الثلاثاء، 15 أبريل 2008

كتاب : الأخوة الزائفة (12)

خاتمـة
لقد نجحت الولايات المتحدة في استيعاب ومزج معظم شعوب أوروبا (الوافدين إليها). ولم يكن التجانس الناشئ بين سكانها في اللغة والعرق والدين والثقافة بمقدار ما كان مولداً لمفهوم جديد عن الحرية. وقد فتحت البلاد ذراعيها مكرمة كل المضطهدين في العالم، وذاب معظمهم في المجتمع الأمريكي وتلونوا بلونه. ولم يرفض هذا التجانس سوى قطعان يهود خزر القادمين من الاتحاد السوفييتي، نظراً لأنهم كانوا يؤمنون بفلسفتين متلازمتين: الصهيونية والماركسية. فقد أصروا من جهة على البقاء كشعب منفصل وأمة في المنفى تعاني من التصدع، وسعوا من جهة أخرى لإعادة تشكيل وتكوين ديانة وتقاليد وعادات بلد منفاهم (أمريكا). ولذا تجدهم يسيطرون على الحركات الثورية والمنظمات الإرهابية العاملة داخل البلد، وتجد أسماء لهم في السجلات التي تضم الخونة. وهم يستغلون كل وسيلة دعائية لكسب الاعتراف العالمي بمبدأ تنافر الأمة الواحدة واختلاف وضع الفرد عن المجتمع، لكي لا يلاموا على عدم تجانسهم داخل المجتمعات.
لقد كانت الولايات المتحدة أول بلد يمنح اليهودي المشرد كل الحقوق والمزايا التي ينعم بها مواطنوها. فالدستور ينص على حق كل يهودي متجنس بالأمريكية في دخول الحكومة واعتلاء أي منصب يمكن أن يصل إليه أي فرد من الشعب الأمريكي. ففتحت له أبواب الوظائف وأصبح قادراً على التعبير عن رأيه في كل منتدى دون خوف من الانتقام. وكان باستطاعته أن ينظم زملاءه اليهود في تنظيمات خاصة لأي سبب سياسي أو ديني أو تعليمي أو غيره، أو يمكنه الانضمام لجيرانه الأمميين في منظماتهم ـ إذا سمحوا له بذلك. والوقع أنه كان بإمكانه الانضمام إلى أحزابهم السياسية والكثير من التجمعات العامة الأخرى، سواء أحبوا ذلك أو كرهوه. ولكن الأمميين كان لهم حق قبول أو رفض أي واحد، لأي سبب أو بدون سبب، في جمعياتهم الخاصة.. وكان هذا النوع من الحرية يقابل التوبيخ من جانب اليهود، وأصبح مع الزمن يقابل بالتنديد ويوصف بالتمييز ومعاداة السامية. ثم إن هؤلاء القادمين الجدد من الطوائف المنعزلة بأوروبا، والمتبجحون بالوقوف متساوين مع غيرهم أمام قانون الولايات المتحدة، أصبحوا يثورون عندما يجدون الكثير من الأبواب الخاصة مغلقة في وجوههم. لقد أسكرتهم خمرة الحرية إلى درجة أصبحوا لا يحتملون معها هذا النوع من حرية الغير.
وكان أشد ما يغيظهم أن أمريكا الجديدة (بلد مسيحي). فقد وجد اليهود هنا، كما في غيرها من بلدان تشتتهم، الكنائس العظيمة ودور العبادة المنتشرة في المناطق الزراعية والرعوية. ووجدوا أن الاحتفالات العامة والاجتماعات التشريعية تفتتح وتختم بصلوات من الكتاب المقدس، استدراراً للبركة الإلهية ! ووجدوا أن المدارس العامة تؤكد على أخلاقية وعقائد المسيحية، وأن الأطفال ينشدون الترانيم في أعياد الميلاد والاحتفالات الدينية العامة. ووجدوا أن الناس يتذكرون في مناسبة، وفي الحملات السياسية والصحف والدوريات أن آباءهم الذين أسسوا البلد كانوا مسيحيين، وأن (ميثاق الحرية) ودستور الولايات المتحدة وثائق مسيحية.
ولكن اليهودية المنظمة جادة في تغيير الطبيعة الأمريكية وتدمير هذه الشعارات المسيحية وتهويد هذه الأمة المسيحية. وسيصبح بإمكان (أوسكار ستراوس) أن (يبرهن) في النهاية على أن هذا الحكم الجمهوري لإدارة الولايات المتحدة كان قد أقيم فعلاً على اليهودية، وأنه يجب أن يعتبر يهودي الأصل، لا مسيحياً.
كان الذين يرفعون صوت الاحتجاج على ذلك الفيضان الكاسح من الأجانب الذين يتدفقون على البلد يواجه بالرد اليهودي القائل أن جميع السكان كانوا أصلاً مهاجرين أو أحفاداً لمهاجرين، وأن الأمريكيين الحقيقيين هم الهنود الحمر. وكأن اليهود الأمريكيين بهذه النظرة كانوا مقتنعين بأن هجرتهم إلى الولايات المتحدة كانت حقاً لهم، لا منة، ولذلك أخرست الأصوات الأمريكية المستنكرة.
وسرعان ما اكتشف قادة الحركات الثورية من اليهود إمكانية استغلال زنوج أمريكا كسلاح فعال وقوي. فاستخدموا مبدأ التوسل للأقليات والاقتراب منها وعكفوا على تنفيذ برنامج يثير (الشعور الطبقي) بين السكان السود في الولايات المتحدة. وكان من السهل على اليهود التحول من استنكار الاضطهاد الديني إلى استنكار التمييز بسبب اللون. وحيثما كان رجال الدعاية اليهود يستخدمون في السابق تهمة (معاداة السامية)، أخذوا يصيحون مستنكرين (معاداة الزنوج)(1). وفي المدن الكبيرة، حيث كان اليهود يحتكون بالزنوج، انتقلت دعاية ماركس ولاسال وتغلغلت بين السود. والواقع أن احترام الصهاينة أحباء يهوذا للزنوج، كان أقل من احترامهم للأمميين البيض، وقد ترددوا في أولى محاولات تجنيد الزنوج داخل صفوفهم. وفطن اليهود إلى أن ظهور حزب شيوعي في أمريكا سيصعد النشاط في ميدان الحركات المثيرة، ولم يضيعوا أي جهد منذ البداية.
وفيما يلي جزء من بيان كتبه دمنغور محرر (ايمينسبتر):
(لا بد أن يكون للمتطرفين الأمريكيين دعاية منظمة وجيدة الإعداد، تبين للزنوج كيف يمكنهم الاستفادة كمجموعة (سكانية)، وتحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي، وذلك عن طريق إحداث أي تغيير متطرف في النظام الاقتصادي الحالي.. ويجب إغراء الزنوج الأذكياء لحضور اجتماعات المتطرفين ولكي يصبحوا أعضاء في التنظيمات المتطرفة).
وبعد ذلك بوقت قصير أخذت أبواق الدعاية الماركسية تكتب الحرف الأول من كلمة (زنجي) بالحرف الكبير (دلالة على أهمية الكلمة)..
وزحف فيروس ماركس وتلامذته اليهود فوق الولايات المتحدة، ببطء وخبث، وأصاب جموعاً غفيرة من الأمريكيين. وانتشرت في البلد موجات الهرطقة اللادينية، تتلف جذور العقيدة وبذورها، وتذبل برياح الشك بساتين العنب التي تعيش منذ ألفي سنة. وغزت بهدوء وصمت، كبخار السموم الخفي، حجرات الدراسة في المدارس الأمريكية لتغشي بصائر من يربون الجيل الجديد، واخترقت الأبراج العاجية للجامعات والكليات لإرباك المتعلمين، والتفت بهدوء وسرية حول المنابر لتغشية عقول القساوسة ليشنوا حرباً على أركان دينهم.. وتوارى عن الأنظار أبطال وحماة العقيدة، واحداً بعد الآخر، وأخيراً أخرست أصواتهم. أما في قاعات الأمة التشريعية، حيث تغلغلت أبخرة الشلل، فقد برزت اقتراحات غريبة ومخيفة، وتوقف السياسيون عن الحديث حول (أمتنا المسيحية). وأصبح رجال الدين المسيحيون يجدون حرجاً في أنفسهم عند ذكر (المسيح) في صلواتهم العامة.. وبالتدريج انهار البناء السياسي للولايات المتحدة بفعل فيروس الشلل اليهودي الذي يجتاح البلد عبر بوابات جزيرة إيليس الخالية من الحراس.
إن التاريخ يسجل، إن الأغلبية الكبيرة تمتص الأقلية وتستوعبها، وهذا ما ينطبق على كل مهاجر أممي إلى الشعوب الأممية، ولكن هناك استثناء واضحاً لذلك، ويتمثل في فشل السكان الأممين في امتصاص الأقليات اليهودية. ولا شك أن هذه القاعدة والاستثناء الواضح معترف بهما على نطاق عالمي. فقد أظهر المهاجرون اليهود إلى الولايات المتحدة منذ سنة 1848 انحرافاً واضحاً ومذهلاً عن هذه القاعدة العامة، والأدهى من ذلك أن الأقلية اليهودية هي التي تمتص الغالبية العظمى من السكان. وهناك خوف من أن تهود أمريكا في غضون مائة عام، وبشكل يفوق أحلام ماركس.
سيكشف التاريخ بوضوح (إذا لم تنجح اليهودية المنظمة في إعادة صياغة حقائقه) أن الدعاية الصهيونية هي التي دفعت الولايات المتحدة إلى دخول الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا، تماماً كما حدث سنة 1917. ولو لم تدخل الولايات المتحدة الحرب لدمرت ألمانيا روسيا الشيوعية، ولما كان الصهاينة اليوم يحتلون أراضي العرب الفلسطينيين.
ولو أن الصهاينة تم لهم ما أرادوا تماماً، لسيقت ألمانيا إلى حتفها في غضون سنوات قليلة. فقد خشي اليهود العبقرية الاختراعية والصناعية عند علماء الألمان، وسعت اليهودية لتطبيق مخطط لإزالة الألمان، وإلى الأبد، من ميدان التنافس العلمي والصناعي. ولو نفذت (خطة مارغنثاو) تنفيذاً تاماً لتقلصت ألمانيا إلى بلد زراعي ليست له مكانة بين بلدان العالم.. وقد كانت هذه الخطة تتبنى برنامجاً قاسياً يعني هلاك الجيل الجديد في ألمانيا، وكان عذر (الانتقام اليهودي) من الألمان مبنياً على الأكذوبة التي روج لها بشكل غريب، بأن الألمان ذبحوا ستة ملايين يهودي ! وقد لقي هذا التزوير العجيب تصديقاً على نطاق عالمي، رغم أن عدد السكان اليهود، في العالم كله، كان في نهاية الحرب أكبر منه في أي وقت مضى ـ والأرقام مبنية على الإحصائيات اليهودية (الكتاب السنوي).
حالما تم قبول (الأكذوبة الكبرى) ـ ستة ملايين يهودي ضحايا هتلر ـ أجبرت الأمم المتحدة ألمانيا على دفع (تعويضات) لكل اليهود الذين وطئت أقدامهم الأرض الألمانية. وهذه التعويضات تدفع بالطبع لإسرائيل، لكي يتمكن الصهاينة من استئصال العرب من فلسطين.
إن إسرائيل هي البلد الوحيد في الشرق الأدنى الذي يعترف بالحزب الشيوعي، ويجلس مرشحوه الناجحون في الانتخابات في المراكز العامة العليا. أما في البلاد العربية فالقانون يمنع الشيوعية من العمل (العلني الصريح). ولكن البلاد العربية التي خدعها الغرب وأهانها مدفوعة للبحث عن المساعدة حيثما تجدها. وتقوم أجهزة الدعاية اليهودية بنشر الدعاية المعادية لعبد الناصر طيلة الأربع وعشرين ساعة، منذ ظهوره كقوة توحيدية في العالم العربي(2). ولو كان العالم العربي موحداً لفكرت الأمم المتحدة جيداً قبل إعطاء فلسطين للصهاينة دونما وجه حق.
إن الشعور بالمعاناة والظلم الكبير من أقوى العوامل في توحيد الشعوب. وقد حدثت مظالم كثيرة عبر القرون، ولكن قل منها ما كان قاسياً غير أخلاقي كذلك الظلم الذي نزل بعرب فلسطين فسرقت أرضهم وشردوا في الآفاق.. والعرب يدركون ذلك ويعرفون لماذا وكيف حدث.. وهم يعرفون أيضاً بأن إسرائيل لا بد وأن توسع حدودها الحالية لكي تجمع كل اليهود داخل فلسطين.
وأما عندما استولى الشيوعيون على إسبانيا وتدفقت داخل البلد السيء الحظ جيوش المتطوعين الشيوعيين من اثنين وعشرين بلداً، فإن واشنطن لم تحرك ساكناً لإيقاف العدوان الشيوعي.. وبالطبع يعرف العالم اليوم أن اليهود، بقيادة السفير السوفييتي روزنبرغ، هم الذين كانوا يوجهون الهجوم على إسبانيا. ولم تعارض واشنطن رسمياً اليهود الشيوعيين الأمريكيين داخل ما يسمى لواء جورج واشنطن ولواء ابراهان لينكولن، الذي ذهبوا إلى إسبانيا لخوض مذبحة ضد الأمميين.
وعندما أثبت فرانكو مقدرته على مواجهة الشيوعيين، تبرع برنارد باروخ (اليهودي) بمبلغ عشرة آلاف دولار، تكاليف عودة القوات اليهودية الأمريكية إلى الولايات المتحدة. ولم تستطع واشنطن إبداء النقد، ناهيك عن التدخل.. وظل باروخ (السياسي الأكبر) ومستشار الرؤساء !!
لقد اختطف ثوار كوبا خمسة وأربعين أمريكياً، وكثر عدد المفقودين من القوات البحرية الأمريكية على شواطئ كوبا، ويقال إن مئات الجنود الأمريكيين يعانون في سجون الصين، إلا أن واشنطن أكثر اهتماماً بحملات التبرع اليهودية منها بحماية جنودها !
أسفرت ثورة المجر في أكتوبر 1965، عن شحن أكثر من 75 ألف مسيحي إلى سيبيريا، وما يزال هناك أربعون ألفاً آخرون في سجون رومانيا نفسها. وقد أرسل من المجر خمسة آلاف إلى الصين الشيوعية وادخلوا في كتائب الألغام الصينية ليكونوا وقوداً للألغام. أما أول موجة من المهاجرين المجريين إلى الولايات المتحدة فلم يكونوا إلا من اليهود الشيوعيين.. ولم تحرك الولايات المتحدة ساكناً.. وفي أثناء التمرد الذي حدث في المجر أرسل الاتحاد السوفييتي جيشاً تدعمه مئات الدبابات.. كان ذلك (عدواناً شيوعياً) ولكن ايزنهاور لم يتحرك للتدخل !!
وقد دفعت واشنطن ليوغوسلافيا مليارات من الدولارات وتلقت بولندا منذ سنة 1945 نحو 513 مليون دولار من الولايات المتحدة.. إن أمريكا تقوم بإحدى اليدين بدفع مليارات الدولارات لدعم الأنظمة الشيوعية، وبالأخرى تندفع إلى أي مكان في العالم لإنقاذ الصهاينة بحجة (العدوان الشيوعي).
والحديث عن (يالتا)(3) و(بوتسدام)(4)، يثير عدداً آخر من التساؤلات. أما خدعة بولندا والصين وغيرهما من الحلفاء، وكذلك كوريا، وهزيمة الجيوش الأمريكية تحت قيادة الأمم المتحدة، كل هذه الأمور، وغيرها الكثير، تصرخ الأصوات مطالبة بتعليلها وتوضيحها. ومهما قيل حول ذلك من كلام منمق فإن علامة الاستفهام تبقى خالدة، لأنه لا يجرؤ أحد على إعطاء الإجابة الصحيحة..
وإذا قدر للحرب العالمية الثالثة أن تدور فإنها ربما ستنشب لجعل البلدان العربية توابع تدور في فلك إسرائيل. وربما كان هذا الاحتمال هو الوارد في ذهن ناحوم جولدمان، رئيس المجلس اليهودي العالمي، عندما كان يتحدث أمام المؤتمر اليهودي الكندي في 31 مايو 1947 عندما أخبر يهود كندا بأن إسرائيل أهم (منطقة استراتيجية في العالم). وقال كذلك، كما ورد في نشرة المؤتمر:
(لم يكن لفلسطين قبل خمسة وعشرين عاماً خلت عشر ما لها من أهمية في السياسة العالمية اليوم. لقد أصبح العالم عالماً واحدا، والكثير العديد من رجال الاستراتيجية يعتقدون بأنه أهم منطقة استراتيجية في العالم هي الشرق الأوسط. وهناك مؤرخون كبار للحرب العالمية الثانية يعتقدون بأن المعركة الفاصلة في الحرب كانت معركة العلمين، لأنه لو اجتاح النازيون الشرق الأوسط لكسبوا الحرب. ربما كان هذا الكلام مبالغاً فيه أو غير مبالغ، ولكنهم مقتنعون بأنه لو قامت أي حرب في المستقبل فإنها ستكون عالمية وستتركز في هذا الجزء من العالم. إن الشرق الأوسط، بوجوده بين القارات الثلاث، وحلقة الصلة بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، ربما يكون أعظم منطقة استراتيجية في العالم.
(في أحد أحاديثي في الصيف الماضي مع المستر بيفين (وزير خارجية بريطانيا) حيث كان يتحدث بصراحة تامة، قال لي: (تعرف يا دكتور ماذا تريدني أن أعمل بإقامة دولة يهودية ؟ إنك تريد مني أن أضع في يديك مفاتيح أعظم المناطق الاستراتيجية أهمية في العالم ! اسمح لي أن أفكر مرة ومرتين قبل إعطائك هذا المفتاح). لقد كان في ملاحظته شيء هام.
(وقد جاء اكتشاف النفط في الشرق الأوسط عاملاً يضفي على المنطقة أهمية خاصة. إنني أتذكر ما قاله لي (ايكز) الذي كان مسؤولاً عن إدارة النفط الأمريكي أثناء الحرب عندما أوضح بأن تقارير الخبراء تفيد بأن ما يوجد من نفط في الشرق الأوسط يزيد عما في شمال ووسط أمريكا من عشر مرات إلى عشرين مرة. وأنتم تعرفون ما يعنيه النفط في هذا العالم، وحالما نقيم دولتنا اليهودية في فلسطين سيصبح كل هذا لصالحنا.. ولكن، وحتى نقيمها، فإننا نواجه المشاكل، إذ يتردد الناس كثيراً في السماح لليهود بالإقامة في المنطقة التي تتمتع بهذه الأهمية.
(لو كنا نريد توطين اليهود في مدغشقر لفعلنا ذلك من قبل، لأنه لا يهتم لأحد لما يجري في مدغشقر ولكن فلسطين اليوم هي مركز الاستراتيجية ومركز سياسة القوى العالمية، والساسة الذين يتصلون بالصهاينة اليوم يفكرون نفس التفكير.. إنني أريد من الصهاينة أن يفهموا ذلك. وليست العدالة والإنصاف دائماً هي المهمة في العالم، بل إن حكومات العالم ستقرر مواقفها من خلال وجهة نظر مصالحها الحقيقية. هذه هي التي ستكون الاعتبارات الحاسمة، ولن تكون حاسمة المظاهر الإنسانية للمشكلة، والتي يمكن أن تلعب دوراً معيناً. إن علينا أن نعدل سياستنا حسب هذه النظرة الواقعية للمشكلة).
إن أفكار اليهود هي التي تسود الآن في كل مكان، أما احتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل فهو علامة لبداية العصر اللاديني لليهود. لقد قامت الشيوعية اليهودية بتحطيم المسيحية في روسيا، ورفعت الحرب العالمية الثانية تلك الدولة الماركسية إلى مصاف الدول العظمى.. أما ألمانيا وقوى المحور فهي مغلوبة على أمرها، تنفض عن نفسها ببطء حطام أفجع مصيبة في التاريخ. وأما الدول التي كانت معادية للصهاينة قديماً فهي الآن دويلات تدور حزينة في فلك الاتحاد السوفييتي.. وقد تحطمت الإمبراطورية البريطانية العظمى، ويجري امتصاص مستعمراتها تدريجياً داخل دوامة الشيوعية اليهودية. وبينما تضغط الأحزاب الشيوعية في كل مكان على جدران الرأسمالية المتصدعة، يرحب الساسة المرتشون بالطابور الخامس الشيوعي.. ولقد قامت البروليتاريا الثورية الصهيونية بعملها على خير وجه.
وأما سطوة المال اليهودي فقد قويت أكثر من أي وقت مضى، حتى تظل قوته الرهيبة مسيطرة في كل أنحاء العالم.
وفي نفس الوقت توجد عملية السيطرة على العالم من خلال الأمم المتحدة، رغم أنها غير مهيأة حتى الآن لإخضاع أمم الأرض إخضاعاً تاماً. وينتشر رجال الدعاية اليهودية في كل مكان، في الحكومات وفي ميدان الصحافة وفي الإذاعات بنوعيها المسموع والمرئي، وفي الكنائس. ولا يبدو أن هناك قوة ما قادرة على إيقاف الزحف اليهودي للسيطرة على العالم. إنهم لم يعودوا يعملون وحدهم، فالأمميون الذين غسلت أدمغتهم وأصبحوا كالببغاوات يرددون الدعاية الصهيونية بحماس منقطع الأنفاس، موجودون في كل مكان، في مجالس الشيوخ والنواب، وفي النوادي وفي زوايا الشوارع.
إن الأحزاب السياسية في الدول الرأسمالية تتراجع وتتقهقر منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. فقد حاربت في بضع عمليات مراسية بالمؤخرة، ثم استسلمت قلعة بعد أخرى دون أن نطلق رصاصة واحدة.. وقد أثبتت مناوراتها السابقة تضاؤل فعاليتها، سنة بعد أخرى، بل إنها كانت تخسر على كل جبهة، لسبب بسيط، وهو أن القائمين عليها لا يعلمون، أو يرفضون الاعتراف بأنهم يعلمون موقع الجبهة. ذلك لأنهم يخضعون لتنويم مغناطيسي عجيب ويخشون تسمية أعدائهم. وبينما يظهرون كمساندين عظام للحرية، يعمدون إلى خرق سفنهم بحفارات من (الإعلان الشيوعي). وتقوم الأحزاب القديمة المتعبة والهاربة أو المتبنية لبرامج الاشتراكيين، بالتوسل لإيصال مرشحيها للمناصب العامة. وقد أصبحت حملاتها برامج عملاقة للتملص، ويسعى كل حزب ليسبق الآخر بوعود وهمية. وأما عقائدها ونظمها المالية والاجتماعية والسياسية فهي ممزقة وملطخة نفايات اشتراكية، وتفشل في كسب وتأييد الوطنيين الذين خابت آمالهم.
ويفشل معظم الزعماء المناوئين للشيوعية في زمننا هذا، لأنهم يفتقرون إما إلى الشجاعة أو إلى المعرفة اللازمة للقيام بمهامهم.. أما الذين يعرفون المشاكل الحقيقية ويفهمونها فإن طموحهم الشخصي يلجم أفواههم وتخرسهم الحملة العنيفة من معارضيهم. وأما أكثر الناس قدرة وعظمة فإنهم يتحولون إلى أشخاص مسلوبي الإرادة، إما بسبب حب الذات، أو خوفاً من وصمهم بالرجعية أو العداء للسامية.. وبالتالي يعمد السياسيون إلى اختيار لغة ينتقون مفرداتها بحذر شديد، ويصبح (الحل الوسط) أو (التسوية)، الأساس الذي تبنى عليه ومواقفهم.
إن الشيوعية اليهودية لا بد أن تسيطر يوماً ما على الشيوعية الأممية ولن ينصهر الصهاينة بقوميتهم في الشيوعية الدولية أكثر من انصهارهم في أي تجمع آخر. فالشيوعية ليست إلا اختراعاً يهودياً، تماماً كما اخترعوا الرأسمالية ـ وقد استخدم الاختراعان، وسيتواصل استخدامهما لنفس الأهداف اليهودية.
ولكن: هل فات الأوان ؟ إن الكثير من الساسة المخلصين قد تتبعوا طريق الحق وعملوا على إصلاح ما فسد.. فلن ينسى إلا القليل من الناس الكلمات الجريئة والمحزنة للسنتور (مكران) بعد أن لاحظ الفوضى التي تكتسح الولايات المتحدة نتيجة لسطوة الأمم المتحدة، فقال:
(إنني متأكد بأنني سأظل نادماً ما حييت لتصويتي على ميثاق الأمم المتحدة).
أما (جون وود)، عضو مجلس النواب المكافح الجريء لخطر الجسم الغريب الموجود فوق التراب الأمريكي فقد عمل على حث شعب الولايات المتحدة للتخلص منه قبل أن يفوت الأوان وتضيع الفرصة، وقال: (إنني أطالب هذه المنظمة الخائنة للوقوف خلف القضبان والمثول أمام العدالة الأمريكية، وأطالب مرة أخرى بإلغاء عضوية الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، والمنظمات المتخصصة المتفرعة عنها).
لا توجد علاقة بين الأخلاق والسياسة، كما لا توجد بين الأخلاق والحرب.. إنني لا أعني أن هذا هو عين الصواب، ولكن ذلك هو الأمر الواقع في هذا العالم.. وكذلك تعتبر الصراحة والأمانة والنزاهة صفات نقص خطيرة في شخصية السياسي في هذا العصر. ولو حدث أن نال سياسي يتحلى بهذه الصفات مركزاً هاماً وأصر على التعلق بهذه الخرافات التي عفى عليها الزمن، فلن يقدر له الفوز في الانتخابات التالية، هذا إذا لم يفقد منصبه قبل نهاية المدة المقدرة له.. فالناس لا يهتمون كثيراً بهذه الفضائل، لأنهم يكرهون الحقيقة إذا تدخلت لإعاقة أحلامهم، ويسوؤهم أن يواجهوا بحقائق الحياة الكريهة. لقد أصبحت جماهير تستثيرهم العاطفة والمصالح الخاصة والطمع الشديد. ويعرف رجال الدعاية هذا الأمر، ولم يعد يوجد في سوقهم أي مكان للمنطق والعقل والاعتبار العملي والحقائق الواضحة.
إن الجماهير تفتقر إلى القدرة على فهم المواضيع العظيمة القدر، لأنها تتحرك جماعياً نحو الأهداف المركبة بفعل الحافز العاطفي. والذي يبدو تحت وطأة الهياج والهستيريا أنه (مصلحة عامة)، يتضح بأنه مصيبة عند التجربة الفردية. والواقع أن الغوغاء لا عقل لها.. فالحلة البهية والعلم الأحمر، والشعارات البراقة، هي الشرارات التي تحرك الجماهير للسير في طريق الثورة وأعمال العنف. أما النظريات العميقة التي تجيء بعد دراسة دقيقة فإنها لا قيمة لها بدون العبارات المضللة التي تحرك النظريات وتحولها إلى أفعال. ويجب ألا توجد صلة بين العبارات والشعارات المضللة، وبين التعقل والتروي.. بل يجب أن تصاغ بعبارات تمثل الحاجة والطمع والغرور والحقد. وحالما تتحرك الجماهير فإن من الصعب إيقافها، بل تزداد وحشيتها، وتضع الثورة المخطط لها والمدبرة مصائد للثوريين حتى لا يدمروا أيضاً من اخترعها وخطط لها.
هذه هي حقائق السلوك الإنساني، وهذه هي سواعد القوة..
والذين يريدون أن يحكموا العالم في القرن العشرين لا بد لهم من الغنى الوفير والثروة العظيمة، وأن يكونوا على قدر هائل من الذكاء والدهاء والخداع.. ويجب أن يكون هدفهم الظاهري هو مصلحة الشعب. حتى ولو انتهت وسائل هذا الهدف بفاجعة. وإذا كان الهدف الحقيقي هو التدمير ـ حتى مع وجود النوايا ببناء عالم أفضل ـ فإن وسائل إنجاز الإصلاحات المزعومة لا تهم كثيراً، ولا يوجد شيء يخدع (المعدمين) أكثر من مصادرة أموال (الأغنياء) لمصلحة (المعدمين). فالسياسي الذي يعد بضرب (الأغنياء) هو البطل دائماً في أعين الناس.
إننا إذا فتشنا وبحثنا خلف مشاهد السياسة العالمية المتحركة، وجدنا الصهيوني يقف صلباً مجرداً من العواطف، لا يهتز له وجدان. فتدمير الأمم وهدم الأديان، وتقدم الشيوعية الملحدة مقطبة الجبين، كل هذه المآسي خطوات عملاقة على الطريق لتحقيق أمل إسرائيل. وترى الصهيوني الداعي للاشتراكية في كل مكان يتلاعب بالحبال التي تحرك الدمى الأممية، ولكنه يظل خفياً.. ويعتبر هذا الخفاء أغرب ظاهرة عرفها العالم.. ورغم وجود الصهيوني دائماً أمام الأنظار واضحاً جلياً، قلما يوجد من يجرؤ على الكلام حتى لا يصيبه الشر الخفي. وأما عندما يعترف الجميع بأنهم يرون حقاً ما تبصره أعينهم فربما تكون قد ضاعت الفرصة وفات الأوان لتقويم الموقف..
الحرية، والمساواة، والأخوة !! كم من الدماء لطخت المتاريس استجابة لهذه الصيحة الخالية من الإحساس والشعور! قلما يوجد من بين الذين انتشوا بهذه المعاني المجردة، من استطاع شرح معانيها، وعندما يشرحها يعرفها بمزيد من التجريد. فالحرية تعني (العبودية) بالنسبة للأغلبية، والمساواة تعني النزول إلى أدنى مستوى عام، والأخوة تعني نوعاً من الأخوة ينفي الأبوة ويستبعد الجانب الخير من الإنسانية.
أما السلام والطمأنينة فلا يوجدان إلا في قلوب الناس. وأما الحدود الاصطناعية الموسعة لتشمل العالم، أو الضيقة حتى تقتصر على مساحة محدودة من الأفدنة، فلم تجلب مطلقاً، ولن تقدر على جلب السلام والأخوة.
وهذه كلمات باتريك هنري تبدو وكأنها موجهة إلى جيل اليوم:
(من الطبيعي للإنسان أن يسبح في بحور الأمل، ونميل لإغلاق أعيننا أمام الحقيقة المؤلمة والاستماع إلى أغنية السيرانة(5) حتى تحولنا إلى وحوش. هل هذا النوع من الناس هم الحكماء الذين يخوضون صراعاً ضارياً من أجل الحرية ؟ وهل طبعنا لنكون من أولئك الذين لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ما يهمهم هو مصيرهم ونجاتهم في الحياة ؟ ليس لي إلا قنديل واحد يضيء دربي، إنه قنديل الحرية.. ولكن، ما الذي تهفو إليه قلوب الرجال وما الذي يريدونه ؟ هل الحياة عزيزة والسلام عذب إلى الحد الذي يشتريان عنده بالسلاسل والعبودية ؟ إلهي القدير: أسألك البعد عن ذلك ! إنني لا أعرف الدرب الذي يسلكه الآخرون، ولكن أعطني الحرية أو أرحنى بالموت).
إن هذه الفضيلة سرمدية لا تتغير، ولن تتغير طالما ظل الناس مع الحق وبجانبه، وفي قلوبهم تقدير للحرية التي منحها الله لهم. أمثال هؤلاء، خير لهم أن يدمر الكون أو تفجر القنبلة الذرية من العيش في ظل العبودية.. وطالما وجد أمثالهم، ستظل الحرية ويبقى لها وجود في العالم...
وكذلك ستبقى الفضائل المقدسة على الدوام، وسيخلد مقياس الحكم الحق، وستظل دروس التاريخ حاضرة لمن يبحث عنها، ولمن يتعلم ويفهم. صحيح أن الطريق طويلة وضيقة ومنحدرة صعبة المسير، ولكن يد الله ترشدنا فيها، وهي وحدها التي تقودنا إلى السلام والأخوة الحقة...

(1) ـ لا شك أن الزنوج في أمريكا عانوا الكثير، وما يزالون، من ظلم البيض واضطهادهم واحتقارهم إلى درجة يندى لها جبين الإنسانية. وطبيعي أن اليهود لم يكونوا مخلصين في التقرب من السود وإثارة الروح العرقية عندهم، بل كانوا يريدون استغلالهم في أنشطتهم التخريبية داخل المجتمع الأمريكي وتحقيق هدفهم في تدمير ذلك المجتمع. ولم يفطن السود لذلك إلا في أواخر الستينات، حيث انقلب الكثير منهم ضد اليهود وأصبحوا ينظرون إليهم بعين العداء. (المترجم).
(2) ـ تأثر الكاتب على ما يبدو بما كان يسود العالم العربي من أوضاع في فترة إصدار كتابه، والمتأمل في هذه الأوضاع الآن تطالعه حقائق جديدة تجعله يعيد النظر في كثير من الأسماء والمسميات.
(3) ـ مؤتمر يالتا بالقرم بروسيا بين ستالين وروزفلت وتشرشل في فبراير 1945.
(4) ـ مؤتمر بوتسدام بألمانيا بعد انهيار هتلر، بين ترومان وستالين يوليو 1945.
(5) ـ السيرانة مخلوقة خرافية عند اليونان، لها رأس امرأة وجسم طير، تغني فتسحر الملاحين بغنائها حتى توردهم موارد التهلكة.

ليست هناك تعليقات: