الاثنين، 14 أبريل 2008

مذكرات القرضاوي (6)

المهزلة التي اسمها.. محكمة!!
بعد أن مكثنا أياما في السجن الحربي لا أذكر عددها، ولكنها ليست كثيرة، نودي علينا للذهاب إلى المحكمة، فحشرنا في (لوريات عسكرية) ونزلنا منها محلوقة رؤوسنا جميعا بالموسى، وكان المحاكَمون في هذا اليوم من إخوان المحلة، وإخوان بسيون، وإخوان بين السرايات بالقاهرة.
وكانت الأعداد كبيرة، والمحاكمات سريعة، قد لا تستغرق محاكمة الفرد أكثر من ثلاث دقائق أو خمس على الأكثر. وربما كانت محاكمتي من أطول المحاكمات نسبيا، لما جرى فيها من نقاش لم يكن معتادا، وإن كانت لم تلبث أكثر من دقائق معدودات.
تلا ممثل الادعاء التهمة الموجهة إليّ وإلينا جميعا، هي:
1ـ الاشتراك مع آخرين في اتفاق جنائي لقلب نظام الحكم عن طريق إحداث فتنة دامية، والقيام باغتيالات واسعة النطاق وارتكاب عمليات تدمير بالغة الخطورة للمرافق العامة، وتخريب شامل في جميع أنحاء البلاد، تمهيدا لاستيلاء الجماعة التي ينتمي إليها على مقاليد الحكم بالقوة.
2ـ والاشتراك في جهاز سري مسلح مناهض للدولة ومخالف لقوانينها، بهدف قلب نظام الحكم بالقوة.
قال ممثل الادعاء كلاما كثيرا يطلب فيه لي ولإخواني أقصى العقوبات، وقال عني أكثر مما قال عن غيري من المتهمين، وإني كنت أهيئ الإخوان لعلميات الاغتيال والتخريب، وأعدّهم لليوم الموعود، وأعدهم على ذلك بجنة الفردوس، إلى آخر ما قال مما لم أعد أذكره.
وقال رئيس المحكمة: مذنب أو غير مذنب؟
قلت: غير مذنب.
سألني رئيس المحكمة ـ وقد نسيت اسمه ـ: ألم تكن عضوا في الجهاز السري للإخوان؟
قلت: أنا من الإخوان منذ سنة 1943م أخطب وأحاضر وأدرس، وأنظم القصائد، وأجوب البلاد، في وضح النهار، وتحت الأسماع والأبصار.
قال: حضرتك "حتخطب" لي خطبة؟
قلت: لا، ولكني أشرح لسيادتك أن عملي في الإخوان عمل علني بطبيعته.
قال: ولكن عبد الحميد الرفاعي رئيس الجهاز في المحلة قال: إنك عضو في الجهاز، وإن رئيس الجهاز في الغربية قال له: إنك الموجه الروحي للجهاز في الغربية.
قلت له: يا سيادة الرئيس، أنا الموجه الروحي للإخوان كلهم في الغربية، ولكني لم أبايع أحدا للانضمام إلى الجهاز السري.
قال: هل تعرف يوسف طلعت؟
قلت: ومن في الإخوان لا يعرف يوسف طلعت؟ لقد عرفته في المعتقل سنة 1949م في جبل الطور.
قال: وهل عملت معه بعد أن تولى رئاسة الجهاز السري؟
قلت: لا. لا معه ولا مع غيره.
وصدر الحكم علي بالسجن عشر سنوات مع إيقاف التنفيذ.
وكان الذي يأخذ حكما مع إيقاف التنفيذ، أو الذي يأخذ حكما بالبراءة، يبقى في السجن، لا يغادره، حتى سئل أحد الإخوة الظرفاء بعد الحكم: بماذا حكم عليك؟ فأجاب: براءة مع إيقاف التنفيذ!
بل هذا شأن الذين لم يقدموا إلى للمحاكمة أصلا. بل هو شأن أناس أخذوا خطأ، وليس له أي صلة بالإخوان من قريب ولا من بعيد، ولكنهم حشروا في زمرتهم فجرى عليهم ما جرى على الإخوان. وكثير منهم خرج من السجن وقد أصبح من الإخوان.
البسيوني يحاكمنا مرة أخرى..
وعدنا إلى السجن، ودخلنا زنازيننا، وأخلدنا إلى النوم قليلا، وإذا بالزنازين تفتح علينا فجأة، وقلنا: يا ستار استر، اللهم إنا نعوذ بك من شر هذه الليلة، وشر ما فيها. فتح الزنازين في هذا الوقت قبل منتصف الليل لا يكون إلا لشر.
وما هي إلا ثوانٍ حتى نودي علينا بالنزول إلى صحن السجن، فوجدنا قائد السجن حمزة البسيوني ينتظرنا في ساحة السجن، وحوله زبانيته وعساكره، وعلى رأسهم (صول) السجن أمين السيد، وصدر إلينا الأمر أن نركض ونعدو بأسرع ما يمكننا في صورة دائرة أو حلقة مفرغة في ساحة السجن، والعساكر بالكرابيج من حولنا يضربوننا لنسرع أكثر وأكثر. وإذا سقط أحد منا انهالوا عليه بالكرابيج حتى يقوم، ولا أدري كم مضى علينا من الوقت، ونحن نلهث تحت السياط؟
ولكني كنت شابا قوي الجسم، في الثامنة والعشرين من عمري، فلم يزعجني هذا الركض كثيرا، فقد كنا نمارس المشي والجري من قبل، ولكن قلبي كان يتقطع إشفاقا على إخوة لي بعضهم كبار في السن، أو بعضهم يشكون من السمنة وثقل الجسم، مثل الأخ محمد كمال إبراهيم من إخوان زفتى، ممن لا يستطيعون مواصلة هذا العَدْو، ولا سيما بعد أن طالت مدته، فكانوا يخرون من الإعياء، وعساكر البسيوني لا يرحمونهم، ولا يشفقون عليهم، بل يزيدونهم عذابا على عذابهم بمضاعفة الضرب عليهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم أوقف هذا الطابور، وهم يسمونه (طابور تكدير) وأمرنا أن نقف صفوفا، لنأخذ حظوظنا مما يقسمه أو (يصرفه) لنا القائد البسيوني من الكرابيج، فمنا من كان حظه (عشرة كرابيج) وهذا نصيب الأغلبية، ومنا من نصيبه خمسون كرباجا، منهم الأخ خليل دبايح من "بين السرايات"، والفقير إليه تعالى.
وأصحاب العشرة عليهم أن يقعدوا في الأرض ويمدوا أرجلهم ليضربهم الجنود، واحدا بعد الآخر.
أما أصحاب الخمسين، فتنصب لهم (الفلكة) وتقيد فيها أرجلهم، ويجلدون بإشراف حمزة نفسه.
وقد جاء دوري، ووضعتُ في الفلكة، واستمر الضارب يضرب، ولا أدري هل أكمل الخمسين أو وقف دونها، ولا أذكر أنها آلمتني كثيرا، إلا أني رأيت الدم يسيل من ساقي بغزارة.
ووقف حمزة يخطب فينا - نحن الذين حوكمنا في ذلك اليوم من إخوان الغربية وبين السرايات، والذين سيحاكمون غدا - فقد أحضرهم حمزة ليشهدوا بأعينهم ما نزل بنا، ليتخذوا منا عبرة.
يقول البسيوني:
تريدون أن تجعلوا من أنفسكم أبطالا بالإنكار أمام المحكمة. أنا سأحاكمكم هنا، وأصدر عليكم ما شئت من أحكام، حتى الإعدام، ولن يحاسبني أحد. أنا هنا القانون، لا قانون غيري!
ثم التفت إليَّ وقال: حضرتك رايح تخطب لي أمام المحكمة وتنكر ما نسب إليك؟
قلت: من حق كل إنسان أن يدافع عن نفسه.
قال: فاخطب لنا الآن خطبة من خطبك التي كنت تخطبها في المحلة أو في الأزهر.
قلت: المجال ليس مجال خطابة.
قال: اختر لك واحدة من اثنتين: إما أن تخطب لنا خطبة، وإما أن تغني لنا أغنية!!
قلت: لست من أهل الغناء حتى أغني.
قال: فأسمعنا خطبة من خطبك.
قلت: لا بأس، وماذا تملك إذا سلط عليك متكبر جبار، مطبوع على قلبه، لا يخشى خالقا، ولا يرحم مخلوقا، جنوده من حوله مطيعون له كأدوات في يديه، وأنت أسير عنده، وهو يقول عن نفسه: أنا القانون. وهو كذلك فعلا، فلا رقابة عليه، ولا أحد يحاسبه، وكم من شاب قضى نحبه في زنازين التعذيب، وشطب من سجلات السجن، ولم يسائله أحد. فهل تملك أمام جبروته وتألهه إلا أن تؤمر فتطيع؟!
لهذا لم أملك حين أصر أن أخطب أو أغني، إلا أن أختار الخطبة. وحمدت الله تعالى وأثنيت عليه، وصليت على نبيه ثم قلت مخاطبا الإخوان الموجودين في ساحة السجن، وبالقرب منا إخوان داخل الزنازين يسمعون ما يجري:
قال العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة. وإن أحوج ما يكون المؤمن إلى التوبة والاستغفار إذا نزلت به الشدة، وحل به الكرب، فعليه أن يقول ما قاله أبوه آدم وأمه حواء: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف: آية 23)، وقد قص علينا القرآن قصة نبي الله يونس ذي النون، حين التقمه الحوت، فنادى في الظلمات: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت: "أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" (الأنبياء: آية 87) قال تعالى: "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ" (الأنبياء: آية 88)
وقال صلى الله عليه وسلم: "دعوة أخي ذي النون، ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
فتضمنت هذه الكلمة: التوحيد بقوله: (لا إله إلا أنت) والتنزيه عن كل نقص بقوله: (سبحانك) والاعتراف بالذنب بقوله: (إني كنت من الظالمين).
ولا أدري أكان البسيوني يسمع ما أقول أم لا؟ وإذا سمع هل فهم أم لا؟ على كل حال لقد أرضى غروره بإرغامي على الخطابة. وربما فهم من كلمتي أنها اعتراف منا نحن الإخوان بأننا كنا من الظالمين، فسكت عني.
وعدنا إلى زنازيننا بجراحاتنا، وحاول إخواني أن يخففوا عني ما نزل بي من ضراء وآلام، وقلت لهم: أنا والله في غاية السكينة والطمأنينة القلبية، ولا أشعر بأي ألم، ولا أقول إلا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جرحت إصبعه:
وهل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت!
ولكني أشفقت على كثير من إخواننا الضعفاء والشيوخ والمرضى الذين أرهقهم هذا التكدير. أدعو الله تعالى أن يشد أزرهم، وييسر أمرهم، ويقوي عضدهم، ويجعل ذلك في ميزانهم.
وكان للسجن الحربي طبيب يفترض أن يأتي كل يوم ليشرف على صحة المساجين، يعالج مرضاهم، ويداوي جرحاهم، ويجبر كسراهم. ولكنه لم يكن يأتي كل يوم، كما هو المعتاد والمطلوب، وخصوصا مع كثرة الجرحى والمصابين من جراء التعذيب، ولكن إهمال المصابين والمجروحين كان من جملة التعذيب المفروض علينا.
وهذا جعل الجرح في ساقي اليمنى يشتد ويتفاقم ويتقيح، وينذر بعواقب خطيرة، وأخيرا وصلت إلى طبيب السجن، وأعطاني بعض المراهم والبودرة ونحوها مما ساعد على التئام الجرح، وكنت أراجع الطبيب كل عدة أيام، وأغيِّر على الجرح، حتى التأم، والحمد لله، وإن بقيت آثاره معي بعد ذلك غائرة، وظل موضعه حساسا لأي لمسة أو حركة غير محسوبة، فسرعان ما تؤثر فيه، وربما سال منه شيء من الدم. والحمد لله على كل حال.
ومما أذكره في تلك الأيام: أني كنت يوما مع مجموعة كبيرة من الإخوة ننتظر الطبيب لنراجعه، في طابور طويل، وكنا نزلنا من زنازيننا قبل العصر، وأوشكت الشمس أن تغرب ولم يجئ دورنا، وخفنا على العصر أن يضيع، فقلت للإخوة: ننتهز هذه الفرصة ونصلي العصر في جماعة، وكنا ننتظر في أحد العنابر، وصليت إماما بالإخوة، ورآنا أحد العساكر القساة المشهورين بالجبروت وشدة الأذى، واسمه (دياب) فلما نظر إلينا من النافذة قال: "يا أولاد الكلب، أنتم قلبتموها جامع"!
وانتظرنا دياب حتى خرجنا من الصلاة، ويعتبر هذا فضلا منه، حيث لم يجبرنا على الخروج من الصلاة، ثم أمرنا نحن المصلين أن نصطف صفين، كل صف في مقابل الآخر، وكل معتقل في مواجهة معتقل آخر. وقال: سأصفِّر بصفارتي ليضرب كل معتقل صاحبه على وجهه، ثم أصفر أخرى، ليرد عليه من يقابله بمثلها. وكانت لعبة مسلية لهذا الذئب أو الذياب، أن يتفرج علينا، ونحن يصفع بعضنا بعضا، ومن رآه تهاون في أداء واجبه زاده نكالا وعذابا. كل هذا لأننا صلينا جماعة، وما كان لنا أن نصلي، فلسنا في جامع!
ولا أدري هل سنَّ هذا (الدياب) هذا السنة السيئة في السجن: أن يضرب الإخوان بعضهم بعضا، وهو أمر يسوء كل مؤمن، ويحز في نفسه، أن يمد يده إلى أخيه بالأذى، وهو الذي يفترض فيه أن يرد عنه الأذى. أو أن هذا (الدياب) قد تعلم ذلك من أساتذته في التعذيب من قبل؟
وقفة مع جريمتي التي حوكمت عليها:
كانت تهمتي التي قدمت بها للمحاكمة تتمثل في جريمتين:
الأولى: أنه اشترك مع آخرين في إعداد خطة تقوم على تخريب البلاد، واغتيال العباد، وقائمة طويلة من التهديم والتقتيل والإفساد.
والثانية: أنه اشترك مع آخرين في إنشاء جهاز سري مسلح مخالف لقوانين الدولة.
أما الجريمة الأولى فلا علم لي بها، ولا أعرف عنها شيئا من أي مصدر، ولا أعلم ـ وما علمت بعد ذلك ـ أن أحدا في الإخوان قد أعد مثل هذه الجريمة الكبرى من التخريب والاغتيالات والإفساد في الأرض. وأعتقد أن الأستاذ الهضيبي ـ وقد أصبح المهيمن على شؤون الجماعة، بعد عزل السندي ومجموعته ـ لا يوافق على مثل هذه الأعمال، وهو رجل صدق واستقامة، لا يعرف العوج ولا الالتواء، وقد عمل طول عمره قاضيا حتى وصل إلى أعلى درجات القضاء، محافظا على النظام والقانون، فلا يستجيز ضميره مثل هذه الأعمال؟
على أية حال هذه الجريمة التي اتهمت بها مع كثيرين من إخواني، لم يكن لي فيها ناقة ولا جمل، ولا شاة ولا دجاجة ولا حتى بيضة!
أنا والجهاز السري (النظام الخاص)
أما تهمة الاشتراك في الجهاز السري أو النظام الخاص، فأذكر علاقتي به كيف كانت، ومتى كانت.
في يوم من الأيام، وأنا في مدينة المحلة الكبرى، أظن ذلك كان بعد أن خرجت من الاعتقال الأول في مارس 1954م، جاءني أحد الإخوان القدامى المعروفين في المحلة، وهو الأخ سليمان مطاوع، وقال لي: إن أخا مهما هنا يريد أن يلقاك على انفراد.
قلت له: هل جاء من طنطا أو من القاهرة؟
قال: لا، بل هو يعمل في المحلة ذاتها.
قلت له: هل هو من الإخوة الذين أعرفهم؟
قال: لا، إن ظروفه تحتم عليه ألا يظهر مع الإخوان.
قلت له: لا بأس ولا حرج أن ألقاه.
وذهب بي الأخ مطاوع إلى منزل أخ يعمل في شركة المحلة، وعرفت أن اسمه: عبد الحميد الرفاعي، وأن أصله من الشرقية. وقال: إنه يرقب نشاطي من بعيد، ويحضر خطبة الجمعة، وغيرها من الأنشطة البعيدة عن شعبة الإخوان. وعلمت منه أنه المكلف برئاسة التنظيم الخاص في المحلة، والإشراف عليه، وأنهم يطلبون عوني في أداء مهمتهم.
قلت له: وهل يعرف الأستاذ محمد عبد العال ـ رئيس الإخوان بالمحلة ـ بهذا الأمر؟
قال: لا، لأن الأوضاع من حولنا تقتضي أن يكون عملنا سريا؟
قلت له: لا مانع أن يكون العمل سريا في بعض الأحيان، وقد قال سيدنا يعقوب لابنه يوسف: "لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ" (يوسف: آية 5) ولكن ألا يعلم المسؤول في الإخوان ما يجري في منطقته؟
قال: في بعض المناطق يكون المسؤول عن المنطقة هو المسؤول عن التنظيم الخاص، ولكن ليس في كل منطقة.
قلت له: وما هو المطلوب مني؟
قال: العناية الثقافية والروحية بأعضاء التنظيم.
قلت: هذا ما أقوم به بالنسبة لجميع الإخوان.
قال: نريد جرعات أقوى، وعناية أكبر بالشباب المنتظمين معنا. وقد قال لي الحاج: إنك الموجه الروحي للنظام في مديرية الغربية.
قلت: من الحاج؟
قال: الحاج أحمد البس.
فعرفت منه أن الحاج أحمد هو المسوؤل عن النظام الخاص في الغربية، وبتعبير الإخوان: مكتب إداري الغربية. ولم يطلب مني الرجل أن أبايعه كما يفعل مع غيري، لعله استكثر أن يبايع مثلي مثله.
وانتهت المقابلة الأولى والأخيرة مع عبد الحميد الرفاعي مسؤول التنظيم في المحلة، وظللت أضرب أخماسا في أسداس، وأفكر فيما سمعت، وأقلب وجهة النظر فيه. لقد كنت أسمع عن النظام الخاص من قديم، ولكن لم يعرض علي أحد قبل ذلك الانضمام إليه. حتى أستاذنا البهي الخولي قالوا عنه: إنه كان ممن يبايعه الإخوان على الدخول في هذا النظام، ولكنه لم يحدثنا يوما عنه، ولم يطلب إلينا صراحة الانخراط فيه، حتى أيام (كتيبة الذبيح).
وفكرت في نفسي: هل أصلح لنظام خاص، وأنا بطبيعتي رجل عام؟ وهل أصلح في تنظيم سري، وعملي كله علني؟ ثم إنه يفترض الطاعة العمياء من أفراده، وأنا لا ألتزم إلا بطاعة مبصرة، ولا أفعل شيئا لا أفهمه، ولا أعرف فحواه ولا مشروعيته؟
ثم ما هذا النظام الذي يجعل في المنطقة الواحدة مسؤولا سريا، ومسؤولا علنيا لا يعلم عن المسؤول الآخر شيئا، وهل يجيز الإسلام هذه الازدواجية؟ وما الحكم لو صدر أمران متعارضان للأخ: أحدهما من الرئيس العلني، والآخر من القائد السري؟
ثم كيف يُفرض على الناس مسؤول لا يعرفون عنه شيئا، لأنه لا يحضر إلى دار الإخوان، ولا يسمع محاضرة ولا درسا، ولا يشارك في نشاط عام، ولا نستطيع أن نحكم له أو عليه، لأنه يعيش في مخبأ سري كالإمام الغائب، لا نعرف عنه كثيرا ولا قليلا؟!
على أن هنا خللا واضحا، إذ كان يجب أن يكلمني الحاج أحمد البس في ذلك أولا، فأنا أعرفه وأعرف تاريخه، وأعرف منزلته في الدعوة، أما أن يكلمني رجل مجهول غير معلوم، فهذا ما ينبغي أن يُنكر ولا يستساغ.
كان هذا ما يدور في خلدي وما يجول بفكري في تلك الفترة، ولكن لم أتخذ موقفا حاسما، إذ لم يكن مطلوبا مني شيء غير عادي أفعله، وكنت أنتهز الفرصة لأناقش الأمر في القضية مع الحاج أحمد البس مسؤول الغربية، أو مع الإخوة في القاهرة، ولا سيما مع المرشد العام نفسه، عندما تسمح الظروف، ولكن الظروف كانت تتغير بسرعة هائلة.
ولم يطلب مني أي شيء في تلك الفترة يختص بالتنظيم، غير أن الأخ سليمان مطاوع جمعني مرة بعدد من الإخوة في لقاء خاص عرفت من سياقه أنهم أعضاء في التنظيم، وكنت أعرف أكثر هؤلاء الإخوة في شعبة الإخوان. وهم لا يمتازون عن غيرهم، إلا أنهم أقل كلاما، وأقل نشاطا عاما من غيرهم! وربما اختبروا فوجدوا أقدر على الكتمان والطاعة المطلقة.
وقد جمعني السجن الحربي بعد ذلك بهؤلاء الإخوة الطيبين المخلصين. وقد حوكموا معي، وصدر علينا جميعا الحكم من المحكمة العسكرية بالسجن عشر سنوات مع إيقاف التنفيذ. وكان الدليل الوحيد علينا جميعا، هو اعتراف عبد الحميد الرفاعي مسؤول التنظيم، الذي اندفع عندما مسه التعذيب إلى الاعتراف بكل شيء. هذا مع أني لم أبايعه لا هو ولا غيره، والبيعة من شروط الانضمام إلى التنظيم. كما لم أقل له أي كلمة تفيد قبولي الانضمام إليه، ولم أشارك في أي عمل خاص ينفرد به النظام، ولا طُلب مني ذلك. وكانت الفترة تلك حافلة بالأحداث والتغيرات المتلاحقة، ولكن يظهر أن الرفاعي اعتبر سكوتي عند مقابلته كسكوت البكر حينما يعرض عليها الزواج، فإذنها صماتها، وسكوتها يعبر عن رضاها!
وكذلك الإخوة من أبناء المحلة الذين حوكموا معي لم يصدر منهم أي عمل محظور، ولم يكلفوا بأي شيء مخالف للقانون.
أما الرفاعي فقد حكم عليه بعشرين سنة على ما أذكر، باعتباره أحد المسؤولين في إحدى المناطق الكبيرة.
هذه هي علاقتي بالتنظيم الخاص أو بالجهاز السري، كما سمته السلطات الحكومية، وهي علاقة ـ كما ترى ـ لا تجعلني منه في عير ولا نفير.
مع النظام الخاص.. وقفة وتقييم ومراجعة
في سنة 1940 أنشأ الأستاذ البنا جهازا داخل الجماعة، سماه (النظام الخاص) يضم إليه من أفراد الجماعة الإخوة الذين عرفوا بإخلاصهم للدعوة، وثباتهم عليها، والتزامهم بتعاليمها وتوجيهاتها، كما يتميزون باللياقة البدنية، والقدرة على الاحتمال، والصبر على المكاره، وكتمان الأسرار، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، والاستعداد للتضحية والبذل، ولو بالنفس والنفيس.
وكلف الأستاذ البنا خمسة من الإخوان بالإشراف على هذا النظام واختيار جنوده، وتدريبهم على متطلبات للجهاد، وإعدادهم لليوم الموعود.
وكان وراء تكوين هذا النظام عدة أهداف يسعى إلى تحقيقها:
1ـ أولها: مقاومة الإنجليز، الذين يحتلون مصر والسودان وغيرهما من بلاد العرب والمسلمين، فمن المعروف أن الحرية والسيادة والاستقلال للأوطان لا تنال بالخطب ولا بالمفاوضات، ما لم تسندها مقاومة شعبية مسلحة، ترغم المحتل على الرحيل من أرض لم يعد يجد فيها الأمان.
وأكد ضرورة هذا التنظيم: أن التجنيد في ذلك الوقت لم يكن إجباريا، وكان من يملك عشرين جنيها يستطيع أن يعفي نفسه من الخدمة العسكرية.
2ـ وثانيها: مقاومة المشروع الصهيوني، الذي غزا المنطقة بمكر ودهاء، وأقام مستعمرات شتى في أرض فلسطين، ولا تزال الهجرات الجماعية تتوالى على أرض الإسراء والمعراج، تفرضها العصابات الإرهابية الصهيونية، وتؤيدها الحكومة البريطانية المنتدبة على فلسطين، والتي وعدت اليهود من قبل على لسان وزير خارجيتها (بلفور) بإقامة وطن قومي لهم. وقد تركت لليهود الحبل على الغارب يسلحون أنفسهم بما يقدرون عليه، وساعدتهم سرا وجهرا، على حين حرمت على أهل البلد الفلسطينيين أن يملكوا أي سلاح.
ولا يقاوم المشروع الصهيوني المدجج بالسلاح، المستبيح للدماء، بالأماني الفارغة، ولا بالأقوال المعسولة، بل ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، والشر بالشر يحسم، والبادئ أظلم.
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعا وإن تلقه بالشر ينحسم
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
فلا بد من إعداد جيل مجاهد، ليقف في وجه أطماع بني صهيون، ويواجه القوة بالقوة المستطاع إعدادها، ليرهب بها عدو الله وعدوه.
3ـ ثالثها: حماية الدعوة من أعدائها الذين قد يحاولون اقتلاع جذورها، وإيقاف مسيرتها، وتعويق حركتها، بقانون القوة، أو بقوة القانون، عن طريق الأحكام العرفية أو الطوارئ العسكرية. وقد يتم ذلك عن طريق المحتلين الأجانب مباشرة، وقد يكون عن طريق عملائهم من الحكام الذين يأتمرون بأمرهم، ويدورون في فلكهم، وينفذون لهم مطالبهم.
وهنا يجب أن تدافع الدعوة عن نفسها ووجودها، إذا اعتدي عليها، وعلى حرماتها، وحرمت من حقها في إبلاغ كلمة الإسلام إلى الناس، وجمعهم عليه، وتربيتهم على منهجه. وقد قال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ" (الشورى: آية 39)
4ـ رابعها: غرس روح الجهاد في الشباب المسلم، هذا الجهاد الذي طمست معالمه، وخنقت أنفاسه في مجتمعات المسلمين، وحلت محله روح الميوعة والطراوة، والإخلاد إلى الراحة والدعة ونعومة العيش. والأمم التي ديست حقوقها، وانتهكت حرماتها، واحتلت أرضها، يجب عليها أن تعد أبناءها للجهاد لتحرير أرضها، واستعادة حقها، وطرد غاصبيها. ولا سيما الأمة الإسلامية التي أمرها الله بالجهاد في سبيله، واشترى من أبنائها أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
ولقد جعلت دعوة الإخوان من شعاراتها منذ ارتفعت رايتها: الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا. فلا بد أن يكون لهذا الشعار مدلول عملي في تكوين أبنائها. وكان النظام الخاص هو الذي يوفر ذلك بقوة وجلاء، ويدرب الشباب على الأعمال الجهادية والعسكرية اللازمة لكل من يهيئ نفسه للدخول في معركة مع أعداء الأمة.
5ـ خامسها: السعي إلى تغيير الحكم العلماني الذي لا يحكم بما أنزل الله، ولا يحتكم إلى شريعة الإسلام وقيمه في تشريعه وتقنينه، ولا في اقتصاده وسياسته، ولا في تربيته وتعليمه، ولا في ثقافته وإعلامه، ولا في تقاليده وآدابه، عن طريق (انقلاب عسكري) تكون طلائعه من أبناء النظام الخاص. بعد أن ثبت أن الديمقراطية في بلادنا ليست ديمقراطية حقيقية، فالانتخابات تزوّر، وحتى لو لم تزور، فإنها تؤثر فيها قوى مختلفة، تجعلها غير معبرة بحق عن إرادة الشعب وتوجهاته الحقيقية.
هذه هي الأهداف الخمسة التي كان يرجى من النظام الخاص أن يحققها أو يساهم في تحقيقها، وكلها أهداف مشروعة ومقبولة، ولا يسع أي مسلم أو وطني حر إلا أن يرحب بها، وخصوصا في تلك المرحلة من مراحل تاريخ الأمة الإسلامية عامة، والعربية خاصة، والمصرية على وجه أخص.
ولكن ماذا كان موقف النظام الخاص من هذه الأهداف؟ وهل استطاع أن يحقق شيئا منها؟ وهل ظلت هذه الأهداف باقية في برنامجه أو تغيرت؟ أو فقدت مصداقيتها؟
أما الهدفان الأولان ـ مقاومة الاحتلال البريطاني والاستعمار الصهيوني ـ فلا ينكر أن النظام قد قام ببعض الأعمال ضدها، وضرب بعض المؤسسات التابعة لكل منهما، ولكن لم يكن وجود النظام الخاص شرطا لتحقيق ذلك، فقد يمكن ذلك عن طريق تنظيم المقاومة الوطنية الشعبية، كما حدث في كثير من الشعوب والأوطان، وإن كان العمل السري في حالات مقاومة العدو المحتل أكثر جدوى.
وعندما فتح باب التطوع لجهاد العدو الصهيوني في فلسطين سنة 1948م، والعدو البريطاني في سنة 1951م، كان الذين تقدموا لجهاد الأعداء من الإخوان عامة، ومن الشعب كافة، أكثرهم من غير أعضاء النظام الخاص.
كما تبين أن النظام بكل ما لديه من قوة بشرية ومادية، لم يمكنه حماية الدعوة من الضربات التي وجهت إليها، سواء سنة 1948 في عهد الملكية المصرية، أم سنة 1954م في عهد الثورة، لأن سيف الحكومة أقطع، وقوة الحكومة أغلب.
بل كان النظام الخاص في كلا العهدين من أسباب اضطهاد الإخوان من خصومهم، واتهامهم بالعمل على قلب نظام الحكم، وإنشاء جهاز سري مسلح مخالف لقوانين الدولة، واتخذوا من بعض الأعمال التي حدثت من النظام ضد الإنجليز أو الصهاينة ذريعة لضرب الإخوان وحل جماعتهم.
وإذا قارنا بين جماعة الإخوان في مصر والجماعة الإسلامية في باكستان التي أسسها الإمام أبو الأعلى المودودي، نجد كلتا الجماعتين تحارب من السلطات الحاكمة، ولكن الجماعة الإسلامية، سرعان ما يقف القضاء في محاكمه العليا بجانبها، ويحكم لها بالعودة إلى ممارسة نشاطها، وإلغاء الحظر المفروض عليها، إذ لم يكن لديها نظام سري خاص، يستخدم القوة في تنفيذ أغراضه.
أما إعداد الشباب للجهاد وتدريبه على متطلباته، فإنه لم يعد محتاجا إليه، بعد أن أصبح التجنيد إجباريا، وغدا كل مواطن يعرف كيف يستخدم البندقية والمدفع. وأما أعمال الخشونة والتربية البدنية، فلا تحتاج إلى نظام سري خاص لمزاولتها. بل يمكن أن تمارس في العراء وعلى مرأى ومسمع من الجميع.
بقي ما يقال عن تغيير الحكم بانقلاب عسكري، هذا الأمر ناقشته بتفصيل في الجزء الثاني من سلسلة حتمية الحل الإسلامي (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) وبينت خطر الانقلابات العسكرية وأضرارها على الشعوب، حتى لو كانت إسلامية.. فهي لا تستعمل إلا للضرورة، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، وبشروطها وضوابطها. والدكتور حسن الترابي مدبر ومخطط الانقلاب العسكري الذي أتى بثورة الإنقاذ في السودان، يقول اليوم: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أقدمت عليه. ويقول: احذروا من العسكريين، فمصيركم معهم هو نفس مصيري! هذا مع تميز (ثورة الإنقاذ) بأنها كانت ثورة بيضاء لم ترق فيها قطرة دم، وأنها تبنت الإسلام وشريعته من أول يوم، ولم تتخل عنه إلى الآن.
هذا مع صعوبة نجاح الانقلابات العسكرية الشعبية في مواجهة الجيوش الحكومية والقوات المسلحة. وقد ضربت مثلا لذلك ما أصاب منظمة التحرير في عمَّان على أيدي الجيش الأردني فيما عرف بكارثة (أيلول الأسود) وكيف قضى الجيش على هذه القوة العسكرية الشعبية في ثلاثة أيام!
كان النظام الخاص يشكل جماعة داخل الجماعة، أو كما يقولون: دولة داخل الدولة، بل كان يعتبر نفسه هو الجماعة الحقة، وما الآخرون إلا (ديكور) وزينة، أو كثرة كغثاء السيل.
وهذا أمر له خطورته في التربية: الإعجاب بالنفس، فهو أحد المهلكات كما جاء في الحديث: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه".
ويترتب على هذا احتقاره لغيره، واعتقاده أنه هو اللب، ومن عداه قشر، وأنه هو الجوهر، والآخرون عرض وشكل. وفي الصحيح: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".
وأذكر أن الأستاذ عبد العزيز كامل رحمه الله كتب في مجلة الإخوان في حياة الإمام البنا مقالة تحدث فيها عن (مهندسي القاع) و(مهندسي السطح) الأولون يعملون في (الورشة) والآخرون يعملون في قاعات العرض (الفترينات) وكأنه
يشير إلى رجال النظام الخاص وإلى غيرهم من الإخوان العاديين، ورد عليه الكاتب الشاب المتألق محمد فتحي عثمان، منكرا عليه هذه التفرقة، وأن المدار على صدق النية وصلاح العمل، سواء كان يعمل في السطح أم في القاع.
وفي صحيح البخاري: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله.. إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة" يعني: أنه يؤدي مهمته حيث وضع.
وهذا الغرور لدى أعضاء الجهاز الخاص في أنفسهم، مع وجود القوة المادية في أيديهم، جعلهم يستخفون بالقيادة الشرعية للجماعة، ويفتون لأنفسهم بما يجوز وما لا يجوز، حتى إنهم خرجوا على طاعة إمامهم ومرشدهم الأول نفسه، ونفذوا بعض العمليات الخطيرة بغير إذنه، كما في مقتل الخازندار، قبل حل الإخوان، وحادث نسف محكمة الاستئناف بعد حل الإخوان، وهو الذي اضطر الإمام البنا أن يصدر بيانه الخطير والشهير الذي قال فيه: (هؤلاء ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين)!!
وأذكر أن الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان، بعد أن بويع مرشدا، وعلم بوجود النظام الخاص في الجماعة، أنكر ذلك، وقال كلمته الشهيرة: لا سرية في الإسلام!
ويبدو أن بعض مستشاريه أشاروا عليه أن من المصلحة الإبقاء على النظام الخاص في الوقت الحاضر، وقد اقتنع الرجل بذلك، ولكنه أصر على أن يغير قيادة النظام، بعد أن استبدت بالأمر، وخالفت القيادة الشرعية للجماعة، وغدت تتصرف وكأنها السلطة الشرعية وحدها.
وحين علمت قيادة النظام بما صمم عليه المرشد، رفضت الانصياع لأمره، وقررت عمل انقلاب داخلي في الجماعة عن طريق النظام، يفرض ما يريد بحق القوة، لا بقوة الحق.
وكان ما كان مما ذكرناه من قبل، من احتلال المركز العام، واقتحام منزل المرشد، ومحاولة فرض الاستقالة عليه، وتكليف لجنة لإدارة الجماعة… إلخ.. وقد باءت هذه المحاولة كلها بالإخفاق، ولم يحالفها التوفيق، ولم تتجاوب معها الجماعة، وكانت الشرعية المجردة من السلاح، المؤيدة بالجماعة: أصلب وأقدر وأثبت من القوة الفاشية المؤيدة بالسلاح، وقد اعترف كثير من الشبان المخلصين الذين شاركوا في هذه الفتنة العمياء بخطئهم، وتابوا إلى الله تعالى، وطلبوا من المرشد السماح والعفو عنهم، وكان الرجل كريما فعفا عنهم، وقال: (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه).
وكلف المرشد الهضيبي شخصية محببة مرموقة مزكّاة لدى الإخوان، عريقة في النظام، عارفة بقيادته، خبيرة بمداخله ومخارجه، هي شخصية المهندس سيد فايز، ليتولى إعادة صياغة النظام من جديد على قيم ومفاهيم ترضاها الجماعة وقيادتها. وربما كان المراد إدماج النظام في الجماعة، والخروج به شيئا فشيئا إلى الظهور والعلنية بالتدريج.
ولكن قيادة النظام لم تمهل سيد فايز، ولم تمنحه الفرصة ليحقق ما أراد أو ما أريد منه، فعاجلته بتدبير مصرعه بسرعة، حين أرسلت له في منزله بمناسبة المولد النبوي (علبة حلوى) وكان غائبا عن المنزل، فلما عاد وفتح العلبة كانت حلوى المولد (قنبلة) انفجرت فيه وقضت عليه وعلى شقيقته الصغرى التي كانت موجودة عند فتح العلبة.
ولا أدري بأي كتاب أم بأية سنة، استحل هؤلاء قتل أخيهم في الله وفي الدين وفي الدعوة؟ وكيف هان عليهم سفك دم بغير حق؟ ألم يقرءوا في القرآن قصة ابني آدم، حين قال ابن آدم الشرير لأخيه الخيّر: "لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" (المائدة: آية 27) وما عقب به القرآن على هذه القضية بقوله: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" (المائدة: آية 32).
لم يحقق النظام الخاص ـ أو الجهاز السري ـ إذن ما أنشئ لأجله من أهداف، بل أصبح وجوده في الجماعة ـ بطبيعته السرية المنغلقة ـ خطرا على الجماعة من الداخل، وخطرا عليها من الخارج. وأصبح إثمه أكبر من نفعه؛ ولهذا تحررت الجماعة منه، ومن فكرة (العنف) أو (المواجهة المسلحة) مع الدولة، كما دلت على ذلك الوقائع، وشهدت بذلك الأحداث.

ليست هناك تعليقات: