الاثنين، 14 أبريل 2008

مذكرات القرضاوي (16)

زيارة الشيخ أحمد حاكم قطر.. والرأي الجريء
اقترح علينا أخونا الأستاذ عبد البديع صقر: المقرب من الشيخ أحمد بن علي آل ثاني حاكم قطر، أن نزور الحاكم، فليس لائقًا برجال في منزلة الشيخ عبد المعز والشيخ القرضاوي أن يجيئوا إلى قطر للعمل فيها، ولا يزورون حاكمها. قلت له: أيضًا لا يليق بنا أن نقحم أنفسنا على الرجل، أو نفرض أنفسنا عليه، ولم تأتِ مناسبة معينة لذلك. قال: أنا آخذ لكم موعدًا منه.
وأخذ لنا موعدًا لنزوره في مكتبته التي كان يشرف عليها الشيخ عبد البديع. وكان لقاء طيبًا، استقبلنا فيه الرجل استقبالاً حسنًا، ورحّب بنا في بلدنا الثاني، وتحدث معنا حديثًا كله مودة ومحبة. وكان غاية في الدماثة والتواضع وحسن الأدب. ثم دعا بالعشاء فتعشينا معه.
وأصبحت هذه عادة متكررة كل مدة، حوالي كل شهرين أو ثلاثة، أذهب مع الشيخ عبد المعز لزيارة الشيخ أحمد، وكثيرًا ما تنتهي الزيارة بالعشاء.
وفي إحدى الزيارات تحدث سمو الشيخ الحاكم عن الربا وتشدد بعض العلماء فيه، واضطررت أن أرد عليه، وأبين له أن تحريم الربا أمر قطعي، وأن الفوائد هي الربا، وأن الله تعالى لا يحرم على الناس إلا ما يضرهم، وأن الواجب على المسلمين: أن يحرموا ما حرم الله ورسله... إلخ ما قيل في هذه الجلسة. وكان حديثي واضحًا حاسمًا، لا مجاملة فيه ولا تهاون، وكان بعض الحضور ينظر إليّ وأنا أتكلم، كأنما هو مشفق علي: أن أعارض حاكم البلاد بهذه الصراحة، وهذه القوة. وذاع حديث هذه الجلسة وهذه المناقشة بين الناس، وخشي بعضهم عليّ من عواقبها، وقال بعضهم: كان عليه أن يراعي المقام، كما راعاه آخرون من الحضور.
ولكني عرفت بعد ذلك من الشيخ عبد البديع: أن الحاكم أُعجب بحديثي، وزاد احترامه لي، وقال: هذا رجل يقول ما يراه حقًّا، ولا يخاف في الله لومة لائم. فمثله يجب أن يقدر، ويحرص عليه، ولا يفرَّط فيه.
وعرفت من هذا أن قول الحق لا يحرم الإنسان من رزق قد كُتب له، ولا ينقص من قدره حتى عند من يجبهم بكلمة الحق، كما لا يقدم أجله أو ينقص من عمره لحظة "ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها" (المنافقون: 11).
الشيخ عبد البديع صقر :
وبمناسبة ذكر الشيخ عبد البديع صقر، يحسن بي أن أذكر أني عرفته في معتقل الطور سنة 1949م. فكان من دعاة الإخوان المعروفين في مصر، وقد ألّف رسالة صغيرة الحجم، ولكنها نافعة، لما حوته من أفكار وتجارب عملية في حقل الدعوة، وعنوانها (كيف ندعو الناس؟). وكان عبد البديع على صلة طيبة بالإمام حسن البنَّا، وقد عمل فترة بالمركز العام للإخوان.
وكان الوجيه قاسم درويش في عهد الشيخ علي بن عبد الله -الحاكم السابق لقطر، ووالد الحاكم الحالي الذي تنازل له عن الحكم قبل مجيئي إلى قطر بسنة واحدة- هو المسؤول عن المعارف قبل الشيخ قاسم بن حمد، وكان له صلة بالعلامة السيد محب الدين الخطيب صاحب مجلتي (الفتح) و(الزهراء). فأرسل إليه يطلب منه ترشيح شخصية إسلامية قوية تتولى إدارة المعارف. فرشّح له في أول الأمر: الكاتب الإسلامي الصاعد محمد فتحي عثمان، ولكن ظروفًا خاصة حالت دون استجابة الأستاذ فتحي، فطلب من الإخوان أن يرشحوا له شخصا للقيام بالمهمة المطلوبة فرشحوا له الأستاذ عبد البديع.
وسافر الشيخ عبد البديع إلى قطر مبكرًا سنة 1954، وعُيِّن مديرًا للمعارف مع الشيخ قاسم بن درويش، وكانت المعارف في ذلك الوقت محدودة جدًّا، عدة مدارس ابتدائية للبنين، محدودة العدد، ولا توجد مدرسة إعدادية بعد، وكان تعليم البنات محدودًا جدًّا. فقد قامت معركة جدلية بين المشايخ في تعليم البنات، وإلى أي حد يجوز لها أن تتعلم؟ فكان بعضهم يحبّذ أن تتعلم البنت كما يتعلم شقيقها الابن. فطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. وبعضهم يقول: يكفيها التعليم الابتدائي، ولا حاجة إلى ما بعد ذلك، وقد قال تعالى: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ" (الأحزاب: 33).
وظلّت هذه المعركة محتدمة، ولم تحسم إلا قبيل قدومي إلى قطر، وقد حسمت في صالح التوسع في تعليم المرأة.
ومن الغريب أن الشيخ عبد الله بن زيد المحمود، صاحب الفتاوى الجريئة في الحج وغيره، كان من أنصار التضييق والتشديد في تعليم المرأة. وكان الشيخان: ابن تركي والأنصاري من القائلين بإتاحة الفرصة لتتعلم كل علم نافع تريده وتقدر عليه.
وقد عشت في قطر حتى رأيت الشيخ عبد الله بن زيد يكتب إلى مدير جامعة قطر -أ.د. إبراهيم كاظم رحمه الله- يستغرب منه كيف توضع الشروط والعقبات في سبيل تعليم الفتاة، ويطالب بأن تفتح الجامعة أبوابها على مصاريعها لكل فتاة ترغب في استكمال تعليمها.
فقلت: سبحان الله، ما أسرع ما يتغير الإنسان!
وقد انضم إلى عبد البديع بعد ذلك عدد من الإخوان الذين فروا من جحيم عبد الناصر بمصر، فمنهم من ذهب إلى دمشق، ومنهم من ذهب إلى السودان، وغيرها. ومن هذه البلاد جاءوا إلى قطر. كان ممن جاءوا من دمشق: عز الدين إبراهيم، وحسن المعايرجي، ومحمد الشافعي، وعبد اللطيف مكي، وممن جاءوا من السودان: كمال ناجي، وعلي شحاتة، ومصطفى جبر.
كمال ناجي
وكان الشيخ قاسم درويش ومعه عبد البديع صقر، وغيره من جهاز إدارة المعارف: حريصين على ألا يعينوا إلا مسلمين متدينين، فكان المدخنون مثلاً لا يجدون فرصة للتعاقد معهم، وكان بعضهم يدخن، ولكنه يخفي ابتلاءه بهذا الداء، ولا يستطيع أن يدخن في المدرسة إلا إذا استخفى في دورة المياه.
وقد تعاقد الشيخ عبد البديع مع عدد من أبناء فلسطين، معظمهم من الإسلاميين الذين أصبح لهم شأن ومكان فيما بعد، منهم: رفيق شاكر النتشة، الذي عمل مديرًا لمكتب وزير المعارف الشيخ قاسم بن حمد، وكان له سطوته ونفوذه.
ومنهم: محمد يوسف النجار، الذي عمل أيضًا في مكتب الوزير، وكان له أثره في حركة فتح وتأسيسها فيما بعد، حتى استشهد في بيروت رحمه الله.
ومنهم: أحمد رجب عبد المجيد، وغيرهم وغيرهم.
وكان عبد البديع صقر شخصية مرحة متميزة، كان يزور الشخص ولا يطيل، ويقول: أعتقد أننا شرفنا! ثم يستأذن وينصرف.
وكان يعزم الناس على الغداء عنده، ثم ينسى أن يخبر أهل بيته، فيفاجأ بالناس وقت الغداء يدقون عليه الباب، فيرحّب بهم، ويأكلون ما حضر، ويقول لهم: نسيت أن أبلغ وزارة الداخلية!
وأحيانًا يقول لأهله: اصنعوا لنا ثريدًا، ويقول: إن قصعة الثريد تقبل القسمة على أيّ عدد!
وقد بقي مديرًا للمعارف حتى تغير الوضع، وأعفي الوجيه قاسم درويش، وجيء بالشيخ قاسم بن حمد، واحتضن الشيخ علي ثم الشيخ أحمد الشيخ عبد البديع، ليشرف على مكتبته الخاصة، وعلى المكتبات العامة في قطر.
وقد دخلتُ قطر، وهو مدير لهذه المكتبات، حتى تغيرت بعد عدة سنوات إلى (دار الكتب القطرية) التي أصبح لها مقر متميز، وكان هو أول مدير لها.
كانت قطر في بداية طريقها إلى التطور والنهضة العمرانية، وكان لا يزال فيها معتمد بريطاني، فلم تكن قد حصلت على استقلالها بعد.
وكان معظم السكان -حوالي ثمانين في المائة 80% منهم- مركزين في الدوحة، وهي مدينة تقع على شاطئ الخليج شرقي قطر. وكانت أشبه بقرية كبيرة، تريد أن تكون مدينة. وأعتقد أنها كانت حوالي 5% مما هي عليه اليوم، أي أنها تضاعفت خمسين مرة اتساعًا وارتفاعًا.
فأكثر المنازل فيها من طابق واحد، على النظام القطري المتوارث، وهو أن يكون الفناء أو (الحوش) في الداخل؛ لأن هذا أستر للعائلة، وأهون من أن يكشف الجيران بعضهم بعضًا.
وبعض البيوت قد يكون من طابقين، وقليل جدًّا من ثلاثة، ولا سيما البيوت التي تُعَدّ للكراء والإيجار.
وأشهر بناية في الدوحة كانت (دار الحكومة) التي فيها وزارة المالية والبترول وإدارة شؤون الموظفين والإسكان على مستوى قطر كلها. وفيها يداوم نائب الحاكم وولي العهد ووزير المالية الشيخ خليفة بن حمد.
وكان أشهر موظف في الحكومة هو داود فانوس مدير شؤون الموظفين، الذي لا يعين موظف صغر أو كبر، ولا يرقى من درجة إلى أخرى، إلا عن طريقه، فلا يعين مدير ولا فراش ولا ناطور (حارس) إلا بموافقة فانوس.
ولم يكن التعيين أو الترقية وحدهما هما اللذين في يديه، بل الإسكان والتأثيث في يديه أيضًا.
وأشهد أنه -رغم مسيحيته- كان رجلاً دمث الأخلاق، ويفهم عمله جيدًا، وكان يتعامل معي خاصة بلطف وأدب إذا احتجت إليه، ومن ذا الذي لا يحتاج إليه؟
الحالة الدينية في قطر :
كان أهل قطر أقرب إلى الفطرة السليمة، لم تفسدهم الحياة المدنية الحديثة. كانوا متعاونين متكافلين، يسأل بعضهم عن بعض، ويشدّ بعضهم أزر بعض، الابن يبر أباه، والقريب يصل رحمه، والجار يرعى جاره. الغالب على الناس الصدق، حتى إني أول ما ذهبت إلى قطر، لم يكن التلاميذ يعرفون الغش في الامتحانات، ولا يفكرون فيه، ولو تركتهم وحدهم في الصف ما حاول أحد أن يسرق معلومة من أحد. وقد ظلوا هكذا عدة سنوات، ثم أصابتهم العدوى، من مصر وبلاد الشام وغيرها. وطفقوا يقلدون غيرهم، ثم تفننوا في الغش، حتى فاقوا من قلدوهم، وأمسى منهم من يكتب على ذراعيه، وعلى فخذيه، ومن يستخدم الجوّال (الموبايل) ومن.. ومن..
وعدوى الأخلاق أشد من عدوى الأجسام.
رأيت الجميع يحرص على الصلاة، وخصوصًا في المسجد، ويصحب الرجل أبناءه إلى المسجد، وكان الناس قد نظموا حياتهم وفق مواقيت الصلاة، فكانوا أقرب إلى النظام اليومي للحياة الإسلامية. فالمحلات التجارية تغلق أبوابها قبيل أذان المغرب، ولا تفتح إلا في صباح اليوم التالي. والناس يتناولون عشاءهم بعد صلاة المغرب، أشبه بما كان عليه أهل الريف في مصر. فإذا صلوا العشاء أسرعوا إلى بيوتهم للنوم مبكرين.
وقبل الفجر تدب الحياة في قطر، ويتحرك الناس إلى المساجد، وبعدها يتناولون (الريوق) أي يغيرون ريقهم بتعبير المصريين بتناول الفطور، ثم ينطلق كل منهم إلى عمله، مستفيدًا من بركة البكور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لأمتي في بكورها".[1]
السوق القديمة
ولا يعرف قيمة هذا الوقت، إلا من وازن بين شخصين: شخص يقوم مبكرًا يتلقى الصباح من يد الله تعالى طاهرًا قبل أن تلوثه أنفاس العصاة والفجار، ويستقبل نسمات الصباح من أول يومه، قبل أن تشتد الشمس، ويسخن حرها ويتصاعد، وخصوصًا في بلاد حارة مثل بلدان الخليج.
وآخر نؤوم الضحى، بال الشيطان في أذنيه، فلم يستيقظ إلا بعد أن أضاع هذه السويعات الجميلة، واستقبله وهج الشمس اللافح منذ فتح النافذة أو الباب.
وكان مما ساعد الناس في قطر على الالتزام بهذا النظام: أنه لم يكن فيها إذاعة ولا تليفزيون ولا صحافة.. فكان الناس في راحة من الإعلام وأجهزته ووسائله. ولهذا كان الطلاب المجتهدون منكبين على الدراسة والتحصيل والاستذكار، لا يشغلهم عنها شاغل.
ومما كان يساعد الناس على الالتزام بصلوات الجماعة في المسجد: كثرة المساجد الصغيرة المنتشرة في الأحياء، والمتقاربة إلى حد بعيد.
فقد كان هناك نوعان من المساجد: مسجد جماعة، وهو عادة محدود المساحة، بسيط في مبناه، وليس فيه منبر للجمعة. والآخر: مسجد جمعة، وهو عادة كبير، وفيه منبر، وتصلى فيه الجمعة، وهو الذي يطلق عليه أهل قطر (الجامع). فليس الجامع عندهم كل مسجد، كما هو عُرف الناس في مصر، بل مسجد الجمعة الكبير فقط.
وسر هذا فيما أرى: أن المذهب الحنبلي -وهو المذهب السائد في قطر- يرى أن صلاة الجماعة واجبة على الرجال إلا من عذر، وليست سنة أو فرض كفاية، كما في المذاهب الأخرى. من هنا كان على الناس أن يكثروا من مساجد الجماعة الصغيرة، لتعين كثرة المساجد على أداء هذا الواجب.
وفي رأيي: أن هذا النهج في بناء المساجد نافع، وليته يتبع في مصر وفي غيرها، ويكون هناك مسجد لصلاة الجماعة، لا بأس أن يكون في أسفل العمارة أو نحو ذلك، ولا تصلى فيه جمعة، أما مساجد الجمعة أو (الجوامع) فينبغي أن تكون واسعة ما أمكن ذلك، ولا سيما مع اتساع العمران، وكثرة المصلين، حتى إني لا أكاد أرى في مصر مسجدًا، إلا والناس يصلون الجمعة في الشوارع من حوله.
وعلى ذكر المذهب الحنبلي، فقد كان هو المذهب الشائع والغالب بين أهل السنة في قطر، على خلاف سنة البحرين ودبي، فقد كان السائد عندهم هو مذهب مالك، وكان قليل من القطريين مالكية أيضًا، مثل الشيخ علي بن جاسم شيخ أم صلال علي، فقد كان مالكي المذهب، ومثل قبيلة (الخليفات) فقد كانوا موالك، وإن كان الجيل الجديد منهم قد انصهر في الأغلبية الحنبلية بحكم دراسته التي تلقاها في المدارس.
وكان في قطر أقلية شيعية جعفرية، ولكنها أقلية منسجمة مع الأكثرية، ومتفاهمة مع الحكومة، ولا تكاد تظهر أي مشكلات أو حساسيات من جهة الشيعة في قطر.
الحالة الاجتماعية.. عرب مستعربة وهولة وبدون:
وأهل قطر ينقسمون إلى أقسام:
الأسرة الحاكمة، من آل ثاني،
وأصلهم من قبيلة تميم العربية المعروفة من العرب المستعربة، التي تنتمي إلى عدنان، ومنه إلى إسماعيل عليه السلام. وفيها يقول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم رأيت الناس كلهمو غضابا
وقريب من آل ثاني: أصهارهم وأقرباؤهم من القبائل، مثل آل العطية، وآل السويدي، والمعاضيد، الذين ناصروهم في معركة الزبارة التي وقعت بين آل ثاني وآل خليفة حكام البحرين، وانتصر القطريون، وأخرجوا آل خليفة من الزبارة. وتعتبر هذه المعركة من المفاخر التاريخية عند أهل قطر!
وهناك قبائل أخرى في قطر: مثل المرة، والهواجر، وآل بوكوارة، والنعيمي، والخليفات، والمانع، والمناعي والخاطر والمالكي والنصر وغيرهم. وبعض هذه القبائل تجدها مشتركة بين قطر والسعودية والبحرين والإمارات. فقد كانت المنطقة كلها مفتوحة لهذه القبائل، ترحل من مكان إلى مكان، وتهاجر من بلد إلى آخر، طلبًا للرزق أو للأمن أو لغير ذلك.
وهناك جماعات أخرى من أهل قطر يسمون (الهولة) ويقولون: إن أصل هذه الكلمة مأخوذة من (الحولة)، وذلك أنهم كانوا في الأصل من جزيرة العرب، وتحولوا إلى ساحل فارس، ثم عادوا إلى أصلهم، مثل عائلات الأنصاري، وفخرو وآل عبد الغني والمفتاح والصديقي والعمادي وغيرهم، وكلهم من أهل السنة. وبعض هؤلاء عاشوا سنين طوالاً في قطر، ولكنهم لم يتمكنوا من الحصول على الجنسية، وقد ولد لهم أبناء وبنات في قطر، ولا يحملون جنسية، ولا جوازا ولا بطاقة، ولهذا لا يستطيعون أن يغادروا قطر، بل لا يستطيعون أن يتزوجوا، لأن المأذون الشرعي أو القاضي الشرعي الذي يعقد لهم، يحتاج منهم إلى ما يثبت هويتهم، وهم لا يملكون شيئا من ذلك. فلا هم يحملون الجنسية القطرية، ولا الجنسية الأصلية من إيران التي جاءوا منها. وهؤلاء هم الذين سموهم في الكويت (الـ بدون) أي الذين بدون جنسية.
وإني لأرجو من حكام الخليج: أن يعاملوا هؤلاء بما يستحقون من الرحمة، ولا يدعوهم في العراء، لا تقلهم أرض ولا تظلهم سماء! وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
وهناك أناس من شيعة إيران جاءوا إلى قطر، واستوطنوها، ومنهم من حصل على جنسيتها، وغدا من مواطنيها الأصليين، ومنهم من لم يحصل عليها، شأن (الـ بدون) ولكن أمر هؤلاء الشيعة أهون من أهل السنة، فقد يستطيعون بغير صعوبة كثيرة الحصول على الجنسية الإيرانية، بخلاف أهل السنة.
وكانت المرأة في قطر ملتزمة بالحشمة، لم تغزها مفاهيم الحضارة الغربية وقيمها، التي غزت المرأة في البلاد العربية الأخرى مثل مصر والشام والعراق وغيرها. فكانت المرأة لا تخرج إلا وهي لابسة العباءة السوداء، تسترها من رأسها إلى أخمص قدميها. وكانت تلبس على وجهها (البطولة) وهي شيء يشبه البرقع، تلبسه المرأة طول النهار، حتى وهي داخل بيتها، ولا تخلعه إلا عند الوضوء أو النوم. فقد أصبح عادة لا عبادة.
وإذا خطبت الفتاة، فلا يمكن خاطبها من رؤيتها، ولا يسمح له بعد ذلك، حتى بعد العقد عليها، إلا ليلة الزفاف، وقد ظلّ هذا سائدًا إلى اليوم، حتى بعد أن دخلت الفتاة المدرسة والجامعة، وذهبت إلى السوق، وسافرت إلى الخارج، يمكن أن يراها المعلم والطبيب وأستاذ الجامعة، وركاب الطائرة، والناس في القاهرة وبيروت ولندن وباريس، إلا شخصًا واحدًا، هو المسكين الذي لا يؤذن له أن يراها، وهو خاطبها، بل زوجها الذي عقد عليها.
وفي مقابل هذا ما رأيته في مصر، عند كثير من الأسر المتحررة! حيث يذهب الخاطب مع خطيبته يتأبط ذراعها، ويذهبان بعيدًا في المتنزهات أو حفلات السينما، ولا رقيب ولا حسيب، وهي لا تزال أجنبية منه. وكثيرًا ما تنتهي هذه الفترة بفسخ الخطبة، وهنا تكون الحسرة والندامة.
والخير في الموقف الوسط بين المُفْرِطين والمُفَرِّطين "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" (البقرة: 143). وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة حين خطب امرأة: أنظرت إليها؟ فقال: لا، قال: اذهب فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما. أي يحصل بينكما الإدام والألفة، فإن العين رسول القلب.
وبعض فتيات الخليج اليوم خلعن البطّولة وخلعن العباءة، وسرن وراء التقاليد أو (التقاليع) الغربية، وبعضهن التزمن هذه التقاليد في أوطانهن، فإذا خرجن منها، صدرت منهن الأعاجيب، ولا زلت أذكر حين سافرت من مدينة خليجية كبرى، إلى باريس، وكنت راكبًا في الدرجة الأولى، ودخل عليّ مجموعة نساء لم أر منهن شيئًا إلا سوادًا في سواد، وكنا في منتصف الليل، وقبيل الصباح: أيقظنا المضيفون لنستعد للنزول في باريس، فالتفت فلم أرَ السواد الذي رأيته في الليل، ورأيت مكانه نساء على أحدث (الموضات)، فقد ظهرت الشعور والنحور والصدور والأذرع والسيقان، مع ألوان الزينة والعطور ونمص الحواجب، وكل ما يسمونه (الماكياج) فلم أملك إلا الحوقلة والاسترجاع.
وهذا دليل على أن الوازع الذاتي هو الأساس؛ لأنه يصحب الإنسان في خلوته وجلوته، وحضره وسفره "وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله" (البقرة: 115)، "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير" (الحديد: 4).
على أن هناك أعدادًا كبيرة جدًّا من الفتيات في الخليج التزمن الحجاب (الخمار الشرعي) كما قال تعالى: "وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ" (النور: 31)، بل منهن من التزمت النقاب وغطت وجهها طوعًا واختيارًا، وهؤلاء هن الأكثرية العظمى من بنات الخليج، كما يظهر في الطالبات الجامعيات، والحمد لله.
ولأهل قطر تقاليد في الزوج، بعضها لا تمت بنسب إلى الإسلام، منها: الغلو في الصداق، فهم يتباهون بما يقدم للفتاة من مهر. فكأنما هي سلعة، فإذا كانت غالية، دفع فيها ثمن أكبر.
ونسي هؤلاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم زوّج بناته بأقل ما يمكن من المهور، وتزوج نساءه كذلك، وقال: "أقلهن صداقًا أكثرهن بركة"، وقال لبعض أصحابه: "التمس ولو خاتمًا من حديد"، ولما لم يجد حتى هذا الخاتم قال له: "زوجناكها بما معك من القرآن".
ومن التقاليد: المبالغة في هدايا العرس، وكثير منها قد لا تنتفع بها العروس، مثل ما يسمونه (الدزة) وهي مجموعة من الحقائب مليئة بالملابس، جاء بها "أهل المِعْرِس" (الزوج) على أذواقهم، وقد لا توافق ذوق العروس ولا تناسبها، ولكنها للفرجة والمباهاة.
وكذلك هدايا من حلي الذهب على الذوق القديم، ثقيلة الوزن، غالية الثمن، قد تلبسها العروس ليلة الزفاف ليراها الآخرون، ثم تخلعها فلا تكاد تلبسها بعد ذلك.
ومن التقاليد المتوارثة عند القبائل: أن البنت لابن عمها، لا يجوز لها أن تتزوج غيره، وكأن هذا عهد مقدس لا يجوز الإخلال به. وكثيرًا ما لا يكون ابن العم راغبًا في ابنة عمه، وهي تبادله نفس الشعور. ولكن تقاليد العائلة أو القبيلة الصارمة تفرض نفسها عليهما، وتسوقها كرهًا إلى الزواج المحتم فشله، فإما أن ينتهي بالطلاق، وإما أن ينتهي بزواج الرجل بأخرى، وتبقى ابنة عمه المسكينة معلقة، لا هي متزوجة، ولا هي مطلقة.
وهذا يذكرني بالقبائل العربية في صعيد مصر، فعندهم نفس هذه الأفكار والتقاليد، فلا يجوز للفتاة إلا أن تتزوج من القبيلة، ولو تقدم إليها واحد من خارج القبيلة، ولو كان أستاذًا جامعيًّا أو مديرًا عامًّا أو حتى وزيرًا، لرفضوا تزويجه، وعندهم مثل يقول: يأكلها تمساح، ولا يأخذها فلاّح. والفلاح: كل من لا ينتمي إلى قبيلة ولو بلغ مركزه ما بلغ.
والقبائل في قطر أيضًا لها أوزان، فليس كلها قابلاً لأن تزوج الفتاة منهم، وإن كان تزوج الفتى من بعضهم يمكن التجاوز فيه.
وهذه كلها اعتبارات ضيق الناس بها على أنفسهم، وعسروا ما يسَّر الله، والشرع الإسلامي يعتبر الناس كلهم سواسية، وأسرة واحدة، تجمعهم العبودية لله، والبنوة لآدم. فربهم واحد، وأبوهم واحد، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم" (الحجرات: 13).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض".
الحالة الاقتصادية :
صيد المها
كانت الحالة الاقتصادية في قطر في بداية انتعاشها، وحظ قطر من النفط ليس كحظ الكويت أو أبو ظبي، ولكنها أحسن حالاً من البحرين جارتها.
كما أن قلة سكانها يجعل نصيب الفرد من الدخل من أعلى المستويات في العالم.
ولهذا كان عدد التجار الكبار في قطر محدودًا، مثل آل الدرويش (قاسم فخرو وإخوانه) وآل ناصر (عبد الغني ناصر وإخوانه) وآل المناعي والمانع وغيره، وأكثر التجار الصغار من الهنود والباكستانيين، وإن كانوا أقل من نظرائهم في دبي.
وكان أشهر سوق في قطر هو (السوق الضيق) و(سوق واقف)، وقلّما توجد محلات كبيرة، ما عدا البيت الحديث للدرويش. وكانت (الروبية الهندية) هي العملة السائدة في قطر، وظلت هكذا حتى غيرت بعد الاستقلال إلى الريال.
وكانت الحياة تعتبر رخيصة بالقياس إلى ما حدث بعد سنوات، وإن كنا نحن نعدها غالية، بالنظر إلى الحياة في مصر. لا سيما أن مرتباتنا كانت محدودة نسبيًّا، فقد عينت بمرتب 1475 روبية. وهو أول ما يعين عليه موظفو الدرجة الأولى (سنيار اصطاف) ولم يكن هناك بدلات أخرى.
وكان الجنيه المصري يحول بإحدى عشرة روبية. فكان الموظف إذا توفر له في السنة ألف جنيه، يعتبر ذلك فضلاً ونعمة.
ومع هذا كان للروبية قيمة، بل كان ربع الروبية له قيمة كذلك. ويسمى (الأربع آنات) فقد كانت الروبية مقسمة إلى ست عشرة آنة، وهناك نصف الروبية وربع الروبية.
وكانت معظم الخضراوات والفواكه تأتي من لبنان والأردن وربما من سوريا، ومن إيران والهند، أما ما يأتي من إيران والهند فيأتي عن طريق البحر، وأما ما يأتي من بلاد الشام فيأتي عن طريق البر، عن طريق سيارات النقل الكبيرة. وكل هذه تصب في السوق التي يسميها الناس (الشَّبْرا). وبجوارها سوق للحم، وسوق للسمك الذي له رواج كبير عند أهل الخليج، فهو يعتبر -مع الأرز- الطعام الأساسي. وهناك أنواع من السمك غير السمك المشهور في مصر من البوري والبولطي والقرموط وغيرها، لكن هنا الكنعت والصافي والشعري وغيرها. وكان سمك الهامور أول ما ذهبنا إلى قطر رخيصًا جدًّا، الكيلو بريالين أو نحو ذلك؛ إذ كان الناس لا يعرفونه، ولا يهتمون به، وبخاصة أنه يحتاج إلى سلخ وتنظيف، قد لا يحسنه كل الناس.
وكانت بعض الأشياء تأتي في الطائرات، وكان الذين قدموا قبلنا إلى قطر، ينتظرون كل أسبوع الطائرة التي تأتي بالخضار من لبنان. ونحن لم ندرك هذه الفترة، فقالوا لنا: أنتم محظوظون.
وكان مطار الدوحة صغيرًا جدًّا، ومحدودًا جدًّا، وكانت طائرة الخليج التي تنقل الركاب بين دول الخليج بعضها وبعض طائرة صغيرة بمحركات، أطلق عليها الناس: أم أحمد.
أردت التفرغ للتأليف لكن الخطابة طاردتني..
كانت الفكرة التي بيّتها في نفسي قبل قدومي إلى قطر: أني ذاهب إلى بلد جديد، لا يعرفني أهله، وعلي أن أنتهز هذه الفرصة، لأتفرغ للقراءة والكتابة، وأعوض ما فاتني من زمن لم أستخدم فيه القلم كما ينبغي.
والواقع أني كنت واهمًا، فقد سبقتني سمعتي قبل أن أحضر، وسرعان ما اكتشفني الناس بدون جهد، فمنذ أول درس ألقيته في جامع الشيوخ بعد خطبة الشيخ ابن تركي، ومنذ أول خطاب ألقيته في المدرسة الثانوية بمناسبة انفصال سوريا عن مصر، وكان هذا الخطاب ذا طابع سياسي، كما كان درس جامع الشيوخ ذا طابع ديني، عرف أهل قطر شيئًا عن هذا القادم الجديد.
وبعد فترة قليلة، دعاني الشيخ ابن تركي إلى إحياء ذكرى الإسراء والمعراج في المدرسة الثانوية. وكلما جاءت مناسبة دينية أو وطنية أو اجتماعية، دعيت إلى المشاركة فيها.
حتى جاء شهر رمضان المبارك. وكان ابن تركي قد سنَّ سنة حسنة في كل رمضان، وهو أن يرسل العلماء الأزهريين الذين يدرِّسون العلوم الشرعية، إلى مساجد الدوحة وضواحيها، ومساجد القرى، ليلقوا فيها دروسًا، إما بعد العصر، وهو الغالب، أو بعد العشاء. ويوزع جدولاً في كل رمضان بالمدرسين ومساجدهم.
فلما جاء أول رمضان عليّ في قطر، بعثني ابن تركي إلى مسجد الشيخ خليفة بن حمد ولي العهد نائب الحاكم المقام أمام قصره، الذي فيه مسكنه ومكتبه. فكنت أذهب لأصلي العصر بالشيخ، ثم ألقي درسًا في تفسير آية، أو شرح حديث، أو الحديث عن موضوع معين بمناسبته، مثل الحديث عن غزوة بدر، أو فتح مكة، أو ليلة القدر، وهي مناسبات رمضانية معروفة، وكذلك الحديث عن فضل شهر رمضان أو أحكام الصيام في أول الشهر، وأحكام زكاة الفطر، وصلاة العيد في أواخر الشهر.
وكان هذا الدرس مفتوحًا للجميع يحضره جمٌّ غفير من الناس. وكان الشيخ خليفة نفسه حريصًا على حضوره باستمرار، لا يتخلف عنه إلا لمرض أو عذر.
وكان الترتيب الذي وضعه ابن تركي أن أذهب إلى هذا المسجد نصف الشهر، ثم يبدلني، ويأتي بشيخ آخر بقية الشهر، من باب التنويع، وفعلاً بعد أسبوعين أرسل واحدًا آخر، وألقى درسًا، وفي نفس اليوم اتصل الشيخ خليفة بالشيخ ابن تركي، وقال له: لماذا غيرت القرضاوي؟ قال له: أردت أن أنوّع. قال: لا، أنا لا أريد تنويعا، ولا أريد عالمًا غير القرضاوي.
وعدت ثانية إلى مسجد الشيخ خليفة، حتى تغير المسجد بمسجد آخر في الريان بعد أن نقل الشيخ قصره إلى الريان، وبعد أن أصبح هو حاكم قطر.
ثم تغير مسجد الريان الكبير إلى مسجد داخل القصر، لا يأتيه إلا الخاصة، بناء على توجيهات رجال الأمن.
ولكن بقي حرص الشيخ على حضور الدرس بصفة دائمة، وإنصاته إليه، وكان في بعض الدروس يقول: أنت سلختنا النهارده يا شيخ يوسف.
وظلّ هكذا حتى تولى ابنه الشيخ حمد الحكم، أي حوالي ستة وثلاثين رمضانًا، تخلفت فيها رمضانًا واحدًا عن هذه الدروس، وذلك في السنة التي أصبت فيها بانزلاق غضروفي، واضطررت للسفر لإجراء عملية في مدينة (بون) بألمانيا. أي أنني درست للشيخ 35 خمسة وثلاثين شهرًا رمضانيًّا.
صلاة التراويح بجزء من القرآن كل ليلة :
وكان لي نشاط آخر بجوار درس العصر، هو صلاة التراويح، فقد اقترح الأخ أحمد العسال، وكنا نسكن متجاورين في منطقة أم غويلينة: أن أؤمهم في صلاة التراويح بجزء من القرآن كل يوم، كما كنا نفعل في رمضان الثاني بالسجن الحربي، بحيث نختم القرآن آخر رمضان، وأن تقام هذه الصلاة بالمسجد المجاور لنا، ومعنا بعض الإخوة الأزهريين الذين يسكنون بجوارنا، مثل الشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ عبد المحسن موسى، والشيخ سيد رجب.
قلت له: هذا اقتراح طيب، ولكن علينا أن نستأذن الإخوة القطريين الذين يصلون معنا في المسجد عادة، فربما يستطيلون هذه الصلاة، واستأذناهم ورحبوا.
وبدأنا الصلاة بصف أو صف ونصف في هذا المسجد الصغير -وهو مسجد جماعة- بمنطقة أم غويلينة، وهو يسمى (مسجد الرفاع).
ولا أدري من هي غويلينة ولا أمها، ولكن جرت عادة الناس في قطر أن يضيفوا الأماكن إلى (الأم) فهناك: أم سعيد (وهي ميناء تصدير البترول) و(أم باب) التي أقيم فيها مصنع الأسمنت بعد، وأم صلال، وأم قرن، وأم العمد، وغيرها. وقد تضاف الأماكن إلى (الأب) أحيانًا، مثل (أبو الطلوف) و(أبو هامور)، و(أبو عبود). مثل ما يعرف في مصر بلاد مثل (أبو حمص) و(أبو المطامير) و(أبو كبير) و(أبو صوير).
وما هي إلا أيام حتى ازداد عدد المصلين، وخصوصًا من المصريين والفلسطينيين والباكستانيين والهنود.
وكنت أصلي ثماني ركعات، غير الشفع والوتر، وبعد الأربع الأولى ألقي درسًا يدور حول آية أو أكثر من الآيات التي قرأناها، وأحيانا أقدم الشيخ عبد المعز عبد الستار إذا حضر معنا، أو الشيخ العسال.
وكانت طريقتي -ولا تزال إلى اليوم- أن أبدأ قراءة الجزء منذ صلاة العشاء، فأصلي العشاء بربعين، ثم ركعتين بربعين آخرين، ثم ركعتين بربع واحد، ثم الترويحة والدرس، والأرباع الثلاثة الباقية: مقسمة على الأربع الباقية من التراويح وركعتي الشفع، ثم الوتر وفيه القنوت.
وفي السنة الثانية، كثر رواد صلاة التراويح. وفي كل سنة يزداد العدد، وقد وُسِّع المسجد أيضًا، ولكنه ضاق بالمصلين، فانتقلت إلى مسجد أكبر في نفس المنطقة التي نسكن فيها، وهو مسجد (بنّة الدرويش) بنته على نفقتها، فنسب إليها، جزاها الله خيرًا، وهو مسجد جمعة كبير نسبيًّا، وقد لبثت فيه عدة سنوات.
ثم ازداد العدد والإقبال مع بروز الصحوة الإسلامية المعاصرة في أواسط السبعينيات من القرن العشرين، فانتقلنا إلى جامع الشيوخ، وهو أكبر المساجد وأوسعها، ومع هذا كان يضيق بنا، ولا سيما في بعض الليالي مثل ليالي الجمعة والسبت، ويضيق أكثر وأكثر في ليلة السابع والعشرين من رمضان، وليلة ختم القرآن في آخر رمضان.
وفي السنوات الأخيرة بعد أن ابتليت بوجع الركبة، أصبحت أوكل بعض الإخوة من أئمة وزارة الأوقاف في القيام بنصف الصلاة، وأقوم أنا بالنصف الآخر، فيما عدا ليلة الختم، فأنا حريص على أن أقرأ الجزء الثلاثين -جزء عم- كله، وأن أدعو وأطيل الدعاء، والحمد لله الذي منحني القوة على هذا، في حين يشكو بعض الشباب.
لك الحمد مولانا على كل نعمة ومن جملة النعماء: قولي: لك الحمد!
لم أتخلف عن صلاة التراويح منذ ذهبت إلى قطر، إلا ذاك الرمضان الذي قضيته في علاج آلام الظهر بألمانيا، والحق أني حينما أقبل شهر رمضان، وكنت على سرير مرضي، لا أستطيع التحرك منه، شعرت بحنين عجيب، وشوق حار إلى مسجدي بالدوحة، وإلى صلاة التراويح، وتلاوة القرآن، ودرس الترويحة، ودعاء القنوت، وتأمين المصلين، الذي يكاد يهز أركان المسجد، وفاضت دموعي، واضطرب قلبي بين ضلوعي، وانساب ذلك في شعر رقيق، كتبته وأنا على سريري، وبعثت به إلى الإخوة في قطر، في قصيدة نشرت في ديواني (نفحات ولفحات) ومنها:
في دوحةِ الخير، يا حياكم اللهتلوح منه لنا في (بون) أضواه؟ولا تراويحنا، وَاحرَّ قلباه!!ذكرَ الغريب بعيد الدارِ مأواهوأفضلُ الذكر قرآن تلوناهتجمعنا محبَّةُ الله لا مالٌ ولا جاه بالخير تعرفُه دَوْمًا بسيماهقد عبَّرت عنه أرواحٌ وأفواهوكلُّهم في نَقاءِ الروح أشباهوالاستباق هنا المحمود عقباه طَوْعًا، وما في الخير إكراهيحيا، فطوبى لمن بالذكر أحياهكأنه الدمُ يسري في خلاياهوالروحُ خاشعةٌ، والقلبُ أوَّاهإلا لقاءً على ربي وتقواهرغم الشدائدِ يلقاه وتلقاهفسوف ينهارُ ما لم تبقَ دنياه

يا إخوةً في رضا ربي عرفتهموهلا بعثتم شعاعًا من مساجدكمفلا أذانَ ولا قرآنَ نسمعهإنّي لأذكركم في كل أمسيةكم التقينا على ذكر وموعظةفي موسم الطهر في رمضان الخيرمن كل ذي خشية لله ذي ولعجيلٌ على الحبِّ والإيمان مرتبطٌإن أنْسَ أوجُهَهُم لم أنس رُوحَهموقد قدروا موسم الخيرات فاستبقواصاموه قاموه إيمانًا ومحتسَبًا أحيوهوالوقت كالناس منه ما يموت وماوكلهم بات بالقرآن مندمجًافالأذنُ سامعةٌ، والعينُ دامعةٌأحببتهم وأحبوني بلا غرضما كان لله يبقى دائمًا أبدًاوما يقوم على دنيا ومنفعةٍ
بروز المعهد الديني.. وتميز أبنائه
وكان المعهد الديني -على حداثة سنه وعلى صغر حجمه- يمثل نموذجًا حيًّا للجمع بين القديم والحديث، أو الأصيل والمعاصر. وكان طلابه نماذج حية للاجتهاد وفي التحصيل وحسن الفهم، والالتزام الديني والخلقي.
وكان الطلبة يتنافسون فيما بينهم في التفوق العلمي، والنشاط المدرسي، والسلوك الأخلاقي. وكنا في كل عام دراسي نختار (الطالب المثالي) الذي يبرز في العلم والنشاط الطلابي، وحسن العلاقة مع أساتذته وزملائه.
وكان الطلاب هم الذين يتناوبون حكم المعهد داخليًّا، عن طريق نظام الأسر. فهناك أسرة أبي بكر الصديق، وأسرة عمر بن الخطاب، وأسرة صلاح الدين الأيوبي، وأسرة أحمد بن حنبل. وكل أسرة تشرف على المعهد: نظافة ونظامًا لمدة أسبوعين، ثم تسلمه لمن بعدها.
وكان الطلاب في قطر وبلاد الخليج على الفطرة السليمة، لم تفسدهم أجهزة الإعلام، ولا الأفلام والمسلسلات، وغيرها.
وقد ساعدني على أداء مهمتي إداريون متفاهمون متعاونون، منهم وكيل المعهد الشيخ عليوة مصطفى، وكان رجلاً فاضلاً، شاعرًا، خفيف الروح. وسكرتير المعهد الأخ أحمد المنيب حسين، ثم الأخ يوسف السطري، وأمين المخازن الأخ حسني أدهم جرار، وضابط هو الأستاذ أحمد سعد، وكلهم كانوا أعوانًا صادقين، وإخوانًا متحابين.
كما ساهم في نجاح المعهد: عدد من الأساتذة في مختلف المواد الشرعية والعربية والاجتماعية والعلمية، كانوا كأنهم أسرة واحدة، يعملون في المعهد بروح صاحب الرسالة، لا بمجرد الوظيفة.
من هؤلاء: الشيخ عبد اللطيف زايد، والشيخ علي جماز، والشيخ عبد المحسن موسى من مدرسي العلوم الشرعية. ومنهم الأساتذة: محمد علي الموافي، ورشدي عبد الغني المصري من مدرسي اللغة العربية، ومنهم الأساتذة: يعقوب الدباغ مدرس الرياضيات، وداود العباسي مدرس العلوم، وبشير عزام وإبراهيم أبو عزب وفايد عاشور (الدكتور) من مدرسي المواد الاجتماعية، وغيرهم ممن لا أذكره الآن، ممن قضى نحبه، وممن ينتظر.
حتى مدرس التربية الفنية، كان من خيرة من عرفت من المدرسين: موهبة وخبرة وتعاونًا وفضلاً، وقد ملأ المعهد باللوحات الطبيعية، والكتابات الجميلة. وهو الأستاذ عبد التواب عز الدين.
وكنت أدخل على المعلمين في دروسهم، وأسأل الطلاب، فيتجاوبون معي، وقد آخذ بعض الملاحظات على المعلم، وأناقشها بيني وبينه بعد الانتهاء من الدرس.
وكنت أطلب في بعض الأحيان من المدرسين: أن يؤدي درسًا نموذجيًّا، يعده بأناة وتؤدة، وأحضره ويحضر زملاؤه من الأساتذة، ليدونوا ملاحظاتهم عليه: في مادته وفي طريقته وفي شخصيته. استفادة مما تعلمناه في التربية العملية في تخصص التدريس.
وكان من المآخذ التي أخذتها على بعض المعلمين: أن أحدهم لا يحضر درسه جيدًا، فإذا دخل الفصل فرغ من درسه في دقائق، وبقي حائرًا، وكان يملأ هذا الفراغ بحديثه عن الإسلام، والدعوة الإسلامية. فلفت نظره إلى ذلك، وقلت له: الإسلام الذي تتحدث عنه يوجب عليك أن تهتم بإعداد درسك، وأن تتعب في ذلك حتى تفيد طلابك، وتؤدي حق المرتب الذي تقبضه آخر الشهر. وقد كان الطلاب قد ملّوه، بل كرهوه، وكرهوا حديثه عن الإسلام الذي يغطي به فشله وإخفاقه.
التدريس بالعامية المصرية :
ومما لاحظته على المدرسين بالمعهد، وقد كان أكثرهم مصريين، وبخاصة أساتذة العلوم الشرعية والعلوم العربية: أن بعضهم يكثر من استخدام اللغة العامية المصرية.
والأصل أن يكون التدريس بالفصحى، فهي المفهومة لدى الجميع، وهي لغة القرآن، ولغة الحديث، ولغة الثقافة الإسلامية، وكثير من الألفاظ العامية لا يفهمها الطلاب في بلاد الخليج، وخصوصًا في ذلك الوقت، حيث لم تكن وسائل نشر العامية المصرية موفورة في قطر، فلا توجد سينمات تنشر (الأفلام) المصرية، ولا يوجد تلفزيون تذاع فيه هذه الأفلام أو المسلسلات ونحوها، بل لم تكن توجد إذاعة ولا صحافة في قطر. ولهذا كانت العامية المحضة مجهولة لدى الطلاب تمامًا.
كما كان بالمعهد طلاب من آسيا ومن إفريقيا، مثل الطلاب الذين جاءوا من الهند، وهم يتقنون العربية الفصحى ويفهمونها، ولا يفهمون حرفًا من العامية المصرية، ولا من أي عامية أخرى.
ولهذا نبهت المدرسين في الاجتماعات الدورية التي كنا نعقدها: أن يحرصوا على الكلام بالفصحى حتى يُفهموا، وأن يتجنبوا الكلام بالعامية، والله تعالى يقول: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" (إبراهيم: 4)، ولسان قومهم هنا هو الفصحى من غير شك.
وبهذه المناسبة أود أن أقول كلمة عن العامية المصرية:
فالعامية المصرية مزيج من كلمات عربية -وهي الأغلب- مخلوطة بكلمات أعجمية، ففيها كلمات من المصرية القديمة أو الرومانية أو القبطية، أو التركية أو الفارسية، أو ما وفد من الكلمات الأوروبية من الفرنسية أو الإنجليزية أو اليونانية، ومن كان له اطلاع على اللغات لاحظ ذلك بسهولة.
والعجيب أن الكلمات الفرنسية أشيع في اللغة الدارجة من الإنجليزية، لأنها كانت أسبق في الدخول إلى مصر، منذ عهد محمد علي، ولهذا نجد كلمة (بوريه) و(بوفيه) و(أنتريه) (كبنيه) و(شيفونيره) و(دلسوار) إلى آخر هذه الكلمات، كلها فرنسية.
وكثيرًا ما تحرف الكلمات العربية، فتنطق على غير أصولها، كأن ينطق حرف الثاء تاء، مثل ثعلب (تعلب) وثعبان (تعبان) وثلاثة (تلاتة) وغيرها. وكذلك الذال تنطق دالا، مثل ذهب (دهب) وذيل (ديل) وذرة (درة) وأحيانًا تنطق الذال زايا مثل ذُلٌّ تنطق (زل).
وكذلك الظاء تنطق ضادًا مثل الظُّهر (الضُّهر) والظَّهر (الضَّهر) والمنظرة (منضرة).
وأبعد ما يكون عن الفصحى: نطق القاف همزة، كما في القاهرة وبعض محافظات الوجه البحري، ولم أر هذا في بلد عربي آخر.
وكثيرًا ما تقلب الكلمات، فيقولون (أنارب) وأصلها (أرانب) ويقولون: (رزعه) في الأرض، وأصلها (زرعه) في الأرض.
وبعض الكلمات يظن أنها عامية، وهي عربية صرفة، مثل: شاف وبص وغيرها.[2]
وكنت أدير المعهد بالهيبة والمحبة، ولم أضطر أبدا إلى استخدام العنف أو العقوبة مع أستاذ أو تلميذ. إلا مرة واحدة، لفت نظر أستاذ كان معارًا من مصر، وخرج من المعهد بدون إذن، وتأخر عن درسه بضع دقائق، فلما لمته على ذلك رد بغير أدب. فكتبت (لفت نظر) في شأنه، ولكنه لم يغادر درج مكتبي، وسرعان ما عاد الأستاذ واعتذر إليّ بشدة.
ومرة أراد أحد الطلاب -وكان مفتونًا بعبد الناصر- أن يعلّق له صورة في الفصل. وقد فعل، وشكا إلي بعض الأساتذة والطلاب، فأوعزنا إلى أحدهم: أن يعلق صورة للملك فيصل، وتنازع الطالبان، وجيء بهما إلي، فقلت لهما: أولاً: من الناحية الذوقية لا يجوز أن تعلق صورة لزعيم في مبنى حكومي لبلد آخر.
وثانيًا: من الناحية الشرعية، فالإسلام يكره تعليق صور للأشخاص، وخصوصا إذا كان مظنة التعظيم. وأنتم ترون أني لا أعلق في مكتبي أي صورة، لا لأمير البلاد، ولا لولي عهده، ولا لوزير المعارف، وقد قبل الناس مني ذلك، ولم يلمني أحد عليه.
وقد خرَّج المعهد مجموعة من خيرة أبناء قطر، وأبناء الإمارات، فقد كان المعهد لهم جميعًا، وكان خريجوه هم الذين أكملوا دراستهم في الأزهر غالبًا أو في كلية دار العلوم، أو في جامعة المدينة المنورة: أمثلة تحتذى، وقد أصبحوا جميعًا من القيادات الدينية والتربوية والثقافية والسياسية في المنطقة.
حتى إني أذكر أنه في الوزارة السابقة في قطر، كان فيها أربعة وزراء من خريجي المعهد: الأستاذ عبد العزيز عبد الله تركي (وزير التربية والتعليم) ود. حمد عبد العزيز الكواري (وزير الإعلام والثقافة) والأستاذ أحمد عبد الله المحمود (وزير الدولة للشؤون الخارجية) واللواء حمد بن عبد الله بن قاسم آل ثاني (وزير الدولة لشؤون الدفاع) واثنان بمرتبة وزير: الشيخ عبد الرحمن عبد الله المحمود (رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية) والشيخ محمد بن عيد آل ثاني (رئيس الهيئة العامة للشباب والرياضة).
وعدد من السفراء: أذكر منهم الأساتذة: محمد سالم كواري، وعتيق ناصر البدر، وأحمد غانم الرميحي، وحسن إبراهيم اليمني، وعدد من القيادات في الوزارات المختلفة: العميد مقرن هجرس العتيق في القوات المسلحة، ويوسف عبد الرحمن الملا، محمد عبد الله الأنصاري، وعبد الرحمن عبد الله المولوي، في وزارة التربية، وفي الجامعة: د. عبد الحميد إسماعيل الأنصاري، ود. علي محمد يوسف المحمدي. ود. عبد العزيز عبد الرحمن كمال، ود. مصطفى عقيل الخطيب، ود. عبد الرحمن الدرهم. ويوسف عبد الرحمن المظفر في الإعلام ثم الأوقاف، ومحمد فرج قاسم في رعاية الشباب. وآخرون في مواقع مختلفة لا تحضرني أسماؤهم الآن.
أما في الإمارات، فقد كان من أبناء المعهد: د. محمد عبد الرحمن البكر (وزير العدل والشؤون الإسلامية) ود. سعيد عبد الله سلمان (وزير التربية والتعليم والتعليم العالي) والأستاذ شبيب عبد الله المرزوقي الأمين العام لجامعة الإمارات. والأساتذة: ماجد الخزرجي، وخليفة سيف، وأحمد ناصر النعيمي، وصفر المري، وجمعة بطي، وغيرهم.
نشاط متنوع في المعهد :
في هذا الوقت أصبح المعهد الديني في قطر مساحة لأنشطة متنوعة، يشغل بها طلابه، ويحرك حوافزهم، وينمي قدراتهم ومواهبهم، كما فتح أبوابه في المساء لنشاط ثقافي يسهم به في التوعية والتنوير للجمهور القطري.
على المستوى الطلابي، كنا نقيم بين الحين والحين مسابقات أدبية للطلبة، بعضها لأحسن خطيب، وبعضها لأحسن من يكتب مقالاً، وبعبارة أخرى: يكتب موضوع إنشاء. وأود أن أقول هنا بكل صراحة: إن الذين فازوا بالأولية في الخطابة والكتابة لم يكونوا هم الطلاب العرب، وإنما هم الطلاب الهنود، الذين قدموا إلى المعهد من ولاية (كيرالا) من جنوب المعهد، وقد نشئوا في أحضان المدارس والكليات الدينية العربية، حيث يعلمون العربية وآدابها وعلومها منذ لحاقهم بها، ويدربون على التكلم والخطابة بها. فلا غرو أن يحوزوا قصب السبق متفوقين على أبناء قطر والخليج. أذكر منه هؤلاء الطلبة: الشاب الهندي اللامع محمد سليم.
وقد عرفت تفوق هؤلاء الشباب من شباب الهند بعد ذلك في جامعة قطر، في كلية الشريعة مثل الشاب النابه: عبد الغفار عزيز أحد مساعدي أمير الجماعة الإسلامية في لاهور، ولا سيما فيما يتعلق بالعرب والعروبة والعربية، وكذلك في كلية اللغة العربية مثل الطالب اللامع: علي باوتي، والطالب النابه: عبد الله كُنْهاين.
ومن الأنشطة الطلابية التي عنيت بها: المطارحات الشعرية، بين الطلبة بعضهم وبعض، إما بين طالبين متميزين، أو بين فريقين من الطلاب، وهو الغالب، وفكرة المطارحة تقوم على أن يلقي أحد الطرفين بيتا من الشعر، ويرد عليه الطرف الآخر ببيت يبدأ بحرف القافية التي انتهى بيت صاحبه.
فإذا قال أحدهم:
أَخلقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
يرد عليه الآخر بقوله ملا:
جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي
فيرد عليه الأول بمثل قوله:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
ويرد الثاني بمثل قوله:
من كل شيء إذا فارقته عوض وليس لله إن فارقت من عوض
وهكذا، وكانت هذه المطارحات تُعقد ما بين الحين والحين، فدفعت الطلاب إلى أن يتهيئوا لها بحفظ ما أمكنهم من الشعر، ومراجعة ما حفظوه حتى لا ينسوه، والاطلاع على دواوين الشعر في مكتبة المعهد، وفي كل هذا خير وبركة على الطلاب، وخصوصًا المتفتحين المرجوين للغد، أما الكسالى الخاملين، أما البلداء الغافلون، فهم عن هذا كله بمعزل.
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ولكن لا حياة لمن تنادي!
وكانت جوائزنا للمتفوقين في هذه الأنشطة بسيطة جدًّا، ولكنها كانت تسر الطلاب، وتحفز هممهم، وجلها كانت (كتبًا) نحاول الحصول عليها من بعض الجهات، إلى كتابة اسم الفائز في (لوحة الشرف) بالمعهد، وإعلان اسمه في طابور الصباح.
نشاط ثقافي عام بالمعهد :
أما النشاط الثقافي العام، فقد أخذ عدة صور، أذكر منها: أنا كنا نحتفي بالمناسبات الإسلامية مثل الهجرة النبوية، وذكرى الإسراء والمعراج ونحوها، وندعو من يتحدث فيها من الخطباء المرموقين مثل فضيلة شيخنا الشيخ عبد المعز عبد الستار، والدكتور عز الدين إبراهيم، وكثيرًا ما ندعو بعض علماء قطر مثل الشيخ عبد الله بن تركي، والشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، وغيرهما.
ومنها: إقامة موسم محاضرات، وأذكر أني ألقيت المحاضرة الأولى في ذلك، وعنوانها: "نظرات في الاقتصاد الإسلامي".
ومنها: إقامة ندوات شعرية، يتبارى فيها الشعراء بإلقاء أروع قصائدهم. وأذكر أول مرة دعوت فيها إلى هذه الندوة، وكانت أول ندوة من نوعها تقام في قطر، وقد تبارى فيها عدد من الشعراء الذين لم يكن الجمهور يعرفهم حق المعرفة، فأبدعوا وأحسنوا، ونالوا إعجاب الحضور، من هؤلاء الشاعر المطبوع المجيد: أحمد محمد الصديق، والشارع: سعيد تيّم، والشاعر: معروف رفيق، والشاعر: الشيخ عليوة مصطفى. وكان لهذه الندوة صداها الواسع في الأوساط الثقافية والأدبية في قطر، ولم أشارك بشيء من شعري، واكتفيت بتقديم الآخرين للجمهور.
وتكررت هذه الندوات ما بين الحين والآخر، ولا سيما إذا وجدت مناسبة إسلامية، أو مناسبة وطنية، وكانت المناسبة الحية والحاضرة باستمرار هي قضية القضايا، قضية العرب والمسلمين الأولى: قضية المسجد الأقصى، قضية أرض النبوات، قضية فلسطين، وكان لفلسطين نصيب الأسد في كل ندوة، وحق لها.
مسابقات القرآن :
كان من الأشياء التي أعتقد أن قطر كان لها فضل السبق فيها: مسابقات حفظ القرآن الكريم، التي اقترحها تفتيش العلوم الشرعية برئاسة الشيخ عبد الله بن تركي على الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني وزير المعارف، فما كان أسرع من استجابة الوزير وتشجيعه ورصده الميزانية اللازمة لهذه المسابقة.
وكانت المسابقة على مستويين:
الأول: مستوى طلبة وطالبات المدارس. وهؤلاء يمتحنون في المقرر عليهم، وهو: سور من جزء عم، وجزء تبارك، لتلاميذ وتلميذات القسم الابتدائي، بحيث يحفظ من أتم الدراسة الابتدائية (الجزأين: عم، وتبارك). وفي الإعدادي والثانوي تقرر سور أخرى أو فقرات من سور.
الثاني: مستوى الجمهور العام، ويدخل فيه من أراد من الطلبة والطالبات. وهؤلاء يمتحنون فيما هو أكثر من المقرر، ابتداء من خمسة أجزاء، إلى عشرة، إلى خمسة عشر جزءاً، إلى عشرين، إلى خمسة وعشرين، إلى القرآن كله. والامتحان يكون في قوة الحفظ، وجودة التلاوة.
وكان يُصرف للأوائل من المتقدمين إلى المسابقة على المستويين: مكافأة مالية مقدرة، يتميز الأول فيها عن الثاني، والثاني عن الثالث. ومن بعد الثالث لا مكافأة له.
أما حافظ القرآن كله، فيأخذ على ما أذكر ثلاثة آلاف ريال، وكان هذا مبلغًا مجزيًا في ذلك الوقت.
وكان الذين يفوزون بهذه الجائزة في العادة هم إخواننا العجم (من الهنود والباكستانيين والأفغان) ممن يقيمون في قطر، ويعملون بها أئمة للمساجد أو موظفين في إحدى الدوائر.
وقد امتحنت كثيرا من هؤلاء -حين كنت أرأس لجنة المسابقة العامة- فوجدت الواحد منهم يحفظ القرآن لا يخرم منه حرفًا، كأنه (مسجل). أسأله في متشابهات القرآن، التي تلتبس على كثير من الحفاظ، فإذا هي عنده كالماء الزلال. فإذا قلت له: ما اسمك؟ هز رأسه ولم يجبني بشيء؛ لأنه لم يفهم من سؤالي شيئًا، فهو لا يعرف من معاني العربية شيئًا.
وهذا والله من روائع هذا القرآن، بل من معجزاته، التي تجعل العجمي الذي لا يعرف لغته: يحفظه عن ظهر قلب. وهذا من وسائل حفظ الله تعالى لهذا الكتاب "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون".
نشيد "مسلمون مسلمون مسلمون" :
في هذا الوقت: أنشأت نشيد "مسلمون مسلمون مسلمون". وكان الذي أوحي إليّ به هو: الغلو في القومية العربية، حتى زعم بعضهم أنها نبوة جديدة، وأن الولاء لها كالولاء لدين لله، وظهر شطط كثير لدى بعض الأقلام والألسنة، وأصبح بعض الناس يعتزون بالعروبة ولا يعتزون بالإسلام، وسمّى بعضهم ابنه (لهبًا) ليكنى بـ (أبي لهب). وهو ما هيّج النزعات القومية الأخرى مثل (الكردية) في العراق، و(البربرية) في الجزائر وغيرها.
لهذا كتبت نشيد (مسلمون)؛ لأؤكد فيه معنى (الانتماء) الإسلامي، والولاء لأمة الإسلام، والاعتزاز بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، وأتم به النعمة علينا، "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ" (المائدة: 3).
قلت في هذا النشيد:
مسلمون، مسلمون، مسلـمونْ
حيث كان الحق والعدل نكونْ
نرتضي الموت ونأبى أن نهونْ
في سبيل الله ما أحلى المنونْ
وهذه متكررة بعد كل فقرة من فقرات النشيد.
نحن صممنا وأقسمنا اليمين
أن نموت أو نعيش مسلمين
مستقيمين على الحق المبين
متحدين ضلال المبطـلين
جاهدين أن يسود المسلمون
نحن بالإسلام كنا خير معشر
وحكمنا باسمه كسرى وقيصر
وزرعنا بالعدل في الدنيا فأثمر
ونشرنا في الورى (الله أكبر)
فاسألوا إن كنتمو لا تعلمون
سائلوا التاريخ عنا ما وعى
من حمى حق فقير ضيعا؟
من بنى للعلم صرحًا أرفعا؟
من أقام الدين والدنيا معا؟
ذلكم تاريخنا يا سائلون
نحن بالأخلاق نورنا الحياة
نحن بالتوحيد أعلينا الجباه
نحن بالبتار أدبنا الطغـاة
نحن للحق دعـاة ورعاة
جاء هذا النشيد في موعده، وانتشر انتشارًا هائلاً، وتغنى به الشباب المسلم في كل مكان، ولحَّنه أكثر من واحد، في أكثر من بلد، حتى إنه كان نشيد المدارس اليمنية بصفة عامة، أيام رئاسة القاضي عبد الرحمن الأرياني.
وكان نشيد المدارس الإسلامية في عدد من البلاد، التي يعيش المسلمون فيها أقليات، مثل المدارس الهندية، ولا سيما أن النشيد يقول:
يا أخي في الهند أو في المغرب أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي إنه الإسلام أمـي وأبـي
إخوة نحن به مؤتلفون
وفي قطر أنشئت لجنة لتطوير مناهج اللغة العربية برئاسة الدكتور عز الدين إبراهيم، فكان نشيد (مسلمون) مما أدخلته اللجنة في مقرر (النصوص).
وقد حدثني الشيخ الغزالي رحمه الله عن أول مرة استمع فيها إلى هذا النشيد، وكيف تأثر به، وذرفت دموعه، عندما ألقاه الشباب في أحد المؤتمرات في الجزائر، وكان تلحينه قويًّا، وإنشاده جماعيًّا، وفي الفقرة التي تقول:
يا أخا الإسلام في كـل مكان
قـمْ نفك القيد قــد آن الأوان
واصعد الربوة واهتف بالأذان
وارفع المصحف دستور الزمان
واملأ الآفاق: إنا مسلمون
هنا صعد بعض الشباب، وهتف بالأذان: "الله أكبر"، "الله أكبر" بصوت جميل مؤثر.. ورفع عدد من الشباب المصاحف منادين: القرآن دستور الأمة.. وردد الحضور مع الشباب في النهاية:
مسلمون مسلمون مسلمون حيث كان الحق والعدل نكون
[2] لمزيد من التفصيل حول الكلمات التي يظن أنها عامية وهي عربية صرفة، يراجع: كتاب (لغويات جديدة) للدكتور أحمد الحوفي، وكتاب (تيسيرات لغوية) للدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع اللغوي بالقاهرة.

ليست هناك تعليقات: