الاثنين، 14 أبريل 2008

عبقري ثورة البرمجيات (4)

تناولنا في الحلقات الثلاث السابقة قصة نشأة بيل جيتس وصعود شركة مايكروسوفت والمشاكل التنافسية التي صادفتها في تكنولوجيا الإنترنت وانعكاسات هذه الأحداث على فلسفة جيتس المتعلّقة بالتوجهات الاجتماعية والاقتصادية التي تنتظر العالم بسبب ثورة المعلومات· وعرضنا في الحلقة الثانية بشيء من التفصيل لمصطلحين وضعهما جيتس في هذا الصدد هما أسلوب ويب في العمل و أسلوب ويب في الحياة تنبأ من خلالهما بالتغيّرات الحاسمة التي ستطبع المجتمعات العالمية بتأثير الإنترنت وثورة المعلومات· وناقشنا المعالجات النقدية التي تصدّى بها روبرت هيلير لبعض طروحات جيتس التي كانت تتنافى مع واقع الأحوال أحياناً أو يتناقض بعضها مع البعض الآخر في أحيان أخرى·
وكان من الضروري التركيز أيضاً على مناقشة مشروع النظام العصبي الرقمي الذي يعود لجيتس الفضل في وضع أسسه والتبشير بعصره المقبل الذي سيغيّر أساليب العمل والإدارة والإنتاج بشكل جذري، وحيث أشار جيتس إلى أن هذا العصر الذي أصبح الآن على الأبواب سوف يشهد انقلاباً كاملاً في أساليب إدارة الأعمال والخدمات من خلال الاستفادة من التدفّق الدائم للمعلومات في كافة أرجاء المؤسسات بما يحقق لها قدرة استثنائية على الوقوف على مشاكل الإنتاج والضرورات التي يقتضيها تحقيق رغبات الزبائن وربح معركة المنافسة في الأسواق· ونعرض في هذه الحلقة لحديث هيلير حول طروحات جيتس المتعلقة بكيفية بناء الشركة الرقمية التي تنسجم مع عصر النظام العصبي الرقمي، وحيث يناقش أيضاً مشروع جيتس الأكثر طموحاً لتأسيس يوتوبيا إدارية جديدة يمكن أن تمثّل جمهورية المعلومات الفاضلة·
تعدّ مايكروسوفت مثالاً نموذجياً عن المنظومة التعليمية Knowledge organisation، (أي التي يتعلّم منها الآخرون الدروس)، بالرغم من أن بيل جيتس لم يستخدم هذا التعبير على وجه الدقة ربما نظراً للغموض الذي ينطوي عليه· وجيتس ذاته، الذي يعدّ رجل أعمال من أصحاب الأنوف القاسية غير القابلة للجدع!، لم يألف الالتفات على الإطلاق لأي موضوع أو مصطلح أو فكرة لاتقود إلى نتائج واضحة وحاسمة· ويرى هيلير أن الشرط الأساسي لبناء المنظومة التعليمية هو تأسيس شركة المعرفة knowledge company· وحتى في الطبعة الثانية من كتابه آفاق الطريق التي صدرت عام 1996 لم يقدّم جيتس إلا مجرّد إشارة خاطفة لهذا المفهوم· ولكن أسلوبه هذا في التفكير شهد تغيّراً مهماً منذ ذلك الوقت، وخاصة في عام 1999 وحيث احتلّت ظاهرة شركة المعرفة حيزاً كبيراً من اهتماماته وأصبحت تمثّل محور تفكيره في كتابه العمل وسرعة التفكير في عصر النظام العصبي الرقمي ·
ولقد أدرجت أسس شركة المعرفة في خمسة مبادىء تعليمية عرّفها بيتر سينج الأستاذ في معهد ماساشوسيتس التكنولوجي ومؤلف كتاب المذهب الخامس fifth discipline الذي صدر عام ·1990 ولقد وصفت هذه المبادىء الخمسة كأساس لـ عمل المنظومة التعليمية وهي:
- تشجيع التفوّق الفردي : ويقصد به أن نتوقع من الموظفين أن يكونوا قادرين على تطوير قدراتهم الشخصية بشكل مستمر بما يضمن لهم بلوغ أهدافهم الخاصة في العمل وتحقيق أهداف الشركة من خلالها وحيث تعود الشركة بدورها لتكافىء هذا المجهود الفردي·
- ترقية النماذج الذهنية : وتعني تطوير مجموعة أدمغة الموظفين الأكفاء الموجودين في الشركة حتى يتمكنوا من التكفّل بالنشاطات واتخاذ القرارات الصائبة·
- التعاون لتحقيق الأهداف المشتركة: وينطوي على التأكد من التزام كافة موظفي المؤسسة بالعمل على تحقيق أهدافها والتقيّد بالاستراتيجيات العامة التي تتبعها لبلوغ هذه الأهداف·
- تشجيع العمل بأسلوب الفريق: ويستند على الحقيقة التي تفيد بأن محصّلة التفكير الجماعي أكبر من مجموع قيم التفكير المنفرد لكل موظّف·
- تشجيع التفكير بأسلوب نظام العمل: ويعني ممارسة العمل استناداً على المفهوم الذي يشير إلى أن النشاطات والقرارات لايمكنها أن تكون منعزلة عن بعضها البعض·
حاصل الذكاء :
ويفضّل بيل جيتس أن يحصر هذه المبادىء الخمسة ضمن ماأطلق عليه مصطلح العقلانية العملية ، ويضرب لها هيلير مثلاً؛ فصناعة البرمجيات، تتطلّب ذكاءً خارقاً لكتابة عناصر البرنامج التطبيقي، إلا أن هذا البرنامج يكون عديم الفائدة مالم يكن صالحاً للتطبيق العملي· ولم يكن للتكنولوجيين من ذوي العقول الضيّقة أن يحتلّوا أي مكان من مساحة الطموحات العريضة لبيل جيتس· واشتهر جيتس أيضاً باستخدام مصطلح حجم الذكاء للتفريق بين المستويات المختلفة للذكاء عند الناس· وهو يعتقد بأنه كلما زاد حجم الذكاء عند البشر الذين يستخدمهم في مايكروسوفت، كلما زادت قوّة الشركة· ويبدو جيتس أيضاً شديد الاهتمام بمفهوم شركة المعرفة التي عرّفها بأنها متمرّسة على صيانة وتطوير مواردها الذهنية وإدماجها بطريقة ناجحة في صلب العملية التطوّرية من خلال تبنّي سياسات مدروسة في مجال التوظيف· وتكمن المادة الأوليّة لشركة المعرفة في قوّة الدماغ، بمعنى أنه يتعيّن على مديري المؤسسات توظيف أكثر الأدمغة انطواءً على الخبرة، وأن يخلقوا لها البيئة التي تحرّر قدرتها على الانطلاق من أجل تحقيق أفضل إنجاز· وينبغي عليهم أيضاً بناء الأنظمة التي تسمح في قولبة المعرفة المكتسبة ضمن أطر صالحة للاستثمار وإنجاز عمليات الإنتاج وبحيث تكون هذه المعرفة قابلة للإثراء والإغناء عن طريق التبادل والتناقل·
ويعتبر بيل جيتس شركته مايكروسوفت امتداداً تنظيمياً وعملياً للجامعة· فهو لايهتم بمستوى الذكاء وحده عند تعيين موظف جديد، بل تكون غايته اكتشاف من يتميّز بـ الذكاء الخارق · ولكن، ماذا يعني هذا المصطلح؟، وكيف نحدّد مفاهيمه الإدراكية الدقيقة؟· يسترشد هيلير للإجابة على هذا السؤال بما طرحه ستروس من خصائص يجب أن تتوفّر في الإنسان حتى يحمل صفة الذكاء الخارق وهي:
- القابلية لتشرّب المعارف الجديدة بسرعة فائقة·
- الاستعداد لطرح الأسئلة الحاسمة في اللحظة المناسبة·
- القابلية للربط بين مجالات المعرفة المختلفة·
- القدرة الشخصية على اكتشاف مجاهل وأسرار البرمجيات المتنوّعة·
- القدرة الخارقة على التفكير المنهجي أثناء السعي لحل المشكلة المطروحة حتى عندما يكون الإنسان بعيداً عن مكان العمل·
- القدرات الهائلة على التركيز·
ويشير هيلير إلى أن هذه الخصائص تمثّل في الحقيقة قراءة متأنية في شخصية بيل جيتس ذاته· ولهذا السبب فهو يتوقّع أن يلمسها في موظفيه دون استثناء· وهو يؤكد أنه ولد مثلما يولد الناس ولم يُصنع أو يُفَبْرَك !· ولهذا فإن نجاح الموظف في مايكروسوفت يعتمد على مستوى ذكائه أكثر مما يعتمد على خبراته· وتطرح هذه النظرية مشكلة عملية على جانب كبير من الأهمية· فبالرغم من فوز جيتس بأكبر الجوائز نظير ما أنجزه من طروحات وأفكار تتعلّق بتنظيم الإدارة والعمل وفقاً لآخر معطيات عصر المعلومات، فإن تاريخ شركة مايكروسوفت يعجّ بأخبار الفشل الذريع، كالبيات المفاجىء الذي كان يعاني منه برنامج إم إس - دوس ، والمشاكل التطبيقية التي كانت تعاني منها النسخ الأولى من برنامج ويندوز ، والفشل الكبير الذي سجّله برنامج ويندوز إن تي · وفي هذه الحالات كلها، كان الدماغ المرن لرجل الأعمال بيل جيتس محشوّاً إلى حدّ التخمة بالذكاء الخارق الذي يصلح في كل مرة لتخطّي مثل هذه الأزمات· وكان يعلم بأن مايكروسوفت ليست جامعة، بل هي ورشة للعمل التجاري تصعب إدارتها· وكثيراً ماكانت الحسابات النظرية لعوائد الشركة تصطدم بواقع المعطيات العملية للأسواق· وكانت مايكروسوفت لاتنفكّ عن التفكير في تنفيذ خطة للتحكّم في النفقات من خلال تبنّي مشروع مثير للجدل يستند على تخفيض عدد الكوادر الكفؤة إلى مادون الحد الذي تحتاجه الشركة فعلياً· وكانت تستند في تنفيذ هذه الخطة على مبدأ س - 1 ، وحيث يمثّل س أدنى عدد من الموظفين يكفي لتشغيل قسم معيّن· واتضح فيما بعد انه بالرغم من الوفر الذي تحقق من تبنّي هذا الإجراء، إلا أن نقص أعداد العمالة الكفؤة انطوى على العديد من النتائج السلبية حيث تطلّب الأمر دفع الموظفين إلى العمل الإضافي الذي ينطوي على الكثير من التأثيرات السلبية على مستوى كفاءتهم·
الذكاء الجماعي:
ويشير جيتس بكل وضوح إلى أن الذكاء الفردي بحد ذاته ليس كافياً في أسواق اليوم التي تتميّز بالديناميكية الفائقة ، حيث تحتاج الشركة أيضاً إلى حاصل ذكاء مشترك ينتشر في كافة أرجاء الشركة وبحيث يكون صالحاً كبيئة للاشتراك في الاستفادة من المعلومات وتبادلها على أوسع نطاق بما يهيء لأعضاء الفرق العاملة فرصة بناء الأفكار المتبادلة فوق بعضها البعض · وتندرج هذه الفلسفة الجديدة في إطار الفرز بين الأساليب القديمة والجديدة في الإدارة والتسيير· فعندما يكتسب الموظّفون الأفراد المعارف الجديدة فإنها تضاف إلى المخزون العام لمعارف الشركة أو المؤسسة·
ويكون المهم هنا هو التركيز على النوع لا على الكمّ· بمعنى أن الأهم هو النجاح في تحقيق الاستفادة الفعّالة من الخزين المعرفي في تفعيل ظاهرة العمل الجماعي· ويقول جيتس: والهدف النهائي المبتغى من وراء ذلك هو خلق الفريق القادر على استلهام أفضل الأفكار وأكثرها فعاليّة من المناهل المعرفية المشتركة لمنظومة العمل مما يؤدي بالضرورة إلى الشعور بوحدة الهدف الذي يسعى كل الموظفين لتحقيقه · وهكذا يتضح بجلاء أن تعاليم بيل جيتس هذه تتحدّث عن الموظّف ذي الذكاء الخارق القادر على الذوبان الحقيقي ضمن فريق العمل المتكامل للمنظومة كلها· وبهذه الطريقة الذكيّة التي تعجّ بمقوّمات عمق التحليل وبعد النظر ووضوح الرؤى، يفضّل جيتس تشجيع موظفيه، بل وحتى دفعهم بقوّة الحجّة والإقناع، للتعاون إلى حدّ الذوبان في بعضهم البعض والانصهار في بوتقة واحدة· ومن خلال هذه القراءة المتأنية لبعض أفكار بيل جيتس التي تعجّ بأفكار تبدو وكأنها مستلهمة من الطريقة ذاتها التي اتبعها واضعو التشريعات والقوانين الاجتماعية العظام من أمثال حمورابي وكونفوشيوس وبوذا وحتى هيجل ونيتشه، يتضح بأن إدارة المعرفة يجب أن تحظى بالأهمية المطلقة في كافة منظومات العمل والإدارة والإنتاج والخدمات في عصر النظام العصبي الرقمي·
رأس المال العقلي :
وكان جيتس لاينفكّ عن تخصيص كل وقته وفي كل الأيام دون استثناء للتفكير والتدبّر في مشروع لم يفكّر فيه أحد قبله وهو الاستثمار في رأس المال العقلي الذي يعرّفه بقوله: هو القيمة الحقيقية للملكية العقلية لمؤسستك أو شركتك، وهو يساوي الحصيلة الكاملة لكل مايمتلكه موظفوها من معارف · ولعلّ جيتس يكون قد انطلق من هذه النقطة بالذات عندما أشار إلى أن مجتمع المعلومات يتميّز بأن رأس المال العقلي فيه هو وحده الذي سيسود في المستقبل، وهو الذي سيحدّد القيمة الفعلية للعمل والأداء والإنجاز· وسرعان ماغدا هذا الطرح شعاراً مقدّساً لم يكن جيتس ليتوقف عن ترديده في كافة مجالسه وندواته ومحاضراته· وهذا الشعار ذاته هو الذي يرى جيتس أنه ينطوي على القوّة التي ستغيّر العالم برمّته، وخاصة عالم العمل والإدارة والإنتاج· وربما كان هذا الشعار ذاته هو الذي حثّ الباحث والعالم الأميركي في شؤون الإدارة والتسيير توماس ستووارت على وضع كتاب تحليلي جامع في هذا الصدد عام 1997 جعل عنوانه رأس المال العقلي · وهو الذي تنبأ فيه بنهاية عصر قديم وبداية عصر جديد عندما قال حرفياً إنها نهاية المطاف بالنسبة لأساليب الإدارة والتسيير التي نعرفها · وليس ثمة من شكّ في أن مثل هذه النقطة الانعطافية التاريخية في حياة البشرية تستحق أن تُكتب عنها مئات المجلّدات، وليس مجرّد كتاب رصين واحد كالذي وضعه ستووارت· ألسنا الآن على أعتاب الاستبدال الحقيقي للمواقع والقيم بين رأس المال الإبرائي ورأس المال المعلوماتي؟، وهل ثمة هناك من يشك في أن بنوك المستقبل هي التي ستتعامل بالمعارف بدلاً من الأموال؟· وهذه الأسئلة بحدّ ذاتها تدفع إلى طرح أسئلة أكثر أهمية وحسماً، كالتساؤل مثلاً: أليس يجدر إذن أن تتمّ عمليات الإصلاح الإداري لمؤسسات العمل والإنتاج والخدمات وفقاً للاعتبارات التي تفيد بأن مادة رأس المال الأساسية تغيّرت تماماً؟·
وتمثّل جهود جيتس وتوجهاته لتغيير نظام الإدارة والتسيير في مايكروسوفت عن طريق تبنّي الشعار الجديد مثالاً يُحتذى، ليس لمجرّد التزامه في ذلك بالتطبيق الدقيق والأمين للطروحات النظرية التي وضعها في هذا الشأن، بل لأنه كان يسجّل نجاحاً تلو الآخر في مستوى القدرة على التحليل الإنساني الواقعي لأبعاد ونتائج هذا التحوّل· ومن ذلك مثلاً أنه لم يكن ينظر إلى المظهر الإنساني لرأس المال العقلي على أنه مجرّد اهتمام بالمعارف الظاهرية للعمّال والموظّفين، بل يجب أن يرمي أساساً إلى تبديل شخصيات العمال الآخرين حتى يتحوّلوا إلى عمّال المعرفة · ويشير ستووارت إلى أن جيتس عندما يتدفّق بهذه الفلسفة الأقرب في حسمها ووضوحها إلى أسلوب المدرسة الهيجلية (نسبة إلى الفيلسوف الألماني الفذّ جورج وليلم هيجل المتوفى عام 1831)، فكأنه يقول: وفي هذه المنظومة الجديدة، لم يعد العامل أبداً مجرّد قطعة في آلة تدور، بل غدا جزءاًعقلياً حاسماً في العملية التسييرية والإدارية لمنظومة العمل برمتها · ويحاول ستووارت أيضاً من خلال كتابه هذا الغوص حتى الأعماق السحيقة في فكر جيتس حين يشير إلى أنه ربّما كان يقصد أن لايكون الإنسان مجرّد نسخة من الكمبيوتر الذي يعمل به والذي يقتصر عمله على أداء الأعمال المتكررة المختزنة في برمجياته وحيث يقف عاجزاً تماماً عن التصرّف أمام أية مشكلة تخرج عن نطاقها، وذلك لأن التميّز والقدرة على الإبداع والتخيّل هي مَلَكات بشريّة صرفة ستكون لها قيمتها المتفرّدة لإدارة العمليات الإنتاجية والخدمية في مجتمع المعلومات· وهكذا يبرز تركيز جيتس على أن المجتمع الجديد سوف يرفض بعنف كل عامل أو موظف يظنّ بأن عليه أن يكرّر العمل الروتيني ذاته حتى يحقق الإنتاجية المطلوبة منه· ثم يخلص ستووارت من كل ذلك إلى النتيجة التي تفيد بأن جيتس كان يبتغي من ذلك الإشارة إلى أن هذا التوجّه سوف يفضي بالضرورة إلى خلق عمّال المعرفة الذين سيسخرون المعلومات الرقمية الجيّدة لأداء أدوار وظيفية إبداعية في مؤسساتهم·
ويفضل ستووارت أن يبحر أكثر وأكثر في هذه الأفكار التي يطرحها جيتس فيشير إلى أنه كان يسعى إلى التأكيد على أن تطوير واستثمار واستخدام رأس المال العقلي كلّه (وهذه العناصر تندرج في إطار مصطلح إدارة المعرفة ) لاتمثّل أكثر من مصطلح وهمي ومعقّد لفكرة بسيطة· ولكن هذا لم يكن صحيحاً في واقع الحال لأن بيل جيتس كان لايتوقف عن زيادة الأمور تعقيداً كلما تعرّض إلى هذا الأمر· فهو يقول مثلاً : وسوف يكون هدفك كمدير للمنظومة أن تعزّز ميل الموظفين للعمل المشترك وتبادل الأفكار وحثّهم على تلاقح الأفكار لتقوم أنت بدور (المايسترو) الذي يسعى إلى تنظيم هذا اللحن بالطريقة التي تحقق أهداف المؤسسة وتطربها · ألا تبدو هذه الطروحات وكأنها تندرج في لون أدبي جديد يمكن أن يسمّى اليوتوبيا الإدارية في عصر المعلومات ؟·
رفع مستوى الذكاء :
ويقول هيلير بأن جيتس، باعتباره مديراً تنفيذياً لمايكروسوفت، لم يتردّد للحظة واحدة في تكريم نفسه وتشريفها عندما قرّر التكفّل بالدور الأساسي في نقل هذه المدينة الإدارية الفاضلة (اليوتوبيا الإدارية) إلى حيّز الوجود العملي· وهكذا ·· أصبح جيتس الآن رئيساً لهذه الجمهورية الجديدة التي تختلف أيما اختلاف عن جمهورية أفلاطون الفاضلة· وإذا كان رؤساء الجمهوريات السياسية لايصلون إلى قمة هرم السلطة إلا بعد منافسات حامية الوطيس، فإن بيل جيتس لم يواجه أحداً عندما سعى إلى تتويج نفسه ملكاً لهذه الجمهورية· وهذا لاينطوي على شيء من الغرابة طالما أنه هو صاحب الفضل الوحيد في وضع أسسها وقوانينها بالإضافة لكونه صاحبها·
وانصبّ اهتمام بيل جيتس على مواجهة التحدّي الذي كان يتمثّل بالبحث عن الطرق الفعّالة لرفع مستوى حاصل الذكاء المشترك في أية مؤسسة أو منظومة أو شركة· وسرعان ماتوصّل جيتس إلى وضع أربعة من هذه الطرق الحاسمة هي:
- خلق الجوّ الذي من شأنه أن يوسّع آفاق التعاون وتبادل المعارف بين الموظفين·
- اختيار مجالات العمل التي ينطوي فيها تبادل المعارف على قيمة أكبر·
- تأمين الأدوات الرقمية التي من شأنها أن تجعل تبادل المعارف أمراً ممكناً وميسّراً·
- مكافأة كل من يسهم في تحقيق التدفّق الغزير للمعارف ضمن المؤسسة·
ويُعدّ البند الثالث من هذه الوصايا الأصعب تطبيقاً بالنسبة للمسيّرين ومدراء منظومات العمل في مجال تحقيق مشروع إدارة المعرفة · ويبدو أن جيتس ذاته لايأبه بالصعوبات التي ينطوي عليها هذا البند الذي يبدو أنه لم يتخيّل تعقيداته أبداً· ولاشك أن لهذا تفسيراً مقنعاً ينبثق من حقيقة معروفة تكمن في أن مايكروسوفت هي التي تصنع الأدوات الرقمية التي تخدم الأهداف التي تفصّلها لنفسها· وكان بيل جيتس يلمّح إلى ذلك بمجرّد إشارات عابرة أو كلمات مقوّسة· ومن ذلك مثلاً أنه تحدّث ذات مرّة عما أسماه التطبيقات المعقّدة لإدارة المعرفة · ويشير هيلير بنوع من الاستهزاء بأن هذه العبارة جاءت في معرض محاولة جيتس تبسيط المفاهيم التي يحاول طرحها في هذا الصدد· وتبقى الحقيقة الماثلة حتى الآن لتؤكد بأن معظم المدراء والمسيّرين مازالوا بعيدين كل البعد عن تفهّم الوظائف الحقيقية لمعطيات الأدوات الرقمية، كقواعد البيانات والبريد الإلكتروني وتطبيقات التدفق الدائم للمعلومات والملفّات الإلكترونية وحتى تكنولوجيا الويب· وتأتي صعوبة هذا الفهم من التعقيدات التي ترافق إخضاع هذه الأدوات الرقمية لجملة متشابكة من التطبيقات· ولكنّ جيتس يؤكد على ضرورة إنجاز هذه التطبيقات على هذا النحو إذا أُريد منها أن تجعل من المعلومات وسيلة لبناء الحلول الناجعة للمشاكل المعقدة· وكان لابد لجيتس من انتقاء مثال حيّ على نجاح طريقته هذه خارج شركة مايكروسوفت· وأشار في هذا الصدد إلى أن العلماء آثروا استخدام الإنترنت منذ انطلاقتها الأولى وقبل وقت طويل نسبياً من استفاقة المدراء والمسيّرين لأهميتها، من أجل تبادل المعلومات المستجدة مع بقية العلماء حول العالم· وكانوا لايترددون في انتقاد بعضهم البعض عبر البريد الإلكتروني بطريقة منهجية كُتب لها أن تفضي في الكثير من الحالات إلى تقويم الكثير من النظريات والطروحات العلمية وتهذيبها· واليوم أصبحت هذه الطريقة في تبادل الأفكار سلوكاً روتينياً بالنسبة للعلماء والباحثين حول العالم أجمع· ويرى جيتس بأن منظومات العمل يمكنها أن تقتدي بهذا التوجّه بالرغم من أنها سوف تلاحظ بالضرورة أن أمورها التنظيمية ستكون أعقد بكثير من مجرّد تبادل البريد الإلكتروني بين الموظفين· وليس من ثمّة شك في أن أدوات إدارة المعرفة يمكنها أن تخفّض وبشكل هائل تكاليف البحث والتطوير المتعلّقة بالمنتوجات الجديدة بالإضافة لتحسين نوعية هذه المنتوجات وزيادة سرعة طرحها في الأسواق وتخفيض احتمالات الفشل والخسارة إلى أبعد الحدود· هذه هي الأدوات الأساسية التي يدعو جيتس لاستخدامها في بناء جمهوريته الإدارية الفاضلة· ولكن ·· هل يعني ذلك أن الفشل والخسارة أصبحا مستبعدين تماماً من جمهورية جيتس؟، وماذا يمكن للمدراء والمسيّرين أن يفعلوه في مثل هذه الحالات؟، وماهي الخطط الصائبة للدخول القوي إلى الأسواق؟·

ليست هناك تعليقات: