عندما سارت الدول العربية في طريق الاستدانة الوعر كانت تظن نفسها قادرة على تحقيق معادلة صعبة طرفها الأول هو الحصول على الديون واستغلالها في برامج التنمية المختلفة وطرفها الثاني هو سداد هذه الديون وفوائدها. لكن بعد مرور سنوات طويلة على السير في هذه الاتجاه وجدت نفسها في حيرة.. فلا هي حققت التنمية المطلوبة ولا هي أصبحت قادرة على سداد ديونها الخارجية أو الداخلية حتى أصبح مجموع هذه الديون مجتمعة 560 مليار دولار يدفع للقسم الخارجي منها فقط كل عام 40 مليارا.
وأمام العجز عن سداد الديون واستجابة لضغوط المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لجأت الدول العربية إلى مزيد من الاستدانة أو إعادة جدولة ديونها وفقا لشروط الدائنين الجدد في نادي باريس، مما يثير تساؤلات عن مدى الحاجة إلى اللجوء لمثل هذه الإجراءات.
والأسباب التي دفعت الدول العربية إلى الاستدانة كثيرة، بعضها داخلية كالعجز في الموازنات العامة والتضخم الذي أثر في قيمة العملات الوطنية والركود الاقتصادي المحلي والعالمي وعبء المديونية الخانق، وهو الأمر الذي انعكس على معدلات النمو حيث وصلت في بعض الأقطار العربية إلى ما دون الصفر، وهددت قطاعات حيوية كقطاع الغذاء التي أحدثت به فجوة بلغت قيمتها حوالي 20 مليار دولار.
يضاف ذلك إلى ما يعانيه معظم العرب -باستثناء الدول النفطية الغنية- من تدن كبير في مستويات الدخول حتى أصبح دخل الفرد لا يكفي سد احتياجاته الأساسية من غذاء ومسكن وخدمات صحية وتعليمية ومواصلات، وزادت نسب البطالة إلى أن وصلت لما بين 20 و25% من مجموع القوى العاملة البالغة 100 مليون نسمة.
وبعضها خارجية كالركود العالمي الحالي وانخفاض أسعار المواد الخام الأولية وارتفاع قيمة الفائدة وغيرها من الأسباب التي أصبحت مصطلحات شهيرة اليوم.
لكن التساؤل هنا.. هل كانت هذه الاختلالات الهيكلية في الاقتصاديات العربية سببا للاستدانة أم نتيجة لها؟ على أية حال وسواء أكانت سببا أم نتيجة فإن الدول العربية المدينة وجدت نفسها مضطرة إلى الرضوخ لـ شروط المؤسسات المالية المانحة سواء الدولية منها كـ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان يلزمان الدول المدينة باتباع سياسات اقتصادية واجتماعية معينة. أو المؤسسات المالية العربية التي لم تكتف بإخضاع الدول العربية المقترضة للشروط نفسها التي يطلبها صندوق النقد والبنك الدوليين فحسب وإنما أضافت إليها شروطها الخاصة والتي تحرص فيها عادة على ألا تتخذ الدول المقترضة مواقف سياسية تتعارض مع سياسات الدول الدائنة مما خلق معايير مختلفة في التعامل مع الدول العربية المقترضة كما حدث مع مصر وسوريا والأردن بعد حرب الخليج الثانية.
والآن بعد أن تعثرت الدول العربية المدينة في سداد أقساط ديونها وتراكمت فوائدها مما أثر في إرادتها السياسية، تثور تساؤلات عن أجدى الطرق للخروج من الأزمة، فهل يكون باللجوء إلى إعادة الجدولة عن طريق نادي باريس وتستجيب لشروطه كما استجابت من قبل لشروط مؤسسات التمويل الدولية والعربية حتى يعاد جدولة ديونها وتلتقط أنفاسها وتحاول ترتيب أوراقها من جديد، أم ربما يكون الحل في العمل على خلق استقرار تشريعي ودعم البنية التحتية وتحسين السياسات المالية لإيجاد مناخ صحي للاستثمار يشجع رؤوس الأموال العربية المهاجرة -والتي تقدر بما يتراوح بين 800 و2400 مليار دولار- على العودة إلى أوطانها حتى ولو كانت عودة جزئية.
ويبقى من الضروري استشراف آفاق المستقبل والتفكير في التخلص من مشكلة الديون وهو ما يحاول هذا الملف أن يلقي الضوء عليه بعد أن يستعرض جذور المشكلة ويتتبع تطوراتها.
أسباب الديون:
بدأت أزمة الديون على المستوى العالمي في الخمسينيات، واتضحت معالمها بشكل بارز في عقد التسعينيات عندما تفاقم حجم القروض نظرا لسوء توظيفها، لتنفجر عام 1982 حينما توقفت المكسيك وتشيلي والأرجنتين عن دفع أعباء ديونها الخارجية، ثم تبع ذلك عمليات إعسار مالي لعدد كبير من البلاد النامية، وشكل إعلان هذه الدول وقف دفع أعباء ديونها مؤشرا لانهيار نظام الائتمان الدولي.
وفي الدول العربية بلغ حجم الديون الخارجية حوالي 144 مليار دولار عام 2000 وفقا للتقرير الاقتصادي العربي الموحد.
أزمة الديون كجزء من أزمة هيكلية متعددة الأبعاد:
تعيش البلدان العربية أزمة اقتصادية خانقة منذ عقود عديدة، وهي أزمة بنيوية في طبيعتها، فلا هي أزمة ظرفية عابرة، ولا هي أزمة قطاعية أو دورية، بل أزمة هيكلية متعددة الأبعاد ازدادت تشابكا وتعقيدا منذ السبعينيات مع بروز العديد من الأزمات مثل أزمة النظام النقدي وأزمة المديونية وأزمة الطاقة وأزمة الغذاء وأزمة البطالة.. هذه الأزمة الهيكلية طال أمدها حتى أصبح الخروج منها أصعب بكثير من ذي قبل.
زيادة السكان لا تكون عقبة في طريق التنمية إلا عندما تكون حوافز الأفراد ونوعية مهاراتهم لا تتفاعل على النحو الذي يزيد حجم الإنتاجوتنعكس هذه الأزمة بصفة خاصة في عجز الموازنات العامة وميل إلى التضخم مع الركود وأزمة مديونية خانقة. ويعتقد العديد من المسؤولين والمهتمين بالأوضاع الاقتصادية الدولية أن الأزمة لا تكمن في نمو السكان إذ إن زيادة السكان ما هي إلا زيادة بطيئة، لكن الخلل يكمن في بطء الزيادة في حجم الإنتاج وتدنيه.
فكل مولود يعتبر وحدة استهلاكية لكنه في الوقت نفسه وحدة إنتاجية ومن المفروض أن هذا الفرد له دخل يخصص جزءا منه للاستهلاك وجزءا للادخار وجزءا للاستثمار. فزيادة السكان لا تكون عقبة في طريق التنمية إلا عندما تكون حوافز الأفراد ونوعية مهاراتهم لا تتفاعل على النحو الذي يزيد الزيادة الكافية في حجم الإنتاج وهذا جوهر الأزمة الاقتصادية.
ولا سبيل إلى فهم الأزمة الممتدة منذ السبعينيات إلا بإمعان النظر في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, فالسمات البارزة للأزمة والتي تشكل قاسما مشتركا بين الأقطار العربية يمكن حصرها حسب المفكر الاقتصادي المتميز محمد النوري في الظواهر التالية:
1- أزمة نمو:برزت هذه الأزمة في وسط السبعينيات في بعض الأقطار العربية وبداية الثمانينيات في أقطار أخرى، وتمثلت في تباطؤ معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي وهبوطها إلى مستويات دنيا وصلت دون الصفر في بعض الأحيان. وقد أنتج هذا الوضع هبوطا في الإنتاج ولاسيما في الإنتاج الزراعي الذي تحكمه عادة في هذه المنطقة العوامل الطبيعية أكثر من العوامل البشرية، إذ زادت الفجوة الغذائية (19 مليار دولار) نتيجة تخلف هياكل الملكية الزراعية وأساليب الاستغلال الزراعي من جهة، وسيطرة الدول الكبرى على التجارة الدولية للغذاء من جهة أخرى. وبرزت الأزمة الغذائية معززة أزمة النمو العام لتكريس التخلف والتبعية في هذه البلدان.
2- تدهور مستوى الدخل الحقيقي للفرد:تميل مستويات المعيشة في البلدان العربية نحو الهبوط بين الغالبية العظمى لسكانها، وتتضح هذه الحقيقة ليس فقط بين الدول الفقيرة (دول العجز كما يسمونها) مقارنة ببعضها بعضا، وإنما أيضا بين الفقراء والأغنياء داخل القطر الواحد. ويعتمد الاقتصاديون معيارا متوسط الدخل الحقيقي للفرد كمقياس لدرجة التخلف الاقتصادي في بلد ما، فإذا كان هذا المعيار في انخفاض فإن ذلك تعبير عن تدهور مستوى المعيشة للأفراد كما وكيفا ويترجم ذلك في صورة دخل حقيقي منخفض (قياسا بالمؤشر العام للأسعار) وسكن غير ملائم وصحة متدهورة وتعليم متواضع ومعدلات وفيات أطفال مرتفعة ومتوسط عمر قصير وبصفة عامة إحساس مختلط من عدم الارتياح واليأس معا.
وحتى لا تكون الصورة قاتمة تماما فإن متوسط دخل الفرد الحقيقي في أغلب البلدان العربية لم يشهد النمو المطلوب قياسا بالتطور المستمر للأسعار وتكاليف المعيشة من جهة وتدهور القوة الشرائية نتيجة التخفيض المتواصل في قيمة العملات المحلية. وإن كان الأمر متباينا بعض الشيء من قطر لآخر, فإن الاتجاه العام هو تدني مستوى دخول الأفراد باستثناء الدول النفطية, الشيء الذي يعكس مستويات معيشة منخفضة، إذ أصبح دخل الفرد لا يكفي لمواجهة الاحتياجات الأساسية للغالبية العظمى من السكان (الغذاء، السكن، الصحة، التعليم، المواصلات، الخدمات الأساسية..).
3- أزمة تضخم:اصطحبت أزمة النمو في السنوات الأخيرة بتسارع معدلات التضخم واتجاه الأسعار الارتفاعي التصاعدي مع ركود الإنتاج والتجارة وانتشار البطالة. وليس بخفي ما للتضخم من آثار وخيمة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي, فهو يؤثر سلبا في ميزان المدفوعات لأنه يضعف من الموقف التنافسي لصادرات الدول في السوق العالمية, إذ يؤدي التضخم إلى ارتفاعات شديدة في أسعار واردات هذه الدول في الوقت الذي تتدهور فيه حصيلة صادراتها من المواد الأولية. وفي الوقت نفسه يدفع إلى مزيد من الاستيراد حينما تصبح أسعار السلع المستوردة التي لها مثيل محلي منخفضة عن الأسعار المحلية وبالتالي يحدث الاختلال في التجارة الخارجية بانخفاض الصادرات وتزايد الواردات من جراء التضخم ويتفاقم عندئذ عجز الميزان التجاري.
بالإضافة إلى ذلك فإن التضخم يؤدي إلى تدهور سعر الصرف للعملة المحلية ويشجع على هروب الأموال المحلية إلى الخارج ويضع العراقيل أمام قدوم الاستثمارات الأجنبية الخاصة, ونتيجة لذلك تتسع الفجوة المالية الدولية فتضطر هذه الدول للاستدانة الخارجية.
كما أن للتضخم آثارا اجتماعية لا تقل خطورة عن آثاره الاقتصادية، وهو العدو الأول للعدالة الاجتماعية بما يسببه من تدهور للمقدرة الشرائية للأفراد نتيجة اشتعال الأسعار وهبوط قيمة العملة المحلية. ولعل من أفدح آثار التضخم الاجتماعية ما يلحقه بالفئات المتوسطة الدخول عن طريق ابتلاعه مدخراتها.
إن انتشار ظاهرة التضخم في بلداننا وتحولها من خلل طارئ في بعض الظروف إلى معضلة مزمنة تنخر جسم الاقتصاد يشير إلى أن التضخم أصبح سياسة مقصودة ومنصوحا بها من خبراء المؤسسات المالية الدولية باعتبارها إحدى آليات هيكلة الاقتصاد لصالح المجموعات الاحتكارية دون اعتبار تكلفتها الاجتماعية وتناسيها لضروريات العيش لشرائح هامة من المجتمع.
4- أزمة بطالة:سجلت السنوات الأخيرة ارتفاعا لمعدلات البطالة بلغ ما بين 15 و20% في أغلب البلدان العربية -خصوصا غير النفطية- نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية وانسداد الآفاق وبروز ظاهرة الهجرة المضادة.
والملاحظ في هذا الصدد شيوع ما يسمى بالبطالة الهيكلية وهي ذلك الشكل من البطالة الذي يظهر في عدم التناسب (أو الإخلال) بين الوفرة المتزايدة لليد العاملة مقابل ندرة العوامل الاقتصادية الإنتاجية الأخرى مثل الموارد الطبيعة ورأس المال والتنظيم.
5- أزمة عجز في ميزان المدفوعات:هذه معضلة أخرى من المعضلات الهيكلية التي تعاني منها الاقتصاديات العربية والتي لم تستطع الاختيارات الاقتصادية مواجهتها. إننا في حقيقة الأمر إزاء حلقة دائرية خبيثة، فأزمة النمو تنتج حالة من الركود مصحوبة بموجة تضخمية حادة, ينعكس التضخم بدوره في تردي شروط التبادل التجاري مع الخارج وهذا يزيد عجز ميزان المدفوعات ويدفع إلى مزيد من الاستدانة الخارجية ويزيد التضخم الذي يؤدي إلى الركود ومن ثم إلى هبوط معدلات النمو وهكذا.
إن استمرار عجز موازين المدفوعات إنما يعبر عن الخلل الهيكلي الكامن في اقتصاديات تلك البلدان التي تعتمد على تصدير المواد الأولية أساسا واستيراد المواد الاستهلاكية الأساسية والسلع والآلات الرأسمالية الوسيطة للإنتاج.هذا الخلل لا بد أن يؤدي إلى تراكم التدهور لشروط التبادل التجاري مع الخارج نتيجة ميل أسعار المواد الأولية للانخفاض والارتفاع المستمر في أسعار الواردات الاستهلاكية والصناعية.وهذا هو جوهر قضية التنمية المطروحة على البلدان المتخلفة بإلحاح بصورة عامة. لقد وقعت أغلبيتها الساحقة في فخ التنمية ذات التوجه نحو الخارج، بمعنى تحويل هياكل الإنتاج المحلي نحو التصدير وتوجيهها كليا لاحتياجات الأسواق الخارجية بهدف الحصول على مزيد من العملات الأجنبية لتحسين ميزان المدفوعات. ولكن نظرا لتخلف البنية الاقتصادية والاجتماعية بتلك الدول وقلة الموارد التقليدية لتمويل الإنفاق العام لجأت هذه البلدان إلى الإسراع بالتنمية وتغطية عجز ميزان المدفوعات عن طريق التمويل الخارجي.
بينما لم يتجاوز معدل نمو الإنتاج الزراعي السنوي في الأقطار العربية 2.5% في العقدين الماضيين, كان معدل نمو الطلب على المنتجات الزراعية نحو 6% سنويا في المتوسط مما أدى إلى فجوة غذائية خانقة6- أزمة غذائية:نتيجة لتخلف قطاعات الإنتاج من جانب, والنمو المتسارع في استهلاك الغذاء من جانب آخر, شهدت اقتصاديات الدول العربية أزمة هائلة في المجال الغذائي تمثلت في تفاقم العجز الغذائي وحصول فجوة غذائية حادة وانتشار ظاهرة الجوع وسوء التغذية في البعض من هذه الأقطار.
والمقصود بالفجوة الغذائية الفرق بين الحاصل من إنتاج المواد الغذائية والطلب عليها من أجل الاستهلاك، وهو تعبير عن عدم قدرة البلد أو البلدان على تأمين المواد الغذائية اللازمة لتغذية السكان بشكل يلبي الاحتياجات الضرورية والأساسية لنمو السكان وبقائهم في صحة جيدة.
ونظرا لخطورة الأزمة لم تعد مشكلة العجز الغذائي مجرد مشكلة اقتصادية زراعية بل تعدت ذلك لتصبح قضية سياسية إستراتيجية ترتبط بالأمن الوطني والإقليمي. وأصبح الغذاء سلاحا إستراتيجيا في يد الدول المنتجة والمصدرة للحبوب تضغط به على الدول المستوردة لتحقيق أهداف سياسية.
ولا شك في أن هذه المساعدات الغذائية تجعل الدول التي تحصل عليها في تبعية غذائية من شأنها أن تربطها بسياسة الدول المحتكرة للغذاء وتمنعها من ممارستها حقها في الاختيار.
وقد تفاقمت نسبة الفجوة الغذائية وانخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي في معظم الدول العربية في السنوات الأخيرة ولم تستطع خطط التنمية الزراعية في العقود الماضية تحقيق تقدم يذكر في الإنتاج الزراعي في أغلب الدول العربية يمكّن من تقليص العجز الغذائي والقضاء نسبيا على الفجوة الغذائية كما فعلت بعض البلدان النامية الأخرى (الهند مثلا).
وقد أدى هذا الظرف إلى ازدياد الاعتماد على استيراد المواد الغذائية من المصادر الأجنبية بنسب متصاعدة، فبينما لم يتجاوز معدل نمو الإنتاج الزراعي السنوي في الأقطار العربية مثلا 2.5% في العقدين الماضيين, كان معدل نمو الطلب على المنتجات الزراعية نحو 6% سنويا في المتوسط، وقد أدى هذا التفاوت بين معدلي نمو الإنتاج والطلب إلى فجوة غذائية خانقة.
7- أزمة مديونية:لقد ترتب على الاختلال المزمن في موازين المدفوعات للدول العربية تراكم المديونية الخارجية وتفاقم أعبائها بشكل يثير الانتباه ويدعو للفزع، فقد بلغ حجم الدين القائم في ذمة الدول العربية المقترضة حوالي 156 مليار دولار عام 2000 (التقرير الاقتصادي العربي الموحد, سبتمبر/أيلول 2001).وأدى انفجار أزمة الديون على صعيد دولي إلى تفاقم حدة هذه المديونية في بداية الثمانينيات, ووجد صندوق النقد الدولي مبررا أساسيا للتدخل بشراسة في الشؤون الداخلية للعديد من البلدان المدينة ذات الأوضاع الحرجة, ومن بينها بعض الدول العربية. فاستجابت تلك الدول الواحدة تلو الأخرى لنصائح صندوق النقد الدولي وتوجيهاته وسعت لتطبيق سياساته بكل إخلاص وأمانة.
الاستدانة.. الأسباب الخاصة:
أزمة المديونية للدول العربية هي أزمة بنيوية خطيرة وعميقة نابعة من عدم ملاءمة السياسات الاقتصادية المتبعة في الواقع الاقتصادي العربي مع خصوصيات هذه الدول
لماذا الاستدانة حسب الفكر الاقتصادي؟ تعتبر الكتب الاقتصادية المقررة في المناهج التربوية أن الأفراد أو العائلات والمنشآت وكذلك الدول (الحكومات) تستدين للأسباب نفسها، فعندما لا تكفي الموارد المالية المتاحة لتلبية الغايات وعندما تكون تكلفة الدين أقل من الربح المتوقع أو الذي يجنى منه, تنشأ المديونية. غير أننا نعتبر أن هذا التبسيط مخل، ونعتبر كذلك أن مفهوم التكلفة والربح يختلف بالنسبة للعناصر الثلاثة السابق ذكرها. وإذا ما حاولنا التركيز على أسباب استدانة الدول وخصوصا الاقتراض من الخارج فيمكن القول إن الدول تستدين من أجل تمويل العجز في ميزان مدفوعاتها، هذا بصفة عامة. أما بالنسبة للدول العربية فإن هناك عوامل عديدة تضافرت منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي لتأزيم وضع الديون وتفاقمها وانفجارها في السنوات الأخيرة في معظم الدول ذات الأوضاع الحرجة أصلا. ومن أهم تلك الأسباب:
أولاً: الأسباب الداخلية:
وأمام العجز عن سداد الديون واستجابة لضغوط المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لجأت الدول العربية إلى مزيد من الاستدانة أو إعادة جدولة ديونها وفقا لشروط الدائنين الجدد في نادي باريس، مما يثير تساؤلات عن مدى الحاجة إلى اللجوء لمثل هذه الإجراءات.
والأسباب التي دفعت الدول العربية إلى الاستدانة كثيرة، بعضها داخلية كالعجز في الموازنات العامة والتضخم الذي أثر في قيمة العملات الوطنية والركود الاقتصادي المحلي والعالمي وعبء المديونية الخانق، وهو الأمر الذي انعكس على معدلات النمو حيث وصلت في بعض الأقطار العربية إلى ما دون الصفر، وهددت قطاعات حيوية كقطاع الغذاء التي أحدثت به فجوة بلغت قيمتها حوالي 20 مليار دولار.
يضاف ذلك إلى ما يعانيه معظم العرب -باستثناء الدول النفطية الغنية- من تدن كبير في مستويات الدخول حتى أصبح دخل الفرد لا يكفي سد احتياجاته الأساسية من غذاء ومسكن وخدمات صحية وتعليمية ومواصلات، وزادت نسب البطالة إلى أن وصلت لما بين 20 و25% من مجموع القوى العاملة البالغة 100 مليون نسمة.
وبعضها خارجية كالركود العالمي الحالي وانخفاض أسعار المواد الخام الأولية وارتفاع قيمة الفائدة وغيرها من الأسباب التي أصبحت مصطلحات شهيرة اليوم.
لكن التساؤل هنا.. هل كانت هذه الاختلالات الهيكلية في الاقتصاديات العربية سببا للاستدانة أم نتيجة لها؟ على أية حال وسواء أكانت سببا أم نتيجة فإن الدول العربية المدينة وجدت نفسها مضطرة إلى الرضوخ لـ شروط المؤسسات المالية المانحة سواء الدولية منها كـ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان يلزمان الدول المدينة باتباع سياسات اقتصادية واجتماعية معينة. أو المؤسسات المالية العربية التي لم تكتف بإخضاع الدول العربية المقترضة للشروط نفسها التي يطلبها صندوق النقد والبنك الدوليين فحسب وإنما أضافت إليها شروطها الخاصة والتي تحرص فيها عادة على ألا تتخذ الدول المقترضة مواقف سياسية تتعارض مع سياسات الدول الدائنة مما خلق معايير مختلفة في التعامل مع الدول العربية المقترضة كما حدث مع مصر وسوريا والأردن بعد حرب الخليج الثانية.
والآن بعد أن تعثرت الدول العربية المدينة في سداد أقساط ديونها وتراكمت فوائدها مما أثر في إرادتها السياسية، تثور تساؤلات عن أجدى الطرق للخروج من الأزمة، فهل يكون باللجوء إلى إعادة الجدولة عن طريق نادي باريس وتستجيب لشروطه كما استجابت من قبل لشروط مؤسسات التمويل الدولية والعربية حتى يعاد جدولة ديونها وتلتقط أنفاسها وتحاول ترتيب أوراقها من جديد، أم ربما يكون الحل في العمل على خلق استقرار تشريعي ودعم البنية التحتية وتحسين السياسات المالية لإيجاد مناخ صحي للاستثمار يشجع رؤوس الأموال العربية المهاجرة -والتي تقدر بما يتراوح بين 800 و2400 مليار دولار- على العودة إلى أوطانها حتى ولو كانت عودة جزئية.
ويبقى من الضروري استشراف آفاق المستقبل والتفكير في التخلص من مشكلة الديون وهو ما يحاول هذا الملف أن يلقي الضوء عليه بعد أن يستعرض جذور المشكلة ويتتبع تطوراتها.
أسباب الديون:
بدأت أزمة الديون على المستوى العالمي في الخمسينيات، واتضحت معالمها بشكل بارز في عقد التسعينيات عندما تفاقم حجم القروض نظرا لسوء توظيفها، لتنفجر عام 1982 حينما توقفت المكسيك وتشيلي والأرجنتين عن دفع أعباء ديونها الخارجية، ثم تبع ذلك عمليات إعسار مالي لعدد كبير من البلاد النامية، وشكل إعلان هذه الدول وقف دفع أعباء ديونها مؤشرا لانهيار نظام الائتمان الدولي.
وفي الدول العربية بلغ حجم الديون الخارجية حوالي 144 مليار دولار عام 2000 وفقا للتقرير الاقتصادي العربي الموحد.
أزمة الديون كجزء من أزمة هيكلية متعددة الأبعاد:
تعيش البلدان العربية أزمة اقتصادية خانقة منذ عقود عديدة، وهي أزمة بنيوية في طبيعتها، فلا هي أزمة ظرفية عابرة، ولا هي أزمة قطاعية أو دورية، بل أزمة هيكلية متعددة الأبعاد ازدادت تشابكا وتعقيدا منذ السبعينيات مع بروز العديد من الأزمات مثل أزمة النظام النقدي وأزمة المديونية وأزمة الطاقة وأزمة الغذاء وأزمة البطالة.. هذه الأزمة الهيكلية طال أمدها حتى أصبح الخروج منها أصعب بكثير من ذي قبل.
زيادة السكان لا تكون عقبة في طريق التنمية إلا عندما تكون حوافز الأفراد ونوعية مهاراتهم لا تتفاعل على النحو الذي يزيد حجم الإنتاجوتنعكس هذه الأزمة بصفة خاصة في عجز الموازنات العامة وميل إلى التضخم مع الركود وأزمة مديونية خانقة. ويعتقد العديد من المسؤولين والمهتمين بالأوضاع الاقتصادية الدولية أن الأزمة لا تكمن في نمو السكان إذ إن زيادة السكان ما هي إلا زيادة بطيئة، لكن الخلل يكمن في بطء الزيادة في حجم الإنتاج وتدنيه.
فكل مولود يعتبر وحدة استهلاكية لكنه في الوقت نفسه وحدة إنتاجية ومن المفروض أن هذا الفرد له دخل يخصص جزءا منه للاستهلاك وجزءا للادخار وجزءا للاستثمار. فزيادة السكان لا تكون عقبة في طريق التنمية إلا عندما تكون حوافز الأفراد ونوعية مهاراتهم لا تتفاعل على النحو الذي يزيد الزيادة الكافية في حجم الإنتاج وهذا جوهر الأزمة الاقتصادية.
ولا سبيل إلى فهم الأزمة الممتدة منذ السبعينيات إلا بإمعان النظر في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, فالسمات البارزة للأزمة والتي تشكل قاسما مشتركا بين الأقطار العربية يمكن حصرها حسب المفكر الاقتصادي المتميز محمد النوري في الظواهر التالية:
1- أزمة نمو:برزت هذه الأزمة في وسط السبعينيات في بعض الأقطار العربية وبداية الثمانينيات في أقطار أخرى، وتمثلت في تباطؤ معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي وهبوطها إلى مستويات دنيا وصلت دون الصفر في بعض الأحيان. وقد أنتج هذا الوضع هبوطا في الإنتاج ولاسيما في الإنتاج الزراعي الذي تحكمه عادة في هذه المنطقة العوامل الطبيعية أكثر من العوامل البشرية، إذ زادت الفجوة الغذائية (19 مليار دولار) نتيجة تخلف هياكل الملكية الزراعية وأساليب الاستغلال الزراعي من جهة، وسيطرة الدول الكبرى على التجارة الدولية للغذاء من جهة أخرى. وبرزت الأزمة الغذائية معززة أزمة النمو العام لتكريس التخلف والتبعية في هذه البلدان.
2- تدهور مستوى الدخل الحقيقي للفرد:تميل مستويات المعيشة في البلدان العربية نحو الهبوط بين الغالبية العظمى لسكانها، وتتضح هذه الحقيقة ليس فقط بين الدول الفقيرة (دول العجز كما يسمونها) مقارنة ببعضها بعضا، وإنما أيضا بين الفقراء والأغنياء داخل القطر الواحد. ويعتمد الاقتصاديون معيارا متوسط الدخل الحقيقي للفرد كمقياس لدرجة التخلف الاقتصادي في بلد ما، فإذا كان هذا المعيار في انخفاض فإن ذلك تعبير عن تدهور مستوى المعيشة للأفراد كما وكيفا ويترجم ذلك في صورة دخل حقيقي منخفض (قياسا بالمؤشر العام للأسعار) وسكن غير ملائم وصحة متدهورة وتعليم متواضع ومعدلات وفيات أطفال مرتفعة ومتوسط عمر قصير وبصفة عامة إحساس مختلط من عدم الارتياح واليأس معا.
وحتى لا تكون الصورة قاتمة تماما فإن متوسط دخل الفرد الحقيقي في أغلب البلدان العربية لم يشهد النمو المطلوب قياسا بالتطور المستمر للأسعار وتكاليف المعيشة من جهة وتدهور القوة الشرائية نتيجة التخفيض المتواصل في قيمة العملات المحلية. وإن كان الأمر متباينا بعض الشيء من قطر لآخر, فإن الاتجاه العام هو تدني مستوى دخول الأفراد باستثناء الدول النفطية, الشيء الذي يعكس مستويات معيشة منخفضة، إذ أصبح دخل الفرد لا يكفي لمواجهة الاحتياجات الأساسية للغالبية العظمى من السكان (الغذاء، السكن، الصحة، التعليم، المواصلات، الخدمات الأساسية..).
3- أزمة تضخم:اصطحبت أزمة النمو في السنوات الأخيرة بتسارع معدلات التضخم واتجاه الأسعار الارتفاعي التصاعدي مع ركود الإنتاج والتجارة وانتشار البطالة. وليس بخفي ما للتضخم من آثار وخيمة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي, فهو يؤثر سلبا في ميزان المدفوعات لأنه يضعف من الموقف التنافسي لصادرات الدول في السوق العالمية, إذ يؤدي التضخم إلى ارتفاعات شديدة في أسعار واردات هذه الدول في الوقت الذي تتدهور فيه حصيلة صادراتها من المواد الأولية. وفي الوقت نفسه يدفع إلى مزيد من الاستيراد حينما تصبح أسعار السلع المستوردة التي لها مثيل محلي منخفضة عن الأسعار المحلية وبالتالي يحدث الاختلال في التجارة الخارجية بانخفاض الصادرات وتزايد الواردات من جراء التضخم ويتفاقم عندئذ عجز الميزان التجاري.
بالإضافة إلى ذلك فإن التضخم يؤدي إلى تدهور سعر الصرف للعملة المحلية ويشجع على هروب الأموال المحلية إلى الخارج ويضع العراقيل أمام قدوم الاستثمارات الأجنبية الخاصة, ونتيجة لذلك تتسع الفجوة المالية الدولية فتضطر هذه الدول للاستدانة الخارجية.
كما أن للتضخم آثارا اجتماعية لا تقل خطورة عن آثاره الاقتصادية، وهو العدو الأول للعدالة الاجتماعية بما يسببه من تدهور للمقدرة الشرائية للأفراد نتيجة اشتعال الأسعار وهبوط قيمة العملة المحلية. ولعل من أفدح آثار التضخم الاجتماعية ما يلحقه بالفئات المتوسطة الدخول عن طريق ابتلاعه مدخراتها.
إن انتشار ظاهرة التضخم في بلداننا وتحولها من خلل طارئ في بعض الظروف إلى معضلة مزمنة تنخر جسم الاقتصاد يشير إلى أن التضخم أصبح سياسة مقصودة ومنصوحا بها من خبراء المؤسسات المالية الدولية باعتبارها إحدى آليات هيكلة الاقتصاد لصالح المجموعات الاحتكارية دون اعتبار تكلفتها الاجتماعية وتناسيها لضروريات العيش لشرائح هامة من المجتمع.
4- أزمة بطالة:سجلت السنوات الأخيرة ارتفاعا لمعدلات البطالة بلغ ما بين 15 و20% في أغلب البلدان العربية -خصوصا غير النفطية- نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية وانسداد الآفاق وبروز ظاهرة الهجرة المضادة.
والملاحظ في هذا الصدد شيوع ما يسمى بالبطالة الهيكلية وهي ذلك الشكل من البطالة الذي يظهر في عدم التناسب (أو الإخلال) بين الوفرة المتزايدة لليد العاملة مقابل ندرة العوامل الاقتصادية الإنتاجية الأخرى مثل الموارد الطبيعة ورأس المال والتنظيم.
5- أزمة عجز في ميزان المدفوعات:هذه معضلة أخرى من المعضلات الهيكلية التي تعاني منها الاقتصاديات العربية والتي لم تستطع الاختيارات الاقتصادية مواجهتها. إننا في حقيقة الأمر إزاء حلقة دائرية خبيثة، فأزمة النمو تنتج حالة من الركود مصحوبة بموجة تضخمية حادة, ينعكس التضخم بدوره في تردي شروط التبادل التجاري مع الخارج وهذا يزيد عجز ميزان المدفوعات ويدفع إلى مزيد من الاستدانة الخارجية ويزيد التضخم الذي يؤدي إلى الركود ومن ثم إلى هبوط معدلات النمو وهكذا.
إن استمرار عجز موازين المدفوعات إنما يعبر عن الخلل الهيكلي الكامن في اقتصاديات تلك البلدان التي تعتمد على تصدير المواد الأولية أساسا واستيراد المواد الاستهلاكية الأساسية والسلع والآلات الرأسمالية الوسيطة للإنتاج.هذا الخلل لا بد أن يؤدي إلى تراكم التدهور لشروط التبادل التجاري مع الخارج نتيجة ميل أسعار المواد الأولية للانخفاض والارتفاع المستمر في أسعار الواردات الاستهلاكية والصناعية.وهذا هو جوهر قضية التنمية المطروحة على البلدان المتخلفة بإلحاح بصورة عامة. لقد وقعت أغلبيتها الساحقة في فخ التنمية ذات التوجه نحو الخارج، بمعنى تحويل هياكل الإنتاج المحلي نحو التصدير وتوجيهها كليا لاحتياجات الأسواق الخارجية بهدف الحصول على مزيد من العملات الأجنبية لتحسين ميزان المدفوعات. ولكن نظرا لتخلف البنية الاقتصادية والاجتماعية بتلك الدول وقلة الموارد التقليدية لتمويل الإنفاق العام لجأت هذه البلدان إلى الإسراع بالتنمية وتغطية عجز ميزان المدفوعات عن طريق التمويل الخارجي.
بينما لم يتجاوز معدل نمو الإنتاج الزراعي السنوي في الأقطار العربية 2.5% في العقدين الماضيين, كان معدل نمو الطلب على المنتجات الزراعية نحو 6% سنويا في المتوسط مما أدى إلى فجوة غذائية خانقة6- أزمة غذائية:نتيجة لتخلف قطاعات الإنتاج من جانب, والنمو المتسارع في استهلاك الغذاء من جانب آخر, شهدت اقتصاديات الدول العربية أزمة هائلة في المجال الغذائي تمثلت في تفاقم العجز الغذائي وحصول فجوة غذائية حادة وانتشار ظاهرة الجوع وسوء التغذية في البعض من هذه الأقطار.
والمقصود بالفجوة الغذائية الفرق بين الحاصل من إنتاج المواد الغذائية والطلب عليها من أجل الاستهلاك، وهو تعبير عن عدم قدرة البلد أو البلدان على تأمين المواد الغذائية اللازمة لتغذية السكان بشكل يلبي الاحتياجات الضرورية والأساسية لنمو السكان وبقائهم في صحة جيدة.
ونظرا لخطورة الأزمة لم تعد مشكلة العجز الغذائي مجرد مشكلة اقتصادية زراعية بل تعدت ذلك لتصبح قضية سياسية إستراتيجية ترتبط بالأمن الوطني والإقليمي. وأصبح الغذاء سلاحا إستراتيجيا في يد الدول المنتجة والمصدرة للحبوب تضغط به على الدول المستوردة لتحقيق أهداف سياسية.
ولا شك في أن هذه المساعدات الغذائية تجعل الدول التي تحصل عليها في تبعية غذائية من شأنها أن تربطها بسياسة الدول المحتكرة للغذاء وتمنعها من ممارستها حقها في الاختيار.
وقد تفاقمت نسبة الفجوة الغذائية وانخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي في معظم الدول العربية في السنوات الأخيرة ولم تستطع خطط التنمية الزراعية في العقود الماضية تحقيق تقدم يذكر في الإنتاج الزراعي في أغلب الدول العربية يمكّن من تقليص العجز الغذائي والقضاء نسبيا على الفجوة الغذائية كما فعلت بعض البلدان النامية الأخرى (الهند مثلا).
وقد أدى هذا الظرف إلى ازدياد الاعتماد على استيراد المواد الغذائية من المصادر الأجنبية بنسب متصاعدة، فبينما لم يتجاوز معدل نمو الإنتاج الزراعي السنوي في الأقطار العربية مثلا 2.5% في العقدين الماضيين, كان معدل نمو الطلب على المنتجات الزراعية نحو 6% سنويا في المتوسط، وقد أدى هذا التفاوت بين معدلي نمو الإنتاج والطلب إلى فجوة غذائية خانقة.
7- أزمة مديونية:لقد ترتب على الاختلال المزمن في موازين المدفوعات للدول العربية تراكم المديونية الخارجية وتفاقم أعبائها بشكل يثير الانتباه ويدعو للفزع، فقد بلغ حجم الدين القائم في ذمة الدول العربية المقترضة حوالي 156 مليار دولار عام 2000 (التقرير الاقتصادي العربي الموحد, سبتمبر/أيلول 2001).وأدى انفجار أزمة الديون على صعيد دولي إلى تفاقم حدة هذه المديونية في بداية الثمانينيات, ووجد صندوق النقد الدولي مبررا أساسيا للتدخل بشراسة في الشؤون الداخلية للعديد من البلدان المدينة ذات الأوضاع الحرجة, ومن بينها بعض الدول العربية. فاستجابت تلك الدول الواحدة تلو الأخرى لنصائح صندوق النقد الدولي وتوجيهاته وسعت لتطبيق سياساته بكل إخلاص وأمانة.
الاستدانة.. الأسباب الخاصة:
أزمة المديونية للدول العربية هي أزمة بنيوية خطيرة وعميقة نابعة من عدم ملاءمة السياسات الاقتصادية المتبعة في الواقع الاقتصادي العربي مع خصوصيات هذه الدول
لماذا الاستدانة حسب الفكر الاقتصادي؟ تعتبر الكتب الاقتصادية المقررة في المناهج التربوية أن الأفراد أو العائلات والمنشآت وكذلك الدول (الحكومات) تستدين للأسباب نفسها، فعندما لا تكفي الموارد المالية المتاحة لتلبية الغايات وعندما تكون تكلفة الدين أقل من الربح المتوقع أو الذي يجنى منه, تنشأ المديونية. غير أننا نعتبر أن هذا التبسيط مخل، ونعتبر كذلك أن مفهوم التكلفة والربح يختلف بالنسبة للعناصر الثلاثة السابق ذكرها. وإذا ما حاولنا التركيز على أسباب استدانة الدول وخصوصا الاقتراض من الخارج فيمكن القول إن الدول تستدين من أجل تمويل العجز في ميزان مدفوعاتها، هذا بصفة عامة. أما بالنسبة للدول العربية فإن هناك عوامل عديدة تضافرت منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي لتأزيم وضع الديون وتفاقمها وانفجارها في السنوات الأخيرة في معظم الدول ذات الأوضاع الحرجة أصلا. ومن أهم تلك الأسباب:
أولاً: الأسباب الداخلية:
1- الميل إلى الاستثمار من أجل التنميةويتطلب كثافة رأس مالية وتكنولوجيا متقدمة وهو ما تفتقر إليه تلك الدول, مما اضطرها إلى الاقتراض الخارجي لشراء الآلات والمعدات والتعاقد مع الخبراء الأجانب وشراء براءات الاختراع وحقوق الصنع.
2- سوء توظيف القروضلقد كانت المبالغة الملحوظة في اللجوء إلى الاقتراض الخارجي هي سمة السبعينيات وذلك على أمل السداد من مشروعات طموحة تم الاقتراض من أجلها, لكن سوء التخطيط وتغير السياسات الاقتصادية وتخبطها من فلسفة اشتراكية إلى ليبرالية ومن ليبرالية إلى اشتراكية أدى إلى فشل الكثير من المشروعات. وقد اقترنت عملية الاقتراض في العديد من الأحيان بزيادة كبيرة في الاستهلاك الترفي وفساد الحكومات التي تقترض كثيرا للرفع من مستوى معيشة شعوبها بشكل مصطنع كرشوة لشراء ولاء الشعب وسكوته.
فإذا ما قمنا بمقارنة بين توظيف الأموال الأجنبية في الدول الرأسمالية وبين توظيفها في الدول العربية سنلاحظ أن الأولى ركزت على استيراد المواد الخام الأولية ذات الأسعار المنخفضة اللازمة للتنمية الصناعية وأخذت بتصدير السلع ذات الأسعار المرتفعة, لتنتقل في مرحلة لاحقة إلى تصدير رأس المال الأجنبي إلى الدول النامية، فقد أدركت أن الدول النامية تعتبر أرضية خصبة لاستثماراتها. أما الدول العربية فقد ركزت على استيراد السلع الاستهلاكية والرأسمالية ذات الأسعار المرتفعة وأخذت بتصدير الكثير من مواردها الطبيعية على شكل مواد خام وبأسعار زهيدة. هذا التخصص في إنتاج المواد الأولية أدى إلى تعريضها إلى آثار الأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها أسواق هذه المواد والتناقضات التي شهدتها الأنظمة الاقتصادية.
3- تهريب رؤوس الأموال إلى الخارجفي الوقت الذي كانت فيه سياسة الإقراض على قدم وساق لسد الفجوة التمويلية للمشروعات التنموية, كان الفساد الإداري والمالي والسياسي يعم أجهزة الدولة ومؤسساتها في معظم الدول العربية. وقد نجم عن هذا الفساد نهب جانب كبير من القروض الخارجية وتهريبها إلى الخارج وتم إيداعها في البنوك الأجنبية لحساب أصحاب النفوذ والسلطة ورجال الأعمال القريبين منهم, وأدت هذه الظاهرة إلى تراكم الديون وفشل التنمية.
4- الاهتمام بالصناعة على حساب الزراعةأدى هذا التوجه إلى تزايد الحاجة إلى الواردات الغذائية وإهمال الزراعة كدعامة هامة لاقتصاديات تلك الدول, والاهتمام بالصناعة التي تتطلب بطبيعتها كثافة رأسمالية تفوق طاقات أغلب الدول العربية –غير النفطية خاصة- مما أدى للجوء إلى الاقتراض الخارجي لتمويل هذه الصناعات.
5- العجز المتزايد في ميزان المدفوعاتأدى العجز المستمر لموازين المدفوعات في معظم الأقطار العربية الناجم عن تزايد الواردات السلعية على حساب الصادرات إلى اختلال تجاري واضح تسبب باللجوء إلى الاقتراض الخارجي وتفاقم المديونية.
ثانياً: الأسباب الخارجية:
2- سوء توظيف القروضلقد كانت المبالغة الملحوظة في اللجوء إلى الاقتراض الخارجي هي سمة السبعينيات وذلك على أمل السداد من مشروعات طموحة تم الاقتراض من أجلها, لكن سوء التخطيط وتغير السياسات الاقتصادية وتخبطها من فلسفة اشتراكية إلى ليبرالية ومن ليبرالية إلى اشتراكية أدى إلى فشل الكثير من المشروعات. وقد اقترنت عملية الاقتراض في العديد من الأحيان بزيادة كبيرة في الاستهلاك الترفي وفساد الحكومات التي تقترض كثيرا للرفع من مستوى معيشة شعوبها بشكل مصطنع كرشوة لشراء ولاء الشعب وسكوته.
فإذا ما قمنا بمقارنة بين توظيف الأموال الأجنبية في الدول الرأسمالية وبين توظيفها في الدول العربية سنلاحظ أن الأولى ركزت على استيراد المواد الخام الأولية ذات الأسعار المنخفضة اللازمة للتنمية الصناعية وأخذت بتصدير السلع ذات الأسعار المرتفعة, لتنتقل في مرحلة لاحقة إلى تصدير رأس المال الأجنبي إلى الدول النامية، فقد أدركت أن الدول النامية تعتبر أرضية خصبة لاستثماراتها. أما الدول العربية فقد ركزت على استيراد السلع الاستهلاكية والرأسمالية ذات الأسعار المرتفعة وأخذت بتصدير الكثير من مواردها الطبيعية على شكل مواد خام وبأسعار زهيدة. هذا التخصص في إنتاج المواد الأولية أدى إلى تعريضها إلى آثار الأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها أسواق هذه المواد والتناقضات التي شهدتها الأنظمة الاقتصادية.
3- تهريب رؤوس الأموال إلى الخارجفي الوقت الذي كانت فيه سياسة الإقراض على قدم وساق لسد الفجوة التمويلية للمشروعات التنموية, كان الفساد الإداري والمالي والسياسي يعم أجهزة الدولة ومؤسساتها في معظم الدول العربية. وقد نجم عن هذا الفساد نهب جانب كبير من القروض الخارجية وتهريبها إلى الخارج وتم إيداعها في البنوك الأجنبية لحساب أصحاب النفوذ والسلطة ورجال الأعمال القريبين منهم, وأدت هذه الظاهرة إلى تراكم الديون وفشل التنمية.
4- الاهتمام بالصناعة على حساب الزراعةأدى هذا التوجه إلى تزايد الحاجة إلى الواردات الغذائية وإهمال الزراعة كدعامة هامة لاقتصاديات تلك الدول, والاهتمام بالصناعة التي تتطلب بطبيعتها كثافة رأسمالية تفوق طاقات أغلب الدول العربية –غير النفطية خاصة- مما أدى للجوء إلى الاقتراض الخارجي لتمويل هذه الصناعات.
5- العجز المتزايد في ميزان المدفوعاتأدى العجز المستمر لموازين المدفوعات في معظم الأقطار العربية الناجم عن تزايد الواردات السلعية على حساب الصادرات إلى اختلال تجاري واضح تسبب باللجوء إلى الاقتراض الخارجي وتفاقم المديونية.
ثانياً: الأسباب الخارجية:
1- ارتفاع أسعار الفائدة كان للارتفاع الشديد الذي طرأ على أسعار الفائدة في أسواق المال الدولية دورا حاسما في استفحال أزمة المديونية, إذ تجاوزت في العديد من البلدان الفوائد الزائدة المدفوعة قيمة التمويل الإضافي الصافي وتكبدت البلدان المدينة مبالغ متزايدة عبر السنين وأصبح بند خدمة الدين يمثل نصيبا هاما من صافي الديون ويستحوذ على مبالغ كبيرة من النقد الأجنبي.
2- انخفاض الأسعار العالمية للمواد الخام أدى انخفاض أسعار المواد الأولية المصدرة إلى الأسواق العالمية (كالبترول والمواد الخام الأخرى) إلى تدهور شروط التبادل التجارية للبلدان المصدرة لهذه المواد، مما أدى إلى تفاقم عجز ميزان المدفوعات الذي يزيد من الميل إلى الاستدانة الخارجية. 3- آثار الركود التضخمي السائد في معظم الدول الرأسماليةنظرا لاندماج معظم الدول النامية -ومنها الدول العربية- في النظام الاقتصادي العالمي وتبعيتها له تجاريا وغذائيا ونقديا وتكنولوجيا فضلا عن التبعية العسكرية والسياسية, فإن ما يحدث في هذا النظام من تقلبات وأزمات يؤثر تلقائيا في الأوضاع الاقتصادية لهذه البلدان.ومنذ بداية الثمانينيات أفرزت السياسات الانكماشية التي طبقتها معظم الدول الرأسمالية الصناعية حالة من الركود الاقتصادي مصحوبة بالتضخم أصبحت تعرف بالتضخم الركودي الذي أثر كثيرا في الأوضاع المالية وانخفض حجم العملات الأجنبية فيها, في الوقت الذي تزايدت فيه مدفوعات خدمة الدين وتفاقمت صعوبات الاقتراض الخارجي وخاصة بعد انفجار أزمة الديون الخارجية عام 1982.
ونخلص مما سبق إلى أن أزمة المديونية للدول العربية هي أزمة بنيوية خطيرة وعميقة نابعة من عدم ملاءمة السياسات الاقتصادية المتبعة في الواقع الاقتصادي العربي مع خصوصيات هذه الدول. وهي حقيقة أكدتها التقارير الاقتصادية الدولية والدراسات القطرية الخاصة بتحليل أوضاع هذه الدول.
فالتوجهات الاقتصادية لأي أمة من الأمم يجب أن تكون نابعة من التوجهات الكبرى لمنهجها الحضاري وأن تستمد منهجها الاقتصادي من خصوصيات الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يخصها.
إضافة إلى هذا السبب المركزي تضافرت عوامل داخلية وأخرى خارجية عملت على تفاقم الأزمة، فعلى المستوى الداخلي أدى سوء توظيف الأموال المقترضة وتهريبها والاهتمام بالصناعة على حساب الزراعة إضافة إلى العجز المستمر في ميزان المدفوعات إلى تفاقم الأزمة.أما على المستوى الخارجي فتتمثل أهم أسباب المديونية في ارتفاع سعر الفائدة في الأسواق المالية الدولية وانخفاض أسعار المواد الأولية التي تعتبر أهم صادرات الدول النامية عموما -ومنها الدول العربية- إضافة إلى التضخم الركودي.غير أنه يجب أن نشير إلى أن أزمة الديون الخارجية يجب ألا نحصرها ونفسرها بأنها مجرد مشكلة سيولة دولية, فهي ذات علاقة وثيقة بصميم الهيكل الاقتصادي والاجتماعي السائد في تلك البلدان.
فهل تستغل هذه الأموال المقترضة في تمويل الاستهلاك التجاري أم الاستثمار؟ وما معايير الاستفادة من القروض الخارجية؟ وهل يمكن أن تسهم في تحقيق التمويل الذاتي في المستقبل؟وفي الأخير إذا ظلت الدول العربية تقترض لشراء السلع الاستهلاكية الضرورية والإنفاق على شراء الأسلحة التي يبدو أنها في الأزمات والتحديات الكبرى لا تفتك بالعدو ولا تشكل حتى رادعا له -وما الأحداث الأخيرة في فلسطين عنا ببعيد- فإن الدول العربية ستظل في حاجة إلى الاستدانة الخارجية.
إعادة جدولة الديون الخارجية:
إعادة جدولة الديون الخارجية تحقق للدائن والمدين فوائد اقتصادية، فهي تضمن للدائن الحصول على أمواله يوما ما، وفي الوقت نفسه تعطي للمدين فترة تأجيل تتيح له إعادة ترتيب أوضاعه الاقتصادية والتجارية. لكن رغم ذلك فإن هذه العملية لا تخلو من شروط قاسية تؤثر في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للدول المدينة.
نتيجة العجز المزمن في الميزانيات العامة والموازين التجارية خاصة في الدول العربية غير النفطية، انخفضت القيمة التعادلية للعملات الوطنية وارتفع معدل الضغط الضريبي واتبعت سياسات تقشفية في شتى الميادين فتضررت جميع الفئات الاجتماعية، وهبط مستوى معيشة حوالي 160 مليون عربي ينتمون إلى دول تطبق برامج الإصلاح الاقتصادي المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي.
كانت الأقطار العربية تستدين بسبب حاجتها إلى الأموال فأصبحت أكثر فقرا بسبب ثقل ديونها، وبات من المستحيل سداد أصل وفوائد الديون الخارجية في المواعيد المحددة.
تأجيل سداد الديون وبهدف إعطاء نفس جديد لمالية الدول المدينة يقرر الدائنون منحها آجالا إضافية، ويطلق على هذه العملية اسم "إعادة جدولة الديون الخارجية" التي تقدم مكاسب لطرفي المعادلة. وتتحقق مكاسب الدائنين بحصولهم لاحقا على أموالهم بدلا من التوقف النهائي للدولة المدينة عن الدفع، في حين تتمثل مكاسب الدول المدينة باستغلال فترة التأجيل لترتيب أوضاعها المالية والتجارية، إذ عليها معالجة العجز المالي الذي يسبب اللجوء إلى التمويل الخارجي وتنمية صادراتها للحصول على الموارد المالية اللازمة لسداد ديونها المؤجلة.
بيد أن هذه العملية تخضع لشروط قاسية تؤثر بشدة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما أنها لا تتصدى لأزمة المديونية بل تؤجلها إلى وقت لاحق. لذلك تطالب البلدان النامية بإلغاء بعض التزاماتها المالية، لكن الإلغاء بالطريقة المتبعة حاليا لا يكفي لمعالجة الأزمة ناهيك عن ارتباطه بعوامل سياسية بحتة.
هبوط مؤشر الديون العربيةهبط مؤشرا حجم الديون وخدمتها في أغلب البلدان العربية. ولم يتمخض هذا الهبوط عن جهود داخلية ترتبط بالنمو الاقتصادي وتحسن الصادرات بقدر ما نجم عن امتيازات ممنوحة من قبل الدائنين قادت إلى تأجيل سداد أقساط وفوائد جزء من الديون وإلغاء جزء آخر منها. ورغم هذا الهبوط يسجل المؤشران نسبا عالية مقارنة بالكثير من البلدان النامية. وهذا يعني أن المديونية الخارجية العربية لا تزال تشكل أزمة حقيقية على الصعيدين المالي والاقتصادي.
في عام 2000 بلغ حجم الديون الخارجية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي أكثر من 50% في تونس والمغرب واليمن، وأكثر من 100% في السودان وسوريا وموريتانيا. ووصلت خدمة الديون قياسا بالصادرات إلى أكثر من 30% في الأردن وتونس والمغرب وإلى ضعف هذه النسبة في لبنان (1). ودفعت الدول العربية غير الخليجية 13758 مليون دولار لسداد ديونها، أي أكثر من 1.5 مليون دولار بالساعة. وفيما يلي نتعرض بالبحث للعناصر التالية:
كيفية إعادة الجدولة:
نجمت المديونية الخارجية العربية عن قروض عقدت خاصة مع الدول الأعضاء في نادي باريس الذي يضم 19 دولة صناعية تتمتع بالعضوية الدائمة في النادي، ويمكن للدول الدائنة الأخرى حضور اجتماعاته شريطة موافقة الأعضاء الدائمين والبلد المدين.
”لا يقبل نادي باريس إعادة جدولة ديون مستحقة لصندوق النقد والبنك الدوليين”
يختص نادي باريس بالنظر في الديون الرسمية والديون المضمونة رسميا، ولا ينظر في الديون القصيرة الأجل (أقل من سنة واحدة). أما الالتزامات الناجمة عن قروض ممنوحة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي فلا تقبل إطلاقا إعادة الجدولة. وعلى الدولة المدينة إذن سداد الديون المترتبة على هذه القروض في التواريخ المحددة مسبقا وإلا تردت علاقاتها مع المؤسستين الدوليتين، وعندئذ يتعذر على نادي باريس إعادة جدولة ديونها، وهذا ما حدث للسودان عندما عجز عن دفع ديونه المستحقة لصندوق النقد الدولي فتراكمت متأخرات السداد، وإثر ذلك جمدت حقوق البلد في الحصول على تسهيلات جديدة، ولم يبت بإعادة برمجة ديونه منذ عام 1984.
بعد أن يقدم البلد المدين طلبا بإعادة جدولة ديونه تتولى سكرتارية نادي باريس جمع المعلومات عن الحالة الاقتصادية لهذا البلد من سلطاته العامة ومن الدول والمؤسسات الدائنة. وتحتوي المعلومات على تحليل دقيق للوضع الاقتصادي والمالي وحجم الديون الخارجية وتقسيماتها حسب مصادرها وتواريخ استحقاقها، كما تتأكد السكرتارية من تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي، ثم يوجه رئيس النادي (مدير الخزينة الفرنسية) دعوة إلى ممثلي الدول الدائنة وممثل الدولة المدينة لحضور الاجتماعات التي يشارك فيها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بصفة مراقب. وبعد مفاوضات لا تستغرق أكثر من ثلاثة أيام يتخذ الدائنون قرارهم بتوافق آرائهم (2)، أي عدم معارضة أحد على ما تم التوصل إليه بينهم. ويتضمن هذا القرار الذي يعرض على ممثل الدولة المدينة للموافقة عليه تفاصيل إعادة جدولة الديون، لكن هذا الاتفاق هو في الواقع توصية تدعو حكومات الدول الدائنة إلى عقد اتفاقات ثنائية مع حكومة البلد المدين.
وليس من صلاحيات نادي باريس اتخاذ قرارات قانونية، والاتفاقات الثنائية وحدها ذات قيمة قانونية. فعلى سبيل المثال بعد أن قرر النادي في يوليو/ تموز 1995 إعادة برمجة 7320 مليون دولار من مديونية الجزائر لمدة 15 سنة مع فترة سماح لمدة أربع سنوات، عقدت الجزائر اتفاقات ثنائية مع الولايات المتحدة وكندا واليابان و14 دولة أوروبية. بطبيعة الحال يبرم كل اتفاق وفق الإجراءات الدستورية لكل بلد دائن، وعلى الصعيد العملي تعتمد هذه الاتفاقات على التوصيات، لذلك جرت العادة على تسمية قرارات النادي بالاتفاقات.
أنماط إعادة الجدولة:
تستند إعادة الجدولة على مبدأ كل حالة على حدة، والاتفاق الخاص بدولة معينة لا يسري على دولة أخرى حتى وإن تشابهت أحوالهما التجارية والمالية. والقرار المتخذ بشأن دين معين لا يسري على دين آخر لنفس الدولة، أضف إلى ذلك أن الدول العربية تختلف اختلافا كبيرا في ما بينها من حيث ثقل مديونيتها وأوضاعها الاقتصادية، كما لا يستخدم نادي باريس طريقة موحدة لإعادة الجدولة. وانطلاقا من هذه الاعتبارات بات من اللازم دراسة أنماط إعادة الجدولة المطبقة على البلدان العربية.
النمط الأول: البنود التقليدية
2- انخفاض الأسعار العالمية للمواد الخام أدى انخفاض أسعار المواد الأولية المصدرة إلى الأسواق العالمية (كالبترول والمواد الخام الأخرى) إلى تدهور شروط التبادل التجارية للبلدان المصدرة لهذه المواد، مما أدى إلى تفاقم عجز ميزان المدفوعات الذي يزيد من الميل إلى الاستدانة الخارجية. 3- آثار الركود التضخمي السائد في معظم الدول الرأسماليةنظرا لاندماج معظم الدول النامية -ومنها الدول العربية- في النظام الاقتصادي العالمي وتبعيتها له تجاريا وغذائيا ونقديا وتكنولوجيا فضلا عن التبعية العسكرية والسياسية, فإن ما يحدث في هذا النظام من تقلبات وأزمات يؤثر تلقائيا في الأوضاع الاقتصادية لهذه البلدان.ومنذ بداية الثمانينيات أفرزت السياسات الانكماشية التي طبقتها معظم الدول الرأسمالية الصناعية حالة من الركود الاقتصادي مصحوبة بالتضخم أصبحت تعرف بالتضخم الركودي الذي أثر كثيرا في الأوضاع المالية وانخفض حجم العملات الأجنبية فيها, في الوقت الذي تزايدت فيه مدفوعات خدمة الدين وتفاقمت صعوبات الاقتراض الخارجي وخاصة بعد انفجار أزمة الديون الخارجية عام 1982.
ونخلص مما سبق إلى أن أزمة المديونية للدول العربية هي أزمة بنيوية خطيرة وعميقة نابعة من عدم ملاءمة السياسات الاقتصادية المتبعة في الواقع الاقتصادي العربي مع خصوصيات هذه الدول. وهي حقيقة أكدتها التقارير الاقتصادية الدولية والدراسات القطرية الخاصة بتحليل أوضاع هذه الدول.
فالتوجهات الاقتصادية لأي أمة من الأمم يجب أن تكون نابعة من التوجهات الكبرى لمنهجها الحضاري وأن تستمد منهجها الاقتصادي من خصوصيات الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يخصها.
إضافة إلى هذا السبب المركزي تضافرت عوامل داخلية وأخرى خارجية عملت على تفاقم الأزمة، فعلى المستوى الداخلي أدى سوء توظيف الأموال المقترضة وتهريبها والاهتمام بالصناعة على حساب الزراعة إضافة إلى العجز المستمر في ميزان المدفوعات إلى تفاقم الأزمة.أما على المستوى الخارجي فتتمثل أهم أسباب المديونية في ارتفاع سعر الفائدة في الأسواق المالية الدولية وانخفاض أسعار المواد الأولية التي تعتبر أهم صادرات الدول النامية عموما -ومنها الدول العربية- إضافة إلى التضخم الركودي.غير أنه يجب أن نشير إلى أن أزمة الديون الخارجية يجب ألا نحصرها ونفسرها بأنها مجرد مشكلة سيولة دولية, فهي ذات علاقة وثيقة بصميم الهيكل الاقتصادي والاجتماعي السائد في تلك البلدان.
فهل تستغل هذه الأموال المقترضة في تمويل الاستهلاك التجاري أم الاستثمار؟ وما معايير الاستفادة من القروض الخارجية؟ وهل يمكن أن تسهم في تحقيق التمويل الذاتي في المستقبل؟وفي الأخير إذا ظلت الدول العربية تقترض لشراء السلع الاستهلاكية الضرورية والإنفاق على شراء الأسلحة التي يبدو أنها في الأزمات والتحديات الكبرى لا تفتك بالعدو ولا تشكل حتى رادعا له -وما الأحداث الأخيرة في فلسطين عنا ببعيد- فإن الدول العربية ستظل في حاجة إلى الاستدانة الخارجية.
إعادة جدولة الديون الخارجية:
إعادة جدولة الديون الخارجية تحقق للدائن والمدين فوائد اقتصادية، فهي تضمن للدائن الحصول على أمواله يوما ما، وفي الوقت نفسه تعطي للمدين فترة تأجيل تتيح له إعادة ترتيب أوضاعه الاقتصادية والتجارية. لكن رغم ذلك فإن هذه العملية لا تخلو من شروط قاسية تؤثر في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للدول المدينة.
نتيجة العجز المزمن في الميزانيات العامة والموازين التجارية خاصة في الدول العربية غير النفطية، انخفضت القيمة التعادلية للعملات الوطنية وارتفع معدل الضغط الضريبي واتبعت سياسات تقشفية في شتى الميادين فتضررت جميع الفئات الاجتماعية، وهبط مستوى معيشة حوالي 160 مليون عربي ينتمون إلى دول تطبق برامج الإصلاح الاقتصادي المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي.
كانت الأقطار العربية تستدين بسبب حاجتها إلى الأموال فأصبحت أكثر فقرا بسبب ثقل ديونها، وبات من المستحيل سداد أصل وفوائد الديون الخارجية في المواعيد المحددة.
تأجيل سداد الديون وبهدف إعطاء نفس جديد لمالية الدول المدينة يقرر الدائنون منحها آجالا إضافية، ويطلق على هذه العملية اسم "إعادة جدولة الديون الخارجية" التي تقدم مكاسب لطرفي المعادلة. وتتحقق مكاسب الدائنين بحصولهم لاحقا على أموالهم بدلا من التوقف النهائي للدولة المدينة عن الدفع، في حين تتمثل مكاسب الدول المدينة باستغلال فترة التأجيل لترتيب أوضاعها المالية والتجارية، إذ عليها معالجة العجز المالي الذي يسبب اللجوء إلى التمويل الخارجي وتنمية صادراتها للحصول على الموارد المالية اللازمة لسداد ديونها المؤجلة.
بيد أن هذه العملية تخضع لشروط قاسية تؤثر بشدة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما أنها لا تتصدى لأزمة المديونية بل تؤجلها إلى وقت لاحق. لذلك تطالب البلدان النامية بإلغاء بعض التزاماتها المالية، لكن الإلغاء بالطريقة المتبعة حاليا لا يكفي لمعالجة الأزمة ناهيك عن ارتباطه بعوامل سياسية بحتة.
هبوط مؤشر الديون العربيةهبط مؤشرا حجم الديون وخدمتها في أغلب البلدان العربية. ولم يتمخض هذا الهبوط عن جهود داخلية ترتبط بالنمو الاقتصادي وتحسن الصادرات بقدر ما نجم عن امتيازات ممنوحة من قبل الدائنين قادت إلى تأجيل سداد أقساط وفوائد جزء من الديون وإلغاء جزء آخر منها. ورغم هذا الهبوط يسجل المؤشران نسبا عالية مقارنة بالكثير من البلدان النامية. وهذا يعني أن المديونية الخارجية العربية لا تزال تشكل أزمة حقيقية على الصعيدين المالي والاقتصادي.
في عام 2000 بلغ حجم الديون الخارجية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي أكثر من 50% في تونس والمغرب واليمن، وأكثر من 100% في السودان وسوريا وموريتانيا. ووصلت خدمة الديون قياسا بالصادرات إلى أكثر من 30% في الأردن وتونس والمغرب وإلى ضعف هذه النسبة في لبنان (1). ودفعت الدول العربية غير الخليجية 13758 مليون دولار لسداد ديونها، أي أكثر من 1.5 مليون دولار بالساعة. وفيما يلي نتعرض بالبحث للعناصر التالية:
كيفية إعادة الجدولة:
نجمت المديونية الخارجية العربية عن قروض عقدت خاصة مع الدول الأعضاء في نادي باريس الذي يضم 19 دولة صناعية تتمتع بالعضوية الدائمة في النادي، ويمكن للدول الدائنة الأخرى حضور اجتماعاته شريطة موافقة الأعضاء الدائمين والبلد المدين.
”لا يقبل نادي باريس إعادة جدولة ديون مستحقة لصندوق النقد والبنك الدوليين”
يختص نادي باريس بالنظر في الديون الرسمية والديون المضمونة رسميا، ولا ينظر في الديون القصيرة الأجل (أقل من سنة واحدة). أما الالتزامات الناجمة عن قروض ممنوحة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي فلا تقبل إطلاقا إعادة الجدولة. وعلى الدولة المدينة إذن سداد الديون المترتبة على هذه القروض في التواريخ المحددة مسبقا وإلا تردت علاقاتها مع المؤسستين الدوليتين، وعندئذ يتعذر على نادي باريس إعادة جدولة ديونها، وهذا ما حدث للسودان عندما عجز عن دفع ديونه المستحقة لصندوق النقد الدولي فتراكمت متأخرات السداد، وإثر ذلك جمدت حقوق البلد في الحصول على تسهيلات جديدة، ولم يبت بإعادة برمجة ديونه منذ عام 1984.
بعد أن يقدم البلد المدين طلبا بإعادة جدولة ديونه تتولى سكرتارية نادي باريس جمع المعلومات عن الحالة الاقتصادية لهذا البلد من سلطاته العامة ومن الدول والمؤسسات الدائنة. وتحتوي المعلومات على تحليل دقيق للوضع الاقتصادي والمالي وحجم الديون الخارجية وتقسيماتها حسب مصادرها وتواريخ استحقاقها، كما تتأكد السكرتارية من تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي، ثم يوجه رئيس النادي (مدير الخزينة الفرنسية) دعوة إلى ممثلي الدول الدائنة وممثل الدولة المدينة لحضور الاجتماعات التي يشارك فيها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بصفة مراقب. وبعد مفاوضات لا تستغرق أكثر من ثلاثة أيام يتخذ الدائنون قرارهم بتوافق آرائهم (2)، أي عدم معارضة أحد على ما تم التوصل إليه بينهم. ويتضمن هذا القرار الذي يعرض على ممثل الدولة المدينة للموافقة عليه تفاصيل إعادة جدولة الديون، لكن هذا الاتفاق هو في الواقع توصية تدعو حكومات الدول الدائنة إلى عقد اتفاقات ثنائية مع حكومة البلد المدين.
وليس من صلاحيات نادي باريس اتخاذ قرارات قانونية، والاتفاقات الثنائية وحدها ذات قيمة قانونية. فعلى سبيل المثال بعد أن قرر النادي في يوليو/ تموز 1995 إعادة برمجة 7320 مليون دولار من مديونية الجزائر لمدة 15 سنة مع فترة سماح لمدة أربع سنوات، عقدت الجزائر اتفاقات ثنائية مع الولايات المتحدة وكندا واليابان و14 دولة أوروبية. بطبيعة الحال يبرم كل اتفاق وفق الإجراءات الدستورية لكل بلد دائن، وعلى الصعيد العملي تعتمد هذه الاتفاقات على التوصيات، لذلك جرت العادة على تسمية قرارات النادي بالاتفاقات.
أنماط إعادة الجدولة:
تستند إعادة الجدولة على مبدأ كل حالة على حدة، والاتفاق الخاص بدولة معينة لا يسري على دولة أخرى حتى وإن تشابهت أحوالهما التجارية والمالية. والقرار المتخذ بشأن دين معين لا يسري على دين آخر لنفس الدولة، أضف إلى ذلك أن الدول العربية تختلف اختلافا كبيرا في ما بينها من حيث ثقل مديونيتها وأوضاعها الاقتصادية، كما لا يستخدم نادي باريس طريقة موحدة لإعادة الجدولة. وانطلاقا من هذه الاعتبارات بات من اللازم دراسة أنماط إعادة الجدولة المطبقة على البلدان العربية.
النمط الأول: البنود التقليدية
لا توجد قواعد ثابتة في هذا النمط، فالأمر متروك للدائنين، قد يقررون تأجيل الدين لمدة 15 سنة مع فترة سماح كما هو حال الاتفاق السابق الذكر مع الجزائر، وقد تكون المدة أقصر كما هو حال أول اتفاق عقد مع المغرب عام 1983 (تسع سنوات من دون فترة سماح).
وطبق هذا النمط على الدول النامية المدينة بما فيها الدول العربية منذ إنشاء نادي باريس وحتى النصف الأول من عام 1990، فجميع الاتفاقات مع السودان (1979 و1982 و1983 و1984) وأربعة اتفاقات مع المغرب (1983 و1985 و1987 و1988) واتفاق واحد مع الصومال (1985) تمت بموجب البنود التقليدية.
بينت الدراسات والتقارير أن هذه البنود غير ملائمة لمديونية البلدان الفقيرة بدليل ارتفاع خدمة ديونها ارتفاعا كبيرا في فترة قصيرة. وحسب صندوق النقد الدولي (3) انتقلت خدمة ديونها من 17% من الصادرات عام 1980 إلى 30% منها عام 1986. ولأسباب لا مجال لتفصيلها قرر مؤتمر قمة الدول السبع الكبرى المنعقد بتورنتو عام 1988 مبادئ جديدة لإعادة جدولة ديون تلك البلدان، عندئذ ظهرت أنماط أخرى وأصبحت البنود التقليدية تسري حاليا على الدول المدينة غير الفقيرة وفق تصنيفات البنك العالمي، وخضعت ديون الجزائر عام 1994 وعام 1995 لهذه البنود.
النمط الثاني: بنود هيوستن لعام 1990
الديون العادية تعاد جدولتها لمدة 15 سنة أو أكثر مع فترة سماح لمدة سنتين أو أكثر، وتحتسب الفوائد الجديدة حسب أسعار السوق.
المساعدات الرسمية للتنمية تعاد جدولتها لمدة 20 سنة مع فترة سماح لمدة 10 سنوات.
يجب ألا تزيد أسعار الفائدة الجديدة على أسعار الفائدة الأصلية.
يشترط لتطبيق هذه البنود ألا يزيد الدخل الفردي في الدولة المدينة على 2995 دولارا، ويتعين أن تكون مديونيتها مرتفعة، وجرت العادة في نادي باريس على اعتبار المديونية مرتفعة إن انطبق عليها معياران من المعايير الثلاثة التالية:
حجم المديونية يفوق 50% من الناتج المحلي الإجمالي.
حجم المديونية يزيد على 275% من الصادرات.
خدمة الديون تفوق 30% من الصادرات.
وتتضمن هذه البنود إمكانية تبديل الديون شريطة موافقة الدول الدائنة. ويمكن تبديل 20% من الديون العادية، في حين لا توجد نسبة محددة لتبديل المساعدات الرسمية للتنمية. ويتبدل الدين بعدة وسائل أهمها حصول الدولة الدائنة على سلع من الدولة المدينة مقابل قيمة الدين، كما يمكن تبديل عملة السداد من قابلة للتحويل إلى محلية. وفي أغلب الحالات تتنازل الدولة الدائنة عن حقوقها لصالح مستثمرين، ويقوم المستثمرون بمقايضة الدين مع الدولة المدينة بأسهم في شركات محلية أو بمبالغ نقدية بالعملة المحلية للبلد المدين تستخدم لإقامة مشاريع فيه.
حتى الربع الأول من عام 2002 تمت معاملة 16 دولة وفق هذه البنود، والأردن في طليعة البلدان العربية التي طبقت عليها بنود هيوستن، وتعتمد المالية الداخلية والخارجية لهذا البلد اعتمادا كبيرا على الإيرادات الخارجية نظرا لضعف الموارد الذاتية، وتتخذ هذه الإيرادات شكلين أساسيين:
أولهما: المساعدات الإنمائية بما فيها المنح المجانية المقررة من قبل بلدان الخليج والدول الغربية.
ثانيهما: تحويلات العمال الأردنيين المقيمين في الخارج.
فعلى سبيل المثال في النصف الثاني من الثمانينيات تراجعت المساعدات الخارجية وتحويلات الأردنيين لهبوط أسعار النفط الذي أثر بشدة في مالية دول الخليج. وقد انعكس هذا الأمر مباشرة على مقدرة الأردن على سداد ديونه الخارجية فاضطر إلى اللجوء لأول مرة إلى نادي باريس في يوليو/ تموز 1989.
كما تردى الوضع المالي للبلد مرة أخرى عقب حرب الخليج الثانية، فطلبت الحكومة إعادة جدولة ديونها مرة ثانية، لكن ترتيبات التفاوض كانت بطيئة جدا لأسباب سياسية ترتبط بموقف الأردن من هذه الحرب. ولم يوقع الاتفاق الثاني مع نادي باريس إلا في نهاية فبراير/ شباط 1992 إذ أعيدت جدولة 771 مليون دولار. وطبقت على هذين الاتفاقين البنود التقليدية، ثم عقدت ثلاثة اتفاقات أخرى حسب بنود هيوستن في يونيو/حزيران 1994 ومايو/أيار 1997 ومايو/أيار 1999 مع إمكانية تبديل الديون، وألغت الولايات المتحدة 696 مليون دولار من ديونها على الأردن البالغة 950 مليونا، وتم هذا الإلغاء على ثلاث مراحل: 190 مليونا عام 1994، و252 مليونا عام 1995، و254 مليونا عام 1996. وقررت بريطانيا وألمانيا إعفاءات أخرى. وفي النتيجة النهائية هبط الحجم الكلي للديون الخارجية الأردنية من 186% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1991 إلى 81% منه عام 2000. ويلاحظ أن عمليات الإلغاء تمت بعد معاهدة السلام مع إسرائيل.
النمط الثالث: بنود نابولي لعام 1994
تلغى الديون العادية بنسبة 67% كحد أقصى، وتعاد جدولة النسبة المتبقية لمدة 23 سنة مع فترة سماح لمدة ست سنوات بأسعار الفائدة السائدة في السوق.
إعادة جدولة المساعدات الرسمية للتنمية لمدة 40 سنة مع فترة سماح لمدة 16 سنة، ولا تزيد أسعار الفائدة الجديدة على أسعار الفائدة الأصلية.
يشترط ألا يزيد الدخل الفردي للبلد المدين على 755 دولارا، وتسري بنود هيوستن على إمكانية تبديل الدين.
عقدت بموجب بنود نابولي اتفاقات مع 32 دولة تعد من البلدان الأكثر فقرا، منها اتفاق واحد مع موريتانيا عام 1995، وجميع الاتفاقات مع اليمن عام 1996 و1997 و2001.
النمط الرابع: بنود كولونيا لعام 1999
الديون العادية تلغى بنسبة 90% فأكثر، وتعاد جدولة النسبة المتبقية حسب بنود نابولي.
المساعدات الرسمية للتنمية تعامل كما وردت في بنود نابولي.
يمكن تبديل الدين حسب بنود هيوستن، ويشترط أن تستجيب الدولة المدينة للشروط الواردة في بنود نابولي، كما يتعين أن يعتبرها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي من الدول الأكثر فقرا ذات المديونية المرتفعة. وقد وضعت هاتان المؤسستان الدوليتان قائمة بالبلدان المؤهلة للاستفادة من بنود كولونيا وعددها 41 دولة من بينها أربعة بلدان عربية سنذكرها لاحقا.
شروط إعادة الجدولة
لا يوافق نادي باريس على إعادة الجدولة إلا إذا استفحل العجز في ميزان مدفوعات الدولة المدينة أو ازدادت متأخرات ديونها، فهو يشترط إذن وجود حالة عسر شديد تعرقل الوفاء بالالتزامات المالية. وتبرم الاتفاقات بعد تطبيق البرنامج الإصلاحي الذي يقترحه صندوق النقد الدولي على الدولة المدينة، ويرمي هذا البرنامج إلى توازن الميزانية العامة والميزان التجاري لأن ضبط العجز المالي يحد من التضخم ومعالجة العجز التجاري تقود إلى تقليل الاعتماد على التمويل الخارجي. ولتحقيق ذلك يتناول البرنامج جميع أدوات السياسة المالية والاقتصادية المتعلقة بالمواضيع التالية:
التجارة الخارجية
العملة المحلية
النفقات العامة بمختلف صورها
كذلك الضرائب المباشرة وغير المباشرة
قوانين الاستثمارات.
مشكلة التطبيقلا شك أن هذه الأهداف ضرورية في جميع الحالات، إذ لا بد من سياسة مالية وتجارية سليمة حتى في حالة غياب أزمة المديونية الخارجية. لكن المشكلة تتعلق بأساليب تحقيقها، فقد أثبتت تجارب البلدان العربية التي لجأت إلى إعادة جدولة ديونها أن برامج الإصلاح الاقتصادي قادت إلى نتائج اجتماعية واقتصادية سيئة، فمن أجل معالجة العجز المالي تنصل القطاع العام عن دوره في إحداث فرص جديدة للعمل رغم استفحال البطالة وتقلص الدعم الحكومي للسلع الاستهلاكية الضرورية للمعيشة وازدادت الضرائب المباشرة وغير المباشرة.
ومن الزاوية التجارية اعتمدت الإصلاحات بموجب تلك البرامج على تخفيض قيمة العملة الوطنية. ويرى صندوق النقد الدولي أن التخفيض يقود إلى تشجيع الاستثمارات الأجنبية وتحويلات العمال المغتربين، وكذلك إلى معالجة عجز الميزان التجاري وبالتالي إلى تقليص التمويل الخارجي فتخف أزمة المديونية. أما الدول المعنية فترى أن هذه العملية النقدية تمس أصحاب الدخول المنخفضة وتحدث ردود فعل داخلية قد تكون عنيفة، كما أنها غير فاعلة في تحسين الأوضاع التجارية.
فعلى سبيل المثال طلب صندوق النقد الدولي من الحكومة الجزائرية عام 1992 (قبل إعادة الجدولة بسنتين) تخفيض قيمة الدينار بنسبة 50%. رفضت الحكومة في ذلك الحين هذا الطلب إذ لم تجد حكمة من تخفيض القيمة التعادلية للدينار، لأن الصادرات تقتصر على النفط والغاز الطبيعي، أي على مواد يجري تسعيرها في السوق العالمية بالدولار لا بالدينار. لكن الخلافات بين صندوق النقد الدولي والدول المدينة تنتهي بترجيح وجهات نظر الصندوق حتى وإن كانت غير سليمة، لأن نادي باريس لا ينظر أساسا في طلبات إعادة الجدولة إلا بعد موافقة صندوق النقد الدولي، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلا بد من الاستمرار ببرامج الإصلاح قبل وطيلة فترة الاتفاق على إعادة الجدولة، ففي المغرب مثلا البرامج مطبقة منذ عشرين سنة.
خطورة إعادة الجدولة
ترتكز برامج صندوق النقد الدولي على تقليص النفقات وزيادة الإيرادات دون أن تعطي أهمية مماثلة لتحسين الصادرات وهي الطريق الطبيعية لخدمة الديون الخارجية، فزيادة الصادرات تتطلب المزيد من رؤوس الأموال الأجنبية والقروض الخارجية.
ولما كانت مالية الدولة المدينة في حالة عسر شديد فإن المستثمرين والمقرضين يترددون كثيرا بل ويرفضون الاستثمار والإقراض. لا تساعد تلك البرامج إذن على سداد الديون بقدر ما تحاول منع اللجوء إلى الاقتراض مجددا، وهكذا هبطت التدفقات الخارجية المتأتية من القروض فأصبحت التحويلات الصافية سلبية في الأقطار العربية.
نتائج برامج إعادة الجدولةحسب الدراسات (4) لم تقد برامج الصندوق إلى تخفيف حدة المديونية بل أدت إلى العكس تماما، ففي 36 دولة نامية طبقت فيها هذه البرامج انتقل ثقل مديونيتها الخارجية قياسا بالناتج المحلي الإجمالي من 82% في منتصف الثمانينيات إلى 154% في منتصف التسعينيات. أما في الدول النامية المدينة التي لم تطبق هذه البرامج فقد انتقل ثقل المديونية من 56% إلى 76% فقط في الفترة نفسها.
”إعادة جدولة مبلغ معين لمدة 15 سنة يقود إلى دفع ضعف هذا المبلغ على الأقل في نهاية الفترة”
تقود إعادة الجدولة إلى ارتفاع كلفة الدين، فعندما يؤجل مبلغ معين لمدة محددة، على الدولة أن تدفع فوائد إضافية عند حلول مواعيد استحقاق الديون المؤجلة إذ تسري الفوائد طوال فترة التأجيل. ودون الدخول في التفاصيل الفنية فإن إعادة جدولة مبلغ معين لمدة 15 سنة تقود إلى دفع ضعف هذا المبلغ على الأقل في نهاية هذه المدة، ناهيك عن أن الدولة المدينة لا تستطيع أن تقدر بدقة المبلغ الذي ستدفعه فعلا في فترة التأجيل، لأن أسعار الفائدة قد تكون معومة أي غير محددة مقدما لارتباطها بأحوال السوق، فعلى سبيل المثال فإن 35% من القروض الخارجية التونسية عقدت بأسعار معومة. واضطرت الدول المدينة إلى التفاوض بشأن تأجيل ديونها مما أدى إلى تراكمها وارتفاع الفوائد وكذلك إلى اتباع سياسات تقشفية في مختلف الميادين، وبالتالي انقلبت الحلول إلى مشاكل إضافية ودخلت البلدان المدينة في حلقة مفرغة.
لا بد للدول المثقلة بالديون من مراجعة سياساتها بدلا من الاعتماد على الدائنين، ففي أغلب الدول العربية هنالك مجالات واسعة لتنمية الصادرات وتقليص النفقات خاصة المصروفات العسكرية.
عصا الديمقراطية في الأصل يسعى نادي باريس إلى التخفيف من وطأة الديون بغض النظر عن أنظمة حكم البلدان المدينة، ولكن ظهرت منذ نهاية الثمانينيات فكرة ربط منح الموارد المالية (القروض والمساعدات والهبات والاستثمارات المباشرة) بالديمقراطية.
في أغلب الأحيان اعتمد مفهوم الديمقراطية هذا على مدى ملاءمة أنظمة الحكم في البلدان النامية مع التطلعات السياسية والمصالح الاقتصادية للدول المانحة، ولم يعد ينظر إلى المشاكل الحقيقية كالفقر والبطالة واختلال الموازين الداخلية والخارجية، وقد انعكس هذا التطور مباشرة على نادي باريس فراح يلغي ديون بعض الدول ويعيد جدولة ديون دول أخرى بشروط مختلفة أو يرفض القيام بهذا أو ذاك.
يهتم نادي باريس بمصالح الدول الدائنة، وجميع أنماط إعادة الجدولة نابعة عن قرارات اتخذتها مؤتمرات قمة الدول السبع الكبرى، لذلك يقترح البعض (5) الاستعاضة عن النادي بهيئة دولية تعبر عن تطلعات البلدان الدائنة والمدينة وتشرف عليها منظمة الأمم المتحدة.
إلغاء الديون الخارجية
الإلغاء يحذف الدين، في حين تقتصر إعادة الجدولة حسب البنود التقليدية على تغيير تواريخ الاستحقاق. وحتى عام 1988 كانت الدول الغربية الدائنة ممثلة بنادي باريس تعارض بشدة هذه الفكرة مكتفية بإعادة الجدولة وفق البنود التقليدية، واتخذ المدافعون عن قضايا العالم الثالث مواقف تتأرجح بين زيادة المساعدات الرسمية للتنمية وإلغاء الديون.
ولما كانت القروض العسكرية تنسجم مع مصالح الدول المانحة، بات من اللازم إلغاء جميع الديون الناجمة عنها بغض النظر عن المستوى الاقتصادي للدول المدينة. أما الديون المدنية المخصصة للتنمية فيتعين إلغاء نسبة منها تتناسب مع درجة النمو، خاصة إن لم يسهم هذا النوع من القروض في تحسين الصادرات الكفيلة بسداد الدين، وفي الوقت الحاضر يتم الإلغاء على أسس مختلفة تماما تثير المخاوف وتخلق جوا غير مريح.
لاحظنا أن نسبة إلغاء الديون تصل حسب بنود كولونيا إلى أكثر من 90% من حجم الديون الخارجية، ولكن ما هي الدول المستفيدة من هذه البنود وكيف تحسب هذه النسبة؟
كما ذكرنا فإن صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وضعا قائمة بأسماء الدول المؤهلة للاستفادة من بنود كولونيا من بينها أربعة بلدان عربية هي موريتانيا واليمن والسودان والصومال. وعلى الصعيد العملي عقد اتفاق واحد مع موريتانيا عام 2000 تناول ديون بلغ حجمها 99 مليون دولار. أما الاتفاق المبرم مع اليمن عام 2001 فقد استند إلى بنود نابولي لا إلى بنود كولونيا. ولم يستطع السودان منذ عام 1984 والصومال منذ عام 1987 التفاوض مع نادي باريس وبالتالي لم تتم إعادة جدولة ديونهما رغم تفاقم أزماتهما المالية.
مشكلة حصر بنود كولونياإن حصر تطبيق بنود كولونيا في الدول ذات الدخل الفردي المنخفض لن يعالج أزمة المديونية ومشكلة الفقر، فعلى افتراض إلغاء جميع ديون هذه البلدان العربية الأربعة سوف يتم حذف 25 مليار دولار، أي أقل من 8% من المديونية العربية الكلية، ناهيك عن أن غالبية الفقراء يقيمون في البلدان العربية الأخرى، وتصح هذه الملاحظة على المستوى العالمي أيضا. هنالك دول مثقلة بالديون الخارجية (كالهند وباكستان وبنغلاديش وإندونيسيا ونيجيريا والمكسيك والبرازيل) غير مشمولة في تلك القائمة علما بأن 80% من فقراء العالم يعيشون فيها (6).
الإلغاء على أصل الدينالإلغاء لا يسري إلا على قيمة الديون قبل إعادة جدولتها لأول مرة، ونأخذ مثالا لذلك السودان، ففي عام 1979 (تاريخ أول اتفاق مع نادي باريس) بلغ الحجم الكلي للديون الخارجية 3802 مليون دولار، في تلك الفترة لم تكن الديون المستحقة لأعضاء نادي باريس تشكل سوى 21% من الحجم الكلي، أي حوالي 800 مليون دولار، أما الديون الأخرى فقد نجمت عن قروض عقدت مع الأقطار العربية وبلدان الكتلة الشرقية وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمؤسسات المصرفية (7).
مثال السودانإذا افترضنا أن الدول الغربية قررت عام 2002 إلغاء 90% من ديون السودان فإن هذه النسبة لا تسري على حجم الديون لعام 2002 بل على حجمها لعام 1979، وفي ما يخص الديون المستحقة لأعضاء نادي باريس فقط، وهكذا تطبق نسبة 90% على 800 مليون دولار فيكون مبلغ الإلغاء 720 مليون دولار. والحقيقة أنه قد ارتفعت ديون السودان في هذه الفترة بسبب الحرب الأهلية وتراكم المتأخرات وضعف الصادرات في عام 2002 مما جعل ديونه الخارجية تتجاوز 20530 مليون دولار ليحصل هذا البلد في نهاية المطاف على إلغاء بنسبة تقل عن 4% من مجموع ديونه (العلاقة بين 20530 و720 مليون دولار).
دور العوامل السياسية في إلغاء الديونبطبيعة الحال ما قيل عن السودان ينطبق أيضا على البلدان المدينة الأخرى، لكن إلغاء الديون قد يتجاوز إلى حد كبير بنود كولونيا عندما تتدخل عوامل سياسية، ومنذ إنشاء نادي باريس وحتى الآن لم تحصل أي دولة في العالم على تسهيلات أكثر من تلك التي منحت لبولونيا ومصر، وقد أكد البيان الاقتصادي الختامي لمؤتمر الدول السبع الكبرى المنعقد بلندن في يوليو/ تموز 1991 على الطابع الاستثنائي لهذه التسهيلات. وهذه إشارة واضحة موجهة للبلدان النامية المثقلة بديونها إلى عدم إمكانية حصولها على معاملة مماثلة (8).
في مايو/ أيار 1991 تقرر إلغاء 50% من ديون مصر الخارجية المستحقة لدول نادي باريس. فعلى سبيل المثال (9) تنازلت الولايات المتحدة عن ديونها العسكرية البالغة 7.1 مليارات دولار، كما حصلت مصر على امتيازات من دول غير أعضاء في النادي حيث قررت دول الخليج حذف 6.2 مليارات دولار من المديونية المصرية.
وحسب وجهة نظر الحكومة المصرية فإنه لا بد من هذا الإجراء لأن الدولة تحملت خسارة بمبلغ 20 مليار دولار بسبب أزمة الخليج التي أدت إلى انكماش الصادرات وانخفاض تحويلات العمال المغتربين نظرا لعودة 600 ألف شخص منهم إلى بلدهم.
ومما لا شك فيه أن مصر تعاني من مشاكل مالية واقتصادية كثيرة وأن إلغاء بعض الديون يساعد على خلق مناخ مناسب للتنمية، ولكن يجب ألا يتم ربط هذا الإلغاء بخسارة غير موجودة أساسا. فلم نجد في الإحصاءات العربية والدولية ما يدل على تلك الخسارة، بل بالعكس تماما (10) لقد تحسن مركز ميزان المدفوعات بسبب الأزمة، فارتفعت الصادرات الكلية من 2853 مليون دولار عام 1989 إلى 3605 ملايين عام 1990 وإلى 3857 مليونا عام 1991 (11)، ونجمت هذه الزيادة عن ارتفاع أسعار النفط في الفترة الواقعة بين أغسطس/ آب 1990 وفبراير/ شباط 1991 فانتقل صافي عوائد الصادرات النفطية من 1019 مليونا عام 1989 إلى 1396 مليونا عام 1990 (12). كما تغير كليا مركز الميزان التجاري الذي يشمل الميزان التجاري وتحويلات العمال المغتربين إذ سجل فائضا بمبلغ 209 ملايين عام 1990 وبمبلغ 2274 مليونا عام 1991 بعد أن كان يعاني من عجز طيلة السنوات. لم يحدث مثل هذا التحسن في أي دولة عربية أخرى. وشهدت المساعدات الإنمائية الخارجية زيادة هائلة مباشرة بعد أزمة الخليج، فقد ارتفعت من 1569 مليونا عام 1989 إلى 5446 مليونا عام 1990 أي بزيادة قدرها 247% (13)، ولا توجد دولة أخرى سجلت مثل هذه الزيادة الكبيرة.
قاد الإلغاء إلى تخفيف عبء الديون المصرية حيث انتقل حجمها من 51696 مليون دولار عام 1989 إلى 28179 مليونا عام 1997 أي ما يعادل على التوالي 159% و37% من الناتج المحلي الإجمالي. كما هبطت خدمة الديون في هذه الفترة من 2739 مليونا إلى 1366 مليونا أي 83% و25% من قيمة الصادرات. لهذا السبب ارتفع حجم الاحتياطيات الرسمية للبنك المركزي من 1520 مليونا إلى 18667 مليونا. لم تكن هذه الامتيازات تستند إلى اعتبارات اقتصادية بل كانت ثمنا لدور الحكومة المصرية في تحسين العلاقات العربية مع إسرائيل ولوقوفها إلى جانب القوى المتحالفة ضد العراق إبان أزمة الخليج الثانية.
أهداف حقيقية
انطلاقا من حالات إلغاء ديون البلدان العربية وغير العربية نستنتج أن الدول الصناعية الكبرى تسعى إلى استفحال المديونية الخارجية لهذه البلدان بطرق عديدة، منها بيع الأسلحة وتمويل مشاريع غير إنتاجية، ثم يجري إلغاء قسط من الديون يتناسب حجمه مع المكاسب السياسية والاقتصادية للدول الدائنة، فلو كانت هذه الدول حريصة فعلا على سلامة مالية البلدان المدينة وعلى مستوى معيشة مواطنيها لبذلت الجهود في سبيل إزالة العقبات أمام صادرات البلدان المدينة، خاصة أن التنظيم التجاري العالمي الجديد يدعو إلى ذلك، وعندئذ ترتفع مقدرة هذه البلدان على مواجهة أزمتها المالية، وهكذا تتخلص من برامج صندوق النقد الدولي وتنتفي الحكمة من إعادة الجدولة والإلغاء، وتصبح العلاقات الاقتصادية الدولية مبنية على أسس سليمة.
الخاتمة بالنظر لتفاقم أزمة المديونية الخارجية لجأت البلدان العربية أكثر من ثلاثين مرة إلى نادي باريس لإعادة برمجة التزاماتها المالية ناهيك عن الاتفاقات العديدة المبرمة مع نادي لندن وتلك التي عقدت خارج إطار هذين الناديين. وقد مُنحت أقطار عربية امتيازات مالية مهمة تصل إلى إلغاء بعض ديونها، ولم تحصل أقطار أخرى حتى على فترة سماح كافية. تباينت هذه المعاملة نتيجة تدخل عوامل سياسية وعدم الاعتماد على الاعتبارات المالية والمؤشرات الاقتصادية. لكن إعادة الجدولة لن تقود إلى معالجة المديونية العربية على المدى الطويل لأنها كقاعدة عامة تقتصر على تأجيل السداد، كما تستوجب تطبيق برامج مقترحة من قبل صندوق النقد الدولي تؤثر بصورة سيئة في معيشة المواطنين.لذا فقد بات من اللازم مواجهة السبب الأساسي لأزمة المديونية العربية المتمثل بحدة التوترات السياسية التي تتطلب تخصيص مبالغ طائلة للإنفاق العسكري، والعمل على تقليص هذا الإنفاق سوف يقود إلى ارتفاع معدلات الاستثمار والإنتاج والاستهلاك وإلى تحسن العلاقات التجارية العربية الخارجية والبينية وبالتالي إلى زيادة المقدرة المالية لخدمة الديون دون حاجة لإعادة جدولتها.
آفاق المستقبل
كيف يمكن للعالم العربي أن يتخفف من ديونه تمهيدا للتخلص منها نهائيا؟ هذا ما تحاول هذه الدراسة الإجابة عليه وفق ثلاثة مبادئ أساسية:
1- أن تكون هذه الحلول ممكنة التطبيق.
وطبق هذا النمط على الدول النامية المدينة بما فيها الدول العربية منذ إنشاء نادي باريس وحتى النصف الأول من عام 1990، فجميع الاتفاقات مع السودان (1979 و1982 و1983 و1984) وأربعة اتفاقات مع المغرب (1983 و1985 و1987 و1988) واتفاق واحد مع الصومال (1985) تمت بموجب البنود التقليدية.
بينت الدراسات والتقارير أن هذه البنود غير ملائمة لمديونية البلدان الفقيرة بدليل ارتفاع خدمة ديونها ارتفاعا كبيرا في فترة قصيرة. وحسب صندوق النقد الدولي (3) انتقلت خدمة ديونها من 17% من الصادرات عام 1980 إلى 30% منها عام 1986. ولأسباب لا مجال لتفصيلها قرر مؤتمر قمة الدول السبع الكبرى المنعقد بتورنتو عام 1988 مبادئ جديدة لإعادة جدولة ديون تلك البلدان، عندئذ ظهرت أنماط أخرى وأصبحت البنود التقليدية تسري حاليا على الدول المدينة غير الفقيرة وفق تصنيفات البنك العالمي، وخضعت ديون الجزائر عام 1994 وعام 1995 لهذه البنود.
النمط الثاني: بنود هيوستن لعام 1990
الديون العادية تعاد جدولتها لمدة 15 سنة أو أكثر مع فترة سماح لمدة سنتين أو أكثر، وتحتسب الفوائد الجديدة حسب أسعار السوق.
المساعدات الرسمية للتنمية تعاد جدولتها لمدة 20 سنة مع فترة سماح لمدة 10 سنوات.
يجب ألا تزيد أسعار الفائدة الجديدة على أسعار الفائدة الأصلية.
يشترط لتطبيق هذه البنود ألا يزيد الدخل الفردي في الدولة المدينة على 2995 دولارا، ويتعين أن تكون مديونيتها مرتفعة، وجرت العادة في نادي باريس على اعتبار المديونية مرتفعة إن انطبق عليها معياران من المعايير الثلاثة التالية:
حجم المديونية يفوق 50% من الناتج المحلي الإجمالي.
حجم المديونية يزيد على 275% من الصادرات.
خدمة الديون تفوق 30% من الصادرات.
وتتضمن هذه البنود إمكانية تبديل الديون شريطة موافقة الدول الدائنة. ويمكن تبديل 20% من الديون العادية، في حين لا توجد نسبة محددة لتبديل المساعدات الرسمية للتنمية. ويتبدل الدين بعدة وسائل أهمها حصول الدولة الدائنة على سلع من الدولة المدينة مقابل قيمة الدين، كما يمكن تبديل عملة السداد من قابلة للتحويل إلى محلية. وفي أغلب الحالات تتنازل الدولة الدائنة عن حقوقها لصالح مستثمرين، ويقوم المستثمرون بمقايضة الدين مع الدولة المدينة بأسهم في شركات محلية أو بمبالغ نقدية بالعملة المحلية للبلد المدين تستخدم لإقامة مشاريع فيه.
حتى الربع الأول من عام 2002 تمت معاملة 16 دولة وفق هذه البنود، والأردن في طليعة البلدان العربية التي طبقت عليها بنود هيوستن، وتعتمد المالية الداخلية والخارجية لهذا البلد اعتمادا كبيرا على الإيرادات الخارجية نظرا لضعف الموارد الذاتية، وتتخذ هذه الإيرادات شكلين أساسيين:
أولهما: المساعدات الإنمائية بما فيها المنح المجانية المقررة من قبل بلدان الخليج والدول الغربية.
ثانيهما: تحويلات العمال الأردنيين المقيمين في الخارج.
فعلى سبيل المثال في النصف الثاني من الثمانينيات تراجعت المساعدات الخارجية وتحويلات الأردنيين لهبوط أسعار النفط الذي أثر بشدة في مالية دول الخليج. وقد انعكس هذا الأمر مباشرة على مقدرة الأردن على سداد ديونه الخارجية فاضطر إلى اللجوء لأول مرة إلى نادي باريس في يوليو/ تموز 1989.
كما تردى الوضع المالي للبلد مرة أخرى عقب حرب الخليج الثانية، فطلبت الحكومة إعادة جدولة ديونها مرة ثانية، لكن ترتيبات التفاوض كانت بطيئة جدا لأسباب سياسية ترتبط بموقف الأردن من هذه الحرب. ولم يوقع الاتفاق الثاني مع نادي باريس إلا في نهاية فبراير/ شباط 1992 إذ أعيدت جدولة 771 مليون دولار. وطبقت على هذين الاتفاقين البنود التقليدية، ثم عقدت ثلاثة اتفاقات أخرى حسب بنود هيوستن في يونيو/حزيران 1994 ومايو/أيار 1997 ومايو/أيار 1999 مع إمكانية تبديل الديون، وألغت الولايات المتحدة 696 مليون دولار من ديونها على الأردن البالغة 950 مليونا، وتم هذا الإلغاء على ثلاث مراحل: 190 مليونا عام 1994، و252 مليونا عام 1995، و254 مليونا عام 1996. وقررت بريطانيا وألمانيا إعفاءات أخرى. وفي النتيجة النهائية هبط الحجم الكلي للديون الخارجية الأردنية من 186% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1991 إلى 81% منه عام 2000. ويلاحظ أن عمليات الإلغاء تمت بعد معاهدة السلام مع إسرائيل.
النمط الثالث: بنود نابولي لعام 1994
تلغى الديون العادية بنسبة 67% كحد أقصى، وتعاد جدولة النسبة المتبقية لمدة 23 سنة مع فترة سماح لمدة ست سنوات بأسعار الفائدة السائدة في السوق.
إعادة جدولة المساعدات الرسمية للتنمية لمدة 40 سنة مع فترة سماح لمدة 16 سنة، ولا تزيد أسعار الفائدة الجديدة على أسعار الفائدة الأصلية.
يشترط ألا يزيد الدخل الفردي للبلد المدين على 755 دولارا، وتسري بنود هيوستن على إمكانية تبديل الدين.
عقدت بموجب بنود نابولي اتفاقات مع 32 دولة تعد من البلدان الأكثر فقرا، منها اتفاق واحد مع موريتانيا عام 1995، وجميع الاتفاقات مع اليمن عام 1996 و1997 و2001.
النمط الرابع: بنود كولونيا لعام 1999
الديون العادية تلغى بنسبة 90% فأكثر، وتعاد جدولة النسبة المتبقية حسب بنود نابولي.
المساعدات الرسمية للتنمية تعامل كما وردت في بنود نابولي.
يمكن تبديل الدين حسب بنود هيوستن، ويشترط أن تستجيب الدولة المدينة للشروط الواردة في بنود نابولي، كما يتعين أن يعتبرها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي من الدول الأكثر فقرا ذات المديونية المرتفعة. وقد وضعت هاتان المؤسستان الدوليتان قائمة بالبلدان المؤهلة للاستفادة من بنود كولونيا وعددها 41 دولة من بينها أربعة بلدان عربية سنذكرها لاحقا.
شروط إعادة الجدولة
لا يوافق نادي باريس على إعادة الجدولة إلا إذا استفحل العجز في ميزان مدفوعات الدولة المدينة أو ازدادت متأخرات ديونها، فهو يشترط إذن وجود حالة عسر شديد تعرقل الوفاء بالالتزامات المالية. وتبرم الاتفاقات بعد تطبيق البرنامج الإصلاحي الذي يقترحه صندوق النقد الدولي على الدولة المدينة، ويرمي هذا البرنامج إلى توازن الميزانية العامة والميزان التجاري لأن ضبط العجز المالي يحد من التضخم ومعالجة العجز التجاري تقود إلى تقليل الاعتماد على التمويل الخارجي. ولتحقيق ذلك يتناول البرنامج جميع أدوات السياسة المالية والاقتصادية المتعلقة بالمواضيع التالية:
التجارة الخارجية
العملة المحلية
النفقات العامة بمختلف صورها
كذلك الضرائب المباشرة وغير المباشرة
قوانين الاستثمارات.
مشكلة التطبيقلا شك أن هذه الأهداف ضرورية في جميع الحالات، إذ لا بد من سياسة مالية وتجارية سليمة حتى في حالة غياب أزمة المديونية الخارجية. لكن المشكلة تتعلق بأساليب تحقيقها، فقد أثبتت تجارب البلدان العربية التي لجأت إلى إعادة جدولة ديونها أن برامج الإصلاح الاقتصادي قادت إلى نتائج اجتماعية واقتصادية سيئة، فمن أجل معالجة العجز المالي تنصل القطاع العام عن دوره في إحداث فرص جديدة للعمل رغم استفحال البطالة وتقلص الدعم الحكومي للسلع الاستهلاكية الضرورية للمعيشة وازدادت الضرائب المباشرة وغير المباشرة.
ومن الزاوية التجارية اعتمدت الإصلاحات بموجب تلك البرامج على تخفيض قيمة العملة الوطنية. ويرى صندوق النقد الدولي أن التخفيض يقود إلى تشجيع الاستثمارات الأجنبية وتحويلات العمال المغتربين، وكذلك إلى معالجة عجز الميزان التجاري وبالتالي إلى تقليص التمويل الخارجي فتخف أزمة المديونية. أما الدول المعنية فترى أن هذه العملية النقدية تمس أصحاب الدخول المنخفضة وتحدث ردود فعل داخلية قد تكون عنيفة، كما أنها غير فاعلة في تحسين الأوضاع التجارية.
فعلى سبيل المثال طلب صندوق النقد الدولي من الحكومة الجزائرية عام 1992 (قبل إعادة الجدولة بسنتين) تخفيض قيمة الدينار بنسبة 50%. رفضت الحكومة في ذلك الحين هذا الطلب إذ لم تجد حكمة من تخفيض القيمة التعادلية للدينار، لأن الصادرات تقتصر على النفط والغاز الطبيعي، أي على مواد يجري تسعيرها في السوق العالمية بالدولار لا بالدينار. لكن الخلافات بين صندوق النقد الدولي والدول المدينة تنتهي بترجيح وجهات نظر الصندوق حتى وإن كانت غير سليمة، لأن نادي باريس لا ينظر أساسا في طلبات إعادة الجدولة إلا بعد موافقة صندوق النقد الدولي، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلا بد من الاستمرار ببرامج الإصلاح قبل وطيلة فترة الاتفاق على إعادة الجدولة، ففي المغرب مثلا البرامج مطبقة منذ عشرين سنة.
خطورة إعادة الجدولة
ترتكز برامج صندوق النقد الدولي على تقليص النفقات وزيادة الإيرادات دون أن تعطي أهمية مماثلة لتحسين الصادرات وهي الطريق الطبيعية لخدمة الديون الخارجية، فزيادة الصادرات تتطلب المزيد من رؤوس الأموال الأجنبية والقروض الخارجية.
ولما كانت مالية الدولة المدينة في حالة عسر شديد فإن المستثمرين والمقرضين يترددون كثيرا بل ويرفضون الاستثمار والإقراض. لا تساعد تلك البرامج إذن على سداد الديون بقدر ما تحاول منع اللجوء إلى الاقتراض مجددا، وهكذا هبطت التدفقات الخارجية المتأتية من القروض فأصبحت التحويلات الصافية سلبية في الأقطار العربية.
نتائج برامج إعادة الجدولةحسب الدراسات (4) لم تقد برامج الصندوق إلى تخفيف حدة المديونية بل أدت إلى العكس تماما، ففي 36 دولة نامية طبقت فيها هذه البرامج انتقل ثقل مديونيتها الخارجية قياسا بالناتج المحلي الإجمالي من 82% في منتصف الثمانينيات إلى 154% في منتصف التسعينيات. أما في الدول النامية المدينة التي لم تطبق هذه البرامج فقد انتقل ثقل المديونية من 56% إلى 76% فقط في الفترة نفسها.
”إعادة جدولة مبلغ معين لمدة 15 سنة يقود إلى دفع ضعف هذا المبلغ على الأقل في نهاية الفترة”
تقود إعادة الجدولة إلى ارتفاع كلفة الدين، فعندما يؤجل مبلغ معين لمدة محددة، على الدولة أن تدفع فوائد إضافية عند حلول مواعيد استحقاق الديون المؤجلة إذ تسري الفوائد طوال فترة التأجيل. ودون الدخول في التفاصيل الفنية فإن إعادة جدولة مبلغ معين لمدة 15 سنة تقود إلى دفع ضعف هذا المبلغ على الأقل في نهاية هذه المدة، ناهيك عن أن الدولة المدينة لا تستطيع أن تقدر بدقة المبلغ الذي ستدفعه فعلا في فترة التأجيل، لأن أسعار الفائدة قد تكون معومة أي غير محددة مقدما لارتباطها بأحوال السوق، فعلى سبيل المثال فإن 35% من القروض الخارجية التونسية عقدت بأسعار معومة. واضطرت الدول المدينة إلى التفاوض بشأن تأجيل ديونها مما أدى إلى تراكمها وارتفاع الفوائد وكذلك إلى اتباع سياسات تقشفية في مختلف الميادين، وبالتالي انقلبت الحلول إلى مشاكل إضافية ودخلت البلدان المدينة في حلقة مفرغة.
لا بد للدول المثقلة بالديون من مراجعة سياساتها بدلا من الاعتماد على الدائنين، ففي أغلب الدول العربية هنالك مجالات واسعة لتنمية الصادرات وتقليص النفقات خاصة المصروفات العسكرية.
عصا الديمقراطية في الأصل يسعى نادي باريس إلى التخفيف من وطأة الديون بغض النظر عن أنظمة حكم البلدان المدينة، ولكن ظهرت منذ نهاية الثمانينيات فكرة ربط منح الموارد المالية (القروض والمساعدات والهبات والاستثمارات المباشرة) بالديمقراطية.
في أغلب الأحيان اعتمد مفهوم الديمقراطية هذا على مدى ملاءمة أنظمة الحكم في البلدان النامية مع التطلعات السياسية والمصالح الاقتصادية للدول المانحة، ولم يعد ينظر إلى المشاكل الحقيقية كالفقر والبطالة واختلال الموازين الداخلية والخارجية، وقد انعكس هذا التطور مباشرة على نادي باريس فراح يلغي ديون بعض الدول ويعيد جدولة ديون دول أخرى بشروط مختلفة أو يرفض القيام بهذا أو ذاك.
يهتم نادي باريس بمصالح الدول الدائنة، وجميع أنماط إعادة الجدولة نابعة عن قرارات اتخذتها مؤتمرات قمة الدول السبع الكبرى، لذلك يقترح البعض (5) الاستعاضة عن النادي بهيئة دولية تعبر عن تطلعات البلدان الدائنة والمدينة وتشرف عليها منظمة الأمم المتحدة.
إلغاء الديون الخارجية
الإلغاء يحذف الدين، في حين تقتصر إعادة الجدولة حسب البنود التقليدية على تغيير تواريخ الاستحقاق. وحتى عام 1988 كانت الدول الغربية الدائنة ممثلة بنادي باريس تعارض بشدة هذه الفكرة مكتفية بإعادة الجدولة وفق البنود التقليدية، واتخذ المدافعون عن قضايا العالم الثالث مواقف تتأرجح بين زيادة المساعدات الرسمية للتنمية وإلغاء الديون.
ولما كانت القروض العسكرية تنسجم مع مصالح الدول المانحة، بات من اللازم إلغاء جميع الديون الناجمة عنها بغض النظر عن المستوى الاقتصادي للدول المدينة. أما الديون المدنية المخصصة للتنمية فيتعين إلغاء نسبة منها تتناسب مع درجة النمو، خاصة إن لم يسهم هذا النوع من القروض في تحسين الصادرات الكفيلة بسداد الدين، وفي الوقت الحاضر يتم الإلغاء على أسس مختلفة تماما تثير المخاوف وتخلق جوا غير مريح.
لاحظنا أن نسبة إلغاء الديون تصل حسب بنود كولونيا إلى أكثر من 90% من حجم الديون الخارجية، ولكن ما هي الدول المستفيدة من هذه البنود وكيف تحسب هذه النسبة؟
كما ذكرنا فإن صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وضعا قائمة بأسماء الدول المؤهلة للاستفادة من بنود كولونيا من بينها أربعة بلدان عربية هي موريتانيا واليمن والسودان والصومال. وعلى الصعيد العملي عقد اتفاق واحد مع موريتانيا عام 2000 تناول ديون بلغ حجمها 99 مليون دولار. أما الاتفاق المبرم مع اليمن عام 2001 فقد استند إلى بنود نابولي لا إلى بنود كولونيا. ولم يستطع السودان منذ عام 1984 والصومال منذ عام 1987 التفاوض مع نادي باريس وبالتالي لم تتم إعادة جدولة ديونهما رغم تفاقم أزماتهما المالية.
مشكلة حصر بنود كولونياإن حصر تطبيق بنود كولونيا في الدول ذات الدخل الفردي المنخفض لن يعالج أزمة المديونية ومشكلة الفقر، فعلى افتراض إلغاء جميع ديون هذه البلدان العربية الأربعة سوف يتم حذف 25 مليار دولار، أي أقل من 8% من المديونية العربية الكلية، ناهيك عن أن غالبية الفقراء يقيمون في البلدان العربية الأخرى، وتصح هذه الملاحظة على المستوى العالمي أيضا. هنالك دول مثقلة بالديون الخارجية (كالهند وباكستان وبنغلاديش وإندونيسيا ونيجيريا والمكسيك والبرازيل) غير مشمولة في تلك القائمة علما بأن 80% من فقراء العالم يعيشون فيها (6).
الإلغاء على أصل الدينالإلغاء لا يسري إلا على قيمة الديون قبل إعادة جدولتها لأول مرة، ونأخذ مثالا لذلك السودان، ففي عام 1979 (تاريخ أول اتفاق مع نادي باريس) بلغ الحجم الكلي للديون الخارجية 3802 مليون دولار، في تلك الفترة لم تكن الديون المستحقة لأعضاء نادي باريس تشكل سوى 21% من الحجم الكلي، أي حوالي 800 مليون دولار، أما الديون الأخرى فقد نجمت عن قروض عقدت مع الأقطار العربية وبلدان الكتلة الشرقية وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمؤسسات المصرفية (7).
مثال السودانإذا افترضنا أن الدول الغربية قررت عام 2002 إلغاء 90% من ديون السودان فإن هذه النسبة لا تسري على حجم الديون لعام 2002 بل على حجمها لعام 1979، وفي ما يخص الديون المستحقة لأعضاء نادي باريس فقط، وهكذا تطبق نسبة 90% على 800 مليون دولار فيكون مبلغ الإلغاء 720 مليون دولار. والحقيقة أنه قد ارتفعت ديون السودان في هذه الفترة بسبب الحرب الأهلية وتراكم المتأخرات وضعف الصادرات في عام 2002 مما جعل ديونه الخارجية تتجاوز 20530 مليون دولار ليحصل هذا البلد في نهاية المطاف على إلغاء بنسبة تقل عن 4% من مجموع ديونه (العلاقة بين 20530 و720 مليون دولار).
دور العوامل السياسية في إلغاء الديونبطبيعة الحال ما قيل عن السودان ينطبق أيضا على البلدان المدينة الأخرى، لكن إلغاء الديون قد يتجاوز إلى حد كبير بنود كولونيا عندما تتدخل عوامل سياسية، ومنذ إنشاء نادي باريس وحتى الآن لم تحصل أي دولة في العالم على تسهيلات أكثر من تلك التي منحت لبولونيا ومصر، وقد أكد البيان الاقتصادي الختامي لمؤتمر الدول السبع الكبرى المنعقد بلندن في يوليو/ تموز 1991 على الطابع الاستثنائي لهذه التسهيلات. وهذه إشارة واضحة موجهة للبلدان النامية المثقلة بديونها إلى عدم إمكانية حصولها على معاملة مماثلة (8).
في مايو/ أيار 1991 تقرر إلغاء 50% من ديون مصر الخارجية المستحقة لدول نادي باريس. فعلى سبيل المثال (9) تنازلت الولايات المتحدة عن ديونها العسكرية البالغة 7.1 مليارات دولار، كما حصلت مصر على امتيازات من دول غير أعضاء في النادي حيث قررت دول الخليج حذف 6.2 مليارات دولار من المديونية المصرية.
وحسب وجهة نظر الحكومة المصرية فإنه لا بد من هذا الإجراء لأن الدولة تحملت خسارة بمبلغ 20 مليار دولار بسبب أزمة الخليج التي أدت إلى انكماش الصادرات وانخفاض تحويلات العمال المغتربين نظرا لعودة 600 ألف شخص منهم إلى بلدهم.
ومما لا شك فيه أن مصر تعاني من مشاكل مالية واقتصادية كثيرة وأن إلغاء بعض الديون يساعد على خلق مناخ مناسب للتنمية، ولكن يجب ألا يتم ربط هذا الإلغاء بخسارة غير موجودة أساسا. فلم نجد في الإحصاءات العربية والدولية ما يدل على تلك الخسارة، بل بالعكس تماما (10) لقد تحسن مركز ميزان المدفوعات بسبب الأزمة، فارتفعت الصادرات الكلية من 2853 مليون دولار عام 1989 إلى 3605 ملايين عام 1990 وإلى 3857 مليونا عام 1991 (11)، ونجمت هذه الزيادة عن ارتفاع أسعار النفط في الفترة الواقعة بين أغسطس/ آب 1990 وفبراير/ شباط 1991 فانتقل صافي عوائد الصادرات النفطية من 1019 مليونا عام 1989 إلى 1396 مليونا عام 1990 (12). كما تغير كليا مركز الميزان التجاري الذي يشمل الميزان التجاري وتحويلات العمال المغتربين إذ سجل فائضا بمبلغ 209 ملايين عام 1990 وبمبلغ 2274 مليونا عام 1991 بعد أن كان يعاني من عجز طيلة السنوات. لم يحدث مثل هذا التحسن في أي دولة عربية أخرى. وشهدت المساعدات الإنمائية الخارجية زيادة هائلة مباشرة بعد أزمة الخليج، فقد ارتفعت من 1569 مليونا عام 1989 إلى 5446 مليونا عام 1990 أي بزيادة قدرها 247% (13)، ولا توجد دولة أخرى سجلت مثل هذه الزيادة الكبيرة.
قاد الإلغاء إلى تخفيف عبء الديون المصرية حيث انتقل حجمها من 51696 مليون دولار عام 1989 إلى 28179 مليونا عام 1997 أي ما يعادل على التوالي 159% و37% من الناتج المحلي الإجمالي. كما هبطت خدمة الديون في هذه الفترة من 2739 مليونا إلى 1366 مليونا أي 83% و25% من قيمة الصادرات. لهذا السبب ارتفع حجم الاحتياطيات الرسمية للبنك المركزي من 1520 مليونا إلى 18667 مليونا. لم تكن هذه الامتيازات تستند إلى اعتبارات اقتصادية بل كانت ثمنا لدور الحكومة المصرية في تحسين العلاقات العربية مع إسرائيل ولوقوفها إلى جانب القوى المتحالفة ضد العراق إبان أزمة الخليج الثانية.
أهداف حقيقية
انطلاقا من حالات إلغاء ديون البلدان العربية وغير العربية نستنتج أن الدول الصناعية الكبرى تسعى إلى استفحال المديونية الخارجية لهذه البلدان بطرق عديدة، منها بيع الأسلحة وتمويل مشاريع غير إنتاجية، ثم يجري إلغاء قسط من الديون يتناسب حجمه مع المكاسب السياسية والاقتصادية للدول الدائنة، فلو كانت هذه الدول حريصة فعلا على سلامة مالية البلدان المدينة وعلى مستوى معيشة مواطنيها لبذلت الجهود في سبيل إزالة العقبات أمام صادرات البلدان المدينة، خاصة أن التنظيم التجاري العالمي الجديد يدعو إلى ذلك، وعندئذ ترتفع مقدرة هذه البلدان على مواجهة أزمتها المالية، وهكذا تتخلص من برامج صندوق النقد الدولي وتنتفي الحكمة من إعادة الجدولة والإلغاء، وتصبح العلاقات الاقتصادية الدولية مبنية على أسس سليمة.
الخاتمة بالنظر لتفاقم أزمة المديونية الخارجية لجأت البلدان العربية أكثر من ثلاثين مرة إلى نادي باريس لإعادة برمجة التزاماتها المالية ناهيك عن الاتفاقات العديدة المبرمة مع نادي لندن وتلك التي عقدت خارج إطار هذين الناديين. وقد مُنحت أقطار عربية امتيازات مالية مهمة تصل إلى إلغاء بعض ديونها، ولم تحصل أقطار أخرى حتى على فترة سماح كافية. تباينت هذه المعاملة نتيجة تدخل عوامل سياسية وعدم الاعتماد على الاعتبارات المالية والمؤشرات الاقتصادية. لكن إعادة الجدولة لن تقود إلى معالجة المديونية العربية على المدى الطويل لأنها كقاعدة عامة تقتصر على تأجيل السداد، كما تستوجب تطبيق برامج مقترحة من قبل صندوق النقد الدولي تؤثر بصورة سيئة في معيشة المواطنين.لذا فقد بات من اللازم مواجهة السبب الأساسي لأزمة المديونية العربية المتمثل بحدة التوترات السياسية التي تتطلب تخصيص مبالغ طائلة للإنفاق العسكري، والعمل على تقليص هذا الإنفاق سوف يقود إلى ارتفاع معدلات الاستثمار والإنتاج والاستهلاك وإلى تحسن العلاقات التجارية العربية الخارجية والبينية وبالتالي إلى زيادة المقدرة المالية لخدمة الديون دون حاجة لإعادة جدولتها.
آفاق المستقبل
كيف يمكن للعالم العربي أن يتخفف من ديونه تمهيدا للتخلص منها نهائيا؟ هذا ما تحاول هذه الدراسة الإجابة عليه وفق ثلاثة مبادئ أساسية:
1- أن تكون هذه الحلول ممكنة التطبيق.
2- ألا تؤثر سلبياً في مجرى الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
3- أن تتسم هذه الحلول بالاستمرار.
صعود صاروخي في حجم الديونتضاعفت الديون الخارجية للدول العربية في العقدين الماضيين سبع مرات إذ زاد حجمها من 49 مليار دولار في عام 1980 إلى 325 مليارا في عام 2000 (1). ولم يصاحب هذا الارتفاع زيادة مماثلة في الناتج المحلي الإجمالي. في بداية الفترة كانت الديون الخارجية تشكل 12% من الناتج المحلي الإجمالي العربي، فأصبحت في نهايتها 46% منه. وتشكل خدمة هذه الديون عبئاً ثقيلاً على مالية الدولة وتؤثر تأثيراً سلبياً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما لم تصمم إعادة الجدولة إلا لتأجيل المشكلة، أما إلغاء الديون فتعتمد على اعتبارات سياسية بحتة ناهيك عن ضعف فاعليتها.دقة التشخيصتتطلب المعالجة الحقيقية لأزمة المديونية تشخيصاً دقيقاً لأسبابها. هنالك كتابات عديدة تشير إلى أن المديونية الخارجية ناجمة عن قلة الادخار المحلي مقارنة بطموحات الخطط الاقتصادية، إذ إن القروض تنمي هذا الادخار فيرتفع الإنتاج وتتحسن الصادرات ويسهل لاحقاً سداد الديون.
مشكلة السياسات الماليةلكن هذا التحليل الذي يشجع في نهاية المطاف على الاستدانة لا يمت بصلة لواقع مديونية الدول العربية، فلا تشكو هذه الدول من ضعف مدخراتها بقدر ما تعانى من عدم فاعلية السياسات المالية والاقتصادية في توجيه الأموال العامة نحو الاستثمار النافع.
الإنفاق الخاطئكما لم يخصص الجزء الأكبر من القروض للتنمية بل لشراء معدات عسكرية وتمويل مشاريع ضعيفة الإنتاجية. فلا علاقة لأزمة الديون بالتنمية. فقد عرفت البلدان العربية على اختلاف مستوياتها الاقتصادية تطوراً ملموساً في الستينيات دون حاجة فعلية للتمويل الخارجي، لذلك لم تكن مشكلة المديونية مطروحة بحدة، الأمر الذي يجر إلى الاعتقاد الشديد بأن التنمية ليست سبباً لاستفحال الأزمة بل إن تعثر التنمية هو الذي قاد إلى ذلك. فلو استخدمت الموارد الذاتية والقروض الخارجية لتدعيم النمو الاقتصادي لما تفاقمت الديون لأن النمو سيكون كفيلاً بتحرير المجتمع من التزاماته المالية. وعلى هذا الأساس لا يمكن معالجة المديونية العربية إلا عن طريق إنهاء التوترات السياسية البينية العقيمة التي تقود إلى ارتفاع الإنفاق العسكري.
لكن تقليص هذا الإنفاق لا يكفي لمواجهة الأزمة المالية، ففي عام 1975 كان حجم القروض الجديدة الممنوحة للدول العربية غير الخليجية 5457 مليون دولار، أي أكبر بكثير من خدمة ديونها القديمة البالغة 1556 مليون دولار. كانت إذن التحويلات الصافية (3901 مليون دولار) لصالحها. وبمرور السنوات بدأ العد التنازلي لهذه التحويلات، ومنذ عام 1989 لم تحصل على أي إيراد رغم استمرار تدفق القروض بل باتت التحويلات الصافية لصالح المؤسسات والدول المقرضة.
وفي عام 1997 بلغ حجم القروض الجديدة 7537 مليون دولار في حين وصلت خدمة الديون القديمة إلى 12004 ملايين دولار (2). وحدث هذا الأثر السيئ رغم هبوط أسعار فائدة جميع أنماط القروض الخارجية. وبات من اللازم إذن البحث عن مصادر مالية لخدمة الديون الخارجية والقيام بعملية التنمية. وسنتناول في هذه المقالة مجموعة من المقترحات تساعد في التخفيف من ديون الدول العربية ومن ثم التخلص منها نهائيا كل ذلك من خلال المحاور التالية:
ترشيد المالية العامة
العجز سمة مشتركة لميزانيات جميع الدول العربية النفطية وغير النفطية، الأمر الذي يقود إلى نتائج سيئة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، ويؤثر مباشرة في ثقل المديونية إذ إن البلدان العربية اقترضت لإعادة التوازن للميزانية فارتفعت ديونها، ويؤثر أيضاً بصورة غير مباشرة لأن العجز المالي المفرط يفقد الثقة بالسياسة المالية فتهرب رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية.. عندئذ تقترض الدولة من الخارج لتعوض هذا الهروب.
الإجراءات العربية للحد من الإنفاقواتخذت الأقطار العربية إجراءات ترمي إلى الحد من تزايد الإنفاق وتحسين الإيراد. وقد هبط العجز من 9.8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1992 إلى 5.9% في عام 1999 (3). ولكن هذه الإجراءات أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة حتى في صفوف حملة الشهادات بسبب تنصل القطاع العام من دوره في التوظيف وتباطؤ القوة الشرائية للمواطنين نتيجة ارتفاع الضغط الضريبي وانخفاض الدعم الحكومي الموجه للمواد الاستهلاكية الأساسية.
وتستوجب الإستراتيجية المستقبلية إعادة النظر في هذه السياسة التي يساندها صندوق النقد الدولي والمطبقة في الدول العربية المثقلة بالديون الخارجية، فيتعين أن تقوم السياسة الجديدة على التصدي للعجز المالي وفق قواعد حسن الإدارة وأسس علمية قوامها تحديد الأولويات حسب الإمكانات المتوفرة.
تخصيص بعض مؤسسات الدولة الماليةهنالك شركات تجارية تابعة للحكومة تهتم بالعمليات المصرفية والتأمين والنقل تعتمد نفقاتها على الميزانية العامة، وتشير نتائج حسابات الكثير منها إلى خسارة بسبب سوء إدارتها. وينبغي سلخ هذه الشركات عن ميزانية الدولة لتصبح حسب خصوصيات كل بلد تابعة للقطاع الخاص أو لأنظمة مالية مستقلة. أما المؤسسات الضرورية للتنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية كتلك التي تنصرف للصحة والتعليم فيجب أن تحظى دائماً برعاية مالية الدولة وفق أساسين هما:
الأول: يرتبط بالمبادئ العامة وهي استخدام الموارد المالية بصورة فاعلة إلى أقصى الحدود.
الثاني: يتعلق بتحديد اتجاه الإنفاق الحكومي، إذ إن تلبية حاجات المجتمع للصحة الوقائية تتطلب تدخل الدولة عن طريق الإنفاق العام.
وينطبق هذا التدخل أيضاً على التعليم الإلزامي، في حين يختلف أمر الصحة العلاجية التي يمكن أن يتحمل المستفيدون منها مصاريف العلاج شريطة أن تكون هذه المصاريف في متناول الشريحة العريضة من المجتمع، وتصح هذه الملاحظة أيضاً على التعليم العالي.
تقليل عمليات الاستدانةمن ناحية أخرى يجب ألا تلجأ الميزانية العامة للقروض الخارجية إلا في الظروف الاستثنائية التي يحددها القانون، فمن غير المقبول أن تمول الميزانية بشكل دوري بالقروض الخارجية كما هو الوضع في المغرب ومصر والأردن، حيث تشكل القروض الخارجية في المغرب على سبيل المثال حوالي ثلث الإيرادات العامة (4).الحد من التهرب الضريبيكما يتعين التصدي بحزم لظاهرة التهرب الضريبي المتفشية في العالم العربي، فهذه الظاهرة لها آثار سلبية عديدة من الزاويتين المالية والاجتماعية، فهي تقلص الإيرادات العامة فتضطر الدولة للاقتراض من الداخل والخارج وتلجأ أحياناً للإصدارات النقدية، عندئذ يرتفع الدين العام وتزداد معدلات التضخم، وتقود كذلك إلى عدم المساواة في توزيع الأعباء خاصة عندما يتعلق الأمر بالضرائب المباشرة، إذ لا يستطيع أصحاب المرتبات التهرب من الضريبة بسبب العجز عند المنبع وذلك على عكس أصحاب الأرباح التجارية بسبب اعتماد الإدارة على تصريحاتهم.
لاشك في أن القضاء على هذه الظاهرة مستحيل لأنها توجد بوجود الضرائب، ولكن يمكن اتخاذ إجراءات للحد من أهميتها، ولا تقتصر هذه الإجراءات على الجوانب الفنية البحتة للأنظمة الضريبية ومحاربة الرشوة في الأجهزة الإدارية ومعاقبة المتهربين، بل تشمل أيضاً الاعتناء بالسياسة المالية، فإذا كانت هذه السياسة عادلة ولا تتجه نحو تبذير الأموال في مشاريع غير مفيدة وفي النفقات الخاصة للنخبة الحاكمة فسوف يشعر المكلف وهو مواطن بواجبه في تحمل الأعباء العامة.
علاقة طرديةإن ترشيد المالية العامة بهدف معالجة المديونية الخارجية لا يتحقق إلا عن طريق تقليص الإنفاق العسكري، فعند النظر إلى تطور الوضع الاقتصادي العالمي في العشرين سنة المنصرمة نلاحظ أن المنطقة العربية تكاد تكون الوحيدة في العالم التي لم تحرز تقدماً يتناسب مع إمكاناتها المالية والطبيعية، فالديون الخارجية ترتفع باستمرار، والموازين الخارجية في حالة عجز، وارتفعت معدلات البطالة، وتدهورت الحالة المعيشية لجميع المواطنين. وحسب مؤشر التنمية البشرية (يتضمن مدة الأمل في الحياة ودرجة المعرفة ومستوى القوة الشرائية) الذي يغطي 174 دولة والذي تسجل فيه كندا المرتبة العالمية الأولى يتبين أن المملكة العربية السعودية تحتل المرتبة رقم 75 رغم إمكاناتها المالية الكبيرة، وتنخفض التنمية البشرية في بلدان أخرى لتصل إلى المرتبة العالمية رقم 111 في سوريا و119 في مصر و124 في المغرب و126 في العراق و143 في السودان (5).
ترشيد الإنفاق العسكري
نجم هذا الوضع المتردي عن أسباب عديدة في مقدمتها ارتفاع الإنفاق العسكري الذي لا يتيح الفرصة لتطوير الأنشطة المدنية النافعة للمجتمع، فالمرفق العسكري العربي مستهلك ومبذر.. مستهلك لأن الجيوش العربية تعتمد على استيراد الأسلحة وبالتالي فهو يسهم إسهاما فاعلا في عجز الموازين الخارجية دون إضافة قيمة إنتاجية جديدة. وهو مبذر لكونه المرفق الوحيد الذي لا يخضع طلبه للاعتبارات المالية.
ومنذ عدة سنوات تتجه السياسات الاقتصادية للدول العربية نحو الإصلاح المالي الذي لا يعني سوى الضغط على الإنفاق العام بطريقة أو بأخرى كالتخصيص وتقليص الإعانات الاجتماعية والحد من التوظيف. لكن الإصلاح بهذا المفهوم التقشفي لا يشمل القطاع العسكري الذي تتسم حاجاته بعدم المرونة، فلا تتردد الدولة في حجب الأموال عن القطاعات المنتجة لإضافتها إلى القطاع العسكري. وبالنظر إلى الأزمات السياسية الإقليمية وعدم كفاية الموارد المالية الوطنية راحت الدول الغنية والفقيرة تقترض من الخارج لشراء المزيد من الأسلحة فتفاقمت ديونها.
نفقات التسليح العربيوفقا للمصادر (6) استورد العالم العربي بين عامي 1978 و1988 أسلحة بمبلغ يعادل 14% من الناتج المحلي الإجمالي مول نصفه عن طريق القروض الخارجية. وحسب مصادر أخرى (7) بلغ الإنفاق العسكري للبلدان العربية (باستثناء العراق) 48 مليار دولار في عام 1985 و35.9 مليارا في عام 1995. أي ما يعادل على التوالي 28.8% و22.6% من النفقات العامة الكلية و10.7% و7.9% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه نسب عالية جداً مقارنة بالمعدلات في المناطق الأخرى من العالم.
نموذج العراقوالدول التي تخصص نسبة عالية للإنفاق العسكري هي جميع دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر وسوريا واليمن والمغرب وكذلك وبصورة خاصة العراق. ففي الفترة الواقعة بين 1981 و1988 (إبان الحرب مع إيران) صرف العراق 166.1 مليار دولار للدفاع والأمن ولم يحصل إلا على 77.6 مليارا من النفط، أي لم تعد إيرادات الخام تغطي سوى 47% من النفقات العسكرية علماً بأنه من اللازم توفير المال لاستيراد الأدوات المدنية ومعدات التنمية والمواد الغذائية والطبية. لذا فإن السحب من الأرصدة الخارجية أصبح ضروريا، ففي أقل من ثلاث سنوات من بداية الحرب نفدت تقريباً جميع الأموال المودعة في الخارج، وانتقلت من 35.5 مليار دولار في عام 1980 إلى 15.8 مليارا في عام 1981 ثم إلى 1.2 مليار دولار في عام 1982 وإلى 0.8 مليار دولار في عام 1983 (8).
وهكذا هبطت الفوائد الناجمة عنها من 4200 مليون دولار في عام 1979 إلى 60 مليونا في عام 1983. وغني عن البيان أن مصادر العملة الحرة محدودة جداً، فعلى عكس بلدان المغرب العربي لا يعير العراق أهمية للسياحة الدولية رغم مكانته المرموقة على الصعيدين الحضاري والديني، ولم يعتد العراقيون المقيمون بالخارج على تحويل قسط من دخولهم إلى بلدهم إضافة إلى قلة عددهم.
- التحويلات الخارجيةوبالمقابل شكلت تحويلات العمال العرب والأجانب المقيمين في العراق ثغرة جديدة في المالية الخارجية، فقد قدرت هذه التحويلات بحوالي ثلاثة مليارات دولار سنوياً، أي ثلث إيرادات النفط. أما صادرات التمر والمواد الأولية فتشكل في أفضل الحالات 3% فقط من إيرادات النفط علماً بأن العراق أكبر بلد منتج ومصدر للتمر في العالم. لذلك لا يوجد سوى منفذ مالي واحد لتأجيل الأزمة وهو الاقتراض من الخارج، فسقط البلد في فخ الديون.
وبعد انتهاء الحرب مع إيران وصلت ديون العراق إلى 84 مليار دولار (9). وبسبب حرب الخليج الثانية والحصار لم يستطع البلد خدمة ديونه فتراكمت متأخرات السداد حتى أصبحت الديون الخارجية 126 مليارا في نهاية عام 1998 (10).
حل الخلافات السياسية
إن المستقبل الاقتصادي والاجتماعي للعالم العربي يتوقف على إزالة الخلافات السياسية البينية وإقامة علاقات تجارية متينة، عندئذ تنخفض نفقات المؤسسات العسكرية. أما القول بعدم إمكانية خفض هذه النفقات بسبب الوجود الإسرائيلي فهو غير منطقي، فقد أنفقت أموال طائلة في حرب العراق مع إيران وحرب الخليج الثانية وحرب المغرب في الصحراء الغربية والحروب الأهلية في جنوب السودان وشمال العراق واليمن وكذلك في تسليح دول مجلس التعاون الخليجي.. ولم تخصص هذه الأموال لمواجهة العدو الصهيوني، بل إن بعض البلدان العربية المثقلة بالديون خاصة مصر والأردن وموريتانيا أقامت علاقات مع إسرائيل تهدف فيما تهدف إليه الحصول على مساعدات أميركية والدخول إلى الأسواق الغربية وإلغاء الديون.
تنمية الموارد الخارجية
تتوفر جميع البلدان العربية المدينة على إمكانات واسعة لتنمية مواردها المالية الخارجية الضرورية لخدمة الديون القديمة وتقليص الاعتماد على القروض الجديد. ويمكن معالجة عجز الميزان التجاري عن طريق الاعتناء بالقطاع الزراعي ورفع مستوى المبادلات التجارية البينية واستخدام القروض في الأنشطة الإنتاجية، كما يمكن استخدام السياسة النقدية لتعزيز تلك الموارد. ويتعين كذلك تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة نظراً لأهميتها في زيادة الصادرات ونقل التكنولوجيا الحديثة ناهيك عن دورها الإيجابي في تحسين حالة ميزان المدفوعات.
تقليص العجز التجاريوفقا للإحصاءات الرسمية (11) يتبين أن فائض الموازين التجارية للبلدان النفطية يتجه نحو الهبوط حيث انتقل من 123.3 مليار دولار في عام 1980 إلى 18.4 مليارا في عام 1998، كما ارتفع عجز الموازين التجارية للبلدان غير النفطية في الفترة نفسها من 14.8 مليارا إلى 24.7 مليارا. وانعكست هذه النتائج السلبية على الموازين الجارية فأصبحت تعاني من العجز في المجموعتين. وللحصول على توازن ميزان المدفوعات لابد من إحداث فائض في حساب العمليات الرأسمالية يعادل عجز الميزان التجاري. ولما كان من الصعب الحصول على استثمارات أجنبية مباشرة وعلى رؤوس أموال أجنبية قصيرة الأجل وجب الاقتراض من الخارج. وهذا الأسلوب يسبب متاعب مالية لأنه يفضي إلى استفحال المديونية الخارجية، كما أنه يفقد الثقة بالسياسة المالية فتزداد صعوبة تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى الدولة. لذا فمن الضروري تحسين مركز الميزان التجاري بدلاً من تحقيق فائض في حساب العمليات الرأسمالية، فتقليص العجز التجاري سيكفل تخفيف حدة المديونية عن طريق التأثير في الصادرات والواردات في آن واحد دون إحداث آثار اجتماعية واقتصادية سيئة.تنشيط الصادراتفيما يخص الصادرات تواجه البلدان المدينة عدة صعوبات يتعذر أحياناً التصدي لها وتنعكس مباشرة على ثقل المديونية على اعتبار أن حصيلة الصادرات هي الطريق الطبيعي لخدمة الديون. في مقدمة هذه العراقيل الركود الاقتصادي الذي ظهر في البلدان الصناعية منذ أكثر من 15 سنة، وقد أثر هذا في مقدرتها على استقطاب كميات كبيرة من السلع.
كما قاد تطور التعاون الاقتصادي والسياسي في دول أوروبا الغربية إلى فرض شتى وسائل الحماية لمنتجاتها البينية الأمر الذي انعكس سلبياً على الصادرات العربية التي تعتمد بالدرجة الأولى على هذه الدول. أضف إلى ذلك أن القطاعات الاقتصادية للدول العربية المدينة تتسم باعتمادها على عدد قليل من السلع وبالتالي تهتز ماليتها عند هبوط أسعارها في السوق العالمية.
لذا بات يتعين على البلدان المدينة تحسين إنتاجها الزراعي للحد من الواردات الغذائية، الأمر الذي يؤثر بصورة إيجابية في موازين مدفوعاتها. ومن دون ذلك سيزداد عبء المديونية بحكم التنظيم الجديد للتجارة العالمية، إذ سيفضي هذا التنظيم إلى إلغاء الدعم المالي الممنوح للمنتجين والمصدرين الزراعيين في الدول المتقدمة، وإلغاء الدعم يعني زيادة كلفة الإنتاج وما ينجم عنها من ارتفاع أسعار السلع الزراعية. ولما كانت الأقطار العربية تستورد أكثر من نصف حاجاتها الزراعية، فإن تحرير التجارة العالمية سيقود إلى ظهور آثار سلبية في موازين مدفوعاتها وفي مستوى معيشة مواطنيها إذ سترتفع أسعار الحبوب واللحوم والألبان والسكر والزيوت.
استغلال الموارد المائية
لاشك في أن المنطقة العربية فقيرة جداً بمواردها المائية مقارنة بالمناطق الأخرى من العالم. وهذا الوضع يؤثر في مساحة الأراضي القابلة للزراعة التي لا تتجاوز 197 مليون هكتار أي 14% من المساحة الكلية للعالم العربي. لكن مساحة الأراضي المزروعة فعلاً لا تتعدى 70 مليون هكتار (12)، بمعنى أن 127 مليون هكتار غير مستغلة لأسباب ترتبط بالسياسات الاقتصادية لا بندرة المياه. لذلك يتعين تنسيق الجهود بين البلدان المتوفرة على أيدي عاملة والبلدان الغنية برؤوس الأموال، وهكذا يهبط عجز الميزان الزراعي وتكف البلدان المدينة عن الاقتراض لسد هذا العجز أو لشراء تلك المواد. ففي مصر بلغت صادراتها الزراعية 572 مليون دولار في حين وصلت وارداتها الزراعية إلى 3716 مليونا. وبالتالي تستطيع الاستغناء عن الاقتراض الخارجي إن حققت الاكتفاء الذاتي الغذائي. وبشكل عام إن عولجت الفجوة الغذائية سوف يقتصد العالم العربي 19 مليار دولار سنوياً يخصص منها 12 مليارا لخدمة ديونه دون حاجة إلى إعادة جدولتها.
استخدام القروض الخارجية في التنمية
ومن زاوية أخرى لابد من استخدام القروض الخارجية في مجالات تنموية، وهذا يلزم إقامة علاقة بين القروض الجديدة من جهة والاستثمار والتصدير من جهة أخرى. فعندما تنفق الأموال المقترضة لزيادة الإنتاج المخصص للتصدير يصبح سداد الديون سهلاً إذ عن طريق زيادة الصادرات تتحرر ذمة الدولة. وعلى هذا الأساس لا تهتم النظرة المستقبلية للمديونية الخارجية بحجم الديون ومبلغ خدمتها بل بعلاقة هذا الحجم بالناتج المحلي الإجمالي وعلاقة هذا المبلغ بالصادرات، ففي فترة زمنية معينة إذا كانت نسبة حجم الديون مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي ونسبة خدمة الديون مقارنة بالصادرات أقل في نهاية الفترة قياساً ببدايتها فذلك يعني نجاح السياسة المالية في استخدام القروض في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بطبيعة الحال على افتراض عدم تدخل عوامل أخرى.
تحسين السياسات المالية
ومن أجل تحسين الموارد المالية يتعين استخدام السياسة النقدية، فإذا كان تأثير خفض قيمة العملة ضعيفاً في ميدان التجارة الخارجية السلعية للدول العربية فإن تأثيره الإيجابي كبير في ميدان تحويلات الدخول التي يجريها العمال المغتربون. فهذه التحويلات لها أهمية مالية قصوى خاصة في مصر والسودان والجزائر وتونس والمغرب ولبنان والأردن، ففي السودان كان الدولار يعادل 29 جنيها في عام 1992 وبلغت تحويلات العمال السودانيين المقيمين بالخارج 120 مليون دولار. وبعد تخفيضات متتالية أصبح الدولار يساوي 157 جنيها في عام 1998 فارتفعت التحويلات إلى 346 مليون دولار أي 58% من الصادرات الكلية. وعلى أثر تعويم الجنيه المصري أصبحت تحويلات العمال المصريين المقيمين بالخارج تزيد على خمسة مليارات دولار، أي أكثر من مجموع حصيلة الصادرات مما أدى إلى تحسين مستوى الاحتياطيات الرسمية وتخفيف عبء المديونية الخارجية.
أما إذا كان سعر الصرف الرسمي للعملة المحلية لا يتناسب مع قيمتها الحقيقية فإن العمال المقيمين بالخارج سيعزفون عن التحويل بواسطة القنوات المصرفية وتحرم مالية الدولة من مصدر مهم للإيرادات. وتنطبق هذه الحالة على العراق وهو أكبر بلد مدين في العالم العربي. وبات من اللازم له تعويم الدينار وبمقتضاه يتحدد سعر الصرف حسب العرض والطلب، عندئذ يستطيع المغتربون تحويل جزء من دخولهم بالطريق المصرفي. وعلى افتراض أن عدد العراقيين بالخارج مليون شخص وأن كلا منهم يحول 50 دولاراً شهرياً، فسوف يصل إلى العراق 600 مليون دولار سنوياً دون مقابل. إنه المبلغ اللازم لتغطية حاجات جميع المواطنين من الأدوية مجانا، وبذلك يحد التعويم من الموجات التضخمية العالية.
أما الآثار السلبية للتعويم فتكاد تكون منعدمة في الظروف الحالية. فهو لا يقود إلى تخفيض قيمة الدينار بل إلى تطابق السعر الرسمي مع القيمة الحقيقية للعملة وهذا هو هدف أسعار الصرف المتسمة بالمصداقية. فجميع الدول العربية المثقلة بالديون الخارجية التي تعتمد على تحويلات عمالها المغتربين تطبق نظام التعويم، ولا يوجد أي مانع من العودة إلى التثبيت عندما تتحسن الأحوال المالية لأن هذا النظام أو ذاك يتم بمجرد صدور قرار حكومي ولا يتطلب إجراءات معقدة.
تشجيع رؤوس الأموال الأجنبية
لرؤوس الأموال الأجنبية أهمية قصوى في تخفيف حدة المديونية الخارجية، فهي إيرادات تدخل إلى حساب رأس المال في ميزان المدفوعات الأمر الذي يقلص عجز الموازين الخارجية ويفضي بالنتيجة النهائية إلى الحد من اللجوء مجدداً إلى الاقتراض، كما تلعب رؤوس الأموال الأجنبية دوراً بارزاً في نقل التكنولوجيا الحديثة ورفع مستوى العمالة وزيادة الإنتاج وفتح منافذ خارجية للسلع المحلية، عندئذ يتحسن مركز الميزان التجاري فيهبط عجز ميزان المدفوعات، وهكذا تضعف الحاجة إلى القروض الجديدة وتسهل خدمة الديون القديمة.
حث الدائنين على تبديل الديون
يتعين حث الدائنين على إمكانية تبديل الديون. وقد تمكنت بعض الأقطار العربية (13) من تحويل ديونها الخارجية إلى استثمارات محلية أو مقايضتها بسلع قابلة للتصدير. وغالباً ما تتم هذه العملية أو تلك بعد خصم يتفق عليه الطرفان الدائن والمدين. فقد اتفق الأردن مع روسيا على شراء دين روسي قيمته 800 مليون دولار بمبلغ 140 مليون دولار، وسدد هذا المبلغ بصادرات أردنية قدرها 52 مليونا ودفع الباقي نقدا.
واتفق المغرب مع فرنسا على تحويل 440 مليونا من الديون المستحقة لفرنسا إلى استثمارات خاصة داخل المغرب.وعقدت مصر عدة اتفاقات مع دائنيها تم بموجبها تحويل حوالي 3200 مليون دولار بعد خصم بنسبة 46% إلى استثمارات خاصة بالجنيه وإلى سلع مصرية تصدر إلى الخارج، وتتولى أجهزة وزارة الاقتصاد والبنك المركزي الإشراف على هذه العملية.
تحويل الإعفاءات الضريبية إلى ضرائب ثابتة
بالنظر لأهمية الاستثمارات الأجنبية شرعت البلدان العربية أنظمة تمنح بموجبها امتيازات عديدة لها في مقدمتها الإعفاءات الضريبية. لكن هذه الإعفاءات تقلص الإيرادات وتقود بالتالي إلى ارتفاع عجز الميزانية العامة، كما وجهت الدراسات (14) انتقادات عديدة لهذه الإعفاءات. إنها تتعارض مع مبادئ الإنصاف بسبب تطبيقها على الأجانب دون المواطنين، وتقود إلى هروب رؤوس الأموال المحلية إلى الخارج لتدخل مرة أخرى إلى البلد بصفتها استثمارات أجنبية، وتؤدي إلى تزايد الرشوة في الإدارات المختصة بالنظر في منح الإعفاءات، وبات من اللازم إلغاء هذه الإعفاءات وتغييرها إلى ضرائب ثابتة وملائمة لنمط الاستثمار. فالضغط الضريبي الذي يتحمله استثمار أجنبي مباشر في قطاع الخدمات يجب أن يكون أعلى من ذلك الذي يتحمله استثمار أجنبي مباشر في قطاع الصادرات الصناعية، وهكذا يمكن أن تتدرج المعاملة حتى تصل إلى أعلى مستوياتها في رؤوس الأموال الأجنبية القصيرة الأجل التي تهدف إلى الربح السريع فقط.
تعتمد قرارات المستثمرين الأجانب على عوامل عديدة أساسية وثانوية، والضغط الضريبي المرتفع عامل أساسي يحول دون جلب الاستثمارات الأجنبية بل يقود إلى هروب رؤوس الأموال الوطنية، لكن الإعفاءات السخية ليست سوى عامل ثانوي أحياناً غير فاعل لتشجيع الاستثمارات الأجنبية، فلا توجد حالة تتكالب فيها رؤوس الأموال الأجنبية بسبب الإعفاءات الضريبية في دولة تعاني من تباطؤ النمو وضعف البنية التحتية واختلال مزمن للموازين الخارجية وكثرة القيود النقدية والتجارية والمالية على القطاع الخاص.
ينبغي إذا العمل على موازنة الامتيازات الممنوحة للاستثمارات الأجنبية مع المكاسب الاقتصادية التي تحققها، فمن جهة هنالك الخسائر المكونة من مبالغ الإعفاءات الضريبية والأرباح المحولة إلى الخارج، ومن جهة أخرى هنالك المكاسب المتمثلة بالقيمة المضافة لرؤوس الأموال. والواقع أنه لا توجد في البلدان العربية دراسة جدية لمعادلة هذين الشطرين. فالضيق المالي الذي قاد إلى اللجوء المتزايد للقروض الخارجية دون الاكتراث بمرحلة السداد أدى إلى منح امتيازات سخية دون حساب، وعلى الرغم من ذلك لا تزال الاستثمارات الأجنبية المباشرة ضعيفة في البلدان العربية. ففي عام 1999 بلغت 8.7 مليارات دولار (15) أي 4.2% فقط من مجموع تدفق الاستثمارات المباشرة إلى الدول النامية.
إن معالجة المشاكل السياسية والقانونية والإدارية في الأقطار العربية هي الخطوة الأساسية لبناء مناخ استثماري ملائم في مجالات لا تقتصر على الميدان النفطي بل تمتد لتشمل الصناعات التحويلية والزراعة والسياحة. وإذا كان من الضروري توفير المناخ المناسب لرؤوس الأموال الأجنبية العربية وغير العربية فإنه من الضروري أيضاً ألا يسبب هذا المناخ مشاكل مالية قد تقود إلى استفحال المديونية الخارجية كما حدث في المكسيك وشرق آسيا والبرازيل في التسعينيات. يتعين تطبيق خطة مدروسة دراسة دقيقة وعميقة تتضمن كيفية ودرجات تحرير الأنماط المختلفة لرؤوس الأموال.
وقد دلت التجارب على ضرورة الاعتماد على التسلسل الصحيح للتحرير، فلا يجوز إعطاء حرية واسعة لتدفق الأموال الأجنبية القصيرة الأجل إلى الداخل قبل تحرير الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ومع ذلك فهذه الاستثمارات كالقروض الخارجية تمتص الاحتياطيات الرسمية بسبب ترحيل أرباحها، فيجب إذن أن يقتصر التشجيع على الاستثمارات التي تطور الصناعات وتسهل خدمة الديون وتحسن الأداء الاقتصادي.
ولمواجهة الاختلال المالي يتعين:
تقليص الإنفاق العسكري باعتباره السبب الأساسي لتفاقم المديونية العربية.
تنمية الموارد الخارجية لخدمة الديون وتنفيذ الخطط الاقتصادية، ولتحقيق ذلك يجب التصدي لعجز الميزان التجاري بطرق عديدة في مقدمتها تحسين الإنتاج الزراعي واتباع سياسة نقدية ملائمة.
دعم مركز ميزان المدفوعات والحد من الاقتراض الجديد عن طريق تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة بتوفير المناخ المناسب لها.
وأخيراً يقترح هذا البحث تحديد نسبة معينة من الموارد المالية الخارجية لخدمة الديون كأن تكون 20% مثلاً، ويمكن الاقتراض من الخارج إذا كانت خدمة الديون القديمة أقل من هذه النسبة، أما إذا تم تجاوزها لسبب أو لآخر كتردي أسعار الصادرات أو ارتفاع الواردات أو هبوط إيرادات السياحة والاستثمارات الخارجية يتعين عدم اللجوء إلى الاقتراض الخارجي والبحث عن وسائل أخرى للتمويل. بهذه الطريقة يمكن سداد الديون دون إجراءات تقشفية قاسية. كما يطمئن الدائنون على المقدرة المالية للدولة وتزداد ثقة المستثمرين الأجانب بالسياسة الاقتصادية.
شروط الديون الخارجية
"لا توجد وجبة مجانية".. هذا شعار أصبح يسيطر على العلاقات الاقتصادية الدولية في مختلف المجالات، ومنها تدفق رؤوس الأموال سواء في صورة استثمارات أو في صورة معونات أو في صورة قروض، ففي الغالب يفرض الطرف الأقوى (المقدم لهذه الأموال) شروطه على الطرف الأضعف (المتلقي لهذه الأموال)، ويأتي في هذا السياق شروط المديونية الخارجية سواء كان الحصول على هذه الديون من حكومات صديقة أو شقيقة أو من الصناديق العربية للتنمية أو من بنوك تجارية حكومية أو غير حكومية، أو من مؤسسات تمويل دولية وإقليمية مثل البنك الدولي والبنك الإسلامي وغيرها.
فما هي هذه الشروط؟ وما مدى اختلافها باختلاف الجهات الدائنة؟ وما آليات ضمان التزام البلدان العربية المدينة بهذه الشروط؟ وأخيرا ما آثار هذه الشروط على الاقتصاديات العربية؟
السطور التالية تحاول الإجابة على هذه الأسئلة بصورة مبسطة حتى تتضح الصورة لغير المتخصص قبل المتخصص.
تطور الشروططرأت العديد من التغيرات على الشروط المصاحبة للاقتراض الخارجي منذ عام 1982، حيث بلغت مديونية البلدان النامية في هذا العام حوالي 575 مليار دولار مقابل 109 مليارات فقط عام 1973، وهو الأمر الذي يرجعه البعض إلى تراكم المدخرات في البنوك ومؤسسات التمويل في فترة السبعينيات مما جعلها تتساهل في شروط إعطاء القروض من حيث سعر الفائدة وآجال السداد وغيرها من الشروط، وفي ظل هذا التساهل سقطت معظم الدول النامية في فخ المديونية.
وقد انتهى زمن هذا التساهل في شروط القروض الخارجية دون رجعة بعد أن تجرأت بعض الدول النامية في أميركا اللاتينية على إنكار ديونها الخارجية وإعلان التوقف عن السداد بسبب تفاقم الاختلالات الاقتصادية التي عرفت بأزمة المديونية العالمية عام 1982، وما صاحب ذلك من إغواء لدول نامية أخرى للتوقف عن سداد الديون الخارجية، وهو ما كان بداية لإعادة النظر في شروط الاستدانة الخارجية، واتجاه هذه الشروط نحو مزيد من التشدد، وخاصة الديون التي يكون الصندوق والبنك الدوليان طرفا فيها عند الحصول عليها أو عند إعادة جدولتها.
ولم تكن الدول العربية بعيدة عن هذه الشروط عند حصولها على ديون خارجية (325 مليار دولار) أو عند دخولها في مفاوضات لإعادة جدولة هذه الديون. وسنحاول في هذه المقاول الحديث على المحاور الآتية:
الشروط التقليدية للديون الخارجية
تختلف شروط الديون الخارجية وفقا لعدة معايير، وأهم هذه المعايير ما يلي:أ - من حيث الجهة التي تقدم الديون:
وهذه الجهات إما أن تكون الحكومات أو مؤسسات تمويل إقليمية أو دولية أو بنوكا تجارية، ففي حالة القروض من الحكومات تتوقف الشروط على طبيعة العلاقة بين حكومة الدولة المقترضة والدولة المقرضة، وبطبيعة المصالح الاقتصادية والسياسية بينهما، وفي الغالب تدور الشروط حول سعر الفائدة وآجال السداد والضمانات وفترات السماح، ويمكن أن تمتد لتشمل ربط القروض باستيراد منتجات معينة من الدولة الدائنة أو نقل هذه الواردات على سفنها أو قصر تنفيذ المشروعات التي تمولها هذه القروض على شركات الدولة المقرضة.
أما في حالة المؤسسات الإقليمية والدولية فإن الشروط تتفاوت، ومن أشهر هذه المؤسسات البنك الدولي الذي يشترط أن تكون القروض لتمويل مشروعات التعمير والتنمية في الدولة المدينة، وأن تكون للحكومات أو للجهات التابعة لها أو لجهات تضمنها الدولة، كما يشترط ألا يكون للدولة مصدر آخر للتمويل.
أما في حالة البنوك التجارية فإن الشروط تتركز على سعر الفائدة والضمانات التي يقدمها المدين لهذه البنوك.
ب - من حيث الأهداف:فما الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها الجهات الدائنة؟ وهل هي تحقيق الأرباح بمعناها المالي والنقدي أو تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية؟ فإذا كان هدف الجهة المقرضة الربح يتم التركيز على الفائدة وفترات السداد والضمانات، وهي شروط تقليدية. أما إذا كانت هناك أهداف أخرى فإن الجهة الدائنة تركز عليها عند الاتفاق على القرض مثل زيادة الصادرات للدولة الدائنة وذلك عن طريق حصول الدولة المدينة على جزء من هذه الديون في صورة سلع ومنتجات من الدولة الدائنة، وقد تكون الشروط في صورة إلزام الدولة المدينة بسياسات اقتصادية معينة كما في حالة الصندوق والبنك الدوليين.
وإلى جانب ما سبق تتأثر شروط الديون بطول فترة سداد الدين، وكذلك تتأثر بالظروف الدولية التي تتم فيها هذه الديون، وبالسمعة الاقتصادية للدولة المقترضة (الجدارة الائتمانية) وقدرتها على السداد في المستقبل.
ومن أغرب الشروط التي وضعها الدائنون الشرط الذي وضعه البنك الدولي عند طلب الأردن لقرض لتمويل بناء سد على نهر الأردن، فقد اشترط البنك موافقة إسرائيل على بناء السد وتعهدها بعدم تدميره، وهو ما منع إتمام القرض أو إتمام بناء السد. وربما حدث أمر شبيه بذلك مع مصر عند طلبها تمويل بناء السد العالي من البنك الدولي في الستينيات، حيث كان هناك شرط ضمني بضرورة موافقة الولايات المتحدة الأميركية، وهو الشرط الذي لم يتوفر، وبذلك لم يمول البنك بناء السد العالي.
الشروط في ظل العون الإنمائي العربي
من المعروف أن العون الإنمائي العربي من أهم الملامح التي تميز تجربة التعاون الاقتصادي العربي عن بقية التجارب الدولية، وقد كانت بداية هذا العون مع الطفرة التي حدثت في أسعار النفط في السبعينيات وترتب عليها إنشاء المؤسسات والصناديق المقدمة لهذا العون.
ويتمثل هذا العون في القروض والمنح والهبات والمعونات الفنية التي تساعد على تنمية الدول العربية التي تحتاج إلى هذا التمويل. ويقدم هذا التمويل من جانب صناديق التمويل العربية (قطرية أو متعددة الأطراف)، أو بالتنسيق بين هذه الصناديق العربية ومؤسسات تمويل دولية وإقليمية غير عربية.
وقد بلغ إجمالي التمويل الذي قدمته هذه الصناديق العربية حتى بداية عام 2001 حوالي 108.9 مليارات دولار استفادت منها 127 دولة عربية وغير عربية، وبلغ نصيب الدول العربية منها 60.9%، في حين بلغ نصيب الدول النامية من أميركا اللاتينية 1.5% والدول الآسيوية 21.1% والدول الأفريقية 15.8%.
مزايا شروط تمويل الصناديق العربيةبسبب سهولة وبساطة شروط التمويل الذي يقدم من هذه الصناديق فقد زاد اتجاه الدول العربية للحصول عليه، ويعتبر أهم مزايا شروط هذا التمويل ما يلي:
انخفاض أسعار الفائدة، وطول فترتي السماح والسداد.
ارتفاع عنصر المنحة في القروض المقدمة في إطار هذا التمويل، حيث توضح البيانات أن عنصر المنحة في هذه القروض يبلغ حوالي 40% بالنسبة لقروض مؤسسات العون الإنمائي العربي، وحوالي 70% في إطار العون العربي الثنائي.
عدم وجود شروط من جانب الصناديق العربية تلزم الدول التي تحصل على هذا التمويل بشراء واردات من جهات معينة، أو بإسناد تنفيذ المشروع المقدم له التمويل لشركات معينة، ولكن في الغالب يترك لهذه الدول الحرية في ذلك، وهو عكس ما هو معمول به في القروض التي تحصل عليها الدول العربية من جهات أجنبية أخرى.
عدم وجود شروط متعلقة بحق الأطراف المقدمة لهذا التمويل في التدخل في السياسات الاقتصادية للدول المتلقية لهذا التمويل كما يحدث في حالة الصندوق والبنك الدوليين.
ملاحظات على شروط الصناديق العربيةورغم هذه الشروط الميسرة المعروفة عن الاقتراض من الصناديق العربية فإن الواقع العملي أظهر بعض الملاحظات التي تشير إلى جوانب الاختلاف في هذا المجال والتي تقلل من يسر الشروط الخاصة بهذه النوعية من القروض، وأهم هذه الملاحظات ما يلي:
- تمويل في إطار صندوق النقد الدوليتحرص دائما المؤسسات المقدمة للعون الإنمائي العربي على تقديم تمويلها وتسهيلاتها للدول في إطار ما يقرره صندوق النقد الدولي وفي إطار ما يطالب به من سياسات اقتصادية تصحيحية في الدول المدينة، وكان هذا الحرص من تلك المؤسسات أكبر من حرصها على إتمام عمليات الإقراض في إطار العمل على تعزيز العمل الاقتصادي العربي المشترك ودفع التكامل الاقتصادي إلى الأمام. ويمكن التدليل على ذلك بالوقوف على أهم المجالات التي أولاها العون الإنمائي العربي أهمية في قروضه للدول العربية، فقد تركزت عمليات التمويل على مشاريع التنمية البشرية وبرامج مكافحة الفقر والآثار الاجتماعية الناجمة عن برامج الإصلاح الاقتصادي التي تتبناها الدول العربية في إطار توجهاتها لإعادة جدولة الديون مع الصندوق والبنك الدوليين، كما اهتمت عمليات التمويل بإقراض صناديق التنمية الاجتماعية في الدول العربية التي أنشئت أساسا في إطار برامج الإصلاح الاقتصادي وفي ظل ما يعرف "بشبكات الأمان الاجتماعي"، وأيضا تم تمويل برامج الصناعات الصغيرة وبرامج البنية الأساسية في الريف العربي وهي كلها مجالات يهتم بها الصندوق والبنك الدوليان، وقد لوحظ التنسيق بين الصناديق العربية المقرضة في هذا المجال في إطار ما عرف "بمجموعة التنسيق العربية" التي تضم صندوق أبو ظبي للتنمية وصندوق أوبك للتنمية الدولية والصندوق السعودي للتنمية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية والمصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا والبنك الإسلامي للتنمية.
عدم اقتصار التعاون والتنسيق في مجال الإقراض بين صناديق التنمية العربية على التنسيق في إطار مجموعة التنسيق العربية السابق الإشارة إليها فقط، بل تعدى هذا ليشمل مؤسسات التمويل الدولية الدائنة والحكومات الأجنبية ومؤسساتها التمويلية الدائنة، وهو ما يعني أن الصناديق العربية تأخذ بشروط الاستدانة التي تفرضها هذه المؤسسات الدولية عند قيامها بعمليات تمويل مشترك للدول العربية التي تطلب القروض من هذه المؤسسات.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن إجمالي عمليات التمويل المشترك بين الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي ومؤسسات التمويل العربية الوطنية والإقليمية الدولية في الفترة من 1974-2000 بلغ حوالي 17.4 مليار دولار، بلغ نصيب الصناديق العربية منها 53.5%، وبلغت حصة مؤسسات التمويل الدولية (البنك الدولي والصندوق الدولي للتنمية الزراعية إيفاد والبنك الأفريقي للتنمية) حوالي 17%، في حين بلغت حصة الحكومات الأجنبية ومؤسساتها التمويلية الدائنة 21.5%.
- موافقة سياسات الدول العربية الممولةخضوع القروض والتسهيلات التي تقدمها الصناديق العربية لما يمكن أن نطلق عليه "مبدأ الثواب والعقاب"، وهو أمر يستند إلى شروط سياسية في المقام الأول، وذلك بمعنى أن التسهيلات التي تقدمها هذه الصناديق استخدمت في الغالب لمكافأة أو معاقبة الدول العربية المتلقية لهذه التسهيلات على مواقفها السياسية من القضايا التي تهم الدول الممولة لهذه الصناديق. وقد يؤكد صحة ذلك أمران:
صعود صاروخي في حجم الديونتضاعفت الديون الخارجية للدول العربية في العقدين الماضيين سبع مرات إذ زاد حجمها من 49 مليار دولار في عام 1980 إلى 325 مليارا في عام 2000 (1). ولم يصاحب هذا الارتفاع زيادة مماثلة في الناتج المحلي الإجمالي. في بداية الفترة كانت الديون الخارجية تشكل 12% من الناتج المحلي الإجمالي العربي، فأصبحت في نهايتها 46% منه. وتشكل خدمة هذه الديون عبئاً ثقيلاً على مالية الدولة وتؤثر تأثيراً سلبياً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما لم تصمم إعادة الجدولة إلا لتأجيل المشكلة، أما إلغاء الديون فتعتمد على اعتبارات سياسية بحتة ناهيك عن ضعف فاعليتها.دقة التشخيصتتطلب المعالجة الحقيقية لأزمة المديونية تشخيصاً دقيقاً لأسبابها. هنالك كتابات عديدة تشير إلى أن المديونية الخارجية ناجمة عن قلة الادخار المحلي مقارنة بطموحات الخطط الاقتصادية، إذ إن القروض تنمي هذا الادخار فيرتفع الإنتاج وتتحسن الصادرات ويسهل لاحقاً سداد الديون.
مشكلة السياسات الماليةلكن هذا التحليل الذي يشجع في نهاية المطاف على الاستدانة لا يمت بصلة لواقع مديونية الدول العربية، فلا تشكو هذه الدول من ضعف مدخراتها بقدر ما تعانى من عدم فاعلية السياسات المالية والاقتصادية في توجيه الأموال العامة نحو الاستثمار النافع.
الإنفاق الخاطئكما لم يخصص الجزء الأكبر من القروض للتنمية بل لشراء معدات عسكرية وتمويل مشاريع ضعيفة الإنتاجية. فلا علاقة لأزمة الديون بالتنمية. فقد عرفت البلدان العربية على اختلاف مستوياتها الاقتصادية تطوراً ملموساً في الستينيات دون حاجة فعلية للتمويل الخارجي، لذلك لم تكن مشكلة المديونية مطروحة بحدة، الأمر الذي يجر إلى الاعتقاد الشديد بأن التنمية ليست سبباً لاستفحال الأزمة بل إن تعثر التنمية هو الذي قاد إلى ذلك. فلو استخدمت الموارد الذاتية والقروض الخارجية لتدعيم النمو الاقتصادي لما تفاقمت الديون لأن النمو سيكون كفيلاً بتحرير المجتمع من التزاماته المالية. وعلى هذا الأساس لا يمكن معالجة المديونية العربية إلا عن طريق إنهاء التوترات السياسية البينية العقيمة التي تقود إلى ارتفاع الإنفاق العسكري.
لكن تقليص هذا الإنفاق لا يكفي لمواجهة الأزمة المالية، ففي عام 1975 كان حجم القروض الجديدة الممنوحة للدول العربية غير الخليجية 5457 مليون دولار، أي أكبر بكثير من خدمة ديونها القديمة البالغة 1556 مليون دولار. كانت إذن التحويلات الصافية (3901 مليون دولار) لصالحها. وبمرور السنوات بدأ العد التنازلي لهذه التحويلات، ومنذ عام 1989 لم تحصل على أي إيراد رغم استمرار تدفق القروض بل باتت التحويلات الصافية لصالح المؤسسات والدول المقرضة.
وفي عام 1997 بلغ حجم القروض الجديدة 7537 مليون دولار في حين وصلت خدمة الديون القديمة إلى 12004 ملايين دولار (2). وحدث هذا الأثر السيئ رغم هبوط أسعار فائدة جميع أنماط القروض الخارجية. وبات من اللازم إذن البحث عن مصادر مالية لخدمة الديون الخارجية والقيام بعملية التنمية. وسنتناول في هذه المقالة مجموعة من المقترحات تساعد في التخفيف من ديون الدول العربية ومن ثم التخلص منها نهائيا كل ذلك من خلال المحاور التالية:
ترشيد المالية العامة
العجز سمة مشتركة لميزانيات جميع الدول العربية النفطية وغير النفطية، الأمر الذي يقود إلى نتائج سيئة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، ويؤثر مباشرة في ثقل المديونية إذ إن البلدان العربية اقترضت لإعادة التوازن للميزانية فارتفعت ديونها، ويؤثر أيضاً بصورة غير مباشرة لأن العجز المالي المفرط يفقد الثقة بالسياسة المالية فتهرب رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية.. عندئذ تقترض الدولة من الخارج لتعوض هذا الهروب.
الإجراءات العربية للحد من الإنفاقواتخذت الأقطار العربية إجراءات ترمي إلى الحد من تزايد الإنفاق وتحسين الإيراد. وقد هبط العجز من 9.8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1992 إلى 5.9% في عام 1999 (3). ولكن هذه الإجراءات أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة حتى في صفوف حملة الشهادات بسبب تنصل القطاع العام من دوره في التوظيف وتباطؤ القوة الشرائية للمواطنين نتيجة ارتفاع الضغط الضريبي وانخفاض الدعم الحكومي الموجه للمواد الاستهلاكية الأساسية.
وتستوجب الإستراتيجية المستقبلية إعادة النظر في هذه السياسة التي يساندها صندوق النقد الدولي والمطبقة في الدول العربية المثقلة بالديون الخارجية، فيتعين أن تقوم السياسة الجديدة على التصدي للعجز المالي وفق قواعد حسن الإدارة وأسس علمية قوامها تحديد الأولويات حسب الإمكانات المتوفرة.
تخصيص بعض مؤسسات الدولة الماليةهنالك شركات تجارية تابعة للحكومة تهتم بالعمليات المصرفية والتأمين والنقل تعتمد نفقاتها على الميزانية العامة، وتشير نتائج حسابات الكثير منها إلى خسارة بسبب سوء إدارتها. وينبغي سلخ هذه الشركات عن ميزانية الدولة لتصبح حسب خصوصيات كل بلد تابعة للقطاع الخاص أو لأنظمة مالية مستقلة. أما المؤسسات الضرورية للتنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية كتلك التي تنصرف للصحة والتعليم فيجب أن تحظى دائماً برعاية مالية الدولة وفق أساسين هما:
الأول: يرتبط بالمبادئ العامة وهي استخدام الموارد المالية بصورة فاعلة إلى أقصى الحدود.
الثاني: يتعلق بتحديد اتجاه الإنفاق الحكومي، إذ إن تلبية حاجات المجتمع للصحة الوقائية تتطلب تدخل الدولة عن طريق الإنفاق العام.
وينطبق هذا التدخل أيضاً على التعليم الإلزامي، في حين يختلف أمر الصحة العلاجية التي يمكن أن يتحمل المستفيدون منها مصاريف العلاج شريطة أن تكون هذه المصاريف في متناول الشريحة العريضة من المجتمع، وتصح هذه الملاحظة أيضاً على التعليم العالي.
تقليل عمليات الاستدانةمن ناحية أخرى يجب ألا تلجأ الميزانية العامة للقروض الخارجية إلا في الظروف الاستثنائية التي يحددها القانون، فمن غير المقبول أن تمول الميزانية بشكل دوري بالقروض الخارجية كما هو الوضع في المغرب ومصر والأردن، حيث تشكل القروض الخارجية في المغرب على سبيل المثال حوالي ثلث الإيرادات العامة (4).الحد من التهرب الضريبيكما يتعين التصدي بحزم لظاهرة التهرب الضريبي المتفشية في العالم العربي، فهذه الظاهرة لها آثار سلبية عديدة من الزاويتين المالية والاجتماعية، فهي تقلص الإيرادات العامة فتضطر الدولة للاقتراض من الداخل والخارج وتلجأ أحياناً للإصدارات النقدية، عندئذ يرتفع الدين العام وتزداد معدلات التضخم، وتقود كذلك إلى عدم المساواة في توزيع الأعباء خاصة عندما يتعلق الأمر بالضرائب المباشرة، إذ لا يستطيع أصحاب المرتبات التهرب من الضريبة بسبب العجز عند المنبع وذلك على عكس أصحاب الأرباح التجارية بسبب اعتماد الإدارة على تصريحاتهم.
لاشك في أن القضاء على هذه الظاهرة مستحيل لأنها توجد بوجود الضرائب، ولكن يمكن اتخاذ إجراءات للحد من أهميتها، ولا تقتصر هذه الإجراءات على الجوانب الفنية البحتة للأنظمة الضريبية ومحاربة الرشوة في الأجهزة الإدارية ومعاقبة المتهربين، بل تشمل أيضاً الاعتناء بالسياسة المالية، فإذا كانت هذه السياسة عادلة ولا تتجه نحو تبذير الأموال في مشاريع غير مفيدة وفي النفقات الخاصة للنخبة الحاكمة فسوف يشعر المكلف وهو مواطن بواجبه في تحمل الأعباء العامة.
علاقة طرديةإن ترشيد المالية العامة بهدف معالجة المديونية الخارجية لا يتحقق إلا عن طريق تقليص الإنفاق العسكري، فعند النظر إلى تطور الوضع الاقتصادي العالمي في العشرين سنة المنصرمة نلاحظ أن المنطقة العربية تكاد تكون الوحيدة في العالم التي لم تحرز تقدماً يتناسب مع إمكاناتها المالية والطبيعية، فالديون الخارجية ترتفع باستمرار، والموازين الخارجية في حالة عجز، وارتفعت معدلات البطالة، وتدهورت الحالة المعيشية لجميع المواطنين. وحسب مؤشر التنمية البشرية (يتضمن مدة الأمل في الحياة ودرجة المعرفة ومستوى القوة الشرائية) الذي يغطي 174 دولة والذي تسجل فيه كندا المرتبة العالمية الأولى يتبين أن المملكة العربية السعودية تحتل المرتبة رقم 75 رغم إمكاناتها المالية الكبيرة، وتنخفض التنمية البشرية في بلدان أخرى لتصل إلى المرتبة العالمية رقم 111 في سوريا و119 في مصر و124 في المغرب و126 في العراق و143 في السودان (5).
ترشيد الإنفاق العسكري
نجم هذا الوضع المتردي عن أسباب عديدة في مقدمتها ارتفاع الإنفاق العسكري الذي لا يتيح الفرصة لتطوير الأنشطة المدنية النافعة للمجتمع، فالمرفق العسكري العربي مستهلك ومبذر.. مستهلك لأن الجيوش العربية تعتمد على استيراد الأسلحة وبالتالي فهو يسهم إسهاما فاعلا في عجز الموازين الخارجية دون إضافة قيمة إنتاجية جديدة. وهو مبذر لكونه المرفق الوحيد الذي لا يخضع طلبه للاعتبارات المالية.
ومنذ عدة سنوات تتجه السياسات الاقتصادية للدول العربية نحو الإصلاح المالي الذي لا يعني سوى الضغط على الإنفاق العام بطريقة أو بأخرى كالتخصيص وتقليص الإعانات الاجتماعية والحد من التوظيف. لكن الإصلاح بهذا المفهوم التقشفي لا يشمل القطاع العسكري الذي تتسم حاجاته بعدم المرونة، فلا تتردد الدولة في حجب الأموال عن القطاعات المنتجة لإضافتها إلى القطاع العسكري. وبالنظر إلى الأزمات السياسية الإقليمية وعدم كفاية الموارد المالية الوطنية راحت الدول الغنية والفقيرة تقترض من الخارج لشراء المزيد من الأسلحة فتفاقمت ديونها.
نفقات التسليح العربيوفقا للمصادر (6) استورد العالم العربي بين عامي 1978 و1988 أسلحة بمبلغ يعادل 14% من الناتج المحلي الإجمالي مول نصفه عن طريق القروض الخارجية. وحسب مصادر أخرى (7) بلغ الإنفاق العسكري للبلدان العربية (باستثناء العراق) 48 مليار دولار في عام 1985 و35.9 مليارا في عام 1995. أي ما يعادل على التوالي 28.8% و22.6% من النفقات العامة الكلية و10.7% و7.9% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه نسب عالية جداً مقارنة بالمعدلات في المناطق الأخرى من العالم.
نموذج العراقوالدول التي تخصص نسبة عالية للإنفاق العسكري هي جميع دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر وسوريا واليمن والمغرب وكذلك وبصورة خاصة العراق. ففي الفترة الواقعة بين 1981 و1988 (إبان الحرب مع إيران) صرف العراق 166.1 مليار دولار للدفاع والأمن ولم يحصل إلا على 77.6 مليارا من النفط، أي لم تعد إيرادات الخام تغطي سوى 47% من النفقات العسكرية علماً بأنه من اللازم توفير المال لاستيراد الأدوات المدنية ومعدات التنمية والمواد الغذائية والطبية. لذا فإن السحب من الأرصدة الخارجية أصبح ضروريا، ففي أقل من ثلاث سنوات من بداية الحرب نفدت تقريباً جميع الأموال المودعة في الخارج، وانتقلت من 35.5 مليار دولار في عام 1980 إلى 15.8 مليارا في عام 1981 ثم إلى 1.2 مليار دولار في عام 1982 وإلى 0.8 مليار دولار في عام 1983 (8).
وهكذا هبطت الفوائد الناجمة عنها من 4200 مليون دولار في عام 1979 إلى 60 مليونا في عام 1983. وغني عن البيان أن مصادر العملة الحرة محدودة جداً، فعلى عكس بلدان المغرب العربي لا يعير العراق أهمية للسياحة الدولية رغم مكانته المرموقة على الصعيدين الحضاري والديني، ولم يعتد العراقيون المقيمون بالخارج على تحويل قسط من دخولهم إلى بلدهم إضافة إلى قلة عددهم.
- التحويلات الخارجيةوبالمقابل شكلت تحويلات العمال العرب والأجانب المقيمين في العراق ثغرة جديدة في المالية الخارجية، فقد قدرت هذه التحويلات بحوالي ثلاثة مليارات دولار سنوياً، أي ثلث إيرادات النفط. أما صادرات التمر والمواد الأولية فتشكل في أفضل الحالات 3% فقط من إيرادات النفط علماً بأن العراق أكبر بلد منتج ومصدر للتمر في العالم. لذلك لا يوجد سوى منفذ مالي واحد لتأجيل الأزمة وهو الاقتراض من الخارج، فسقط البلد في فخ الديون.
وبعد انتهاء الحرب مع إيران وصلت ديون العراق إلى 84 مليار دولار (9). وبسبب حرب الخليج الثانية والحصار لم يستطع البلد خدمة ديونه فتراكمت متأخرات السداد حتى أصبحت الديون الخارجية 126 مليارا في نهاية عام 1998 (10).
حل الخلافات السياسية
إن المستقبل الاقتصادي والاجتماعي للعالم العربي يتوقف على إزالة الخلافات السياسية البينية وإقامة علاقات تجارية متينة، عندئذ تنخفض نفقات المؤسسات العسكرية. أما القول بعدم إمكانية خفض هذه النفقات بسبب الوجود الإسرائيلي فهو غير منطقي، فقد أنفقت أموال طائلة في حرب العراق مع إيران وحرب الخليج الثانية وحرب المغرب في الصحراء الغربية والحروب الأهلية في جنوب السودان وشمال العراق واليمن وكذلك في تسليح دول مجلس التعاون الخليجي.. ولم تخصص هذه الأموال لمواجهة العدو الصهيوني، بل إن بعض البلدان العربية المثقلة بالديون خاصة مصر والأردن وموريتانيا أقامت علاقات مع إسرائيل تهدف فيما تهدف إليه الحصول على مساعدات أميركية والدخول إلى الأسواق الغربية وإلغاء الديون.
تنمية الموارد الخارجية
تتوفر جميع البلدان العربية المدينة على إمكانات واسعة لتنمية مواردها المالية الخارجية الضرورية لخدمة الديون القديمة وتقليص الاعتماد على القروض الجديد. ويمكن معالجة عجز الميزان التجاري عن طريق الاعتناء بالقطاع الزراعي ورفع مستوى المبادلات التجارية البينية واستخدام القروض في الأنشطة الإنتاجية، كما يمكن استخدام السياسة النقدية لتعزيز تلك الموارد. ويتعين كذلك تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة نظراً لأهميتها في زيادة الصادرات ونقل التكنولوجيا الحديثة ناهيك عن دورها الإيجابي في تحسين حالة ميزان المدفوعات.
تقليص العجز التجاريوفقا للإحصاءات الرسمية (11) يتبين أن فائض الموازين التجارية للبلدان النفطية يتجه نحو الهبوط حيث انتقل من 123.3 مليار دولار في عام 1980 إلى 18.4 مليارا في عام 1998، كما ارتفع عجز الموازين التجارية للبلدان غير النفطية في الفترة نفسها من 14.8 مليارا إلى 24.7 مليارا. وانعكست هذه النتائج السلبية على الموازين الجارية فأصبحت تعاني من العجز في المجموعتين. وللحصول على توازن ميزان المدفوعات لابد من إحداث فائض في حساب العمليات الرأسمالية يعادل عجز الميزان التجاري. ولما كان من الصعب الحصول على استثمارات أجنبية مباشرة وعلى رؤوس أموال أجنبية قصيرة الأجل وجب الاقتراض من الخارج. وهذا الأسلوب يسبب متاعب مالية لأنه يفضي إلى استفحال المديونية الخارجية، كما أنه يفقد الثقة بالسياسة المالية فتزداد صعوبة تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى الدولة. لذا فمن الضروري تحسين مركز الميزان التجاري بدلاً من تحقيق فائض في حساب العمليات الرأسمالية، فتقليص العجز التجاري سيكفل تخفيف حدة المديونية عن طريق التأثير في الصادرات والواردات في آن واحد دون إحداث آثار اجتماعية واقتصادية سيئة.تنشيط الصادراتفيما يخص الصادرات تواجه البلدان المدينة عدة صعوبات يتعذر أحياناً التصدي لها وتنعكس مباشرة على ثقل المديونية على اعتبار أن حصيلة الصادرات هي الطريق الطبيعي لخدمة الديون. في مقدمة هذه العراقيل الركود الاقتصادي الذي ظهر في البلدان الصناعية منذ أكثر من 15 سنة، وقد أثر هذا في مقدرتها على استقطاب كميات كبيرة من السلع.
كما قاد تطور التعاون الاقتصادي والسياسي في دول أوروبا الغربية إلى فرض شتى وسائل الحماية لمنتجاتها البينية الأمر الذي انعكس سلبياً على الصادرات العربية التي تعتمد بالدرجة الأولى على هذه الدول. أضف إلى ذلك أن القطاعات الاقتصادية للدول العربية المدينة تتسم باعتمادها على عدد قليل من السلع وبالتالي تهتز ماليتها عند هبوط أسعارها في السوق العالمية.
لذا بات يتعين على البلدان المدينة تحسين إنتاجها الزراعي للحد من الواردات الغذائية، الأمر الذي يؤثر بصورة إيجابية في موازين مدفوعاتها. ومن دون ذلك سيزداد عبء المديونية بحكم التنظيم الجديد للتجارة العالمية، إذ سيفضي هذا التنظيم إلى إلغاء الدعم المالي الممنوح للمنتجين والمصدرين الزراعيين في الدول المتقدمة، وإلغاء الدعم يعني زيادة كلفة الإنتاج وما ينجم عنها من ارتفاع أسعار السلع الزراعية. ولما كانت الأقطار العربية تستورد أكثر من نصف حاجاتها الزراعية، فإن تحرير التجارة العالمية سيقود إلى ظهور آثار سلبية في موازين مدفوعاتها وفي مستوى معيشة مواطنيها إذ سترتفع أسعار الحبوب واللحوم والألبان والسكر والزيوت.
استغلال الموارد المائية
لاشك في أن المنطقة العربية فقيرة جداً بمواردها المائية مقارنة بالمناطق الأخرى من العالم. وهذا الوضع يؤثر في مساحة الأراضي القابلة للزراعة التي لا تتجاوز 197 مليون هكتار أي 14% من المساحة الكلية للعالم العربي. لكن مساحة الأراضي المزروعة فعلاً لا تتعدى 70 مليون هكتار (12)، بمعنى أن 127 مليون هكتار غير مستغلة لأسباب ترتبط بالسياسات الاقتصادية لا بندرة المياه. لذلك يتعين تنسيق الجهود بين البلدان المتوفرة على أيدي عاملة والبلدان الغنية برؤوس الأموال، وهكذا يهبط عجز الميزان الزراعي وتكف البلدان المدينة عن الاقتراض لسد هذا العجز أو لشراء تلك المواد. ففي مصر بلغت صادراتها الزراعية 572 مليون دولار في حين وصلت وارداتها الزراعية إلى 3716 مليونا. وبالتالي تستطيع الاستغناء عن الاقتراض الخارجي إن حققت الاكتفاء الذاتي الغذائي. وبشكل عام إن عولجت الفجوة الغذائية سوف يقتصد العالم العربي 19 مليار دولار سنوياً يخصص منها 12 مليارا لخدمة ديونه دون حاجة إلى إعادة جدولتها.
استخدام القروض الخارجية في التنمية
ومن زاوية أخرى لابد من استخدام القروض الخارجية في مجالات تنموية، وهذا يلزم إقامة علاقة بين القروض الجديدة من جهة والاستثمار والتصدير من جهة أخرى. فعندما تنفق الأموال المقترضة لزيادة الإنتاج المخصص للتصدير يصبح سداد الديون سهلاً إذ عن طريق زيادة الصادرات تتحرر ذمة الدولة. وعلى هذا الأساس لا تهتم النظرة المستقبلية للمديونية الخارجية بحجم الديون ومبلغ خدمتها بل بعلاقة هذا الحجم بالناتج المحلي الإجمالي وعلاقة هذا المبلغ بالصادرات، ففي فترة زمنية معينة إذا كانت نسبة حجم الديون مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي ونسبة خدمة الديون مقارنة بالصادرات أقل في نهاية الفترة قياساً ببدايتها فذلك يعني نجاح السياسة المالية في استخدام القروض في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بطبيعة الحال على افتراض عدم تدخل عوامل أخرى.
تحسين السياسات المالية
ومن أجل تحسين الموارد المالية يتعين استخدام السياسة النقدية، فإذا كان تأثير خفض قيمة العملة ضعيفاً في ميدان التجارة الخارجية السلعية للدول العربية فإن تأثيره الإيجابي كبير في ميدان تحويلات الدخول التي يجريها العمال المغتربون. فهذه التحويلات لها أهمية مالية قصوى خاصة في مصر والسودان والجزائر وتونس والمغرب ولبنان والأردن، ففي السودان كان الدولار يعادل 29 جنيها في عام 1992 وبلغت تحويلات العمال السودانيين المقيمين بالخارج 120 مليون دولار. وبعد تخفيضات متتالية أصبح الدولار يساوي 157 جنيها في عام 1998 فارتفعت التحويلات إلى 346 مليون دولار أي 58% من الصادرات الكلية. وعلى أثر تعويم الجنيه المصري أصبحت تحويلات العمال المصريين المقيمين بالخارج تزيد على خمسة مليارات دولار، أي أكثر من مجموع حصيلة الصادرات مما أدى إلى تحسين مستوى الاحتياطيات الرسمية وتخفيف عبء المديونية الخارجية.
أما إذا كان سعر الصرف الرسمي للعملة المحلية لا يتناسب مع قيمتها الحقيقية فإن العمال المقيمين بالخارج سيعزفون عن التحويل بواسطة القنوات المصرفية وتحرم مالية الدولة من مصدر مهم للإيرادات. وتنطبق هذه الحالة على العراق وهو أكبر بلد مدين في العالم العربي. وبات من اللازم له تعويم الدينار وبمقتضاه يتحدد سعر الصرف حسب العرض والطلب، عندئذ يستطيع المغتربون تحويل جزء من دخولهم بالطريق المصرفي. وعلى افتراض أن عدد العراقيين بالخارج مليون شخص وأن كلا منهم يحول 50 دولاراً شهرياً، فسوف يصل إلى العراق 600 مليون دولار سنوياً دون مقابل. إنه المبلغ اللازم لتغطية حاجات جميع المواطنين من الأدوية مجانا، وبذلك يحد التعويم من الموجات التضخمية العالية.
أما الآثار السلبية للتعويم فتكاد تكون منعدمة في الظروف الحالية. فهو لا يقود إلى تخفيض قيمة الدينار بل إلى تطابق السعر الرسمي مع القيمة الحقيقية للعملة وهذا هو هدف أسعار الصرف المتسمة بالمصداقية. فجميع الدول العربية المثقلة بالديون الخارجية التي تعتمد على تحويلات عمالها المغتربين تطبق نظام التعويم، ولا يوجد أي مانع من العودة إلى التثبيت عندما تتحسن الأحوال المالية لأن هذا النظام أو ذاك يتم بمجرد صدور قرار حكومي ولا يتطلب إجراءات معقدة.
تشجيع رؤوس الأموال الأجنبية
لرؤوس الأموال الأجنبية أهمية قصوى في تخفيف حدة المديونية الخارجية، فهي إيرادات تدخل إلى حساب رأس المال في ميزان المدفوعات الأمر الذي يقلص عجز الموازين الخارجية ويفضي بالنتيجة النهائية إلى الحد من اللجوء مجدداً إلى الاقتراض، كما تلعب رؤوس الأموال الأجنبية دوراً بارزاً في نقل التكنولوجيا الحديثة ورفع مستوى العمالة وزيادة الإنتاج وفتح منافذ خارجية للسلع المحلية، عندئذ يتحسن مركز الميزان التجاري فيهبط عجز ميزان المدفوعات، وهكذا تضعف الحاجة إلى القروض الجديدة وتسهل خدمة الديون القديمة.
حث الدائنين على تبديل الديون
يتعين حث الدائنين على إمكانية تبديل الديون. وقد تمكنت بعض الأقطار العربية (13) من تحويل ديونها الخارجية إلى استثمارات محلية أو مقايضتها بسلع قابلة للتصدير. وغالباً ما تتم هذه العملية أو تلك بعد خصم يتفق عليه الطرفان الدائن والمدين. فقد اتفق الأردن مع روسيا على شراء دين روسي قيمته 800 مليون دولار بمبلغ 140 مليون دولار، وسدد هذا المبلغ بصادرات أردنية قدرها 52 مليونا ودفع الباقي نقدا.
واتفق المغرب مع فرنسا على تحويل 440 مليونا من الديون المستحقة لفرنسا إلى استثمارات خاصة داخل المغرب.وعقدت مصر عدة اتفاقات مع دائنيها تم بموجبها تحويل حوالي 3200 مليون دولار بعد خصم بنسبة 46% إلى استثمارات خاصة بالجنيه وإلى سلع مصرية تصدر إلى الخارج، وتتولى أجهزة وزارة الاقتصاد والبنك المركزي الإشراف على هذه العملية.
تحويل الإعفاءات الضريبية إلى ضرائب ثابتة
بالنظر لأهمية الاستثمارات الأجنبية شرعت البلدان العربية أنظمة تمنح بموجبها امتيازات عديدة لها في مقدمتها الإعفاءات الضريبية. لكن هذه الإعفاءات تقلص الإيرادات وتقود بالتالي إلى ارتفاع عجز الميزانية العامة، كما وجهت الدراسات (14) انتقادات عديدة لهذه الإعفاءات. إنها تتعارض مع مبادئ الإنصاف بسبب تطبيقها على الأجانب دون المواطنين، وتقود إلى هروب رؤوس الأموال المحلية إلى الخارج لتدخل مرة أخرى إلى البلد بصفتها استثمارات أجنبية، وتؤدي إلى تزايد الرشوة في الإدارات المختصة بالنظر في منح الإعفاءات، وبات من اللازم إلغاء هذه الإعفاءات وتغييرها إلى ضرائب ثابتة وملائمة لنمط الاستثمار. فالضغط الضريبي الذي يتحمله استثمار أجنبي مباشر في قطاع الخدمات يجب أن يكون أعلى من ذلك الذي يتحمله استثمار أجنبي مباشر في قطاع الصادرات الصناعية، وهكذا يمكن أن تتدرج المعاملة حتى تصل إلى أعلى مستوياتها في رؤوس الأموال الأجنبية القصيرة الأجل التي تهدف إلى الربح السريع فقط.
تعتمد قرارات المستثمرين الأجانب على عوامل عديدة أساسية وثانوية، والضغط الضريبي المرتفع عامل أساسي يحول دون جلب الاستثمارات الأجنبية بل يقود إلى هروب رؤوس الأموال الوطنية، لكن الإعفاءات السخية ليست سوى عامل ثانوي أحياناً غير فاعل لتشجيع الاستثمارات الأجنبية، فلا توجد حالة تتكالب فيها رؤوس الأموال الأجنبية بسبب الإعفاءات الضريبية في دولة تعاني من تباطؤ النمو وضعف البنية التحتية واختلال مزمن للموازين الخارجية وكثرة القيود النقدية والتجارية والمالية على القطاع الخاص.
ينبغي إذا العمل على موازنة الامتيازات الممنوحة للاستثمارات الأجنبية مع المكاسب الاقتصادية التي تحققها، فمن جهة هنالك الخسائر المكونة من مبالغ الإعفاءات الضريبية والأرباح المحولة إلى الخارج، ومن جهة أخرى هنالك المكاسب المتمثلة بالقيمة المضافة لرؤوس الأموال. والواقع أنه لا توجد في البلدان العربية دراسة جدية لمعادلة هذين الشطرين. فالضيق المالي الذي قاد إلى اللجوء المتزايد للقروض الخارجية دون الاكتراث بمرحلة السداد أدى إلى منح امتيازات سخية دون حساب، وعلى الرغم من ذلك لا تزال الاستثمارات الأجنبية المباشرة ضعيفة في البلدان العربية. ففي عام 1999 بلغت 8.7 مليارات دولار (15) أي 4.2% فقط من مجموع تدفق الاستثمارات المباشرة إلى الدول النامية.
إن معالجة المشاكل السياسية والقانونية والإدارية في الأقطار العربية هي الخطوة الأساسية لبناء مناخ استثماري ملائم في مجالات لا تقتصر على الميدان النفطي بل تمتد لتشمل الصناعات التحويلية والزراعة والسياحة. وإذا كان من الضروري توفير المناخ المناسب لرؤوس الأموال الأجنبية العربية وغير العربية فإنه من الضروري أيضاً ألا يسبب هذا المناخ مشاكل مالية قد تقود إلى استفحال المديونية الخارجية كما حدث في المكسيك وشرق آسيا والبرازيل في التسعينيات. يتعين تطبيق خطة مدروسة دراسة دقيقة وعميقة تتضمن كيفية ودرجات تحرير الأنماط المختلفة لرؤوس الأموال.
وقد دلت التجارب على ضرورة الاعتماد على التسلسل الصحيح للتحرير، فلا يجوز إعطاء حرية واسعة لتدفق الأموال الأجنبية القصيرة الأجل إلى الداخل قبل تحرير الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ومع ذلك فهذه الاستثمارات كالقروض الخارجية تمتص الاحتياطيات الرسمية بسبب ترحيل أرباحها، فيجب إذن أن يقتصر التشجيع على الاستثمارات التي تطور الصناعات وتسهل خدمة الديون وتحسن الأداء الاقتصادي.
ولمواجهة الاختلال المالي يتعين:
تقليص الإنفاق العسكري باعتباره السبب الأساسي لتفاقم المديونية العربية.
تنمية الموارد الخارجية لخدمة الديون وتنفيذ الخطط الاقتصادية، ولتحقيق ذلك يجب التصدي لعجز الميزان التجاري بطرق عديدة في مقدمتها تحسين الإنتاج الزراعي واتباع سياسة نقدية ملائمة.
دعم مركز ميزان المدفوعات والحد من الاقتراض الجديد عن طريق تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة بتوفير المناخ المناسب لها.
وأخيراً يقترح هذا البحث تحديد نسبة معينة من الموارد المالية الخارجية لخدمة الديون كأن تكون 20% مثلاً، ويمكن الاقتراض من الخارج إذا كانت خدمة الديون القديمة أقل من هذه النسبة، أما إذا تم تجاوزها لسبب أو لآخر كتردي أسعار الصادرات أو ارتفاع الواردات أو هبوط إيرادات السياحة والاستثمارات الخارجية يتعين عدم اللجوء إلى الاقتراض الخارجي والبحث عن وسائل أخرى للتمويل. بهذه الطريقة يمكن سداد الديون دون إجراءات تقشفية قاسية. كما يطمئن الدائنون على المقدرة المالية للدولة وتزداد ثقة المستثمرين الأجانب بالسياسة الاقتصادية.
شروط الديون الخارجية
"لا توجد وجبة مجانية".. هذا شعار أصبح يسيطر على العلاقات الاقتصادية الدولية في مختلف المجالات، ومنها تدفق رؤوس الأموال سواء في صورة استثمارات أو في صورة معونات أو في صورة قروض، ففي الغالب يفرض الطرف الأقوى (المقدم لهذه الأموال) شروطه على الطرف الأضعف (المتلقي لهذه الأموال)، ويأتي في هذا السياق شروط المديونية الخارجية سواء كان الحصول على هذه الديون من حكومات صديقة أو شقيقة أو من الصناديق العربية للتنمية أو من بنوك تجارية حكومية أو غير حكومية، أو من مؤسسات تمويل دولية وإقليمية مثل البنك الدولي والبنك الإسلامي وغيرها.
فما هي هذه الشروط؟ وما مدى اختلافها باختلاف الجهات الدائنة؟ وما آليات ضمان التزام البلدان العربية المدينة بهذه الشروط؟ وأخيرا ما آثار هذه الشروط على الاقتصاديات العربية؟
السطور التالية تحاول الإجابة على هذه الأسئلة بصورة مبسطة حتى تتضح الصورة لغير المتخصص قبل المتخصص.
تطور الشروططرأت العديد من التغيرات على الشروط المصاحبة للاقتراض الخارجي منذ عام 1982، حيث بلغت مديونية البلدان النامية في هذا العام حوالي 575 مليار دولار مقابل 109 مليارات فقط عام 1973، وهو الأمر الذي يرجعه البعض إلى تراكم المدخرات في البنوك ومؤسسات التمويل في فترة السبعينيات مما جعلها تتساهل في شروط إعطاء القروض من حيث سعر الفائدة وآجال السداد وغيرها من الشروط، وفي ظل هذا التساهل سقطت معظم الدول النامية في فخ المديونية.
وقد انتهى زمن هذا التساهل في شروط القروض الخارجية دون رجعة بعد أن تجرأت بعض الدول النامية في أميركا اللاتينية على إنكار ديونها الخارجية وإعلان التوقف عن السداد بسبب تفاقم الاختلالات الاقتصادية التي عرفت بأزمة المديونية العالمية عام 1982، وما صاحب ذلك من إغواء لدول نامية أخرى للتوقف عن سداد الديون الخارجية، وهو ما كان بداية لإعادة النظر في شروط الاستدانة الخارجية، واتجاه هذه الشروط نحو مزيد من التشدد، وخاصة الديون التي يكون الصندوق والبنك الدوليان طرفا فيها عند الحصول عليها أو عند إعادة جدولتها.
ولم تكن الدول العربية بعيدة عن هذه الشروط عند حصولها على ديون خارجية (325 مليار دولار) أو عند دخولها في مفاوضات لإعادة جدولة هذه الديون. وسنحاول في هذه المقاول الحديث على المحاور الآتية:
الشروط التقليدية للديون الخارجية
تختلف شروط الديون الخارجية وفقا لعدة معايير، وأهم هذه المعايير ما يلي:أ - من حيث الجهة التي تقدم الديون:
وهذه الجهات إما أن تكون الحكومات أو مؤسسات تمويل إقليمية أو دولية أو بنوكا تجارية، ففي حالة القروض من الحكومات تتوقف الشروط على طبيعة العلاقة بين حكومة الدولة المقترضة والدولة المقرضة، وبطبيعة المصالح الاقتصادية والسياسية بينهما، وفي الغالب تدور الشروط حول سعر الفائدة وآجال السداد والضمانات وفترات السماح، ويمكن أن تمتد لتشمل ربط القروض باستيراد منتجات معينة من الدولة الدائنة أو نقل هذه الواردات على سفنها أو قصر تنفيذ المشروعات التي تمولها هذه القروض على شركات الدولة المقرضة.
أما في حالة المؤسسات الإقليمية والدولية فإن الشروط تتفاوت، ومن أشهر هذه المؤسسات البنك الدولي الذي يشترط أن تكون القروض لتمويل مشروعات التعمير والتنمية في الدولة المدينة، وأن تكون للحكومات أو للجهات التابعة لها أو لجهات تضمنها الدولة، كما يشترط ألا يكون للدولة مصدر آخر للتمويل.
أما في حالة البنوك التجارية فإن الشروط تتركز على سعر الفائدة والضمانات التي يقدمها المدين لهذه البنوك.
ب - من حيث الأهداف:فما الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها الجهات الدائنة؟ وهل هي تحقيق الأرباح بمعناها المالي والنقدي أو تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية؟ فإذا كان هدف الجهة المقرضة الربح يتم التركيز على الفائدة وفترات السداد والضمانات، وهي شروط تقليدية. أما إذا كانت هناك أهداف أخرى فإن الجهة الدائنة تركز عليها عند الاتفاق على القرض مثل زيادة الصادرات للدولة الدائنة وذلك عن طريق حصول الدولة المدينة على جزء من هذه الديون في صورة سلع ومنتجات من الدولة الدائنة، وقد تكون الشروط في صورة إلزام الدولة المدينة بسياسات اقتصادية معينة كما في حالة الصندوق والبنك الدوليين.
وإلى جانب ما سبق تتأثر شروط الديون بطول فترة سداد الدين، وكذلك تتأثر بالظروف الدولية التي تتم فيها هذه الديون، وبالسمعة الاقتصادية للدولة المقترضة (الجدارة الائتمانية) وقدرتها على السداد في المستقبل.
ومن أغرب الشروط التي وضعها الدائنون الشرط الذي وضعه البنك الدولي عند طلب الأردن لقرض لتمويل بناء سد على نهر الأردن، فقد اشترط البنك موافقة إسرائيل على بناء السد وتعهدها بعدم تدميره، وهو ما منع إتمام القرض أو إتمام بناء السد. وربما حدث أمر شبيه بذلك مع مصر عند طلبها تمويل بناء السد العالي من البنك الدولي في الستينيات، حيث كان هناك شرط ضمني بضرورة موافقة الولايات المتحدة الأميركية، وهو الشرط الذي لم يتوفر، وبذلك لم يمول البنك بناء السد العالي.
الشروط في ظل العون الإنمائي العربي
من المعروف أن العون الإنمائي العربي من أهم الملامح التي تميز تجربة التعاون الاقتصادي العربي عن بقية التجارب الدولية، وقد كانت بداية هذا العون مع الطفرة التي حدثت في أسعار النفط في السبعينيات وترتب عليها إنشاء المؤسسات والصناديق المقدمة لهذا العون.
ويتمثل هذا العون في القروض والمنح والهبات والمعونات الفنية التي تساعد على تنمية الدول العربية التي تحتاج إلى هذا التمويل. ويقدم هذا التمويل من جانب صناديق التمويل العربية (قطرية أو متعددة الأطراف)، أو بالتنسيق بين هذه الصناديق العربية ومؤسسات تمويل دولية وإقليمية غير عربية.
وقد بلغ إجمالي التمويل الذي قدمته هذه الصناديق العربية حتى بداية عام 2001 حوالي 108.9 مليارات دولار استفادت منها 127 دولة عربية وغير عربية، وبلغ نصيب الدول العربية منها 60.9%، في حين بلغ نصيب الدول النامية من أميركا اللاتينية 1.5% والدول الآسيوية 21.1% والدول الأفريقية 15.8%.
مزايا شروط تمويل الصناديق العربيةبسبب سهولة وبساطة شروط التمويل الذي يقدم من هذه الصناديق فقد زاد اتجاه الدول العربية للحصول عليه، ويعتبر أهم مزايا شروط هذا التمويل ما يلي:
انخفاض أسعار الفائدة، وطول فترتي السماح والسداد.
ارتفاع عنصر المنحة في القروض المقدمة في إطار هذا التمويل، حيث توضح البيانات أن عنصر المنحة في هذه القروض يبلغ حوالي 40% بالنسبة لقروض مؤسسات العون الإنمائي العربي، وحوالي 70% في إطار العون العربي الثنائي.
عدم وجود شروط من جانب الصناديق العربية تلزم الدول التي تحصل على هذا التمويل بشراء واردات من جهات معينة، أو بإسناد تنفيذ المشروع المقدم له التمويل لشركات معينة، ولكن في الغالب يترك لهذه الدول الحرية في ذلك، وهو عكس ما هو معمول به في القروض التي تحصل عليها الدول العربية من جهات أجنبية أخرى.
عدم وجود شروط متعلقة بحق الأطراف المقدمة لهذا التمويل في التدخل في السياسات الاقتصادية للدول المتلقية لهذا التمويل كما يحدث في حالة الصندوق والبنك الدوليين.
ملاحظات على شروط الصناديق العربيةورغم هذه الشروط الميسرة المعروفة عن الاقتراض من الصناديق العربية فإن الواقع العملي أظهر بعض الملاحظات التي تشير إلى جوانب الاختلاف في هذا المجال والتي تقلل من يسر الشروط الخاصة بهذه النوعية من القروض، وأهم هذه الملاحظات ما يلي:
- تمويل في إطار صندوق النقد الدوليتحرص دائما المؤسسات المقدمة للعون الإنمائي العربي على تقديم تمويلها وتسهيلاتها للدول في إطار ما يقرره صندوق النقد الدولي وفي إطار ما يطالب به من سياسات اقتصادية تصحيحية في الدول المدينة، وكان هذا الحرص من تلك المؤسسات أكبر من حرصها على إتمام عمليات الإقراض في إطار العمل على تعزيز العمل الاقتصادي العربي المشترك ودفع التكامل الاقتصادي إلى الأمام. ويمكن التدليل على ذلك بالوقوف على أهم المجالات التي أولاها العون الإنمائي العربي أهمية في قروضه للدول العربية، فقد تركزت عمليات التمويل على مشاريع التنمية البشرية وبرامج مكافحة الفقر والآثار الاجتماعية الناجمة عن برامج الإصلاح الاقتصادي التي تتبناها الدول العربية في إطار توجهاتها لإعادة جدولة الديون مع الصندوق والبنك الدوليين، كما اهتمت عمليات التمويل بإقراض صناديق التنمية الاجتماعية في الدول العربية التي أنشئت أساسا في إطار برامج الإصلاح الاقتصادي وفي ظل ما يعرف "بشبكات الأمان الاجتماعي"، وأيضا تم تمويل برامج الصناعات الصغيرة وبرامج البنية الأساسية في الريف العربي وهي كلها مجالات يهتم بها الصندوق والبنك الدوليان، وقد لوحظ التنسيق بين الصناديق العربية المقرضة في هذا المجال في إطار ما عرف "بمجموعة التنسيق العربية" التي تضم صندوق أبو ظبي للتنمية وصندوق أوبك للتنمية الدولية والصندوق السعودي للتنمية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية والمصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا والبنك الإسلامي للتنمية.
عدم اقتصار التعاون والتنسيق في مجال الإقراض بين صناديق التنمية العربية على التنسيق في إطار مجموعة التنسيق العربية السابق الإشارة إليها فقط، بل تعدى هذا ليشمل مؤسسات التمويل الدولية الدائنة والحكومات الأجنبية ومؤسساتها التمويلية الدائنة، وهو ما يعني أن الصناديق العربية تأخذ بشروط الاستدانة التي تفرضها هذه المؤسسات الدولية عند قيامها بعمليات تمويل مشترك للدول العربية التي تطلب القروض من هذه المؤسسات.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن إجمالي عمليات التمويل المشترك بين الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي ومؤسسات التمويل العربية الوطنية والإقليمية الدولية في الفترة من 1974-2000 بلغ حوالي 17.4 مليار دولار، بلغ نصيب الصناديق العربية منها 53.5%، وبلغت حصة مؤسسات التمويل الدولية (البنك الدولي والصندوق الدولي للتنمية الزراعية إيفاد والبنك الأفريقي للتنمية) حوالي 17%، في حين بلغت حصة الحكومات الأجنبية ومؤسساتها التمويلية الدائنة 21.5%.
- موافقة سياسات الدول العربية الممولةخضوع القروض والتسهيلات التي تقدمها الصناديق العربية لما يمكن أن نطلق عليه "مبدأ الثواب والعقاب"، وهو أمر يستند إلى شروط سياسية في المقام الأول، وذلك بمعنى أن التسهيلات التي تقدمها هذه الصناديق استخدمت في الغالب لمكافأة أو معاقبة الدول العربية المتلقية لهذه التسهيلات على مواقفها السياسية من القضايا التي تهم الدول الممولة لهذه الصناديق. وقد يؤكد صحة ذلك أمران:
الأول: سيطرة الدول الممولة على عمليات التمويل التي تقدمها هذه الصناديق وبعيدا عن إشراف أو توجيه مؤسسات العمل العربي المشترك.
الثاني: ما يمكن أن يوضحه تطور نصيب بعض الدول العربية من هذه التسهيلات والقروض في الفترة من عام 1973 حتى عام 2002. وعلى سبيل المثال يلاحظ أن نصيب دولة مثل مصر من تمويل هذه الصناديق لم يتجاوز 1.1% من إجمالي عمليات هذه الصناديق عقب إبرام مصر لاتفاقية السلام مع إسرائيل، في حين بلغ نصيب سوريا في ذلك الوقت حوالي 27.1%، والأردن حوالي 26.1%، ولكن بداية من عام 1990 وبعد الموقف المصري من حرب الخليج الثانية حصلت مصر على نصيب الأسد حيث بلغت حصتها في الفترة 1990/1999 حوالي 39.5%، في حين بلغ نصيب سوريا 4.7%، والأردن 6.2%، هذا إلى جانب قيام دول الخليج بالتنازل عن ديونها لدى مصر التي بلغت حوالي 6.2 مليارات دولار عقب حرب الخليج الثانية.
ولذلك يمكن القول إن الديون في إطار العون الإنمائي العربي تتم ما بين مانح ومتلق وليس في إطار أسرة عربية واحدة، فرغم ما تتسم به من شروط ميسرة مقارنة بغيرها من الديون فإنها لا تخلو من شروط، وفي بعض الأحوال تتبنى شروط الصندوق والبنك الدوليين، ولكن رغم ذلك فإنه لا يجب التقليل من الدور الذي تلعبه صناديق التمويل العربية في دعم برامج التنمية في معظم البلدان العربية.
شروط صندوق النقد والبنك الدوليين
تظل شروط الديون الخارجية شروطا عادية طالما التزمت الدول المدينة بها وطالما كانت هذه الدول مواظبة على سداد خدمة هذه الديون (الأقساط والفوائد) في وقتها، ولكن إذا تعثرت الدولة المدينة في السداد لأسباب داخلية أو خارجية تكون أمام خيارين كلاهما مر:
الخيار الأول:إنكار الدين والتوقف عن السداد، وهو أمر في غاية الخطورة على الجدارة الائتمانية والسمعة الاقتصادية للدولة، وقد يعرضها لعقوبات اقتصادية وسياسية وربما لتدخل عسكري ضدها.
الخيار الثاني:اللجوء إلى عملية إعادة جدولة للديون الخارجية، وتعني قيام الدولة بطرق أبواب الصندوق والبنك الدوليين للاتفاق مع الدول الدائنة على كيفية وشروط إعادة الجدولة إذ تلجأ الدول الدائنة إلى الصندوق والبنك للقيام بدور الوسيط بينها وبين الدول المدينة فتذهب إلى نادي باريس حيث تبدأ رحلتها مع شروط جديدة لإعادة جدولة ديونها تختلف تماما عن الشروط الأصلية التي تمت على أساسها هذه الديون، ويتم وضع هذه الشروط والاتفاق عليها خلال خطوتين هما:
الخطوة الأولى: اتفاق الدولة المدينة على برنامج إصلاح اقتصادي وتصحيح هيكلي مع صندوق النقد الدولي، وهذا البرنامج يضم في الغالب وصفة علاجية في صورة حزمة من السياسات الاقتصادية تتعهد الدولة المدينة بالالتزام بها على مراحل، وكلما أنجزت مرحلة حصلت على تسهيل من الصندوق لاستكمال المرحلة التالية، ورغم التحفظات على مفردات هذه البرامج فإنها تعتبر من قبل الصندوق والدول الدائنة بمثابة التزكية لسلامة الإدارة الاقتصادية في الدولة المدينة، وتسعى في الأساس إلى ضمان قدرة الدولة المدينة على سداد التزاماتها تجاه الدول الدائنة، بغض النظر عن أثر الأخذ بهذه البرامج على المستقبل الاقتصادي للدولة المدينة أو على مستوى معيشة مواطنيها، وتمثل هذه الخطوة الشرط الأول للدخول في مفاوضات مع الدول الدائنة الأعضاء في نادي باريس لإعادة جدولة المديونية.
الخطوة الثانية: الحصول على موافقة جماعية من الدول الأعضاء بنادي باريس على شروط إعادة الجدولة، وهي الشروط التي ستدور حولها المفاوضات الثنائية بعد ذلك بين المدين وكل دولة دائنة على حدة، وذلك لأن الدول الدائنة تعتبر أن إعادة جدولة الديون تضحية من جانبها لصالح المدين، وعليه فهي ترفض أن تتحمل هذه التضحية دون أن تعرف مقدار التضحية التي سيقدمها الدائنون الآخرون، وهنا يكون شرط المساواة في المعاملة من قبل المدين تجاه جميع الدائنين.
وقد مرت الدول العربية التي لجأت إلى إعادة جدولة ديونها بهذه المراحل وقبلت هذه الشروط، وأهمها مصر ولبنان وتونس والمغرب، وبعد قبول واستيفاء الشروط يتم توقيع اتفاقية مع نادي باريس تحدد شروط التصرف المالي والاقتصادي في الديون من قبل الدولة المدينة، ومن هنا يبدأ التدخل في الشؤون الاقتصادية للدولة المدينة، وذلك عبر السياسات التي تعتبر آليات لتنفيذ هذه الشروط.
آليات تنفيذ شروط الصندوق والبنك الدوليينتوجد ثلاثة محاور أساسية في قروض برامج الإصلاح الاقتصادى والتكيف الهيكلي التي لجأت إليها البلدان العربية عند إعادة جدولة ديونها، وهذه المحاور الثلاثة تعتبر بمثابة آليات لتنفيذ شروط إعادة جدولة الديون، أو شروط الحصول على التسهيلات المرتبطة بعملية الجدولة، وهذه المحاور أو الآليات الثلاثة هي:
تحرير الأسعار: ويتضمن التزام الدولة المدينة بتحرير أسعار السلع والخدمات ومستلزمات الإنتاج، والحد من تدخل الدولة في تحديد الأسعار أو التسليم الإجباري للمحاصيل، وكذلك تحرير أسعار الفائدة حتى يكون سعر الفائدة الحقيقي موجب وتحرير وتوحيد أسعار الصرف، وكذلك إلغاء وجود حد أدنى للأجور، وهذا التحرير للأسعار يؤدي في الغالب إلى ارتفاع الأسعار والإضرار ببعض فئات المجتمع وخاصة محدودي الدخل.
سياسة الخصخصة: وهو المحور الذي يسعى إلى زيادة دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي على حساب تراجع دور الدولة والتخلص من الاحتكارات العامة، وذلك عن طريق تصفية المشروعات العامة الخاسرة وبيعها للقطاع الخاص لتشغيلها على أساس تجاري يهدف إلى الربح، وهو الأمر الذي يكون على حساب تسريح العمالة ورفع أسعار السلع والخدمات التي يقدمها القطاع العام.
تحرير التجارة الخارجية: فالبنك الدولي يطالب الدول المدينة بتخفيض سعر الصرف للعملة المحلية، وإلغاء القيود على المدفوعات الخارجية، وإلغاء اتفاقيات التجارة والدفع، والسماح بعمل الوكالات التجارية الأجنبية في الأسواق المحلية، وخفض الرسوم الجمركية، وإلغاء القيود الكمية على الواردات، والعمل على تشجيع التصدير، وعدم اتباع سياسة تقوم على إحلال الواردات عن طريق الحماية للصناعات المحلية.
وبغض النظر عن الدخول في تفاصيل أكثر بالنسبة لبرامج الإصلاح الاقتصادي التي اتبعتها الدول العربية بعد أن لجأت إلى الصندوق والبنك الدوليين لإعادة جدولة ديونها، فالمهم هو أن هذه البرامج قامت على ما يمكن أن نطلق عليه سياسة "الامتصاص والاقتناص"، أي امتصاص فائض الطلب وزيادة الاحتياطات الرسمية من العملات الأجنبية كضمان لسداد الديون ولرفع الجدارة الائتمانية للدولة، واقتناص فرصة تعثر الدولة المدينة لإلزامها باتباع آليات السوق وسياسات التحرير الاقتصادي في جميع المجالات حتى يتوافق إيقاعها الاقتصادي مع إيقاع الدول الرأسمالية الدائنة ومع سياسات الصندوق والبنك الدوليين.
وبصفة عامة يمكن القول إن أخذ الدول العربية بسياسات الصندوق في مجال الإصلاح الاقتصادي أدى إلى تغيير ملامح الاقتصاديات العربية تماما من الناحية الاقتصادية والمؤسسية والتشريعية، وهو تغيير يصب باتجاه مزيد من الانفتاح الاقتصادي، وإعمال آليات السوق، وتحقيق مزيد من الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي.
آثار الأخذ بشروط الصندوق والبنك الدوليين الملاحظ أن أخذ البلدان العربية بشروط إعادة جدولة الديون مع الصندوق والبنك الدوليين وخاصة ما يتعلق منها ببرامج الإصلاح الاقتصادي أثر في جميع نواحي ومفردات الاقتصاديات في تلك الدول، كما أن هذه الآثار لم تكن جميعها في صالح الدول العربية، وبالتالي لم تكن جميعها في صالح المواطن العربي الذي يعتبر هدف ووسيلة التنمية، تلك التنمية التي قامت الدول العربية بالاستدانة من أجل دفعها للأمام، ويمكن إيجاز هذه الآثار في الآتي:
أولاً: الآثار السلبية
تزايد معدلات البطالة في الدول العربية حيث وصلت هذه النسبة في بعض الدول العربية إلى حوالي 15%.
انخفاض درجة إشباع الاحتياجات الأساسية للمواطن العربي بسبب ارتفاع الأسعار.
تزايد تدهور أحوال الفقراء ومحدودي الدخل في البلدان العربية.
التأثير السلبي لبرامج الصندوق في فئات الطبقة الوسطى في المجتمع العربي.
وهذه الآثار تعرف بالآثار الاجتماعية لبرامج الصندوق والبنك الدوليين والتي تحاول الدول العربية التغلب عليها عن طريق ما يعرف بشبكات الأمان الاجتماعي، خاصة عبر ما يعرف بالصندوق الاجتماعي للتنمية، وهى التجربة التي أخذت بها مصر، وهناك محاولات للاستفادة بها في اليمن وسوريا والأردن.
وإلى جانب الآثار السابقة فقد حدث تراجع في دور الدولة في البلدان العربية لصالح تزايد دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، حيث أصبحت نسبة مساهمة القطاع الخاص العربي في النشاط الاقتصادي حوالي 76% في المتوسط، وأصبح يعول عليه بأن يقوم بالدور الرئيسي في عمليات الإنتاج والتصدير والتوظيف، وحتى أصبح يعول عليه بأن يقوم بدور رئيسي في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي.
ثانياً: الآثار الإيجابية
الثاني: ما يمكن أن يوضحه تطور نصيب بعض الدول العربية من هذه التسهيلات والقروض في الفترة من عام 1973 حتى عام 2002. وعلى سبيل المثال يلاحظ أن نصيب دولة مثل مصر من تمويل هذه الصناديق لم يتجاوز 1.1% من إجمالي عمليات هذه الصناديق عقب إبرام مصر لاتفاقية السلام مع إسرائيل، في حين بلغ نصيب سوريا في ذلك الوقت حوالي 27.1%، والأردن حوالي 26.1%، ولكن بداية من عام 1990 وبعد الموقف المصري من حرب الخليج الثانية حصلت مصر على نصيب الأسد حيث بلغت حصتها في الفترة 1990/1999 حوالي 39.5%، في حين بلغ نصيب سوريا 4.7%، والأردن 6.2%، هذا إلى جانب قيام دول الخليج بالتنازل عن ديونها لدى مصر التي بلغت حوالي 6.2 مليارات دولار عقب حرب الخليج الثانية.
ولذلك يمكن القول إن الديون في إطار العون الإنمائي العربي تتم ما بين مانح ومتلق وليس في إطار أسرة عربية واحدة، فرغم ما تتسم به من شروط ميسرة مقارنة بغيرها من الديون فإنها لا تخلو من شروط، وفي بعض الأحوال تتبنى شروط الصندوق والبنك الدوليين، ولكن رغم ذلك فإنه لا يجب التقليل من الدور الذي تلعبه صناديق التمويل العربية في دعم برامج التنمية في معظم البلدان العربية.
شروط صندوق النقد والبنك الدوليين
تظل شروط الديون الخارجية شروطا عادية طالما التزمت الدول المدينة بها وطالما كانت هذه الدول مواظبة على سداد خدمة هذه الديون (الأقساط والفوائد) في وقتها، ولكن إذا تعثرت الدولة المدينة في السداد لأسباب داخلية أو خارجية تكون أمام خيارين كلاهما مر:
الخيار الأول:إنكار الدين والتوقف عن السداد، وهو أمر في غاية الخطورة على الجدارة الائتمانية والسمعة الاقتصادية للدولة، وقد يعرضها لعقوبات اقتصادية وسياسية وربما لتدخل عسكري ضدها.
الخيار الثاني:اللجوء إلى عملية إعادة جدولة للديون الخارجية، وتعني قيام الدولة بطرق أبواب الصندوق والبنك الدوليين للاتفاق مع الدول الدائنة على كيفية وشروط إعادة الجدولة إذ تلجأ الدول الدائنة إلى الصندوق والبنك للقيام بدور الوسيط بينها وبين الدول المدينة فتذهب إلى نادي باريس حيث تبدأ رحلتها مع شروط جديدة لإعادة جدولة ديونها تختلف تماما عن الشروط الأصلية التي تمت على أساسها هذه الديون، ويتم وضع هذه الشروط والاتفاق عليها خلال خطوتين هما:
الخطوة الأولى: اتفاق الدولة المدينة على برنامج إصلاح اقتصادي وتصحيح هيكلي مع صندوق النقد الدولي، وهذا البرنامج يضم في الغالب وصفة علاجية في صورة حزمة من السياسات الاقتصادية تتعهد الدولة المدينة بالالتزام بها على مراحل، وكلما أنجزت مرحلة حصلت على تسهيل من الصندوق لاستكمال المرحلة التالية، ورغم التحفظات على مفردات هذه البرامج فإنها تعتبر من قبل الصندوق والدول الدائنة بمثابة التزكية لسلامة الإدارة الاقتصادية في الدولة المدينة، وتسعى في الأساس إلى ضمان قدرة الدولة المدينة على سداد التزاماتها تجاه الدول الدائنة، بغض النظر عن أثر الأخذ بهذه البرامج على المستقبل الاقتصادي للدولة المدينة أو على مستوى معيشة مواطنيها، وتمثل هذه الخطوة الشرط الأول للدخول في مفاوضات مع الدول الدائنة الأعضاء في نادي باريس لإعادة جدولة المديونية.
الخطوة الثانية: الحصول على موافقة جماعية من الدول الأعضاء بنادي باريس على شروط إعادة الجدولة، وهي الشروط التي ستدور حولها المفاوضات الثنائية بعد ذلك بين المدين وكل دولة دائنة على حدة، وذلك لأن الدول الدائنة تعتبر أن إعادة جدولة الديون تضحية من جانبها لصالح المدين، وعليه فهي ترفض أن تتحمل هذه التضحية دون أن تعرف مقدار التضحية التي سيقدمها الدائنون الآخرون، وهنا يكون شرط المساواة في المعاملة من قبل المدين تجاه جميع الدائنين.
وقد مرت الدول العربية التي لجأت إلى إعادة جدولة ديونها بهذه المراحل وقبلت هذه الشروط، وأهمها مصر ولبنان وتونس والمغرب، وبعد قبول واستيفاء الشروط يتم توقيع اتفاقية مع نادي باريس تحدد شروط التصرف المالي والاقتصادي في الديون من قبل الدولة المدينة، ومن هنا يبدأ التدخل في الشؤون الاقتصادية للدولة المدينة، وذلك عبر السياسات التي تعتبر آليات لتنفيذ هذه الشروط.
آليات تنفيذ شروط الصندوق والبنك الدوليينتوجد ثلاثة محاور أساسية في قروض برامج الإصلاح الاقتصادى والتكيف الهيكلي التي لجأت إليها البلدان العربية عند إعادة جدولة ديونها، وهذه المحاور الثلاثة تعتبر بمثابة آليات لتنفيذ شروط إعادة جدولة الديون، أو شروط الحصول على التسهيلات المرتبطة بعملية الجدولة، وهذه المحاور أو الآليات الثلاثة هي:
تحرير الأسعار: ويتضمن التزام الدولة المدينة بتحرير أسعار السلع والخدمات ومستلزمات الإنتاج، والحد من تدخل الدولة في تحديد الأسعار أو التسليم الإجباري للمحاصيل، وكذلك تحرير أسعار الفائدة حتى يكون سعر الفائدة الحقيقي موجب وتحرير وتوحيد أسعار الصرف، وكذلك إلغاء وجود حد أدنى للأجور، وهذا التحرير للأسعار يؤدي في الغالب إلى ارتفاع الأسعار والإضرار ببعض فئات المجتمع وخاصة محدودي الدخل.
سياسة الخصخصة: وهو المحور الذي يسعى إلى زيادة دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي على حساب تراجع دور الدولة والتخلص من الاحتكارات العامة، وذلك عن طريق تصفية المشروعات العامة الخاسرة وبيعها للقطاع الخاص لتشغيلها على أساس تجاري يهدف إلى الربح، وهو الأمر الذي يكون على حساب تسريح العمالة ورفع أسعار السلع والخدمات التي يقدمها القطاع العام.
تحرير التجارة الخارجية: فالبنك الدولي يطالب الدول المدينة بتخفيض سعر الصرف للعملة المحلية، وإلغاء القيود على المدفوعات الخارجية، وإلغاء اتفاقيات التجارة والدفع، والسماح بعمل الوكالات التجارية الأجنبية في الأسواق المحلية، وخفض الرسوم الجمركية، وإلغاء القيود الكمية على الواردات، والعمل على تشجيع التصدير، وعدم اتباع سياسة تقوم على إحلال الواردات عن طريق الحماية للصناعات المحلية.
وبغض النظر عن الدخول في تفاصيل أكثر بالنسبة لبرامج الإصلاح الاقتصادي التي اتبعتها الدول العربية بعد أن لجأت إلى الصندوق والبنك الدوليين لإعادة جدولة ديونها، فالمهم هو أن هذه البرامج قامت على ما يمكن أن نطلق عليه سياسة "الامتصاص والاقتناص"، أي امتصاص فائض الطلب وزيادة الاحتياطات الرسمية من العملات الأجنبية كضمان لسداد الديون ولرفع الجدارة الائتمانية للدولة، واقتناص فرصة تعثر الدولة المدينة لإلزامها باتباع آليات السوق وسياسات التحرير الاقتصادي في جميع المجالات حتى يتوافق إيقاعها الاقتصادي مع إيقاع الدول الرأسمالية الدائنة ومع سياسات الصندوق والبنك الدوليين.
وبصفة عامة يمكن القول إن أخذ الدول العربية بسياسات الصندوق في مجال الإصلاح الاقتصادي أدى إلى تغيير ملامح الاقتصاديات العربية تماما من الناحية الاقتصادية والمؤسسية والتشريعية، وهو تغيير يصب باتجاه مزيد من الانفتاح الاقتصادي، وإعمال آليات السوق، وتحقيق مزيد من الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي.
آثار الأخذ بشروط الصندوق والبنك الدوليين الملاحظ أن أخذ البلدان العربية بشروط إعادة جدولة الديون مع الصندوق والبنك الدوليين وخاصة ما يتعلق منها ببرامج الإصلاح الاقتصادي أثر في جميع نواحي ومفردات الاقتصاديات في تلك الدول، كما أن هذه الآثار لم تكن جميعها في صالح الدول العربية، وبالتالي لم تكن جميعها في صالح المواطن العربي الذي يعتبر هدف ووسيلة التنمية، تلك التنمية التي قامت الدول العربية بالاستدانة من أجل دفعها للأمام، ويمكن إيجاز هذه الآثار في الآتي:
أولاً: الآثار السلبية
تزايد معدلات البطالة في الدول العربية حيث وصلت هذه النسبة في بعض الدول العربية إلى حوالي 15%.
انخفاض درجة إشباع الاحتياجات الأساسية للمواطن العربي بسبب ارتفاع الأسعار.
تزايد تدهور أحوال الفقراء ومحدودي الدخل في البلدان العربية.
التأثير السلبي لبرامج الصندوق في فئات الطبقة الوسطى في المجتمع العربي.
وهذه الآثار تعرف بالآثار الاجتماعية لبرامج الصندوق والبنك الدوليين والتي تحاول الدول العربية التغلب عليها عن طريق ما يعرف بشبكات الأمان الاجتماعي، خاصة عبر ما يعرف بالصندوق الاجتماعي للتنمية، وهى التجربة التي أخذت بها مصر، وهناك محاولات للاستفادة بها في اليمن وسوريا والأردن.
وإلى جانب الآثار السابقة فقد حدث تراجع في دور الدولة في البلدان العربية لصالح تزايد دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، حيث أصبحت نسبة مساهمة القطاع الخاص العربي في النشاط الاقتصادي حوالي 76% في المتوسط، وأصبح يعول عليه بأن يقوم بالدور الرئيسي في عمليات الإنتاج والتصدير والتوظيف، وحتى أصبح يعول عليه بأن يقوم بدور رئيسي في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي.
ثانياً: الآثار الإيجابية
رغم الآثار السلبية السابقة لا يمكن إنكار الآثار الإيجابية التي صاحبت الأخذ بسياسات البنك والصندوق الدوليين كشروط لإعادة جدولة الديون العربية وأهم هذه الآثار الإيجابية:
تراجع العجز في الموازنات العامة للدول العربية، حيث أصبحت حوالي 0.15% عام 2000 مقابل 5.47% عام 1995 (للدول العربية كمجموعة).
تراجع العجز في موازين المدفوعات للدول العربية كمجموعة وتحولها من حالة عجز إلى فائض في عام 2000.
تزايد الاحتياطات الرسمية في البلدان العربية لتغطي واردات حوالي 8.5 أشهر عام 2000 مقابل 5.2 أشهر عام 1995، وهو ما يعني زيادة الجدارة الائتمانية العربية ككل.
تراجع نسبة إجمالي الدين العربي الخارجي من 73.3% من الناتج المحلي العربي الإجمالي عام 1995 إلى 49.5% عام 2000.
تراجع نسبة خدمة الدين العام الخارجي للدول العربية إلى الصادرات من السلع والخدمات من 18.1% عام 1995 إلى 15.5% عام 2000
وخلاصة القول في الآثار المترتبة على أخذ الدول العربية بشروط إعادة جدولة الديون التي وضعها الصندوق والبنك الدوليان أنها أدت إلى تحقيق نتائج جيدة على الصعيد المالي والنقدي (الاقتصاد الرمزي) فقط، أي انخفض معدل التضخم وانخفض عجز الموازنة العامة وانخفض عجز ميزان المدفوعات وارتفعت الاحتياطيات من العملات الأجنبية، ولكن مقابل ذلك ارتفعت معدلات البطالة وتفاقمت مشاكل أسعار الصرف وزادت مظاهر الركود وتباطؤ الأسواق وزاد عدد الفقراء وارتفعت أسعار السلع والخدمات، ويمكن عزو ذلك إلى أن معظم البلدان العربية نفذت برامج الصندوق كحزمة متكاملة من السياسات ودون النظر في مدى ملاءمتها لظروفها الاقتصادية الخاصة.
مستقبل مشروطية الديون في ظل العولمة
من خلال متابعة تطور شروط الاستدانة طوال القرن الماضي يمكن القول إن هذه الشروط في تطور مستمر، وإن هذا التطور يتجه بهذه الشروط نحو التشدد في غير صالح الدول المدينة ولصالح ضمان حقوق ومصالح الدول الدائنة، كما يلاحظ أن هذه الشروط تتأثر بالدور الذي تلعبه بعض المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، إذ إن معظم الشروط التي تصاحب إعادة جدولة الديون تصب في صالح تحقيق أهداف وبرامج هذه المؤسسات والدول المسيطرة عليها، ولأن هذه المؤسسات تخضع لسيطرة بعض القوى الاقتصادية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية ولأن دور هذه المؤسسات في تطور باستمرار فإن مستقبل شروط المديونية الخارجية للدول النامية ومنها الدول العربية سيتأثر بعاملين أساسيين هما:
المصالح الاقتصادية للقوى الاقتصادية الدولية الفاعلة داخل هذه المؤسسات.
التغيير الذي سيطرأ على دور هذه المؤسسات في المستقبل وخاصة في ظل إعادة النظر التي تتم حاليا بشأن دور الصندوق والبنك الدوليين، وكذلك في ظل التعاون الجديد بين جميع المؤسسات الاقتصادية الدولية في تحقيق التنمية ومحاربة الفقر الذي تم النص عليه في فقرات متعددة من "بيان الدوحة للتنمية" الذي صدر عن المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في الدوحة خلال الفترة من 9-13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001.
وقد بدأ ظهور بعض المؤشرات التي تعكس زيادة تدخل وتأثير الدول الكبرى في تشديد شروط المديونية الخارجية، خاصة مع الدول النامية التي تطلب قروضا أو تسهيلات مالية أو معونات، وذلك عن طريق تشددها في هذه الشروط بالنسبة للقروض التي تقدمها حكومات هذه الدول أو مؤسساتها المالية، أو عن طريق التدخل لدى مؤسسات التمويل الدولية مثل الصندوق والبنك الدوليين واستخدام نفوذها في هذه المؤسسات لتمارس ضغوطا وتشدد شروطها على تقديم قروضها للدول النامية ومنها البلاد العربية.
وفي السنوات الأخيرة بدأنا نسمع عن شروط لمكافحة الفساد، وتوفير مبادئ الديمقراطية أو مبادئ الحكم الرشيد، وحماية حقوق الأقليات السياسية أو الدينية. وبعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول بدأت هذه الدول تلوح بإجراءات مكافحة الإرهاب التي تقوم بها الدول كشرط لتدفق رؤوس الأموال إليها سواء في صورة معونات أو قروض، وقد جسد الرئيس بوش هذه الشروط في خطابه أمام مؤتمر الأمم المتحدة لتمويل التنمية الذي عقد في المكسيك في الفترة من 18-22 مارس/آذار 2002 حيث أكد أن "تدفق رؤوس الأموال إلى الدول النامية والفقيرة سيتوقف على احترام هذه الدول لحقوق الإنسان واتخاذها إجراءات فعالة لاقتلاع جذور الإرهاب والفساد فضلا عن فتح أسواقها والاعتناء بنظام التعليم والرعاية الصحية، وإن الولايات المتحدة ستتعامل بشكل صارم مع ذلك".
هذه التوجهات الأميركية جعلت البعض يصف هذه الشروط بأنها محاولة لابتزاز الدول النامية والفقيرة واستغلال ظروفها الاقتصادية الصعبة لإجبارها على انتهاج سياسات تحقق مصالح الدول الصناعية الكبرى.
كما أن الإصلاحات داخل المؤسسات الاقتصادية الدولية وخاصة الصندوق والبنك الدوليين بدأت المناقشة حولها بعد أن تسببا في إرهاق الكثير من اقتصاديات دول العالم التي لجأت إليهما للاقتراض أو لإعادة جدولة ديونها، وبعد أن تفاقمت الآثار الاجتماعية بصورة خطيرة في الدول التي تبنت برامج الصندوق للإصلاح الاقتصادي ومنها الدول العربية، وكذلك بعد الانتقادات العنيفة التي تتعرض لها سياسات الصندوق والبنك الدوليين.
والملاحظ أن هناك اختلافا على التوجهات التي تحكم عملية إصلاح هذه المؤسسات، وهل تتجه نحو مزيد من الضوابط والشروط على منح القروض وإدارة الديون الخارجية في الدول النامية، أم نحو التسهيل في هذه الشروط لصالح تقليل الفقر وزيادة الرفاهية في الدول النامية وتجميل الوجه القبيح للصندوق والبنك الدوليين. وقد يكون من السابق لأوانه حاليا أن نقطع بتغلب أحد الاتجاهين على الآخر لأن الأمر ما زال في مرحلة النقاش.
الآثار السياسية والاقتصادية للديون العربية
وقع العديد من البلدان النامية ومن بينها الدول العربية في فخ المديونية الخارجية وبلغ حجمها مستويات حرجة باتت تؤثر على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لهذه الدول.
والتساؤل الذي يطرح نفسه الآن وبإلحاح هو: هل ساعدت هذه الأموال الدول النامية ومنها الدول العربية على تحقيق التنمية المنشودة؟ وما هي انعكاسات المديونية الخارجية على مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول العربية المدينة؟ وإلى أي حد أثرت أزمة المديونية الخارجية على القرار السياسي العربي؟.
انعكاسات المديونية الخارجية على الخطط الإنمائية
لعل من المفارقات أنه في الوقت الذي تكونت فيه العائدات النفطية في المنطقة العربية بكميات كبيرة لا سابق لها (ارتفاع أسعار النفط في السبعينات), شهدت الفترة نفسها تصاعد حجم الدين الخارجي بمعدلات لم يسبق لها مثيل أيضا.
ولم تقتصر عمليات الاستدانة على الدول العربية غير النفطية فحسب، بل تفاقم حجم مديونية الدول النفطية كذلك. وقد رافق ذلك تصاعد في حجم مدفوعات خدمة الدين الخارجي في جميع الأقطار العربية (غير النفطية خصوصا) وأصبحت تلتهم جانبا كبيرا من حصيلة الصادرات من السلع والخدمات.
وشكل هذا قيدا أوحملا ثقيلا على خطط التنمية المستقبلية، نظرا لابتلاع جانب مهم من النقد الأجنبي في خدمة الدين الخارجي.
ويمكن تشخيص آثار المديونية الخارجية على الخطط الإنمائية من خلال تحليل آثارها على الادخار المحلي والقدرة الاستيرادية ومعدلات التضخم.
1-على الادخار المحلي إن العلاقة بين رؤوس الأموال الأجنبية والادخار المحلي أفرزت أطروحتين: أطروحة التكامل بين الموارد المالية المحلية والأجنبية وأطروحة الإحلال بين الصنفين.
التكامل بين الموارد المالية المحلية والأجنبية فيرى أنصار الفرضية الأولى أن رؤوس الأموال الأجنبية إذا ما استغلت استغلالا اقتصاديا جيدا تؤدي إلى زيادة الناتج القومي وارتفاع مستويات الدخل وبالتالي ترتفع معدلات الادخار وذلك نتيجة لسد النقص في الموارد المالية اللازمة لتمويل المشاريع الاستثمارية وهوالهدف الذي توخته الدول النامية من وراء اقتراضها.
الإحلال بين الصنفينفي حين يرى أنصار الفرضية الثانية أن هذه الأموال لا تستغل الاستغلال الأمثل لها وغالبا ما تتجه نحو تمويل الاستهلاك خصوصا للسلع المستوردة ونسبة قليلة تتجه إلى الاستثمار في مشاريع تتميز بانخفاض مردودها, مما يقلل من فرص خلق فوائض مالية جديدة ورفع كفاءة الاقتصاد ونموه وهوما يؤثر سلبا على إمكانات الادخار المحلي.
وإذا نظرنا إلى أثر الأموال الأجنبية بصورة عامة, والديون على وجه الخصوص, على مستويات الادخار في الدول النامية من خلال الدراسات الحديثة التي تناولت هذا الموضوع نجد أن هذا التأثير يختلف من دراسة إلى أخرى تبعا لعينة الدول المدروسة وطرق التقدير المستخدمة بالإضافة إلى اختيار فترة الدراسة.
وتشير أغلب الدراسات في هذا المجال إلى أثر سلبي -مباشر أوغير مباشر- للديون الخارجية على الادخار المحلي في معظم الدول النامية.
2-على الطاقة الاستيرادية: إذا استطاعت الدولة توفير القدر الكافي من المال اللازم لاستيراد الآلات والمعدات الإنتاجية الضرورية للتوسع الاقتصادي, استطاعت تنفيذ مخططاتها الإنمائية دون ضغوط خارجية أوحدوث اختناقات تعوق طموح وتنفيذ هذه الخطط.
وهناك عدة عوامل تؤثر بشكل أوبآخر في المقدرة الاستيرادية منها: حجم وعائدات الصادرات وتكلفة السلع المستوردة وخدمة الديون الخارجية والتي تتمثل في مجموع الأقساط والفوائد التي تدفعها الدول المدينة خدمة لديونها وإعادة جدولتها.
وتؤثر هذه الأعباء سلبا على إمكانية تنمية الموارد المالية الذاتية بسبب استنزافها للحظ الأوفر من العملات الصعبة المتاحة للبلد.
3- على معدلات التضخم إن ارتفاع اعتماد الدول النامية ومنها الدول العربية على القروض الخارجية أدى إلى تزايد معدلات التضخم في هذه الدول, لما تشكله هذه القروض والمديونية المترتبة من ضغط على القدرة التنافسية لصادرات الدول المدينة.
ويؤدي تخفيض قيمة العملة الوطنية -استجابة لضغوط الأطراف الدائنة- إلى تدهور القيم الحقيقية للمدخرات مما يضطر العديد من الأفراد إلى إيداع أموالهم في الخارج (أحد أهم أسباب ظاهرة هروب رؤوس الأموال إلى الخارج) خوفا من تآكلها.
وبصورة عامة فإن التأثير السلبي للديون الخارجية على القدرة المالية والاستيرادية للدول المدينة ومنها الدول العربية قد انعكس على عمليات الاستثمار المطلوبة لتحقيق أهداف النمو المتسارع الذي تتطلع إليه اقتصادات هذه الدول.
ويتمثل هذا التأثير السلبي في كون أعباء المديونية الخارجية تستحوذ على نسب عالية من الناتج المحلي الإجمالي وتشكل إنقاصا للموارد المالية التي كان من الممكن أن تتجه إلى الادخار والتوسع الاقتصادي.
كما أن ارتفاع خدمة الديون الخارجية الذي شهدته الدول العربية في السنوات الأخيرة يشكل عبئا على النقد الأجنبي المتاح لتمويل الواردات الاستثمارية.
ومن الطبيعي أن يواكب ارتفاع خدمة الديون ضغط على تمويل هذه الواردات مما اضطر بعض هذه الدول إلى تأجيل تنفيذ العديد من المشاريع الاستثمارية المبرمجة ضمن مخططات التنمية وإلى تخفيض معدلات الاستثمار المستهدفة مما يؤدي إلى تسريح العمال وتزايد البطالة وما إلى ذلك من انعكاسات على المجتمع.
إلا أنه من الضروري التذكير أن العيب لا يكمن في مسألة استيراد رأس المال الأجنبي وإنما الأهم هو طبيعة واستخدامات هذه الأموال.
لقد لعب رأس المال الأجنبي دورا أساسيا في تطوير الدول المتقدمة نظرا للاستغلال الأمثل لهذا العنصر مما ساعد على خلق فوائض مالية أخذت تصدرها إلى البلدان النامية. أما بالنسبة لمعظم الدول النامية ومن بينها الدول العربية فلم يلعب رأس المال الأجنبي الدور الذي كان يجب أن يلعبه في تنمية هذه الدول مما أوقعها في مديونية خانقة لها آثار اجتماعية وسياسية لا تقل خطورة عن الآثار الاقتصادية.
وقد أدى تخلف اقتصادات الدول النامية ومنها الأقطار العربية بصورة عامة وتفاقم حدة الديون الخارجية على وجه الخصوص إلى مزيد التبعية للدول المتقدمة الدائنة, التي أصبحت تتحكم في مسارات التنمية في الدول المدينة. وتأخذ هذه التبعية أشكالا وأنماطا مختلفة منها التبعية التجارية والمالية والتكنولوجية.
أشكال تبعية الاقتصاديات العربية بسبب الديونأولاً: التبعية التجاريةويقصد بها تحكم الطلب العالمي في معدلات نمو اقتصادات الدول النامية. ومرد ذلك أن قطاع التصدير يعتبر المصدر الأساسي للدخل في الدول النامية. كما أن عدم تنوع صادرات الدول النامية حتى من المواد الأولية, إذ كثيرا ما تتركز هذه الصادرات في مادة أولية واحدة أومجموعة محدودة منها, يعرض عمليات التنمية في البلدان المعنية للتذبذب من خلال تعرضها لتقلبات الظروف الاقتصادية العالمية. إن هذه التبعية التجارية التي تعاني منها الدول النامية قد نشأت في عهد الاستعمار وتطورت بعد الاستقلال السياسي وتعمقت بعد تفاقم الديون الخارجية, بفعل بعض العوامل الداخلية والخارجية المرتبطة بمتطلبات التنمية. وهذه المتطلبات هي التي دفعت بتلك الدول في مدار التبعية المالية.
ثانياً: التبعية الماليةترجع هذه التبعية -سواء كانت سببا أونتيجة للمديونية الخارجية- إلى حاجة الدول النامية إلى مصادر لتمويل خططها الإنمائية. فالحاجة إلى رؤوس الأموال دفعت بالدول ذات الموارد المالية المحدودة إلى فتح المجال أمام رأس المال الأجنبي بأشكاله المختلفة. وحتى الدول النامية ذات الفوائض المالية -ومنها الأقطار العربية النفطية- تعاني من نوع آخر من التبعية المالية للدول المتقدمة، ألا وهو اندماج مؤسساتها المالية في النظام الرأسمالي الدولي مما قد يجلب لها مخاطر عدة منها احتمال التجميد من قبل الحكومات الغربية كما حصل مع الودائع الليبية والعراقية.
ثالثاً: التبعية التكنولوجية ويقصد بها النقل الأفقي للتكنولوجيا أي استيرادها من الدول المتقدمة بدل العمل على تنميتها وطنيا أوقوميا أوإقليميا. وقد اختار معظم الدول النامية اكتساب هذه التكنولوجيا عن طريق استيرادها جاهزة باعتقاد أن ذلك سيمكنها من اقتصاد الوقت والنفقـات. لكن المشكلة تكمن في كون هذه التقنية لا تتلاءم مع الطبيعة الإنتاجية للدول النامية مما عمق من تبعيتها للدول المنتجة لهذه التكنولوجيا.
إن بلدان العالم الثالث المديـنة, ومنها الدول العربية, تتعرض "لمؤامرة مالية دولية" بعد أن تم توريطها في مديونية مفرطة. وتأخذ هذه المؤامرة شكلا خطيرا تمثل في احتلال المستثمرين الأجانب للأصول الإنتاجية الإستراتيجية التي بنتها هذه الدول عبر جهودها الإنمائية المضنية خلال عقود من الزمن على نحو يعيد لها السيطرة الأجنبية.
فبعد وصول أزمة الديون إلى مستوى حرج وبعد التعثر في سداد خدمتها ظهر اتجاه بين صفوف الدائنين يدعو إلى مبادلة الدين الخارجي ببعض الأصول الإنتاجية في الدول المدينة, أي مقايضة الديون بحقوق ملكية في المشاريع التي تملكها الدولة في هذه البلدان. وهواتجاه يؤسس نظرته إلى مشكلة الديون في تلك الدول على أنها مشكلة إفلاس وليست نقص سيولة.
وقد لقي هذا الطرح صدى واسعا في نفوس الدائنين لأنه يحسن من محافظهم المالية ويحول الديون المشكوك في تحصيلها (لأنها حالة إفلاس) إلى أصول إنتاجية ذات عوائد مستمرة وهنا يتحول الدائنون إلى مستثمرين وهوما يؤدي إلى إخضاع السياسات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان المدينة إلى مزيد من الرقابة الخارجية.
الآثار الاجتماعية للديون الخارجية
إن الآثار السلبية للديون الخارجية لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية فقط في الدول النامية وإنما تتعداها إلى الأبعاد الاجتماعية ومع تنامي ظاهرة العولمة بشكل عام وتفاقم أزمة المديونية بشكل خاص, كان من الطبيعي أن تتأثر الدول العربية بهذا الواقع من خلال آلـيات مختلفة.
فالدول العربية التي كانت تتبنى فلسفة اقتصادية تقوم بالأساس على تحكم الدولة في إدارة النشاطات الاقتصادية من قبل, نجدها تتحول تحولا جذريا, من خلال تطبيق برامج التثبيت والإصلاح الهيكلي, متنازلة بذلك عن جزء كبير من مهمتها الاجتماعية. وتستند هذه البرامج إلى إعطاء قوى السوق الدور البارز في الحياة الاقتصادية وتحرير المعاملات الاقتصادية والمالية مع العالم الخارجي.
ومن المنطقي أن يكون لمثل هذه الـتحولات الجذرية أثرها على المجتمع. وفي تحليلنا للآثار الاجتماعية للمديونية الخارجية سوف نركز على التأثيرات المترتبة على أسواق العمل والتشغيل في الدول العربية المدينة وذلك استنادا إلى أن الكسب من العمل يمثل المصدر الرئيسي لمداخيل غالبية الأفراد وأن حرمانها من هذا الحق ينتج عنه استفحال البطالة بأنواعها وتفاقم حدة الفقر وإحداث المزيد من الاختلالات في توزيع الدخل وتعاظم الهوة بين طبقات المجتمع.
أن أغلب الدول النامية ومنها الدول العربية التي لجأت إلى تطبيق برامج التثبيت والإصلاح الهيكلي تحت وطأة ارتفاع مديونيتها الخارجية وبمباركة من المؤسسات الدولية الدائنة (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ونادي باريس ونادي لندن...), عانت من معدلات بطالة مرتفعة أصبحت تهدد استقرارها الاجتماعي والسياسي.
وترجع هذه المعدلات إلى عدة عوامل منها على سبيل المثال: تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في هذه الدول نتيجة لتطبيق سياسات انكماشية تتضمنها هذه البرامج خاصة في المراحل الأولى لها, مما يؤدي إلى خفض الطلب المحلي ويزيد من حدة الركود الاقتصادي الذي يؤدي بدوره إلى تراجع الطلب على العمل.
يضاف إلى ذلك تأثير عمليات خصخصة المنشآت العامة وضرورة تقليص العمالة بها قبل انتقالها إلى الملكية الخاصة, وكذلك تراجع الحكومات عن خلق فرص جديدة للعمل بحجة الضغط على الإنفاق العام وتقليص عجز الموازنات العامة, إلى غير ذلك من الإجراءات المرافقة لبرامج الإصلاح الاقتصادي هذه التي أصبحت شرطا ضروريا لطلب إعادة جدولة الديون أوالحصول على قروض جديدة تفرضه الجهات المانحة.
وعلى الرغم من شح ودقة البيانات المتعلقة بالتشغيل والبطالة في الدول العربية فإن القدر المتوافر منها يشير إلى اتجاه تصاعدي واضح للبطالة. وتراوحت معدلات البطالة في الدول العربية ما بين 15% و20 % خلال التسعينات وهي الحقبة التي شهدت ارتفاع حجم الدين الخارجي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المعدلات المرتفعة للبطالة لا ترجع بالكامل إلى أزمة الدين الخارجي وإنما تتفاعل معها جملة من العوامل الأخرى تتعلق بعدم قدرة الاقتصاديات العربية على خلق فرص للعمل تتناسب مع حجم قوة العمل العربية التي تطورت في الأعوام الأخيرة.
ويمكن القول أن المحصلة العامة لتفاعل أزمة الديون الخارجية والنتائج المترتبة عليها, قد أثرت سلبا على مستويات المعيشة لغالبية الدول المدينة وأدت إلى تفاقم الفقر في هذه الدول (تقرير البنك الدولي سنة 2000, ص 15).
وقد تبنى البنك الدولي في السنوات الأخيرة سياسة التصدي لمسألة الفقر وأوضح أنه يجب أن يكون من بين مكونات السياسة العامة لأي دولة ترغب في تخفيف عبء ديونها أوالحصول عل قروض جديدة, إجراءات تخفف وطأة الفقر في المجتمع.
وعموما فإن أزمة الديون الخارجية في الثمانينات عولجت بوصفات تنطوي على العديد من الإجراءات المجحفة بالدول النامية. وكثيرا ما تفرض الأطراف الدائنة والمانحة للقروض إتباع سياسات اقتصادية ترتكز على حزمة من الإجراءات التي تؤثر سلبيا على المجتمع مثل: تخفيض قيمة العملة المحلية -وما ينجر عن ذلك من تسارع لمعدلات التضخم الذي يعتبر العدوالأول للفقراء- وإلغاء الرسوم والضرائب على السلع المستوردة وتخفيض الإنفاق العام ورفع الدعم عن السلع والخصخصة وكلها سياسات تؤدي إلى زيادة تدخل الدول الدائنة وشركاتها المتعددة الجنسية وتغلغلها في اقتصادات الدول المدينة والتحكم فيها.
التداعيات السياسية للمديونية الخارجية
إن خطورة تفاقم الديون الخارجية لا تقف عند الحدود الاقتصادية والاجتماعية بل إنها تتجاوز إلى تعريض حرية صانع القرار السياسي إلى مزيد الضغوطات والتدخل الأجنبي. وفي ظل عالم يتميز بهيمنة الدول المتقدمة ومؤسساتها المالية الدولية ومع تنامي ظاهرة العولمة بكافة أوجهها -خاصة الوجه المالي- فإنه من المتوقع تسارع عملقة رأس المال واحتواء الشركات المتعددة الجنسية المحركة لهذا المال لمصير الخطط الإنمائية وتعميق المشاكل الاقتصادية والاجتماعية إلا أن خطورة هذا النفوذ لن تقف عند البعدين الاقتصادي والاجتماعي بل ستتعدى إلى البعد السياسي. فيرى البعض أن هذه الأموال والشركات الكبرى المحركة لها قادرة على التأثير في سيادة الدول وتلعب دور الشرطي الذي يلزم الدول المضيفة بتوجهات معينة في سياساتها العامة وهوما يشكل مساسا للسيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي(محمد الأطرش, ص 414).
وتتمثل الآثار المصاحبة لدخول رؤوس الأموال الأجنبية والشركات الدافعة لها في اختراق النظام السياسي والتأثير عليه بما يتلاءم مع مصالحها. فقد كشفت التحقيقات الجنائية أن هذه الشركات تمول الأحزاب المتنافسة في الانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا مثلا حتى لا تأتي نتائج الانتخابات بأي أثر سلبي يمكن أن يضايق مصالحها فما بالك بالدول النامية وبهذا يتحول السياسيون من رجال دولة (Statesmen) إلى بياعين(Salesmen) (إسماعيل صبري عبد الله, ص 378) بالإضافة إلى شراء ذمم الكثير من أعضاء البرلمان وحتى الحكومة.
ونشير إلى أن أزمة الديون الخارجية وما رافقها من تعاظم لدور الشركات المتعددة الجنسية والمستثمرين الخواص الدوليين أوجد واقعا جديدا على حكامنا التعامل معه. ويتجلى هذا الواقع في تراجع مكانة العلاقات بين الحكومات لصالح هذه الشركات والمستثمرين. وهوما يحتم تعزيز قدرتنا التفاوضية كعرب مع هذه الجهات والبحث عن اللغة التي تفهمها هذه الأطراف بعيدا عن العواطف والصيغ الفارغة. وعناصر هذه اللغة هي حجم السوق المحلية والأداء الاقتصادي والمالي الجيد والمستقر ورأس المال البشري المؤهل بالإضافة الاستقرار السياسي والتشريعات والنظم المحكمة.
بعد تفاقم أزمة الديون وتكريس العولمة وخاصة المالية لهيمنة الدول المتقدمة, تجسدت سياسة ازدواجية المعايير كأبرز سمات العولمة المعاصرة والنظام العالمي الجديد. حيث أصبح هذا النظام يبيح لدول معينة أشياء ويحرمها ذاتها عن دول أخرى لا لشيء إلا لاختلال الموازين واختلاف المصالح الإستراتيجية مع الدول المهيمنة أوالقادرة على الهيمنة (خلاف خلف الشاذلي, ص 64).
وفي ظل هذا الظرف الدولي الراهن, تصبح الدول العربية مطالبة أكثر من أي وقت مضى ببلورة وتجسيد رؤية متكاملة حول التحولات الدولية الراهنة, تمكنها من احتلال موقعا أفضل يخولها مواجهة تداعيات هذه التحولات.
ويتضح من العرض العام للمديونية الخارجية للدول العربية المدينة أن أعباء خدمة هذه الديون قد نمت في السنوات الأخيرة بمعدلات مرتفعة وبلغت حدا حرجا. وأصبح مأزق الديون الخارجية للدول النامية ومنها الدول العربية بصورة عامة يستدعي حلا عاجلا قبل بلوغ مستويات يصعب معها حتى التفكير في تحقيق معدلات نمو اقتصادية.
وإذا كان البعض يرى عدم الإفراط في تهويل حدة الديون الخارجية للدول العربية المقترضة, إلا أن ذلك لا يستوجب بالضرورة تحجيمها أوالتقليل من حدتها وإنما ضرورة النظر إليها باعتبارها تحد لا بد من تشخيصه ومواجهة آثاره المحتملة.
إن أخطر آثار المديونية الخارجية يتمثل في شلل جهود التنمية وما يترتب عليه من انعكاسات اجتماعية وسياسية في الدول المدينة وفي تعميق تبعيتها للجهات الدائنة وإلى تعرضها إلى نوع من "الإرهاب المالي الدولي "الذي يستهدف إخضاع القرارات الاقتصادية والسياسية لهذه الدول لنوع صارم من الرقابة والتدخل في الشؤون الداخلية تحت وطأة تفاقم مديونيتها. ويبدوذلك واضحا في حالات الدول التي تضطر إلى طلب إعادة جدولة ديونها الخارجية أوالحصول على قروض جديدة, حيث تفرض الأطراف المانحة داخل نادي باريس ونادي لندن ومعهم في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي, سياسات وبرامج تعمق من تبعية الدول المدينة لرأس المال الدولي.
إن الأزمات الاقتصادية والمالية التي تواجهها الدول النامية لا ترجع بالكامل إلى الأموال الخارجية وإنما مردها في الواقع هو طريقة الدول المقترضة في إدارة تلك الأموال بشكل خاص وعمليات التنمية الاقتصادية بشكل عام. كما أن اللجوء إلى الاقتراض ليس بالضرورة سلبيا أوإيجابيا ويتوقف ذلك على النتائج المترتبة على هذا الاقتراض وتحدد طبيعة ومصادر وشروط واستخدامات الأموال الأجنبية مستوى تأثيرها في النمو الاقتصادي
أثبت العديد من الدراسات والبحوث أن الدول التي تعرضت لأزمات مديونية حادة قد اتجهت الأموال المقترضة فيها لتمويل الاستهلاك والاستثمارات الغير منتجة.
حل مشكلة الديون الخارجية للدول النامية والتخفيف من وطأتها, لخلق نوع من التوازن في الداخل وبين الدول -أصبح ضروريا للتوازن الاقتصادي العالمي- يتطلب توافر جهود كافة الأطراف وبالدرجة الأولى الأطراف الدائنة وجدية إرادتها في تحقيق ذلك.
أصبح من الضروري صياغة سياسات جديدة تؤسس المناخ الملائم للدول العربية الدائنة للتصدي للانعكاسات السلبية لهذه التحولات من فقر وتهميش وتبعية وارتهان للمؤسسات المالية الدولية ترتكز على ثلاثة محاور عامة:
محور اقتصادي:يتعلق بطبيعة التنمية الاقتصادية المستهدفة وآليات تحقيقها وأنماط توزيع ثمارها, حيث يجب أن تكون هذه التنمية مرتكزة على القدرات الذاتية العربية من خلال التعجيل بالتكامل والاندماج الاقتصادي بين الدول العربية وتفعيل السوق العربية المشتركة وتحديث وتطوير المؤسسات المالية العربية المحلية من أجل ضمان توفير التمويل الذاتي العربي للتنمية وجلب رؤوس الأموال العربية الهاربة.
محور اجتماعي:يستند إلى التركيز على التنمية البشرية بمفهومها الواسع من تعليم وصحة وبحث وتطوير وضمان لحقوق الإنسان.
محور سياسي:يؤسس لقواعد ديموقراطية ترتكز على المشاركة الشعبية الفاعلة في القرارات التنموية وتدعيم آليات الرقابة ومكافحة الرشوة والفساد داخل القطاعات المختلفة.
ونختم بإعادة التأكيد على أن العامل الأهم في تجسيد محاولات التكامل الاقتصادي العربي يرتبط أساسا بالإرادة السياسية للقادة العرب وفي غياب هذه الإرادة يصعب أن تخطو الدول العربية جديا نحو طريق الوحدة الاقتصادية والتي أصبحت الخيار الأهم في مواجهة تداعيات العولمة ومخاطرها.
مصطلحات ومفاهيم:
فهم المصطلحات والمفاهيم المتداولة في علم الاقتصاد مسألة ضروية ليس للمتخصص فقط ولكن للمثقف العادي أيضا وذلك للإلمام بما يدور في هذا المجال الحيوي، وهذا هو ما يهدف إليه المحور التالي.
استهلاك الدين
سداد الحكومة لدين اقترضته بتخصيص مبلغ من ميزانيتها كل عام وتجميعه بإيداعه في بنك بفائدة معينة وتسديده مرة واحدة أو على دفعات.
دولة دائنة
هي الدولة التي يحقق ميزان مدفوعاتها فائضا.
ميزان المدفوعات
هو جدولة أي تبويب للمبادلات الدائنة والمبادلات المدينة بين دولة معينة والدول الأخرى والمؤسسات الدولية، وذلك عن مدة سنة. ويمكن تركيب هذا الميزان بين الدولة والدول الأخرى مجتمعة أو بين الدولة وكل دولة على حدة أو بين الدولة ومجموعة معينة من الدول مثل دول الإسترليني أو دول الدولار الأميركي وهكذا.
دين
مبلغ من المال يكون شخص ما أو هيئة ما مدينة به لشخص آخر أو هيئة أخرى. ويمكن أن ينشأ الدين عندما تمنح البنوك ائتمانا، أو عندما تحصل هيئة ما على رأس المال عن طريق إصدار السندات.
إدارة الدين العام
عملية إدارة الدين العام، وهي تتكون من الإعداد لدفع الفوائد المستحقة والإعداد لاستهلاك السندات التي يحل موعد استهلاكها. وتحتاج هذه العمليات إلى وجود إدارة خاصة بها في الدول التي يلعب فيها الدين العام دورا هاما في الشؤون المالية الخاصة بالحكومة بعد أن ارتفعت قيمة هذا الدين كثيرا بسبب الحروب العالمية التي اشتركت فيها.
دولة مدينة
هي الدولة التي يكون ميزان مدفوعاتها مدينا، أي أن مجموع مقبوضاتها يقل عن مجموع مدفوعاتها.
دولة نامية
هي الدولة التي يكون ميزان مدفوعاتها مدينا، أي أن مجموع مقبوضاتها يقل عن مجموع مدفوعاتها.
التجارة الدولية
تبادل السلع والخدمات بين دولة وأخرى، ويقوم هذا التبادل بسبب اختلاف تكاليف الإنتاج بين الدول وبسبب إمكانية زيادة الرفاهية في كل دولة بتنويع السلع والخدمات المتاحة للاستهلاك فيها.
دين قصير الأجل
الجزء من الدين العام (قروض الدولة) الذي يتمثل في قروض قصيرة الأجل مثل أذونات الخزانة. وتعتبر هذه الأذونات جزءا هاما من الأصول السائلة لسوق النقد، وحيث أن هذه الأذونات أصبحت تكون في بعض الدول جزءا كبيرا من الدين العام، لذلك أصبح لها أثر هام على العرض الكلي للنقود في هذه الدول باعتبارها أصولا سائلة إلى درجة كبيرة حيث أن مدتها تصل في الحد الأقصى إلى 91 يوما.
قرض
اقتراض شخص أو شركة أو حكومة أو أي مؤسسة أخرى لمبلغ من النقود. والقروض تكون مضمونة أو غير مضمونة، وقد تكون بفوائد أو بدون فوائد، وقد تكون قصيرة الأجل أو طويلة الأجل، وقد تكون قابلة للاسترداد أو غير قابلة للاسترداد.
الدين العام
الأموال التي تقترضها الحكومة من الأفراد والمؤسسات لمواجهة أحوال طارئة ولتحقيق أهداف مختلفة وذلك عندما لا تكفي الإيرادات العامة لتغطية النفقات العامة التي تتطلبها هذه الأحوال الطارئة، مثل الحرب وحالة التضخم الشديد، ولتمويل مشروعات التنمية ولمواجهة النفقات الجارية العادية حتى يتم تحصيل الضرائب حيث أن مواعيد التحصيل قد لا تتوافق تماما مع مواعيد النفقات الجارية. ويمكن أن يكون الدين العام في شكل سندات غير قابلة للتداول أو أذونات خزانة لمدة ثلاثة أشهر تقريبا أو سندات قابلة للتداول.
الاستثمار
هو الإنفاق على الأصول الرأسمالية خلال فترة زمنية معينة. وهو بذلك يعتبر الزيادة الصافية في رأس المال الحقيقي للمجتمع. والاستثمار إما أن يكون فرديا أو استثمار شركات وإما أن يكون استثمارا حكوميا، تموله الحكومة من فائض الميزانية أو بالاقتراض بإصدار سندات في داخل الدولة أو في السوق المالية الدولية أو من الهيئات والحكومات الأجنبية أو من المنظمات الدولية (البنك الدولي مثلا) ويكون الاستثمار الحكومي بتكوين رأسمال حقيقي جديد، مثل إنشاء الطرق والكباري والمستشفيات.. إلخ. وقد يكون الاستثمار داخليا، عند تكوين رأسمال حقيقي جديد في داخل الدولة، أواستثمار أجنبي وذلك عندما توجه مدخرات الدولة إلى تكوين رأسمال حقيقي جديد في دولة أجنبية.
استثمار أجنبي
امتلاك إحدى المؤسسات أو أحد الأفراد في دولة ما لأصول مؤسسات تعمل في دولة أخرى. ويتضمن هذا الاستثمار نوعين هما:
تراجع العجز في الموازنات العامة للدول العربية، حيث أصبحت حوالي 0.15% عام 2000 مقابل 5.47% عام 1995 (للدول العربية كمجموعة).
تراجع العجز في موازين المدفوعات للدول العربية كمجموعة وتحولها من حالة عجز إلى فائض في عام 2000.
تزايد الاحتياطات الرسمية في البلدان العربية لتغطي واردات حوالي 8.5 أشهر عام 2000 مقابل 5.2 أشهر عام 1995، وهو ما يعني زيادة الجدارة الائتمانية العربية ككل.
تراجع نسبة إجمالي الدين العربي الخارجي من 73.3% من الناتج المحلي العربي الإجمالي عام 1995 إلى 49.5% عام 2000.
تراجع نسبة خدمة الدين العام الخارجي للدول العربية إلى الصادرات من السلع والخدمات من 18.1% عام 1995 إلى 15.5% عام 2000
وخلاصة القول في الآثار المترتبة على أخذ الدول العربية بشروط إعادة جدولة الديون التي وضعها الصندوق والبنك الدوليان أنها أدت إلى تحقيق نتائج جيدة على الصعيد المالي والنقدي (الاقتصاد الرمزي) فقط، أي انخفض معدل التضخم وانخفض عجز الموازنة العامة وانخفض عجز ميزان المدفوعات وارتفعت الاحتياطيات من العملات الأجنبية، ولكن مقابل ذلك ارتفعت معدلات البطالة وتفاقمت مشاكل أسعار الصرف وزادت مظاهر الركود وتباطؤ الأسواق وزاد عدد الفقراء وارتفعت أسعار السلع والخدمات، ويمكن عزو ذلك إلى أن معظم البلدان العربية نفذت برامج الصندوق كحزمة متكاملة من السياسات ودون النظر في مدى ملاءمتها لظروفها الاقتصادية الخاصة.
مستقبل مشروطية الديون في ظل العولمة
من خلال متابعة تطور شروط الاستدانة طوال القرن الماضي يمكن القول إن هذه الشروط في تطور مستمر، وإن هذا التطور يتجه بهذه الشروط نحو التشدد في غير صالح الدول المدينة ولصالح ضمان حقوق ومصالح الدول الدائنة، كما يلاحظ أن هذه الشروط تتأثر بالدور الذي تلعبه بعض المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، إذ إن معظم الشروط التي تصاحب إعادة جدولة الديون تصب في صالح تحقيق أهداف وبرامج هذه المؤسسات والدول المسيطرة عليها، ولأن هذه المؤسسات تخضع لسيطرة بعض القوى الاقتصادية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية ولأن دور هذه المؤسسات في تطور باستمرار فإن مستقبل شروط المديونية الخارجية للدول النامية ومنها الدول العربية سيتأثر بعاملين أساسيين هما:
المصالح الاقتصادية للقوى الاقتصادية الدولية الفاعلة داخل هذه المؤسسات.
التغيير الذي سيطرأ على دور هذه المؤسسات في المستقبل وخاصة في ظل إعادة النظر التي تتم حاليا بشأن دور الصندوق والبنك الدوليين، وكذلك في ظل التعاون الجديد بين جميع المؤسسات الاقتصادية الدولية في تحقيق التنمية ومحاربة الفقر الذي تم النص عليه في فقرات متعددة من "بيان الدوحة للتنمية" الذي صدر عن المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في الدوحة خلال الفترة من 9-13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001.
وقد بدأ ظهور بعض المؤشرات التي تعكس زيادة تدخل وتأثير الدول الكبرى في تشديد شروط المديونية الخارجية، خاصة مع الدول النامية التي تطلب قروضا أو تسهيلات مالية أو معونات، وذلك عن طريق تشددها في هذه الشروط بالنسبة للقروض التي تقدمها حكومات هذه الدول أو مؤسساتها المالية، أو عن طريق التدخل لدى مؤسسات التمويل الدولية مثل الصندوق والبنك الدوليين واستخدام نفوذها في هذه المؤسسات لتمارس ضغوطا وتشدد شروطها على تقديم قروضها للدول النامية ومنها البلاد العربية.
وفي السنوات الأخيرة بدأنا نسمع عن شروط لمكافحة الفساد، وتوفير مبادئ الديمقراطية أو مبادئ الحكم الرشيد، وحماية حقوق الأقليات السياسية أو الدينية. وبعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول بدأت هذه الدول تلوح بإجراءات مكافحة الإرهاب التي تقوم بها الدول كشرط لتدفق رؤوس الأموال إليها سواء في صورة معونات أو قروض، وقد جسد الرئيس بوش هذه الشروط في خطابه أمام مؤتمر الأمم المتحدة لتمويل التنمية الذي عقد في المكسيك في الفترة من 18-22 مارس/آذار 2002 حيث أكد أن "تدفق رؤوس الأموال إلى الدول النامية والفقيرة سيتوقف على احترام هذه الدول لحقوق الإنسان واتخاذها إجراءات فعالة لاقتلاع جذور الإرهاب والفساد فضلا عن فتح أسواقها والاعتناء بنظام التعليم والرعاية الصحية، وإن الولايات المتحدة ستتعامل بشكل صارم مع ذلك".
هذه التوجهات الأميركية جعلت البعض يصف هذه الشروط بأنها محاولة لابتزاز الدول النامية والفقيرة واستغلال ظروفها الاقتصادية الصعبة لإجبارها على انتهاج سياسات تحقق مصالح الدول الصناعية الكبرى.
كما أن الإصلاحات داخل المؤسسات الاقتصادية الدولية وخاصة الصندوق والبنك الدوليين بدأت المناقشة حولها بعد أن تسببا في إرهاق الكثير من اقتصاديات دول العالم التي لجأت إليهما للاقتراض أو لإعادة جدولة ديونها، وبعد أن تفاقمت الآثار الاجتماعية بصورة خطيرة في الدول التي تبنت برامج الصندوق للإصلاح الاقتصادي ومنها الدول العربية، وكذلك بعد الانتقادات العنيفة التي تتعرض لها سياسات الصندوق والبنك الدوليين.
والملاحظ أن هناك اختلافا على التوجهات التي تحكم عملية إصلاح هذه المؤسسات، وهل تتجه نحو مزيد من الضوابط والشروط على منح القروض وإدارة الديون الخارجية في الدول النامية، أم نحو التسهيل في هذه الشروط لصالح تقليل الفقر وزيادة الرفاهية في الدول النامية وتجميل الوجه القبيح للصندوق والبنك الدوليين. وقد يكون من السابق لأوانه حاليا أن نقطع بتغلب أحد الاتجاهين على الآخر لأن الأمر ما زال في مرحلة النقاش.
الآثار السياسية والاقتصادية للديون العربية
وقع العديد من البلدان النامية ومن بينها الدول العربية في فخ المديونية الخارجية وبلغ حجمها مستويات حرجة باتت تؤثر على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لهذه الدول.
والتساؤل الذي يطرح نفسه الآن وبإلحاح هو: هل ساعدت هذه الأموال الدول النامية ومنها الدول العربية على تحقيق التنمية المنشودة؟ وما هي انعكاسات المديونية الخارجية على مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول العربية المدينة؟ وإلى أي حد أثرت أزمة المديونية الخارجية على القرار السياسي العربي؟.
انعكاسات المديونية الخارجية على الخطط الإنمائية
لعل من المفارقات أنه في الوقت الذي تكونت فيه العائدات النفطية في المنطقة العربية بكميات كبيرة لا سابق لها (ارتفاع أسعار النفط في السبعينات), شهدت الفترة نفسها تصاعد حجم الدين الخارجي بمعدلات لم يسبق لها مثيل أيضا.
ولم تقتصر عمليات الاستدانة على الدول العربية غير النفطية فحسب، بل تفاقم حجم مديونية الدول النفطية كذلك. وقد رافق ذلك تصاعد في حجم مدفوعات خدمة الدين الخارجي في جميع الأقطار العربية (غير النفطية خصوصا) وأصبحت تلتهم جانبا كبيرا من حصيلة الصادرات من السلع والخدمات.
وشكل هذا قيدا أوحملا ثقيلا على خطط التنمية المستقبلية، نظرا لابتلاع جانب مهم من النقد الأجنبي في خدمة الدين الخارجي.
ويمكن تشخيص آثار المديونية الخارجية على الخطط الإنمائية من خلال تحليل آثارها على الادخار المحلي والقدرة الاستيرادية ومعدلات التضخم.
1-على الادخار المحلي إن العلاقة بين رؤوس الأموال الأجنبية والادخار المحلي أفرزت أطروحتين: أطروحة التكامل بين الموارد المالية المحلية والأجنبية وأطروحة الإحلال بين الصنفين.
التكامل بين الموارد المالية المحلية والأجنبية فيرى أنصار الفرضية الأولى أن رؤوس الأموال الأجنبية إذا ما استغلت استغلالا اقتصاديا جيدا تؤدي إلى زيادة الناتج القومي وارتفاع مستويات الدخل وبالتالي ترتفع معدلات الادخار وذلك نتيجة لسد النقص في الموارد المالية اللازمة لتمويل المشاريع الاستثمارية وهوالهدف الذي توخته الدول النامية من وراء اقتراضها.
الإحلال بين الصنفينفي حين يرى أنصار الفرضية الثانية أن هذه الأموال لا تستغل الاستغلال الأمثل لها وغالبا ما تتجه نحو تمويل الاستهلاك خصوصا للسلع المستوردة ونسبة قليلة تتجه إلى الاستثمار في مشاريع تتميز بانخفاض مردودها, مما يقلل من فرص خلق فوائض مالية جديدة ورفع كفاءة الاقتصاد ونموه وهوما يؤثر سلبا على إمكانات الادخار المحلي.
وإذا نظرنا إلى أثر الأموال الأجنبية بصورة عامة, والديون على وجه الخصوص, على مستويات الادخار في الدول النامية من خلال الدراسات الحديثة التي تناولت هذا الموضوع نجد أن هذا التأثير يختلف من دراسة إلى أخرى تبعا لعينة الدول المدروسة وطرق التقدير المستخدمة بالإضافة إلى اختيار فترة الدراسة.
وتشير أغلب الدراسات في هذا المجال إلى أثر سلبي -مباشر أوغير مباشر- للديون الخارجية على الادخار المحلي في معظم الدول النامية.
2-على الطاقة الاستيرادية: إذا استطاعت الدولة توفير القدر الكافي من المال اللازم لاستيراد الآلات والمعدات الإنتاجية الضرورية للتوسع الاقتصادي, استطاعت تنفيذ مخططاتها الإنمائية دون ضغوط خارجية أوحدوث اختناقات تعوق طموح وتنفيذ هذه الخطط.
وهناك عدة عوامل تؤثر بشكل أوبآخر في المقدرة الاستيرادية منها: حجم وعائدات الصادرات وتكلفة السلع المستوردة وخدمة الديون الخارجية والتي تتمثل في مجموع الأقساط والفوائد التي تدفعها الدول المدينة خدمة لديونها وإعادة جدولتها.
وتؤثر هذه الأعباء سلبا على إمكانية تنمية الموارد المالية الذاتية بسبب استنزافها للحظ الأوفر من العملات الصعبة المتاحة للبلد.
3- على معدلات التضخم إن ارتفاع اعتماد الدول النامية ومنها الدول العربية على القروض الخارجية أدى إلى تزايد معدلات التضخم في هذه الدول, لما تشكله هذه القروض والمديونية المترتبة من ضغط على القدرة التنافسية لصادرات الدول المدينة.
ويؤدي تخفيض قيمة العملة الوطنية -استجابة لضغوط الأطراف الدائنة- إلى تدهور القيم الحقيقية للمدخرات مما يضطر العديد من الأفراد إلى إيداع أموالهم في الخارج (أحد أهم أسباب ظاهرة هروب رؤوس الأموال إلى الخارج) خوفا من تآكلها.
وبصورة عامة فإن التأثير السلبي للديون الخارجية على القدرة المالية والاستيرادية للدول المدينة ومنها الدول العربية قد انعكس على عمليات الاستثمار المطلوبة لتحقيق أهداف النمو المتسارع الذي تتطلع إليه اقتصادات هذه الدول.
ويتمثل هذا التأثير السلبي في كون أعباء المديونية الخارجية تستحوذ على نسب عالية من الناتج المحلي الإجمالي وتشكل إنقاصا للموارد المالية التي كان من الممكن أن تتجه إلى الادخار والتوسع الاقتصادي.
كما أن ارتفاع خدمة الديون الخارجية الذي شهدته الدول العربية في السنوات الأخيرة يشكل عبئا على النقد الأجنبي المتاح لتمويل الواردات الاستثمارية.
ومن الطبيعي أن يواكب ارتفاع خدمة الديون ضغط على تمويل هذه الواردات مما اضطر بعض هذه الدول إلى تأجيل تنفيذ العديد من المشاريع الاستثمارية المبرمجة ضمن مخططات التنمية وإلى تخفيض معدلات الاستثمار المستهدفة مما يؤدي إلى تسريح العمال وتزايد البطالة وما إلى ذلك من انعكاسات على المجتمع.
إلا أنه من الضروري التذكير أن العيب لا يكمن في مسألة استيراد رأس المال الأجنبي وإنما الأهم هو طبيعة واستخدامات هذه الأموال.
لقد لعب رأس المال الأجنبي دورا أساسيا في تطوير الدول المتقدمة نظرا للاستغلال الأمثل لهذا العنصر مما ساعد على خلق فوائض مالية أخذت تصدرها إلى البلدان النامية. أما بالنسبة لمعظم الدول النامية ومن بينها الدول العربية فلم يلعب رأس المال الأجنبي الدور الذي كان يجب أن يلعبه في تنمية هذه الدول مما أوقعها في مديونية خانقة لها آثار اجتماعية وسياسية لا تقل خطورة عن الآثار الاقتصادية.
وقد أدى تخلف اقتصادات الدول النامية ومنها الأقطار العربية بصورة عامة وتفاقم حدة الديون الخارجية على وجه الخصوص إلى مزيد التبعية للدول المتقدمة الدائنة, التي أصبحت تتحكم في مسارات التنمية في الدول المدينة. وتأخذ هذه التبعية أشكالا وأنماطا مختلفة منها التبعية التجارية والمالية والتكنولوجية.
أشكال تبعية الاقتصاديات العربية بسبب الديونأولاً: التبعية التجاريةويقصد بها تحكم الطلب العالمي في معدلات نمو اقتصادات الدول النامية. ومرد ذلك أن قطاع التصدير يعتبر المصدر الأساسي للدخل في الدول النامية. كما أن عدم تنوع صادرات الدول النامية حتى من المواد الأولية, إذ كثيرا ما تتركز هذه الصادرات في مادة أولية واحدة أومجموعة محدودة منها, يعرض عمليات التنمية في البلدان المعنية للتذبذب من خلال تعرضها لتقلبات الظروف الاقتصادية العالمية. إن هذه التبعية التجارية التي تعاني منها الدول النامية قد نشأت في عهد الاستعمار وتطورت بعد الاستقلال السياسي وتعمقت بعد تفاقم الديون الخارجية, بفعل بعض العوامل الداخلية والخارجية المرتبطة بمتطلبات التنمية. وهذه المتطلبات هي التي دفعت بتلك الدول في مدار التبعية المالية.
ثانياً: التبعية الماليةترجع هذه التبعية -سواء كانت سببا أونتيجة للمديونية الخارجية- إلى حاجة الدول النامية إلى مصادر لتمويل خططها الإنمائية. فالحاجة إلى رؤوس الأموال دفعت بالدول ذات الموارد المالية المحدودة إلى فتح المجال أمام رأس المال الأجنبي بأشكاله المختلفة. وحتى الدول النامية ذات الفوائض المالية -ومنها الأقطار العربية النفطية- تعاني من نوع آخر من التبعية المالية للدول المتقدمة، ألا وهو اندماج مؤسساتها المالية في النظام الرأسمالي الدولي مما قد يجلب لها مخاطر عدة منها احتمال التجميد من قبل الحكومات الغربية كما حصل مع الودائع الليبية والعراقية.
ثالثاً: التبعية التكنولوجية ويقصد بها النقل الأفقي للتكنولوجيا أي استيرادها من الدول المتقدمة بدل العمل على تنميتها وطنيا أوقوميا أوإقليميا. وقد اختار معظم الدول النامية اكتساب هذه التكنولوجيا عن طريق استيرادها جاهزة باعتقاد أن ذلك سيمكنها من اقتصاد الوقت والنفقـات. لكن المشكلة تكمن في كون هذه التقنية لا تتلاءم مع الطبيعة الإنتاجية للدول النامية مما عمق من تبعيتها للدول المنتجة لهذه التكنولوجيا.
إن بلدان العالم الثالث المديـنة, ومنها الدول العربية, تتعرض "لمؤامرة مالية دولية" بعد أن تم توريطها في مديونية مفرطة. وتأخذ هذه المؤامرة شكلا خطيرا تمثل في احتلال المستثمرين الأجانب للأصول الإنتاجية الإستراتيجية التي بنتها هذه الدول عبر جهودها الإنمائية المضنية خلال عقود من الزمن على نحو يعيد لها السيطرة الأجنبية.
فبعد وصول أزمة الديون إلى مستوى حرج وبعد التعثر في سداد خدمتها ظهر اتجاه بين صفوف الدائنين يدعو إلى مبادلة الدين الخارجي ببعض الأصول الإنتاجية في الدول المدينة, أي مقايضة الديون بحقوق ملكية في المشاريع التي تملكها الدولة في هذه البلدان. وهواتجاه يؤسس نظرته إلى مشكلة الديون في تلك الدول على أنها مشكلة إفلاس وليست نقص سيولة.
وقد لقي هذا الطرح صدى واسعا في نفوس الدائنين لأنه يحسن من محافظهم المالية ويحول الديون المشكوك في تحصيلها (لأنها حالة إفلاس) إلى أصول إنتاجية ذات عوائد مستمرة وهنا يتحول الدائنون إلى مستثمرين وهوما يؤدي إلى إخضاع السياسات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان المدينة إلى مزيد من الرقابة الخارجية.
الآثار الاجتماعية للديون الخارجية
إن الآثار السلبية للديون الخارجية لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية فقط في الدول النامية وإنما تتعداها إلى الأبعاد الاجتماعية ومع تنامي ظاهرة العولمة بشكل عام وتفاقم أزمة المديونية بشكل خاص, كان من الطبيعي أن تتأثر الدول العربية بهذا الواقع من خلال آلـيات مختلفة.
فالدول العربية التي كانت تتبنى فلسفة اقتصادية تقوم بالأساس على تحكم الدولة في إدارة النشاطات الاقتصادية من قبل, نجدها تتحول تحولا جذريا, من خلال تطبيق برامج التثبيت والإصلاح الهيكلي, متنازلة بذلك عن جزء كبير من مهمتها الاجتماعية. وتستند هذه البرامج إلى إعطاء قوى السوق الدور البارز في الحياة الاقتصادية وتحرير المعاملات الاقتصادية والمالية مع العالم الخارجي.
ومن المنطقي أن يكون لمثل هذه الـتحولات الجذرية أثرها على المجتمع. وفي تحليلنا للآثار الاجتماعية للمديونية الخارجية سوف نركز على التأثيرات المترتبة على أسواق العمل والتشغيل في الدول العربية المدينة وذلك استنادا إلى أن الكسب من العمل يمثل المصدر الرئيسي لمداخيل غالبية الأفراد وأن حرمانها من هذا الحق ينتج عنه استفحال البطالة بأنواعها وتفاقم حدة الفقر وإحداث المزيد من الاختلالات في توزيع الدخل وتعاظم الهوة بين طبقات المجتمع.
أن أغلب الدول النامية ومنها الدول العربية التي لجأت إلى تطبيق برامج التثبيت والإصلاح الهيكلي تحت وطأة ارتفاع مديونيتها الخارجية وبمباركة من المؤسسات الدولية الدائنة (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ونادي باريس ونادي لندن...), عانت من معدلات بطالة مرتفعة أصبحت تهدد استقرارها الاجتماعي والسياسي.
وترجع هذه المعدلات إلى عدة عوامل منها على سبيل المثال: تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في هذه الدول نتيجة لتطبيق سياسات انكماشية تتضمنها هذه البرامج خاصة في المراحل الأولى لها, مما يؤدي إلى خفض الطلب المحلي ويزيد من حدة الركود الاقتصادي الذي يؤدي بدوره إلى تراجع الطلب على العمل.
يضاف إلى ذلك تأثير عمليات خصخصة المنشآت العامة وضرورة تقليص العمالة بها قبل انتقالها إلى الملكية الخاصة, وكذلك تراجع الحكومات عن خلق فرص جديدة للعمل بحجة الضغط على الإنفاق العام وتقليص عجز الموازنات العامة, إلى غير ذلك من الإجراءات المرافقة لبرامج الإصلاح الاقتصادي هذه التي أصبحت شرطا ضروريا لطلب إعادة جدولة الديون أوالحصول على قروض جديدة تفرضه الجهات المانحة.
وعلى الرغم من شح ودقة البيانات المتعلقة بالتشغيل والبطالة في الدول العربية فإن القدر المتوافر منها يشير إلى اتجاه تصاعدي واضح للبطالة. وتراوحت معدلات البطالة في الدول العربية ما بين 15% و20 % خلال التسعينات وهي الحقبة التي شهدت ارتفاع حجم الدين الخارجي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المعدلات المرتفعة للبطالة لا ترجع بالكامل إلى أزمة الدين الخارجي وإنما تتفاعل معها جملة من العوامل الأخرى تتعلق بعدم قدرة الاقتصاديات العربية على خلق فرص للعمل تتناسب مع حجم قوة العمل العربية التي تطورت في الأعوام الأخيرة.
ويمكن القول أن المحصلة العامة لتفاعل أزمة الديون الخارجية والنتائج المترتبة عليها, قد أثرت سلبا على مستويات المعيشة لغالبية الدول المدينة وأدت إلى تفاقم الفقر في هذه الدول (تقرير البنك الدولي سنة 2000, ص 15).
وقد تبنى البنك الدولي في السنوات الأخيرة سياسة التصدي لمسألة الفقر وأوضح أنه يجب أن يكون من بين مكونات السياسة العامة لأي دولة ترغب في تخفيف عبء ديونها أوالحصول عل قروض جديدة, إجراءات تخفف وطأة الفقر في المجتمع.
وعموما فإن أزمة الديون الخارجية في الثمانينات عولجت بوصفات تنطوي على العديد من الإجراءات المجحفة بالدول النامية. وكثيرا ما تفرض الأطراف الدائنة والمانحة للقروض إتباع سياسات اقتصادية ترتكز على حزمة من الإجراءات التي تؤثر سلبيا على المجتمع مثل: تخفيض قيمة العملة المحلية -وما ينجر عن ذلك من تسارع لمعدلات التضخم الذي يعتبر العدوالأول للفقراء- وإلغاء الرسوم والضرائب على السلع المستوردة وتخفيض الإنفاق العام ورفع الدعم عن السلع والخصخصة وكلها سياسات تؤدي إلى زيادة تدخل الدول الدائنة وشركاتها المتعددة الجنسية وتغلغلها في اقتصادات الدول المدينة والتحكم فيها.
التداعيات السياسية للمديونية الخارجية
إن خطورة تفاقم الديون الخارجية لا تقف عند الحدود الاقتصادية والاجتماعية بل إنها تتجاوز إلى تعريض حرية صانع القرار السياسي إلى مزيد الضغوطات والتدخل الأجنبي. وفي ظل عالم يتميز بهيمنة الدول المتقدمة ومؤسساتها المالية الدولية ومع تنامي ظاهرة العولمة بكافة أوجهها -خاصة الوجه المالي- فإنه من المتوقع تسارع عملقة رأس المال واحتواء الشركات المتعددة الجنسية المحركة لهذا المال لمصير الخطط الإنمائية وتعميق المشاكل الاقتصادية والاجتماعية إلا أن خطورة هذا النفوذ لن تقف عند البعدين الاقتصادي والاجتماعي بل ستتعدى إلى البعد السياسي. فيرى البعض أن هذه الأموال والشركات الكبرى المحركة لها قادرة على التأثير في سيادة الدول وتلعب دور الشرطي الذي يلزم الدول المضيفة بتوجهات معينة في سياساتها العامة وهوما يشكل مساسا للسيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي(محمد الأطرش, ص 414).
وتتمثل الآثار المصاحبة لدخول رؤوس الأموال الأجنبية والشركات الدافعة لها في اختراق النظام السياسي والتأثير عليه بما يتلاءم مع مصالحها. فقد كشفت التحقيقات الجنائية أن هذه الشركات تمول الأحزاب المتنافسة في الانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا مثلا حتى لا تأتي نتائج الانتخابات بأي أثر سلبي يمكن أن يضايق مصالحها فما بالك بالدول النامية وبهذا يتحول السياسيون من رجال دولة (Statesmen) إلى بياعين(Salesmen) (إسماعيل صبري عبد الله, ص 378) بالإضافة إلى شراء ذمم الكثير من أعضاء البرلمان وحتى الحكومة.
ونشير إلى أن أزمة الديون الخارجية وما رافقها من تعاظم لدور الشركات المتعددة الجنسية والمستثمرين الخواص الدوليين أوجد واقعا جديدا على حكامنا التعامل معه. ويتجلى هذا الواقع في تراجع مكانة العلاقات بين الحكومات لصالح هذه الشركات والمستثمرين. وهوما يحتم تعزيز قدرتنا التفاوضية كعرب مع هذه الجهات والبحث عن اللغة التي تفهمها هذه الأطراف بعيدا عن العواطف والصيغ الفارغة. وعناصر هذه اللغة هي حجم السوق المحلية والأداء الاقتصادي والمالي الجيد والمستقر ورأس المال البشري المؤهل بالإضافة الاستقرار السياسي والتشريعات والنظم المحكمة.
بعد تفاقم أزمة الديون وتكريس العولمة وخاصة المالية لهيمنة الدول المتقدمة, تجسدت سياسة ازدواجية المعايير كأبرز سمات العولمة المعاصرة والنظام العالمي الجديد. حيث أصبح هذا النظام يبيح لدول معينة أشياء ويحرمها ذاتها عن دول أخرى لا لشيء إلا لاختلال الموازين واختلاف المصالح الإستراتيجية مع الدول المهيمنة أوالقادرة على الهيمنة (خلاف خلف الشاذلي, ص 64).
وفي ظل هذا الظرف الدولي الراهن, تصبح الدول العربية مطالبة أكثر من أي وقت مضى ببلورة وتجسيد رؤية متكاملة حول التحولات الدولية الراهنة, تمكنها من احتلال موقعا أفضل يخولها مواجهة تداعيات هذه التحولات.
ويتضح من العرض العام للمديونية الخارجية للدول العربية المدينة أن أعباء خدمة هذه الديون قد نمت في السنوات الأخيرة بمعدلات مرتفعة وبلغت حدا حرجا. وأصبح مأزق الديون الخارجية للدول النامية ومنها الدول العربية بصورة عامة يستدعي حلا عاجلا قبل بلوغ مستويات يصعب معها حتى التفكير في تحقيق معدلات نمو اقتصادية.
وإذا كان البعض يرى عدم الإفراط في تهويل حدة الديون الخارجية للدول العربية المقترضة, إلا أن ذلك لا يستوجب بالضرورة تحجيمها أوالتقليل من حدتها وإنما ضرورة النظر إليها باعتبارها تحد لا بد من تشخيصه ومواجهة آثاره المحتملة.
إن أخطر آثار المديونية الخارجية يتمثل في شلل جهود التنمية وما يترتب عليه من انعكاسات اجتماعية وسياسية في الدول المدينة وفي تعميق تبعيتها للجهات الدائنة وإلى تعرضها إلى نوع من "الإرهاب المالي الدولي "الذي يستهدف إخضاع القرارات الاقتصادية والسياسية لهذه الدول لنوع صارم من الرقابة والتدخل في الشؤون الداخلية تحت وطأة تفاقم مديونيتها. ويبدوذلك واضحا في حالات الدول التي تضطر إلى طلب إعادة جدولة ديونها الخارجية أوالحصول على قروض جديدة, حيث تفرض الأطراف المانحة داخل نادي باريس ونادي لندن ومعهم في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي, سياسات وبرامج تعمق من تبعية الدول المدينة لرأس المال الدولي.
إن الأزمات الاقتصادية والمالية التي تواجهها الدول النامية لا ترجع بالكامل إلى الأموال الخارجية وإنما مردها في الواقع هو طريقة الدول المقترضة في إدارة تلك الأموال بشكل خاص وعمليات التنمية الاقتصادية بشكل عام. كما أن اللجوء إلى الاقتراض ليس بالضرورة سلبيا أوإيجابيا ويتوقف ذلك على النتائج المترتبة على هذا الاقتراض وتحدد طبيعة ومصادر وشروط واستخدامات الأموال الأجنبية مستوى تأثيرها في النمو الاقتصادي
أثبت العديد من الدراسات والبحوث أن الدول التي تعرضت لأزمات مديونية حادة قد اتجهت الأموال المقترضة فيها لتمويل الاستهلاك والاستثمارات الغير منتجة.
حل مشكلة الديون الخارجية للدول النامية والتخفيف من وطأتها, لخلق نوع من التوازن في الداخل وبين الدول -أصبح ضروريا للتوازن الاقتصادي العالمي- يتطلب توافر جهود كافة الأطراف وبالدرجة الأولى الأطراف الدائنة وجدية إرادتها في تحقيق ذلك.
أصبح من الضروري صياغة سياسات جديدة تؤسس المناخ الملائم للدول العربية الدائنة للتصدي للانعكاسات السلبية لهذه التحولات من فقر وتهميش وتبعية وارتهان للمؤسسات المالية الدولية ترتكز على ثلاثة محاور عامة:
محور اقتصادي:يتعلق بطبيعة التنمية الاقتصادية المستهدفة وآليات تحقيقها وأنماط توزيع ثمارها, حيث يجب أن تكون هذه التنمية مرتكزة على القدرات الذاتية العربية من خلال التعجيل بالتكامل والاندماج الاقتصادي بين الدول العربية وتفعيل السوق العربية المشتركة وتحديث وتطوير المؤسسات المالية العربية المحلية من أجل ضمان توفير التمويل الذاتي العربي للتنمية وجلب رؤوس الأموال العربية الهاربة.
محور اجتماعي:يستند إلى التركيز على التنمية البشرية بمفهومها الواسع من تعليم وصحة وبحث وتطوير وضمان لحقوق الإنسان.
محور سياسي:يؤسس لقواعد ديموقراطية ترتكز على المشاركة الشعبية الفاعلة في القرارات التنموية وتدعيم آليات الرقابة ومكافحة الرشوة والفساد داخل القطاعات المختلفة.
ونختم بإعادة التأكيد على أن العامل الأهم في تجسيد محاولات التكامل الاقتصادي العربي يرتبط أساسا بالإرادة السياسية للقادة العرب وفي غياب هذه الإرادة يصعب أن تخطو الدول العربية جديا نحو طريق الوحدة الاقتصادية والتي أصبحت الخيار الأهم في مواجهة تداعيات العولمة ومخاطرها.
مصطلحات ومفاهيم:
فهم المصطلحات والمفاهيم المتداولة في علم الاقتصاد مسألة ضروية ليس للمتخصص فقط ولكن للمثقف العادي أيضا وذلك للإلمام بما يدور في هذا المجال الحيوي، وهذا هو ما يهدف إليه المحور التالي.
استهلاك الدين
سداد الحكومة لدين اقترضته بتخصيص مبلغ من ميزانيتها كل عام وتجميعه بإيداعه في بنك بفائدة معينة وتسديده مرة واحدة أو على دفعات.
دولة دائنة
هي الدولة التي يحقق ميزان مدفوعاتها فائضا.
ميزان المدفوعات
هو جدولة أي تبويب للمبادلات الدائنة والمبادلات المدينة بين دولة معينة والدول الأخرى والمؤسسات الدولية، وذلك عن مدة سنة. ويمكن تركيب هذا الميزان بين الدولة والدول الأخرى مجتمعة أو بين الدولة وكل دولة على حدة أو بين الدولة ومجموعة معينة من الدول مثل دول الإسترليني أو دول الدولار الأميركي وهكذا.
دين
مبلغ من المال يكون شخص ما أو هيئة ما مدينة به لشخص آخر أو هيئة أخرى. ويمكن أن ينشأ الدين عندما تمنح البنوك ائتمانا، أو عندما تحصل هيئة ما على رأس المال عن طريق إصدار السندات.
إدارة الدين العام
عملية إدارة الدين العام، وهي تتكون من الإعداد لدفع الفوائد المستحقة والإعداد لاستهلاك السندات التي يحل موعد استهلاكها. وتحتاج هذه العمليات إلى وجود إدارة خاصة بها في الدول التي يلعب فيها الدين العام دورا هاما في الشؤون المالية الخاصة بالحكومة بعد أن ارتفعت قيمة هذا الدين كثيرا بسبب الحروب العالمية التي اشتركت فيها.
دولة مدينة
هي الدولة التي يكون ميزان مدفوعاتها مدينا، أي أن مجموع مقبوضاتها يقل عن مجموع مدفوعاتها.
دولة نامية
هي الدولة التي يكون ميزان مدفوعاتها مدينا، أي أن مجموع مقبوضاتها يقل عن مجموع مدفوعاتها.
التجارة الدولية
تبادل السلع والخدمات بين دولة وأخرى، ويقوم هذا التبادل بسبب اختلاف تكاليف الإنتاج بين الدول وبسبب إمكانية زيادة الرفاهية في كل دولة بتنويع السلع والخدمات المتاحة للاستهلاك فيها.
دين قصير الأجل
الجزء من الدين العام (قروض الدولة) الذي يتمثل في قروض قصيرة الأجل مثل أذونات الخزانة. وتعتبر هذه الأذونات جزءا هاما من الأصول السائلة لسوق النقد، وحيث أن هذه الأذونات أصبحت تكون في بعض الدول جزءا كبيرا من الدين العام، لذلك أصبح لها أثر هام على العرض الكلي للنقود في هذه الدول باعتبارها أصولا سائلة إلى درجة كبيرة حيث أن مدتها تصل في الحد الأقصى إلى 91 يوما.
قرض
اقتراض شخص أو شركة أو حكومة أو أي مؤسسة أخرى لمبلغ من النقود. والقروض تكون مضمونة أو غير مضمونة، وقد تكون بفوائد أو بدون فوائد، وقد تكون قصيرة الأجل أو طويلة الأجل، وقد تكون قابلة للاسترداد أو غير قابلة للاسترداد.
الدين العام
الأموال التي تقترضها الحكومة من الأفراد والمؤسسات لمواجهة أحوال طارئة ولتحقيق أهداف مختلفة وذلك عندما لا تكفي الإيرادات العامة لتغطية النفقات العامة التي تتطلبها هذه الأحوال الطارئة، مثل الحرب وحالة التضخم الشديد، ولتمويل مشروعات التنمية ولمواجهة النفقات الجارية العادية حتى يتم تحصيل الضرائب حيث أن مواعيد التحصيل قد لا تتوافق تماما مع مواعيد النفقات الجارية. ويمكن أن يكون الدين العام في شكل سندات غير قابلة للتداول أو أذونات خزانة لمدة ثلاثة أشهر تقريبا أو سندات قابلة للتداول.
الاستثمار
هو الإنفاق على الأصول الرأسمالية خلال فترة زمنية معينة. وهو بذلك يعتبر الزيادة الصافية في رأس المال الحقيقي للمجتمع. والاستثمار إما أن يكون فرديا أو استثمار شركات وإما أن يكون استثمارا حكوميا، تموله الحكومة من فائض الميزانية أو بالاقتراض بإصدار سندات في داخل الدولة أو في السوق المالية الدولية أو من الهيئات والحكومات الأجنبية أو من المنظمات الدولية (البنك الدولي مثلا) ويكون الاستثمار الحكومي بتكوين رأسمال حقيقي جديد، مثل إنشاء الطرق والكباري والمستشفيات.. إلخ. وقد يكون الاستثمار داخليا، عند تكوين رأسمال حقيقي جديد في داخل الدولة، أواستثمار أجنبي وذلك عندما توجه مدخرات الدولة إلى تكوين رأسمال حقيقي جديد في دولة أجنبية.
استثمار أجنبي
امتلاك إحدى المؤسسات أو أحد الأفراد في دولة ما لأصول مؤسسات تعمل في دولة أخرى. ويتضمن هذا الاستثمار نوعين هما:
1- الاستثمار المباشر.2- الاستثمار بامتلاك الأسهم والسندات فقط.
الاستثمار المباشر
يقوم على أساس إنشاء فروع لشركات أجنبية في الدولة التي تكون في حاجة إلى رؤوس الأموال بحيث تقوم هذه الفروع بإنتاج سلع كانت تستورد قبلا، وهو إجراء قد يخفف الضغط على ميزان مدفوعات الدولة التي يهاجر إليها رأس المال. لكن التوسع في الاعتماد على هذه الهجرة لرؤوس الأموال الأجنبية يؤدي في النهاية إلى أن يصبح اقتصاد الدولة تابعا لهذه الأموال التي تعمل وفقا لصالحها الخاص دون أن تأخذ في اعتبارها مصلحة الدول التي تهاجر إليها.
خصوم
الالتزامات التي تترتب على قيام المؤسسات بأعمالها مهما كان الشكل القانوني لهذه المؤسسات فردية أو تضامنا أو توصية أو مساهمة... إلخ. وتتكون الخصوم من القروض المصرفية، وحقوق السحب على المكشوف التي تمنحها البنوك للمؤسسة، والقروض القصيرة الأجل التي تتمثل في السلع والخدمات التي قدمت لها (أي الخصوم الجارية) ورأسمالها المقترض ورأس المال المساهم به، أي الذي طرح للاكتتاب في سوق الأوراق المالية، والاحتياطيات المختلفة.
سيولة
درجة سهولة تحويل أصل ما إلى نقود. وتتوقف سيولة الأصول المختلفة على طبيعة السوق التي يجري التعامل فيها في هذه الأصول. وعندما تكون أسواق الأوراق المالية منظمة تنظيما عاليا تكون سيولة الأسهم مرتفعة حيث يمكن تحويلها إلى نقود في فترة قصيرة ببيعها في هذه السوق. ويستخدم اصطلاح السيولة كذلك بالنسبة للمؤسسات والأشخاص، حيث تكون سيولة مؤسسة ما مرتفعة إذا كانت نسبة كبيرة من أصولها في شكل نقود أو أصول قابلة للتحويل إلى نقود بسهولة. ودرجة سيولة المؤسسة بهذا المعنى تبين قدرتها على مواجهة نفقاتها بسرعة وبذلك يطمئن الدائنون وتتجنب الشركة الإفلاس.
الموازنة العامة
تقدير للإيرادات والمصروفات لمدة مستقبلية، وذلك بخلاف الحساب الذي يسجل المبادلات المالية التي تمت فعلا. وتعتبر الموازنات أداة هامة في تخطيط وتوجيه الشؤون المالية للدولة أو المؤسسات. وأهميتها تنشأ عن أن الإيرادات والمصروفات لا تتفقان من الوجهة الزمنية.
سند
أوراق مالية ذات فائدة محددة تصدرها الحكومة المركزية أو الحكومات المحلية وهي في الغالب أوراق مالية طويلة الأجل، بمعنى أنها لن تسدد قيمتها إلا بعد أجل طويل، ويمكن أن تكون غير قابلة للسداد حيث يكتفي أصحابها بالفوائد الثابتة التي يحصلون عليها من امتلاكها. ويمكن سداد قيمة هذه السندات كل عام ودفع قيمتها لأصحابها، أو بتخصيص مبلغ معين من الموازنة كل عام وتجميعه بإيداعه في بنك بفائدة معينة حتى تتمكن الحكومة بعد مدة معينة من سداد الدين كله مرة واحدة.
عجز
زيادة الخصوم عن الأصول، أو زيادة النفقات عن الإيرادات بالنسبة للموازنة العامة، أو عجز ميزان المدفوعات.
رأس المال المقترض
ذلك الجزء من رأس مال الشركة الذي يتمثل في السندات والذي لا بد أن تدفع عنه فائدته سواء حققت أرباحا أم لم تحقق، وهو يختلف عن رأس المال في شكل أسهم الذي لا توزع عليه أرباح ما لم تحقق الشركة أرباحا.
دين خارجي
هو دين على كيانات خاصة وعامة مقيمة في بلد ما لغير المقيمين. وهذا النوع من الدين له تأثير مباشر على ميزان مدفوعات البلد المدين. ولكن لمقاصد عملية، يصنف الدين الخارجي أحيانا حسب عملة الدين وبدون استخدام معيار الإقامة (للتشابه بينه وبين دين العملة الأجنبية).
الدين العام والخاص
الدين الخارجي قد يكون مملوكا للقطاع العام أو القطاع الخاص. فهو في الحالة الأولى (دين عام) أما في الثانية فهو(دين خاص). والدين المملوك بواسطة القطاع الخاص لكنه مضمون من قبل القطاع العام غالبا ما يدرج في الدين العام والذي يسمى أحيانا الدين المضمون عموما.
التمويل بالعجز
زيادة متعمدة في الإنفاق عن الإيراد، وهي سياسة عندما تتبعها الحكومة تأخذ شكل إعداد موازنة بها عجز يمول بالاقتراض وذلك بهدف تنشيط الاقتصاد القومي والتوظيف عن طريق ضخ قوة شرائية إضافية. وقد ترتب على زيادة وظائف الدولة الحديثة وزيادة نفقاتها تبعا لذلك أن أصبح وجود عجز في الموازنة العامة أمرا عاديا حتى في أوقات التوظيف الكامل، ولهذا فالتمويل بالعجز أصبح يعني التوسع في العجز عن مستواه العادي.
قرض رخيص
قرض لا تحسب عليه فوائد بتاتا، اوتحسب عليه فوائد بمعدل يقل عن التكلفة الحقيقية للمبلغ المقترض. وهي سياسة البنك الدولي للإنشاء والتعمير فيما يتعلق بمنح الدول النامية قروضا رخيصة لتمويل مشروعات رأسمالية طويلة الأجل.
إعادة جدولة الدين الخارجي
هي عملية يقصد بها إعطاء نفس جديد لمالية الدولة المدينة، أي تغيير تواريخ استحقاق الدين وتأجيل السداد، حيث تقرر الدولة الدائنة منح الدولة المدينة آجالا إضافية. وبهذه الطريقة يمكن للدولة الدائنة أن تحصل على أموالها بدلا من التوقف النهائي للدولة المدينة عن الدفع، وفي الوقت نفسه تستفيد الدولة المدينة من فترة التأجيل لترتيب أوضاعها المالية والتجارية وأهمها معالجة العجز المالي الذي هو سبب اللجوء إلى التمويل الخارجي ومن ثم الوقوع في الدين.
الاستثمار المباشر
يقوم على أساس إنشاء فروع لشركات أجنبية في الدولة التي تكون في حاجة إلى رؤوس الأموال بحيث تقوم هذه الفروع بإنتاج سلع كانت تستورد قبلا، وهو إجراء قد يخفف الضغط على ميزان مدفوعات الدولة التي يهاجر إليها رأس المال. لكن التوسع في الاعتماد على هذه الهجرة لرؤوس الأموال الأجنبية يؤدي في النهاية إلى أن يصبح اقتصاد الدولة تابعا لهذه الأموال التي تعمل وفقا لصالحها الخاص دون أن تأخذ في اعتبارها مصلحة الدول التي تهاجر إليها.
خصوم
الالتزامات التي تترتب على قيام المؤسسات بأعمالها مهما كان الشكل القانوني لهذه المؤسسات فردية أو تضامنا أو توصية أو مساهمة... إلخ. وتتكون الخصوم من القروض المصرفية، وحقوق السحب على المكشوف التي تمنحها البنوك للمؤسسة، والقروض القصيرة الأجل التي تتمثل في السلع والخدمات التي قدمت لها (أي الخصوم الجارية) ورأسمالها المقترض ورأس المال المساهم به، أي الذي طرح للاكتتاب في سوق الأوراق المالية، والاحتياطيات المختلفة.
سيولة
درجة سهولة تحويل أصل ما إلى نقود. وتتوقف سيولة الأصول المختلفة على طبيعة السوق التي يجري التعامل فيها في هذه الأصول. وعندما تكون أسواق الأوراق المالية منظمة تنظيما عاليا تكون سيولة الأسهم مرتفعة حيث يمكن تحويلها إلى نقود في فترة قصيرة ببيعها في هذه السوق. ويستخدم اصطلاح السيولة كذلك بالنسبة للمؤسسات والأشخاص، حيث تكون سيولة مؤسسة ما مرتفعة إذا كانت نسبة كبيرة من أصولها في شكل نقود أو أصول قابلة للتحويل إلى نقود بسهولة. ودرجة سيولة المؤسسة بهذا المعنى تبين قدرتها على مواجهة نفقاتها بسرعة وبذلك يطمئن الدائنون وتتجنب الشركة الإفلاس.
الموازنة العامة
تقدير للإيرادات والمصروفات لمدة مستقبلية، وذلك بخلاف الحساب الذي يسجل المبادلات المالية التي تمت فعلا. وتعتبر الموازنات أداة هامة في تخطيط وتوجيه الشؤون المالية للدولة أو المؤسسات. وأهميتها تنشأ عن أن الإيرادات والمصروفات لا تتفقان من الوجهة الزمنية.
سند
أوراق مالية ذات فائدة محددة تصدرها الحكومة المركزية أو الحكومات المحلية وهي في الغالب أوراق مالية طويلة الأجل، بمعنى أنها لن تسدد قيمتها إلا بعد أجل طويل، ويمكن أن تكون غير قابلة للسداد حيث يكتفي أصحابها بالفوائد الثابتة التي يحصلون عليها من امتلاكها. ويمكن سداد قيمة هذه السندات كل عام ودفع قيمتها لأصحابها، أو بتخصيص مبلغ معين من الموازنة كل عام وتجميعه بإيداعه في بنك بفائدة معينة حتى تتمكن الحكومة بعد مدة معينة من سداد الدين كله مرة واحدة.
عجز
زيادة الخصوم عن الأصول، أو زيادة النفقات عن الإيرادات بالنسبة للموازنة العامة، أو عجز ميزان المدفوعات.
رأس المال المقترض
ذلك الجزء من رأس مال الشركة الذي يتمثل في السندات والذي لا بد أن تدفع عنه فائدته سواء حققت أرباحا أم لم تحقق، وهو يختلف عن رأس المال في شكل أسهم الذي لا توزع عليه أرباح ما لم تحقق الشركة أرباحا.
دين خارجي
هو دين على كيانات خاصة وعامة مقيمة في بلد ما لغير المقيمين. وهذا النوع من الدين له تأثير مباشر على ميزان مدفوعات البلد المدين. ولكن لمقاصد عملية، يصنف الدين الخارجي أحيانا حسب عملة الدين وبدون استخدام معيار الإقامة (للتشابه بينه وبين دين العملة الأجنبية).
الدين العام والخاص
الدين الخارجي قد يكون مملوكا للقطاع العام أو القطاع الخاص. فهو في الحالة الأولى (دين عام) أما في الثانية فهو(دين خاص). والدين المملوك بواسطة القطاع الخاص لكنه مضمون من قبل القطاع العام غالبا ما يدرج في الدين العام والذي يسمى أحيانا الدين المضمون عموما.
التمويل بالعجز
زيادة متعمدة في الإنفاق عن الإيراد، وهي سياسة عندما تتبعها الحكومة تأخذ شكل إعداد موازنة بها عجز يمول بالاقتراض وذلك بهدف تنشيط الاقتصاد القومي والتوظيف عن طريق ضخ قوة شرائية إضافية. وقد ترتب على زيادة وظائف الدولة الحديثة وزيادة نفقاتها تبعا لذلك أن أصبح وجود عجز في الموازنة العامة أمرا عاديا حتى في أوقات التوظيف الكامل، ولهذا فالتمويل بالعجز أصبح يعني التوسع في العجز عن مستواه العادي.
قرض رخيص
قرض لا تحسب عليه فوائد بتاتا، اوتحسب عليه فوائد بمعدل يقل عن التكلفة الحقيقية للمبلغ المقترض. وهي سياسة البنك الدولي للإنشاء والتعمير فيما يتعلق بمنح الدول النامية قروضا رخيصة لتمويل مشروعات رأسمالية طويلة الأجل.
إعادة جدولة الدين الخارجي
هي عملية يقصد بها إعطاء نفس جديد لمالية الدولة المدينة، أي تغيير تواريخ استحقاق الدين وتأجيل السداد، حيث تقرر الدولة الدائنة منح الدولة المدينة آجالا إضافية. وبهذه الطريقة يمكن للدولة الدائنة أن تحصل على أموالها بدلا من التوقف النهائي للدولة المدينة عن الدفع، وفي الوقت نفسه تستفيد الدولة المدينة من فترة التأجيل لترتيب أوضاعها المالية والتجارية وأهمها معالجة العجز المالي الذي هو سبب اللجوء إلى التمويل الخارجي ومن ثم الوقوع في الدين.
المصادر:
- د. صباح نعوش ، باحث اقتصادي، منشور، الجزيرة نت
- أ. محمد ولد عبد الدائم ، باحث اقتصادي، منشور، الجزيرة نت
- أ. محمد ولد عبد الدائم ، باحث اقتصادي، منشور، الجزيرة نت
- أ. مغاوري شلبي علي، باحث في شؤون الاقتصاد الدولي، منشور، الجزيرة نت
- أ. المصطفى ولد سيد محمد، باحث متخصص في الشؤون الاقتصادية، منشور، الجزيرة نت
- أ. محمد عبد العاطي ، قسم البحوث والدراسات-الجزيرة نت- قسم البحوث والدراسات-الجزيرة نت
- أ. المصطفى ولد سيد محمد، باحث متخصص في الشؤون الاقتصادية، منشور، الجزيرة نت
- أ. محمد عبد العاطي ، قسم البحوث والدراسات-الجزيرة نت- قسم البحوث والدراسات-الجزيرة نت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق