الاثنين، 14 أبريل 2008

عبقري ثورة البرمجيات (3)

عرضنا في الحلقتين السابقتين لنشأة بيل جيتس، ومرحلة تألق مايكروسوفت، والتحديات التي واجهتها بسبب القصور الإدراكي الذي طبع نظرة جيتس لأهمية تكنولوجيا الإنترنت، وإلى المشاكل والصعاب التي أسفر عنها هذا القصور بالنسبة للشركة ورئيسها· وتناولنا بشيء من التفصيل ما خلص إليه مؤلف الكتاب روبرت هيلير من أفكار نقدية حول جيتس الأسطورة عندما وضع كلاً من إنجازاته وأقواله وتنبؤاته موضع الدرس والتحليل النقدي ليخلص منها لنتيجة أساسية مفادها أن جيتس جمع في ذلك طرفي النقيض· فإذا كان قد سجّل إخفاقاً عجيباً في أواسط عقد التسعينيات في التوصّل إلى حكم صحيح وتقييم صائب للأهمية التي تنطوي عليها الإنترنت، فلقد نجح في مقابل ذلك بالتبشير بحلول عصر جديد قوامه النظام العصبي الرقمي digital nervous system الذي سيكون بلاشك عنواناً لثورة اجتماعية شاملة بدأت بوادرها الأولى تتجسّد في الأساليب الرقمية المتكاملة لطرق أداء الشركات والمؤسسات الصناعية والاجتماعية بدون استثناء·
ويستأثر بيل جيتس وحده بفضل إرساء الأسس النظرية والعملية للنظام العصبي الرقمي· فهو الذي وضع هذا المصطلح أصلاً، وهو الذي يسعى الآن إلى نقله إلى حيّز التطبيق العملي من خلال البحوث الجادة والاستثمارات الهائلة التي وظّفتها مايكروسوفت في هذا الإطار· ويخصّ روبرت هيلير مفهوم النظام العصبي الرقمي عند جيتس بحيّز واسع من الاهتمام في كتابه هذا، وهو الذي سنتعرّض له في هذه الحلقة·
عندما يدقّق جيتس في التأثيرات الاجتماعية الهائلة لأسلوب ويب في الحياة والعمل، فإنه يخلص إلى النتيجة التي تفيد بأن الإنترنت سوف تنطوي على قدرة على تجميع الناس تفوق ماتنطوي عليه من قدرة على تفريقهم · وهو ينظر إلى غرضها الأساسي المتجسّد في تعزيز القدرة البشرية على الاتصال على أنه ينطوي على توسيع آفاق التواصل البشري وليس على تضييقه· وأصبحت المجتمعات الجديدة التي بدأ خدم الإنترنت ببنائها منذ مستهلّ تاريخ الإنترنت الذي لم يكمل حتى الآن عقده الأول، وهي التي تشغل نفسها الآن وبطريقة احتفالية بالاتصال ببعضها البعض، تمثّل النواة الأولى لتحقيق مشروع الوحدة الاجتماعية الكونيّة· ويعبّر جيتس عن هذه الأفكار التي تنضح بكمّ من التفاؤل لايضاهيه إلا مقدار الكمّ الذي يعوزها من قوّة الحجّة والبرهان، بقوله: إن الويب تهيء لك فرصة التمتّع بالاتصال والتواصل مع المجتمعات العالمية المنتشرة في طول الأرض وعرضها، كما تؤمن لك فرصة زيادة القدرة على الاتصال والتواصل مع أبناء مجتمعك ذاته ·
وسوف يتمكن الناس من ربح الكثير من الوقت الثمين بسبب هذه القدرة التفاعلية البشرية الهائلة التي تحققها الإنترنت· ويفضّل جيتس أن يعبّر عن اعتقاده من أن أسلوب ويب في الحياة لن يكون سبباً في تغيير طبائع البشر، أو المسّ بالأسس الجوهرية المتعلقة بأساليبهم في الحياة، بالرغم من أنه يفضّل أن لايكلّف نفسه وسع تقديم القرائن والحجج التي تؤيد هذه النتيجة· ويضاف إلى ذلك أن جيتس يبدو غامضاً من حيث مايريد الذهاب إليه من استخدام تعبير أسلوب ويب في الحياة ؛ فهو يقول مرات بأنه يعني تغييراً دراماتيكياً شاملاً في طرائق البشر في العيش والتواصل، ثم يقول في مرّات أخرى بأنه لن يغيّر من طبائعهم· فهل تراه يعني بذلك ضرورة التفريق والتمييز بين التغيّرات المنتظرة والمؤكدة في أساليب الحياة العادية للبشر، والتغيّرات غير المتوقعة في طباعهم؟· وحتى لو كان هذا ماأراده جيتس، فهل يختلف إثنان على أن العوامل التي تؤدي إلى تغيير أساليب البشر في الحياة لابد أن تؤدي بالضرورة إلى تغيير طباعهم؟· ولم ينسَ جيتس أن يضع المبررات التي استند إليها حين زعم بأن الإنترنت سوف تعزّز التواصل الاجتماعي البشري بدلاً من إشاعة عوامل الفرقة بين المجتمعات الكونية وحتى بين أفراد المجتمع الواحد· فهو يرى بأن الإنترنت وحّدت الاهتمامات والرؤى البشرية وجعلتها تتركّز في محور واحد هو الانصراف إلى الاستفادة من المعلومات وخدماتها·
ابتداع النظام العصبي الرقمي:
ويبدو أن جيتس يفضّل تخصيص اهتمام أكبر للتحوّلات التي ستطرأ على أساليب أداء الأعمال التجارية والإنتاجية، وهي القطاعات التي تتّصف التغيّرات التي تطرأ عليها بالبروز والوضوح· وتتضمّن فوائد التطبيقات الرقمية الأساسية للعمل والإنتاج في المستقبل العناصر التالية:
- استبدال الأعمال الورقية بالنصوص الرقمية·
- تعزيز القدرات الخاصة للموظفين الرقميّين عن طريق تمكين الفرق من تداول كتلة المعلومات المشتركة ذاتها·
- توفير المعلومات الآنيّة حول المبيعات والزبائن من أجل تعزيز القدرة على الاستجابة السريعة لحاجات الأسواق·
- تعزيز العلاقات مع شركاء العمل·
وجعل جيتس من مايكروسوفت ذاتها مختبراً ميدانياً لهذه التطبيقات الجديدة· وكان لايتوقف عن الحديث حول المستوى الجديد للذكاء الإلكتروني الآخذ في الانتشار في كافة أرجاء شركته مثلما تنتشر بقعة الحبر فوق الورق النشّاف· ويقول جيتس بأنه إذا كانت وظيفة النظام العصبي البيولوجي تتلخص في تعزيز قدرة الإنسان على التصرّف السريع حيال الأخطار التي يتعرّض لها والاستجابة لمتطلبات المؤثرات المحيطة به ويضمن له التفاعل معها، فإن النظام العصبي الرقمي هو النظير المكافىء له في مؤسسات العمل والإدارة والإنتاج· وهو يتألف من مجموعة عمليات رقمية تمكّن الشركة من إدراك بيئتها والتفاعل معها بطريقة آنيّة وفعّالة· ويعد النظام العصبي الرقمي طريقة لتحسّس مقوّمات التحدي التي يحتكم إليها المنافسون، وهو أيضاً أسلوب عملي لتحديد احتياجات المستهلكين وتنظيم الاستجابات الزمنية لهذه الاحتياجات·
وقبل أن يستشعر جيتس ضرورات التحوّل إلى الاهتمام بتكنولوجيا الإنترنت، كانت تغمره القناعة بأن المستقبل المشرق للبشرية يكمن في ربط الحواسيب الشخصية ضمن شبكات متصلة ومتكاملة في كافة المؤسسات الإنتاجية والإدارية والخدماتية· وهو يفضّل الآن أن يصف هذه التكنولوجيا بأنها مجرّد شبكة من الحواسيب التي تختلف أيّما اختلاف عن الجهاز العصبي الرقمي الذي يرمي إلى تحقيق وحدة العمل والاتصال والإنجاز بين التجهيزات الإلكترونية (الهاردوير) وبرمجياتها (السوفتوير) من أجل تأمين الدقّة المطلقة وآنيّة العمل بالمعلومات وتوفيرها بالشكل الذي يجعلها دائمة التدفّق ضمن منظومة العمل· وإذا أضيفت إلى هذا التسلسل والتنوّع التطوّري خاصّة العالمية التي تتميّز بها الإنترنت، والتي تُعدّ أيضاً جزءاً أساسياً من صلب الجهاز العصبي الرقمي، فسوف يكون في وسع أي إنسان أن يتخيّل النتائج ذات التأثير العالمي لهذه الثورة الجديدة·
تغيير أسلوب العمل :
ينبغي على كل شركة (أو أية مؤسسة كائناً ماكان نوع نشاطها) أن تدرك الآن، وقبل فوات الأوان، أنه يتعيّن عليها تبنّي النظام العصبي الرقمي حتى تتمكن من اللحاق بمجريات التغيرات الطارئة على الأسواق وحيث يزداد إلحاح المستهلكين للحصول على خدمات أسرع وعلاقات أقوى وخصوصيات أعمق· ويركّز روبرت هيلير في هذا الصدد على تأكيد بيل جيتس من أنه تبعاً لهذه الحقائق التي لايجوز لأحد أن يتغافل عنها إلا إذا كان غبياً أو مغفلاً، فإن تبنّي أسلوب ويب في العمل لم يعد اختياراً مطروحاً من النوع الذي يحتمل القبول أو الرفض من إدارات الشركات والمؤسسات، بل أصبح ضرورة ماسّة لايمكن لأي ظرف من الظروف أو أية حالة استثنائية أن تلغي الحاجة إليه· وهذا الاختيار بحدّ ذاته يمثل بالنسبة لكافة مضارب العمل الإنتاجي أو الخدماتي أو الإداري، مهما بلغ حجمها من التفاهة أو الضخامة، أسلوباً لمجاراة التغيّرات الهائلة التي بدأت الآن بإحداث آثارها الزلزالية على الطرائق التي تنظّم وفقها أعمالها وتديرها· وبالمقابل، فإن هذه التغيّرات الهائلة لايمكنها أن تقتحم منظومات العمل بمثل هذه القوّة والزخم دون أن تترتّب عليها نتائج اجتماعية- اقتصادية (سوسيو - إقتصادية) بالغة الأثر· وبالرغم من أهمية هذه الحقيقة بالنسبة لكل من يرغب في تصوّر الوجهة الحقيقية للتغيّرات الاجتماعية التي بدأت تدقّ أبواب المجتمعات العالمية دون استثناء، فإن إثباتها لايحتاج إلا لبعض القرائن الوصفية البسيطة وبعيداً عن استخدام أجهزة القياس الفيزيائية! طالما من البديهي أن الناس يعتمدون على العمل من أجل الإنتاج وتحسين مستويات المعيشة وتأسيس العلاقات الاجتماعيات وتبادل السلع والخدمات·
ولاشك أيضاً أن جيتس سجّل براعة مدهشة ودقّة لاتجارى في تصوير التغيّرات الإدارية الأساسية التي ستقود إليها التأثيرات الاقتصادية للإنترنت· وسوف تكون هذه التأثيرات هائلة وقادرة على الانتشار بعيداً جداً عن الشركات أو المؤسسات التي تبنّتها· وهو يشير في هذا الصدد إلى أن عدداً كبيراً من الشركات شرعت في رسم طريقها الجديد الواعد هذا عندما بدأت في تبنّي الخطوات الأوليّة التالية: التركيز على الأوراق التنافسية الرابحة وترك ماعداها لبقية المترددين على الأسواق·
تشجيع الحفنة الأساسية والمهمة من الموظفين، وتوظيف (أو دمج) آخرين حيث تقتضي الحاجة فقط·
التوسّع بالسرعة الممكنة أفقياً وعامودياً انطلاقاً من المؤسسة الصغيرة أو المتوسطة· الانفلات من أسوار الحدود الجغرافية بنقل العمل إلى المكان الذي يضمن له المناخ الأمثل والأداء الأفضل من النواحي الاقتصادية·
إعادة النظر في كافة طرق وأساليب التعامل مع الزبائن، وتحديث القدرة على مواجهة الأسواق المتغيّرة والمنافسين·
تكثيف الضغوط الهادفة إلى تقصير الدورة الإنتاجية والعمل على زيادة سرعة إنجاز كافة العمليات·
وسوف تظهر نتائج هذه التدابير الإجرائية الضرورية بسرعة فائقة من خلال الاستفادة القصوى من تشغيل الموظفين لفترات قصيرة في أعمال سريعة الإنجاز وذات إنتاجية عالية· وبالرغم من انتشار ظاهرة العمل في الدوام الجزئي بالنسبة للكوادر الفنّية المؤهلة، فإن جيتس يتنبأ بأن تعزّز هذه التغيرات الهائلة التي يتوقعها من هذه الظاهرة حتى نرى بعض المهندسين يعملون ساعة واحدة أو اثنتين لينتجوا خلال هذا الزمن القصير أكثر مماهو مطلوب منهم· ولابد أن يؤدي هذا التطوّر إلى انخفاض محسوس في أسعار المنتوجات والخدمات على النحو الذي يؤدي إلى تعزيز القدرة التنافسية للشركة في الأسواق·
ويتابع جيتس حديثه المتدفق حول الأساليب الثورية المنتظرة في إدارة الإنتاج والتي يبشّر بها حلول عصر النظام العصبي الرقمي، فيشير إلى أن معظم الوقت المصروف في إنتاج سلعة معيّنة يُهدَر في إجراءات التحضير والاستعداد لعملية الإنتاج ذاتها؛ إلا أن توفّر الأنظمة المعلوماتية يمكنه أن يوفّر هذا الوقت الثمين· ومن هذه الناحية بالذات، يمكن الحكم على الإنترنت والنظام العصبي الرقمي على أنهما يهيئان فرصة التوصّل إلى تحضير المنتوج لعملية الإنتاج وتوزيعه على المستهلكين بالسرعة التي تسوّغ الاعتقاد من أن هذه الطريقة سوف تؤدي إلى تحويل العمليات الإنتاجية برمّتها إلى عمليات خدماتية بحتة· ومعنى ذلك بطريقة أخرى، أن الإنترنت والنظام العصبي الرقمي سوف يهيئان الفرصة للشركات لعكس اهتماماتها بمقدار 180 درجة·· من تركيز الاهتمام على تحضير المنتوج، إلى تركيزه على تلبية حاجات المستهلك· وسوف تؤدي هذه الثورة الرقمية الواعدة إلى تعزيز قدرات المؤسسات والشركات على إنجاز بحوثها بشكل آني ولحظي، والاحتكام إلى قدرة فائقة على التحليل مبنية على أساس المعلومات الجديدة والمتجددة التي تتدفق عبر كافة أرجاء المؤسسة دون انقطاع، كما ستؤدي إلى تعميق أواصر الترابط والتواصل بين كافة الموظفين والعاملين في المؤسسة الواحدة بما يكفل التوصل إلى القرارات الصائبة لخدمة الزبائن خلال دقائق بدلاً من أشهر، وسوف تخلق القدرة الهائلة على وضع هذه القرارات موضع التنفيذ العملي بسرعة فائقة· وإذا ماقارنا هذه الميزات العظيمة التي ينطوي عليها النظام العصبي الرقمي في مجال تطوير القدرة الإنتاجية بما نراه قائماً حتى اليوم، فسوف نقف على الحقيقة التي تفيد بأن كافة المؤسسات الإنتاجية والإدارية والخدماتية لم تزل تعيش فترة ماقبل عصر النظام العصبي الرقمي·
مآخذ :
ويأخذ هيلير على جيتس أنه بحكم تأثره بالخصوصيات التي تطبع أسلوب عمل مايكروسوفت والتي تجسّد الحاجة إلى تطبيق عناصر الثورة الرقمية أكثر من سواها، لم يكلّف نفسه عناء البحث في النتائج السلبية الكامنة في هذه التوجهات، بما فيها الاستغناء عن نسبة كبيرة من العمالة نصف الكفؤة أو غير المدرّبة على استبدال جهازها العصبي الطبيعي بآخر رقمي! والتي ستكون بلاشك ضحيّة تدوسها أرجل أرباب العمل المندفعين بقوّة السيل العارم للاستفادة من ميزات العصر الذي بشّر بحلوله جيتس· فهل هناك ثمّة من سبيل آخر يسلكه أولئك الذين فصّل جيتس نظامه العصبي الرقمي على مقاسهم؟·
ويصرخ جيتس أيضاً بملء فمه وبكل ماأوتي من قوّة وهو يتحدّث عن شروط نجاح هذا النوع من الإصلاح الإداري الشامل فينبّه إلى أن تحميل الموظفين بالمسؤوليات والسلطات الإدارية من دون تسليحهم بالمعلومات الكافية، هو عبث مطلق، لأنهم سرعان ماسيجدون أنفسهم في حالة دوران ضمن حلقة مفرغة· ويضاف إلى ذلك أن منظومة العمل بحدّ ذاتها لابدّ أن تخسر الكثير من الميزات إذا تأخرت عن ربط عملها بالإنترنت والنظام العصبي الرقمي· وفي هذا الأسلوب الجديد للعمل، يجب أن تتدفق المعلومات المتعلقة بأنظمة الإنتاج، ومشاكل المنتوجات، والفرص التي يمكن تقديمها للزبائن من أجل كسبهم والاستئثار بهم، وتراجع المبيعات، وماشابه ذلك من أخبار مهمة تتعلّق بتسيير العمل وتوزيع المنتوج، خلال دقائق وليس خلال أيام أو أسابيع· ويصف جيتس هذه الثورة التي ستطرأ على صلب التركيبة الهيكلية لكافة المؤسسات والشركات بأنها تنطوي على أهمية لانظير لها، ولابد لأية مؤسسة تبتغي النجاح والبقاء في الأسواق من تبنيها· ويقول هيلير في تعليقه على ذلك بأنه إذا كان مايقوله جيتس صحيحاً فإنه بالتأكيد يتناقض مع ماطرحه بعد ذلك حين قال حرفياً: ويمكن لأية شركة أن تقرر ما إذا كانت ستختار طريق الريادة والتفوّق في استيعاب وتبنّي التكنولوجيات الرقمية أو أن تكون مجرّد مؤسسة تتبع غيرها في هذا المجال · فهل يُضاف هذا التناقض في الطرح إلى قائمة العثرات المنطقية التي وقع فيها جيتس؟!·

ليست هناك تعليقات: