم من مساكن الحكومة
بدأنا منذ الصباح نبحث عن سكن مناسب لي أنا والعسال، بحيث نكون متجاورين، وكانت وزارة المعارف تسلم المدرسين سكنا مؤثثا، تشرف عليه إدارة الإسكان الحكومي. وبعد أن رأينا عدة شقق اخترنا شقتين متجاورتين في بيت من أربع شقق مكون من طابقين، أخذت أنا والعسال الشقتين العلويتين، وكان البيت ملك الشيخ ابن تركي. وقد قضينا في هذا البيت خمس سنوات، ثم جاء عليه الأمر بالإزالة حين أنشئ "جسر رأس أبي عبود" المعروف في الدوحة.
وكان علينا أن نجهز البيت بما يلزم من وسائل العيش: من السكر والأرز والسمن والزيت والملح والبصل وخلافه. ولم يكن لدينا سيارة، كما لا نعرف البلد، فكان الإخوة القدامى ـ جزاهم الله خيرا ـ يساعدوننا في إحضار هذه الأشياء.
الشيخ عبد المعز عبد الستار
القرضاوي وعبد المعز عبد الستار
وكان من المعارين من الأزهر إلى قطر: فضيلة أستاذنا الشيخ عبد المعز عبد الستار، أحد وعاظ الأزهر المشهورين، وأحد دعاة الإخوان المرموقين، والذي طالما هز أعواد المنابر بصوته الجهوري الذي يشق أجواء الفضاء، ويكاد يبلغ عنان السماء. وقد جئنا في سنة واحدة إلى قطر.
كان الشيخ عبد المعز قد اختير ليساعد الشيخ ابن تركي في تفتيش العلوم الشرعية، كما اخترت لأكون مديرا للمعهد الديني الثانوي.
وقد قابلني الأخ الصديق محمد عبد الله مرسي الذي كان يعمل مديرا لمدرسة الدوحة الإعدادية الثانوية، في القاهرة، وقال لي: إن تأخيرك السنة الماضية عن الإعارة إلى قطر، كان فضلا من الله عليك من حيث لا تشعر، لأنك جئت الآن مديرا للمعهد، وتستطيع أن تنهض بالمعهد كما تشاء، بخلاف ما لو جئت في العام الماضي، فقد كان للمعهد مدير، وربما عينت وكيلا، وسيختلف نهجك عن نهجه.
قلت: ما اختاره الله لنا خير من اختيارنا لأنفسنا. والقرآن الكريم يقول: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} "النساء:19".
وكان من الإخوة الأزهريين الذين جاءوا معنا هذا العام الأخ الشيخ عبد الرحمن الجبالي، وهو من أسرة الجبالي الصعيدية المعروفة، والتي تتصل بالنسب والقرابة مع أسرة الشيخ الإمام المراغي رحمه الله.
وقد كنت تعرفت عليه من قبل عندما كنت في المكتب الفني للوعظ والإرشاد، وكان شخصية طيبة ذات مودة وعلاقات اجتماعية حسنة مع كل من يعرفه.
كيف تسلمت عملي بالمعهد الديني؟
القرضاوي في بعثته بالمعهد الديني بقطر
وقد كان اتفاق الشيخ ابن تركي معي منذ التقينا في مصر، على أن أتسلم إدارة المعهد الديني الثانوي في قطر، خلفا عن مديره السابق فضيلة الشيخ الدكتور عبد الغني الراجحي الذي تسلم إدارته لسنة واحدة، هي كل عمر المعهد الناشئ، وكان وكيله الشيخ محمد محفوظ، وكان بين المدير والوكيل خلاف وصراع طويل. وقبل عودتي نقل الشيخ محفوظ من المعهد. وكان من فضل الله تعالى عليّ، حتى لا أبدأ حياتي بصراع لا ضرورة له، وأنا أحب أن أبدأ وأعمل في سلام وهدوء وسكينة تعين على العطاء والإنتاج.
وقد عينت براتب قدره 1475 روبية "أول راتب السنيار"، ورغم أني مدير لم يكن لي راتب المدير، ولا بدل الإدارة، مثل مدير مدرسة الصناعة مثلا. ولكني رضيت بهذا، فقد كان خيرا وفضلا من الله ونعمة.
الشيخ عبد الله الأنصاري
الشيخ عبد الله الأنصاري
في أول يوم من أيام دوامي بالمعهد الديني "4/4/1381هـ ـ15/9/1961م" وكان مبنى صغيرا قديما أزيل وبني مكانه رئاسة المحاكم الشرعية القديمة التي احتل مكانها الآن صندوق الزكاة.. كان أول من زارني رجل مهيب الطلعة، بشوش الوجه، باسم الثغر، دخل عليّ مكتبي وصافحني بحرارة، وقال: أنا أخوك عبد الله بن إبراهيم الأنصاري من طلبة العلم، ومدير مدرسة صلاح الدين بالدوحة. ولقد سمعنا بك قبل أن نراك، فأهلا ومرحبا بك في الدوحة بين أهلك وإخوانك. بيوتنا كلها مفتوحة لك، وأيدينا ممدودة إليك، ولا تتأخر في طلب أي مساعدة تحتاجها، فنحن إخوانك وأولى الناس بك.
أسرتني هذه الكلمات من رجل لم يلقني من قبل، وإنما سمع عني بعض ما حببني إليه، فشكرت له حسن صنعه، وجميل سعيه وزيارته، ورجوت أن أكون عند حسن ظنه، وألا أكون كما قال المثل العربي: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.
قال: بل صدق الخُبر الخبر، وصدقت العين الأذن، والأذن تعشق قبل العين أحيانا، كما قال الشاعر. وانصرف الشيخ بعد أن دعاني إلى زيارته في مجلسه. ووعدته بذلك شاكرا له.
وعرفت بعد ذلك أن الشيخ الأنصاري من علماء الدين المعدودين في قطر، وأنه أحد العبادلة الثلاثة من أهل العلم: أولهم عبد الله بن زيد المحمود قاضي المحكمة الشرعية. وثانيهم: عبد الله بن تركي، وقد حدثتك عنه، وثالثهم: عبد الله الأنصاري. وسيأتي في مناسبات شتى الحديث عن هؤلاء العلماء الذين كان لكل منهم وزن وشأن.
وكان هذا التعبير: عبد الله الأنصاري من "طلبة العلم" جديدا عليّ، وهو تعبير شائع بين أهل الخليج، توارثوه خلفا عن سلف، يقولون عن العالم منهم، ويقول العالم عن نفسه: من طلبة العلم.
وإنه لتعبير موفق، فالإنسان ـ وإن بلغ من العلم ما بلغ وعلا كعبه ما علا ـ يظل طالبا للعلم، وفي مأثوراتنا: اطلب العلم من المهد إلى اللحد. لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل.
وما أجمل أن يعرف المرء بنفسه، فيقول: أخوكم من طلبة العلم!
الشيخ علي بن سعود
علي بن سعود آل ثان
وكان الزائر الثاني في نفس اليوم هو الشيخ علي بن سعود بن ثاني آل ثاني الذي كان وصله كتابي "الحلال والحرام في الإسلام" وكان يقرأ الكتاب، وهو معجب به، وبمؤلفه، وأهم من ذلك: أنه كان يقرؤه ليطبق ما فيه. فلما قرأ فيه أن الساعة والقداحة (الولاعة) والقلم: إذا كان من الذهب فهو حرام على الرجال. وكان يستخدم هذه الأشياء الذهبية فتخلى عنها، وقال: والله لا حاجة لي إلى الحرام.
وكان الشيخ علي رحمه الله على صلة طيبة بأحد الأزهريين القدماء في قطر، وهو الأخ الشيخ يوسف عبد المقصود، فحدثه عما قرأه في كتاب "الحلال والحرام" وأنه معجب بهذا الكتاب، فقال الأخ يوسف: هل تعلم أن مؤلفه في الدوحة؟ قال: لا أعلم. ومتى قدم إلى الدوحة؟ قال: إنه قدم منذ يومين فقط، مديرا للمعهد الديني، وسيكون في مكتبه غدا. قال: إذن سأسعى لزيارته، وجاء الشيخ علي، وسعدت بزيارته، وعرفت أن له قراءات في التراث الإسلامي، وفي التراث الأدبي، وأنه يقول الشعر، وعرف مني أيضا أني أقول الشعر، وانعقدت بيننا مودة ظلت موصولة الحبال، حتى لقي ربه رحمة الله عليه.
ومما أذكره للشيخ علي بن سعود: أنه بعد حوالي سنتين وربما أكثر في قطر، فاجأني بهدية، كانت عبارة عن تليفزيون صغير "14 بوصة أبيض وأسود" قائلا لي: ليتسلى به الأولاد. ولم يكن يخطر ببالي في ذلك الوقت أن أقتني جهازا للتليفزيون، ولم يكن هناك محطات تليفزيونية لأي بلد عربي تظهر فيه، فلم تكن معظم البلاد العربية أنشأت محطات أو قنوات. وإنما كانت تظهر فيه قناة "أرامكو".
وظل هذا التليفزيون عندنا عدة سنوات، حتى فوجئنا بهدية أخرى من الشيخ علي نفسه، هي تليفزيون في حجم الأول، ولكنه ملوّن.
وكانت هذه مجاملة طيبة منه، وقد جاءت في وقتها، وربما يسأل الكثيرون: هل يجوز للمسلم ـ ناهيك بالعالم الداعية ـ أن يقتني جهازا تليفزيونيا؛ برغم ما قد يكون فيه من مفاسد؟
والجواب: إن التليفزيون إنما هو وسيلة، يمكن أن تستخدم في الخير، كما تستخدم في الشر، والوسائل إنما يحكم لها بحكم مقاصدها، مثل السيف أو البندقية: فهي في يد المجاهد أداة خير، ووسيلة للدفاع عن الحق، وهي في يد قاطع الطريق أداة شر وإفساد في الأرض، فلا نقول: البندقية حلال ولا حرام، إنما حكمها بحسب ما تستعمل فيه.
والتليفزيون كذلك مثل غيره من الصحافة والإذاعة والمطبعة، يستطيع المسلم أن يستفيد من خيرها، ويحذر من شرها. وهنا دور التربية والتوجيه.
وقد عمت البلوى بهذه الأدوات، فلم يعد من الممكن منعها إلا بضغط وإكراه، وفي هذه الحالة تكون مرغوبة، كما يقول الشاعر: أحب شيء إلى الإنسان ما منعا.
مشكلات المعهد الجديد
وأود أن أعطي فكرة عن المعهد الذي تسلمت إدارته: لقد أنشئ هذا المعهد سنة 1960م، أي قبل أن آتي بسنة واحدة، وأنشئ من صفين أو فرقتين: الصف الأول، والصف الثاني، وكان هؤلاء الطلاب في الصفين، هم أصلا من تلاميذ معهد ديني ابتدائي أنشئ قديما، وكان مديره الشيخ عبد الله الأنصاري، ثم رئي إغلاقه، وحول طلابه إلى مدرسة صلاح الدين.
فلما أريد إنشاء معهد ثانوي ـ بدل المعهد الابتدائي القديم ـ جيء بالطلاب القدامى ليكونوا نواة المعهد الجديد. فنشأ منهم المعهد بصفيه الأول والثاني حسب مستواهم الدراسي الذي كانوا عليه.
وكانت فكرة المعهد قائمة على أساس أنه "معهد ثانوي" على غرار معاهد الأزهر الثانوية القديمة، على النظام الذي درسناه نحن في أيامنا. ومدة الدراسة فيه خمس سنوات.
ويدرس الطلبة في هذا المعهد ما كان يدرسه طلاب المعاهد الثانوية قديما في الأزهر قبل قانون تطوير الأزهر ومعاهده.
ولهذا وجدت الطلبة يدرسون في الصف الأول الثانوي: شرح ابن عقيل على الألفية، في النحو والصرف، ويدرسون كتابا في البلاغة، على نحو ما كنا ندرسه في السنة الأولى الثانوية من كتاب "زهر الربيع في المعاني والبيان والبديع".
كما يدرسون علم المنطق، وهو كتاب "شرح السلّم" المعروف لطلبة الأزهر. ويدرسون الفقه في كتاب على مستوى الثانوي أيضا من كتب الفقه الحنبلي، وهو كتاب "الروض المربع شرح زاد المستنقع".
ويدرسون في التفسير كتاب تفسير النسفي، وفي الحديث صفوة صحيح البخاري، ولا يدرسون من العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية واللغة الإنجليزية إلا القليل.
وكان هذا التصور للمعهد في قطر خطأ جذريا، لأنه بني على أساس غير سليم، من الناحية العلمية والموضوعية والواقعية.
أولا: لأن المعهد الثانوي في الأزهر مؤسس على مرحلة ابتدائية سابقة مدتها أربع سنوات، درس الطالب فيها النحو أربع مرات: في شرح الأجرومية، وشرح الأزهرية، وشرح قطر الندى، وشرح شذور الذهب، ثم درس الصرف في كتاب "شذا العَرف في فن الصرف".
ثم درس فقه العبادات في السنة الأولى، ودرس الفقه كله في السنوات الثلاث، وتأسس الطالب في العلوم الشرعية والعربية تأسيسا قويا مكينا.
أما طالب معهد قطر، فقد جاء من المدارس الابتدائية التي لم تؤهله هذا التأهيل المطلوب. لهذا كانت المقررات التي تدرس للطالب في معهد قطر غير مناسبة تماما، وفوق مستوى الطلاب بمراحل.
وثانيا: لأن الأزهر غيَّر من مناهجه، وأدخل اللغة الأجنبية ابتداء من أول سنة، كما زاد من كم العلوم الطبيعية والرياضية التي كانت تسمى "العلوم الحديثة". وسمى الأزهر المرحلة الابتدائية: "المرحلة الإعدادية" أما الثانوية فبقيت على الاسم القديم.
طلاب يطلبون سحب أوراقهم
وقد فوجئت بمشكلتين واجهتاني في المعهد من أول يوم:
المشكلة الأولى: أن ثلاثة طلاب من الصف الثاني في المعهد جاءوا، وفي يد كل منهم طلب بسحب أوراقه من المعهد. أذكر منهم الطالب: عتيق ناصر البدر "سفير بوزارة الخارجية الآن" والطالب: موسى زينل موسى "مدير إدارة الثقافة والفنون الآن" وثالث نسيت اسمه.
قلت لهم مازحا: أتستقبلون الضيف بالإكرام أم بالإهانة؟
قالوا: بل بالإكرام والترحيب.
قلت: جئت ضيفا على بلدكم، ومن أول يوم، تقولون لي: لا نريد أن نرى وجهك!
قالوا: معاذ الله يا أستاذ.
قلت: هذا هو معنى طلبكم: أنكم تريدون أن تغادروا المعهد، حتى لا تعاشروني ولا تروا وجهي.
قالوا: لا يا فضيلة الأستاذ، ولكن الدراسة في المعهد لا تناسبنا.
قلت لهم: ما الذي لا يناسبكم؟
قالوا: لا ندرس إلا ثلاث حصص في اللغة الإنجليزية، ولا ندرس من العلوم ما يكفي، وندرس في العلوم الشرعية والعربية كتبا في غاية الصعوبة.
قلت لهم: أنا معكم في هذا كله، وأعدكم أن هذا كله سيتغير، واصبروا عليّ عدة أسابيع وسترون أن ما أقوله صحيحا.
وقد اقتنع هؤلاء الطلاب الثلاثة، وكانوا سببا في إقناع عدد آخر من زملائهم كانوا ينوون سحب أوراقهم.
لم يتقدم طالب للصف الأول بالمعهد:
والمشكلة الثانية أشد وأنكى من الأولى: فالأولى كانت انسحاب القديم، والثانية: ألا جديد. ذلك أني لم أجد طالبا واحدا تقدم للالتحاق بالصف الأول بالمعهد. كل ما هنالك أن طالبا لم يدخل الامتحان في العام الماضي فأعاد السنة، فهذا هو الاسم الوحيد الموجود على قائمة الصف الأول.
ومر يوم واثنان وثلاثة، وبقية الأسبوع، فلم يتقدم إلينا أحد، ومعنى هذا: أن المعهد يصفي نفسه من أول يوم. إذا لا معنى لمعهد لا يأتيه طلاب جدد، والطلاب القدامى كأنما فُرضوا عليه، أو فُرض عليهم فرضا.
وبدأت أتهيأ لمواجهة هذه المشكلة العاجلة. فكتبت نشرة توزع على نطاق واسع في المساجد، تبين أهمية الدراسة الدينية والتفقه في الدين، وأنه واجب على كل مجتمع أن يهيئ من أبنائه فئة تتفقه في الدين، حتى إذا سئلوا أفتوا بعلم، وإذا قضوا قضوا بحق، وإذا دعوا إلى الله دعوا على بصيرة، {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} "التوبة:122".
وفي يوم الجمعة، تحدثت بعد خطبة الشيخ ابن تركي في الجامع الكبير المعروف باسم "جامع الشيوخ" حديثا عن طلب العلم، وأهمية علم الدين... إلخ.. فبدأ يجيئنا طالب بعد آخر، حتى اكتمل الصف الأول ثمانية طلاب. وقلنا: فيهم بركة، وربنا يبعث المزيد. أما تطور المعهد، فسنتحدث عنه بعد قليل.
التعرف على الشيخ ابن مانع
كان درسي بعد صلاة الجمعة جاذبا لانتباه من سمعوه من أهل العلم، وعلى رأسهم العلامة الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع، كبير علماء قطر، ومدير المعارف سابقا بالمملكة العربية السعودية، وكان بيته ومجلسه بجوار الجامع الكبير، وبعد كل صلاة جمعة، يجلس مع صحبه في مجلسه، فدعاني إلى مجلسه، وسلم علي ورحب بي، وأثنى على حديثي، وعرفني بأنه زار مصر، وأنه لقي الشيخ محمد عبده، وأنه أول من جلب علماء الأزهر إلى المملكة، وكان يذكر هذا على سبيل الفخر والاعتزاز.
والشيخ ابن مانع من العلماء الذين لهم ولع بالتراث وبالكتب، وله رسائل وتحقيقات بعضها نشر، وبعضها لم ينشر.
وكان عالما حنبليا معتزا بحنبليته، وكان يتمسك بالمذهب الحنبلي ويردد بيت الشاعر الذي يقول:
أنا حنبلي ما حييت، فإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا!
ومع هذا لم يكن متعصبا، بل كان رجلا سمحا، لطيف المعشر، لين الجانب، حسن الأخلاق، فكه الحديث، وكان يقول: اجتمع عندنا في الرياض من مشايخ الأزهر ما يكون حديقة حيوان، فكان عندنا من العلماء والمشايخ: النمر والضبع والديب والسبع والسراحين! يعني آل سرحان، وكانوا ثلاثة.
وقد تعرفت في مجلس الشيخ ابن مانع على ابنه القارئ المثقف المهذب، الشيخ عبد العزيز، وقد توثقت الصلة بيني وبينه، حتى وافته المنية مبكرا رحمه الله.
وكان من جلساء ابن مانع باستمرار: الشيخ قاسم درويش فخرو الذي كان مجلسه أيضا ـ وما زال ـ بجوار الجامع الكبير، وكان يعد من طلبة العلم أو من "المطاوعة" كما يسمونهم في الخليج. وكان قد ولي على المعارف في عهد الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، قبل أن يتولاها الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني ابن عم الحاكم، وشقيق نائبه وولي عهده الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني.
زيارة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود
وكان من أوائل الزيارات التي قمت بها: زيارة العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، قاضي المحكمة الشرعية، وصحبني في هذه الزيارة أخونا الشيخ علي شحاته، وكان هو والأستاذ كمال ناجي من القدماء في قطر، ممن قدموا من السودان إلى قطر، وكان قد أخذ مني كتابي "الحلال والحرام" وكتابي "العبادة في الإسلام" هدية مني إلى الشيخ، وتفضل بإيصالهما إليه.
فلما دخلنا على الشيخ وجدناه يقرأ في كتاب "العبادة في الإسلام" وقد وقف على فقرة في الكتاب وقال لجلسائه: الشيخ في هذه المسألة محقق، قد رد المسألة إلى جذورها، واستدل عليها بالقرآن والسنة. وقد نسيت أي مسألة هي.
وكانت جلسة علمية رفيعة المستوى، تبادلنا فيها الأحاديث، وانتهت بأن أهداني فضيلته رسالته القيمة التي كان قد أصدرها منذ عدة أعوام حول فقه الحج، وسماها "يسر الإسلام" وأجاز فيها "رمي الجمار قبل الزوال"، وأقام على رأيه أدلة قوية، وأنه لا يوجد دليل ينهى عن الرمي قبل الزوال، وأن الرمي أمر يتم بعد التحلل النهائي من الحج، وأن الإنابة فيه تجوز، وأنه ـ عند الحنابلة ـ لو أخر الرمي كله إلى اليوم الأخير لأجزأه.. وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر يوم النحر، إلا قال: افعل ولا حرج.
وأن رفع الحرج مطلوب الآن أشد من أي وقت مضى؛ فالناس يموتون تحت الأقدام.
وأن طاووسا وعطاء من كبار فقهاء التابعين أجازا الرمي قبل الزوال، وأن بعض المتأخرين من الشافعية وغيرهم أجازوه.
الحقيقة أن منطق الشيخ كان قويا، وقد سبق زمنه بهذه الرسالة الشجاعة، فأصبح الكثيرون الآن يفتون به، وقد تبنيت رأيه منذ قرأت رسالته، ورده على علماء الرياض الذي شددوا غاية التشديد في القضية، وردوا عليه، وأرادوا أن يلزموه بالرجوع عن رأيه، ويبدو أنه وافقهم عندما كان هناك تحت الضغط، فلما عاد إلى قطر غير رأيه، ورأى أنه إنما يدين لله بما اقتنع به، وانتهى إليه اجتهاده، وأن الله لا يكلفه أن يدع اجتهاده ليعمل باجتهاد الآخرين. وهذا من محاسن الإسلام، وإن كان المشايخ في "الرياض" قالوا عنه: أخلف وعده، ونكث عهده. وليس كذلك، بل تفسيره ما ذكرت، وهو بيّن، والحمد لله.
زيارة الشيخ قاسم بن حمد
وكان لا بد لنا أن نزور الرجل الأول المسؤول عن التعليم في قطر، ووزير المعارف، وهو الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني، شقيق ولي العهد ونائب الحاكم الشيخ خليفة بن حمد، وابن عم حاكم قطر. وهو الوزير الوحيد في حكومة قطر، مع الشيخ خليفة الذي كان يعتبر وزيرا للمالية أيضا.
وكانت وزارة المعارف أهم وزارة في البلد، وأكثرها موظفين، وهم يكونون قوة اقتصادية مهمة، فهم الذين يحركون الأسواق، وهم الذين يشغلون سيارات الأجرة، وكانت تعمل بنظام "الورّة" أي الدورة، كل من لديه سيارة أجرة "تاكسي" من القطريين يأخذ دوره في المعارف في حينه بالعدل والقسطاس المستقيم، وهم الذين يشغِّلون "تناكر" المياه، فلم تكن المياه قد وصلت إلى المنازل، إلا النادر، فكانت سيارات المياه توصل إلى المنازل كل عدة أيام ما يحتاج إليه من ماء. وكان أصحاب البيوت يؤجرونها للدولة، ليسكن فيها المدرسون. المهم أن حركة الحياة في الدوحة كانت في أغلبها مرتبطة بوزارة المعارف وموظفيها.
وكان طلاب المدارس يتغدون جميعا على حساب الوزارة، وكانوا يذهبون بعد الدرس الأخير إلى "قاعة التغذية" المعدة لذلك، وكان لها إدارة أو قسم، ورئيس لهذا القسم، وكان رئيس قسم التغذية أحد إخواننا المصريين الفضلاء الذين قدموا مع القادمين الأول إلى قطر، وهو الأستاذ عبد اللطيف مكي. وكانت التغذية تقدم طعاما طيبا شهيا على الطريقة الخليجية.
وكانت هذه التغذية من المغريات للتلاميذ بالالتحاق بالمدارس، فقد كان كثير من أهل قطر من أهل البادية، الذين لا يقدرون التعليم حق قدره، فكان هذا مما يحفزهم لإلحاق أولادهم بالمدارس.
وأكثر من ذلك: أنه كانت تدفع لهم رواتب منذ أول يوم يسجلون فيه في المدرسة، فإذا كان البدوي لا يهمه التعليم، فهو يهمه الفلوس والدراهم.
وبهذا نرى أن وزارة المعارف ـ التي سميت بعد سنوات وزارة التربية والتعليم ـ كان لها دورها الفعال، وأثرها الحيوي في الحياة القطرية كلها.
وهذا ما جعل لوزير المعارف منزلة خاصة مستمدة من أهمية وزارته، ومن شخصيته التي كان لها هيبتها، وقدرتها على منع أي عبث أو تجاوز في المدارس، وخصوصا من أبناء شيوخ الأسرة الحاكمة الذين لم يكن ليلزمهم الأدب ويوقفهم عند حدهم سوى الشيخ قاسم.
زرت وزير المعارف الشيخ قاسما في منزله أو في قصره بالدوحة، وكنت مع فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار والشيخ أحمد العسال، فرحب بنا الرجل ترحيبا كبيرا، وتحدث معنا، وتحدثنا معه، ودعانا إلى أن نزوره في مزرعته في شمال قطر بمنطقة الزبارة.
فاستجبنا للدعوة، وزرناه بعد أيام في مزرعته. وكان الشيخ قاسم من أوائل الذين بادروا بإنشاء المزارع في قطر، وكان ينفق عليها حتى تنتج، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وفي الغالب لم يكن قصده تجاريا، بل هو هواية تخضير الأرض في تلك الرمال الصفراء.
وكان من هوايات الشيخ قاسم: صيد "المها" أو ما يسمونه "الوضيحي" وهو نوع من الظباء أو الغزالان ذات لون خاص، أقرب إلى البني، وهو نادر في العالم، وقد بدأ ينقرض، وبدأت الهيئات الدولية المعنيّة تهتم بحمايته، وعمل الحظائر الخاصة به، وكانت "حديقة المها" عند الشيخ قاسم معروفة عند المهتمين به على مستوى العالم.
والمها هو ذلك النوع الذي التفت إليه شعراء العرب، وشبهوا الغيد الحسان من النساء به، ولا سيما العيون، كما قال الشاعر:
عيون المها بين الرصافة والحسر سلبن النهى من حيث تدري ولا أدري!
وفي كل فترة يدعونا الشيخ قاسم لمزرعته، فيكرمنا بما عرف عند العرب من كرم الضيافة، ويذبح لنا الخراف، ونأكل "المكبوس" وهو الأرز الذي يطبخ مع الخروف.
زيارة الشيخ خليفة بن حمد
كان التلاميذ ـ كما ذكرت ـ يأخذون جميعًا رواتب من الحكومة، ترغيبا لهم في الالتحاق بالمدارس، وكان جميع التلاميذ يأخذون هذه الرواتب أو المعاشات كما يسمونها. ولكن في السنة التي وصلت فيها: اتخذت الحكومة قرارا جديدا، وهو قصر الرواتب على التلاميذ القطريين وحدهم. أما غير القطريين فلا يصرف لهم شيء.
وكان في المعهد الديني عدد من الطلاب من غير القطريين، بعضهم من الإمارات مثل الطالب أحمد عبد الله عسكر من خور فكّان، والطالب محمد عبد الرحمن البكر من رأس الخيمة، والطالب محمود هزاع من اليمن، وغيرهم.
وتحدثت مع الشيخ عبد الله بن تركي عن هذه القضية، وقلت له: يجب أن يستثنى طلاب المعهد الديني من قرار قصر الراتب على القطريين، تشجيعا للتعليم الديني، فقال لي: إن هذا الأمر بيد الشيخ خليفة، وأنا أرى أن نذهب معا لزيارته ليتعرف عليك، ولتحدثه في هذا الأمر بنفسك، وأعتقد أنه سيقتنع بمنطقك.
وفعلا ذهبت مع الشيخ ابن تركي إلى الشيخ خليفة، فحياني الرجل ورحب بي، وقال لي: سمعنا عنك قبل قدومك، وأرجو أن تجد في قطر وطنك الثاني، وشكرته على المجاملة الطيبة. وقلت له: يا طويل العمر، أريد أن أشرح لكم موقف المسلمين من العلم الديني طوال العصور الماضية، فقد وقفوا عليه الأوقاف، والصدقات الجارية، ليستمر علم الشرع موصولا متوارثا جيلا بعد جيل، فهو فرض كفاية على الأمة، إذا قام به عدد كاف يلبي الحاجة، رفع الحرج عن الأمة، وإلا أثمت الأمة كلها.
وقد جرت عادة أهل الخير من المسلمين أن يخصوا الطلبة الغرباء بعناية أكبر من غيرهم، لشدة حاجتهم في غربتهم، وتشجيعا لهم أن يتفقهوا في الدين وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
ونحن ـ طلبة الأزهر المصريين ـ في كلياتنا، لا يعطى لنا شيء، على حين يعطى طالب البعوث الإسلامية قدرا من المعونة يساعده على معيشته، وبعضهم يأخذها رغم أنه يسكن في مدينة البعوث الإسلامية التي خصصها لهم الأزهر. وهذا امتداد لنظام "الأروقة" الذي كان متبعا في الأزهر من قديم، فهناك في مباني الأزهر نفسه: رواق للمغاربة، ورواق للأكراد، ورواق للشوام، وهكذا.
وأنا لا أطالب سموكم بإعطاء الطلبة الغرباء، وحرمان القطريين.. بل أريد التسوية بين الجميع في ذلك، وتكون هذه ميزة لطلبة المعهد الديني.
وتفهم الرجل قصدي، واستجاب له في الحال. بل ظلت هذه الميزة لطلاب المعهد مستمرة، حتى بعد أن ألغيت الرواتب من الطلاب القطريين أنفسهم بعد ذلك.
زيارة الشيخ الأنصاري في مجلسه:
وقد ذكرت أن أول من زارني في مكتبي كان الشيخ عبد الله الأنصاري، فكان الواجب أن نرد إليه الزيارة في مجلسه، والله تعالى يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} "النساء:86".
وذهبت إلى فضيلة الشيخ في مجلسه القديم، وكان مجلسا ومكتبة في الوقت ذاته، فقد كانت المكتبات جزءًا من البناء، أو من جدران المجلس، مكسوّة بالخشب والزجاج، ومصنفة على العلوم، فبعضها للتفسير، وبعضها للحديث، وبعضها للعقيدة، وآخر للفقه، وآخر للنحو والصرف واللغة، وغيره للأدب والتاريخ.
ووجدنا الشيخ يقرأ في أحد كتب الحديث على ما أذكر، فعلقت على الموضوع تعليقا ضافيا بما فتح الله عليّ في ذلك الوقت، وتلقاه الشيخ ومن حوله بالرضا والقبول.
وأصبحت أتردد على مجلس الشيخ بين الحين والحين، أحيانا وحدي، وأحيانا مع فضيلة الشيخ عبد المعز، أو الشيخ أحمد العسال.
وبعد قليل بني بجوار الشيخ مسجد الشيخ غانم بن علي آل ثاني، وهو مسجد جمعة، كان يخطب فيه الشيخ رحمه الله، ويقيم فيه الندوات الدينية ويدعونا للمشاركة فيها، ويحيي بعض الذكريات الإسلامية، مثل ذكرى الهجرة النبوية، أو ذكرى المولد النبوي. وفي إحدى السنوات، قامت مناقشة علمية حامية بين الشيخين ابن محمود الذي اعترض على الأنصاري في الاحتفال بالمولد، والأنصاري الذي دافع عن الاحتفال بالمولد بالدروس والمحاضرات. وكتب الأنصاري رسالة علمية رصينة شرح فيها وجهة نظره، موثقة بالأدلة الشرعية، وهو ما دل على أصالته وتمكنه.
ثم أنشأ الشيخ الأنصاري ندوة قرآنية مساء كل خميس للتدريب على حسن تلاوة القرآن، وتعليم أحكام التجويد، وتنتهي بدرس قرآني، وقد استفاد منها الكثيرون فأحسنوا تلاوتهم، وكثيرا ما شاركت فيها، بالتلاوة وإلقاء درس في ختام الندوة.
عودة إلى تطوير المعهد
وفي هذه الفترة بدأت أعد العدة لتصحيح النظرة إلى المعهد، وتطويره، تطويرا يساعد أبناءه على أداء رسالتهم الدينية والدنيوية.
ويبدأ تصحيح النظرة بإلغاء اعتبار المعهد مرحلة ثانوية مدتها خمس سنوات متصلة، إذ ليس قبلها مرحلة ابتدائية لمعاهد الأزهر.
تقسيم المعهد إلى مرحلتين إعدادية وثانوية
وبدا لي أن أقسم المعهد إلى مرحلتين: إعدادية وثانوية. كل مرحلة منهما ثلاث سنوات، مثل مراحل التعليم العام. يدرس الطالب في المرحلتين ما يدرسه الطالب في التعليم العام تقريبا، إلا ما لا ضرورة إليه مما يوفر لنا بعض الحصص.. وتدرس نفس الكتب المقررة على الإعدادي والثانوي في العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية، واللغة الإنجليزية ونحوها. وفي الثانوي تدرس مناهج القسم الأدبي.
على أن نزيد الجرعات التي يأخذها الطالب من العلوم الشرعية والعربية. وهنا لا بد أن نبذل جهدا في تيسير هذه العلوم وتقريبها بحيث لا نرهق الطالب بتعقيداتها. ولا بد من تقرير الكتب المناسبة لذلك. وقد يضطرنا هذا أن نزيد حصتين في الخطة الدراسية.
ومعنى هذا: أن علينا أن نهيئ الطالب في الصف الثالث بالمعهد هذا العام لامتحان الشهادة الإعدادية. وحصول الطالب على هذه الشهادة سيشعره بأنه قطع مرحلة دراسية مهمة، وحصل على شهادتها.
وكلمت الشيخ عبد الله بن تركي في هذا التغيير، ورحب به ووافقني عليه، وقال: علينا أن نقابل مدير المعارف وتقنعه بهذا الأمر.
وكان مدير المعارف هو الأستاذ عبد الرحمن عطبة "أ.د. عبد الرحمن عطبة أستاذ اللغة العربية الآن". وقد كان مفتشا للغة العربية، وأبدى نشاطا ملحوظا، فعينه الشيخ قاسم مديرا للمعارف، وكنت قد لقيته في القاهرة في الصيف لقاء عابرا، وكان الأستاذ محمد المبارك أوصاه بي.
فذهبت إليه، وشرحت له فكرتي، فشد على يدي، وشجعني على سرعة التنفيذ.
كتب جديدة للمعهد
وفعلا شرعت في التنفيذ، فغيرت الكتب المقررة من قبل على الطلاب، وطبعت كتبا جديدة، منها: كتاب "النحو الواضح" للأستاذ علي الجارم والأستاذ مصطفى أمين بأجزائه ومستوياته الثلاثة، وألغيت دراسة المنطق والبلاغة وابن عقيل، أو قل: أجلتها إلى الثانوي، حسب التيسير.
وقررت تغيير كتاب الفقه من "الروض المربع" إلى كتاب "منار السبيل شرح الدليل"، وهو كتاب سلس سهل العبارة، يهتم بالأدلة، ومطبوع على ورق فاخر في جزأين، وموجود في قطر، فقد طبعه الوجيه قاسم درويش على نفقته، وقررت أن يدرس نصف الكتاب في المرحلة الإعدادية، ونصفه في المرحلة الثانوية.
ولم يتطلب مني ذلك أن أزيد في خطة الدراسة غير ساعتين، واحدة يوم السبت، وأخرى يوم الأحد.
وكان هذا التطوير المقابل لتطوير الأزهر، إلا أن الأزهر طور العلوم الحديثة، ولم يمس العلوم الشرعية والعربية القديمة، فبقيت على حالها. واضطر الأزهر أن يبقي سنوات الدراسة كما هي: أربع سنوات للإعدادي، وخمسا للثانوي. أي أنها أزيد من التعليم العام بثلاث سنوات.
وقد اضطر الأزهر بعد سنوات وسنوات أن يقترب منا في قطر، ويختصر بعض السنوات في المرحلتين.
استبشر طلاب المعهد بالتغيير الذي حدث، وأقبلوا على الدراسة بالمعهد بجد وحرص، وكنت أدرسهم بعض المواد بنفسي. وقد لمست فيهم ذكاء وانتباها وتجاوبا كبيرا. وشارك الطلبة في أنشطة ثقافية واجتماعية، أبلوا فيها بلاء حسنا، وبرزوا فيها، بل تفوقوا على كثير من زملائهم. وصدقت وعدي للطلبة بالتغيير إلى الأحسن، وقد كان.
وبعد أشهر دخلت أول دفعة من طلبة المعهد امتحان الشهادة الإعدادية، ونجحوا جميعا، وجلهم ـ إن لم يكن كلهم ـ من النابهين المتفوقين، الذين صاروا بعد ذلك وزراء، أو شعراء، مثل عبد العزيز بن عبد الله تركي، ومحمد سالم الكواري من قطر، ومحمد عبد الرحمن البكر من الإمارات.
وكان عدد من المدرسين مثبتين، وعدد آخر ينتدب من المدرسة الإعدادية الثانوية، مثل مدرس العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية والإنجليزية.. ولم أطلب تغيير أحد من المدرسين الذين كانوا بالمعهد من قبل، وإن كان لي ملاحظات على بعضهم، ولكن قلت: بالتوجيه يمكن أن يتحسنوا ويتطوروا، وإلا طلبت التغيير وقد كان.
الشيخ عبد اللطيف زايد
لكني طلبت مدرسا واحدا، رجوت أن ينضم إلى أسرة المعهد، ليكون عونا لي فيما أريده للمعهد من رسالة، وقد عرفته مربيا بالفطرة والأسوة، ونموذجا مجسدا للإخلاص والبذل والعطاء دون منٍّ ولا أذى. ذلكم هو الأخ الحبيب الشيخ عبد اللطيف زايد الذي عرفته من قبل في معسكر التدريب بالأزهر، وفي تل بسطة بالشرقية في معارك القناة ضد الإنجليز، وقد سبقني إلى قطر، وهو يعمل مدرسا للعلوم الشرعية بمدرسة أم صلال علي الابتدائية. وأهلها محبون له متمسكون به، ولكني وسطت الأستاذ أحمد رجب عبد المجيد "د. أحمد بعد ذلك" ليشفع لي عند الشيخ علي بن جاسم شيخ أم صلال، ليسمح بانتقال الشيخ عبد اللطيف إلى المعهد لشدة الحاجة إليه، واستجاب الشيخ علي رحمه الله.
وبعد ذلك دعاني الشيخ عبد اللطيف إلى زيارة الشيخ علي بن جاسم، فزرناه معا في مجلسه بأم صلال، وهو رجل كبير السن، كبير القدر، وقد وجدناه يقرأ بعض كتب الفقه المالكي، فقد كان مالكي المذهب، على خلاف عموم آل ثاني، فهم حنابلة. وقد أنس الرجل بي، وطلب إليّ ألا أقطع زيارته، وكنت أزوره مع الشيخ عبد اللطيف بين فترة وأخرى، حتى توفي رحمه الله.
وكان الشيخ عبد اللطيف نعم العون لي في توجيه الشباب بالمعهد، وخصوصا في الرحلات التي نقضيها مع الشباب يوم الجمعة، أو يوم الجمعة وليلتها.
ونال المعهد سمعة طيبة بين الناس، فأثنى عليه الشيخ ابن مانع، والشيخ عبد الله بن زيد، والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ، ومنهم الشيخ داود حمدان الذي قال: إن المعهد أصبح بفضل الله ثم بفضل فلان معهدا للعلم والدعوة معا.
الشيخ داود حمدان
وبمناسبة ذكر الشيخ داود حمدان، فقد كان من الشخصيات العلمية الدعوية التي تعرفت عليها في قطر.
وكان الشيخ داود من علماء فلسطين الذين لهم اطلاع جيد على العلوم الشرعية، ولهم قلم جيد في كتابة بعض الأبحاث العلمية والفقهية، وله بحث جيد في التأمين، رجح فيه الجواز، مستندا إلى ما ذكره الحنابلة من ضمان حارس السوق. كما له جملة أبحاث أخرى.
وكان الشيخ داود من أعضاء حزب التحرير النشيطين، بل من مؤسسيه، ولكنه انفصل عنه، وتركه، وقد بدأ بزيارتي وعرفني بنفسه، وزرته بعد ذلك، وتوثقت صلتي به، حتى مات رحمه الله، ولقد قرأ كتابي "الحلال والحرام" وأعجب به، وكتب لي بعض الملاحظات عليه تناقشنا فيها، وقال: إنه كتاب يحمل روح اجتهاد حقة.
وكثيرا ما زارني في بيتي مع صديقه الشيخ عبد الله عبتناوي المدرس المرموق، وكثيرا ما زرته في بيته رحم الله الجميع
بعد أن وافقت الجهات الأمنية في مصر على سفري معارًا إلى قطر، انزاحت العقبة الكأداء التي كانت تقف في طريقي دائما. فقد وقفت في طريق تعييني في معاهد الأزهر من قبل، كما وقفت في سبيل تعييني خطيبا بالأوقاف، ووقفت في سبيل سفري إلى قطر. والحمد لله على كل حال.
بقي عليّ أن أعد العدة للسفر إلى قطر، فالسفر إلى قطر ليس سفرًا لعدة أيام أو أشهر، كما كانت سفرتي السابقة إلى بلاد الشام، ولكنه سفر إعارة لمدة أربع سنوات، قد تمد فتصبح خمس سنوات أو ستا. فهو "سفر اغتراب" يلزم المسافر أن يتهيأ له بما يناسبه.
ثم إنه سفر لي ولعائلتي معي، وكانت عائلتي تتكون من زوجتي وابنتي الصغيرتين: إلهام، وهي لم تكمل السنتين، وسهام وهي تقترب من إكمال السنة. فكان عليّ أن أعد جواز السفر، ولم يعد هناك عقبة في استخراجه.
وكان عليّ أن أهيئ الزي المناسب، وهو الزي الأزهري الذي ألفته وألفني مدة طويلة، ثم قهرتني الظروف الاجتماعية والاقتصادية على أن أخلعه، حين عينت بمدارس الشرق الأوسط الخاصة بالزمالك. والآن لم يعد هناك مانع من العودة إليه، بل هناك مقتض لذلك. فهو الملائم لعلماء الأزهر المبعوثين، فعدت إليه مختارًا، وقد قالوا في الأمثال: من فات قديمه تاه. وهذا يقال في الماديات والأدبيات على السواء.
ولكن كان عليّ أن أبحث عمن يخيط "الجبب" أو "الكواكيل" التي أريدها، و"الكاكولا" هي الجبة ذات الطوق، ولا أدري لماذا سميت "كاكولة" ومن أي لغة أخذت، ويقال: إن أول من لبسها وقلده الناس فيها هو الإمام الأكبر الشيخ المراغي، شيخ الأزهر في زمنه.
لقد قل الخياطون أو "الترزية" المتخصصون في تفصيل الكاكولة، بعد أن قل من يلبسها من الأزهريين، بعد أن غلب على أكثرهم ارتداء الزي الإفرنجي.
كما قَلَّ الذين يصنعون "طربوش العمامة" بعد أن أضحى عامة الناس لا يلبسون الطرابيش على رؤوسهم، وأضحى أكثر الأزهريين لا يلبسون العمائم، لهذا انحصرت صناعة الطرابيش في محلين معروفين في شارع الغورية بحيِّ الأزهر، وهما اللذان أتعامل معهما أو مع أحدهما "محمد أحمد" من سنين طويلة إلى اليوم.
وقد كانت مادة الطرابيش من قبل تستورد من مصانع في النمسا، وكان بعضها في غاية الجودة والرقي، فلما منع الطربوش في تركيا من قبل، وألغي عمليا ـ من بعد ـ في البلاد العربية: أغلقت هذه المصانع أبوابها، وبدأت صناعة محلية، ولكنها للأسف لا تزال رديئة، ولم ترتق إلى المستوى المطلوب أو تقاربه إلى اليوم، ومرد ذلك إلى قلة الإنتاج غالبا.
وأنا أعتمد في الطرابيش على ما يبعثه إليَّ الأصدقاء من المغرب، فصناعة الطرابيش فيها أرقى منها في مصر؛ لأن الطربوش يعتبر من الزي الرسمي للملك والأمراء والوزراء والسفراء وغيرهم.
ولكن تبقى مشكلة "شال العمامة" فقد كان من قبل هناك شيلان تعرف بـ "الإستانبلي" ناعمة كأنها الحرير، ثم اختفت، ولم يوجد للأسف البديل لها.
على كل حال: عند سفري إلى قطر، كانت هذه الأشياء لا تزال متوافرة إلى حد معقول، إلا "الترزية"، ثم دلني بعض الإخوة على ترزي عريق، يخيط لشيوخ الأزهر الكبار، ودكانه في خان الخليلي، وهو "عم يوسف العدوي". وكان ترزيا متقنا، فخطت عنده كاكولتين، وفي كل صيف آتي له بالقماش ليفصل لي عدة كواكيل بعضها للشتاء، وبعضها للصيف. وكان يطلب أجرة خياطة الكاكولة "خمسة جنيهات". وظل على ذلك عدة سنوات، وكنت أقول له: يا عم يوسف، ألا تزيد في الأجرة قليلا؟ فيقول لي: رضا والحمد لله. ثم بعد مدة بدأت الحياة تغلو، والأسعار ترتفع، فظل يزيد الأجرة إلى عشرة جنيهات، فعشرين، فأربعين، فخمسين، إلى أن وصلت إلى مائة وخمسين جنيها، أي ارتفعت إلى ثلاثين ضعفا!
وكان عم يوسف حريصا على أن يقول لي: خياط الكاكولة: ترزي أفرنجي، أما خياط الجبة العادية فهو ترزي عربي.
قال لي الإخوة الذين سبقوني: لا تأخذ كتبا معك، فهناك الكتب الشرعية والعربية موفورة وميسرة في مكتبة حاكم قطر السابق الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني.
كل ما عنيت بأخذه من الكتب: نسخ من الكتابين اللذين صدرا لي، وهما: "الحلال والحرام في الإسلام"، و"العبادة في الإسلام" لأهدي منها إلى العلماء والمشايخ في قطر.
وقبل السفر بأيام ذهبت إلى القرية، لأزور الأقارب فيها وأودعهم قبل هذا السفر، الذي قد يطول، ولأكسب دعاءهم لي، ولأكسب فضل صلة الرحم وما لها من بركة في بسط الرزق، وإنساء الأثر، كما صح في الحديث.
استدعاء المباحث العامة
ومن المفاجآت التي أزعجتني قبل السفر: استدعاء المباحث العامة لي في وزارة الداخلية في "لاظوغلي" بالقاهرة، وكان الذي استدعاني هو الرائد أحمد راسخ "اللواء منذ سنوات" المسؤول عن إخوان القاهرة خاصة، بالمباحث العامة، وقد استقبلني بلطف ونعومة. وقال لي: أريد أن تتعاون معنا من أجل مصلحة البلد. قلت له: كلنا جنود من أجل مصلحة الوطن، ولكنني معار لعمل محدد هناك. وأنتم حذرتمونا أن نشتغل بالسياسة، فما لكم تريدون أن تعيدونا إليها؟
قال: لا نريدك أن تشتغل بالسياسة، ولكن إذا رأيت شيئا مهمًا، نرجو أن تبلغنا به. وهذا لا يكلفك إلا رسالة بريدية، وهذا عنواني.
وانصرفت من عنده مستغربًا من فكرة رجال الأمن الذين عمُوا عن معرفة معادن الناس، واعتقادهم أن كل إنسان صالح لأن يعمل لحسابهم، وأن يكون عينا لهم، أو أذنا لهم، وأنهم ـ بالتهديد المبطن ـ يستطيعون أن يجندوا حتى العلماء والدعاة، وهم في ذلك جد مخطئين. وسنعود إلى أحمد راسخ مرة بعد مرة في حينها.
إطلاق اللحية
وجاء موعد السفر، ولبست جبتي وعمامتي، وكنت قد أعفيت لحيتي منذ أسابيع، إحياء للسنة، ورجوعا إلى ما كنت قد بدأت به من قبلُ قبل دخولي إلى السجن الحربي.. وكان إعفاء اللحية عند سفري أمرًا منطقيا وطبيعيا، فقد تغيرت الظروف التي أجبرتني على حلقها. وأنا ذاهب إلى مجتمع أغلب رجاله ملتحون، ولا يستغربون إطلاق اللحية، بل لعلهم يستغربون من عالم الدين أن يكون حليقا.
الطيارة الكوميت
كان سفرنا بطبيعة الحال بالطائرة، وكنت قد ركبت الطائرة في رحلة قصيرة من قبل، من عمان إلى القاهرة، ولكن كانت الطائرة صغيرة بمحركات. واليوم نركب طائرة نفاثة من نوع "كومت"، وهي أول مرة تذهب من القاهرة إلى الدوحة، فقد كان المعارون قبلنا يستخدمون الطائرات ذات المحركات، وكانت الرحلة تستغرق ست ساعات، وربما أكثر، واليوم تستغرق هذه الرحلة نحو ثلاث ساعات، أي نصف زمن الطائرات السابقة.
وقرأنا أدعية السفر والركوب المأثورة، وحفظتها لزوجتي لتقرأها معي: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون"، اللهم هون علينا سفرنا، واطو عنا بعده. اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى.
لقد كنت أدعو بهذا الدعاء حين أركب القطار أو السيارة، فأولى أن أدعو به، ونحن معلقون في الفضاء. وقد قال طيار أمريكي: إن الإنسان أقرب ما يكون من الله، وهو في الجو، حيث لو حدث أي كرب، فلا منجاة من الله إلا إليه.
الوصول إلى الدوحة وحر الخليج:
ووصلنا الدوحة حوالي الساعة التاسعة مساء، وعندما فتح باب الطائرة لننزل منها: فوجئنا لأول مرة بهذا اللهيب الذي يستقبلنا، وهذا الجو الخانق المشبع بالرطوبة والبخار الذي لم يكن لنا عهد به، وإذا كان هذا هو الحال في الساعة التاسعة مساء، فماذا يكون الحال في الهاجرة والشمس في كبد السماء؟
قال الإخوة الذين استقبلونا: هذا هو جو الخليج، ولا بد أن توطنوا أنفسكم على احتماله، والتعايش معه. فليس هو جو مصر، ولا جو الشام. والشاعر يقول:
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
د. العسال
كان في استقبالنا بعض الإخوة الأصدقاء، منهم الشيخ محمد مصطفى الأعظمي العالم الهندي الذي يعمل أمينا لمكتبة الدوحة. والأخ الشيخ عبد اللطيف زايد الذي يعمل في وزارة المعارف منذ سنتين. والأخ أحمد العسال الذي كان قد سبقنا إلى الدوحة، وصحبنا في سيارة الأعظمي ـ وهي سيارة قديمة سقفها من القماش ـ إلى مسكنه لنبيت عنده في شقته.
صوت المكيف
وأعطينا حجرة لننام فيها أنا وزوجتي وابنتاي، ولأول مرة أرى "المكيف" الذي يبرد الهواء، وأسمع صوته، وعندما أردنا النوم قلت لهم: هل ننام وهذا المكيف يزعجنا بصوته؟ إنني لا يمكنني أن أنام وأنا أسمع أي صوت؟
قالوا: جرّب وأغلقه. وجربت وأغلقنا المكيف، فلم تمر دقائق حتى بدأ الجو يسخن، ثم يسخن، وقلت: مستحيل أن أنام في هذا العرق!
كان لا بد إذن من تشغيل المكيف، فهو ضرورة من ضرورات الحياة في تلك البلاد، أو على الأقل حاجة من حاجاتها الأساسية.
وقد اعتادت آذاننا بعد ذلك على صوته، وربما أصبح مساعدًا على النوم، فهو يحجب عنا أصوات الشارع الآتية من الخارج، ثم تطورت صناعته وظهرت أنواع من المكيفات لا يكاد يسمع لها صوت.
كان وصولي إلى الدوحة في غرة ربيع الآخر سنة 1381هـ الموافق "12-9-1961" الثاني عشر من شهر سبتمبر "أيلول" سنة واحد وستين وتسعمائة وألف.
التعرف على قطر ورجالاتها
ولم أكن عرفت من أهل قطر غير رجلين: أحدهما الشيخ عبد الله بن تركي مفتش العلوم الشرعية، والذي لقيته في القاهرة أكثر من مرة، والذي طلبني من قديم من وزارة الأوقاف، ثم طلبني وألح في طلبي من الأزهر. وكان من مآثر الشيخ ابن تركي أنه هو الذي سعى بجد وحرص لجلب علماء الأزهر من مصر لتدريس العلوم الشرعية، وكان يعتز بذلك ويفتخر به.
الشيخ سحيم بن حمد
الشيخ سحيم بن حمد
والرجل الثاني الذي عرفته من أهل قطر: هو الشيخ سحيم بن حمد آل ثاني الذي كان يزور مصر في الصيف، وكان معه معلمه الخاص الشيخ علي شحاتة، وهو الذي أخبرني بوجود الشيخ، واستحسن مني أن أزوره، فهو من الشخصيات المهمة في قطر، فهو ابن عم الحاكم، وأخو ولي العهد ونائب الحاكم. وقلت للأخ الشيخ علي: إني أرحب بهذه الزيارة، فالرجل ضيف على مصر، ومن حقه علينا أن نكرم وفادته، ولا أقل من الزيارة. وزرته في فندق شبرد ـ على ما أذكر ـ وأهديت إليه كتابيّ "الحلال والحرام" و"العبادة في الإسلام".
البحث عن مسكن ملائم من مساكن الحكومة
بدأنا منذ الصباح نبحث عن سكن مناسب لي أنا والعسال، بحيث نكون متجاورين، وكانت وزارة المعارف تسلم المدرسين سكنا مؤثثا، تشرف عليه إدارة الإسكان الحكومي. وبعد أن رأينا عدة شقق اخترنا شقتين متجاورتين في بيت من أربع شقق مكون من طابقين، أخذت أنا والعسال الشقتين العلويتين، وكان البيت ملك الشيخ ابن تركي. وقد قضينا في هذا البيت خمس سنوات، ثم جاء عليه الأمر بالإزالة حين أنشئ "جسر رأس أبي عبود" المعروف في الدوحة.
وكان علينا أن نجهز البيت بما يلزم من وسائل العيش: من السكر والأرز والسمن والزيت والملح والبصل وخلافه. ولم يكن لدينا سيارة، كما لا نعرف البلد، فكان الإخوة القدامى ـ جزاهم الله خيرا ـ يساعدوننا في إحضار هذه الأشياء.
الشيخ عبد المعز عبد الستار
القرضاوي وعبد المعز عبد الستار
وكان من المعارين من الأزهر إلى قطر: فضيلة أستاذنا الشيخ عبد المعز عبد الستار، أحد وعاظ الأزهر المشهورين، وأحد دعاة الإخوان المرموقين، والذي طالما هز أعواد المنابر بصوته الجهوري الذي يشق أجواء الفضاء، ويكاد يبلغ عنان السماء. وقد جئنا في سنة واحدة إلى قطر.
كان الشيخ عبد المعز قد اختير ليساعد الشيخ ابن تركي في تفتيش العلوم الشرعية، كما اخترت لأكون مديرا للمعهد الديني الثانوي.
وقد قابلني الأخ الصديق محمد عبد الله مرسي الذي كان يعمل مديرا لمدرسة الدوحة الإعدادية الثانوية، في القاهرة، وقال لي: إن تأخيرك السنة الماضية عن الإعارة إلى قطر، كان فضلا من الله عليك من حيث لا تشعر، لأنك جئت الآن مديرا للمعهد، وتستطيع أن تنهض بالمعهد كما تشاء، بخلاف ما لو جئت في العام الماضي، فقد كان للمعهد مدير، وربما عينت وكيلا، وسيختلف نهجك عن نهجه.
قلت: ما اختاره الله لنا خير من اختيارنا لأنفسنا. والقرآن الكريم يقول: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} "النساء:19".
وكان من الإخوة الأزهريين الذين جاءوا معنا هذا العام الأخ الشيخ عبد الرحمن الجبالي، وهو من أسرة الجبالي الصعيدية المعروفة، والتي تتصل بالنسب والقرابة مع أسرة الشيخ الإمام المراغي رحمه الله.
وقد كنت تعرفت عليه من قبل عندما كنت في المكتب الفني للوعظ والإرشاد، وكان شخصية طيبة ذات مودة وعلاقات اجتماعية حسنة مع كل من يعرفه.
كيف تسلمت عملي بالمعهد الديني؟
القرضاوي في بعثته بالمعهد الديني بقطر
وقد كان اتفاق الشيخ ابن تركي معي منذ التقينا في مصر، على أن أتسلم إدارة المعهد الديني الثانوي في قطر، خلفا عن مديره السابق فضيلة الشيخ الدكتور عبد الغني الراجحي الذي تسلم إدارته لسنة واحدة، هي كل عمر المعهد الناشئ، وكان وكيله الشيخ محمد محفوظ، وكان بين المدير والوكيل خلاف وصراع طويل. وقبل عودتي نقل الشيخ محفوظ من المعهد. وكان من فضل الله تعالى عليّ، حتى لا أبدأ حياتي بصراع لا ضرورة له، وأنا أحب أن أبدأ وأعمل في سلام وهدوء وسكينة تعين على العطاء والإنتاج.
وقد عينت براتب قدره 1475 روبية "أول راتب السنيار"، ورغم أني مدير لم يكن لي راتب المدير، ولا بدل الإدارة، مثل مدير مدرسة الصناعة مثلا. ولكني رضيت بهذا، فقد كان خيرا وفضلا من الله ونعمة.
الشيخ عبد الله الأنصاري
الشيخ عبد الله الأنصاري
في أول يوم من أيام دوامي بالمعهد الديني "4/4/1381هـ ـ15/9/1961م" وكان مبنى صغيرا قديما أزيل وبني مكانه رئاسة المحاكم الشرعية القديمة التي احتل مكانها الآن صندوق الزكاة.. كان أول من زارني رجل مهيب الطلعة، بشوش الوجه، باسم الثغر، دخل عليّ مكتبي وصافحني بحرارة، وقال: أنا أخوك عبد الله بن إبراهيم الأنصاري من طلبة العلم، ومدير مدرسة صلاح الدين بالدوحة. ولقد سمعنا بك قبل أن نراك، فأهلا ومرحبا بك في الدوحة بين أهلك وإخوانك. بيوتنا كلها مفتوحة لك، وأيدينا ممدودة إليك، ولا تتأخر في طلب أي مساعدة تحتاجها، فنحن إخوانك وأولى الناس بك.
أسرتني هذه الكلمات من رجل لم يلقني من قبل، وإنما سمع عني بعض ما حببني إليه، فشكرت له حسن صنعه، وجميل سعيه وزيارته، ورجوت أن أكون عند حسن ظنه، وألا أكون كما قال المثل العربي: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.
قال: بل صدق الخُبر الخبر، وصدقت العين الأذن، والأذن تعشق قبل العين أحيانا، كما قال الشاعر. وانصرف الشيخ بعد أن دعاني إلى زيارته في مجلسه. ووعدته بذلك شاكرا له.
وعرفت بعد ذلك أن الشيخ الأنصاري من علماء الدين المعدودين في قطر، وأنه أحد العبادلة الثلاثة من أهل العلم: أولهم عبد الله بن زيد المحمود قاضي المحكمة الشرعية. وثانيهم: عبد الله بن تركي، وقد حدثتك عنه، وثالثهم: عبد الله الأنصاري. وسيأتي في مناسبات شتى الحديث عن هؤلاء العلماء الذين كان لكل منهم وزن وشأن.
وكان هذا التعبير: عبد الله الأنصاري من "طلبة العلم" جديدا عليّ، وهو تعبير شائع بين أهل الخليج، توارثوه خلفا عن سلف، يقولون عن العالم منهم، ويقول العالم عن نفسه: من طلبة العلم.
وإنه لتعبير موفق، فالإنسان ـ وإن بلغ من العلم ما بلغ وعلا كعبه ما علا ـ يظل طالبا للعلم، وفي مأثوراتنا: اطلب العلم من المهد إلى اللحد. لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل.
وما أجمل أن يعرف المرء بنفسه، فيقول: أخوكم من طلبة العلم!
الشيخ علي بن سعود
علي بن سعود آل ثان
وكان الزائر الثاني في نفس اليوم هو الشيخ علي بن سعود بن ثاني آل ثاني الذي كان وصله كتابي "الحلال والحرام في الإسلام" وكان يقرأ الكتاب، وهو معجب به، وبمؤلفه، وأهم من ذلك: أنه كان يقرؤه ليطبق ما فيه. فلما قرأ فيه أن الساعة والقداحة (الولاعة) والقلم: إذا كان من الذهب فهو حرام على الرجال. وكان يستخدم هذه الأشياء الذهبية فتخلى عنها، وقال: والله لا حاجة لي إلى الحرام.
وكان الشيخ علي رحمه الله على صلة طيبة بأحد الأزهريين القدماء في قطر، وهو الأخ الشيخ يوسف عبد المقصود، فحدثه عما قرأه في كتاب "الحلال والحرام" وأنه معجب بهذا الكتاب، فقال الأخ يوسف: هل تعلم أن مؤلفه في الدوحة؟ قال: لا أعلم. ومتى قدم إلى الدوحة؟ قال: إنه قدم منذ يومين فقط، مديرا للمعهد الديني، وسيكون في مكتبه غدا. قال: إذن سأسعى لزيارته، وجاء الشيخ علي، وسعدت بزيارته، وعرفت أن له قراءات في التراث الإسلامي، وفي التراث الأدبي، وأنه يقول الشعر، وعرف مني أيضا أني أقول الشعر، وانعقدت بيننا مودة ظلت موصولة الحبال، حتى لقي ربه رحمة الله عليه.
ومما أذكره للشيخ علي بن سعود: أنه بعد حوالي سنتين وربما أكثر في قطر، فاجأني بهدية، كانت عبارة عن تليفزيون صغير "14 بوصة أبيض وأسود" قائلا لي: ليتسلى به الأولاد. ولم يكن يخطر ببالي في ذلك الوقت أن أقتني جهازا للتليفزيون، ولم يكن هناك محطات تليفزيونية لأي بلد عربي تظهر فيه، فلم تكن معظم البلاد العربية أنشأت محطات أو قنوات. وإنما كانت تظهر فيه قناة "أرامكو".
وظل هذا التليفزيون عندنا عدة سنوات، حتى فوجئنا بهدية أخرى من الشيخ علي نفسه، هي تليفزيون في حجم الأول، ولكنه ملوّن.
وكانت هذه مجاملة طيبة منه، وقد جاءت في وقتها، وربما يسأل الكثيرون: هل يجوز للمسلم ـ ناهيك بالعالم الداعية ـ أن يقتني جهازا تليفزيونيا؛ برغم ما قد يكون فيه من مفاسد؟
والجواب: إن التليفزيون إنما هو وسيلة، يمكن أن تستخدم في الخير، كما تستخدم في الشر، والوسائل إنما يحكم لها بحكم مقاصدها، مثل السيف أو البندقية: فهي في يد المجاهد أداة خير، ووسيلة للدفاع عن الحق، وهي في يد قاطع الطريق أداة شر وإفساد في الأرض، فلا نقول: البندقية حلال ولا حرام، إنما حكمها بحسب ما تستعمل فيه.
والتليفزيون كذلك مثل غيره من الصحافة والإذاعة والمطبعة، يستطيع المسلم أن يستفيد من خيرها، ويحذر من شرها. وهنا دور التربية والتوجيه.
وقد عمت البلوى بهذه الأدوات، فلم يعد من الممكن منعها إلا بضغط وإكراه، وفي هذه الحالة تكون مرغوبة، كما يقول الشاعر: أحب شيء إلى الإنسان ما منعا.
مشكلات المعهد الجديد
وأود أن أعطي فكرة عن المعهد الذي تسلمت إدارته: لقد أنشئ هذا المعهد سنة 1960م، أي قبل أن آتي بسنة واحدة، وأنشئ من صفين أو فرقتين: الصف الأول، والصف الثاني، وكان هؤلاء الطلاب في الصفين، هم أصلا من تلاميذ معهد ديني ابتدائي أنشئ قديما، وكان مديره الشيخ عبد الله الأنصاري، ثم رئي إغلاقه، وحول طلابه إلى مدرسة صلاح الدين.
فلما أريد إنشاء معهد ثانوي ـ بدل المعهد الابتدائي القديم ـ جيء بالطلاب القدامى ليكونوا نواة المعهد الجديد. فنشأ منهم المعهد بصفيه الأول والثاني حسب مستواهم الدراسي الذي كانوا عليه.
وكانت فكرة المعهد قائمة على أساس أنه "معهد ثانوي" على غرار معاهد الأزهر الثانوية القديمة، على النظام الذي درسناه نحن في أيامنا. ومدة الدراسة فيه خمس سنوات.
ويدرس الطلبة في هذا المعهد ما كان يدرسه طلاب المعاهد الثانوية قديما في الأزهر قبل قانون تطوير الأزهر ومعاهده.
ولهذا وجدت الطلبة يدرسون في الصف الأول الثانوي: شرح ابن عقيل على الألفية، في النحو والصرف، ويدرسون كتابا في البلاغة، على نحو ما كنا ندرسه في السنة الأولى الثانوية من كتاب "زهر الربيع في المعاني والبيان والبديع".
كما يدرسون علم المنطق، وهو كتاب "شرح السلّم" المعروف لطلبة الأزهر. ويدرسون الفقه في كتاب على مستوى الثانوي أيضا من كتب الفقه الحنبلي، وهو كتاب "الروض المربع شرح زاد المستنقع".
ويدرسون في التفسير كتاب تفسير النسفي، وفي الحديث صفوة صحيح البخاري، ولا يدرسون من العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية واللغة الإنجليزية إلا القليل.
وكان هذا التصور للمعهد في قطر خطأ جذريا، لأنه بني على أساس غير سليم، من الناحية العلمية والموضوعية والواقعية.
أولا: لأن المعهد الثانوي في الأزهر مؤسس على مرحلة ابتدائية سابقة مدتها أربع سنوات، درس الطالب فيها النحو أربع مرات: في شرح الأجرومية، وشرح الأزهرية، وشرح قطر الندى، وشرح شذور الذهب، ثم درس الصرف في كتاب "شذا العَرف في فن الصرف".
ثم درس فقه العبادات في السنة الأولى، ودرس الفقه كله في السنوات الثلاث، وتأسس الطالب في العلوم الشرعية والعربية تأسيسا قويا مكينا.
أما طالب معهد قطر، فقد جاء من المدارس الابتدائية التي لم تؤهله هذا التأهيل المطلوب. لهذا كانت المقررات التي تدرس للطالب في معهد قطر غير مناسبة تماما، وفوق مستوى الطلاب بمراحل.
وثانيا: لأن الأزهر غيَّر من مناهجه، وأدخل اللغة الأجنبية ابتداء من أول سنة، كما زاد من كم العلوم الطبيعية والرياضية التي كانت تسمى "العلوم الحديثة". وسمى الأزهر المرحلة الابتدائية: "المرحلة الإعدادية" أما الثانوية فبقيت على الاسم القديم.
طلاب يطلبون سحب أوراقهم
وقد فوجئت بمشكلتين واجهتاني في المعهد من أول يوم:
المشكلة الأولى: أن ثلاثة طلاب من الصف الثاني في المعهد جاءوا، وفي يد كل منهم طلب بسحب أوراقه من المعهد. أذكر منهم الطالب: عتيق ناصر البدر "سفير بوزارة الخارجية الآن" والطالب: موسى زينل موسى "مدير إدارة الثقافة والفنون الآن" وثالث نسيت اسمه.
قلت لهم مازحا: أتستقبلون الضيف بالإكرام أم بالإهانة؟
قالوا: بل بالإكرام والترحيب.
قلت: جئت ضيفا على بلدكم، ومن أول يوم، تقولون لي: لا نريد أن نرى وجهك!
قالوا: معاذ الله يا أستاذ.
قلت: هذا هو معنى طلبكم: أنكم تريدون أن تغادروا المعهد، حتى لا تعاشروني ولا تروا وجهي.
قالوا: لا يا فضيلة الأستاذ، ولكن الدراسة في المعهد لا تناسبنا.
قلت لهم: ما الذي لا يناسبكم؟
قالوا: لا ندرس إلا ثلاث حصص في اللغة الإنجليزية، ولا ندرس من العلوم ما يكفي، وندرس في العلوم الشرعية والعربية كتبا في غاية الصعوبة.
قلت لهم: أنا معكم في هذا كله، وأعدكم أن هذا كله سيتغير، واصبروا عليّ عدة أسابيع وسترون أن ما أقوله صحيحا.
وقد اقتنع هؤلاء الطلاب الثلاثة، وكانوا سببا في إقناع عدد آخر من زملائهم كانوا ينوون سحب أوراقهم.
لم يتقدم طالب للصف الأول بالمعهد:
والمشكلة الثانية أشد وأنكى من الأولى: فالأولى كانت انسحاب القديم، والثانية: ألا جديد. ذلك أني لم أجد طالبا واحدا تقدم للالتحاق بالصف الأول بالمعهد. كل ما هنالك أن طالبا لم يدخل الامتحان في العام الماضي فأعاد السنة، فهذا هو الاسم الوحيد الموجود على قائمة الصف الأول.
ومر يوم واثنان وثلاثة، وبقية الأسبوع، فلم يتقدم إلينا أحد، ومعنى هذا: أن المعهد يصفي نفسه من أول يوم. إذا لا معنى لمعهد لا يأتيه طلاب جدد، والطلاب القدامى كأنما فُرضوا عليه، أو فُرض عليهم فرضا.
وبدأت أتهيأ لمواجهة هذه المشكلة العاجلة. فكتبت نشرة توزع على نطاق واسع في المساجد، تبين أهمية الدراسة الدينية والتفقه في الدين، وأنه واجب على كل مجتمع أن يهيئ من أبنائه فئة تتفقه في الدين، حتى إذا سئلوا أفتوا بعلم، وإذا قضوا قضوا بحق، وإذا دعوا إلى الله دعوا على بصيرة، {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} "التوبة:122".
وفي يوم الجمعة، تحدثت بعد خطبة الشيخ ابن تركي في الجامع الكبير المعروف باسم "جامع الشيوخ" حديثا عن طلب العلم، وأهمية علم الدين... إلخ.. فبدأ يجيئنا طالب بعد آخر، حتى اكتمل الصف الأول ثمانية طلاب. وقلنا: فيهم بركة، وربنا يبعث المزيد. أما تطور المعهد، فسنتحدث عنه بعد قليل.
التعرف على الشيخ ابن مانع
كان درسي بعد صلاة الجمعة جاذبا لانتباه من سمعوه من أهل العلم، وعلى رأسهم العلامة الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع، كبير علماء قطر، ومدير المعارف سابقا بالمملكة العربية السعودية، وكان بيته ومجلسه بجوار الجامع الكبير، وبعد كل صلاة جمعة، يجلس مع صحبه في مجلسه، فدعاني إلى مجلسه، وسلم علي ورحب بي، وأثنى على حديثي، وعرفني بأنه زار مصر، وأنه لقي الشيخ محمد عبده، وأنه أول من جلب علماء الأزهر إلى المملكة، وكان يذكر هذا على سبيل الفخر والاعتزاز.
والشيخ ابن مانع من العلماء الذين لهم ولع بالتراث وبالكتب، وله رسائل وتحقيقات بعضها نشر، وبعضها لم ينشر.
وكان عالما حنبليا معتزا بحنبليته، وكان يتمسك بالمذهب الحنبلي ويردد بيت الشاعر الذي يقول:
أنا حنبلي ما حييت، فإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا!
ومع هذا لم يكن متعصبا، بل كان رجلا سمحا، لطيف المعشر، لين الجانب، حسن الأخلاق، فكه الحديث، وكان يقول: اجتمع عندنا في الرياض من مشايخ الأزهر ما يكون حديقة حيوان، فكان عندنا من العلماء والمشايخ: النمر والضبع والديب والسبع والسراحين! يعني آل سرحان، وكانوا ثلاثة.
وقد تعرفت في مجلس الشيخ ابن مانع على ابنه القارئ المثقف المهذب، الشيخ عبد العزيز، وقد توثقت الصلة بيني وبينه، حتى وافته المنية مبكرا رحمه الله.
وكان من جلساء ابن مانع باستمرار: الشيخ قاسم درويش فخرو الذي كان مجلسه أيضا ـ وما زال ـ بجوار الجامع الكبير، وكان يعد من طلبة العلم أو من "المطاوعة" كما يسمونهم في الخليج. وكان قد ولي على المعارف في عهد الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، قبل أن يتولاها الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني ابن عم الحاكم، وشقيق نائبه وولي عهده الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني.
زيارة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود
وكان من أوائل الزيارات التي قمت بها: زيارة العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، قاضي المحكمة الشرعية، وصحبني في هذه الزيارة أخونا الشيخ علي شحاته، وكان هو والأستاذ كمال ناجي من القدماء في قطر، ممن قدموا من السودان إلى قطر، وكان قد أخذ مني كتابي "الحلال والحرام" وكتابي "العبادة في الإسلام" هدية مني إلى الشيخ، وتفضل بإيصالهما إليه.
فلما دخلنا على الشيخ وجدناه يقرأ في كتاب "العبادة في الإسلام" وقد وقف على فقرة في الكتاب وقال لجلسائه: الشيخ في هذه المسألة محقق، قد رد المسألة إلى جذورها، واستدل عليها بالقرآن والسنة. وقد نسيت أي مسألة هي.
وكانت جلسة علمية رفيعة المستوى، تبادلنا فيها الأحاديث، وانتهت بأن أهداني فضيلته رسالته القيمة التي كان قد أصدرها منذ عدة أعوام حول فقه الحج، وسماها "يسر الإسلام" وأجاز فيها "رمي الجمار قبل الزوال"، وأقام على رأيه أدلة قوية، وأنه لا يوجد دليل ينهى عن الرمي قبل الزوال، وأن الرمي أمر يتم بعد التحلل النهائي من الحج، وأن الإنابة فيه تجوز، وأنه ـ عند الحنابلة ـ لو أخر الرمي كله إلى اليوم الأخير لأجزأه.. وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر يوم النحر، إلا قال: افعل ولا حرج.
وأن رفع الحرج مطلوب الآن أشد من أي وقت مضى؛ فالناس يموتون تحت الأقدام.
وأن طاووسا وعطاء من كبار فقهاء التابعين أجازا الرمي قبل الزوال، وأن بعض المتأخرين من الشافعية وغيرهم أجازوه.
الحقيقة أن منطق الشيخ كان قويا، وقد سبق زمنه بهذه الرسالة الشجاعة، فأصبح الكثيرون الآن يفتون به، وقد تبنيت رأيه منذ قرأت رسالته، ورده على علماء الرياض الذي شددوا غاية التشديد في القضية، وردوا عليه، وأرادوا أن يلزموه بالرجوع عن رأيه، ويبدو أنه وافقهم عندما كان هناك تحت الضغط، فلما عاد إلى قطر غير رأيه، ورأى أنه إنما يدين لله بما اقتنع به، وانتهى إليه اجتهاده، وأن الله لا يكلفه أن يدع اجتهاده ليعمل باجتهاد الآخرين. وهذا من محاسن الإسلام، وإن كان المشايخ في "الرياض" قالوا عنه: أخلف وعده، ونكث عهده. وليس كذلك، بل تفسيره ما ذكرت، وهو بيّن، والحمد لله.
زيارة الشيخ قاسم بن حمد
وكان لا بد لنا أن نزور الرجل الأول المسؤول عن التعليم في قطر، ووزير المعارف، وهو الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني، شقيق ولي العهد ونائب الحاكم الشيخ خليفة بن حمد، وابن عم حاكم قطر. وهو الوزير الوحيد في حكومة قطر، مع الشيخ خليفة الذي كان يعتبر وزيرا للمالية أيضا.
وكانت وزارة المعارف أهم وزارة في البلد، وأكثرها موظفين، وهم يكونون قوة اقتصادية مهمة، فهم الذين يحركون الأسواق، وهم الذين يشغلون سيارات الأجرة، وكانت تعمل بنظام "الورّة" أي الدورة، كل من لديه سيارة أجرة "تاكسي" من القطريين يأخذ دوره في المعارف في حينه بالعدل والقسطاس المستقيم، وهم الذين يشغِّلون "تناكر" المياه، فلم تكن المياه قد وصلت إلى المنازل، إلا النادر، فكانت سيارات المياه توصل إلى المنازل كل عدة أيام ما يحتاج إليه من ماء. وكان أصحاب البيوت يؤجرونها للدولة، ليسكن فيها المدرسون. المهم أن حركة الحياة في الدوحة كانت في أغلبها مرتبطة بوزارة المعارف وموظفيها.
وكان طلاب المدارس يتغدون جميعا على حساب الوزارة، وكانوا يذهبون بعد الدرس الأخير إلى "قاعة التغذية" المعدة لذلك، وكان لها إدارة أو قسم، ورئيس لهذا القسم، وكان رئيس قسم التغذية أحد إخواننا المصريين الفضلاء الذين قدموا مع القادمين الأول إلى قطر، وهو الأستاذ عبد اللطيف مكي. وكانت التغذية تقدم طعاما طيبا شهيا على الطريقة الخليجية.
وكانت هذه التغذية من المغريات للتلاميذ بالالتحاق بالمدارس، فقد كان كثير من أهل قطر من أهل البادية، الذين لا يقدرون التعليم حق قدره، فكان هذا مما يحفزهم لإلحاق أولادهم بالمدارس.
وأكثر من ذلك: أنه كانت تدفع لهم رواتب منذ أول يوم يسجلون فيه في المدرسة، فإذا كان البدوي لا يهمه التعليم، فهو يهمه الفلوس والدراهم.
وبهذا نرى أن وزارة المعارف ـ التي سميت بعد سنوات وزارة التربية والتعليم ـ كان لها دورها الفعال، وأثرها الحيوي في الحياة القطرية كلها.
وهذا ما جعل لوزير المعارف منزلة خاصة مستمدة من أهمية وزارته، ومن شخصيته التي كان لها هيبتها، وقدرتها على منع أي عبث أو تجاوز في المدارس، وخصوصا من أبناء شيوخ الأسرة الحاكمة الذين لم يكن ليلزمهم الأدب ويوقفهم عند حدهم سوى الشيخ قاسم.
زرت وزير المعارف الشيخ قاسما في منزله أو في قصره بالدوحة، وكنت مع فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار والشيخ أحمد العسال، فرحب بنا الرجل ترحيبا كبيرا، وتحدث معنا، وتحدثنا معه، ودعانا إلى أن نزوره في مزرعته في شمال قطر بمنطقة الزبارة.
فاستجبنا للدعوة، وزرناه بعد أيام في مزرعته. وكان الشيخ قاسم من أوائل الذين بادروا بإنشاء المزارع في قطر، وكان ينفق عليها حتى تنتج، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وفي الغالب لم يكن قصده تجاريا، بل هو هواية تخضير الأرض في تلك الرمال الصفراء.
وكان من هوايات الشيخ قاسم: صيد "المها" أو ما يسمونه "الوضيحي" وهو نوع من الظباء أو الغزالان ذات لون خاص، أقرب إلى البني، وهو نادر في العالم، وقد بدأ ينقرض، وبدأت الهيئات الدولية المعنيّة تهتم بحمايته، وعمل الحظائر الخاصة به، وكانت "حديقة المها" عند الشيخ قاسم معروفة عند المهتمين به على مستوى العالم.
والمها هو ذلك النوع الذي التفت إليه شعراء العرب، وشبهوا الغيد الحسان من النساء به، ولا سيما العيون، كما قال الشاعر:
عيون المها بين الرصافة والحسر سلبن النهى من حيث تدري ولا أدري!
وفي كل فترة يدعونا الشيخ قاسم لمزرعته، فيكرمنا بما عرف عند العرب من كرم الضيافة، ويذبح لنا الخراف، ونأكل "المكبوس" وهو الأرز الذي يطبخ مع الخروف.
زيارة الشيخ خليفة بن حمد
كان التلاميذ ـ كما ذكرت ـ يأخذون جميعًا رواتب من الحكومة، ترغيبا لهم في الالتحاق بالمدارس، وكان جميع التلاميذ يأخذون هذه الرواتب أو المعاشات كما يسمونها. ولكن في السنة التي وصلت فيها: اتخذت الحكومة قرارا جديدا، وهو قصر الرواتب على التلاميذ القطريين وحدهم. أما غير القطريين فلا يصرف لهم شيء.
وكان في المعهد الديني عدد من الطلاب من غير القطريين، بعضهم من الإمارات مثل الطالب أحمد عبد الله عسكر من خور فكّان، والطالب محمد عبد الرحمن البكر من رأس الخيمة، والطالب محمود هزاع من اليمن، وغيرهم.
وتحدثت مع الشيخ عبد الله بن تركي عن هذه القضية، وقلت له: يجب أن يستثنى طلاب المعهد الديني من قرار قصر الراتب على القطريين، تشجيعا للتعليم الديني، فقال لي: إن هذا الأمر بيد الشيخ خليفة، وأنا أرى أن نذهب معا لزيارته ليتعرف عليك، ولتحدثه في هذا الأمر بنفسك، وأعتقد أنه سيقتنع بمنطقك.
وفعلا ذهبت مع الشيخ ابن تركي إلى الشيخ خليفة، فحياني الرجل ورحب بي، وقال لي: سمعنا عنك قبل قدومك، وأرجو أن تجد في قطر وطنك الثاني، وشكرته على المجاملة الطيبة. وقلت له: يا طويل العمر، أريد أن أشرح لكم موقف المسلمين من العلم الديني طوال العصور الماضية، فقد وقفوا عليه الأوقاف، والصدقات الجارية، ليستمر علم الشرع موصولا متوارثا جيلا بعد جيل، فهو فرض كفاية على الأمة، إذا قام به عدد كاف يلبي الحاجة، رفع الحرج عن الأمة، وإلا أثمت الأمة كلها.
وقد جرت عادة أهل الخير من المسلمين أن يخصوا الطلبة الغرباء بعناية أكبر من غيرهم، لشدة حاجتهم في غربتهم، وتشجيعا لهم أن يتفقهوا في الدين وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
ونحن ـ طلبة الأزهر المصريين ـ في كلياتنا، لا يعطى لنا شيء، على حين يعطى طالب البعوث الإسلامية قدرا من المعونة يساعده على معيشته، وبعضهم يأخذها رغم أنه يسكن في مدينة البعوث الإسلامية التي خصصها لهم الأزهر. وهذا امتداد لنظام "الأروقة" الذي كان متبعا في الأزهر من قديم، فهناك في مباني الأزهر نفسه: رواق للمغاربة، ورواق للأكراد، ورواق للشوام، وهكذا.
وأنا لا أطالب سموكم بإعطاء الطلبة الغرباء، وحرمان القطريين.. بل أريد التسوية بين الجميع في ذلك، وتكون هذه ميزة لطلبة المعهد الديني.
وتفهم الرجل قصدي، واستجاب له في الحال. بل ظلت هذه الميزة لطلاب المعهد مستمرة، حتى بعد أن ألغيت الرواتب من الطلاب القطريين أنفسهم بعد ذلك.
زيارة الشيخ الأنصاري في مجلسه:
وقد ذكرت أن أول من زارني في مكتبي كان الشيخ عبد الله الأنصاري، فكان الواجب أن نرد إليه الزيارة في مجلسه، والله تعالى يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} "النساء:86".
وذهبت إلى فضيلة الشيخ في مجلسه القديم، وكان مجلسا ومكتبة في الوقت ذاته، فقد كانت المكتبات جزءًا من البناء، أو من جدران المجلس، مكسوّة بالخشب والزجاج، ومصنفة على العلوم، فبعضها للتفسير، وبعضها للحديث، وبعضها للعقيدة، وآخر للفقه، وآخر للنحو والصرف واللغة، وغيره للأدب والتاريخ.
ووجدنا الشيخ يقرأ في أحد كتب الحديث على ما أذكر، فعلقت على الموضوع تعليقا ضافيا بما فتح الله عليّ في ذلك الوقت، وتلقاه الشيخ ومن حوله بالرضا والقبول.
وأصبحت أتردد على مجلس الشيخ بين الحين والحين، أحيانا وحدي، وأحيانا مع فضيلة الشيخ عبد المعز، أو الشيخ أحمد العسال.
وبعد قليل بني بجوار الشيخ مسجد الشيخ غانم بن علي آل ثاني، وهو مسجد جمعة، كان يخطب فيه الشيخ رحمه الله، ويقيم فيه الندوات الدينية ويدعونا للمشاركة فيها، ويحيي بعض الذكريات الإسلامية، مثل ذكرى الهجرة النبوية، أو ذكرى المولد النبوي. وفي إحدى السنوات، قامت مناقشة علمية حامية بين الشيخين ابن محمود الذي اعترض على الأنصاري في الاحتفال بالمولد، والأنصاري الذي دافع عن الاحتفال بالمولد بالدروس والمحاضرات. وكتب الأنصاري رسالة علمية رصينة شرح فيها وجهة نظره، موثقة بالأدلة الشرعية، وهو ما دل على أصالته وتمكنه.
ثم أنشأ الشيخ الأنصاري ندوة قرآنية مساء كل خميس للتدريب على حسن تلاوة القرآن، وتعليم أحكام التجويد، وتنتهي بدرس قرآني، وقد استفاد منها الكثيرون فأحسنوا تلاوتهم، وكثيرا ما شاركت فيها، بالتلاوة وإلقاء درس في ختام الندوة.
عودة إلى تطوير المعهد
وفي هذه الفترة بدأت أعد العدة لتصحيح النظرة إلى المعهد، وتطويره، تطويرا يساعد أبناءه على أداء رسالتهم الدينية والدنيوية.
ويبدأ تصحيح النظرة بإلغاء اعتبار المعهد مرحلة ثانوية مدتها خمس سنوات متصلة، إذ ليس قبلها مرحلة ابتدائية لمعاهد الأزهر.
تقسيم المعهد إلى مرحلتين إعدادية وثانوية
وبدا لي أن أقسم المعهد إلى مرحلتين: إعدادية وثانوية. كل مرحلة منهما ثلاث سنوات، مثل مراحل التعليم العام. يدرس الطالب في المرحلتين ما يدرسه الطالب في التعليم العام تقريبا، إلا ما لا ضرورة إليه مما يوفر لنا بعض الحصص.. وتدرس نفس الكتب المقررة على الإعدادي والثانوي في العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية، واللغة الإنجليزية ونحوها. وفي الثانوي تدرس مناهج القسم الأدبي.
على أن نزيد الجرعات التي يأخذها الطالب من العلوم الشرعية والعربية. وهنا لا بد أن نبذل جهدا في تيسير هذه العلوم وتقريبها بحيث لا نرهق الطالب بتعقيداتها. ولا بد من تقرير الكتب المناسبة لذلك. وقد يضطرنا هذا أن نزيد حصتين في الخطة الدراسية.
ومعنى هذا: أن علينا أن نهيئ الطالب في الصف الثالث بالمعهد هذا العام لامتحان الشهادة الإعدادية. وحصول الطالب على هذه الشهادة سيشعره بأنه قطع مرحلة دراسية مهمة، وحصل على شهادتها.
وكلمت الشيخ عبد الله بن تركي في هذا التغيير، ورحب به ووافقني عليه، وقال: علينا أن نقابل مدير المعارف وتقنعه بهذا الأمر.
وكان مدير المعارف هو الأستاذ عبد الرحمن عطبة "أ.د. عبد الرحمن عطبة أستاذ اللغة العربية الآن". وقد كان مفتشا للغة العربية، وأبدى نشاطا ملحوظا، فعينه الشيخ قاسم مديرا للمعارف، وكنت قد لقيته في القاهرة في الصيف لقاء عابرا، وكان الأستاذ محمد المبارك أوصاه بي.
فذهبت إليه، وشرحت له فكرتي، فشد على يدي، وشجعني على سرعة التنفيذ.
كتب جديدة للمعهد
وفعلا شرعت في التنفيذ، فغيرت الكتب المقررة من قبل على الطلاب، وطبعت كتبا جديدة، منها: كتاب "النحو الواضح" للأستاذ علي الجارم والأستاذ مصطفى أمين بأجزائه ومستوياته الثلاثة، وألغيت دراسة المنطق والبلاغة وابن عقيل، أو قل: أجلتها إلى الثانوي، حسب التيسير.
وقررت تغيير كتاب الفقه من "الروض المربع" إلى كتاب "منار السبيل شرح الدليل"، وهو كتاب سلس سهل العبارة، يهتم بالأدلة، ومطبوع على ورق فاخر في جزأين، وموجود في قطر، فقد طبعه الوجيه قاسم درويش على نفقته، وقررت أن يدرس نصف الكتاب في المرحلة الإعدادية، ونصفه في المرحلة الثانوية.
ولم يتطلب مني ذلك أن أزيد في خطة الدراسة غير ساعتين، واحدة يوم السبت، وأخرى يوم الأحد.
وكان هذا التطوير المقابل لتطوير الأزهر، إلا أن الأزهر طور العلوم الحديثة، ولم يمس العلوم الشرعية والعربية القديمة، فبقيت على حالها. واضطر الأزهر أن يبقي سنوات الدراسة كما هي: أربع سنوات للإعدادي، وخمسا للثانوي. أي أنها أزيد من التعليم العام بثلاث سنوات.
وقد اضطر الأزهر بعد سنوات وسنوات أن يقترب منا في قطر، ويختصر بعض السنوات في المرحلتين.
استبشر طلاب المعهد بالتغيير الذي حدث، وأقبلوا على الدراسة بالمعهد بجد وحرص، وكنت أدرسهم بعض المواد بنفسي. وقد لمست فيهم ذكاء وانتباها وتجاوبا كبيرا. وشارك الطلبة في أنشطة ثقافية واجتماعية، أبلوا فيها بلاء حسنا، وبرزوا فيها، بل تفوقوا على كثير من زملائهم. وصدقت وعدي للطلبة بالتغيير إلى الأحسن، وقد كان.
وبعد أشهر دخلت أول دفعة من طلبة المعهد امتحان الشهادة الإعدادية، ونجحوا جميعا، وجلهم ـ إن لم يكن كلهم ـ من النابهين المتفوقين، الذين صاروا بعد ذلك وزراء، أو شعراء، مثل عبد العزيز بن عبد الله تركي، ومحمد سالم الكواري من قطر، ومحمد عبد الرحمن البكر من الإمارات.
وكان عدد من المدرسين مثبتين، وعدد آخر ينتدب من المدرسة الإعدادية الثانوية، مثل مدرس العلوم والرياضيات والمواد الاجتماعية والإنجليزية.. ولم أطلب تغيير أحد من المدرسين الذين كانوا بالمعهد من قبل، وإن كان لي ملاحظات على بعضهم، ولكن قلت: بالتوجيه يمكن أن يتحسنوا ويتطوروا، وإلا طلبت التغيير وقد كان.
الشيخ عبد اللطيف زايد
لكني طلبت مدرسا واحدا، رجوت أن ينضم إلى أسرة المعهد، ليكون عونا لي فيما أريده للمعهد من رسالة، وقد عرفته مربيا بالفطرة والأسوة، ونموذجا مجسدا للإخلاص والبذل والعطاء دون منٍّ ولا أذى. ذلكم هو الأخ الحبيب الشيخ عبد اللطيف زايد الذي عرفته من قبل في معسكر التدريب بالأزهر، وفي تل بسطة بالشرقية في معارك القناة ضد الإنجليز، وقد سبقني إلى قطر، وهو يعمل مدرسا للعلوم الشرعية بمدرسة أم صلال علي الابتدائية. وأهلها محبون له متمسكون به، ولكني وسطت الأستاذ أحمد رجب عبد المجيد "د. أحمد بعد ذلك" ليشفع لي عند الشيخ علي بن جاسم شيخ أم صلال، ليسمح بانتقال الشيخ عبد اللطيف إلى المعهد لشدة الحاجة إليه، واستجاب الشيخ علي رحمه الله.
وبعد ذلك دعاني الشيخ عبد اللطيف إلى زيارة الشيخ علي بن جاسم، فزرناه معا في مجلسه بأم صلال، وهو رجل كبير السن، كبير القدر، وقد وجدناه يقرأ بعض كتب الفقه المالكي، فقد كان مالكي المذهب، على خلاف عموم آل ثاني، فهم حنابلة. وقد أنس الرجل بي، وطلب إليّ ألا أقطع زيارته، وكنت أزوره مع الشيخ عبد اللطيف بين فترة وأخرى، حتى توفي رحمه الله.
وكان الشيخ عبد اللطيف نعم العون لي في توجيه الشباب بالمعهد، وخصوصا في الرحلات التي نقضيها مع الشباب يوم الجمعة، أو يوم الجمعة وليلتها.
ونال المعهد سمعة طيبة بين الناس، فأثنى عليه الشيخ ابن مانع، والشيخ عبد الله بن زيد، والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ، ومنهم الشيخ داود حمدان الذي قال: إن المعهد أصبح بفضل الله ثم بفضل فلان معهدا للعلم والدعوة معا.
الشيخ داود حمدان
وبمناسبة ذكر الشيخ داود حمدان، فقد كان من الشخصيات العلمية الدعوية التي تعرفت عليها في قطر.
وكان الشيخ داود من علماء فلسطين الذين لهم اطلاع جيد على العلوم الشرعية، ولهم قلم جيد في كتابة بعض الأبحاث العلمية والفقهية، وله بحث جيد في التأمين، رجح فيه الجواز، مستندا إلى ما ذكره الحنابلة من ضمان حارس السوق. كما له جملة أبحاث أخرى.
وكان الشيخ داود من أعضاء حزب التحرير النشيطين، بل من مؤسسيه، ولكنه انفصل عنه، وتركه، وقد بدأ بزيارتي وعرفني بنفسه، وزرته بعد ذلك، وتوثقت صلتي به، حتى مات رحمه الله، ولقد قرأ كتابي "الحلال والحرام" وأعجب به، وكتب لي بعض الملاحظات عليه تناقشنا فيها، وقال: إنه كتاب يحمل روح اجتهاد حقة.
وكثيرا ما زارني في بيتي مع صديقه الشيخ عبد الله عبتناوي المدرس المرموق، وكثيرا ما زرته في بيته رحم الله الجميع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق