الأحد، 20 أبريل 2008

دراسات في الحقبة الناصرية (8)

تأثير الإصلاح الزراعى 1952 – 1970على الوضع الاجتماعى للفلاحين
يعتبر قانـون الإصلاح الزراعـى الـذى أصدرتـه ثــورة يوليـــة فــى 9 سبتمبر 1952 بعد أقل من شهر ونصف من قيامها ؛ أخطر الإجراءات التى قلبت الأوضاع فى الريف المصرى ، وغيرت كثيراً من علاقاته الاجتماعية ، وجعلت للفلاحين قيمة اجتماعية وإنسانية لم يشعروا بها يوماً طوال قرون عديدة ، وهم أولئك المستأجرون وعمال الزراعة وصغار صغار الملاك ، الذين يعرفون بالفلاحين اصطلاحاً ، من ارتبطت حياتهم ومصيرهم بفلاحة الأرض ، وليس غيرهم من كبار الملاك الذين انتحل بعضهم صفة الفلاح لمجرد أنه يعيش بالقرية ، فهؤلاء الكبار كانوا يمثلون صفوة اجتماعية، ليس فقط فى القرية ، وإنما فى المدينة حيث عالم السياسة الذى شاركوا فيه ، ودنيا الاقتصاد التى اقتحموا مجالاتها ، وما صاحب ذلك من سعى دءوب للوصول إلى مقاعد السلطة التشريعية لحماية المصالح ، والسلطة التنفيذية للسهر على تطبيق التشريعات وصيانتها من العبث .وتستهدف هذه الورقة توضيح تأثير الإصلاح الزراعى على الوضع الاجتماعى للفلاحين بالمعنى الاصطلاحى المشار إليه ، وتحولهم من مجرد قوة عمل بشروط كبار الملاك ، إلى قوة عمل منفردة تسهم فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية فى إطار المنهج الإصلاحى للثورة، وتشعر بالأمان الاجتماعى الذى لم يكن ليتوفر دون الاستقلال الاقتصادى ، فضلاً عن زيادة عدد هؤلاء الفلاحين بفعل سياسة توزيع الأرض ، وبفعل قيام كبار الملاك بالتخلص من أراضيهم بالبيع حتى لا تخضع للاستيلاء ؛ مما أوجد توازناً ما فى بناء الملكية الزراعية .والحقيقة أن قوانين الإصلاح الزراعى ( 1952 - 1969 ) ، والمسألة الزراعية بشكل عام فى مصر خلال الفترة خضعت لعدة دراسات متنوعة التخصص بأقلام مصرية وأجنبية ، وبعضها أطروحات أكاديمية فى الجامعات ، غير أن الفكرة الأساسية فى معظم هذه الدراسات ، وخاصة الأجنبية منها ، عملت على إثبات أن الإصلاح الزراعى لم يغير من الأمر شيئاً إن لم يتسبب فى تدهورالإنتاج الزراعى ، ومن هذه الأفكـار علـى سبيـــل المثال القول بأن قوانين الإصلاح الزراعى اعترفت بالعلاقات الإنتاجية السابقة ، وذلك لمجرد أنهــا استبقـت علاقــة الإيجار وأسلوب المزارعة / المشاركة . ومن ذلك أيضاً أن تفتيت المساحات الكبيرة إلى مساحات صغيرة بتوزيعها على صغار الفلاحين بواقع خمسة أفدنة فأقل ؛ أدى إلى عدم إمكانية استخدام الميكنة فى الزراعة ، وكأن كل أصحاب هذه المساحات الكبيرة كانوا يستخدمون الزراعة الآلية ، ولم ينتبه هؤلاء النقاد إلى أن كثيراً من كبار الملاك كانوا يؤجرون أراضيهم فى قطع صغيرة مختلفة المساحة لمستأجرين صغار .
ومن ذلك أيضاً القول بأن مفهوم أغنياء الريف لم يتغير مع الإصلاح الزراعى ، إذ ظل كبار الملاك تحت سقف الملكية الجديدة يسيطرون على الحياة فى الريف وتخضع لهم الجمعيات الزراعية . وينسى هؤلاء أن التأثير الاجتماعى للإجراء الاقتصادى لا يظهر بين يوم وليلة ، ذلك أن التغير الاجتماعى عملية بطيئة بل وممعنة فى البطء ، وليس من المتصور بحال من الأحوال أن يصدر قانون فى 1952 وتأتى نتيجته فى العام التالى أو حتى خلال عقد من الزمان ، فمثلاً قيام محمد على باشا بإلغاء الالتزام وإقامة قاعدة الاحتكار 1814 - 1816؛ لم تظهر إلا فى أواخر الثلاثينات ، وإسقاط الاحتكار فى عام 1840 لم تظهر نتائجه إلا فى عصر إسماعيل فى أواخر السبعينات … وهكذا . فإذا أخذنا فى الاعتبار أن قانون الإصلاح الزراعى الأول لم يكن محكماً ووافياً بالغرض ؛ بدليل صدور قوانين أخرى متتالية ومذكرات تفسيرية تعالج أوجه النقص والقصور؛ أدركنا أن النقد الموجه للإصلاح الزراعى فى مجمله أسقط من الاعتبار الظروف الموضوعية المحيطة .
ومن الملاحظ أن هذا المنهج فى النقد جاء من ثلاثة مصادر أساسية يختلف كل منها عن الآخر ؛
الأول : من المستشرقين الأجانب فى إطار التقليل من شأن الدور الاجتماعى لثورة يوليو ،
والثانى : من المدرسة الماركسية التى تتخذ من التغيير الأساسى لعلاقات الإنتاج معياراً للنظر، وهؤلاء غفلوا عن أن القانون صدر تحت اسم " الإصلاح الزراعى " ، وليس " الثورة الزراعية"، ومن تنظيم سياسى لا يملك نظرية اجتماعيـة ثوريـة ، ويعتمـد فـى إجــراءاتـه التشريعية والتنفيذية على نخبة سياسية تعلمت فى أحضان الليبرالية ، سواء فى جامعات مصر أو أوروبا ، ولا تعترف إلا بالاقتصاد الحر سبيلاً . والمصدر الثالث تشكل بعد رحيل عبد الناصر، ويتمثل فى المثقفين من أبناء كبار الملاك الذين خضعوا للإصلاح الزراعى ومن سايرهم من أبناء البورجوازية الصغيرة ، الذين وضعوا أقلامهم فى خدمة النظام القديم - فى ظاهرة من الانخلاع الطبقى تستحق التأمل والدراسة - فى حملة ضارية لشطب هذه الصفحة من تاريخ مصر لصالح السياسات الاقتصادية الجديدة منذ منتصف السبعينات .ورغم أن بعض وجهات نظر هؤلاء وأولئك من النقاد محل تقدير فى كل الأحوال ، إلا أن دراساتهم لم تهتم كثيراً بالتغير الذى لحق بالوضع الاجتماعى للفلاحين ، رغم بقاء العلاقات الإنتاجية القديمة ، ورغم تفتيت الحيازات الزراعية ، ولا يعنى هذا تجاهل بعض أوجه النقص والقصور التى صاحبت سياسات الإصلاح الزراعى ، ولكن ليس من ذلك المنظور، وإنما من حيث مرحلية الإصلاح الزراعى واستهدافه شرائح معينة ، وعدم شموليته لعمال الزراعة الذين يقوم عليهم العبء الأكبر فى أعمال الفلاحة .تجمع كل الدراسات التى تناولت المسألة الزراعية فى مصر قبل عام 1952 على حقيقة واحدة ؛ ألا وهى التركز الشديد فى الملكية الزراعية ، ففى عام 1952 عشية الإصلاح الزراعى كان المالكون لأكثر من 200 فدان أقل من 0.1% من إجمالى عدد ملاك الأراضى الزراعية ، ويملكون 30% من إجمالى مساحة الأرض الزراعية فى مصر ، على حين بلغت نسبة الذين يملكون أقل من خمسة أفدنة 94.3% بنسبة 35% من إجمالى المساحة . أما نسبة الـ 35% الباقية من مساحة الأرض الزراعية فتوزعت بين ملكيات أقل من 200 فدان إلى أكثر من خمسة أفدنة وتبلغ نسبتهم 5.6% .
أما نسبة الأسر المعدمة فى الريف فقد بلغت فى عام 1950- حسب مقارنة الإحصاءات المتوفرة - 44% من إجمالى الأسر الريفية وهى نسبة كانت فى ازدياد ، ففى عام 1929 كانت نسبتهم 24% ارتفعت فى عام 1939 إلى 38 % .وفى 9 سبتمبر 1952 صدر القانون الأول للإصلاح الزراعى الذى جعل الحد الأقصى للملكية الزراعية 200 فدان للفرد ومائة أخرى للأولاد، وتوزيع ما يزيد على هذا الحجم على صغار المستأجرين وصغار الملاك لأقل من خمسة أفدنة . وقد حددت المادة التاسعة من القانون شرائح الفلاحين الذين يستفيدون من الأرض الزائدة ، فكانت الأولوية عند التوزيع لمن يزرع الأرض فعلاً ، سواء بالإيجار أو بالمزارعة ، يليه من هو أكثر عائلة من أهل القرية ، ثم لمن هو أقل مالاً منهم ، ثم أخيراً لغير أهل القرية . ومن الواضح أن هذه المادة لم تضع فى الحسبان عمال الزراعة الذين لا يستأجرون أرضاً ، ويقتصر دورهم على العمل المأجور؛ مما أدى فى النهاية إلى زيادة عددهم تدريجياً ، وكان من المتصور أن يقل إذا ما امتدت مظلة الإصلاح لتشملهم . غير أن تحديد شرائح المستفيدين طبقاً للمادة التاسعة جاء فيما يبدو مراعـاة لتقاليـد الخبـرة الزراعيـة وللحيــاة فـى الريـف التى لا تسمـح بنـزول " غريب " فى الأرض ، فإذا كان هناك من يزرع فى الأرض الخاضعة بمقتضى الإيجار أو المزارعة فيكون من حقه أن يصبح مالكاً لها ، وهو أمر قريب من حق الشفعة للجار عند بيع الأرض . ومن ناحية أخرى فإن الذى يباشر الأرض فى الزراعة بنفسه يعد أكثر خبرة من عامل الزراعة ، الذى يؤدى عملية معينة يتركها إلى غيرها فى أرض أخرى وهكذا .
أما تحديد مساحة الأرض التى توزع على المنتفع وأسرته بحيث تصل إلى خمسة أفدنة ولا تقل عن فدانين ، فقد تم على أساس أن ما تحتاجه الأسرة الريفية المكونة من سبعة أفراد - متوسط الأسرة فى الريف عموماً - كحد أدنى لمواجهة متطلبات المعيشة 116جنيهاً فى العام بأسعار 1952 ، وأن إيراد خمسة أفدنة فى الظروف العادية آنذاك يبلغ 120جنيهاً سنوياً . وإذن فإن الأسرة العادية فى الريف - 7، 8 أفراد - تحتاج إلى خمسة أفدنة لتعيش على إيرادها .وهكذا وخلال الفترة من عام 1953 - 1970 التى طبقت فيها قوانين الإصلاح الزراعى تم توزيع حوالى 12.5% من الأراضى على حوالى 342 ألف أسرة ، تضم حوالى 1,7مليون فرد بنس بة 9% من سكان الريف . وهذه الأراضى خاصة بالعائلة المالكة وكبار الملاك فوق السقف المحدد ؛ مصريون، وأجانب ، وأراضى تتبع شركات وبنوك ، وأراضى طرح البحر. وهناك من يقلل من شأن هذا التوزيع بأسلوب غير مباشر على أساس أن 9% نسبة قليلة ، وأن نسبة من يملكون أقل من فدان نسبة كبيرة بلغت 70% وتمتلك فقط 14% من إجمالى الأرض ، لكن هؤلاء لا يفرقون بين فلسفة الإصلاح، وبين التغيير الجذرى ، ولا يرون فى الكوب إلا النصف الفارغ ، فهل كان من الأفضل بقاء الحال على ما كان عليه ؟! والثابت من كل هذا أن نصيب صغار الملاك من الأرض زاد بنسبة ملحوظة من 35% عشية الإصلاح الزراعى إلى 57.1% عام 1965 . كما زاد نصيب شريحة الملاك 20 – 50 فداناً خلال الفترة بتأثير قوانين الإصلاح الزراعى التى سمحت للملاك الكبار ببيع المساحات الزائدة عن السقف المحدد بدلاً من خضوعها للاستيلاء ، فأقبل على الشراء عناصر هذه الشريحة التى كان بإمكانها شراء مساحات إضافية بفضل ما توفر لديها من تراكمات مالية، حتى بلغت مساحة ما يملكونه 33% من الأرض فى عام 1965 .
أما شريحة من يملكون أكثر من خمسة أفدنة إلى أقل من 20 فداناً فقد ظلت ثابتة للسبب نفسه ؛ ذلك أن المطروح من الأرض للبيع كان فى مساحات أكبر من قدرتهم المالية ، فضلاً عن قاعدة " الجار أولى بالشفعة " التى لا تسمح للغريب بنزول الأرض ( تعرف فى الريف بركوب الأرض ) ، وهى تقاليد صارمة ما تزال قائمة ، وتحول دون حرية المالك فى بيع أرضه لغير مستأجرها حتى فى ظل قانون " تحرير " الإيجارات الجديد الذى صدر فى 1992 وطبق اعتباراً من أكتوبر 1997 .ورغم النقد الشديد الذى يوجه لمبدأ إعطاء المالك حرية التصرف فى الأرض الزائدة تفادياً لخضوعها للاستيلاء ، إلا أن جوهر قانون الإصلاح الزراعى فى هذا الشأن جاء متسقاً مع التكويـن الاجتماعـى للضـباط الأحـرار، مما جعلهم يأخذون بالإصلاح وليس بالطفرة ، الأمر الذى غاب عن النقاد ، فالضباط الأحرار لم يلجئوا للعنف ، وكان بإمكانهم - وقد امتلكوا السلطة - الاستيلاء على الأرض الزائدة عما تحدد ، أو على كل الأرض وإعادة توزيعها ، لكن العنف لم يكن طريقهم حتى ولـو اضطــروا إليه ، وكل القصد - كما صرح جمال عبد الناصر أكثر من مرة - أن الهدف تجريد كبار الملاك من سلاح قوتهم الاقتصادية والسياسية ، وإنهاء سيطرتهم على آلة الحكم والإدارة ، وليس تصفية وجودهم بشرياً . وهكذا تم التصرف فى الأرض الزائدة فى إطار آلية العرض والطلب .وكانت المادة الرابعة من القانون الأول - 178 لسنة 1952 - تسمح للملاك ببيع المساحة الزائدة عن الحد الأقصى فى قطع صغيرة لا تزيد كل منها على خمسة أفدنة ولا تقل عن فدانين ، تمشياً مع نص المادة التاسعة الخاصة بالتوزيع ، إلا أن رغبة الكبار فى الالتفاف حول القانون ، وتفريغه من مضمونه وقدرتهم على ذلك ؛ أدت بهم إلى إتمام بيوع صورية لصغار الفلاحين الذين تحت إمرتهم وسلطتهم . ومن هنا بادرت الحكومة بوقف العمل بهذه المادة اعتباراً من أكتوبر 1953 وأخضعت الأرض الزائدة للاستيلاء .
ومع ذلك ظلت فلسفة التصرف السلمى فى الأرض الزائدة هى الأساس ، ويبدو واضحاً أن الذين خضعوا للقانون الأول أدركوا أن سياسة الثورة فى عملية تجريد الكبار من مصادر قوتهم سوف تستمر ، فأقدموا بأنفسهم على التخلص من الأرض بالبيع وتحويل نشاطهم الاقتصادى للاستثمار فى إنشاء الشركات المحدودة ، الأمر الذى كان سبباً فى زيادة نسبة شريحة الملكية من 20 - 50 فدان . وفى هذا الخصوص يتعين الإشارة إلى أن عدداً غير قليل من الذين خضعوا للقانون الأول ( 200 فدان ) لم تظهر أسماؤهم فى القانون الثانى ( راجع كشوف الخاضعين للإصلاح الزراعى فى القوانين الثلاثة 178 لسنة 1952 ، 127 لسنة 1961 ، 50 لسنة 1969 ) . وبفعل سياسات الإصلاح الزراعى انخفضت نسبة الأسر المعدمة فى الريف من44% عام 1950 من إجمالى عدد أسر الريف، إلى30% عام 1961، إلى 28% عام 1965 . غير أنها ارتفعت فى مطلع السبعينات إلى 33% وتعود هذه الزيادة إلى توقف برامج الإصـلاح الزراعـى بعد رحيـل عبد الناصر ، بل أن القانون رقم 50 لسنة 1969 الخاص بتحديد سقف الملكية بما لا يزيد على خمسين فداناً لم يطبق فعلياً ، ذلك أن إعداد كشوف الخاضعين انتهى فى أوائل عام 1974 ، وكانت سياسات التراجع عن مبادئ الثورة بدأت تأخذ مجراها ، وسمحت الدولة برفع قضايا ضد الحراسة ... الخ .وكان لتحديد إيجار الأرض الزراعية بسبعة أمثال الضريبة فى قانون الإصلاح الزراعى ، وتحديد المزارعة / المشاركة بنصف المحصول تأثيره الكبير على الانتعاش الاقتصادى لصغار الفلاحين من المستأجرين ؛ إذ تمكنوا من الانتفاع الحقيقى بجزء من ناتج قوة عملهم ، كان يذهب إلى المالك، أصبحوا ينفقونه على احتياجاتهم الاجتماعية ، ففى 1952 عشية الإصلاح الزراعى بلغ إيجار الفدان فعلياً خمسة وعشرون جنيهاً فى الغالب الأعم، ووصل فى بعض الجهات إلى ستين جنيهاً .
وكانت وزارة الأوقاف تؤجر أراضيها فى الوجه البحرى بمتوسط ثلاثين جنيهاً لكبار الملاك الذين يؤجرونه بدورهم لصغار الفلاحين من الباطن، وتؤجره الوزارة لصغار الزراع بثمانية وثلاثين جنيهاً ونصف ، وفى الوجه القبلى يصل إيجار الوزارة إلى ستة وأربعين جنيهاً ؛ بسبب زيادة الطلب هناك على العرض . وفى الوقت نفسه كان الدخل الصافى للفدان يتأرجح حول عشرين جنيهاً ، أى أن المستأجر كان عليه أن يدفع خمسة جنيهات كحد أدنى عن كل فدان فوق الإيراد الفعلى للوفاء بالإيجار ( يخسرها فى الواقع) ، وبالتالى لا يتبقى له ما يصرفه على متطلباته الخاصة وعلى العمليات الزراعية نفسها ؛ مما أوقعه باستمرار فى دائرة الديـون المستديمة . فإذا عرفنا أن لجان ضرائب الأطيان قدرت إيجار الفدان فى عام 1948 بثمانية عشر جنيهاً، أدركنا مدى الخسارة الدائمة التى كان يتعرض لها الفلاح المستأجر.
وكان ارتفاع قيمة الإيجار على ذلك النحو سبباً وراء تفضيل الملاك تأجير أراضيهم ، بدلاً من زراعتها على الذمة للعائد المالى المضمون بشروط الإيجار التى يفرضها عقد الإيجار، ويحميها القانون بقاعدة " أن العقد شريعة المتعاقدين " ، وبصرف النظر عن الظروف البيئية والمناخية التى قد تؤدى إلى تلف المحصول ، ومن هنا بلغت نسبة الأراضى المؤجرة فى عام 1952 عشية الإصلاح 60.5% ، والأرض المزروعة على الذمة 39.5% .أما النوع الثانى من طرق استغلال الأرض فكان يتمثل فى المزارعة التى تعرف أيضاً بالمشاركة ، وهى علاقة قديمة وأكثر تخلفاً من علاقة الإيجار؛ لأنها متروكة للعرف حيث يكون الفلاح المستأجر هو الطرف الأضعف فى هذه العلاقة ، وبمقتضاها يقدم المستأجر قوة عمله مقابل رأس المال وتمويل العملية الزراعية من جانب المالك . وليست للمزارعة حدوداً معينة فى التعامل ، ففى زراعة القطن يحصل المالك على معظمه ، خاصة إذا كان سعر القنطار مرتفعاً، وفى القمح يحصل المالك على نصف المحصول ، ويترك الذرة والبرسيم للمستأجر. وكانت هذه العلاقة سبباً لمشكلات كثيرة بين الطرفين ، كانت مطروحة على الرأى العام دوماً فى صحافة الفترة .وعلى هذا فإن تحديد إيجار الفدان فى قانون الإصلاح بواحد وعشرين جنيهاً بواقع سبعة أمثال الضريبة - ضريبة الفدان آنذاك ثلاثة جنيهات - جاء لصالح صغار الفلاحين المستأجرين إلى حد ما ، إذ توفرت له أربعة جنيهات عن الفدان الواحد كحد أدنى فى حالة إذا كان الإيجار خمساً وعشرين جنيهاً، وحوالى أربعين جنيهاً كحد أقصى إذا كان الإيجار ستين جنيهاً ، وهو مبلغ ليس ضئيـلاً إذا أدركنا أن المستأجـر كان يـدفــع ضعفـه وفاءاً للإيجار العالى أو يصبح ديناً عليه للسنة التالية .ومما يؤكد أن تحديد علاقة الإيجار جاءت فى صالح المستأجر، بدرجة أو بأخرى ؛ أن الملاك لجئوا إلى زراعة الأرض على الذمة بدلاً من تأجيرها معتمدين فى زراعتها على العمل المأجور ، فزادت نسبة الأراضى المزروعة على الذمة من 39.5% عام 1952 إلى 49% عام 1962 .كذلك ضمن القانون للمستأجر عدم الطرد من الأرض والبقاء فيها طالما أنه يدفع الإيجار ، وضمن له أيضاً مدة إيجار لا تقل عن ثلاث سنوات كحد أدنى تمشياً مع الدورة الزراعية ، حيث يستطيع أن يعوض خسارته فى محصول بمكسب من محصول آخر حسب مقتضى الحال . وكان الطرد وسيلة يلجأ إليها المالك من قبل ، إما بدافع الانتقام والتنكيل بالفلاح ، وإما طمعاً فى إيجار أعلى بالاتفاق مع آخرين .
والحق أن النص على عدم طرد المستأجرين من الأرض أدى إلى استقرار الفلاح فضلاً عن شعـوره بالأمان . وقــد تزامـن معه قراراً آخر بمنع الفصل التعسفى للعمال من المصانع ، فكان ذلك بداية سياسة حماية الطبقة العاملة بجناحيها الزراعى والصناعى .كذلك حدد القانون أسلوب المزارعة / المشاركة، فتقرر أن يقدم المالك رأس المال الثابت (الأرض والمبانى) ، ونصف ثمن البذور ، والمخصبات الكيماوية ، ومصاريف الرى ، ومقاومة الآفات ، وتكاليف الحصاد ، وضريبة الأرض ، ويقدم المشارك قوة عمله ونصف تكاليف الزراعة ، فضلاً عن صيانة قنوات الرى والمصارف ، ويقتسم الطرفان المحصول مناصفة .على أن قانون الإصلاح الزراعى لم يترك الفلاح الجديد تحت سيطرة المالك القديم الكبير فى إدارة أحوال الزراعة ، وفى هذا الخصوص بدأت تجربة جديدة بإنشاء جمعيات تعاونية زراعية فى ما عرف بقرى الإصلاح الزراعى ، وتضم هذه الجمعيات المنتفعين بالإصلاح ، وتحددت مهمتها فى تقديم الخدمات ومستلزمات الزراعة ، فضلاً عن تسويق الحاصلات الرئيسية . وفى عام 1952 تكونت 1727 جمعية تضم 0.5% من المليون أخذت فى الازدياد حتى بلغت 5013 جمعية فى عام 1970 تضم 3.1 مليون عضواً .
وهذا التسويق التعاونى الإجبارى لم يؤثر على دخل الفلاح المزارع ، وكل ما هنالك أن الدولة حلت محل الوسطاء السابقين فى التمويل ، وأوقفت تلاعبهم بسوق البيع والشراء من حيث رفع الأسعار أو خفضها ، رغم ما شاب هذه العملية من تجاوزات بفعل خربى الذمة من موظفى الجمعيات ؛ أساءت إلى القانون فى نهاية الأمر .وحتى لا يسيطر كبار الملاك الخاضعين للإصلاح الزراعى - أغنياء الفلاحين فى بعض الأدبيات - على مجالس إدارة تلك الجمعيات ؛ تقرر فى 1961 ثم فى 1963 أن يكون أربعة أخماس أعضاء مجلس الإدارة ممن يملكون خمسة أفدنة فأقل ( صغار الفلاحين ) . غير أن القوانين الجديدة لم تنه التقاليد الاجتماعية القديمة فى يوم وليلة ، وهى تقاليد جعلت من الأغنياء والكبار قوة مهيمنة على مقدرات الريف . ومن هنا فقد سيطر أغنياء الفلاحين على توجيه سياسات الجمعية بالتنسيق مع المشرف الزراعى فى القرية ، ثم نجح هؤلاء فى عام 1969 فى أن يرفعوا حد الملكية الصغيرة المؤهلة لعضوية الجمعية إلى عشرة أفدنة بدلاً من خمسة ، فانتقلت أغلبية إدارة الجمعية إلى شرائح من الملاك أقرب إلى أغنياء الفلاحين منهم إلى صغارهم ، وأصبح فى قبضتهم الاتحاد العام للجمعيات الزراعية ، الذى تشكل فى العام نفسه ليكون بمثابة السلطة العليا للجمعيات .وعلى هذا لم يتمكن صغار الفلاحين من أن تكون لهم كلمة مؤثرة فى مجريات الشئون الزراعية من خلال مجلس إدارة الجمعية ، ذلك أن أغنياء الفلاحين سيطروا على جميع الوحدات الإنتاجية والإدارية فى القرية ، ليس فقط فى الصورة القديمة التقليدية فى وظيفة العمدة وشيخ البلد، بل فى السيطرة أيضاً على مجلس القرية ، وعلى الوحدات الأساسية للتنظيمات السياسية فى القرية من الاتحاد القومى إلى الاتحاد الاشتراكى ؛ إذ بلغت نسبتهم فى تلك التنظيمات 70% ، وقد تمكنوا من تحقيق هذه السيطرة عندما نجحوا فى تمييع مصطلح " الفلاح " عند وضع ميثاق العمل الوطنى فى 1962، إذ اعتبر الفلاح من يملك خمسة وعشرين فداناً فأقل ، مما جعل عضوية الهيئات التشريعية والسياسية تقتصر على هؤلاء الأغنياء ، فاستبعد صغار الملاك الذين هم أصحاب المصلحة الحقيقية الذين قصدهم الإصلاح الزراعى ، وكأن الذى يملك أكثر يعلم أكثر ، وهو أمر ضد طبيعة الأمور .
وقد استطاع هؤلاء الأغنياء أن يحولوا كل إجراءات الإصلاح الزراعى لمنفعتهم الخاصة بدلاً من أن تكون لمنفعة صغار الفلاحين كما استهدف القانون ، فإن الاشتراك فى مشروع الحكومة للتأمين على الماشية اشترط أن يمتلك الفلاح خمسة رؤوس ماشية على الأقل ، حتى يكون من حقه الحصول على 250 كيلو جراماً من الكسب بأسعار مدعمة ، وإذا أراد الحصول على التقاوى المنتقاة فيتعين أن يكون مالكاً لأكثر من خمسة عشر فداناً . وكان هذا معناه أن الفلاح الصغير إذا أراد الحصول على تقاوى منتقاة فعليه أن يشتريها من المالك الأكبر حجماً بأسعار السوق السوداء ، وكذلك الحال إذا ما احتاج إلى كمية إضافية من الكسب علفاً لماشيته ، وهكذا تكرر بشكل آخر أسلوب التسليف الزراعى الذى كان قائماً عند تأسيس بنك التسليف الزراعى 1931، حين لم تكن القروض قصيرة الأجل تقدم لصغار الحائزين ومتوسطيهم لخدمة المحصول إلا بعد موافقة مالك الأرض أصلاً ، وفى الوقت نفسه تقدم مثل هذه القروض لكبار الملاك وتجار الصادرات ، ومن هنا كان اضطرار صغار الملاك والمستأجرين إلى الاقتراض من المرابين بفوائد عالية.أما عمال الزراعة - الأجرية - الذين لم يشملهم توزيع الأرض تطبيقاً للمادة التاسعة من القانون - كما سبقت الإشارة - فقد اهتم القانون بهم عندما اشترط فى عام 1952 أن يكون الحد الأدنى لأجر العامل الزراعى فى اليوم 18 قرشاً . ومع ذلك لم تستطع الحكومة ضبط هذا الأجر بسبب قانون العرض والطلب ، فقد ظل الأجر خلال الخمسينات فى حدود 11 قرشاً يومياً ، أصبح 12 قرشاً فى 1961، وفى منتصف الستينات بلغ 18 قرشاً كالقانون ، وربما يرجع هذا إلى استيعاب مشروع السد العالى للعمالة الريفية ، وكذا مشروعات استصلاح الأراضى ، ومن ثم قلة العمالة المعروضة عن الطلب .
والشريحة الأسوأ حالاً من عمال الزراعة فهى شريحة عمال التراحيل - الأنفار- الذين وقعوا فى قبضة المقاولين ، ونفر الترحيلة عادة يعمل حوالى سبعة شهور فى السنة فى المتوسط على مدتين ؛ واحدة مدتها ثلاثة شهور، والثانية أربعة شهور وباقى السنة فى بطالة ، وبهذا الوضع تعرض أنفار التراحيل لابتزاز المقاول بمختلف الصور ؛ فالمقاول يورد ثمانية عمال لعملية تحتاج إلى عشرة عمال ويأخذ لنفسه أجر نفرين ، ولا يستطيع " النفر" من هؤلاء الفكاك من سيطرة المقاول الذى ربطه بعلاقات فيها من مظاهر العبودية الكثير، وذلك من خلال الديون المستديمة، أو الدفع المقدم خلال موسم البطالة ( خمسة شهور فى السنة) وإعانته فى بعض المناسبات الاجتماعية مثل الزواج والولادة ، وهؤلاء المقاولون عادة من أغنياء الريف من تجار المواشى والمحاصيل الزراعية والمواد الغذائية ، فضلاً عن ملكياتهم الواسعة .وفى عام 1960 اهتمت الحكومة بأحوال هؤلاء الأنفار فتدخلت لمنع تشغيلهم بواسطة المقاولين ، وكونت لجاناً حكومية عام 1962 تقوم بمهمة التشغيل ، غير أن هذه اللجان لم تستطع إلغاء دور المقاولين نظراً لطبيعة علاقات التبعية التى نسجوها حول الأنفار ، كما سبقت الإشارة ، الأمر الذى جعـل جمـال عبد الناصـر يقـول فـى خطابه يوم26 مارس 1964:
"أن أمامنا مشكلة ثلاثة ملايين من العمال الزراعيين فى الريف ليس هناك ضمان للأجر المنتظم المستقر يحمى يومهم ، وليس هناك قدر من التأمين الاجتماعى يحمى مستقبلهم ، ولا تصل حتى الآن إليهم إلا أقل الخدمات " . وأكثر من هذا فإن لجان نقابات عمال الزراعة التى كونتها وزارة العمل - 4200 لجنة نقابية - خضعت لمقاولى الأنفار ولم تضم إلا 150 ألف عامل زراعة من أصل ثلاثة ملايين . وقد نبهت حوادث كمشيش فى 1965 إلى سيطرة هؤلاء المقاولين والملاك الكبار على نقابات عمال الزراعة ، ومن ثم بدأ تطهيرها من تلك السيطرة ، وقد قدرت النقابة العامة لعمال الزراعة والتراحيل عـدد اللجان التى جرى فيها التطهير بـ 400 لجنة كان يقودها مقاولو الأنفار .وقد ترافق مع قانون الإصلاح الزراعى الذى عُنى بتغيير قاعدة الملكية الزراعية ، وعلاقات الإنتاج العمل على تنمية الريف تنمية شاملة اجتماعياً واقتصادياً حتى لا يكون منتجاً فقط للمادة الخام ، وقد جاء ذلك مع التحولات الاقتصادية الكبرى فى مطلع الستينات ، وصدور قانون الحكم المحلى فى 1960، الذى نص على نشر الصناعات الريفية ، واستغلال الخامات المتوفرة فى القرى ، وإجراء الدراسات التى تتطلبها تلك الصناعات . وفى هذا الشأن قام المجلس الدائم للتنمية الاقتصادية بدور واضح فى مواجهة العمالة المعطلة فى الريف ، وذلك عن طريق رفع المستوى التعليمى . وفى عام 1954 بدأ تنفيذ إنشاء الوحدات المجمعة ؛ كل وحدة منها تخدم خمسة عشر ألف نسمة ، واتبعت وزارة الشئون الاجتماعية نظاماً لا مركزياً لتأدية الخدمات على المستوى المحلى . ومع الانتهاء من بناء السد العالى فى 1965 بدأت مشروعات استصلاح الأراضى وشعر الفلاح بشكل عام بالاستقرار لأن السد قضى على إمكانية تهديد المحصول الزراعى بالبوار، سواء فى حالة الفيضان العالى أو فى حالة انخفاضه ، ففى عام 1972 جاء الفيضان منخفضاً ، ولو لم يكن السد قائماً لخسرت الزراعة المصرية ثلث محصول القطن والأرز .كما أُنشئت مؤسسة التعاون الإنتاجى ، والصناعات الصغيرة لرعاية الصناعات الريفية فى ظل النظام التعاونى ، وقامت تلك المؤسسات بتكوين جمعيات تعاونية إنتاجية لبعض الصناعات الريفية مثل منتجات الألبان، وصناعة الأسبتة والسلال ، والعطور ، والمربات ، والعصير . وبلغ عدد هـذه الوحدات 108 عام 1969 يعمل فيها 1700 فرد .
كما اهتمت وزارة الشئون الاجتماعية بتكوين مراكز تدريب لصناعات السجاد ، والنسيج ، والتفصيل، والحصير ، والفخار ، والنجارة ، وبلغت هذه المراكز 1436 مركزاً فى عام 1969 . كما اهتمت وزارة الزراعة بإنشاء معامل للصناعات الزراعية مثل صناعات الكليم والسجاد ، وكذا صناعات الألبان والمناحل . ثم بدأ فى 1965 التخطيط لكهربة الريف مع انتهاء السد العالى على أساس إنارة مائتى قرية كل عام . غير أن هذا المشروع تعثر بسبب عدوان يونيه 1967 ، وفيما بعد تم الاتفاق فى 1971 مع السوفييت للمتابعة . وفى عام 1967 دخل التليفزيون أكثر من ألف قرية ، كما اهتمت الدولة بتوسيع فكرة النوادى الريفية وكان عددها فى 1949 قد بلغ ثلاثة عشر نادياً ، وصلت إلى 450 نادياً فى عام 1969 ، وتم إنشاء اتحاد عام للأندية الريفية فى 1953 تابعاً لوزارة الشباب .والحقيقة أنه خلال ثمانية عشر عاماً ( 1952 – 1970 ) ، وبفعل الإصلاح الزراعى تغيرت أحوال الزراعة المصرية ، وانقلبت الأوضاع الاقتصادية / الاجتماعية فى الريف ؛ فقد زادت مساحة الأراضى المنزرعة حوالى مليونى فدان نتيجة عمليات الاستصلاح وخاصة بعد إقامة السد العالى . كما أدى وجود الجمعيات التعاونية الزراعية إلى إتاحة فرصة أوسع لصغار الفلاحين ومتوسطى الملاك للإفادة من الخدمات التعاونية بشكل أكبر، وخاصة فى مجال تسويق الحاصلات الزراعية بصرف النظر عن تصرفات خربى الذمة من الموظفين ، وضعفهم أمام الملاك الكبار ، مما أساء إلى القانون وأظهر الدولة بمظهر العاجز أمام المراقبين ، كما حدث تغير ملحوظ فى خريطة المحاصيل الزراعية فزادت باستمرار مساحة المحاصيل النقدية والتجارية مثل الخضروات ، والفواكه ، والأعشاب ، والزهور وغيرها، وتراجعت المحاصيل التقليدية.كما أدى تحديد الإيجار بسبعة أمثال الضريبة ، وتحديد المزارعة / المشاركة بالنصف إلى تخفيف درجة استغلال الملاك لصغار الفلاحين والمستأجرين ، وانتعشت هذه الشريحة (خمسة فدادين فأقل ) ، وأصبحت أكثر قدرة ووعياً بمصالحها حتى لقد أخذت تطالب بإلغاء أسلوب المزارعة وتوسيع الخدمات التعاونية ، ووضع حد لسيطرة الأغنياء على مقدرات الحياة فى القرية، وتحمست لفكــرة الملكيـة التعاونيــة كوسيلـة لتنظيـم الإنتاج وزيادة استخدام الآلات ، فى الوقت الذى كان كبار الملاك يحاربون فكرة التسويق التعاونى ويعملون على إفشالها .
وامتدت الخدمات التثقيفية إليهم حيث تأسست مراكز الثقافة العمالية ابتداءً من عام 1961 فى المراكز الريفية ( البنادر ) ، وتم تنظيم دورات تثقيفية للفلاحين والعمال فى تاريخ مصر، ونضال الطبقة العاملة ضد الرأسمالية والاستغلال والاستعمار . وكان لهذا كله أثره فى تنمية الوعى بالمصالح ، مما ظهر جلياً فى الحركة السياسية الشعبية منذ السبعينات .كما انتعشت الشرائح الأعلى من صغار الملاك فئة 5 - 20 فداناً وتمتعت بوضع معيشى أفضل ، حيث ساعدتهم المساحة الواسعة نسبياً على زراعة محاصيل السوق الأكثر ربحاً، ومن ثم تمتعوا بفائض ساعدهم على الوفاء بحاجاتهم الترفيهية .
أما الشريحة الأعلى ، فئة 20 – 50 فداناً فأكثر، وهى التى تكونت فى الأساس من الخاضعين للإصلاح الزراعى ومن لحق بهم ممن اشتروا من تصرفات الخاضعين اقتحمت مجالات الأنشطة الرأسمالية النوعية مثل ؛ إقامة مرابى الماشية ، ومعامل منتجات الألبان ، ومزارع الشتلات ، ومعامل التفريخ البلدى والصناعى ، وعصارات القصب لإنتاج العسل ، كما أصبح بإمكانهم استخدام الآلات على نطاق واسع مثل الجرارات وآلات الرى وكانوا يقومون بتأجيرها لصغار الفلاحين . كما هيمن كثير من أفراد هذه الشريحة على العمل السياسى ، واجتهدوا كثيراً للحيلولة دون مشاركة الفلاحين فى الإفادة بالثمرات الحقيقية المستهدفة للإصلاح الزراعى . وكانت هذه الشريحة موضع نقد الأعمال الروائية التى تناولت حياة صغار الفلاحين وأنفار التراحيل والأجرية ، مثل قصة " الحرام" ليوسف إدريس ، و " الأرض " لعبد الرحمن الشرقاوى .ورغم هذه التحولات الظاهرة فى المجتمع الريفى بفعل الإصلاح الزراعى التى أقالت صغار الفلاحين من عثرتهم التاريخية فى المقام الأول ، وجعلت لهم كياناً ملحوظاً ، إلا أن كثيراً من الكتابات لم تلتفت كثيراً إلى هذه الظاهرة ، وبعض من التفت إليها كان بغرض إثبات أن صغار الفلاحين وقعوا فى قبضة كبار الملاك ولم يستفيدوا شيئاً ، وأن الإصلاح الزراعى كان حبراً على ورق ذهب سـدى ، وقـد انشغـل هــؤلاء بتقييـم الإصـلاح الزراعـى علـى مستوى نظريات التحول الاجتماعى ، فقال البعض أنه أكثر ميلاً إلى النموذج الليبرالى وتم فى نطاق الملكية الرأسمالية لأنه اعترف بالعلاقـات الإنتاجية فى الزراعة مع تعديل بعضها لصالح المستأجر ، وذهب البعض إلى أن الإصلاح الزراعى أكثر ابتعاداً عن النموذج الاشتراكى ؛ لأن توزيع أراض على صغار الفلاحين ليس هدفاً تسعى إليه الاشتراكية بقدر ما هو وسيلة لتحقيق تمليك جماعى للمنتجين الزراعيين .
وهناك من يقول أن الإصلاح الزراعى جاء بتشجيع أمريكى ، مثلما حدث فى اليابان بعد الحرب العالمية الثانية ، استهدف توسيع قاعدة الملاك الذين يصبحون أكثر تمسكاً بما فى يدهم مما يحول دون قيام ثورة شيوعية ، وأن تجربة عبد الناصر فى إدارة الشئون الزراعية لم تكن جديدة ، وكل ما حدث أن الحكومة حلت محل الباشوات القدامى ، وأن التعاونيات ما هى إلا العزب القديمة .والسؤال الأخير : إذا كان جمال عبد الناصر لم يفعل شيئاً لصغار الفلاحين على نحو ما تشى به تلك الكتابات ؛ فلماذا الهجوم الدائـم عليه ؟! هل لأنه لم يفعل شيئاً وكان المطلوب أن يفعل ؟ ! أم لأنه فعل شيئاً لم يكن مطلوباً وجعل هؤلاء وأولئك غير راضين ؟ !

ليست هناك تعليقات: