تشخيص أزمة الأمن الغذائي
يحلل الباحث في هذا المقال بعض مظاهر أزمة الغذاء في العالم العربي مركزا على تدني مستوى الاكتفاء وحجم الفجوة الغذائية وتطورها وحجم المعونات الغذائية، كما يحلل أسباب الأزمة مركزا على العوامل الديموغرافية والطبيعية والخيارات التنموية الاقتصادية الكلية وأثرها على استفحال الأزمة.
مقدمة:
استقطبت مسألة التنمية الزراعية والغذاء اهتماما كبيرا على مستوى الوطن العربي في الآونة الأخيرة، شمل الجانب النظري والانشغالات الأكاديمية كما شمل الجانب التطبيقي والإجراءات العملية.
وليس منبع هذا الاهتمام أن الغذاء يشكل جوهر صراع الإنسان من أجل البقاء, بل لعل فشل هذه الجهود في تجاوز المشكلة الغذائية التي يعاني منها الوطن العربي زاد من ضرورة تقييم ومراجعة هذه الجهود. فقد دخلت أوضاع الزراعة والغذاء في الوطن العربي منذ منتصف السبعينات مرحلة حرجة, تمثلت في تنامي الطلب على المنتجات الزراعية عموما والغذائية على وجه الخصوص, نتيجة ارتفاع معدلات النمو الديمغرافي والقفزة النوعية في الدخول الفردية في بعض الدول العربية (النفطية منها), بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية وتقلص الأهمية النسبية للقطاع الزراعي في الهياكل الاقتصادية العربية. وقد نجم عن هذا الوضع تفاقم العجز الغذائي وبالتالي اللجوء إلى المصادر الأجنبية لسد هذا العجز.
وتعتبر أسباب الفجوة الغذائية العربية متعددة ومتشعبة, ويختلف الدور الذي تلعبه هذه الأسباب في تعميق هذه الأزمة حسب طبيعة الدول من حيث ثقلها السكاني وتوزيعهم بين الريف والحضر، وندرة أو محدودية الموارد الطبيعية والمالية، أو عدم نجاعة الهياكل الإدارية والتنظيمية في الدول، وعدم الاهتمام بالزراعة ضمن مخططات التنمية. وهي عوامل لها تأثير مباشر أو غير مباشر على الإنتاج والإنتاجية واستغلال الطاقات المتاحة.
ويقودنا تشخيص جذور أزمة الغذاء في الوطن العربي وتحليل العوامل الكامنة وراءها إلى الحديث عن جملة من العوامل المؤثرة فيها, يمكن تلخيصها في:
العوامل الديمغرافية.
العوامل الطبيعية.
الخيارات التنموية الكلية.
والسؤال الذي يُِِطرح هنا: ما تأثير هذه العوامل في مشكلة الفجوة الغذائية ودرجة الاكتفاء الذاتي؟ وللإجابة على هذا التساؤل سنحاول رصد ملامح الأزمة الغذائية, ثم العوامل المؤثرة في الأزمة، وأخيرا أبعاد هذه الأزمة.
أولا: ملامح الأزمة الغذائية العربية
تعتمد أغلبية الأقطار العربية على القطاع الزراعي في توفير المنتجات الغذائية والمدخلات الوسيطة للصناعات التحويلية وخلق فرص العمل لفئات واسعة من السكان, بالإضافة إلى مساهمته في توفير العملات الصعبة وبالتالي تمويل برامج التنمية. ويعيق تخلف القطاع الزراعي مسيرة التنمية في القطاعات الأخرى, لهذا فإن تنمية هذا القطاع يجب أن تحتل مكانة متميزة في التوجهات التنموية العربية, خاصة بعد تزايد السكان وزيادة الطلب على السلع الغذائية.
وقد تطورت الأزمة الغذائية في الدول العربية تبعا لمعدلات نمو الإنتاج والطلب الاستهلاكي على المنتجات الغذائية. وقد أصبح هناك شبه إجماع على أن أزمة الغذاء في الوطن العربي قد وصلت إلى حد حرج يتجلى في تنامي الاعتماد على المصادر الخارجية لإطعام السكان, وتدهور نصيب الفرد من الناتج الزراعي، وتراجع مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي .
وقد تراجع نصيب الفرد من الإنتاج الزراعي في السنوات الأخيرة, إذ انتقل من حوالي 315 دولارا أميركيا عام 1998 إلى حوالي 298 دولارا عام 2000. ويتضح كذلك تناقص مساهمة الزراعة في الناتج المحلي من حوالي 14% تقريبا سنة 1998 إلى 11.3 % سنة 2000، كما يظهر تدهور قيمة الإنتاج الزراعي.
وقد أدى ضعف أداء القطاع الزراعي إلى زيادة الواردات من السلع الغذائية لتلبية حاجيات مواطني الدول العربية من الأغذية الضرورية وليس لتحسين نوعيتها، وهو ما يظهر جليا في شبه ثبات نصيب الفرد اليومي في أغلب الدول العربية, من إمدادات السعرات الحرارية مثلا . كما يعمق هذا الضعف الهوة بين الطلب على الغذاء والإنتاج المحقق، ويرجح فرضية أن الوطن العربي ينتج أقل مما يستهلك وليس يستهلك أكثر مما ينتج.
إن الموارد الطبيعية الهامة كوفرة الأراضي القابلة للزراعة والمياه والظروف المناخية المساعدة, عوامل تلعب دورا مهما في عمليات التوسع الإنتاجي. ومن المجمع عليه أن الإنتاج الغذائي يعتمد بصفة خاصة -وإلى حد كبير- على الظروف الطبيعية، إلا أنه من شبه المؤكد أن الحالة الراهنة التي عليها الوطن العربي من عجز غذائي تعود إلى كون الإمكانات والموارد المتاحة عربيا غير مستغلة بصفة مثلى في أغلب الأقطار العربية. فالوطن العربي يزخر بأراض هامة قابلة للزراعة تقدر بحوالي 197 مليون هكتار, بالإضافة إلى موارده البشرية التي تبلغ 297.1 مليون نسمة, منها 27.4 مليون فرد يعملون في قطاع الزراعة عام 2000 (التقرير الاقتصادي, ص 37). ورغم المحدودية النسبية في بعض ضروريات التوسع الإنتاجي الزراعي مثل المياه، فإن للوطن العربي من المقومات ما يكفي ليخرج من وضعية المستورد للغذاء إلى وضعية المصدر له.
ثانيا: العوامل المؤثرة في أزمة الغذاء
1- العوامل الديموغرافيةيعد التزايد السكاني المذهل الذي عرفه الوطن العربي في العقود الماضية من المبررات التي تصاغ لمشكلة الغذاء في المنطقة، فقد شهد حجم السكان تسارعا ملحوظا بمعدل بلغ تقريبا حوالي 3% سنويا عام 2000, وهو معدل يفوق متوسط معدلات نمو الإنتاج الزراعي في نفس الفترة, مما أدى إلى اختلالات على مستوى عرض وطلب الغذاء. كما أن هذا التزايد الكمي للسكان رافقه تغيير جوهري في توزيع السكان بين الريف والحضر، فقد أدت الهجرة الريفية إلى المدن داخل البلد الواحد أو/ وبين الدول العربية (الطالبة للعمالة), إلى تزايد كبير لسكان المدن وحرمان القطاع الزراعي في المناطق الريفية من اليد العاملة, مما أدى إلى تراجع أداء القطاع الزراعي في هذه المناطق.
كما أدى تحسن الوضع الاقتصادي إجمالا في معظم الأقطار العربية في العقد الماضي, إلى ارتفاع مستويات الدخول الفردية وتغيير النمط الغذائي الاستهلاكي تبعا لذلك، وإلى تراجع نسبة السكان الزراعيين إلى مجموع السكان نتيجة استقطابهم من طرف القطاعات الأخرى. ويصاحب النمو الاقتصادي -عادة- تعديل في توزيع السكان بين الريف والحضر, بحيث يتوالى انخفاض سكان الأرياف وازدياد سكان الحضر. ويؤدي هذا التعديل إلى التوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية وبالتالي فإن الهجرة الريفية تؤدي إلى تذبذب الإنتاج الزراعي ما لم يقابلها تحسن ملحوظ في إنتاجية المزارعين.
وقد أثبتت الدراسات أن متوسط الاستهلاك الكلي أعلى وأكثر تنوعا في الحضر منه في الريف، فانتشار الحضر وتركز السكان يدفعان إلى زيادة الطلب على السلع الغذائية وتغيير أنماطه بفعل محاكاة النمط الاستهلاكي المستورد, ونتيجة للتحسن في القدرات الشرائية للأفراد الذين أصبحوا يتوقون إلى استهلاك أفضل وأكثر تنوعا.
2 - العوامل الطبيعيةرغم الإمكانات الطبيعية –الزراعية التي تهمنا هنا- الهائلة التي يحظى بها الوطن العربي من مساحة قابلة للزراعة تبلغ حوالي 197 مليون هكتار, فإن الوطن العربي لم يفلح بعد في إشباع حاجيات مواطنيه من إنتاج أراضيه. فقد أدى عدم كفاية مصادر المياه وسوء استغلالها والميل نحو الانتقال من الزراعة المطرية إلى الزراعة المروية, إلى تزايد سريع للطلب على المياه وخاصة المياه الجوفية مما عمّق مشكلة الغذاء.
ويعزى قصور الإنتاج الزراعي العربي بشكل عام عن إشباع الحاجيات الغذائية إلى جملة من العوامل أهمها:
انخفاض نسبة الأراضي الصالحة للزراعة مقارنة مع المساحة الكلية, حيث لا تمثل سوى 14.1% منها. كما يلاحظ تدني نسبة ما هو مزروع فعلا من هذه المساحة, إذ تصل مساحة الأراضي الزراعية حوالي 35% من مجموع الأراضي القابلة للزراعة، وهو ما يبرهن على أن نحو ثلثي الأراضي القابلة للزراعة ليس مستغلا.
اعتماد أغلب الزراعات العربية على العوامل المناخية التي تتميز بالتذبذب والتقلب من عام إلى آخر.
ندرة المياه وسوء استغلالها وهدرها، إذ يعد الوطن العربي من أقل مناطق العالم وفرة للمياه. فبينما تضم المنطقة أكثر من 4.5% من سكان العالم فإنه لا يوجد في المنطقة ما يقارب 1% من الموارد المائية العالمية المتجددة, كما لا يتجاوز معدل حصة الفرد حاليا من الموارد المائية حوالي 1000 متر مكعب في السنة مقابل 7000 متر مكعب للفرد في العالم كمتوسط سنوي.
كما يمكن تحسين استغلال هذه الموارد لتعويض النقص الكمي الحاصل فيها عن طريق اتباع أساليب الري العصرية والترشيد. وتقدر جملة الموارد المائية المتاحة عربيا بحوالي 265 مليار متر مكعب في السنة, منها حوالي 230 مليار متر مكعب مياه سطحية و35 مليار متر مكعب مياه جوفية. وهي كميات محدودة جدا. والعجز المائي اللازم لإنتاج هذا الغذاء محليا يقدر بـ50 مليار متر مكعب في السنة بينما جملة الاستخدامات المائية العربية حوالي 190.7 مليار متر مكعب في السنة, أي ما يعادل 72% من الموارد المائية المتاحة وتستخدم الزراعة منها نسبة 87% أي ما يعادل 166.5 مليار متر مكعب في السنة.
ولئن كان للانفجار السكاني دور سلبي في عرض الإنتاج الزراعي أصبح بموجبه هذا الأخير غير قادر على مواجهة الطلب على السلع الغذائية, فإن لهذا التزايد البشري علاقة بالموارد الطبيعية. فبالإضافة إلى ندرة الموارد الطبيعية أصلا, فإن للتصحر والجفاف والتعرية والتحولات التي يعرفها المناخ ودور الإنسان في الاستنزاف اللاعقلاني للخيرات الطبيعية وتدمير البيئة دورا كبيرا في استفحال أزمة الغذاء في الوطن العربي.
3- الخيارات التنموية الكلية
يقودنا فشل الجهود العربية في تأمين ما يحتاجه الوطن العربي من الغذاء إلى التساؤل عن المكانة المعطاة لتنمية القطاع الزراعي ضمن مخططات التنمية الاقتصادية التي تبنتها الدول العربية في الماضي. وتنطوي عملية التنمية عادة على تحول الاقتصاد من وضع تهيمن فيه الزراعة إلى اقتصاد يتعاظم فيه دور القطاعات الاقتصادية الأخرى. وفي كثير من الإستراتيجيات التنموية في الدول النامية -ومنها الدول العربية- التي تتراوح بين التنمية القائمة التصنيع, من خلال بدائل الواردات أو إستراتيجية النمو الذي تقوده الصادرات, لا تقوم الزراعة إلا بدور ثانوي داعم. وكثيرا ما كانت تغفل أهمية التفاعلات الإيجابية بين الزراعة والقطاعات الأخرى، كما لا يعطى اهتمام كبير لتعزيز البحث والاستثمارات في الزراعة. فكثير من اقتصاديي التنمية لم يعيروا القطاع الزراعي إلا أهمية ضئيلة نسبيا –مع بعض الاستثناءات– رغم قول بعض الاقتصاديين إن أي ثورة صناعية تحدث لابد أن تسبقها بعقود على الأقل ثورة خضراء أو زراعية كما حدث في الصين واليابان.
وقد اتجه طموح أغلب الدول النامية منذ حصولها على الاستقلال من أجل تحقيق التنمية, إلى التصنيع بالدرجة الأولى باعتباره مرادفا للتنمية والتقدم مما جعلها تقع في خطأ فادح هو إهمال التنمية الزراعية والتركيز على إنشاء بعض الوحدات الصناعية التي كانت تعتبرها معبرا بالاقتصاد الوطني من حالة التخلف التي ورثها من الحقبة الاستعمارية. وقد تركزت النسبة الكبرى من الاستثمارات العامة في القطاعات الأخرى على حساب القطاع الزراعي, باعتباره قطاعا غير مولد للنمو.
ولم تكن الدول العربية أكثر حظا من باقي دول العالم الثالث, فقد اتجهت الإستراتيجيات التنموية نحو التصنيع على أساس أنه يعني التنمية، مما أدى إلى تعبئة الموارد المالية وتكثيف الجهود للنهوض بالاستثمارات في القطاع الصناعي، وذلك على حساب القطاعات الأخرى وخصوصا الفلاحة.
إن الاهتمام بالتنمية الصناعية الذي اتسم به عقدا الخمسينات والستينات في معظم الدول النامية ومعها الدول العربية, بدأ في التراجع مع مطلع السبعينات بعدما بدا واضحا أنه بدون تنمية زراعية, مما سيجعل هذه الدول تجد نفسها أمام مأزق غذائي يقود إلى استيراد الغذاء من الخارج وما ينجر عن ذلك الاستيراد من استنزاف للمتاح من النقد الأجنبي. كما أن تخلف القطاع الزراعي يحرم القطاعات الأخرى -خصوصا الصناعية- من المواد الأولية اللازمة لها, مما يؤدي إلى حدوث اختناقات تنموية حادة.
ويعد إهمال القطاع الزراعي في التوجهات التنموية العامة -وفي المراحل الأولى لظهور بوادر الأزمة الغذائية- أحد أهم العوامل الكامنة وراء تعميق العجز الغذائي العربي، بالإضافة إلى عدم نجاعة السياسات الزراعية المتبعة للحد من التبعية الغذائية للخارج وتحقيق الاكتفاء الذاتي على المستوى القطري أو القومي.
وشهدت العقود الأخيرة (الثمانينات والتسعينات) خطوات متسارعة -ضمن السياسات الزراعية- نحو خصخصة وتحرير أسعار منتجات القطاع الزراعي في عدد من الدول العربية مثل مصر والأردن والمغرب والسودان وموريتانيا والجزائر وتونس. وقد أدت هذه الإجراءات إلى تقليل دور الدولة في الإنتاج والتسويق وحل بعض المؤسسات الحكومية وتصفيتها، واقتصار دور الدولة في كثير من الأحيان على وضع الخطط ومتابعتها، والإسهام في برامج التنمية الريفية وتنفيذ مشروعات البنية الأساسية الزراعية وتطوير مراكز البحث والإرشاد الزراعي. وقد أدت هذه السياسات إلى تحسن أداء القطاع الزراعي في هذه الدول.
وإذا كان للعوامل الديمغرافية والطبيعية والتوجهات التنموية العامة دور أساسي في تفسير الحالة الغذائية التي يعيشها الوطن العربي, فإن أهم أسباب العجز الغذائي العربي تكمن في التوزيع غير المتوازن بين الأقطار العربية للموارد والطاقات اللازمة للتنمية الزراعية, من موارد طبيعية وبشرية ومالية. فقد شاءت الأقدار أن يوجد معظم الموارد الزراعية العربية –سواء المياه أو الأراضي القابلة للزراعة– في بلدان تتميز بشح مواردها المالية، كما شاءت هذه الأقدار من جهة أخرى أن تنعكس الصورة بحيث يتوافر في عدد قليل من البلدان العربية ثروة نفطية هائلة تقابلها ندرة وشح في الأراضي الصالحة للزراعة والمياه مع بعض الاستثناء.
ولكون الموارد المالية في الأقطار النفطية عاجزة عن إنتاج ما يكفي هذه الدول من الغذاء, وبقاء جزء كبير من الأراضي القابلة للزراعة غير مستغل أو بإنتاجية هزيلة في الأقطار الأخرى بسبب ضعف الاستثمارات ونقص تمويلها, فإنه يصبح من الضروري تعجيل التكامل بين هذه الأقطار من أجل الخروج من المأزق الغذائي الذي تعاني منه هذه الدول.
وما يثير الدهشة هو أن نرى الوطن العربي بما يملكه من موارد طبيعية وبشرية ومالية أصبح عاجزا عن تلبية طلب أبنائه من الغذاء من إنتاجه المحلي؟! ومع تزايد قصور الإنتاج الغذائي عن مقابلة معدلات الطلب الاستهلاكي على السلع الغذائية, ظلت الفجوة الغذائية العربية تتسع حتى أصبحت في الوقت الراهن من أكبر التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي.
ثالثا- أبعاد الأزمة الغذائية
بدأت المشكلة الغذائية في الوطن العربي مع بداية السبعينات, حتى أصبحت في نهاية العقد الماضي واحدة من أخطر المعضلات التي تواجهها دول المنطقة العربية, بعد أن وصلت إلى مستويات حرجة لتبلغ قيمة الفجوة الغذائية حوالي 14 مليار دولار. ويمكن قياس تجليات المشكلة الغذائية هذه بحجم وتطور الفجوة الغذائية ودرجة الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية.
الفجوة الغذائية العربية:تتصف الفجوة الغذائية العربية بالتذبذب من سنة لأخرى بسبب التغير في الإنتاج الزراعي (النباتي والحيواني) وحجم الاستهلاك وتقلبات الأسعار العالمية للسلع الغذائية. ويعاني الوطن العربي من فجوة غذائية حادة في تزايد مع الزمن منذ بداية التسعينات. وأصبح تمويل استيراد الغذاء عبئا تئن تحت وطأته معظم الموازنات المالية لمعظم الدول العربية، ويستنزف جزءاً لا يستهان به من الدخل القومي العربي يتجه نحو الأسواق العالمية لسد الحاجة المتفاقمة إلى الغذاء في الوطن العربي.وهناك عجز في معظم السلع الغذائية في الدول العربية، وتعتبر الحبوب -خاصة القمح- من أهم السلع الغذائية المستوردة, إذ تمثل نسبة وارداتها حوالي 50% من الواردات الغذائية وهو ما يعادل ما قيمته حوالي 6 مليارات دولار عام 1999. كما يستورد الوطن العربي ثلثي احتياجاته من السكر وأكثر من نصف احتياجاته من الزيوت والشحوم وحوالي ثلث متطلباته من اللبن والبقوليات. وتبلغ نسبة الاكتفاء الذاتي من الخضر والفواكه حوالي 100% وترتفع هذه لتسمح بإنتاج فائض للتصدير بالنسبة للأسماك.
الاكتفاء الذاتي:مالت نسبة الاكتفاء الذاتي في الوطن العربي من الغذاء منذ بداية السبعينات إلى التدهور، وأصبحت في السنوات الأخيرة شديدة التدني، وترتب على ذلك أن اعتبرت المنطقة العربية من أكثر مناطق العالم استيرادا للغذاء. ويتضح من الجدول رقم (2) انخفاض نسبة الاكتفاء الذاتي العربي من أهم السلع الغذائية مثل الحبوب التي بلغت نسبة الاكتفاء الذاتي منها حوالي 50% فقط عام 1999. وبالنسبة للشعير والقمح فقد بلغت النسبة 33.5% و49.2% على التوالي في نفس العام. وهناك عجز في معظم السلع الغذائية في الوطن العربي باستثناء الأسماك والخضر والفواكه وبدرجة أقل البطاطس والبيض.
ويشكل تدهور معدلات الاكتفاء الذاتي العربي خطرا على الأمن الغذائي الذي يمثل أحد المكونات الأساسية للأمن القومي العربي من منظوره الاقتصادي. فالأمن الغذائي الذي يعني قدرة المجتمع على تأمين احتياجاته الاستهلاكية من السلع الغذائية الأساسية بإنتاجها محليا أو باستيرادها من الخارج, ليس هو تحقيق الاكتفاء الذاتي الذي غالبا ما يعني إنتاج كافة الاحتياجات الغذائية الأساسية محليا, وإنما يتعداه إلى تأمين مصادر الحصول على الغذاء محليا أو/ ودوليا.
إن الدول العربية تعتمد في الوقت الحاضر على الاستيراد من الخارج لسد العجز في احتياجاتها من الغذاء، وهنا تنبغي الإشارة إلى بعض الحقائق المتصلة بهذا الوضع:
أن التركيب السلعي للواردات الغذائية العربية يعكس أهمية السلع الضرورية للحياة والتي يصعب الاستغناء عنها أو التقليل من حجمها الاستهلاكي بسهولة إلا بقدر طفيف، مثل الحبوب التي تعتبر سلعة حساسة في نظام المستهلك.
طبيعة الأسواق الغذائية العالمية التي تحتكرها مجموعة قليلة من الدول والشركات المتعددة الجنسية, وما تملكه هذه القوى من إمكانية التأثير في هذه الأسواق والتحكم في أسعار السلع الغذائية واستخدام الغذاء كسلاح ضغط وعقوبة لترويض الحكومات المارقة من وجهة نظر هذه الأطراف المهيمنة.
ضعف القدرة التفاوضية للدول المستوردة للغذاء بسبب تعاملها منفردة مع القوى الفاعلة في الأسواق الغذائية الدولية وضعف هامش المساومة نتيجة حساسية الغذاء ودوره في الاستقرار السياسي والاقتصادي.
إن تعاظم الفجوة الغذائية وتدهور نسب الاكتفاء الذاتي في الوطن العربي يسمح بالقول إن الأمن الغذائي مازال حلما لم يتحقق حتى هذه اللحظات، ويتطلب تحقيقه في المستقبل اتخاذ جملة من المواقف والإجراءات الموحدة والمتكاملة لإزالة المشاكل التي تعيق التنمية بصورة عامة والتنمية الزراعية على وجه الخصوص.
ويتطلب الخروج من المأزق الغذائي جهودا عربية جادة على طريق التكامل في جميع الأصعدة وبالذات الصعيد الزراعي. إلا أن جهود التكامل العربي مازالت تنقصها الإرادة السياسية وحكومات مسؤولة وقوى ناشطة لتحقيق هذا الهدف الذي أصبح المخرج الوحيد للوطن العربي من الأزمات التي يعاني منها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. وقد آن الأوان لإحداث تحولات سياسية جذرية تكرس الديمقراطية -كما أشار إلى ذلك تقرير التنمية البشرية الأخير- وتفسح الطريق أمام الشعوب للتأثير بالطرق الديمقراطية في القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المصيرية وفي طرق تنفيذها ومتابعتها.
إن تحقيق الأمن الغذائي لأي أمة وللأمة العربية على وجه الخصوص, قضية محورية يجب عدم تركها للظروف المتغيرة ولا للعوامل الخارجية لتتحكم فيها، وإنما يجب السعي وبكل جدية إلى ضمان أمن مستديم من خلال زيادة العناية بالقطاع الزراعي وتوسيع قاعدة العمل المنتج وتحسين الإنتاجية.
الخلاصة
لم تكن الأزمة الغذائية في الوطن العربي إلى حد كبير –وحتى عهد قريب– مشكلة نقص أو شح في الموارد المتاحة، ولا نموا سكانيا متسارعا أو عجزا في الإمكانات المالية, وإنما هي بالدرجة الأولى مسألة فشل أو خلل في السياسات الزراعية وسوء استغلال لما هو متاح للوطن العربي من موارد، فهي جزء من مسألة التنمية العربية في جوهرها، بأنماطها الإنتاجية والاستهلاكية والتوزيعية على المستوى القطري والقومي.
ويتضح من العرض السابق أن الفجوة الغذائية في الوطن العربي التي بلغت مستويات حرجة, هي حصيلة تفوق معدلات نمو الطلب على معدلات نمو الإنتاج الغذائي. ويعود ذلك إلى عدة عوامل تؤدي إلى زيادة الطلب أو/ وتباطؤ الإنتاج, ويمكن إيجازها في النقاط التالية:
ارتفاع معدلات النمو الديمغرافي.
التحسن في مستويات الدخول.
تدني نسبة الأراضي المزروعة فعلا.
أهمية الزراعات المطرية مقارنة بالمروية حيث تعتمد الأولى بشكل أساسي على الظروف المناخية.
النمط الاستهلاكي إذ تشكل الحبوب أهم سلعة غذائية استهلاكية في عديد الدول العربية.
التوزيع اللامتكافئ للموارد الزراعية في الوطن العربي.
ندرة المياه وسوء استغلال المتاح منها وهدره.
تدني الإنتاجية الزراعية وفشل السياسات الزراعية إجمالا ونظرتها الانعزالية أو القطرية.
ورغم ما يعانيه الوطن العربي من مشكلة غذائية آخذة في الاتساع, فإنه يملك من المقومات والإمكانات الموضوعية ما يكفيه ليس فقط لسد حاجياته من الغذاء فحسب, بل لتحقيق فائض يصدره إلى العالم الخارجي.
إن التفاعل بين ندرة الموارد الزراعية (المياه والأراضي الصالحة للزراعة) وبين وفرة النفط وعوائده في الوطن العربي، يشكل أحد المرتكزات الأساسية التي تحدد مستقبل التكامل الاقتصادي العربي. وقد أصبح جليا أن على العرب أن لا يعملوا فقط على تجاوز أزمات ظرفية وقصيرة المدى, وإنما هم مطالبون باتخاذ مواقف حاسمة وإستراتيجية تتمثل في دمج قواهم في قوة واحدة حقيقية تمكنهم من بناء كتلة اقتصادية فاعلة في عصر التكتلات الزاحف, تضمن استغلال وحماية مواردهم بشكل أفضل لضمان مستوى معيشة وكرامة أفضل لمواطنيهم، وتضمن توفير الحاجيات الغذائية العربية محليا (قوميا) في عصر قد يكون فيه الغذاء أحد الأسلحة الفتاكة وللتحرر من التبعية الغذائية وما ينجر عنها من ضغوطات سياسية واقتصادية. فما هو مصير أمة تأكل ما لا تزرع؟ وكيف يملك قراره الاقتصادي والسياسي من هو مربوط بأمعائه قبل عنقه؟
يحلل الباحث في هذا المقال بعض مظاهر أزمة الغذاء في العالم العربي مركزا على تدني مستوى الاكتفاء وحجم الفجوة الغذائية وتطورها وحجم المعونات الغذائية، كما يحلل أسباب الأزمة مركزا على العوامل الديموغرافية والطبيعية والخيارات التنموية الاقتصادية الكلية وأثرها على استفحال الأزمة.
مقدمة:
استقطبت مسألة التنمية الزراعية والغذاء اهتماما كبيرا على مستوى الوطن العربي في الآونة الأخيرة، شمل الجانب النظري والانشغالات الأكاديمية كما شمل الجانب التطبيقي والإجراءات العملية.
وليس منبع هذا الاهتمام أن الغذاء يشكل جوهر صراع الإنسان من أجل البقاء, بل لعل فشل هذه الجهود في تجاوز المشكلة الغذائية التي يعاني منها الوطن العربي زاد من ضرورة تقييم ومراجعة هذه الجهود. فقد دخلت أوضاع الزراعة والغذاء في الوطن العربي منذ منتصف السبعينات مرحلة حرجة, تمثلت في تنامي الطلب على المنتجات الزراعية عموما والغذائية على وجه الخصوص, نتيجة ارتفاع معدلات النمو الديمغرافي والقفزة النوعية في الدخول الفردية في بعض الدول العربية (النفطية منها), بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الأسواق العالمية وتقلص الأهمية النسبية للقطاع الزراعي في الهياكل الاقتصادية العربية. وقد نجم عن هذا الوضع تفاقم العجز الغذائي وبالتالي اللجوء إلى المصادر الأجنبية لسد هذا العجز.
وتعتبر أسباب الفجوة الغذائية العربية متعددة ومتشعبة, ويختلف الدور الذي تلعبه هذه الأسباب في تعميق هذه الأزمة حسب طبيعة الدول من حيث ثقلها السكاني وتوزيعهم بين الريف والحضر، وندرة أو محدودية الموارد الطبيعية والمالية، أو عدم نجاعة الهياكل الإدارية والتنظيمية في الدول، وعدم الاهتمام بالزراعة ضمن مخططات التنمية. وهي عوامل لها تأثير مباشر أو غير مباشر على الإنتاج والإنتاجية واستغلال الطاقات المتاحة.
ويقودنا تشخيص جذور أزمة الغذاء في الوطن العربي وتحليل العوامل الكامنة وراءها إلى الحديث عن جملة من العوامل المؤثرة فيها, يمكن تلخيصها في:
العوامل الديمغرافية.
العوامل الطبيعية.
الخيارات التنموية الكلية.
والسؤال الذي يُِِطرح هنا: ما تأثير هذه العوامل في مشكلة الفجوة الغذائية ودرجة الاكتفاء الذاتي؟ وللإجابة على هذا التساؤل سنحاول رصد ملامح الأزمة الغذائية, ثم العوامل المؤثرة في الأزمة، وأخيرا أبعاد هذه الأزمة.
أولا: ملامح الأزمة الغذائية العربية
تعتمد أغلبية الأقطار العربية على القطاع الزراعي في توفير المنتجات الغذائية والمدخلات الوسيطة للصناعات التحويلية وخلق فرص العمل لفئات واسعة من السكان, بالإضافة إلى مساهمته في توفير العملات الصعبة وبالتالي تمويل برامج التنمية. ويعيق تخلف القطاع الزراعي مسيرة التنمية في القطاعات الأخرى, لهذا فإن تنمية هذا القطاع يجب أن تحتل مكانة متميزة في التوجهات التنموية العربية, خاصة بعد تزايد السكان وزيادة الطلب على السلع الغذائية.
وقد تطورت الأزمة الغذائية في الدول العربية تبعا لمعدلات نمو الإنتاج والطلب الاستهلاكي على المنتجات الغذائية. وقد أصبح هناك شبه إجماع على أن أزمة الغذاء في الوطن العربي قد وصلت إلى حد حرج يتجلى في تنامي الاعتماد على المصادر الخارجية لإطعام السكان, وتدهور نصيب الفرد من الناتج الزراعي، وتراجع مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي .
وقد تراجع نصيب الفرد من الإنتاج الزراعي في السنوات الأخيرة, إذ انتقل من حوالي 315 دولارا أميركيا عام 1998 إلى حوالي 298 دولارا عام 2000. ويتضح كذلك تناقص مساهمة الزراعة في الناتج المحلي من حوالي 14% تقريبا سنة 1998 إلى 11.3 % سنة 2000، كما يظهر تدهور قيمة الإنتاج الزراعي.
وقد أدى ضعف أداء القطاع الزراعي إلى زيادة الواردات من السلع الغذائية لتلبية حاجيات مواطني الدول العربية من الأغذية الضرورية وليس لتحسين نوعيتها، وهو ما يظهر جليا في شبه ثبات نصيب الفرد اليومي في أغلب الدول العربية, من إمدادات السعرات الحرارية مثلا . كما يعمق هذا الضعف الهوة بين الطلب على الغذاء والإنتاج المحقق، ويرجح فرضية أن الوطن العربي ينتج أقل مما يستهلك وليس يستهلك أكثر مما ينتج.
إن الموارد الطبيعية الهامة كوفرة الأراضي القابلة للزراعة والمياه والظروف المناخية المساعدة, عوامل تلعب دورا مهما في عمليات التوسع الإنتاجي. ومن المجمع عليه أن الإنتاج الغذائي يعتمد بصفة خاصة -وإلى حد كبير- على الظروف الطبيعية، إلا أنه من شبه المؤكد أن الحالة الراهنة التي عليها الوطن العربي من عجز غذائي تعود إلى كون الإمكانات والموارد المتاحة عربيا غير مستغلة بصفة مثلى في أغلب الأقطار العربية. فالوطن العربي يزخر بأراض هامة قابلة للزراعة تقدر بحوالي 197 مليون هكتار, بالإضافة إلى موارده البشرية التي تبلغ 297.1 مليون نسمة, منها 27.4 مليون فرد يعملون في قطاع الزراعة عام 2000 (التقرير الاقتصادي, ص 37). ورغم المحدودية النسبية في بعض ضروريات التوسع الإنتاجي الزراعي مثل المياه، فإن للوطن العربي من المقومات ما يكفي ليخرج من وضعية المستورد للغذاء إلى وضعية المصدر له.
ثانيا: العوامل المؤثرة في أزمة الغذاء
1- العوامل الديموغرافيةيعد التزايد السكاني المذهل الذي عرفه الوطن العربي في العقود الماضية من المبررات التي تصاغ لمشكلة الغذاء في المنطقة، فقد شهد حجم السكان تسارعا ملحوظا بمعدل بلغ تقريبا حوالي 3% سنويا عام 2000, وهو معدل يفوق متوسط معدلات نمو الإنتاج الزراعي في نفس الفترة, مما أدى إلى اختلالات على مستوى عرض وطلب الغذاء. كما أن هذا التزايد الكمي للسكان رافقه تغيير جوهري في توزيع السكان بين الريف والحضر، فقد أدت الهجرة الريفية إلى المدن داخل البلد الواحد أو/ وبين الدول العربية (الطالبة للعمالة), إلى تزايد كبير لسكان المدن وحرمان القطاع الزراعي في المناطق الريفية من اليد العاملة, مما أدى إلى تراجع أداء القطاع الزراعي في هذه المناطق.
كما أدى تحسن الوضع الاقتصادي إجمالا في معظم الأقطار العربية في العقد الماضي, إلى ارتفاع مستويات الدخول الفردية وتغيير النمط الغذائي الاستهلاكي تبعا لذلك، وإلى تراجع نسبة السكان الزراعيين إلى مجموع السكان نتيجة استقطابهم من طرف القطاعات الأخرى. ويصاحب النمو الاقتصادي -عادة- تعديل في توزيع السكان بين الريف والحضر, بحيث يتوالى انخفاض سكان الأرياف وازدياد سكان الحضر. ويؤدي هذا التعديل إلى التوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية وبالتالي فإن الهجرة الريفية تؤدي إلى تذبذب الإنتاج الزراعي ما لم يقابلها تحسن ملحوظ في إنتاجية المزارعين.
وقد أثبتت الدراسات أن متوسط الاستهلاك الكلي أعلى وأكثر تنوعا في الحضر منه في الريف، فانتشار الحضر وتركز السكان يدفعان إلى زيادة الطلب على السلع الغذائية وتغيير أنماطه بفعل محاكاة النمط الاستهلاكي المستورد, ونتيجة للتحسن في القدرات الشرائية للأفراد الذين أصبحوا يتوقون إلى استهلاك أفضل وأكثر تنوعا.
2 - العوامل الطبيعيةرغم الإمكانات الطبيعية –الزراعية التي تهمنا هنا- الهائلة التي يحظى بها الوطن العربي من مساحة قابلة للزراعة تبلغ حوالي 197 مليون هكتار, فإن الوطن العربي لم يفلح بعد في إشباع حاجيات مواطنيه من إنتاج أراضيه. فقد أدى عدم كفاية مصادر المياه وسوء استغلالها والميل نحو الانتقال من الزراعة المطرية إلى الزراعة المروية, إلى تزايد سريع للطلب على المياه وخاصة المياه الجوفية مما عمّق مشكلة الغذاء.
ويعزى قصور الإنتاج الزراعي العربي بشكل عام عن إشباع الحاجيات الغذائية إلى جملة من العوامل أهمها:
انخفاض نسبة الأراضي الصالحة للزراعة مقارنة مع المساحة الكلية, حيث لا تمثل سوى 14.1% منها. كما يلاحظ تدني نسبة ما هو مزروع فعلا من هذه المساحة, إذ تصل مساحة الأراضي الزراعية حوالي 35% من مجموع الأراضي القابلة للزراعة، وهو ما يبرهن على أن نحو ثلثي الأراضي القابلة للزراعة ليس مستغلا.
اعتماد أغلب الزراعات العربية على العوامل المناخية التي تتميز بالتذبذب والتقلب من عام إلى آخر.
ندرة المياه وسوء استغلالها وهدرها، إذ يعد الوطن العربي من أقل مناطق العالم وفرة للمياه. فبينما تضم المنطقة أكثر من 4.5% من سكان العالم فإنه لا يوجد في المنطقة ما يقارب 1% من الموارد المائية العالمية المتجددة, كما لا يتجاوز معدل حصة الفرد حاليا من الموارد المائية حوالي 1000 متر مكعب في السنة مقابل 7000 متر مكعب للفرد في العالم كمتوسط سنوي.
كما يمكن تحسين استغلال هذه الموارد لتعويض النقص الكمي الحاصل فيها عن طريق اتباع أساليب الري العصرية والترشيد. وتقدر جملة الموارد المائية المتاحة عربيا بحوالي 265 مليار متر مكعب في السنة, منها حوالي 230 مليار متر مكعب مياه سطحية و35 مليار متر مكعب مياه جوفية. وهي كميات محدودة جدا. والعجز المائي اللازم لإنتاج هذا الغذاء محليا يقدر بـ50 مليار متر مكعب في السنة بينما جملة الاستخدامات المائية العربية حوالي 190.7 مليار متر مكعب في السنة, أي ما يعادل 72% من الموارد المائية المتاحة وتستخدم الزراعة منها نسبة 87% أي ما يعادل 166.5 مليار متر مكعب في السنة.
ولئن كان للانفجار السكاني دور سلبي في عرض الإنتاج الزراعي أصبح بموجبه هذا الأخير غير قادر على مواجهة الطلب على السلع الغذائية, فإن لهذا التزايد البشري علاقة بالموارد الطبيعية. فبالإضافة إلى ندرة الموارد الطبيعية أصلا, فإن للتصحر والجفاف والتعرية والتحولات التي يعرفها المناخ ودور الإنسان في الاستنزاف اللاعقلاني للخيرات الطبيعية وتدمير البيئة دورا كبيرا في استفحال أزمة الغذاء في الوطن العربي.
3- الخيارات التنموية الكلية
يقودنا فشل الجهود العربية في تأمين ما يحتاجه الوطن العربي من الغذاء إلى التساؤل عن المكانة المعطاة لتنمية القطاع الزراعي ضمن مخططات التنمية الاقتصادية التي تبنتها الدول العربية في الماضي. وتنطوي عملية التنمية عادة على تحول الاقتصاد من وضع تهيمن فيه الزراعة إلى اقتصاد يتعاظم فيه دور القطاعات الاقتصادية الأخرى. وفي كثير من الإستراتيجيات التنموية في الدول النامية -ومنها الدول العربية- التي تتراوح بين التنمية القائمة التصنيع, من خلال بدائل الواردات أو إستراتيجية النمو الذي تقوده الصادرات, لا تقوم الزراعة إلا بدور ثانوي داعم. وكثيرا ما كانت تغفل أهمية التفاعلات الإيجابية بين الزراعة والقطاعات الأخرى، كما لا يعطى اهتمام كبير لتعزيز البحث والاستثمارات في الزراعة. فكثير من اقتصاديي التنمية لم يعيروا القطاع الزراعي إلا أهمية ضئيلة نسبيا –مع بعض الاستثناءات– رغم قول بعض الاقتصاديين إن أي ثورة صناعية تحدث لابد أن تسبقها بعقود على الأقل ثورة خضراء أو زراعية كما حدث في الصين واليابان.
وقد اتجه طموح أغلب الدول النامية منذ حصولها على الاستقلال من أجل تحقيق التنمية, إلى التصنيع بالدرجة الأولى باعتباره مرادفا للتنمية والتقدم مما جعلها تقع في خطأ فادح هو إهمال التنمية الزراعية والتركيز على إنشاء بعض الوحدات الصناعية التي كانت تعتبرها معبرا بالاقتصاد الوطني من حالة التخلف التي ورثها من الحقبة الاستعمارية. وقد تركزت النسبة الكبرى من الاستثمارات العامة في القطاعات الأخرى على حساب القطاع الزراعي, باعتباره قطاعا غير مولد للنمو.
ولم تكن الدول العربية أكثر حظا من باقي دول العالم الثالث, فقد اتجهت الإستراتيجيات التنموية نحو التصنيع على أساس أنه يعني التنمية، مما أدى إلى تعبئة الموارد المالية وتكثيف الجهود للنهوض بالاستثمارات في القطاع الصناعي، وذلك على حساب القطاعات الأخرى وخصوصا الفلاحة.
إن الاهتمام بالتنمية الصناعية الذي اتسم به عقدا الخمسينات والستينات في معظم الدول النامية ومعها الدول العربية, بدأ في التراجع مع مطلع السبعينات بعدما بدا واضحا أنه بدون تنمية زراعية, مما سيجعل هذه الدول تجد نفسها أمام مأزق غذائي يقود إلى استيراد الغذاء من الخارج وما ينجر عن ذلك الاستيراد من استنزاف للمتاح من النقد الأجنبي. كما أن تخلف القطاع الزراعي يحرم القطاعات الأخرى -خصوصا الصناعية- من المواد الأولية اللازمة لها, مما يؤدي إلى حدوث اختناقات تنموية حادة.
ويعد إهمال القطاع الزراعي في التوجهات التنموية العامة -وفي المراحل الأولى لظهور بوادر الأزمة الغذائية- أحد أهم العوامل الكامنة وراء تعميق العجز الغذائي العربي، بالإضافة إلى عدم نجاعة السياسات الزراعية المتبعة للحد من التبعية الغذائية للخارج وتحقيق الاكتفاء الذاتي على المستوى القطري أو القومي.
وشهدت العقود الأخيرة (الثمانينات والتسعينات) خطوات متسارعة -ضمن السياسات الزراعية- نحو خصخصة وتحرير أسعار منتجات القطاع الزراعي في عدد من الدول العربية مثل مصر والأردن والمغرب والسودان وموريتانيا والجزائر وتونس. وقد أدت هذه الإجراءات إلى تقليل دور الدولة في الإنتاج والتسويق وحل بعض المؤسسات الحكومية وتصفيتها، واقتصار دور الدولة في كثير من الأحيان على وضع الخطط ومتابعتها، والإسهام في برامج التنمية الريفية وتنفيذ مشروعات البنية الأساسية الزراعية وتطوير مراكز البحث والإرشاد الزراعي. وقد أدت هذه السياسات إلى تحسن أداء القطاع الزراعي في هذه الدول.
وإذا كان للعوامل الديمغرافية والطبيعية والتوجهات التنموية العامة دور أساسي في تفسير الحالة الغذائية التي يعيشها الوطن العربي, فإن أهم أسباب العجز الغذائي العربي تكمن في التوزيع غير المتوازن بين الأقطار العربية للموارد والطاقات اللازمة للتنمية الزراعية, من موارد طبيعية وبشرية ومالية. فقد شاءت الأقدار أن يوجد معظم الموارد الزراعية العربية –سواء المياه أو الأراضي القابلة للزراعة– في بلدان تتميز بشح مواردها المالية، كما شاءت هذه الأقدار من جهة أخرى أن تنعكس الصورة بحيث يتوافر في عدد قليل من البلدان العربية ثروة نفطية هائلة تقابلها ندرة وشح في الأراضي الصالحة للزراعة والمياه مع بعض الاستثناء.
ولكون الموارد المالية في الأقطار النفطية عاجزة عن إنتاج ما يكفي هذه الدول من الغذاء, وبقاء جزء كبير من الأراضي القابلة للزراعة غير مستغل أو بإنتاجية هزيلة في الأقطار الأخرى بسبب ضعف الاستثمارات ونقص تمويلها, فإنه يصبح من الضروري تعجيل التكامل بين هذه الأقطار من أجل الخروج من المأزق الغذائي الذي تعاني منه هذه الدول.
وما يثير الدهشة هو أن نرى الوطن العربي بما يملكه من موارد طبيعية وبشرية ومالية أصبح عاجزا عن تلبية طلب أبنائه من الغذاء من إنتاجه المحلي؟! ومع تزايد قصور الإنتاج الغذائي عن مقابلة معدلات الطلب الاستهلاكي على السلع الغذائية, ظلت الفجوة الغذائية العربية تتسع حتى أصبحت في الوقت الراهن من أكبر التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي.
ثالثا- أبعاد الأزمة الغذائية
بدأت المشكلة الغذائية في الوطن العربي مع بداية السبعينات, حتى أصبحت في نهاية العقد الماضي واحدة من أخطر المعضلات التي تواجهها دول المنطقة العربية, بعد أن وصلت إلى مستويات حرجة لتبلغ قيمة الفجوة الغذائية حوالي 14 مليار دولار. ويمكن قياس تجليات المشكلة الغذائية هذه بحجم وتطور الفجوة الغذائية ودرجة الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية.
الفجوة الغذائية العربية:تتصف الفجوة الغذائية العربية بالتذبذب من سنة لأخرى بسبب التغير في الإنتاج الزراعي (النباتي والحيواني) وحجم الاستهلاك وتقلبات الأسعار العالمية للسلع الغذائية. ويعاني الوطن العربي من فجوة غذائية حادة في تزايد مع الزمن منذ بداية التسعينات. وأصبح تمويل استيراد الغذاء عبئا تئن تحت وطأته معظم الموازنات المالية لمعظم الدول العربية، ويستنزف جزءاً لا يستهان به من الدخل القومي العربي يتجه نحو الأسواق العالمية لسد الحاجة المتفاقمة إلى الغذاء في الوطن العربي.وهناك عجز في معظم السلع الغذائية في الدول العربية، وتعتبر الحبوب -خاصة القمح- من أهم السلع الغذائية المستوردة, إذ تمثل نسبة وارداتها حوالي 50% من الواردات الغذائية وهو ما يعادل ما قيمته حوالي 6 مليارات دولار عام 1999. كما يستورد الوطن العربي ثلثي احتياجاته من السكر وأكثر من نصف احتياجاته من الزيوت والشحوم وحوالي ثلث متطلباته من اللبن والبقوليات. وتبلغ نسبة الاكتفاء الذاتي من الخضر والفواكه حوالي 100% وترتفع هذه لتسمح بإنتاج فائض للتصدير بالنسبة للأسماك.
الاكتفاء الذاتي:مالت نسبة الاكتفاء الذاتي في الوطن العربي من الغذاء منذ بداية السبعينات إلى التدهور، وأصبحت في السنوات الأخيرة شديدة التدني، وترتب على ذلك أن اعتبرت المنطقة العربية من أكثر مناطق العالم استيرادا للغذاء. ويتضح من الجدول رقم (2) انخفاض نسبة الاكتفاء الذاتي العربي من أهم السلع الغذائية مثل الحبوب التي بلغت نسبة الاكتفاء الذاتي منها حوالي 50% فقط عام 1999. وبالنسبة للشعير والقمح فقد بلغت النسبة 33.5% و49.2% على التوالي في نفس العام. وهناك عجز في معظم السلع الغذائية في الوطن العربي باستثناء الأسماك والخضر والفواكه وبدرجة أقل البطاطس والبيض.
ويشكل تدهور معدلات الاكتفاء الذاتي العربي خطرا على الأمن الغذائي الذي يمثل أحد المكونات الأساسية للأمن القومي العربي من منظوره الاقتصادي. فالأمن الغذائي الذي يعني قدرة المجتمع على تأمين احتياجاته الاستهلاكية من السلع الغذائية الأساسية بإنتاجها محليا أو باستيرادها من الخارج, ليس هو تحقيق الاكتفاء الذاتي الذي غالبا ما يعني إنتاج كافة الاحتياجات الغذائية الأساسية محليا, وإنما يتعداه إلى تأمين مصادر الحصول على الغذاء محليا أو/ ودوليا.
إن الدول العربية تعتمد في الوقت الحاضر على الاستيراد من الخارج لسد العجز في احتياجاتها من الغذاء، وهنا تنبغي الإشارة إلى بعض الحقائق المتصلة بهذا الوضع:
أن التركيب السلعي للواردات الغذائية العربية يعكس أهمية السلع الضرورية للحياة والتي يصعب الاستغناء عنها أو التقليل من حجمها الاستهلاكي بسهولة إلا بقدر طفيف، مثل الحبوب التي تعتبر سلعة حساسة في نظام المستهلك.
طبيعة الأسواق الغذائية العالمية التي تحتكرها مجموعة قليلة من الدول والشركات المتعددة الجنسية, وما تملكه هذه القوى من إمكانية التأثير في هذه الأسواق والتحكم في أسعار السلع الغذائية واستخدام الغذاء كسلاح ضغط وعقوبة لترويض الحكومات المارقة من وجهة نظر هذه الأطراف المهيمنة.
ضعف القدرة التفاوضية للدول المستوردة للغذاء بسبب تعاملها منفردة مع القوى الفاعلة في الأسواق الغذائية الدولية وضعف هامش المساومة نتيجة حساسية الغذاء ودوره في الاستقرار السياسي والاقتصادي.
إن تعاظم الفجوة الغذائية وتدهور نسب الاكتفاء الذاتي في الوطن العربي يسمح بالقول إن الأمن الغذائي مازال حلما لم يتحقق حتى هذه اللحظات، ويتطلب تحقيقه في المستقبل اتخاذ جملة من المواقف والإجراءات الموحدة والمتكاملة لإزالة المشاكل التي تعيق التنمية بصورة عامة والتنمية الزراعية على وجه الخصوص.
ويتطلب الخروج من المأزق الغذائي جهودا عربية جادة على طريق التكامل في جميع الأصعدة وبالذات الصعيد الزراعي. إلا أن جهود التكامل العربي مازالت تنقصها الإرادة السياسية وحكومات مسؤولة وقوى ناشطة لتحقيق هذا الهدف الذي أصبح المخرج الوحيد للوطن العربي من الأزمات التي يعاني منها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. وقد آن الأوان لإحداث تحولات سياسية جذرية تكرس الديمقراطية -كما أشار إلى ذلك تقرير التنمية البشرية الأخير- وتفسح الطريق أمام الشعوب للتأثير بالطرق الديمقراطية في القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المصيرية وفي طرق تنفيذها ومتابعتها.
إن تحقيق الأمن الغذائي لأي أمة وللأمة العربية على وجه الخصوص, قضية محورية يجب عدم تركها للظروف المتغيرة ولا للعوامل الخارجية لتتحكم فيها، وإنما يجب السعي وبكل جدية إلى ضمان أمن مستديم من خلال زيادة العناية بالقطاع الزراعي وتوسيع قاعدة العمل المنتج وتحسين الإنتاجية.
الخلاصة
لم تكن الأزمة الغذائية في الوطن العربي إلى حد كبير –وحتى عهد قريب– مشكلة نقص أو شح في الموارد المتاحة، ولا نموا سكانيا متسارعا أو عجزا في الإمكانات المالية, وإنما هي بالدرجة الأولى مسألة فشل أو خلل في السياسات الزراعية وسوء استغلال لما هو متاح للوطن العربي من موارد، فهي جزء من مسألة التنمية العربية في جوهرها، بأنماطها الإنتاجية والاستهلاكية والتوزيعية على المستوى القطري والقومي.
ويتضح من العرض السابق أن الفجوة الغذائية في الوطن العربي التي بلغت مستويات حرجة, هي حصيلة تفوق معدلات نمو الطلب على معدلات نمو الإنتاج الغذائي. ويعود ذلك إلى عدة عوامل تؤدي إلى زيادة الطلب أو/ وتباطؤ الإنتاج, ويمكن إيجازها في النقاط التالية:
ارتفاع معدلات النمو الديمغرافي.
التحسن في مستويات الدخول.
تدني نسبة الأراضي المزروعة فعلا.
أهمية الزراعات المطرية مقارنة بالمروية حيث تعتمد الأولى بشكل أساسي على الظروف المناخية.
النمط الاستهلاكي إذ تشكل الحبوب أهم سلعة غذائية استهلاكية في عديد الدول العربية.
التوزيع اللامتكافئ للموارد الزراعية في الوطن العربي.
ندرة المياه وسوء استغلال المتاح منها وهدره.
تدني الإنتاجية الزراعية وفشل السياسات الزراعية إجمالا ونظرتها الانعزالية أو القطرية.
ورغم ما يعانيه الوطن العربي من مشكلة غذائية آخذة في الاتساع, فإنه يملك من المقومات والإمكانات الموضوعية ما يكفيه ليس فقط لسد حاجياته من الغذاء فحسب, بل لتحقيق فائض يصدره إلى العالم الخارجي.
إن التفاعل بين ندرة الموارد الزراعية (المياه والأراضي الصالحة للزراعة) وبين وفرة النفط وعوائده في الوطن العربي، يشكل أحد المرتكزات الأساسية التي تحدد مستقبل التكامل الاقتصادي العربي. وقد أصبح جليا أن على العرب أن لا يعملوا فقط على تجاوز أزمات ظرفية وقصيرة المدى, وإنما هم مطالبون باتخاذ مواقف حاسمة وإستراتيجية تتمثل في دمج قواهم في قوة واحدة حقيقية تمكنهم من بناء كتلة اقتصادية فاعلة في عصر التكتلات الزاحف, تضمن استغلال وحماية مواردهم بشكل أفضل لضمان مستوى معيشة وكرامة أفضل لمواطنيهم، وتضمن توفير الحاجيات الغذائية العربية محليا (قوميا) في عصر قد يكون فيه الغذاء أحد الأسلحة الفتاكة وللتحرر من التبعية الغذائية وما ينجر عنها من ضغوطات سياسية واقتصادية. فما هو مصير أمة تأكل ما لا تزرع؟ وكيف يملك قراره الاقتصادي والسياسي من هو مربوط بأمعائه قبل عنقه؟
بقلم/ المصطفى ولد سيدي محمد / باحث اقتصادي / الجزيرة نت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق