الاثنين، 14 أبريل 2008

مذكرات القرضاوي (5)

تمنيت التعيين قبل الاعتقال:
تركت الشقة التي كنت أسكن فيها بشارع راتب باشا في حدائق شبرا، حين عرفت أنهم يسألون عني؛ لأنها أمست مصيدة لرجال المباحث، فمن دخل إليها فقد ذهب إلى المعتقل برجله، وكنت حريصا على ألا أعتقل في ذلك الوقت حتى تظهر نتيجة امتحان تخصص التدريس، وأعين مدرسا بالمعاهد الدينية، وأثبت حقي في ذلك، ثم لا مانع أن أعتقل بعدها.
هكذا كنت أتصور الأمر، وقد ظهرت النتيجة بالفعل، وكان ترتيبي الأول بفضل الله تعالى وتوفيقه على طلاب الكليات الثلاث: أصول الدين والشريعة واللغة العربية، وكان عددهم في تلك السنة 500 طالب. وبقي انتظار التعيين.
وكنت في هذه الفترة أبيت عند الأصدقاء من الإخوان الذين أحسب أنهم غير مطلوبين للاعتقال، وأقيم في بيت أحدهم عدة ليالٍ ثم أغادره، ولا أكاد أغادره حتى يداهمه البوليس ويقبض على من فيه. وضاقت القاهرة عليَّ بما رحبت، وفكرت في الاختباء بعيدا عن القاهرة حتى يتم التعيين من ناحية، وحتى تخف وطأة الإيذاء والتعذيب، حيث تكون على أشدها في الفترة الأولى، ثم يحدث الاسترخاء شيئا فشيئا.
إلى منزل خالتي في طنطا
ولهذا فكرت أن أدع القاهرة وأذهب إلى منزل خالتي بطنطا لمدة من الزمن، على أن أقبع داخل البيت ولا أخرج منه، حتى لا ينتشر خبر وجودي هناك. وهذا ما حدث، رغم ما في ذلك من خطر على خالتي وعلى زوجها، فإن إيواء أي مطلوب للاعتقال جريمة يعاقب عليها بكذا وكذا سنة، بتهمة التستر على مجرم! ولكن خالتي -رحمها الله- لم تبالِ بالعقوبة لا هي ولا زوجها، فقد كانت تعتبرني بمثابة ابنها، وهل رأيت أمًّا تغلق بابها في وجه ابنها؟
والحقيقة أن فكرة الاختباء لم تكن موفقة، وقد جربتها من قبل سنة 1949 في عهد الملكية، حين اختبأت أنا وأخي وصديقي محمد الدمرداش، ثم اضطررنا لتسليم أنفسنا حينما أخذوا والدته، والوضع الآن أشد وأقسى بما لا يوصف من ذلك العهد، فلماذا أعرض خالتي للأذى والبلاء؟
على أني في الواقع كنت معتقلا، اعتقلت أنا نفسي في المنزل، مع الخوف والقلق على نفسي وعلى من حولي، وقديما قالوا: وقوع البلاء ولا انتظاره.
ولكني كنت أنتظر التعيين بالأزهر الذي أعتبره باب مستقبلي، وقد عرفت من الأخ الصديق الشيخ مصباح عبده الذي كان يعرف مكاني وزارني فيه أني عينت بالفعل في معهد بنها الديني، وأنه مكتوب أمام اسمي: إذا حضر ليتسلم العمل يسلم إلى المباحث!
كما اقترح الشيخ مصباح عليَّ أن أحلق لحيتي، وكنت أطلقتها منذ مدة، وقال: إنه سمع أن زبانية التعذيب في السجن الحربي أجبروا بعض المشايخ أن ينتفوا لحاهم بأيديهم، من باب التنكيل والإهانة وشدة الإيلام والعذاب. وفعلا طلبنا حلاقا مأمونا، وحلق لحيتي بالموسى.
كما أن بعض أقاربي في القرية -صفط تراب- بدءوا يزورونني عند خالتي، زارني خالي وابن عمي، وخالتان لي، وآخرون من أقاربي يذهبون إلى محطة القرية يوما بعد آخر، فهذا مما يثير الانتباه. ولا سيما عند السلطة المحلية المكلفة بتبليغ أي شيء يتعلق بي.
ولهذا سرعان ما تنبه شيخ خفراء القرية للحركة غير العادية لأقاربي، وعرف أنهم يذهبون إلى خالتي في طنطا، فأبلغ رجال المباحث بالأمر.
وفي إحدى الليالي وجدنا من يقرع باب المنزل الخارجي بشدة، وينادي: يا بدوية، وهو اسم خالتي، الذي يعرفه أهل قريتنا، أما أهل طنطا فينادونها: أم عبده، على اسم خالي عبد الحميد شقيقها. وهذا عرفني أن دليل الحملة التي جاءت في جنح الليل كان من صفط.
فكان الناس يسمون هؤلاء (زوار الفجر)، وأنا أضن عليهم أن يُنسبوا إلى الفجر والنور، بل ينبغي أن يُسموا زوار الظلام.
إلى مباحث المحلة الكبرى.. الاستقبال بالفلكة والسياط!!
كان الذين جاءوا للقبض عليَّ هم مباحث المحلة الكبرى، وسرعان ما استاقوني إلى تفتيش المباحث العامة بالمحلة، وكان على رأسه ضابط شرس، كأنه وحش مفترس، اسمه محمد شديد، وكان له من لقبه نصيب أي نصيب، فهو شديد فظ غليظ، ولكن على أهل الإيمان والدين، وليس كما وصف الله أصحاب محمد بقوله: "أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ" (الفتح: آية 29).
وكان يعيش في المحلة، ويعرف نشاطي بها، ورصيدي فيها، وإقبال الناس علي من كل الطبقات، وهو ما يغيظه ويضيق به صدره، وآن الأوان ليشفي غليله مني، وقد أصبحت سجينا لديه، وهو الآمر الناهي، وعنده من السلطات ما لا حد له، فلا يسأل عما يفعل.
وقد استقبلني بالحفاوة اللائقة بمثلي: التعليق في الفلكة (آلة تعذيب بدائية للضرب على الأقدام)، والضرب بالسياط قبل أن يسألني سؤالا واحدا، ولكنه التشفي.
ثم بدأ يحقق معي بتهمة الانضمام إلى الجهاز السري، وليس عنده من الوقائع أو الأدلة ما يثبت عضويتي في هذا الجهاز إلا دعوى رئيس الجهاز بالمحلة عبد الحميد الرفاعي، واتخذ من أساليب الإيذاء والتهديد كل ما في وسعه، فيجعل مني عنصرا فعالا في هذا الجهاز، ولم أكن كذلك.
بل بلغ هذا الرجل من سوء الأدب والجبروت أن طلب مني أن أضع حذائي فوق عمامتي، فلما قلت له: إن العمامة رمز العلم الإسلامي، وإهانتها إهانة للإسلام، سخر مني، وقال كلاما أستحيي أن أذكره، وأمر أحد مخبريه أن يضع حذائي فوق عمامتي.
قلت له: أكنت تصنع ذلك لو كانت عمامة سوداء؟! فلم يرد عليَّ.
الاعتزاز بالنفس أم التمسكن؟
وكان معي في حجز المباحث الأخ الداعية الكريم الأستاذ محمد كمال إبراهيم من إخوان زفتى، وكان يعمل في نيابة سمنود، ولما رآني أُظهر الاعتزاز والشموخ، قال لي: هؤلاء إذا رأوك شامخا معتزا بنفسك، افترسوك، وحاولوا أن يذلوك ما استطاعوا، وأن يقهروك بكل ما يقدرون عليه، وأحسن طريقة معهم أن تظهر (التمسكن) حتى يكفوا عنك.
وقال: هذا ما حاولت أن أفعله معهم، قلت لهم: أنا رجل مقرئ، صوتي جميل بالقرآن، وكانت كل مهمتي في الإخوان أن أفتتح حفلاتهم بقراءة القرآن بصوتي.
قلت للأخ كمال: ألم نكن ننكر على الناس قولهم: "إذا كان لك عند الكلب حاجة قل له: يا سيدي"! وقولهم: "دارهم ما دمت في دارهم، وأرضهم ما دمت في أرضهم"، ونسمي هذه: أخلاق العبيد.. فكيف تنصحني اليوم أن أتخلق بأخلاق العبيد؟
قال: كلامك صحيح في الظروف العادية، أما في الظروف الاستثنائية فلها سلوكها الخاص بها. ألم تحدثونا أنتم علماء الشرع عن أحكام الضرورات، وأنها تبيح المحظورات، وعن أحكام الإكراه وما يترتب عليه، وأن من الصحابة الأخيار من اضطرته الظروف الاستثنائية أن ينطق بكلمة الكفر مكرها، وظل خائفا مشفقا على نفسه ودينه من هذه الكلمة حتى نزل قوله تعالى: "إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ" (النحل: 106) وقال تعالى في موالاة الكفار من دون المؤمنين "وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً" (آل عمران: 28).
قلت: صدقت، ولكن هناك خيوطًا دقيقة بين المشروع والممنوع في هذا التعامل، فالعلماء قالوا: المداراة للسفهاء ونحوهم مشروعة، أما المداهنة فمحظورة.
قال: وأنت لا يُطلب منك أكثر من المداراة لهؤلاء السفهاء القساة، لا المداهنة لهم. كل ما أطلبه منك أن تتظاهر بالضعف وإن كنت قويا، حتى لا يتجبروا عليك، ويحاولوا أن يكسروا أنفك بما لديهم من وسائل إيذاء.
قلت: وهذه محنة أخرى داخل المحنة، أسأل الله تعالى أن يعيننا عليها.
وتذكرت قول حكيم الشعراء أبي الطيب:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن!
واجتهدت أن أنتصح بنصيحة الأخ كمال، وإن كانت صعبة على نفسي. وعلى المرء في زمن كهذا أن يروض نفسه على تحمل الصعاب، مادية كانت أو نفسية، وقد قلت في النونية:
هون عليك الأمر لا تعبأ به إن الصعاب تهون بالتهوين!
ويبدو أن نصيحة الأخ كمال قد آتت أكلها، فكفوا الأذى عني، أو لعلهم ملوا من كثرة ما صدر منهم من أذى، أليس يمل المؤذي كما يمل غيره من الناس؟ إن العقارب لا تلدغ إلا في ظرف معين، والأفاعي لا تعض إلا لسبب خاص، والوحوش لا تفترس إلا لحاجة تدعوها.. فلماذا نرى الإنسان يؤذي أخاه الإنسان في الإصباح والإمساء، وبسبب وبغير سبب، وكأنما يتلذذ بهذا الإيذاء؟!
إن الإنسان إذا تجرد عن الإيمان أمسى شرا من السبُع الضاري؛ لأن السبُع لا يبحث عن فريسته إلا إذا جاع، وإذا وجد الفريسة لم يبحث عن غيرها حتى يجوع، ولكن الإنسان -إذا حُرم من الإيمان- لا يشبعه فريسة ولا فرائس؛ فقد يقتل الألوف، بل الملايين وهو لا يشبع ولا يرتوي، بل هو أشبه بجهنم التي يقول الله لها: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟
على أن بعض هؤلاء المتجبرين الذين رأيتهم يمدون أيديهم إلي بالأذى ليسوا أشرارا في حقيقتهم، ولكنهم قهروا على الشر قهرا بحكم عملهم ووظيفتهم، والعامة في مصر يقولون: "أكل العيش مُرّ". وأكل عيشهم يضطرهم أن يفعلوا ما لا يحبون، وأن ينفذوا ما يؤمرون، وأن يسارعوا إلى تنفيذه، ويظهروا تجاوبهم معه وتلذذهم به، حتى لا تلحق بهم تهمة قد تحرمهم من عملهم.
وقد عرض أخونا الشاعر المبدع هاشم الرفاعي في رائعته الشهيرة (رسالة في ليلة التنفيذ) للسجان الذي يحرسه وما يدور بخاطره، عرضا يتضمن لمسة إنسانية، يقول فيها:
هو طيب الأخلاق مثلك يا أبي لم يُبد في ظمأ إلى العدوان
لكنه إن نام عـني لـحـظة ذاق العيال مرارة الحرمان
أنا لا أحس بأي حقد نحـوه ماذا جنى فتمسه أضغاني؟
على أية حال بقيت في حجز المحلة أيامًا لا أذكر عددها، لم يستطع أحد من الأهل والأقارب أن يصل إلي أو يعرف عني شيئا، رغم أنهم يمرون على تفتيش المباحث غادين ورائحين، ولكنهم لا يدرون ما يدور فيه؛ فهو أشبه بما وصفه ابن الرومي من قبر ابنه القريب منه، الذي أصبح كما قال:
بعيدا على قرب، قريبا على بعد!
ثم انتهت مهمتنا في مباحث المحلة، بعد أن انتهى التحقيق معنا، وآن الأوان لنرحل إلى طنطا، ومنها إلى القاهرة لندخل مع إخواننا هناك في الأتون الكبير الذي ينتظرنا، وهو (السجن الحربي) وما أدراك ما الحربي!!
خالتي تواجه السجن بسببي!!
وقبل أن أحدثك –قارئي- عن الحربي وما فيه، أحب أن أذكر لك ما جرى لخالتي التي آوتني في بيتها تلك الأيام؛ فما طلع النهار حتى قبضوا عليها هي وزوجها، ثم أفرجوا عن زوجها؛ لأن البيت بيتها هي، وبقيت هي حبيسة على ذمة قضية إيواء مجرم مطلوب للاعتقال، ووقفت أمام القاضي، الذي سألها: كيف فعلت ذلك، وأنت تعلمين ما في هذا الفعل من عقوبة قاسية؟
قالت له: يا سيادة القاضي، إنه ليس شخصا غريبا آويته. إنه ابني، ماتت أمه وتركته لي، أفتطرد الأم ابنها إذا أوى إليها؟
وتأثر القاضي بكلامها، ولكن الجو كان مشحونا ضدها وضد أمثالها؛ فما كان من القاضي إلا أن أجل القضية، وظل يؤجلها حتى هدأ الجو، وبدأ الإفراج عن بعض المعتقلين، ثم حكم لها في النهاية بالبراءة.
مع كل قَدَرٍ لطف:
يقول ابن عطاء الله في حكمه الشهيرة متحدثا عن لطائف أقدار الله: "من ظن انفكاك لطفه عن قدره، فذلك لقصور نظره {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ}" (يوسف: 100).
يعني أن في كل محنة منحة، وفي كل قدر لطفا، علمه من علمه، وجهله من جهله، وكثيرا ما لا يعلمه الناس إلا بعد مدة، كما في محنة يوسف وبيعه لعزيز مصر، واتهامه ودخوله السجن؛ لأن الله تعالى يدخره ليقوم بمهمة فيها إنقاذ مصر وما حولها من مجاعة مهلكة، لولا ما هيأه الله له ليقوم به من تخطيط زراعي لمدة 15 عاما.
لقد كنت ضيق الصدر، شديد التأذي بما جرى لي في مباحث المحلة من إيذاء وإيلام وتعذيب، ولكن بعد ذلك تبين لي أن هذا كان فيه خير كثير لي من حيث لا أدري.
أولا: أعفاني التحقيق الذي حدث في المحلة من إعادة التحقيق معي مرة أخرى في السجن الحربي، حيث تسلموا الملف كاملا مستوفًى، والتحقيق في المحلة على ما فيه لا يداني ما يجري في السجن الحربي من أهوال تشيب لها الولدان، وتقشعر من ذكرها الأبدان.
ثانيا: التحقيق الذي جرى في المحلة كان محصورا في قضية واحدة: قضية الجهاز السري في المحلة، فلم يسألني عن نشاطي الآخر في القاهرة وهو متعدد النواحي، ولهذا لم يسألني عن نشاطي في قسم نشر الدعوة ورحلاتي في الصعيد والوجه البحري، ولا عن نشاطي في قسم الطلاب، وخصوصا طلاب جامعة الأزهر بكلياتها المختلفة، وقد كنت المسؤول الإخواني عنهم، ولم يسألني عن نشاطي في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي ورحلاتي إلى لبنان وسورية والأردن، وصلاتي بطلاب البعوث الإسلامية وغيرهم ممن يدرسون في مصر.
من لطف الله أنه كان هناك انفصال بين الجهات المختلفة، فكل جهة تبحث فيما يخصها، ولا صلة لها بغيرها.
أذكر أننا كنا في إحدى الخرجات التي يُخرجوننا فيها نركض أمام السجن، وقد فوجئت بالأخ الأستاذ أحمد عادل كمال ينتقل من مكان إلى مكان، حتى وصل إلى جواري، وقال لي: هل سألوك عن رحلة سوريا؟ قلت: لا، لم يذكروا لي أي شيء عنها. قال: لو سُئلت عنها فلا تذكر عني شيئا. قلت: إن شاء الله. وقد كنا التقينا هناك في مدينة حماة. ولكن من رحمة الله أني لم أسأل على الإطلاق عن أيِّ شيء حول هذه الرحلة.
السجن الحربي.. وحمزة البسيوني الذي تحدى الله!!
عرفت السجن الحربي في اعتقال يناير سنة 1954، وكان اعتقالنا في عنبر رقم (4)، وكان سجنا انفراديا، كل معتقل في زنزانة، ولكن السجن في تلك الفترة خلا من الإيذاء والتعذيب، حتى كتبت قصيدة أتغزل فيها بـ(زنزانتي) نشرتها مجلة السجن التي كان يشرف عليها الأخ الأستاذ عز الدين إبراهيم.
أما السجن الحربي الذي رحلنا إليه اليوم فشيء آخر تماما، لا يمكن وصفه ولا تصويره بالكلمات والحروف، نثرا أو شعرا.
لقد عرف الناس من قديم الزمن السجون، وما يجري فيها من فنون الأذى، وألوان العذاب، سمعنا عن سجن (الباستيل) في فرنسا، وعن سجون الأكاسرة والقياصرة والفراعنة وغيرهم، وقرأنا قول الشاعر العربي يصف سجنه بقوله:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فـلسنا مـن الـموتى نعدّ ولا الأحيا
إذا دخـل السجان يومـا لحاجة فرحنا وقلنا: جـاء هـذا مـن الدنيا
ونفرح بالـرؤيا، فجل حـديثنا إذا نحن أصبحنا: الحديث عن الرؤيا!
ولكن السجن الحربي أعطى صورة عن السجن لا نظير لها فيما أعلم. وقد تجمع في هذا السجن: الطرائق القديمة للتعذيب، والطرائق الحديثة، المستوردة من النازية والفاشية والشيوعية التي تفننت في أساليب تعذيب البشر وإذلالهم، ومحاولة التأثير على أفكارهم وسلوكهم عن طريق ما يسمونه (غسيل المخ)، وهو ما ذكره صلاح نصر مدير المخابرات المصرية ورجل عبد الناصر في كتابه عن (الحرب النفسية)، وهو ما اجتهدوا أن يطبقوا نظرياته على الإخوان بجلافة البدوي أو الصعيدي القح في هذا الأتون الكبير الملتهب المسمَّى (السجن الحربي).
والسجن الحربي في مصر بناه الإنجليز أيام الاحتلال، ليعاقب فيه العساكر الذين يخالفون القانون، وقد قسم على أساس أن يكون لكل سجين زنزانة يسجن فيها انفراديا.
والزنزانة هي حجرة صغيرة نحو مترين في متر ونصف تقريبا، فيها نافذة صغيرة عالية قريبة من السقف، مسورة بالحديد، مفتوحة باستمرار لإدخال الهواء، حيطانها وأرضيتها أقرب إلى اللون الأسود، لها باب أسود أيضا يغلق بقفل من الخارج.
وكنت أنا ومعظم المعتقلين في السجن الكبير، وهو مبنى مربع مكون من ثلاثة أدوار، كل دور مكون من أربعة أضلاع، كل ضلع فيه خمسة وعشرون زنزانة أو أكثر، وأمام الزنازين في الدورين الثاني والثالث (فراندة) يحوطها سور يطل على ساحة السجن، وللسجن سلّمان، لكل ضلعين سلم ينزلان منه إلى الساحة (أو الحوش) وفيه دورتان للمياه، في كل دورة تسعة مراحيض على ما أذكر، وقد أنشئتا لتكفيا نزلاء السجن كله إذا امتلأ، أي نحو ثلاثمائة شخص، وهيهات أن يمتلئ. فكيف يكفي الآن أكثر من ألفين؟ إذ كل زنزانة فيها سبعة أو ثمانية. لهذا كان من أسباب العذاب في السجن الحربي كيف يمكن الإنسان أن يقضي حاجته البشرية في دورة المياه؟
الاستقبال في السجن الحربي
وصلت السجن الحربي في مساء اليوم الذي صدر الحكم فيه على الأستاذ الهضيبي والإخوة الستة معه بالإعدام، وهم: عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، وإبراهيم الطيب، ويوسف طلعت، وهنداوي دوير، ومحمود عبد اللطيف، وحولوا من السجن الحربي إلى سجن آخر. ولهذا لم يقدر لي أن ألتقي بهم، أو أراهم ولو من بعيد، كما رآهم الكثيرون، وهم صفوف أمام السجن، في خطوات عسكرية على أنغام أغنية أم كلثوم، وهي تغني: "يا جمال يا مثال الوطنية، أجمل أعيادنا المصرية، بنجاتك يوم المنشية"! وهي نفس الأغنية التي تحولت بعد ذلك وصارت: "أجمل أعيادنا المصرية، برئاستك للجمهورية"!
عندما دخلت باب السجن الحربي كان جنود السجن يرقبوننا على أحر من الجمر، ليستقبلونا بالتحية اللازمة لأمثالنا: بالكرابيج تلهب ظهورنا، وبالشتائم تخرق أسماعنا، وبالمشاهد الرديئة تؤذي أبصارنا.
كان الوطيس لا يزال حاميا، والرحى الطحون تدور بقوة، لا تطحن الحب، بل تطحن البشر تحت حجريها: التعذيب البدني، والإهانة النفسية. إذ المقصود أن يسلخ الناس من آدميتهم، وأن يعاملوا كأنهم مواشٍ في حظائر، لا حرمة لهم ولا كرامة ولا حقوق. على أن المواشي في الحظائر يجب الرحمة بها والعناية بها، وإلا احتجت لأجلها جماعات الرفق بالحيوان في العالم. أما نحن فلم نر ولم نسمع ولم نقرأ أن أحدا احتج لما نلقاه من عذاب وهوان.
حمزة البسيوني.. الذي تحدى الله!!
الناس كل الناس هنا خانعون خاضعون، لا يملكون أن يقولوا: لم؟ بله أن يقولوا: لا. فقد أعاشوهم في رعب رعيب، أخرس الألسنة، وزلزل القلوب، وشل الأيدي.
هنا واحد فقط هو الحاكم بأمره، الذي لا يحاسب على ما يقول، ولا يجازى على ما يقترف، بل لا يسأل عما يفعل، فله كل سلطة الإله! إنه (الباشا) قائد السجن حمزة البسيوني، الذي يتحدى القانون، ويتحدى النظام، ويتحدى الدين، ويتحدى كل شيء، حتى الله تعالى في عرشه، فقد رد على بعض الإخوة حين قالوا: يا رب، يا رب، قال: هاتوا لي ربكم وأنا أحطه في زنزانة!! لعنه الله وأخزاه، وكلما رأيته تذكرت قول الله تعالى: "كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" (غافر: 35).
وينوب عن حمزة البسيوني في حكم السجن عسكري برتبة رقيب أول أو (باش جاويش) اسمه أمين السيد، الذي يستطيع بصفير صفارته أن يدخل المعتقلين إلى الزنازين، وأن يخرجهم منها، وأن يقيمهم ويقعدهم كما أراد، وكلما أراد، وكيفما أراد. وهو شاب نحيف نحيل، ولكنه منتفخ بالغرور والعجب والزهو بنفسه. إنه يعتبر نفسه كأنه عضو في مجلس الثورة، قال لنا يوما: "تسعون إلى الحكم، ها نحن معنا الحكم.. أخذنا إيه؟".
بقينا في ساحة السجن الكبير، وكل من يمر بنا من العساكر يجرب سوطه فينا، وقد سجلوا أسماءنا وبياناتنا المختلفة، وغدا لكل منا ملفه عندهم، ثم حولونا إلى سجن رقم (4) الذي يستقبل المتهمين الجدد، حتى يصفى التحقيق معهم، ثم ينتقلون عادة إلى السجن الكبير. وهذا ما حدث لي. فقد عدت إلى السجن الكبير ووضعت في زنزانة في الدور الثالث أظنها رقم (242) مع عدد من إخوان المحلة المتهمين معي. وكان في كل زنزانة عادة سبعة أو ثمانية.
وقد صورت في قصيدتي النونية لحظات دخولي إلى السجن الحربي، واستقبالي فيه، وما شاهدت من أهوال الاستقبال في أبيات يحسن بي أن أذكرها هنا:
قصص من الأهوال ذات شجون
وتول عن دنياك حتى حين
تسمو على التصوير والتبيين
بل خطب هذا المشرق المسكين
فزعت من نومي لصوت رنين
وتحوطني عن يسرة ويمين
فرحا بصيد للطغاة سمين
وقذفت في قفص العذاب الهون
من باعث للرعب قد طرحوني
عيناي ما لم تحتسبه ظنوني
يندى لها –والله- كل جبين
للنهش طوع القائد المفتون
يعدو عليك بسوطه المسنون
مما لقيت بهن بضع سنين
لا زلت حيا أم لقيت منوني؟
برزت كواسرها جياع بطون؟
جبارة للمؤمنين طحون؟
أم تلك دار خيالة وفتون؟
أأشك في ذاتي وعين يقيني؟
تحوي الفصول السود من مضمون؟
يا سائلي عن قصتي اسمع، إنها
أمسك بقلبك أن يطير مفزعا
فالهول عات والحقائق مرة
والخطب ليس بخطب مصر وحدها
في ليلة ليلاء من نوفمبر
فإذا (كلاب الصيد) تهجم بغتة
فتخطفوني من ذوي وأقبلوا
وعزلت عن بصر الحياة وسمعها
في ساحة (الحربي) حسبك باسمه
ما كدت أدخل بابه حتى رأت
في كل شبر للعذاب مناظر
فترى العساكر والكلاب معدة
هذي تعض بنابها وزميلها
ومضت علي دقائق وكأنهايا ليت شعري ما دهاني؟ وما جرى؟
عجبا!! أسجن ذاك أم هو غابة
أأرى بناء أم أرى شقي رحى
واها!! أفي حلم أنا أم يقظة
لا .. لا أشك.. هي الحقيقة حية
هذي مقدمة الكتاب، فكيف ما
فنون التعذيب وأدواته في السجن الحربي
وكان من أدوات التعذيب التي استخدمها زبانية السجن الحربي: الكلاب المتوحشة، يسلطونها على المعتقل، لتنهش من لحمه، وقد دربوها على ذلك، حتى أصبحت مسخرة لهم في مهمتهم.
بيد أن هذه الكلاب لا ذنب لها فيما تفعل، فهي مسخرة للإنسان، إنما ذنب الإنسان الذي سلطها على أخيه الإنسان لتؤذيه وترهبه بغير حق.
ومع هذا كثيرا ما رأينا هذه الجوارح من الكلاب تخذل أصحابها ومعلميها فيما أرادوه منها، ولا تستجيب لهم في إنفاذ ما طلبوه منها من شر وإيذاء.
وقد جرى هذا مع أكثر من أخ من الإخوان الذين أغروا بهم الكلاب، فكانت الكلاب خيرا منهم وأرق وأرقى. منهم الأخ الفاضل الدكتور مصطفى عبد الله، وكان من خير الأطباء، ومن خيرة الناس دينا وخلقا وفضلا، وقد عرفته حين كان طبيبا في طنطا، وكان رئيسا لإخوان مديرية الغربية.
جيء بالدكتور مصطفى من القاهرة، وأدخلوه في زنزانة انفرادية، وأدخلوا معه الكلب بعد أن جوعوه، ولكن يبدو أن الكلاب بفطرتها تحس بالإنسان الطيب، وتأنس به، وترق له، وبعد مدة فتحوا الزنزانة لينظروا مدى الجراح التي أصيب بها الدكتور، فوجدوا أن الكلب يجلس أمام الدكتور في وداعة وسكون، وينظر إليه في ود وحنان، والدكتور مشغول بالذكر والتسبيح والاستغفار.
أجل، لقد كانت الكلاب أرفق وأحن من هؤلاء الذين ينتسبون إلى بني الإنسان!
وفي النهاية لم يجد البسيوني المتجبر -أو (الباشا) كما يسمونه- أمامه إلا الإفراج عن الدكتور مصطفى من السجن الانفرادي مع الكلب.
تعذيب حتى الموت:
كل من يدخل السجن الحربي لا بد أن يمسه بعض ألوان العذاب، ماديا ومعنويا، جسديا ونفسيا، إيجابيا وسلبيا، وإن كان المعتقلون يتفاوتون في ذلك تفاوتا كبيرا.
على أن أقسى صنوف العذاب كان مع المتهمين الذين يحقق معهم للحصول على اعترافات معينة، على اعتبار أن لديهم أسرارا يكتمونها عن التحقيق، فلا ينطقهم إلا التعذيب الذي يحل عقدة ألسنتهم بالرغم عنهم.
وكان بعض المعذبين لا يوجد لديه أسرار أو معلومات، كما توهموا، ولكن لا بد أن يعترف، فأحيانا يعترف لهم بوقائع وهمية من صنع خياله، حتى يرفعوا أيديهم عنه، ويا ويله ثم يا ويله لو اكتشفوا كذبه.
وبعضهم لديه أسرار ومعلومات، ولكنه يريد أن يحمي إخوانه من السجن والتعذيب والعقوبة المرتقبة.
الشيخ محمد الصوابي الديب:
وبعضهم يحمي شخصيات يخاف أن تمس بأذى، وسنها ووضعها الصحي ومنزلتها لا تجعلها تحتمل ذلك. وهذا ما حدث لأخينا وزميلنا الشيخ محمد الصوابي الديب خريج كلية الشريعة، ورفيقنا في كتيبة الأزهر في معركة القناة، وقد كان مطلوبا للاعتقال، فهداه تفكيره إلى أن يختفي في منزل العلامة الكبير الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق، وقد حكى للشيخ قصته[1]، فرحب به، وآواه في بيته، على رغم خطورة هذا الأمر، ولكن أخانا محمد استجار بالشيخ فأجاره وأكرم مثواه، فخلق المسلم يأبى عليه ألا يجير من استجار به. وبقي في بيته مدة من الزمن باسم صادق أفندي، ثم هيئ للأخ محمد جواز سفر باسم آخر، وسافر إلى جدة، وقد كشفت السفارة المصرية في جدة شخصيته، وقبضت عليه بطريقة لا أعرف تفاصيلها، وأعادته إلى القاهرة وأدخل السجن الحربي، وبدأ التحقيق معه بسؤاله عمن عمل له الجواز، ومن ساعده على السفر، وبعد مواصلة التعذيب اعترف بمن ساعدوه على السفر، ولكن بقي سؤال مهم لم يجب عنه محمد الديب، وهو: أين كان يقيم طوال المدة التي اختفى فيها قبل سفره؟
وهنا خشي الأخ محمد أن يضار الشيخ مخلوف بسببه، وأن يناله أدنى شيء من أذى أو إهانة، ولهذا رفض أن يجيب عن هذا السؤال، وكلما رأوه صامتا بالغوا في تعذيبه، وهو مصر على السكوت. ومن المعروف: أن الإنسان قد يصبر على الضرب الأول وإن اشتد وطال. ولكن أقسى الضرب وأوجعه هو الضرب الثاني، أي الضرب والجسم مجروح ومشرَّح من آثار الضرب السابق، فهنا يكون الضرب شيئا لا يطاق. وهذا ما حدث لأخينا الديب، ولكثير من إخوانه المعذبين. حتى قال الإخوة الذين شاهدوه: إن جسمه قد بات كتلة من الجراح والدم والقيح والصديد، وكانوا إذا أرادوا أن يأخذوه من الزنزانة إلى مكاتب التحقيق، يتحيرون في توصيله، لأنه لا يستطيع أن يمشي، ولا يستطيعون هم أن يحملوه، لأنه كومة من الجراح، وأخيرا لم يجدوا إلا (عربة القمامة) يوضع فيها، وينقل عليها.
وما هي إلا أيام، حتى تفاقمت جراحه، وتضاعفت آلامه، وفاضت روحه إلى بارئها، تشكو إلى الله ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، والمصري لأخيه المصري!
وكان الذين يموتون تحت التعذيب، يلفون عادة في بطانية من بطاطين السجن، ويحمله بعض الجنود، ثم يذهبون في صحراء العباسية ليحفروا له حفرة، ثم يوارونه التراب، لم يغسل، ولم يكفن، ولم يصل عليه أحد. ثم يكتب أمامه: أفرج عنه يوم كذا!! وبذا يبرأ السجن من عهدته. ومن ذا سيحاسبهم؟
ولقد شهدنا أيامنا الأولى في السجن الحربي، وكنا في سجن رقم (4) واحدا من هؤلاء الذين قضوا نحبهم تحت التعذيب، ملفوفا في البطانية السوداء، ومحمولا على عاتق بعضهم، شهدنا ذلك بأعيننا؛ إذ كانت الأبواب مفتحة دون أن يشعروا، ثم سرعان ما أغلقوها بعصبية وانفعال.
ولقد قتل عدد من الإخوان بهذه الطريقة البشعة، منهم الأخ محمود يونس من عرب جهينة، والأخ علي الخولي الموظف بأخبار اليوم، وآخرون.
ومما أذكره: أن أحد الشباب جيء به إلى السجن بعد فترات التحقيق والتعذيب الأولى، وكان جو السجن هادئا نسبيا، ولكنهم حققوا معه بشيء من القسوة الزائدة، وكان الشاب قويا أبيًّا مفتول الذراعين، صبورا على التعذيب، واثقا بنفسه، مؤمنا بربه، وهذا النوع من الرجال يغيظهم ويثيرهم، ويبدو أنهم ضربوه ضربة كانت قاتلة، أذكر أن اسمه فاروق أبو الخير، وأنهم مزقوا الصفحة التي كتب فيها، واعتُبر كأن لم يدخل السجن الحربي، ولم يمر بعتبته قط.
هل كان التعذيب بعلم عبد الناصر؟
اعتذر بعض الناس عن عبد الناصر، وقالوا: إنه لم يكن يعلم بما يجري داخل السجون الحربية وغيرها من مآسٍ وأهوال، ونقول: إنه راعٍ، ومسؤول عن رعيته، ونحن هنا ننشد قول الشاعر العربي:
إذا كنت لا تدري، فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم!
ولو لم يكن حمزة البسيوني يعلم علم اليقين أن ظهره مسنود من عبد الناصر وقادة الثورة، ما أقدم على ما أقدم عليه من مذابح وفظائع بقلب جسور، ولسان عقور، ولو لم يعلموا فيه هذه الضراوة وهذه الوحشية، ما وضعوه في هذا الموضع، ولا كلفوه هذه المهمة.
ومن المعروف من سيرة عبد الناصر: أنه كانت ترفع إليه تقارير وافية عن سياسة مصر في جوانبها المختلفة، وأنه كان يقرأ هذه التقارير. حتى إن السادات بعد لم يكن يقرأ هذه التقارير، قائلا: إنها هي التي قتلت عبد الناصر!
ولهذا لا يتصور أن تحدث هذه الوقائع الهائلة داخل السجون الحربية، ويخر الناس فيها صرعى من التعذيب، ولا ينقل أحد إلى عبد الناصر بعض ما يجري في ملكه. وطبيعة هذا النظام أنه لا يأمن لأحد قط، ولهذا كان بعضهم يشك في بعض، وبعضهم يتجسس على بعض، فكيف يزعم زاعم أن عبد الناصر كان في غيبة أو غفلة عن الوقائع الهائلة التي تقع في السجن الحربي؟
ومن الناس من قال: إن ما حدث من تعذيب للإخوان ولغيرهم في السجن الحربي وغيره، لم يكن بإذن عبد الناصر، ولا بعلمه. إنما هو بفعل مراكز القوى التي أصبحت لها القدرة على أن تفعل ما تريد وإن لم يأتها أمر من عبد الناصر.
وأقول هنا: إن مراكز القوى -التي تحدثوا عنها بعد ذلك- لم تكن قد تكونت بعد، إنما كان تكوينها بعد ذلك بسنوات. أما في سنة 1954 فقد كان عبد الناصر هو المسيطر، وهو الطاغوت الأكبر، ولا سيما بعد انقضاضه على محمد نجيب.
ولقد حكى الثقات أنهم رأوا عبد الناصر وهو يشهد التعذيب بعيني رأسه، ويتلذذ به، كأنما يشاهد فيلما سينمائيا للتسلية والترفيه!
يقول الرائد المجاهد الصادق معروف الحضري: أشهد الله أن جمال عبد الناصر كان يحضر شخصيا إلى السجن الحربي، وكذلك جمال سالم، وعلي صبري، ليتلذذوا بالتعذيب الذي يقع على الإخوان.[2]
ويقول المستشار علي جريشة: إنه شاهد الطاغوت (ناصر) ونائبه (عامر) يشهدان صور التعذيب في غرفة حمزة البسيوني[3].
على أن القرآن الكريم يحمّل فرعون وهامان وجنودهما المسؤولية جميعا، كما قال تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ" (القصص: 8) ففرعون يحمل التبعة بما يصدر من أوامر، وما يولي من مناصب، وهامان بما ينفذ من تعليمات الفرعون، والجنود بما يباشرون من الإيذاء والمظالم.
وقال تعالى: "فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ" (القصص: 40-41)
فإذا كان جنود فرعون يتحملون المسؤولية؛ فكيف بفرعون نفسه؟
وقد حكوا أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه عندما أُخذ إلى السجن، ونزل به من الأذى ما نزل في فتنة خلق القرآن الشهيرة في تاريخنا، سأله سجانه يوما عن الأحاديث التي وردت في أعوان الظلمة: أهي صحيحة؟
قال له: نعم هي صحيحة.
قال السجان: فهل تراني من أعوان الظلمة؟
قال الإمام: لا، لست من أعوان الظلمة. أعوان الظلمة من يخيط لك ثوبك، ومن يطهو لك طعامك… إلخ. أما أنت فمن الظلمة أنفسهم!!
وقد سألني كثيرون عن رأيي في عبد الناصر، وتقويمي لشخصه، ومبادئه التي عرفت باسم (الناصرية) ومرحلة حكمه؛ فإن الناس قد ذهبوا فيه مذاهب شتى: ما بين مقدس له، ومتهم له بالعمالة والخيانة والردة.. حتى قال نزار قباني في رثائه له: "قتلناك يا آخر الأنبياء"، وأنا أحتفظ برأيي الآن، لأقوله بصراحة عند الوصول إلى أحداث سنة 1970م، وفيها مات عبد الناصر، وهناك سأقول كلمتي فيه، إن شاء الله. وأرجو أن يوفقني الله لقولة الحق بين المقدسين والمتهمين.
الحكم بالإعدام على سبعة من قادة الإخوان:
في 4 ديسمبر -يوم وصولي إلى السجن الحربي- أصدرت محكمة الشعب أول أحكامها ضد الذين اشتركوا في محاولة القتل ورؤساء كل من الجهاز السري والجمعية العلنية؛ فحكم على سبعة من أعضاء مكتب الإرشاد كلهم من مستشاري الهضيبي بالسجن مدى الحياة مع الأشغال الشاقة، وهم: كمال خليفة، ومحمد خميس حميدة، وأحمد عبد العزيز عطية، وحسين كمال الدين، ومنير الدلة، وحامد أبو النصر، وصالح أبو رقيق، كما حكم على عضوين آخرين من أعضاء المكتب بالسجن خمسة عشر عاما، وهما: عمر التلمساني، وأحمد شريت. وبرئت ساحة ثلاثة أعضاء من المكتب كلهم من أصدقاء الحكومة وهم: عبد الرحمن البنا، وعبد المعز عبد الستار، والبهي الخولي. وحكم بالإعدام بالشنق على سبعة من أعضاء الجمعية وهم: حسن الهضيبي، ومحمود عبد اللطيف، وهنداوي دوير، وإبراهيم الطيب، ويوسف طلعت، والشيخ محمد فرغلي، وعبد القادر عودة، ثم خفف مجلس الثورة الحكم على الهضيبي إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة؛ بحجة أنه ربما وقع تحت تأثير من حوله، وهو رأي يعززه "ضعف صحته وكبر سنه". ورفضت الحكومة التماسًا لعبد القادر عودة بإعادة النظر في القضية.
وفي اليوم التاسع من ديسمبر بعد وصولي إلى السجن بخمسة أيام، شعرنا داخل السجن بجو غير عادي، وكان هناك قلق وهلع لدى قيادة السجن: أن يحدث شيء من المعتقلين، ولذا شددوا القبضة أكثر من أي يوم مضى، ولم نعلم نحن ما السر وراء هذا؟ ثم علمنا أنه في هذا اليوم قُدم إلى حبل المشنقة كبار إخواننا الذين حُكم عليهم بالإعدام، ما عدا المرشد.
وفي ذلك يقول ميتشل: (وفي 9 ديسمبر نُفذت أحكام الإعدام في جو من الذهول وعدم التصديق ساد مصر، وعلى الرغم من احتجاجات العالم العربي. وقد سجل عدد من الذين حضروا الشنق كلمات المتهمين. كان عبد اللطيف ودوير يتلوان آيات من القرآن، وقد عراهما خوف شديد، وصاح الطيب مغاضبا: "لقد كانت المحاكمة مهزلة؛ إذ كان أعداؤنا قضاتنا"! أما طلعت فقد طلب في هدوء الصفح من الشيخ فرغلي الذي أحس بأنه قد خانه، ثم أضاف "عسى أن يغفر لي ولأولئك الذين أساءوا إلي". أما فرغلي فقد ظهرت عليه السكينة ولم يزد على قوله: "إني مستعد للموت وإني أرحب بلقاء الله"، وختم عودة حياته منتعشا مرفوع الرأس قائلا: "الحمد لله الذي جعلني شهيدا، ألا فليجعل دمي لعنة على رجال الثورة".[4]
قوبلت أخبار الإعدام في مصر بذهول وسكون مروع، وكانت الحكومة قد أخذت احتياطها، فعززت دوريات الجيش والحاميات العسكرية حول المدينة. أما خارج البلاد فقد قامت مظاهرات احتجاج في الأردن وسورية وباكستان، وفي دمشق وقف مصطفى السباعي بعد الصلاة على الشهداء مطالبا الجمهور أن يعاهدوه على "الانتقام للشهداء" وقد استجابوا له، وعادت العلاقات مرة أخرى بين سوريا ومصر إلى حد القطيعة.
سارت الأحداث مائعة بعد تنفيذ الإعدام، وعهد بأعمال محكمة الثورة إلى 3 محاكم فرعية يرأسها ضباط أقل رتبة، حتى إذا أغلقت المحاكم أبوابها في أوائل فبراير كان حوالي ألف من الإخوان قد قدموا إلى المحاكمة. وبلغ مجموع من حكم عليهم بالإعدام 15 خفف عنهم الحكم جميعا باستثناء الأولين، وحكم بالبراءة أو بالعقوبة مع إيقاف التنفيذ على أكثر من نصف من قدم إلى المحاكمة، كما قدم غالبية أعضاء الهيئة التأسيسية إلى المحاكمة، ولكنهم إما برئوا أو حكم عليهم بإيقاف التنفيذ، وبقي عدد لا حصر له من الإخوان الذين لم يقدموا إلى محاكمة أو الذين برئوا بعد محاكمتهم في السجون على مدى الشهور.
وجدير بالملاحظة أن من بين جميع الإخوان الذين قدموا للمحاكمة لم يكن هناك إلا 29 من القوات المسلحة، غالبهم من جنود الصف، وأن الأحكام الخفيفة نسبيا التي صدرت على معظمهم ومحاكمتهم فعلا أمام محاكم قانونية، توحي في منطوق هذا الموقف أن جريمتهم الكبرى كانت جمعهم بين عضوية الجمعية وخدمة الدولة، وأعظم من ذلك أهمية هو نتيجة محاكمتهم؛ إذ كان وجود "خلايا" في الجيش تقوم بتدبير أعمال مخربة كان ضمن الوسائل الرئيسية التي جعلت الحكومة منها محل جدل مع الهضيبي الذي دأب على نفي هذا الزعم.
على أنه صدرت أحكام لها وزن آخر على ضابطين ظلا هاربين من العدالة؛ إذ حكم على كل من أبي المكارم عبد الحي، وعبد المنعم عبد الرؤوف غيابيا بالإعدام رميا بالرصاص.[5]
[1] انظر: مجلة (الدعوة) القاهرية العدد ( ) الصادر في شهر سنة 1976م.
[2] انظر: مذابح الإخوان في سجون ناصر لجابر رزق ص 26.
[3] انظر: عندما يحكم الطغاة لعلي جريشة ص 17،18. يؤكد هذا ما ذكرته السيدة زينب الغزالي في محنة 1965م. قال: إني كنت ملقاة على الأرض جثة هامدة، وأحسست بحركة غير عادية، فتحت عيني بصعوبة، فوجت أمامي جمال عبد الناصر، يتكئ على كتف عبد الحكيم عامر، ويمسك في يده نظارة سودا. انظر: أيام من حياتي ص 143.
[4] هنا يعلق صالح أبو رقيق قائلا: لماذا لم يسجل المؤلف قولة هنداوي دوير...؟ (أين جمال عبد الناصر... إننا لم نتفق على هذا)...
[5] انظر: الإخوان المسلمون لريتشارد ميتشل ص 293-295.

ليست هناك تعليقات: