الاثنين، 21 أبريل 2008

مبادئ الرؤساء الأمريكان

مقدمة:
مبادئ الرؤساء الأميركيين.. بدأت فصولها تحدد و ترسم مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت مطامع كل من الاتحاد السوفيتي وأميركا تبرز بشكل معلن في التوسع والسيطرة على العالم.. وحيث بدأت بذلك الأيام الأولى من تاريخ بدء الصراع السياسي بين القوتين المستكبرتين.. حينئذ بدأت أمريكا في ترسيخ مبادئها في الصراع والتي تعكس مبادئ الرؤساء على مسرح الأحداث التي شهدتها الساحة الدولية، ولكن مع اختلاف الجانب المتغير في هذه المبادئ على طول خط الصراع مع تبدل الرؤساء الأميركيين، إلا أن الجانب الثابت من هذه المبادئ احتفظ بالقاعدة التي تسير عليها رسم هذه المبادئ، إلا وهي قاعدة الحفاظ على المصالح وتوسيعها، والمصالح أو المطامع بعكس المبادئ تفرق و تبعد أطراف اللعبة قبل أن تقربها، ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة ان نستنتج ان روح العداء هي خميرة العجينة التي تجسم في صورها وأشكالها المختلفة مع اختلاف الرؤساء مبادئ الرؤساء أو مبادئ السياسة الأميركية، وعلى هذا الأساس يمكن ان تسجل تسمية (مصالح الرؤساء) حضورا في ذهن القارئ قبل تسمية (مبادئ الرؤساء).
ان استقراء هذه المبادئ (المصالح) يظهر بشكل واضح الفشل الذي زامل هذه المبادئ من البداية في تحقق القسم الكبير من اغراضها، وكما يمكن تعداد عدد مرات الفشل مع تعداد عدد الرؤساء الأميركيين، كذلك يمكن تبيان نوع الفشل مع نوع الركائز السياسية التي استند عليها كل رئيس ضمن الظروف التي عاشرته.
وأخيرا.. وفي قمة الصراع بين عوامل الفشل و النجاح في مبادئ الرؤساء الأميركيين، التي ترسم الخط البياني للمد والجزر الذي يصيب السياسة الأميركية في العالم.. كانت المفاجأة.. وكانت الضربة.. التي اهتزت على أثرها ركائز السياسة الأميركية في الخاصرة الضعيفة للعالم.. في المنطقة الخليجية.. في قيام الجمهورية الإسلامية في إيران. وعلى صدى صيحات المستضعفين في الأرض، بدأت الانطلاقة لبداية جديدة من الصراع بين المنتصرين للحق والمنتصرين للباطل.
المركز الإسلامي للابحاث السياسية
بدأ توجه الولايات المتحدة الأميركية في التوسع والسيطرة على العالم يتخذ أبعاده الثابتة والخطيرة بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة التطورات الكبيرة التي شهدتها الساحة الدولية، ولعل هذه التطورات فرضت على الولايات المتحدة أن تخرج من عزلتها السياسية التي بدت واضحة على نظرتها للقضايا الدولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
فبعد هذه الحرب شهدت الأوساط السياسية الأميركية مناقشات حادة حول السياسة الخارجية التي يجب أن تتبناها الإدارة الأميركية وتتعامل على ضوئها مع الأحداث العالمية. وفد كان الوسط السياسي الأميركي متوزعا على اتجاهين متضادين:ـ
الأول: ينادي بضرورة الابتعاد عن الحرب ورفض فكرة (الحرب لانهاء الحرب) ويدعو الولايات المتحدة لأن تمارس دورها في القيادة الدولية على أساس قانون دولي يتولى مهمة الحفاظ على الامن والاستقرار الدوليين.
والثاني: يرى أن الولايات المتحدة من أجل ان تمارس دورها في قيادة العالم لابد أن تنتهج خطا عسكريا مؤثرا على الأحداث العالمية، بالشكل الذي يؤهلها المواجهة أية مشكلة تهدد الأمن الأميركي وتقف بوجه المصالح الأميركية، اعتمادا على الامكانات الهائلة التي تمتلكها الولايات المتحدة.
والملاحظ على الاتجاه الأول أنه يفرض على الولايات المتحدة أن تكون مسؤولة عن جميع الأزمات الدولية، وأن تنطلق من هذه المسؤولية لتتدخل في أية أزمة دولية، لاسيما تلك التي لها مساس بالمصالح الأميركية والتي تمسها بصورة تضمن بقاء القانون الدولي ساريا على الأحداث وبالتالي تبقى الولايات المتحدة هي قائدة العالم.
وبالرغم من كون هذا الاتجاه يرفض التدخل العسكري الأميركي إلا أن الأساس الذي رسمت عليه السياسة الأميركية تتطلب تطبيقاته (وبصورة غير مباشرة) ان تمارس الولايات المتحدة مهاما عسكرية في أجزاء مختلفة من العالم، اعتمادا على الأزمات التي تنشب في بقاعه. وهذا ما جعل دعاة الاتجاه الثاني يرفضون الاتجاه الأول على اعتبار ان اعتماده سيجعل الولايات المتحدة تستنفد حيويتها وتخمد قواها بالتدخل والانجرار في كل الصراعات التي تنشب في العالم كبيرها وصغيرها.(1).
وقد تنبه بعض الساسة الأميركان إلى هذه الحقيقة فرفضوا الاتجاه الأول، ومنهم الرئيس الأميركي "ولسون" الذي كان من اصحابه ثم تحول بعد الحرب العالمية الأولى إلى اتجاه الدعوة إلى الحرب واستخدام القوة العسكرية. وجعلها الأساس الذي من خلاله يمكن الوصول إلى الأمن الجماعي.
لقد كان للتحولات الكبيرة التي شهدتها الساحة الدولية، أثر بالغ في تحديد معالم السياسة الأميركية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. أذ أصبحت في مواجهة التحديات السوفيتية التي تمتلك نفس الأطماع في السيطرة على العالم وبسط هيمنتها على بلدانه.
أمام هذا الواقع الجديد حددت السياسة الأميركية خطوطها العامة في التحرك الخارجي على شكلين رئيسيين:
الأول: مواجهة التوسع السوفيتي مباشرة. وحرمانه من امكانية السيطرة على مناطق العالم، وفرض هيمنتها عليه.
ووفق هذين الشكلين رسمت الولايات المتحدة سياستها الخارجية وتعاملت على ضوئهما مع الأحداث الدولية. وقد عززت هذين الأسلوبين بأساليب أخرى يمكن إعتبارها ثانوية او مكملة لهما، حيث انها تصب في النهاية في ذلك الاتجاه العام.
بداية الصراع
بعد أن اوشكت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء. برزت بشكل أكبر مطامع كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية في التوسع والسيطرة على العالم. فالسوفيت كانوا يسعون لتعزيز هيمنتهم على شرق أوروبا، واحكام سيطرتهم السياسية والعسكرية عليها، وذلك من خلال وجود قواتهم في دولها، وربطها بتحالفات عسكرية. وفي مقابل رفض موسكو الانسحاب من أوروبا الشرقية فانها كانت تحاول ان تجعل النفوذ الشيوعي ممتدا داخل اوروبا الغربية.
هذا التوجه السوفيتي أثار مخاوف الدول الغربية فراحت تنظر بقلق إلى حدودها الشرقية، لاسيما وأنها خرجت من الحرب منهكة ضعيفة لا تقوى على مواجهة تحديات السوفيت، فلجأت إلى الولايات المتحدة، تستعين بها على الخصوم الجدد. ولقد وجدت واشنطن في هذا النداء الأوروبي فرصة ذهبية تخدم توجهات سياستها الخارجية في التوسع، وتعطيها مبررا لأن تمارس دورها في مواجهة السياسة السوفيتية وفي بسط نفوذها على مناطق جديدة من العالم.
من هذه النقطة بدأ الصراع السياسي بين القوتين المستكبرتين ومنها أيضا انطلقت الولايات المتحدة في رسم اساليب سياستها والتي تعاقب على إرساء اسسها رؤساء اميركا الذين تميزت سياساتهم بأنها حدت جانبا ثابتا لم يخرج عن الخط العام. وآخر متغير تتحدد معالمه على ضوء المتغيرات السياسية والضرورات التي تتطلبها اوضاع الساحة الدولية وظروف المجتمع الدولي. وسنحاول هنا الوقوف عند كل واحدة من هذه السياسات ابتداء من إدارة روزفلت باعتبارها الإدارة الأولى التي بدأت تخوض ميدان التجربة المباشر مع المعسكر السوفيتي.
سياسة روزفلت
لم تكن سياسة روزفلت في بدايتها تعتمد على القوة العسكرية، بل كانت تعارض الدخول في الحرب، لأنه كان يرى ان الدخول في الحروب التي تشهدها أوروبا عملية مرهقة للولايات المتحدة. ولعل هذه النظرة من نتاج العزلة السياسية التي عاشتها أميركا في فترة ما قبل الحرب الثانية. غير أن غزو المانيا لاوروبا، و ما ترتب عليه من آثار دولية خطيرة، جعل روزفلت يبتعد عن نظرته الحيادية الظاهرية ويقترب من القوة العسكرية، اذ اصبح مقتنعا بأن الحرب ضرورية لانهاء الحرب.
ولقد حاول روزفلت من خلال القوة العسكرية ان يطبق سياسته الجديدة التي تقضي بأن على الولايات المتحدة أن تمارس دورا بوليسيا لحفاظ النظام الدولي، يستند على قوة عسكرية تستطيع ان توفر مستلزمات هذا الدور. وقد وجد روزفلت في دخول الولايات المتحدة ميدان الحرب العالمية تحقيقا لغايته، على اعتبار ان دخولها الحرب سيحدد نتائجها ويحسمها لصالح الحلفاء. وبذلك سيكون لها دور فاعل في الهيمنة على النظام العالمي بعد ان تضع الحرب أوزارها.
إلا ان روزفلت واجه صعوبتين في الوصول إلى هدفه:
الأولى: كانت في فترة الحرب عندما اترح على بريطانيا انشاء قوة بوليسية مكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا، ولم ينجح هذا الاقتراح لأن ظروف الحرب لم تعط الانجليز فرصة للتفكير فيما بعد الحرب.
والثانية: كانت في فترة ما بعد الحرب. حيث فكر روزفلت ان يعتمد اعتمادا كبيرا على الاتحاد السوفيتي في مساعدة الولايات المتحدة لأن تكون هي القوة البوليسية العالمية. وهذا الأمل لم يتحقق ايضا بل ان العكس هو الذي حدث، فالاتحاد السوفيتي كان معارضا شديدا لهذه الفكرة.(2).
ونتيجة لهاتين الصعوبتين لم تتحقق سياسة روزفلت، إلا أن عدم نجاح سياسته لا تعني أن اسسها قد رفضت من التفكير الأميركي، فلقد شكلت فكرة القوة العسكرية وضرورة تدعيمها مرتكزا ثابتا في السياسة الأميركية، بعد ان تعامل معها الرؤساء الذين خلفوه بطريقة أخرى اكثر صراحة من تطلعاته التي وصفوها بأنها تفتقر بعض الشيء إلى الواقعية وتحتاج إلى تفهم أكثر لأهداف السياسة الأميركية العليا.

مبدأ ترومان
عندما جاء ترومان إلى الحكم كان مقتنعا بما بدأه روزفلت، وما أولاه من أهمية للقوة العسكرية بوصفها وسيلة الهيمنة الأميركية على السياسة الدولية.
وقد استفاد ترومان من تجربة روزفلت، واضعا في اعتباره الاوضاع التي تشهدها الساحة الاوروبية والمتمثلة بمشاكل اقتصادية خطيرة، وتحرك سوفيتي يهدف إلى ادخالها ضمن الدائرة الشيوعية، مع عجزها عن مواجهة هذه التحديات بعد أن أرهقتها سنوات الحرب.
على ضوء هذا الواقع أطلق ترومان سياسته المعروفة بـ"مبدأ ترومان" عام 1947 والتي كان خطها العريض اخضاع أوروبا الغربية للسيطرة الأميركية وتحصينها من الخط السوفيتي كخطوة أولى، ثم التحرك لمواجهة التطلعات السوفيتية وتحجيمها داخل الكتلة الشيوعية. ومن هنا فإن السياسة الأميركية التي انتهجها ترومان سارت على ثلاثة محاور:
1 ـ ربط السياسة الأوروبية بسياسة واشنطن وإحكام القبضة على توجهاتها الخارجية.
2 ـ تحجيم النشاط السوفيتي وحصر تحركه داخل دائرته الجغرافية.
3 ـ زيادة اعلية الاسلوبين السابقين بأساليب أخرى تنشأ نتيجة مستجدات السياسة العالمية، وهو ما تمثل في حلف شمال الاطلسي كمقدمة لسياسة الاحلاف التي اعتمدتها الإدارة الأميركية فيما بعد.
التحرك نحو اوروبا
كابوسان ثقيلان ورثتهما اوروبا من الحرب.. أزمة اقتصادية خانقة وخطر رابض على حدودها الشرقية، لا تمتلك لدرئه القوة العسكرية الكافية، وخلفهما تقف الأحلام والتطلعات قاصرة عن التحقق. ولم يكن أمام اوروبا خيار سوى اللجوء إلى أميركا التي خرجت من الحرب لا تحمل جراحات بليغة كجراحاتها، بل نفضت غبار الحرب واستوت عملاقا يقف متربصا لنده وبحوزته قدرات تفوق قدرات خصوم اوروبا لاسيما في المجال العسكري.
والحقيقة ان الدول الأوروبية لم تجد صعوبة في كسب الاميركان، فهم يشاطرونها الرأي في تقييم الخطر الشيوعي، وربما كانوا اكثر منها تصميما على مقارعته. وهكذا فإن الغزل الاوروبي لواشنطن، كانت نتائجه وصال سريع تمثل في مساعدات أميركية ضخمة في المجالين الاقتصادي والعسكري.
اقتصاديا، قدمت الولايات المتحدة مشروع مارشال عام 1947 لانعاش الاقتصاد الأوروبي المنهار. وقد ساهم هذا المشروع في انقاذ اقتصاد الدول الغربية من مشاكله الخطيرة، إلا أنه في مقابل ذلك جعله تحت هيمنة الاقتصاد الأميركي.
وعسكريا، اعلنت عن استعدادها لدعم الدول نفسها مسؤولة عن أمن وسلامة هذه الدول.
وفي هذين الجانبين حقق مبدأ ترومان اغراضه، واستطاع أن يسيطر إلى حد كبير على الأوضاع السياسية في اوروبا.
لقد استند ترومان في مبدئه على المقولة التي اطلقها:
"تخدم انفسنا بخدمتنا للآخرين".
ان التجربة العملية التي خاضها ترومان في المجتمع الأوروبي تمثلت في قضيتي تركيا واليونان.
فتركيا كانت تتعرض لضغوط شديدة من قبل السوفيت حول الملاحة في مضيق الدردنيل. وقد استطاعت الإدارة الأميركية ان تخفف من حدة هذه الضغوط عن طريق المساعدات المالية التي قدمتها لتركيا.
اما اليونان فقد كانت مشكلتها اعقد من تركيا. اذ كان السوفيت يبذلون جهودهم من أجل اسقاط الحكومة الملكية فيها. وبالتالي ادخالها ضمن الدائرة الشيوعية، الأمر الذي أثار بريطانيا على اعتبار ان سيطرة السوفيت على اليونان (وتركيا) يهدد النفوذ البريطاني في آسيا. لذلك حاولت بريطانيا ان تتدخل بشكل فاعل في أزمة اليونان لتمنع السيطرة الشيوعية عليها، لا سيما بعد أن اشتعلت الحرب الأهلية بين الحكومة الملكية وبين الشيوعيين. إلا أن مشاكل بريطانيا الداخلية والخارجية كانت تحول دون تمكنها من حسم الاوضاع لصالحها. لذلك تقدم تشرشل إلى حكومة ترومان يطلب منها التدخل في اليونان(3)، وبالفعل تدخل ترومان في الأزمة اليونانية اقتصاديا وعسكريا، حتى تمكنت الحكومة اليونانية من هزيمة الشيوعيين بعد حرب اهلية استمرت بين عامي 1947 ـ 1949.
لقد اعتبرت الدوائر الأميركية هذه النتيجة التي حققها مبدأ ترومان دليلا قاطعا على فاعليته، وباعثا لتكرار تطبيقاته مع الازمات الأخرى المشابهة في مناطق العالم المختلفة.
ان ترومان لكي يجعل سياسته اكثر تأثيراً وفاعلية عمد إلى دعم اساليبها بمشاريع جديدة، فالمساعدات الاقتصادية التي قدمتها حكومته عن طريق مشروع مارشال شفعها ببرنامج المساعدات الفنية عام 1949. كما أن الدعم العسكري عززه من خلال دخوله وبالتالي سيطرته على حلف شمال الاطلسي ومن خلال برنامج الأمن المتبادل عام 1951.(4)
تحجيم الدور السوفيتي
عندما خطأ ترومان خطواته على طريق اخضاع الدول العربية لسياسة أميركا. كان يخطو إلى جانب ذلك خطوات مماثلة لمواجهة السوفيت دون ان يترك الاوروبيين يوادهونهم، حتى بعد أن تخلصوا من مشاكلهم الاقتصادية واطمأنوا لوضعهم الدفاعي، ولعله لم يكن يريد ان تضطلع اوروبا بهذه المهمة، خوفا من استقلالها في القرار السياسي وشعورها بعد ذلك بالقوة والاستغناء عن الوصاية الأميركية، ورغبة منه في تفرد واشنطن بمهمة التصدي للعملاق الآخر ليضمن لأميركا موقعها المهيمن في المجتمع الدولي.
لقد كانت إدارة ترومان تفكر في طريقة تواجه بها السوفيت، دون ان تحمل هذه الطريقة مؤشرات العمل العسكري منذ البداية. فهي تريد ان تحرم السوفيت من أي مكسب دولي باسلوب سياسي او بوسيلة ذات صفة دولية أكثر مما هي اميركية خاصة. فأطلقت إدارته ما عرف باستراتيجية الحصر والاحتواء.
وتعني هذه الاستراتيجية حصر الاتحاد السوفيتي داخل مناطق نفوذه، وتشديد الضغط عليه بغية الحيلولة دون توسع نفوذه إلى البلاد الأخرى، وبصورة عامة فإن الأهداف التي سعت هذه الاستراتيجية لتحقيقها تنحصر في:ـ
1 ـ تحديد النفوذ السوفيتي وجعله غير قادر على مد أذرعه في اوروبا الغربية والعالم.
2 ـ احباط المخططات السوفيتية الرامية إلى السيطرة على دول العالم وادخالها ضمن الدائرة الشيوعية.
وعلى هذين الهدفين تتحقق الهيمنة الأميركية على السياسة الدولية. حيث تصورت إدارة ترومان ان القوة السوفيتية بعد أن تحجم داخل حدودها وبعد أن تعجز عن تحقيق أغراضها السياسية، فانها ستتخلى عن اهدافها التوسعية، وينهار بذلك النفوذ السوفيتي في شرق أوروبا.(5).
لقد اعتمدت الولايات المتحدة في تطبيق هذه الاستراتيجية على عنصرين:
الأول: السلاح النووي.
الثاني: الأحلاف العسكرية.
ففيما يتعلق بالجانب النووي، فقد كانت الولايات المتحدة مطمئنة إلى تفوقها النووي على الاتحاد السوفيتي الذي لم يكن يمتلك بعد القوة النووية.
وكانت ترى ان تفوقها النووي سيقف رادعا بوجه أي تحرك سوفيتي نحو الغرب. لأن الحرب المقبلة فيما لو فكر السوفيت بشنها على اوروبا لابد وأن تكون شاملة ـ في نظر الأميركان ـ وهذا يعني تدمير الاتحاد السوفيتي بالسلاح النووي الأميركي.
وانطلاقا من هذه القناعة، فقد اعتبرت الولايات المتحدة ان سلاحها النووي يشكل أساس المواجهة الفاعل مع السوفيت، والعنصر الأكبر الذي يتوقف عليه. نجاح استراتيجية الحصر. ولقد استمرت هذه القناعة لدى الإدارة الأميركية حتى بداية الخمسينات عندما امتلك الاتحاد السوفيتي السلاح النووي. حينذاك تراجعت اهمية العنصر الأساس في استراتيجية الحصر، الا ان الولايات المتحدة لم تتراجع عن نظرتها للسلاح النووي، أذ بقيت تنظر إليه على انه إدارة الحسم في الحرب المقبلة.
أما في مجال الاحلاف العسكرية، فان حصر النفوذ السوفيتي داخل مناطقه يتطلب اقامة حزام قوي من التحالفات والقواعد العسكرية التي تقف بوجه أية محاولة توسع شيوعي، وتضييق الخناق عليها.
لقد كانت الظروف المرافقة لتبني الحكومة الأميركية لاستراتيجية الحصر مشجعة على هذا التوجه، حتى انه في بعض الحالات جاءت بمبادرة من الدول الغربية ثم استجابت لها الولايات المتحدة وصبتها في قالب خدمت مصالحها الخاصة، وأولتها اهتماما كبيرا على اعتبارها العنصر الآخر من مستلزمات تحقيق استراتيجية الحصر والاحتواء.
ان استراتيجية الحصر التي كانت ترمي الولايات المتحدة من ورائها إلى تحديد التوسع الشيوعي لم تحقق أغراضها، فلقد عجز عنصراها (السلاح النووي والاحلاف العسكرية) في انجاحها. وهذا ما يتضح من خلال:
1 ـ كانت الولايات المتحدة تعتمد على تفوقها النووي على الاتحاد السوفيتي في ردعه عن التوسع والتعرض لمناطق النفوذ الأميركية، او تلك المتحالفة معها كأوروبا الغربية. غير أن عقد الخمسينات شهد في بدايته ظهور السلاح النووي السوفيتي وبالشكل الذي يؤهله للوقوف بوجه القوة النووية الأميركية. وقد ترتب على هذا التقارب النووي، ظهور حالة جديدة لم تكن تشهدها السنوات السابقة، إلا وهي الردع المتبادل، وتخوف كل معسكر من الآخر، الأمر الذي ادى إلى فقدان استراتيجية الحصر عنصرها الأهم ـ كما ذكرنا سابقا ـ حيث اصبح هذا العنصر غير قادر على ردع السوفيت وهذا ما جعل اهمية السلاح النووي تتراجع في هذا الخصوص، وتفقد تأثيرها في التصدي للتوسع السوفيتي ومنعه من أية محاولة للهجوم على مناطق جديدة، وذلك بعد أن فقد هيبته كقوة متفردة في المجال العسكري.
2 ـ السلاح النووي بشكل عام ونتيجة النقلات الواسعة التي حدثت في طاقاته التفجيرية وقابلياته على التدمير الشامل وما ترتب على ذلك من تطورات مهمة على مستوى السياسة الدولية والعلاقة بين المعسكرين، جعل هذا السلاح يخرج من دائرة الاستراتيجيات الخاصة ليدخل دائرة السياسة العامة لكل من العملاقين. وهذا ما فرض على الولايات المتحدة أن تغير من اسلوب استخدامها للسلاح النووي، أي أنه أصبح غير متلائم مع طبيعة استراتيجية الحضر.
3 ـ حاولت الولايات المتحدة حصر الاتحاد السوفيتي بحزام من الاحلاف والتكتلات العسكرية، إلا أن هذه الخطوة لم تستكمل حلقاتها بشكل سريع، فقد وضعت الحاجز القوي المتمثل بحلف شمال الأطلسي على حدوده الغربية في حين تركت الحدود الجنوبية والشرقية مفتوحة امام توسعه.
هذه العوامل ساهمت في اخفاق استراتيجية الحصر والاحتواء من الوصول إلى اهدافها، بعد أن فشل السلاح النووي في ردع السوفيت، وبعد أن عجز حزام الاحلاف عن تطويق هذا التوسع، لأنه كان حزاما ناقص الحلقات.
لقد أيقنت الحكومة الأميركية ان استراتيجية الحصر قد فشلت في تحقيق اغراضها السياسية ـ لاسيما بعد الهزيمة التي منيت بها في الحرب الكورية. حيث رأت أن الاستمرار في هذا الأسلوب يعرضها إلى خسائر جسمية، وإذا ما استمرت به على هذه النحو فانها ستنجر إلى صراعات عديدة تستنفذ قدراتها العسكرية مع أن بعضها يحتل اهمية ثانوية، كما هو الحال في كوريا.
وقد تنبه ترومان إلى فشل استراتيجية هذه وأيقن أن استمراره في استخدامها يثير سخط حلفائه الأوروبيين، بعد أن يرون ان أميركا تنفرد بالعمل في آسيا في الوقت الذي يتعرضون فيه للخطر السوفيتي في أوروبا. وقد يترتب على ذلك أن تتأزم علاقة اميركا بالدول الغربية التي ربما لا تتعاون معها في تحقيق اغراض سياستها الخارجية.(6) كانت هذه هي التجربة الأولى التي خاضتها الولايات المتحدة مع المعسكر الشيوعي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولم تكن موفقة كالتجربة الأولى التي خاضها ترومان مع اوروبا الغربية.
حلف شمال الاطلسي
بالرغم من ان فكرة انشاء حلف عسكري كانت تدور في ذهن ترومان الذي راح ينظر إلى أن سياسته لابد من تدعيمها بتحالفات عسكرية مع اصدقائه لتحقيق مستلزمات استراتيجية في مواجهة السوفيت. وبالرغم من السيطرة الأميركية المطلقة على حلف الأطلسي، إلا أن انشاءه لم تكن بمبادرة من الإدارة الأميركية وانما من الدول الأوروبية بدافع من التهديدات الخارجية التي تتخوف منها والتي اضطرتها للجوء إلى أميركا.
لقد كانت بريطانيا وفرنسا في طليعة الدول الغربية المتخوفة من الخطر السوفيتي، لذلك ارتأتا انشاء حلف يمكن من خلاله تحديد النفوذ السوفيتي المتزايد في القارة الأوروبية، وتقوية مركزها في أوروبا خاصة والعالم عموما. وقد عرضت هاتان الدولتان على دول بلجيكا وهولندا واللكسمبورغ فكرة ابرام معاهدة سياسية بينها. وتم بالفعل في مؤتمر بروكسل في 17 آذار 1948 الذي أدخل التحالف العسكري ضمن هذه المعاهدة(7) باعتباره ضرورة ملحة لتحقيق اهدافها.
ثم بدأت هذه الدول مفاوضاتها مع الحكومة الأميركية بغية أشراكها في المعاهدة لتنظيم دفاعات عسكرية قوية لاوروبا الغربية، فوافقت الإدارة الأميركية على الدخول في هذه المعاهدة.
بعد الموافقة الأميركية بدأت الدول الخمس المجتمعة في بروكسل تسعى لايجاد ميثاق عسكري يتولى مهمة حماية أمن شمال الاطلسي، وعرضت هذه الفكرة على الدول الغربية الأخرى، فوافقت كندا في 29 تشرين الثاني 1948 على الانضمام إلى هذا الميثاق. كما عرضت تلك الدول فكرة التحالف العسكري على كل من النرويج والدانمارك وآيسلنده والبرتعال وايطاليا وذلك في 15 آذار 1959، وانتهت المفاوضات في النهاية بابرام معاهدة حلف شمال الأطسي في واشنطن في 4 نيسان 1949.
وفي عام 1952 انضمت إلى الحلفق تركيا واليونان.
ثم انضمت في عام 1955 المانيا الغربية ليصبح عدد دول الحلف 14 دولة.(8)
ان المنطقة العسكرية التي تخضع لحلف الاطلسي وتدخل ضمن ساحة عملياته الحربية تمتد من رأس "نورد كاب" حتى البحر المتوسط، ومن الشمال إلى الجنوب على خمسة آلاف كيلومتر. وهو مقسم إلى ثلاث مناطق:
المنطقة الشمالية: وتضم دول السويد وهولندا والدانمارك.
المنطقة الوسطى: وتضم دول وسط اوروبا.
المنطقة الجنوبية: وتضم اليونان وتركيا وايطاليا.
وتعتبر جميع تلك الاراضي محمية من قبل الحلف بالاضافة إلى أميركا الشمالية والبحر المتوسط وكافة الجزر الخاضعة للدول الاعضاء.
يعتمد حلف شمال الأطلسي في تقدير قوته العسكرية على نظام خاص به فهو لا يدخل القوات الوطنية لكل دولة من اعضائه ضمن قوة الحلف العسكرية. في حين ان هذه القوى سوف تضاف إلى مجمل قواته في حالات الحرب.(9)
يولي حلف الاطلسي اهتمامه المتزايد للسلاحين التقليدي والنووي ويسعى جاهدا إلى زيادة فاعليتها وكفاءتها، وذلك تمشيا مع رغبة الولايات المتحدة التي تسيطر على الحلف سيطرة مطلقة. ونتيجة لهذه السيطرة الأميركية، اصبحت سياسة الحلف العامة وطبيعة المهام الموكلة اليه، تسير حسب وجهات نظر واشنطن، أي أن الحلف أصبح أحد أساليب السياسة الأميركية. وهذا ما يتضح من خلال الجانبين العسكري والسياسي. فقد جعلت الإدارة الأميركية قيادة الاسلحة النووية والتقليدية من اختصاصها فقط. أي ان قرار الاستخدام الفعلي للاسلحة الخاضعة للحلف يجب أن يكون صادرا من الدوائر الأميركية وحدها، دون أن تكون هناك مشاركة من قبل بقية الاعضاء ، كما أن الولايات المتحدة وزعت الأسلحة النووية والتقليدية على مناطق الحلف بالشكل الذي يتناسب مع استراتيجيتها في مواجهة الكتلة الشيوعية، وذلك حسب الاسلوبين التاليين:ـ
اعطت اهتماما كبيرا من حيث القوة العسكرية (النووية والتقليدية) لوسط أوروبا وخصوصاً المانيا الغربية باعتبارها أكثر المناطق حساسية في خط المواجهة مع السوفيت، لذلك فإن دورها في مواجهة التوسع السوفيتي أكثر أهمية من غيرها.
جعلت المنطقة الجنوبية من الحلف (تركيا واليونان) تتميز برجاحة كفة الاسلحة التقليدية على النووية، لأن دورها ينحصر بالدرجة الأولى في مواجهة الزحف البري السوفيتي، ولأن خطر الأسلحة النووية على هذه المنطقة ليس بنفس درجة الخطورة التي تهدد المنطقتين الشمالية والوسطى. وعموما فإن هذه المنطقة تعتبر أقل المناطق تهديدا من قبل الزحف الشيوعي.
وبالرغم من كون طريقة التوزيع هذه لم تتعارض مع سياسة الدول الأعضاء في الحلف، على اعتبار انها توفر لهم الحماية الكافية ضد خطر التوسع السوفيتي، إلا أنها في الحقيقة أحد أساليب الاستراتيجية الأميركية ومؤشر على احتفاظ الولايات المتحدة وحدها بحق التخطيط وتحديد المهام.
إن السيطرة الأميركية على حلف شمال الأطلسي أدت إلى تأزم العلاقة بين الدول الأوروبية وبين الولايات المتحدة، فلم ترق هذه السياسة الأميركية للأعضاء الأوروبيين الذين أثارت سخطهم طريقة تعامل واشنطن مع الحلف والتي من أبرز معالمها:ـ
استغلت أميركا وضعها العسكري وموقعها الجغرافي فرسمت على أساسهما استراتيجيتها العسكرية في مواجهة السوفيت. فقد جعلت من أوروبا الغربية ساحة مواجهة متقدمة مع الاتحاد السوفيتي في اية حرب محتملة الوقوع، سواء كانت هذه الحرب تقليدية أو نووية، بفضل القوات الهائلة المرابطة في اوروبا، والصواريخ النووية المنتشرة على اراضيها.
جعلت الولايات المتحدة الأشراف على الصوارخ النووية من مسؤوليتها، لذلك فإن المواجهة الفعلية بين الاتحاد السوفيتي وبينها سوف تنسحب آثارها مباشرة على اوروبا الغربية التي تشكل بموقعها الجغرافي جبهة امامية دفاعية لأميركا. وهذا يعني أن اوروبا ستلتهب قبل أن تتدخل أميركا في المواجهة.
تحاول الولايات المتحدة دائما فرض قناعتها على الدول الأعضاء في الحلف خصوصا فيما يتعلق بالقضايا العسكرية، فهي تطلب من اعضاء الحلف زيادة نفقتها العسكرية، فهي تطلب من اعضاء الحلف زيادة نفقاتها العسكرية والسير معها في سياق التسلح بحجة تحفيف التوازن العسكري بين حلف وارسو.
تقف الولايات المتحدة معارضة أية خطوة سياسية اوروبية لا تناسب توجهاتها الخاصة، ولا تدعم أطماعها التوسعية في حين تطلب من الدول الأوروبية الاستجابة لمقرراتها السياسية.
سياسة واشنطن هذه تجاه الحلف خلقت أجواء متشجنة بينها وبين العديد من الدول الاوروبية وقد اتخذ قسم منها مواقف سلبية تجاه واشنطن بشكل خاص والاطلسي بشكل عام. حيث انسحبت فرنسا من الحلف عام 1966، وازدادت مطالبة الدانمارك والنرويج بالانسحاب منه، وترفض اسبانيا الدخول فيه لنفس الأسباب.(10)
أن تشكيلة حلف شمال الأطلسي تتميز من حيث الاعضاء ومن حيث السياسة المتبعة، بأنها غير متماسكة بالشكل الذي يجعل الاعضاء يشكلون وحدة سياسية وعسكرية تتعامل مع الاحداث بطريقة مركزية. فالاطلسي من خلال سياسته لم يجعل الاعضاء ملزمين بتنفيذ كل مقرراته، بل انه ترك لهم ساحة واسعة تتحرك عليها سياساتهم. وذلك يعود إلى كونه تأسيس على دوافع عسكرية بالدرجة الأولى. ولما كانت العسكرية تأتي من القرارات السياسية، لذا فانها لم تتوحد بين الاعضاء كما هو واضح من تحديد كل عضو في الحلف للاسلوب الذي يراه مناسبا لأن يعتمده في حالة وقوع عدوان على منطقة الحلف.
كما ان اختلاف التوجهات السياسية بين اعضائه وكونها استعمارية توسعية، تجعل سياساتها تتعارض في كثير من الأحيان داخل الحلف وتنشأ نتيجة ذلك اختلافات بين اعضائه دون أن يكون للحلف القدرة على حلها او اتخاذ قرار حاسم بشأنها. ومثال على ذلك، عندما احتلت تركيا قسما من جزيرة قبرص عام 1974، تقدمت اليونان بطلب إلى قيادة الحلف يقضي بضرورة ردع الاعتداء التركي على قبرص، إلا أن حلف الاطلسي لم يتخذ أي قرار ضد تركيا، فانسحبت اليونان على اثر ذلك من الجناح العسكري للحلف وقد ترتب على هذه الحادثة نتائج سلبية، حيث تأزمت العلاقة بين اليونان والولايات المتحدة. فقد طلبت اليونان من الحكومة الأميركية سحب قواعدها العسكرية من اراضيها على اعتبار أن واشنطن لم تقدم دعمها لليونان، ولم تقف معها الموقف المناسب، فلم تعترض مطلقا على الحكومة التركية، بل ان علاقاتها استمرت على طبيعتها، أن لم تكن قد أدادت ارتباطا ووثوقاً.
وبالرغم من كل تلك السلبيات والاخطاء الموجودة في حلف شمال الأطلسي، إلا انه يبقى اقوى الاحلاف الأميركية التي دخلت فيها اوساهمت في تأسيسها بعد ذلك. فلقد حقق الأطلسي إلى حد كبير العديد من المهام الموكلة إليه، حيث ساهم في التصدي للسياسة السوفيتية، ولم يتعرض إلى أية هجمة سوفيتية بفضل القوة الكبيرة التي ركزتها الولايات المتحدة في دوله.
مبدأ ايزنهاور
تعد سياسة ترومان تجربة مهمة في الفكر السياسي الأميركي. ورغم انها نجحت نصف نجاح، إلا أن الاوساط السياسية الأميركية نظرت إليها على انها خط مميز في السياسة الأميركية لابد من تعميق ايجابياتها، ونقل نجاحاتها إلى ساحات عمل اخرى، وتصحيح سلبياتها بأن تعدل في صورة جديدة تنسجم مع الواقع الذي تتعامل معه اميركا، مع الاحتفاظ بأسها باعتبارها ثابتة لم يحن الوقت لتغييرها، ولم تستوجب الظروف استبدالها.
هذا التقييم لسياسة ترومان، وضعه أيزنهاور نصب عينيه في أول يوم دخل فيه البيت الأبيض، وعلى اسسه رسم برنامجه السياسي الذي تحدد بالخطوط التالية:ـ
1 ـ ما وقف عنده ترومان لابد من اكماله. سواء فيما يتعلق بالأساليب الأميركية التي تخدم واشنطن مباشرة، او ما يختص بعلاقاتها الخارجية.
2 ـ نجاح ترومان في أوروبا الغربية من الضروري توسيع دائرته ونقل تجربته إلى المناطق التي تهم أميركا.
3 ـ أخطاء ترومان لا ينبغي تركها دون علاج، فالاساس ثابت في السياسة الأميركية وانما طريقة التطبيق هي موضع النقاش.
ولقد جسد أيزنهاور هذه الخطوط عمليا من خلال تعميقه لسياسة الأحلاف العسكرية باعتبارها سياسة مهمة لتحقيق اهداف الخارجية الأميركية، فلقد سعى أيزنهاور إلى تشكيل حلفي جنوب شرق آسيا وبغداد. وجسدها ثانيا من خلال محاولته نقل تجربة ترومان إلى الشرق الإسلامي. وإلى جانب هاتين المحاولتين طرح استراتيجية الرد الشامل في مواجهة الاتحاد السوفيتي.
ملف جنوب شرق آسيا
تشكل هذه الحلف في 8 ايلول 1954 في مانيلا عاصمة الفلبين، وضم في عضويته كل من باكستان والفلبين وسيام واستراليا ونيوزلندا وفرنسا وبريطانيا بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية.(11)
والملاحظ على حلف جنوب شرق آسيا انه يضم في عضويته دولا لا تدخل ضمن منطقة الحلف مثل فرنسا وبريطانيا ونيوزلندا والولايات المتحدة، والحقيقة ان السبب وراء انضمامها يكمن في الدوافع السياسية لهذه الدول.
ففرنسا كان لها وجود مباشر في جنوب شرق آسيا وبالتحديد في فيتنام، وقد بدأ وجودها في هذه المنطقة يتعرض للخطر بعد بروز الصين كقوة مؤثرة في شرق آسيا، حيث تدخلت في الهند الصينية بشكل أثرت فيه على أوضاعها السياسية، مما جعل فرنسا تواجه صعوبة بالغة وبالتالي تفشل في المحافظة على نفوذها في فيتنام.
وبريطانيا هي الأخرى لها مصالحها السياسية والاقتصادية في جنوب شرق آسيا، وبدأت تتخوف على نفوذها في هونغ كونغ من الخطر الشيوعي القادم من الصين.(12)
أما الولايات المتحدة فانها كانت تهدف من وراء هذا الحلف إلى تحقيق اساليب استراتيجياتها في مواجهة النفوذ الشيوعي ومنع اتساع رقعته. وقد نادت بضرورة تشكيل الاحلاف كل من استراتيجية الحصر والاحتواء التي سبق الحديث عنها، واستراتيجية الرد الشامل التي تبناها أيزنهاور وسنتحدث عنها ان شاء الله.
أي ان الدافع المشترك لانضمام هذه الدول إلى الحلف هو خوفها من خطر التوسع الشيوعي المتمثل هذه المرة بالصين. فلقد كانت الصين تمتلك قوة عسكرية ضخمة في حين أن القوة العسكرية لحلفاء أميركا في هذه المنطقة محدودة ولا يمكنها مقاومة النفوذ الصيني.
ونتيجة لهذا الفارق الكبير في القوى العسكرية تخوفت تلك الدول ولا سيما الولايات المتحدة من سقوط جنوب شرق آسيا بيد الشيوعية.
ان القوة العسكرية الصينية شكلت التهديد المستمر للحلف، لذلك عمدت الولايات المتحدة إلى تعزيز قوة الحلف العسكرية، عن طريق تقديم دعمها ومساعداتها لدولة، بالإضافة إلى احتفاظها بقوات عسكرية كبيرة في المنطقة وأبرزها الأسطول الأميركي السابع.(13)
لم يكن تعامل الحلف مع اعضائه تعاملا سليما، فعندما دخلت الباكستان حربها مع الهند عام 1971 لم تقدم الدول الاعضاء في الحلف اية مساعدة ملحوظة لها، خلافا لتعهداتها المتفق عليها في معاهدة الحلف مما دعا الباكستان إلى الانسحاب عام 1972، بعد أن رأت أن هذا الحلف لم يدعمها في الوقت الذي يتوجب عليه تقديم الدعم. في حين ان الصين التي اعتبرها الحلف عدوته الأولى، وقفت موقفا ايجابيا منها.(14)
ويبدو أن السبب وراء هذا الموقف من حلف جنوب شرق آسيا، ان الولايات المتحدة (المهيمنة على قراراته) لم ترد لهذا الحلف أن يوجه قوته العكرية لغير المعسكر الشيوعي، كما انها كانت قد تراجعت في الفترة التي اشتعلت فيها الحرب الباكستانية ـ الهندية عن استراتيجية مواجهة التوسع الشيوعي، حيث أصبح موقفها من المعسكر الشيوعي موقفا جديدا يختلف عن الموقف السابق في عقدي الخمسنات والستينات. وهذا ما يؤدي بالنتيجة إلى قلة اهتمامها بالدول الاعضاء في احلافها ومنها الباكستان.
وهناك عامل آخر، ألا وهو أي الولايات المتحدة لم تدعم الباكستان لأنها تراعي بعض الاعتبارات السياسية فدعمها للباكستان يؤثر سلبا على علاقاتها بالهند وبالتالي مع القوى المسيطرة على الهند.
أن حلف جنوب شرق آسيا لم يكن فاعلا في تحقيق أغراض السياسة الأميركية، فلم يستطع على الهند.
أن حلف جنوب شرق آسيا لم يكن فاعلا في تحقيق أغراض السياسة الأميركية، فلم يستطع أن يحافظ على الخارطة السياسية للمنطقة، حيث ان مناطق عديدة من هذه الخارطة دخلت الدائرة الشيوعية، دون أن يكون هناك موقف سياسي أو عسكري يأخذ بالاعتبار من قبل دول المنطقة المنضمة إلى هذا الحلف.

حلف بغداد
تأسس هذا الحلف في شباط 1955 على هيئة اتفاق عسكري في بداية أمره بين العراق وتركيا، ثم انضمت إليه كل من بريطانيا والباكستان وإيران في نفس العام(15). بالاضافة إلى الولايات المتحدة التي لم تكن عضويتها كاملة في سنواته الأولى.
وكان الدافع الاكبر وراء إنشاء هذا الحلف الذي جاء بتخطيط من الولايات المتحدة، هو الموقع الاستراتيجي المتميز لمنطقة الحلف، إذ أن هذا الموقع يمتلك العديد من العناصر المهمة:
تعتبر دول الحلف منطقة نفوذ مهمة للقوى الاستكبارية، حيث تتركز فيها مصالحها الاقتصادية بشكل كبير بفضل المخزون الهائل من البترول في أراضيها.
أن هذه المنطقة متاخمة للحدود الجنوبية للاتحاد السوفيتي، وعلى هذا الأساس فانها تمثل البوابة التي يمكن من خلالها التوغل إلى منطقة الشرق الإسلامي بأسرها.
وهذا ما يحتم على الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة ان تسعى لغلقها بوجه التوسع السوفيتي، وبذلك سوف تستكمل الولايات المتحدة حلقات حصارها الاستراتيجي للمعسكر الشيوعي، بعد أن حاصرته من قبل بحلف شمال الأطلسي غربا، وبحلف جنوب شرق آسيا شرقا.
ان منطقة الشرق الإسلامي بدأت تشهد أوضاعا سياسية قلقة، وهذا ما يستدعي من الدوائر الغربية تقوية الانظمة التابعة من خلال تحالف عسكري يربطها بها أكثر ويوفر الحماية الكافية للأنظمة الحاكمة.
هذه الأسباب دفعت الولايات المتحدة إلى انشاء حلف بغداد لتصل من ورائه إلى اهدافها السياسية. ولقد أخذ هذا الحلف الكثير من اهتمام الرئيس الأميركي أيزنهاور اذ أنه كان يخطط لأن يضم الحلف إلى عضويته دولا جديدة من الشرق الإسلامي، وقد كانت له ثلاث محاولات في هذا الخصوص فشلت كلها على حد سواء.
الأولى كانت مع الاردن، وقد ابدى الملك حسين رغبته في الانضمام إلى حلف بغداد، إلا أن الاوضع الداخلية في الاردن حالت دون أن يحقق حسين رغبته. حيث شهدت الاردن معارضة قوية تشجب حلف بغداد للدرجة التي أخافت النظام فتراجع الملك حسين عن قراره وفشلت بذلك المحاولة الأولى.
والثانية كانت مع مصر، غير أن مصر كانت ترفض فكرة الانضمام إلى أحلاف عسكرية، انطلاقا من حساباتها السياسية الخاصة، وقد رافق هذه الفترة تأميم مصر قناة السويس، فشنت على اثر هذه الخطوة بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني هجوما على مصر في عام 1956، وبذلك أصبح مستحيلا انضمامها إلى الحلف.
وهناك عوامل أخرى كانت تحول دون انضمام مصر إلى حلف بغداد، أهمها الاختلاف الكبير في الاتجاهات السياسية بين دول الحلف وخصوصا بين الحكومة الملكية في العراق وبينها، هذا الاختلاف الذي كان يصل إلى درجة العداء الصريح.
والثالثة: كانت مع سوريا والتي كانت نظرتها تجاه الاحلاف مشابهة لنظرة مصر، وقد تعرضت سوريا إلى تهديد عسكري من تركيا عام 1957. مما شنج علاقاتها ليس مع تركيا فحسب، بل مع الولايات المتحدة ايضا باعتبارها تقف وراء تحرشات تركيا العسكرية.
يضاف إلى ذلك ان التوتر بين سوريا والعراق كان أكثر حدة مما هو عليه بين مصر والعراق، حيث انه وصل إلى حياكة المؤامرات، كما أعلنت بذلك الحكومة السورية عن اكتشافها مؤامرة تستهدف اسقاط السلطة، دبرتها حكومة نوري السعيد بالتنسيق مع السفارة الأميركية في دمشق. وقد أزمت هذه الحادثة علاقة سوريا مع العراق إلى درجة كبيرة. وبذلك سقطت كل احتمالات ضم سوريا إلى حلف بغداد.
أن هذا الاسلوب الأميركي لم يأخذ بنظر الاعتبار تصور الدول العربية لسياسية المنطقة وظروفها، حيث كانت هذه الدول ترى ان الخطر الذي يهددها لا يكمن في الاتحاد السوفيتي، فمواقفه تجاهها لا تدل على أنه يروم التدخل في المنطقة عسكريا، بل انها كانت على العكس من ذلك. فلقد اعرب الاتحاد السوفيتي عن استعداده لدعم هذه الدول عسكريا واقتصاديا. كما انه وقف إلى جانبها سياسيا معززا مواقفها في بعض الأحداث السياسية، كما فعل مع مصر حين هدد بالتدخل واستخدام سلاحه النووي إذا لم يتوقف العدوان الثلاثي على مصر. وكما وقف إلى جانب سوريا عندما تعرضت للتهديد العسكري التركي. وهذا جزء من أساليب الاستكبار في مد أذرعه.
أن دول المنطقة لم تكن تدرك ان السوفيت يحاولون بسط سيطرتهم على المنطقة من خلال الطرق الدبلوماسية التي يتبعونها. فقد كان تصور تلك الدول أن الخطر له صورة واحدة فقط ملامحها العامة التدخل العسكري ولقد ساهمت واشنطن إلى حد كبير في رسم هذه الصورة أمام أعينها، وحيث ان التدخل لم يحدث فلا خطر أذن من السوفيت او من الشيوعية، في حين كانت الاحزاب الشيوعية تمتد داخلها.
المهم ان انظمة المنطقة لم تكن مقتنعة ان الخطر قادم من الاتحاد السوفيتي بل كانت تتصور أن الخطر الذي يهددها يتمثل بالكيان الصهيوني، وأن كان هذا التصور لم يُبنى على قناعة حقيقية، ولم تكن له تطبيقات جادة نظرا لتبعية تلك الانظمة للقوى الاستكبارية، إلا أنه كان مفروضاً عليها لاعتبارات الساحة التي كانت متوجهة نحو قضية فلسطين.
هذه الحقائق لم تدخلها الادارة الأميركية ضمن حساباتها السياسية في المنطقة، وتجاوزتها عندما أرادت ادخال أنظمة المنطقة في حلف بغداد. فكانت النتيجة أن اقتصر الحلف على عضوية دول الست فقط.
وحتى هذا الدول لم تستمر طويلا في الحلف. فبعد أربع سنوات انسحب العراق من عضويته على اثر انقلاب 14 تموز 1958. كما انسحبت إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية وسقوط نظام الشاه عام 1979. ثم انسحبت بعد ذلك الباكستان وتلتها تركيا(16)، ولم يبق إلاّ بريطانيا والولايات المتحدة، فاعتبر الحلف بحكم المنحل.
تقييم سياسة الاحلاف الأميركية
خلال ادارتي ترومان وأيزنهاور دخلت الوليات المتحدة في ثلاثة أحلاف عسكرية، رسمت سياساتها العامة واضطلعت بكل مهامها السياسية والعسكرية. وبعد أن استعرضنا تلك الأحلاف لابد في النهاية من تسجيل الملاحظات التالية حول السياسة الأميركية المتبناة في الاحلاف العسكرية:
1 ـ برزت أهمية الاحلاف العسكرية خلال إدارة ترومان الذي تبنى حلف الأطلسي فقط، ثم جاءت إدارة أيزنهاور فشهدت ولادة حلفي بغداد وجنوب شرق آسيا. أما الإدارات اللاحقة، فانها وجدت أمامها تركة من الاحلاف العسكرية. وبتعبير آخر أن الاحلاف لم تخضع لرؤية سياسية واحد، بل انها خضعت لرؤى سياسة متعددة تبعا لكل رئيس اميركي جديد. وتعامل هؤلاء الرؤساء معها انطلاقاً من تقييماتها لسياسة الاحلاف، ونظرتهم تجاه مستجدات الساحة الدولية وبذلك تعرضت هذه الاحلاف إلى تعديلات مهمة في سياساتها الخاصة. فما كان يعتمده الرئيس السابق مع احد هذه الاحلاف، لم يكمله خلفه وربما حاد عن طريقة تعامله، الأمر الذي يعني أن الأسس التي أنشئ من أجلها الحلف لم تبق ثابتة لاسيما تلك التي لها دور مهم في توجيهه وتحديد مهامه، وهذه النقطة من أكثر النقاط خطورة على فاعلية الاحلاف، ولقد كلفت الإدارة الأميركية الكثير من الخسائر، مع انها لم تكن غائبة عن تفكير الرؤساء الأميركيين. فكل رئيس أميركي كان يدرك هذه الحقيقة، لكن اساليبه كانت تملي عليه ان لا يلتزم بأساليب سلفه تجاه أي واحد من هذه الأحلاف.
2 ـ لجأت الإدارة الأميركية إلى انشاء الأحلاف العسكرية لأنها تمثل أحد أساليب استراتيجية الحصر ثم استراتيجية الرد الشامل من بعدها. غير أن هذا الاسلوب لم تكتمل عناصره بالنسبة للاستراتيجية الأولى. حيث كان مقرراً تطويق المعسكر الشيوعي من الغرب والجنوب والشرق. لكن هذا الحزام لم تكتمل حلقاته في الوقت الذي تبنت فيه الإدارة الأميركية استراتيجية الحصر. فقد كان الحاجز الوحيد هو حلف شمال الاطلسي آنذاك، ثم استكمل هذا الحزام حلقاته بعد أن تخلت واشنطن عن استراتيجية الحصر، وفي المراحل المتأخرة من تبنيها لاستراتيجية الرد الشامل. وقد انعكس هذا التأخير على هاتين الاستراتيجيتين، وكان سببا مهما في فشل الاستراتيجية الأولى.
3 ـ تعاملت الولايات المتحدة مع الأحلاف العسكرية بدرجات متفاوته من حيث الأهمية مستندة في ذلك على قناعتها وتقييماتها لمناطق العالم المختلفة التي قد تتعرض لغزو شيوعي، فأعطت اهتمامها الأكبر لحلف الأطلسي على أساس أنه أكثر المناطق تعرضا للخطر السوفيتي. في حين أن الاحلاف الأخرى كانت تحظى باهتمام أميركي أقل، ولم تضع الولايات المتحدة في حسبانها ان طريقة تعاملها هذه مع احلافها، قد تدفع الاتحاد السوفيتي او المعسكر الشيوعي عموما إلى مهاجمة مناطق الاحلاف الأخرى. وهو ما حدث بالفعل فالسوفيت لم يتعرضوا مطلقا لأوروبا الغربية، ولا يمكن أن يتعرضوا لها، طالما انها تمتلك قوة هائلة من الأسلحة النووية والتقليدية، في حين انهم توجهوا نحو شرق آسيا ونجحوا في مد النفوذ الشيوعي هناك.
وقد وقعت الولايات المتحدة في هذا الخطأ مرتين. مرة في استراتيجية الحصر عندما انصب اهتمامها على تقوية حلف الأطلسي، ولم تسارع إلى انشاء حلف جنوب شرق آسيا الذي كان بامكانه أن يكون جبهة مقاومة للتوسع الشيوعي. فهزمت نتيجة ذلك في الحرب الكورية وسقطت كوريا بيد الشيوعية، ومرة أخرى في استراتيجية الرد الشامل. حيث بقي الاهتمام الأميركي بشرق آسيا كما هو عليه سابقا، فسقطت الهند الصينية بيد الشيوعية ايضا.
4 ـ ان الولايات المتحدة لم تحدد سياسة الاحلاف التي اعتمدتها على أنها عناصر استراتيجيات مواجهة التوسع الشيوعي فقط، بل انها أناطت بها مهام جديدة وجعلتها اسلوبا من أساليب تحقيق اغراض سياستها الخارجية في تعزيز سيطرتها وفرص هيمنتها السياسية على مناطق الاحلاف. وهذا ما جعل امكانية الاحلاف تضعف في مواجهة التوسع الشيوعي بعد أن تداخلت المهام الموكلة اليها.
كما ان فرض الهيمنة الاميركية على الدول الاعضاء في تلك الأحلاف له مردود سلبي على سياساتها في مناطق وجودها، حيث ان تأثيرها السياسي في أحداث المنطقة لن يكون فاعلا، لأنه سينظر أليها على أنها دولا تابعة لأميركا، وما مواقفها السياسية الاّ ترجمة للمواقف والمصالح الأميركية.
وإذا كانت الحقيقة الأخيرة لا تنسحب على الدول الاعضاء في حلف شمال الأطلسي نظرا لخلفياتها السياسية في الساحة الدولية التي تكسبها ثقلا دوليا، فإن هذه الحقيقة لا تنطبق على الدول الاعضاء في حلف جنوب شرق آسيا وحلف بغداد. فنظرة عامة على دول هاتين المنطقتين تكشف لنا أنها تابعة للمعسكر الغربي وأن ارادتها تلك الاحلاف افتقارها إلى القوة السياسية المؤثرة في أحداث مناطقها فضلا عن خسارتها هيبتها السياسية أمام المجتمع الدولي.
5 ـ ونتيجة التعامل السابق، فإن نظرة الولايات المتحدة في تقييم اعضاء الحلف لم تكن دقيقة، ولم تأخذ بالاهتمام الجوانب العسكرية، بل سيطرت عليها الاعتبارات السياسية، فقد ادخلت بعض الدول في تحالفات عسكرية، بالرغم من ان دورها في مواجهة التوسع الشيوعي ضعيف جدا أو معدوم، مثل ماليزيا والفلبين، حيث أناطت بهذه الدول مهام عسكرية لا يمكن ان تؤديها بالصورة المطلوبة، متناسية ان الدوافع وراء إدخالها في تحالف عسكري انما كان لتعزيز هيمنتها عليها وليس مواجهة التوسع الشيوعي.
6 ـ ان الولايات المتحدة لم تراع في أحلافها التوجهات السياسية لأعضاء الحلف الواحد. وهذا ما يجعل تشكيلة ذلك الحلف ضعيفة ومعرضة للانهيار، طالما ان الحلف يشهد نزاعا بين دوله، مما يؤدي إلى قصوره في تحقيق المواجهة الفاعلة مع الشيوعيين، فمثلا حلف الأطلسي يضم في عضويته دولتين متنازعتين هما تركيا واليونان، وقد انعكست آثارها النزاع على تركيبة الحلف، حيث انسحب اليونان منه محدثة ضعفا في الجبهة الجنوبية.
7 ـ وهناك عامل آخر ساهم في ضعف تركيبة الأحلاف، فهناك العديد من الدول التي كانت مشغولة بمشاكلها السياسية. ففي حلف جنوب شرق آسيا كان اهتمام تايلاند منصبا تجاه كوريا الشمالية التي تشكل مصدر خطر عليها. والباكستان التي تشترك في عضوية حلف جنوب شرق آسيا وحلف بغداد، كانت مشغولة بنزاعها مع الهند. هذا العامل كان يحول اهتمام تلك الدول نحو مشاكلها الخاصة بعيدا عن اهتمامات وأهداف الحلف الذي تنضوي تحته.
8 ـ لم تبن الولايات المتحدة حلف جنوب شرق آسيا وحلف بغداد على قاعدة قوية كتلك التي بني عليها حلف الأطلسي، ولعل ذلك يعود إلى اختلاف الاوضاع السياسية في مناطق الحلفين الاوليين عنها في أوروبا الغربية. فأوضاع هذه الأخيرة كانت تستوجب إلى حد كبير انشاء تحالف عسكري يقف بوجه أية محاولة هجومية قد يشنها الاتحاد السوفيتي. في حين أن منطقتي جنوب شرق آسيا والشرق الإسلامي كانت ظروف دولها السياسية تختلف كثيرا عن ظروف أوروبا الغربية. ثم أن كل دولة لها أوضاعها الخاصة. وهكذا أصبح وجود أية دولة في عضوية هذين الحلفين مرتبطا بظروفها السياسية فإذا ما تغيرت هذه الظروف بشكل يتعارض مع السابق، تخلت الدولة عن عضويتها، وهذا ما حدث في حلف بغداد. فقد انسحبت معظم دولة لأنها عاشت أوضاعا سياسية جديدة لا يمكن في لها الاستمرار في عضوية هذا الحلف. فالعراق وإيران مثلا انسحبت منه بعد تغير نظام الحكم فيهما.
9 ـ ولم يكن تغير الاوضاع السياسية يختص بالدول الاعضاء في الاحلاف، بل ان الولايات المتحدة نفسها غيرت سياسة كل حلف بعد أن تغيرات نظرتها الأولى للأحلاف، فبعد أن كانت ترمي من ورائها إلى تضييق الخناق على المعسكر الشيوعي، أصبحت ترى أن هذا الأسلوب لم يعد صالحا للتعامل مع الشيوعيين، بعد أن دخلت العلاقات الدولية مرحلة جديدة. ولعل هذه النظرة الأميركية هي التي وقفت وراء عدم اكتراثها لانفراط أعضاء حلف بغداد، وهي نفسها التي جعلتها تقلل من اهتمامها لحلف جنوب شرق آسيا "فلم تعد الولايات المتحدة تنظر إلى الصين نظرتها القديمة فهي تدرك ان خصومة هذه مع الاتحاد السوفيتي قد تفوق خصومتها مع واشنطن، ولذا فإن الأهمية التي كانت تعلقها على هذا الحلف، لم تعد بالقدر الذي كان في فترة الخمسينات مع انها لازالت قائمة من حيث الجوهر."(17).
10 ـ تصورت الولايات المتحدة ان الخطر السوفيتي سيكون على شكل هجوم عسكري، وعلى ضوء هذا التصور اطمأنت إلى أن أحلافها ستكون بمثابة الحاجز أمام العبور السوفيتي إلى مناطق الأحلاف بشكل خاص، ومناطق النفوذ الأميركي بشكل عام. لكنها لم تتوقع ان التوسع السوفيتي قد يكون سياسيا. وهوما حدث فعلا، حيث توغل السوفيت إلى ما وراء الأحلاف الأميركية، واستطاعوا أن يتمركزوا فيها قوة دون اللجوء إلى الأسلوب العسكري. وهذا يعني أن أساليب السياسة الأميركية في الاحلاف العسكرية أصبحت فاشلة من أساسها، فما جدوى الأحلاف هذه إذا كانت عاجزة عن منع دخول السوفيت سياسيا إلى خلف خطوطها الجبهوية، وإذا كانت الولايات المتحدة قد حققت من وراء هذه الأحلاف هدفا مضادا للتوسع السوفيتي، فهو منعها سقوط الدول المنضمة في احلافها بيد الشيوعية.
11 ـ الملاحظ على الأحلاف الثلاثة انها ضمت دولا متعددة العضوية فالباكستان اشتركت في عضوية حلف بغداد، وحلف جنوب شرق آسيا، وتركيا كانت منضمة إلى حلف شمال الأطلسي وكذلك حلف بغداد. وفرنسا كانت عضوا في حلف الأطلسي وحلف جنوب شرق آسيا، وبريطانيا اشتركت في عضوية الأحلاف الثلاثة. أن تعدد العضوية هذه كانت لها آثار سلبية على تلك الأحلاف، فانسحاب احدى هذه الدول من احد الاحلاف يتبعه انسحابها من الحلف الآخر، لأن انسحابها الاول غالبا ما يكون لعدم رضاها عن السياسة الأميركية تجاه الأحلاف. فقد انسحبت الباكستان من عضويتها في حلف جنوب شرق آسيا وحلف بغداد، كما انسحبت فرنسا من الحلف الأول ومن حلف الأطلسي. وتركت هذه الانسحابات المزدوجة فراغا في حلفين وفي فترة قصيرة. أما بريطانيا فانها لم تنسحب من أي من هذه الأحلاف، لكن تأثيرها كان من نوع آخر فالتوجه السياسي البريطاني يتميز بكونه توجها توسعيا يرمي إلى خدمة المصالح البريطانية من خلال تعزيز سيطرتها السياسية على مناطق الاحلاف. وبذلك تنشأ حالة تنافس بين بريطانيا والولايات المتحدة في الحلف الواحد، من شأنها أن تضعف تركيبته، وإذا كانت هذه الحالة غير ظاهرة في حلف الأطلسي، فإن وجودها في حلفي بغداد وجنوب شرق آسيا، قد يكون واضحا من خلال سيطرتها على بعض الدول الأعضاء في هذين الحلفين. فمثلا تبعية العراق لبريطانيا تجعله يقدم على خطوات تخدم السياسة البريطانية، قبل أن يفكر في خدمة حلف بغداد. وبالتالي فإن الولايات المتحدة لا تحقق من وراء خطوات العراق مكسبا ملموسا.
هذه بصورة عامة نقاط الضعف التي حوتها الأحلاف الثلاثة والتي أثرت سلبا على الهدف العريض الذي رسمته الولايات المتحدة والمتمثل بمواجهة التوسع الشيوعي وفرض السيطرة الأميركية على مناطق العالم.
ان عدم النجاح الأميركي الكامل في سياسة الأحلاف لا يمكن القاء تبعاته على ترومان أو آيزنهاور وحدهما، بل تشترك به الأدارات الأميركية المتعاقبة. وربما كانت حصة ترومان من الأخطاء محدودة، على اعبترا انه استطاع أن يحكم السيطرة الأميركية على حلف الأطلسي وأن يجعل منه قوة عسكرية ضخمة ردعت السوفيت عن التفكير في التقرب من أوروبا الغربية.
لكن آيزنهاور لا يمتلك مبررات كافية كتلك التي يمتلكها ترومان، فهو الذي قرر تبني حلفي بغداد وجنوب شرق آسيا، مع انه في الوقت نفسه ترك استراتيجية الحصر والاحتواء واعتبرها قاصرة عن مواجهة السوفيت وطرح استراتيجية الرد الشامل بديلا عنها، ومع كل ذلك فلم يلتفت إلى التحولات السريعة التي طرت على الساحة الدولية. أذ بقي يفكر بطريقة ترومان بعض الشيء، مع ان التطبيقات لا تنسجم مع هذه الطريقة.
والذي جعل أخطاء آيزنهاور تتزايد، اسلوب تعامل الإدارات التي تلت إدارة آيزنهاور مع الاحلاف العسكرية. إذ تخلت هذه الإدارات عن الهدف الأول الذي رسمه ترومان لها و الذي سار نحوه آيزنهاور، وحددت لها أهدافاً أخرى كانت نهايتها تفوق نهاية أهداف الأولين سلبية وخصوصا فيما يتعلق بحلف جنوب شرق آسيا وحلف بغداد. فالأول لم يعد بإمكانه النهوض بمتطلبات السياسة الأميركية، أو خدمة مصالحها كما كان عليه في السابق، والثاني انفرط اعضاؤه ولم يبق منه إلا الأسم. ومثل هذه النهايات تعد خسائر كبيرة في الحسابات الدولية.
التحرك نحو المنطقة الإسلامية
كما ذكرنا سابقا ان النجاح الذي حققه مبدأ ترومان في أوروبا، حاولت إدارة آيزنهاور أن توسع دائرة تطبيقه لتشمل منطقة الشرق الإسلامي. غير أن الأوضاع السياسية التي شهدتها هذه المنطقة ونتيجة التعامل الخاطئ للسياسة الأميركية معها، حالت دون نجاح تطبيقه. فإدارة آيزنهاور لم تعر اهتماما لاختلاف الظروف السياسية بين هذه المنطقة وبين أوروبا.
لقد حاولت إدارة أيزنهاور أن تربط الأنظمة العربية بأحلاف عسكرية معها، مبررة دعواها هذه بالخطر السوفيتي، إلا أن هذه الخطوات لم تلق ترحيبا من الدول العربية التي لم تكن مقتنعة بأن هناك خطراً قادماً من الاتحاد السوفيتيت. هذا الموقف البارد من الأنظمة العربية دفع الاتحاد السوفيتي إلى التقرب منها، لاسيما من مصر وسوريا.
فمصر بعد رفضها الدخول في تحالف عسكري اقترحته عليها الحكومة الأميركية، تأزمت علاقاتها بواشنطن التي رفضت تقديم مساعداتها لمصر. فقد رفضت تقديم مساعدات اقتصادية وفنية لمشروع السد العالي، كما رفضت تزويدها بالأسلحة، عقوبة على موقفها من الاقتراح الأميركي. وعلى أثر هذا الموقف السلبي من قبل أميركا، سارع الاتحاد السوفيتي إلى تقديم مساعداته الاقتصادية والعسكرية لمصر.
أما سوريا فإن الاتحاد السوفيتي زودها عن طريق تشيكسلوفاكيا ـ كما فعل مع مصر ـ بشحنات عسكرية مختلفة بالإضافة إلى المساعدات الاقتصادية، كما أن الاتحاد السوفيتي دعم سوريا سياسيا، فعندما حشدت تركيا قواتها على الحدود الشمالية لسوريا عام 1955 (بتوجيه من أميركا)، وقف الاتحاد السوفتي موقفا مدافعا عن سوريا، حيث هدد خروشوف الحكومة التركية وأعلن عن استعداده لدعم سوريا.(18)
ان هذه التطورات التي شهدتها منطقة الشرق الإسلامي والتي تميزت بتقرب السوفيت منها، مقابل انحسار النفوذين البريطاني والفرنسي، وفشل حلف بغداد في تحقيق أغراضه. هذه التطورات أثارت مخاوف آيزنهاور الذي بدأ ينظر إلى الفراغ الناجم عن تراجع النفوذين الاستكباريين السابقين بقلق كبير، معتقدا ان الاتحاد السوفيتي سيسارع إلى ملئه. فأطلق مبدأه. في كانون الثاني 1957.
يفيد مبدأ آيزنهاور، بأن على الولايات المتحدة أن تتحمل مسؤولية ملء الفراغ في الشرق الإسلامي، وذلك عن طريق تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية الضخمة لدوله. كما تضمن هذا المبدأ، امكانية الولايات المتحدة على التدخل العسكري في الشرق الإسلامي ـ دون رجوع رئيس الجمهورية في قرار التدخل إلى الكونغرس ـ في الحالات الضرورية.(19)
وقد حدد مبدأ آيزنهاور الحالات التي تستوجب تدخلا عسكريا من قبل الولايات المتحدة بحالتين:
1 ـ في حالة تعرض احدى الدول في الشرق الإسلامي لخطر او تهديد شيوعي.
2 ـ في حالة تعرض أحدى الدول المهمة بالنسبة للمصالح الأميركية إلى أزمات داخلية تهدد كيانها السياسي.
والحالة الثانية ادخلت على مبدأ آيزنهاور بعد أن تعرض لانتقادات شديدة، وبعد أن وجدت الإدارة الأميركية صعوبة تنفيذ الخطوة الأولى على ضوء الاوضاع السياسية للمنطقة.
طبق مبدأ آيزنهاور أساليبه في عمليتين:ـ
الأولى: في الإردن، عندما أصبح موقف الملك حسين قلقا في السلطة نتيجة المعارضة الشديدة التي أجّجها رئيس حكومته سليمان النابلسي، حيث شهدت الإردن مظاهرات واضطرابات تندد بموقف الملك حسين. واعتبرت إدارة آيزنهاور ان ما تشهده الأردن يتطلب تطبيقا لمبدئه، فأرسل الأسطول السادس الأميركي ليرابط في شرق المتوسط وذلك في نيسان 1957. كما أنه قدم مساعداته لنظام حسين والتي بلغت خلال عامين (70) مليون دولار.(20)
والثانية: في لبنان نتيجة الحرب الأهلية والأضطرابات التي شهدتها لبنان، اثر السياسة التي اتبعها شمعون. فقد أيد شمعون مبدأ آيزنهاور، إذ سمح للاسطول الأميركي بالبقاء في السواحل اللبنانية ريثما يثبت المال حسين أقدامه في السلطة. كما أن شمعون كان يقف موقفا معاديا من سوريا ومصر. هذه السياسة لقيت معراضة شديدة من قبل العديد من القوى السياسية اللبنانية. حتى اذا ما اقترتب فترة رئاسته من نهايتها حاول ان يجري تعديلا في الدستور يتمكن من خلاله ابقاء نفسه في السلطة.
نتيجة هذه الأساليب ثارت المعارضة ضد الحكومة اللبنانية، حيث اندلعت حرب أهلية كادت أن تسقط شمعون، وقد رافق هذه الاضطرابات سقو حكومة نوري السعيد والنظام الملكي في بغداد في تموز 1958، وهنا أصبح موقف شمعون حرجا، فطلب من إدارة أيزنهاور التدخل وبسرعة لانقاذ سلطته من التيارات السياسية المعادية له ولأميركا. واستجابت إدارة آيزنهاور لطلب شمعون، فتم انزال القوات الأميركية في بيروت.(21)
الملاحظ على هاتين العمليتين (الاردن ولبنان) انهما لا يدخلان ضمن الأسباب التي تستوجب تدخلا عسكريا اميركيا، كما جاء في مبدأ آيزنهاور. فالاردن لم تتعرض لتهديد شيوعي مطلقا، أو حتى لتهديد من قبل دولة موالية للشيوعية، وانما كانت هناك معارضة داخلية لسياسة النظام الملكي الموالية للغرب. ويبدو أن الملك حسين كان ملتفتا إلى هذه الناحية، أي عدم وجود مبرر لأن تطبق الإدارة الأميركية مبدأ آيزنهاور، فعمد إلى وصف المعارضة بأنها شيوعية، وأن الحركة الشيوعية تحاول السيطرة على الإردن. ليعطي بذلك مبررا للحكومة الأميركية لأن تتدخل عسكريا في الاردن، خصوصا وانه كان يؤيد مبدأ آيزنهاور، ويريد له النجاح.
أما لبنان فهي الأخرى كانت خارجة عن أساليب هذا المبدأ، فلم تكن متعرضة لأي تهديد شيوعي. وإذا كان بإمكان الإدارة الأميركية أن تبرر تدخلها في الإردن على أساس أنه جاء لمواجهة الشيوعية فانها لا تمتلك مثل هذا المبرر في لبنان. لذلك بررت تدخلها بطريقة أخرى. فقد اعلن جون فوستر دلاس وزير خارجية آيزنهاور، أن استقلال لبنان يوجب على الحكومة الأميركية أن تتدخل عسكريا فيه، لأنه يعتبر حيويا لأمن الولايات المتحدة.(22)
وهكذا فإن الحالة الثانية ادخلت على مبررات مبدأ آيزنهاور في التدخل العسكري نتيجة احراج واجهه هذا التدخل في لبنان، ولم تمتلك إدارة آيزنهاور غير التبرير السابق الذي أطلقه وزير الخارجية الأميركي.
وخلاصة القول ان مبدأ آيزنهاور، رغم عمليتي التدخل في الأردن ولبنان، إلا أنه في الحقيقة يعتبر فاشلا، لأنه لا يمتلك الواقع المناسب لتطبيقه في الشرق الاسلامي، إذ لم يحظى بتأييد العديد من الأنظمة العربية، وهو لا يعدو أن يكون محاولة من محاولات السياسة الأميركية في التدخل العسكري من أجل السيطرة على مناطق العالم.
لقد حاول آيزنهاور أن يحقق أهدافها ثانية من وراء طرحه مبدئه. فهو كان يسعى لتكوين صورة هائلة للولايات المتحدة في أذهان حكام الشرق الإسلامي، وأراد أن يبرهن لحلفائه أن أميركا تدعمهم في الظروف الحرجة، كما حاول أن يرد على الانتقادات الكثيرة التي وجهت لمبدئه والتي كان مفادها عدم صلاحيته وجدواه، وذلك عن طريق تطبيقه بأي ثمن.
مواجهة المعسكر الشيوعي
تمثل الجانب الآخر من سياسة آيزنهاور في تحركه نحو مواجهة المعسكر الشيوعي وتضييع أية فرصة له في التوسع نفوذه على مناطق جديدة من العام. ويختلف تحرك آيزنهاور هذا عن محاولاته السابقة في الأحلاف العسكرية وفي سياسته الشرق اوسطية، بأنه موجه بشكل مباشر نحو الكتلة الشيوعية. أي انه يسير مكملا لخط الاستراتيجيات الأميركية في مواجهة السوفيت، فبعد التجربة الفاشلة لاستراتيجية الحصر اقتنع آيزنهاور بضرورة تبني استراتيجية جديدة يمكن من وراءها الوصول إلى ما عجزت الاستراتيجية السابقة عن الوصول إليه. فأطلق مع وزير خارجيته دلاس استراتيجية الرد الشامل التي تعني ان الولايات المتحدة ستواجه أي تهديد لمصالحها بحرب نووية شاملة.(33)
وقد اعتبرت الحكومة الأميركية أوروبا الغربية ومناطق حلفي بغداد وجنوب شرق آسيا بمثابة خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها من قبل النفوذ الشيوعي (السوفيتي والصيني). وإذا ما تعرضت هذه المناطق لأي اعتداء شيوعي فإن الولايات المتحدة سترد عليه بحرب نووية شاملة.
غير أن مصير هذه الاستراتيجية لم يكن أفضل من سابقتها، فلقد فشلت هي الاخرى في الوقوف أمام التوسع الشيوعي. وإذا كانت الحرب الكورية تمثل التجربة العملية لفشل استراتيجية الحصر، فإن حرب الهند الصينية تمثل تجربة فشل استراتيجية الرد الشامل. ففي هذه الحرب سقطت فيتنام الشمالية بيد الشيوعيين دون أن تنفذ الولايات المتحدة أساليب هذه الاستراتيجية.
أن استراتيجية الرد الشامل حوت على نقاط ضعف متعددة أبرزها:ـ
أنها قامت على أساس اقتناع الشيوعيين الكامل بأن الولايات المتحدة جادة في شن حرب نووية فيما لو هاجموا خطوط واشنطن الحمراء. لكن الحقيقة كانت على العكس من اسس هذه الاستراتيجية. فالولايات المتحدة لم تستخدم سلاحها النووي في الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفيتيت ضعيفا في هذا المجال، فكيف تستخدمه وقد أصبح ممتلكا لسلاح نووي فاعل. وما يمتلكه السوفيت ينسحب على الكتلة الشيوعية كلها آنذاك.
ان الشيوعيين كانوا مقتنعين ان الولايات المتحدة لاتنفذ استراتيجيتها هذه إلا إذا تعرضت هي أو احدى حليفاتها الغربيات إلى هجوم خطر. وليس من المعقول ان تدخل في حرب نووية شاملة من أجل منطقة ذات اهمية ثانوية، وهذا ما حدث بالفعل. فلم تقتنع الصين ان أميركا ستستخدم سلاحها النووي. فتدخلت في الهند الصينية لتغير وضع الحرب فيها، وتجعل في النهاية شمال فيتنام ضمن الدائرة الشيوعية.
لم تتمتع هذه الاستراتيجية بأية مرونة، بل انها قيدت وإلى حد كبير السياسة الأميركية، وحرمتها من حرية التحرك والاختيار، حيث أصبح أمام الإدارة الأميركية خيار واحد، إلا وهو اتخاذ موقف صامت تجاه الهجوم الشيوعي على مناطقها الحمراء في حالة عدم قناعة الطرف الآخر بجدوى التهديدات الأميركية. أما الخيار الآخر الذي يعني الدخول في حرب شاملة فهو خيار نظري بعيد عن الواقعية ولا يمكن تطبيقه في ظل معادلات التوازن التي تحكم علاقة العمالقة النوويين.(24)
اعطت استراتيجية الرد الشامل اهمية للاحلاف العسكرية، وبذا اصبح دورها في السياسة الدولية أكثر أهمية من قبل، لأنها أصبحت الحد الذي يتوقف عليه نشوب حرب نووية فيما لو مسّه الشيوعيون. غير أن هذه الأهمية السياسية التي أوجدتها استراتيجية الرد الشامل قابلها تراجع في كفاءة ومقدرة الحلف من الناحية العسكرية، وهو ما حدث لحلفي بغداد وجنوب شرق آسيا، حيث اعتبرتهما الحكومة الأميركية مناطق محرمة، لكنها لم توكل لهما مهمة مقاومة النفوذ الشيوعي، أي أنها لم تجعل منهما مراكز هجومية، كما أنها لم تصيرهما مناطق دفاعية محضة بالمعنى الدقيق، وهذا ما شكل عامل ضعف في التركيبة الداخلية لكل من هذين الحلفين، انعكست آثاره على استراتيجية الرد الشامل، بعد أن تحفز الشيوعيون لاختراق خطوطهما.
لقد ترتب على استراتيجية الرد لاشامل خطوات مؤثرة في السياسة الخارجية لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبصورة عامة بين الاستكبارين الغربي والشرقي. حيث انصب اهتمام كل منهما على زيادة مقدرة وفاعلية سلاحه النووي والبحث عن أحلاف جديدة.
وبعد أن بدا واضحا ان الخطر الشيوعي لا يمكن حصر توسعه وايقاف هجومه عن طريق الاستراتيجيتين السابقتين، ثار جدال في الأوساط السياسية الأميركية حول الأسلوب الذي يجب ان تتبناه الحكومة الاميركية للوقوف بوجه المعسكر الشيوعي. فظهرت نظريتان لاقتا رواجا كبيرا في الدوائر الأميركية، إلا أنهما لم يدخلا حيز التطبيق الا في نطاق ضيق. هاتان النظريتان هما:ـ
أ ـ الحرب المحدودة:
تعني هذه النظرية، أن الموقف الذي يجب أن تتخذه الحكومة الأميركية في الرد على الهجوم الشيوعي، يتمثل بشن حرب محدودة تعتمد على الأسلحة النووية الصغيرة.
ومن الواضح ان مبتدعي هذه النظرية قد تأثروا باستراتيجية الرد الشامل وحاولوا علاج المخاطر التي تترتب عليها والتي تحول دون تنفي اساليبها على الواقع العملي، وذلك عن طريق تقليص آثارها المدمرة، بأن يستعاض عن الأسلحة النووية المدمرة بأخرى أقل تدميرا.
وعلى نظرية الحرب المحدودة ثار نقاش طويل بين أنصارها ورافضيها، ولكل طرف مبرراته الخاصة.
فأنصارها يعتبرون ان هذه النظرية تمتلك مقوما مهما، ذلك هو أن الردع الذي تستخدمه أكثر فاعلية من الاستراتيجية السابقة، حيث ان التهديد بشن حرب محدودة أكثر جدوى من التهديد بشن حرب شاملة، لأن الحالة الأولى يمكن تطبيقها، أما الثانية فانها مستبعدة.
والذين يرفضون هذه النظرية يرون ان تقليص الحرب ليس مضمونا ان يستمر على شكله المحدود، إذ أن الدخول في حرب يستخدم فيها السلاح النووي وأن كان صغيران يصطدم مع امكانية الابقاء على طابعها المحدود، طالما ان السيطرة على مثل هذه الحروب امر عسير، لأن الطرف الآخر يمتلك اسلحة مشابهة، وهذا ما يجعل احتمال التصعيد إلى حرب شاملة أمرأ محتمل الوقوع.(25)
ويدافع انصار نظرية الحرب المحدودة على هذه النقطة بقولهم، ان بدء الحرب بأسلحة نووية صغيرة دليل على عدم رغبة الطرف المهاجم في خوض حرب شاملة فلو كان راغبا في خوض مثل هذه الحرب لما استخدم اسلحة محدودة، وأعطى نتيجة هذا الاستخدام انذارا إلى خصمه بالاستعداد ومواجهة هجومه المحدود بآخر شامل.(26)
ونتيجة لهذا النقاش تخوفت الحكومة الأميركية من اعتماد نظرية الحرب المحدودة حيث اعتبرتها انها تحاول ان تواجه التوسع السوفيتيت بنفس طريقة الاستراتيجية الشاملة، ولكن بأسلوب اقل حجما، وليس هناك ما يضمن البقاء على الطابع المحدود لها، طالما أن هذا الطابع يعتمد على قناعة الطرف الآخر بأن المهاجم لا يمتلك الرغبة في تصعيد القتال.
لذلك رفضت هذه النظرية من الدوائر الأميركية ولم تتبناها الإدارة الأميركية كما أن الصدى الواسع الذي لاقته في بداية اطلاقها قد خفت درجته بعد أن تبينت حراجة القاعدة التي تستند عليها.
ب ـ الرد المرن والردع المتدرج:
تعني هذه الاستراتيجية ان الولايات المتحدة تواجه اية محاولة توسع شيوعية بأساليب رادعة أولاً، وتكون آله الردع فيها الأسلحة التي لا تؤدي إلى حرب شاملة، وانما تكون الحد الوسط بين الدمار الشامل والاستسلام المطلق لاعتداءات الخصم.(27) وإذا ما عجز الردع عن ايقاف تجاوزات التوسع الشيوعي فان الولايات المتحدة ستنفذ تهديداتها السابقة وترد على هذا التوسع بشكل متدرج، حيث تستخدم القوة العسكرية بصورة متصاعدة الدرجات حتى يقف الشيوعيون عن الاستمرار في توسعهم.
لقد افترضت هذه الاستراتيجية في البداية ان تكون الأسلحة الرادعة هي الأسلحة النووية الصغيرة، إلا أن الاخطار المترتبة على هذا الاختيار، جعلت أصحاب استراتيجية الرد المرن والردع المتدرج يتخلون عن تحديدهم.
ان هذه الاستراتيجية تفترض زيادة كفاءة الأسلحة التقليدية والنووية على حد سواء لأن الردع يحتاج في تدرجه إلى الانتقال من الاسلحة التقليدية إلى النووية، وكذلك فإن الرد لابد أن يبدأ بالسلاح التقليدي أولا ثم تتصاعد حدته إلى مستوى السلاح النووي.
والملاحظ على هذه الاستراتيجية انها اكثر واقعية من استراتيجية الرد الشامل، حيث انها تواجه التوسع الشيوعي دون أن تكون هناك نتائج مدمرة قد تترتب عليها، ما عدا الحدود النهائية التي قد تصلها، وإذاما ظهرت مؤشرات هذه النهاية فإن هناك ارضية واسعة للتحرك والحيلولة دون بلوغ نقطة الانفجار.
وبالرغم من كون هذه الاستراتيجية قد لاقت استحسانا كبيرا في الأوساط السياسية والاستراتيجية الاميركية إلا انها لم تتبنى من قبل الإدارة الأميركية كاستراتيجية اساسية تقف في وجه توسع الشيوعيين وذلك لعدة أسباب:
1 ـ انها ظهرت في الوقت الذي لم ترفض فيه إدارة آيزنهاور استراتيجية الرد الشامل بل كانت الإدارة الأميركية آنذاك لا تزال مقتنعة ومتبنية لهذه الاستراتيجية.
2 ـ لم تكن هذه الاستراتيجية موجهة مباشرة للخطر الشيوعي الذي انصب اهتمام الولايات المتحدة على مواجهته بل انها كانت عامة بحيث انها كانت تعطي للحكومة الأميركية اسلوبا عاما تتعامل وفقه مع الاحداث العالمية التي تهدد المصالح الأميركية، وهذا ما جعل إدارة البيت الابيض تنظر اليها على انها غير فاعلة في مواجهة الشيوعيين.
أن استراتيجية الردع المتدرج والرد المرن لا تعتبر اسلوبا جديدا في السياسة الخارجية، ولم تشكل نقلة كبيرة في اساليب هذه السياسة، فقد كانت بمثابة المعالجة للأساليب الخاطئة في استراتيجية الرد الشامل، ونظرية الحرب المحدودة كما هو واضح من تأثرها بأساليب هاتين الاستراتيجيتين.
لهذه الأسباب لم تعتمد الولايات المتحدة هذه الاستراتيجية في سياستها الخارجية ضد المعسكر الشيوعي، كما انها لم ترفضها بصورة قاطعة بل جعلتها أحد أساليب التعامل مع بعض الأحداث والمواقف العالمية التي لا تنسجم مع سياستها ومصالحها.
المهم ان آيزنهاور ظل متبنيا لاستراتيجية الرد الشامل حتى اضطرته الانتخابات إلى ترك البيت الأبيض مخلفا وراءه خلفية كبيرة من المواقف السياسية الفاشلة في الشرق الإسلامي والشرق الأدنى ومع المعسكر الشيوعي. لقد كان أيزنهاور وهو يتبوأ منصبه الرئاسي لا يزال يفكر بطريقته القديمة يوم كان قائدا عسكريا في الحرب العالمية الثانية، لكنه في التطبيق كان ينتحل الصفة السياسية المجردة، فوقع في أخطاء قاتلة.

سياسة كندي
تسلم كنيدي مفاتيح البيت الأبيض في مرحلة كانت علاقة الاستكبارين الشرقي والغربي تعيش نهايات الحرب الباردة، وبدايات مرحلة جديدة لم تحدد معالمها بشكل واضح بعد، وكان عليه أن يتصرف مع هذه التحولات بما يضمن بقاء الموقع الاستكباري المنفرد للولايات المتحدة في العالم، وأن يسعى لمنع منافسة القوة الاستكبارية الأخرى للسيطرة السياسية العالمية.
وعلى ضوء هذا الواقع، سارت سياسة كنيدي في خطين عريضين متميزين:
الأول ـ صفته الرئيسية القوة العسكرية، وهو امتداد الاستراتيجيات لمواجهة المعسكر الشيوعي، حيث أطلق كنيدي ما عرف باستراتيجية القوة المضادة المقيدة.
والثاني ـ حمل الصفة الدبلوماسية بالدرجة الرئيسة مع المعسكر الشيوعي ايضا، لكنها الدبلوماسية التي تلوح باستخدام القوة وتتكلم بمنطق العنف، وأن كانت هناك مواقف هادئه تغيب فيها الاساليب العسكرية إلى حد كبير.
وبين هذين الخطين هناك مساحة واسعة اشتملت على علاقة اميركا مع المعسكر الشيوعي فيما يخص العديد من المواقف الدولية.
إذن فسياسة كنيدي توزعت على العلاقة مع المعسكر الشيوعي بشكل عام وهوما تمثل باستراتيجية القوة المضادة المقيدة. وعلى العلاقة مع الاتحاد السوفيتي بشكل خاص وهو ما تمثل بأزمات فيتنام وبرلين وكوبا.
استراتيجية القوة المضادة المقيدة
تفيد هذه الاستراتيجية بأن الولايات المتحدة ستوجه ضربة انتقامية للاتحاد السوفيتيت او الصين، في حالة قيام أي منهما بمحاولة توسع، تتناسب مع حجم الهجوم والاهداف المترتبة عليه. وتكون هذه الضربة بمثابة الحسم النهائي بعد فشل الردع والعمليات الحربية المحدودة التي تليه.
وعلى هذا الأساس فإن العنصر الأول في هذه الاستراتيجية هو الردع الذي قد يكون تقليديا او نوويا اعتماد على حجم الهجوم الشيوعي. أما العنصر ان الآخر أن اللذان يتوقف تنفيذهما على الردع فهما الحرب التقليدية والحرب النووية، حيث تحدد الإدارة الأميركية خوض احدهما في حالة فشل الردع التقليدي او النووي.028)
ولكي تحقق هذه الاستراتيجية أغراضها، سعت الولايات المتحدة إلى زيادة كفاءة كل من السلاحين التقليدي والنووي.
ففيما يتعلق بالسلاح التقليدي فإن الإدارة الأميركية شرعت بتقوية قواتها المسلحة وكذلك قوات حلفائها، حتى تكون قادرة على خوض حرب تقليدية ضد الاتحاد السوفيتي أو أية دولة شيوعية أخرى، وحسمها لصالحها. وإذا ما عجزت هذه القوات عن تحقيق أهدافها فأنها ستدعمها بالأسلحة النووية الصغيرة. وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة تخاطر في تصعيد الحرب. بل انها حسب هذه الاستراتيجية تحاول أن تبذل كل الجهود من أجل تحديدها ومنع تحولها إلى حرب شاملة، وأن كانت تضع في الاعتبار احتمال تطور الحرب التقليدية او المحدودة إلى حرب نووية شاملة. وبالرغم من كون الحرب التقليدية تشكل عنصرا أساسيا في هذه الاستراتيجية لكل من الولايات المتحدة وحلفائها، إلا أن أهمية الأحلاف العسكرية لم تلق اهتماما جديا من قبل الإدارة الأميركية ما عدا حلف شمال الأطلسي.
اما فيما يتعلق بالسلاح النووي فإن استراتيجية القوة المضادة المقيدة اشترطت زيادة كفاءته وركزت على زيادة فاعلية الصواريخ النووية حتى يتم تحقيق التفوق النووي المطلق للولايات المتحدة. ويكون بامكانها توجيه ضربة مفاجئة للاتحاد السوفيتي في حالة قيام حرب نووية، من شأنها تدمير اسلحته الاستراتيجية، وشل قدرته في السيطرة على زمام الموقف(29).
كما ان هذه الاستراتيجية تسعى إلى تقليل الآثار فيما لو نشبت حرب نووية وذلك عن طريق تهديد السوفيت بأنها سترد على هجومهم بهجوم معاكس تستهدف به اهداهم العسكرية ومنشآتهم الاقتصادية المهمة. ووفق استراتيجية القوة المضادة المقيدة، فإن السلاح النووي تحددت له مهمة جديدة واسلوب جديد في الاستخدام حيث اصبحت مهمته مواجهة الضربة الأولى التي يشنها الاتحاد السوفيتي بالشكل الذي لا يفقده فاعليته ثم تكون له القابلية على توجبه ضربة انتقامية تشل السوفيت وامكانياتهم في الاستمرار في الحرب. أي أن هذه الاستراتيجية ونتيجة الأسلوب الجديد الذي حددته للسلاح النووي، تعتمد على الردع بصورة غير مباشرة حيث ان قابلية الولايات المتحدة على توجيه الضربة الثانية تشكل رادعا يمنع السوفيت من تنفيذ ضربتهم الأولى.
ان استراتيجية القوة المضادة المقيدة بالرغم من أنها رسمت اسلوبا جديدا للسلاح النووي، إلا أن اعتمادها الحقيقي كان على السلاح التقليدي وليس النووي، لأن الفترة التي تبنت فيها الولايات المتحدة هذه الاستراتيجية شهدت تزايدا خطيرا في الأسلحة النووية لكل من العملاقين، وهذا ما يجعل احتمال نشوب حرب شاملة بينهما مستبعدا، لأنها تعني انتحارا متبادلا للطرفين وهذا ما يشكل ضمانا لعدم نشوب حرب من هذا القبيل.
ونتيجة للمواقع الجديد فإن دور السلاح النووي في هذه الاستراتيجية اقتصر على جانب الردع. فيما تحمل السلاح التقليدي مهمة تنفيذها وتحقيق اغراضها.
لقد كانت هذه الاستراتيجية خاتمة التجارب التي مارستها الولايات المتحدة ضد النفوذ السوفيتي والشيوعي بشكل عام في المجال الاستراتيجية. ولم تتعرض لمحك عملي يكشف مدى صوابها أو خطئها، إذ تعرضت إلى العديد من التغييرات وادخلت عليها اساليب جديدة اضافة إلى تعديل اهدافها بعد أن شهدت الساحة الدولية تطورات مهمة خصوصا على مستوى العلاقة بين القوتين الاستكباريتين.
((تقييم الاستراتيجيات الأميركية))
فيما تقدم مرت بنا ثلاث استراتيجيات أميركية رئيسية كانت موجهة نحو المعسكر الشيوعي، ولقد استغرقت مدة تبني هذه الاستراتيجيات ما يقرب من العشرين عاما ابتدأت في إدارة ترومان وانتهت في إدارة كنيدي، وخلال هذه الفترة الطويلة لم تتمكن الولايات المتحدة من الوصول إلى الهدف الذي رسمت لها مسبقا بل انه لا يمكن أن نتلمس مؤشرا واضحا على شيء من النجاح من بين تجاربها العديدة. وبالنهاية فإن تلك الاستراتيجيات وقفت عاجزة عن حصر النفوذ الشيوعي. وقبل ان نستمر في الحديث عن سياسة كنيدي نريد أن نسجل بعض الملاحظات حول تلك الاستراتيجيات.
1 ـ المواجهة الأميركية للاتحاد السوفيتي لم تكن دوافعها الحقيقية ناجمة عن تهديد سوفيتي مباشر لأمن الولايات المتحدة. وانما كانت استجابة منفعلة لأحداث سريعة شهدتها الساحة الأوروبية خصوصا والعالمية عموما. وتخوفت منها الدول الأوروبية، لأنها اتسمت بمحاولات توسع سوفيتية نحو مناطق جديدة في اوروبا والعالم. وقد تأثرت الولايات المتحدة بهذه المخاوف فرسمت على ضوئها اساليب سياستها الخارجية في مواجهة السوفيت، ولقد جاءت هذه المخاوف متزامنة مع التوجه التوسعي لواشنطن في السيطرة على العالم. ومنع اية قوة أخرى من منافسة توجهاتها هذه، ومن الطبيعي ان تكون اساليب أميركا بعد تلك المخاوف وهذه التطلعات متأثرة بردود الفعل وبعيدة عن الموضوعية.
2 ـ لم يكن التقييم الأميركي للخطر السوفيتي دقيقا، فقد تصورت الولايات المتحدة ان التفوق النووي الذي تتمتع به على الاتحاد السوفيتي كفيل بأن يردع السوفيت وان التلويح به كافٍ لمنعهم من القيام بأية محاولة توسعٍ وقد بنت هذا التصور على أساس ان التوسع السوفيتي سيكون على شكل حرب شاملة. غير أن التجربة أثبتت خلاف ذلك، اذ لم يعتمد السوفيت في توسعهم على السلاح النووي او الحرب الشاملة. ونتيجة لذلك لم يكن بمقدور الأميركان ضرب السوفيت بسلاحهم النووي لأن مبررات الاستخدام لم يكن لها وجود مطلقا. وقد نتج عن سوء التقدير هذا فشل استراتيجية الحصر والاحتواء واستراتيجية الرد الشامل.
3 ـ اخطأت الولايات المتحدة في تقدير النوايا السوفيتية في التوسع. فقد ظنت ان الهجوم السوفيتي سيقتحم اوروبا الغربية. وعلى هذا الاساس عززت قوة الخط الجبهوي لحلف الاطلسي، وفي مقابل هذا التوجه فانها ساوت من حيث الأهمية السياسية بين مناطق حلف الأطلسي والمناطق الأخرى، وهددت باستخدام سلاحها النووي في حالة تهديد السوفيت لها. وهي بهذين الاسلوبين لم تعتمد الموضوعية والتقييم الدقيق. فقد غاب عنها ان هذين الاسلوبين متعارضان، ومن شأنهما ان يدفعا السوفيت او الصينيين إلى الهجوم على المناطق الضعيفة بعد أن تزداد قناعتهم بأن أميركا لن تستخدم سلاحها النووي من أجل هدف ثانوي.
4 ـ لم تأخذ الولايات المتحدة بنظر الاعتبار التطورات الجديدة التي شهدتها معادلة التوازن بينها وبين الاتحاد السوفيتي، ففي الوقت الذي كانت فيه هذه المعادلة تمنع نشوب حرب نووية، اطلقت الولايات المتحدة استراتيجية الرد الشامل ثم استراتيجية القوة المضادة المقيدة. ومن الطبيعي ان تكون عناصر هاتين الاستراتيجيتين نظرية اكثر مما هي عملية، وبالتالي فإنها لا تشكل تهديداً للسوفيت ا الصينيين فيما لو أرادوا التوسع.
5 ـ ادخلت الإدارة الأميركية اساليب بعض الاستراتيجيات التي تبنتها، ضمن أساليب سياستها الخارجية العامة، من أحل خدمة مصالحها الأخرى، وهذا ما يؤثر سلبا على كفاءة تلك الاستراتيجيات علاوة على ان هذا النهج كان يفرض على الدول الحليفة لها أن تستجيب لأساليبها. وهذا ما أثر على العلاقة بين الولايات المتحدة وبين حليفاتها كبعض الدول الأوروبية ومنها فرنسا التي لم تنسجم سياستها مع سياسة واشنطن تجاه حلف الاطلسي. وكذلك بعض الدول في الاحلاف الأخرى، حيث رأت هذه الدول ان الأساليب الأميركية الجديدة لا تحقق لها أهدافها بقدر ما تخدم السياسة الأميركية فقط. بل انها في كثير من الأحيان قد تعرضها إلى أزمات سياسية على صعيد سياستها الداخلية والخارجية، كما أن هذه الدول اقتنعت بأن السير مع الولايات المتحدة في خطها السياسي الخاص يجعلها اسيرة سياستها، وهذا ما يتعارض مع توجهاتها السياسية الخارجية.
6 ـ ان الولايات المتحدة كانت تسعى في بعض الاحيان إلى فرض أساليب استراتيجياتها على العديد من الدول، دون أن تأخذ بعين الاهتمام الاعتبارات السياسية التي تعيشها تلك الدول. أي انها اعتبرت استراتيجيتها الاطار الوساع الذي يجب أن تدخل فيه القضايا السياسية وليس العكس. وهذا ما جعلها تفقد العديد من الدول في مناطق مختلقة من العالم. فقد تأزمت علاقاتها مع كل من سوريا ومصر اللتان لجأتا إلى الاتحاد السوفيتي، وذلك بعد رفضهما الدخول في احلاف عسكرية. ولم تقدر الحكومة الأميركية ان الانظمة العربية آنذاك كانت غير مقتنعة باسلوب التحالفات العسكرية.
7 ـ ان العزلة السياسية التي عاشتها الولايات المتحدة طيلة سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية، تركت آثارها السلبية على التفكير السياسي الأميركي، تركت آثارها السلبية على التفكير السياسي الأميركي، حيث أن الإدارة الأميركية في فترة ما بعد الحرب بدأت تفكر في مناطق العالم خوفا من سقوطها بيد الشيوعية قبل أن تحكم هي قبضتها عليها. وهذا ما جعلها تتدخل في بعض مناطق العالم في فترات متأخرة، وقد كان تدخلها يتميز بالسرعة وعدم التخطيط، فقد ضاقت من توجه تونس نحو السوفيت، فعمدت إلى مساعدتها عسكريا مثيرة بذلك سخط فرنسا، كما أن الولايات المتحدة لم تنتهج سياسة محددة تجاه افريقيا حتى نهاية عام 1960، وكان السبب في ذلك، انها أحست بأهمية القارة الأفريقية(3) وشعرت بتوجه الشيوعيين نحوها. فمدت أذرعها نحوها. وقد أثار هذا الأسلوب المنفعل الاوروبيين الذين كانت لهم مصالح واسعة في افريقيا.
العلاقة مع السوفيت
كان على كنيدي وهو يمارس دوره كرئيس جديد للولايات المتحدة ان يتعامل بحذر مع العالم الشرقي، لاسيما وانه ورث تركة ضخمة من المشاكل من سلفه آيزنهاور، وواجه قسما آخر في بداية فترة رئاسته تمثلت كلها في ثلاث أزمات خطيرة.. فيتنام، برلين وكوبا.
في فيتنام كان مترددا والأزمة تزداد تعقيدا، فأميركا لم تحسم الموقف العسكري فيها ولا السياسي وليست هناك بوادر لانتهائها، ويبدو أن كنيدي لم يكن له تصور كاف عن الأزمة، فقد ظن ان انهاء الحرب لصالحه يكمن في المزيد من القوات. ووفق هذا التصور زاد حجم القوات الأميركية المتدخلة في فيتنام فأزدادت المشكلة تعقيدا، ولتصبح فيتنام بعد ذلك كابوس البيت الأبيض.
وفي برلين، كانت المفاوضات على اشدها بينه وبين السوفيت. فالطرفان يريدان حل الأزمة، لكن كل حسب تصوره الخاص، وهي الحالة التي لا يمكن ان تتحقق، فما يريده أحدهما يرفضه الآخر. وإذا كان خروشوف متعجلا أكثر في انهائها، فإن كنيدي كان أقل منه عجالة. لقد أراد أن يحلها في أجواء هادئة بعيداً عن المشاكل، ودون المرور في نقاط تزيد حدة التوتر مع السوفيت.
امام هذه البرود من جانب كنيدي، حل خروشوف أزمة برلين على طريقته الخاصة، فلقد بنى الجدار الفاصل بين الالمانيتين ليعزل الخاضعة له عن تلك الخاضعة لأميركا. وبالرغم من كون حل خروشوف سريعا ومفاجئا، إلا انه وضع حدا لمفاوضات طويلة بينه وبين كندي، كانت تنتهي دائماً جواء متشنجة يرجع على أثرها لاروسي حاد المزاج، ويعود الاميركي متشائما من عواقبها.(31)
وإذا كان تصرف كنيدي مع الازمتين (فيتنام وبرلين) منسجما مع الخط العام للسياسة الأميركية إلى حد ما ولم يخرج عن هذا الخط إلا ببضع خطوات في الأزمة الثانية، فإن تعامله مع كوبا بدأ بالسير تماما في هذا الخط، وانتهى بالابتعاد تماما عنه.. في البداية استخدم القوة العسكرية.. وفي النهاية رفضها.
في البداية جهز حملة لاحتلال كوبا من جيش من الساخطين على سلطة كاسترو. تلك الحملة المشهورة بخليخ الخنازير والتي انتهت بالفشل.
ثم كانت هناك بداية عسكرية أخرى، لعلها أهم قضية تميزت بها فترة رئاسة كنيدي، بل هي أهم مرحلة بين الاستكبارين الشرقي والغربي، إذ وصلت فيها العلاقة إلى أقرب مسافة من نقطة الانفجار المدمرة ثم عادت الأمور فهدأت، لكنه الهدوء الذي أفرز صيغا جديدة من التعامل بينهما ففي 22 تشرين الأول 1962 اكتشفت المصادر التجسسية الأميركية ان هناك قواعد للصواريخ النووية المتوسطة المدى يقوم بانشائها الاتحاد السوفيتي. وهنا أحس كنيدي بخطورة الخطوة السوفيتية على أمن بلاده. لقد اخترق السوفيت استراتيجيه من الخلف. وهو التهديد الذي لم تكن تفكر به أميركا. فطيلة السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية كان اهتمام واشنطن منصبا على تقوية دفاعات اوروبا الغربية، باعتبارها الجبهة التي تقف بتماس مع خطوط الروس.
لقد كان رد كنيدي على هذا التهديد يتسم بالعنف حيث فرض حصارا على كل المعدات الهجومية التي تشحن إلى كوبا. كما فرض رقابة مشددة على كل البواخر المتجهة نحوها(32) ثم انه جعل المسألة في غاية الخطورة عندما اعتبر أن هذه الصواريخ بمثابة إداة الهجوم السوفيتي على اميركا وحليفاتها الغربيات وهو مالا يمكن الوقوف ازاءه بدون حراك.
ومن الطبيعي ان إجراء كهذا يعني الاستعداد للحرب، ويعني بتعبير أكثر وضوحا أن العملاقين قد وقفا وجها لوجه، والاحتمال الأكثر رجاحة من وقوفها هو الانتحار في حرب نووية.
لكن خروشوف الذي استنفر قواته أيضاً، أراد أن يهدئ واشنطن، ولعل خوفه كان الباعث على ذلك. فقدم جملة اقتراحات إلى كنيدي بعد أربعة أيام من اشتعال الأزمة، يعده فيها أن الصواريخ السوفيتيتة سوف تسحب من كوبا فيما لو تعهد بعدم غزوها. أمام هذا العرض المغري وقف كنيدي مترددا بعض الوقت.. هل يجيب بالايجاب على اقتراح خروشوف؟ أم يبقى متعنتا كما يريده مستشاروه؟
كنيدي اختار الرد الموجب على الصمت المتعنت، لقد أبدى استعداده في حل الأزمة من خلال هذا الاسلوب، فتعهد بعدم غزو كوبا.. وسحبت موسكو صواريخها. وبذلك انتهت أخطر أزمة في تأريخ العلاقة بين القوتين الاستكباريتين، كادت أن تعلن الحرب العالمية الأخيرة.
تعامل كنيدي مع أزمة الصواريخ بعقلانية ـ كما وصفه الروس ـ فلقد كان حريصا على ان لا يصعد الموقف العسكري لأنه أدرك خطورة مثل هذه الخطوة، لما قد يترتب عليها من مواجهة محققة بين واشنطن وموسكو. غير أن عقلانية كنيدي لم تكن لتنسجم مع زعماء الكونغرس الذين عاب قسم منهم على رئيسهم عدم لجوئه إلى العنف بشكل كامل، ووصفه الآخرون بأنه كان خائفاً لأنه اتخذ موقفا في غاية الضعف عندما حاصر كوبا فقط. اما هو فقد أدرك مسبقا أن رد الأميركيين سيكون بهذه الحدة، ومع ذلك تصرف حسب قناعته متوخيا عدم إثارة السوفيت أو حتى إشعارهم ان عليهم أن يزيدوا من قوة ردود فعلهم على اعتبار ان امنهم القومي يلزمهم بذلك.
ويبدو ان معارضي كنيدي كانوا نصف مصيبين ـ كما كان هو نصف مخطئ ـ فخروشوف كان خوفه من الحرب النووية يفوق خوف كنيدي منها. ولعل أبرز دليل على ذلك عرض سابق قدمه خروشوف لكنيدي مفاده أن موسكو مستعدة لسحب صواريخها من كوبا فيما لو سحبت واشنطن صواريخها من تركيا. ثم خفف هذا العرض إلىمجرد وعد أميركي بعدم غزو كوبا. لأنه عرف أن واشنطن لا يمكن أن تستجيب بسهولة لهذا الطلب رغم كونه منطقيا في حسابات اللعبة الدولية. ومع ذلك أغمض خروشوف عينه عن هذه الحقيقة المنطقية تحت تأثير خوفه من شبح الحرب النووية. ولقد كان عرضه في غاية البساطة اضافة إلى انه يحمل طابع التراجع امام القوة الاميركية. ومن الطبيعي أن تفك امريكا حصارها عن كوبا، وأن تمتنع عن غزوها. فكنيدي أساساً كان يرفض فكرة غزوها بعد فشله القديم وخوفه الجديد، إذن من الطبيعي ان تستجيب واشنطن لاقتراح موسكو، لأن الإجراءات التي اتخذتها انما هي نتيجة نصب الصواريخ السوفيتية في كوبا، التي لو لاها لما كان هناك حصاراً وتهديد، المهم ان خروشوف قدم عرضا او بالأحرى تنازلا بدون مقابل.
والمهم ايضا، ان رجال البيت الابيض كانوا مصيبين بعض الشيء، لأنهم شخصوا الخوف الروسي الكبير، وارادوا اجراءات اميركية ضخمة على اساس ذلك الخوف. بالتأيد كان هؤلاء المغامرون يطمحون إلى مكاسب جديدة لو هدد رئيسهم باسلوب اكثر عنفا، وربما تتحقق طموحاتهم وتتحقق المكاسب بدل أن تنتهي الأزمة بمكسب واحد فقط، هو سحب الصواريخ من كوبا.
صحيح ان الاوضاع عادت إلى الحالة التي كانت عليها قبل نصب الصواريخ على صعيد الوضع الاستراتيجي، لكن هذه العودة اثبتت عدة حقائق كانت غائبة في الفترات السابقة.
الولايات المتحدة واوروبا الغربية لا تتعرض من الجهة الشرقية فقط للتهديد النووي السوفيتي، بل ان هناك مواقع أخرى يمكن أن يهدد منها السوفيت وربما بخطورة أكبر، لأن أميركا والغرب ستصبح بين فكي الكماشة النووية.
التوسع السوفيتي يكون خطرا فيما لو سقطت دولة بأيدي الشيوعية، تتمتع بموقع ستراتيجي بالنسبة للمعسكر الغربي ولأميركا على وجه التحديد، إذ ستفقد الولايات المتحدة نتيجة هذا التحول الكثير من مستلزماتها الأمنية، وتصبح حالتها كحالة اوروبا الغربية، ساحة دمار في أية مواجهة نووية مقبلة.
السوفيت لا يفكرون بطريقة مكشوفة وتعهداتهم غير صادقة، ولهم بعد مستقبلي في التفكير التوسعي للوصول إلى مركز متقدم في الميزان الدولي.
أمن الولايات المتحدة أهم بكثير من أمن حلفائها، فلو هدد الأمن الأميركي، لربما أقدمت واشنطن عل خطوة لا تؤمن عقباها، خصوصا إذا انتصر المغامرون على المتحفظين. لكن هل تقدم واشنطن على نفس الخطوة إذا تعرض الأمن الاوروبي للخطر؟
وإذا كانت الاوضاع قد عادت إلى حالتها الأولى، على الصعيد الاستراتيجي فانها لم تعد على الصعيد السياسي لافي داخل أميركا ولا حتى في علاقاتها الخارجية. فقد أثبتت الأزمة ان لعبة خطرة قد تحدث فيما لو فقد الرئيس توازنه، واستجاب لالحاح رجاله، وأثبتت أيضا أن الخصم عندما يكون هو المبادر، فإن مخاوفه من الشبح النووي تفوق مخاوف الطرف الآخر، ولذا فانه يكون مستعدا للتفاوض والتنازل من أجل مكسب ضئيل أو حتى بدون مكسب، وأن بامكان الطرف الآخر أن يكون هادئا وشرسا في نفس الوقت. هادئا يتحرك دون ردود فعل ويضبط أعصابه للنهاية فيما لو أراد المزيد من المكاسب، وشرسا يهدد بتصعيد الموقف، ولكن في الحدود التي يقيس بها بدقة ان المهاجم خائف، ومخاوفه تزداد مع كل خطوة جديدة، ومع ذلك عندما يصبح الخوف ذا نتائج عكسية، فإنه يدفع صاحبه إلى الانتحار.(33)
كذلك اثبتت الأزمة ان الحل السريع له نتائج جيدة، ففي ساعات الخوف تسهل كلمة التفاوض والقبول، وتستبعد كلمات الرفض والتعنت.
والحقيقة الأخيرة المستخلصة من أزمة الصواريخ، ان الطريق نحو ما يسمى بالوفاق سالك فليمض فيه المستكبران.
لنعد ثانية إلى بداية الموضوع.. لقد تعامل كنيدي في فترة حكمه مع ثلاث أزمات (فيتنام، برلين وكوبا) في الأولى زاد تورط اميركا عسكريا وسياسيا. وفي الثانية تردد فجاء الحل من خصومه وليس منه. وفي الثالثة وهي الأهم تحفظ فكانت النتائج العودة إلى ما قبل الأزمة.
فإذا رضي شيوخ واشنطن على تصرفه الأول، فانهم لم يرضوا كما لم يسخطوا من تصرفه الثاني، لكنهم غضبوا من التصرف الأخير، ثم زاد غيضهم بعد أزمة كوبا. فقد بدا واضحا الأسلوب الذي يفكر به كنيدي، حيث اعتبر ان الإقدام على طوات عسكرية ضخمة، عمل غير عقلاني. كما اعتبر أن هناك طرقا يمكن سلوكها للوصول إلى صيغة مرضية مع لاسوفيت، وبذلك يكون قد خالف بعض مرتكزات الاتجاه العام للسياسة الأميركية، والذي يحاول ان يحقق مكاسب خارجية من خلال الأزمات لامن خلال حلها وهو رقم قياسي (6 أيام) أن تحل فيه أزمة خطيرة كأزمة الصواريخ.
ومع أن كنيدي لا يخرج عن خط السياسة الأميركية، من حيث الهدف في بسط النفوذ الاستكباري لها على الشعوب المستضعفة، والمراهنة بأمنها ومستقبلها من أجل هدف واشنطن، إلا انه اختلف معه من حيث بعض الأساليب لا كلّها. فهو في الوقت الذي رفض العمل العنيف مع السوفيت، كان قد أرهق الميزانية الأميركية ببرامجه التسليحية، حيث ازدادت قوة أمريكا خمس مرات. وهو حين لا يريد إشعار الروس بضرورة زيادة قواتهم، يجعلهم بالنتيجة وعلى أثر اسلوبه التسلحي، جاهدين من أجل اللحاق بالقوة النووية الأميركية. وهو عندما ينادي بالحرية والسلام الدوليين، يربط الحرية والسلام بقوة أميركا العسكرية فلو تراجعت هذه القوة لاختفت الحرية ولغاب السلام.(34)
والخلاصة، ان كنيدي حسب قناعة رجال البيت الأبيض ضيع عليهم فرصا كثيرة، وهناك فرص من المؤكد أن تضيع لو عمل بتصوراته الخاصة. وهم لن يغفروا له تورطه في موقف، وتردد ازاء آخر، وفشله في ثالث ـ حسب تقديرهم لما يمكن ان يتحقق ـ كما أنهم لن يسامحوا رئيسهم على آرائه التي أعلنها أمام الملأ وأبرزها، أن الروس لا يمكن أن يكونوا الاعداء الدائميين للأميركان.
بعد كل هذا اليس هناك اكثر من مبرر ـ والسؤال لشيوخ واشنطن ـ لأن ينهي الرئيس حكمه، ويترك البيت الأبيض قبل موعده المقرر؟.. ولا فرق بين أن يتركه وهو ميتا على فراشه الوثير، أو صريعا برصاص الاغتيال، ففي كلتا الحالتين سيترك السياسة وضع القرار محمولا على نعشه، لكن المهم أن يتخلى عن كل ذلك بسرعة. وأن كان اسلوب الرصاص احب إلى قلوب الشيوخ وأحب ايضا إلى قلبه، فقد سبق وأن استخدمه بحق الشعوب المستضعفة.

مبدأ نكسون
قبل أن يطرح نكسون مبدأه كانت هناك بواعث عديدة لطرحه، ناشئة من تورط السياسة الأميركية في فيتنام. والنتائج السلبية التي ترتبت على هذه السياسة. فلقد توهمت الإدارة الإميركية أن ارغام فيتنام الشمالية على الاستسلام وهزيمة الشيوعيين في هذه الحرب يتم من خلال الزج الضخم للقوات الأميركية والتي تنحصر مهمتها في استنزاف الشيوعيين للدرجة التي لا يمكنهم معها الاستمرار في الحرب.
غير أن هذه الاستراتيجية التي سارت عليها الإدارة الأميركية كانت خاطئة، إذ غاب عنها أن اسلوب الاستنزاف الذي اعتمدته لم يكن مجديا مع الطريقة التي يعتمدها الشيوعيون والمتمثلة بحرب العصابات.(35) فلم تنجح الاستراتيجية الاميركية في تحقيق أغراضها رغم الامكانات الهائلة التي كانت تتطلبها والتي تزايدت بشكل ملحوظ في فترة حكم جونسون عما كانت عليه في حكم كنيدي.
وعندما جاء نكسون إلى الحكم، كان الموقف في فيتنام يزداد سوءا بالنسبة للحكومة الاميركية، فخسارتها السياسية أخطر من خسائرها المادية، اذ تعرض الموقف الاميركي في فيتنام إلى انتقادات شديدة من قبل العديد من الأوساط السياسية الدولية كما ان الرأي العام الاميركي كان يشجب بعنف سياسة اميركا هذه التي لم تحقق أي مكسب من وراء تورطها في فيتنام غير الخسائر الجسيمة التي ترتبت عليه.
لقد اقتنعت ادارة نكسون ان الاستمرار في هذا الطريق غير مجدٍ بالمرة. لذلك عمدت إلى حل الأزمة في فيتنام عن طريق المفاوضات للتخلص من ورطة كبيرة ارتكبتها السياسة الاميركية، ثم تحولت إلى عقدة ضخمة ألقت بثقلها على البيت الابيض.
ان التجربة الفيتنامية وضعت أمام ادارة نكسون الحقائق التالية:
ـ لا يمكن للولايات المتحدة ان تزج نفسها بشكل مباشر في كل الصراعات والازمات الدولية حتى لو كانت تمس مصالحها. لأن التدخل العسكري المباشر قد يعرضها إلى خسارة سياسة وان ربحت عسكريا.
ـ هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام يجب أن لا تنسحب على وضعها العام كقوة عظمى. أي ان اثبات قوة الولايات المتحدة وفاعليتها في حسم الاوضاع الدولية المتأزمة يجب أن تبرهن عليه من خلال مواقفها القادمة وهذا يتطلب ان تبذل الولايات المتحدة كل جهودها من أجل ان لا تهزم مرتين متتاليتين. (36)
ـ ان انسحاب اميركا العسكري من فيتنام يجب ان لا يفهمه حلفاؤها على انه تخلّ عنهم في الظروف الحرجة.
بل انه في مثل هذه الظروف سيتحتم على الحكومة الاميركية ان تزيد من دعمها لهم، من أجل أن تمنع الهزيمة، وبالتالي تحافظ على هيبتها أمام العالم.
ـ او وجود قوات عسكرية اميركية ضخمة في الدول الحليفة والتباعة للولايات المتحدة يؤثر سلبا على طبيعة المعركة التي تخوضها اميركا، اذ أنها ستفقد وإلى درجة كبيرة دوافع تلك الدول في خوض المعركة بكفاءة بعد أن ترى ان الولايات المتحدة تحارب نيابة عنها، علاوة على ذلك فان هذا الاسلوب قد يثير نقمة جماهيرية ضد حكومات تلك الدول. وبالتالي تزداد حدة الازمات التي تواجهها كما ان هذا الاسلوب قد يثير حفائظ نفوس القوى الشيوعية فتعمد إلى التدخل في تلك الأزمات كما حدث في فيتنام.
ـ بامكان الولايات المتحدة ان تستعيض عن تدخلها العسكري المباشر ـ في الحالات التي لا تستوجب مثل هذه الخطوة ـ بزيادة القوى العسكرية للدول التابعة لها، وزيادة دعمها لها في الحالات الضرورية التي تتعرض فيها إلى خطر.
هذه الحقائق شكلت الارضية التي انطلق منها مبدأ نكسون والذي حدد الاسس الجديدة للسياسة الاميركية في التعامل مع الأحداث الدولية. وبالرغم من كون هذا المبدأ جاء نتيجة فشل السياسة الاميركية في جنوب شرق آسيا. الا أن تطبيقاته كانت موجهة بالدرجة الاولى نحو الشرق الاسلامي، ولعل أسباب هذا التوجه تعود إلى:
ـ عدم تمكن السياسات السابقة التي اعتمدتها الادارات الاميركية المتعاقبة فرض الهيمنة الاميركية على منطقة الشرق الاسلامي وإحكام السيطرة عليها.
ـ تزايد اهمية هذه المنطقة على المعيدين الاستراتيجي والاقتصادي، وخوف الولايات المتحدة من تحرك السوفيت باتجاهها بشكل اكثر فاعلية، وبالتالي قد تسقط بأيدي الشيوعية.
ـ والذي يزيد الاحتمال السابق خطورة، ان النفوذ البريطاني الذي هيمن زمنا طويلا على هذه المنطقة، أخذ وجوده يضعف فيها، لاسيما منطقة الخليج التي تشهد ترتيبات الانسحاب البريطاني منها.
وهذا يفرض على الولايات المتحدة أن تسارع لشغل الفراغ الذي سيخلفه البريطانيون.
هذه الأسباب تمثل الدافع الأكبر لأن تجعل الادارة الاميركية منطقة الشرق الاسلامي ضمن اختصاصات مبدأ نكسون اكثر نم بقية مناطق العالم.
يفيد مبدأ نكسون الذي اطلقه عام 1969، ان الولايات المتحدة توفر الحماية الكافية للدول المتحالفة معها فيما لو تعرضت لتهديد من قبل قوة نووية، كما ان الولايات المتحدة توفر الدعم العسكري والاقتصادي لأي من تلك الدول فيما لو تعرضت لعدوان من نوع آخر، التزاما منها بتعهداتها مع تلك الدولة، على أن يكون من مسؤولية الدولة المهددة توفير القوة البشرية للدفاع عن نفسها.
وعلى اساس هذه السياسة سعت الولايات إلى زيادة دعمها العسكري والاقتصادي للدول التابعة لها، بالاضافة إلى احتفاضها بقوات عسكرية قليلة نسبيا على اراضي تلك الدولة.
ان التطبيقات العملية لمبدأ نكسون تنحصر بالاعتماد على حلفاء لهم القابلية على حفظ مصالحها، وتعزيز نفوذها في مناطقهم.
وقد اوكلت الادارة الاميركية هذه المهمة إلى اسرائيل وايران بالدرجة الاولى، والى السعودية العربية وأنظمة أخرى بالدرجة الاولى، والى السعودية العربية وأنظمة اخرى بالدرجة الثانية. وعلى هذا الاختيار يثار التساؤل التالي:
لماذا لم توكل الادارة الاميركية هذه المهمة إلى الانظمة العربية او على الاقل تشركها في المهمة بنفس المستوى؟
ان اختيار واشنطن لحلفائها المحليين يخضع للاعتبارات التالية:
ـ الأهمية الاستراتيجية: تشترط الولايات المتحدة ان يكون حليفها المحلي متمتعا بموقع استراتيجي مهم في منطقة الاهتمام الاميركي، فهي ترى ان اسرائيل تمتلك موقعا اكثر اهمية من الدول المجاورة كالأردن مثلا.
لأنها تقع على البحر المتوسط وتشرف على شمال البحر الأحمر. أي منطقة تأخيرها الاستراتيجي تشمل شرق المتوسط وغرب البحر الاحمر.
اما ايران فإن موقعها اكثر حساسية من الدول العربية، فهي وحدها تشرف على طول الساحل الشرقي للخليج، في حين ان الساحل الغربي تتقاسمه دول الكويت السعودية، قطر، البحرين، الامارات العربية، وسلطنة عمان وهذا يعني ان ايران اكثر فاعلية في السيطرة على الخليج، لأن القرار السياسي او الموقف العسكري الذي لو أريد اتخاذه بشأن الخليج سيكون من مهام النظام الشاهنشاهي وحده، في حين انه في الحالة الثانية سيحتاج إلى تنسيق بين ست دول.
يضاف إلى ذلك، ان ايران تتاخم الحدود الجنوبية للاتحاد السوفيتي، وتجاور منطقة شرق آسيا المهمة للمصالح الاميركية. غير ان هذا لا يلغي اهمية ودور الانظمة الاخرى، فالسعودية وسلطنة عمان يتمتعان ايضا بأهمية استراتيجية، فالاولى تشرف على معظم الساحل الشرقي للبحر الاحمر، والثانية تشرف على المحيط الهندي.
ـ أوضاع الحليف الداخلية: الحكومة الاميركية تبحث عن حليف يمتلك اوضاعا مستقرة تؤهله للاستمرار في السلطة، فهي لا تريد أن تعتمد على حليف قد تعصف به الثورات الداخلية بعيدا عن السلطة، كما انها لا تريد أن يكون الحليف مشغولا بمشاكله الداخلية للدرجة التي لا يمكنه معها خدمة مصالح اميركا. ومثل هذه الشروط متوفرة تماما في اسرائيل. فمن المستبعد جدا ان لم يكن من المستحيل تعرض الحكم فيها إلى تغييرات جوهرية ينقلب على اثرها عدوا لواشنطن، او ان ينشغل بها لدرجة تلغي دور اسرائيل في المنطقة.
وكذلك ايران فأميركا كانت ترى ان نظام الشاه مستقر إلى حد كبير، وان الخطر الداخلي فيما لو ظهرت بوادره على الساحة فان عملية الاجهاز عليه بسيطة ولا تؤثر على الوضع العام للنظام الشاهنشاهي.
في حين ان باقي الانظمة العربية لا يصل استقرار انظمتها إلى مستوى استقرار النظامين السابقين.
ـ قدرة الحليف ووضعه الخارجي: لابد لحليف الولايات المتحدة الذي ستوكل إليه مهمة خدمة مصالجها لابد أن يتمتع بثقل سياسي في المنطقة، وأن تكون له القابلية على التأثير في وضعها سياسيا وعسكريا، على ضوء امكاناته وقدراته.
أي انه من الضروري أن يمتلك الحليف قوة متميزة بين جيرانه يقابلها قابلية في حسن الاستخدام. فالولايات المتحدة تبحث عن حليف له مؤهلات ذاتية، لابد أن تخلق للحليف الضعيف وضعا قويا. وهذا العامل متوفر بوضوح كل من اسرائيل وايران، وضعيف في الانظمة العربية التابعة لأميركا.
فاسرائيل لها قدرات عسكرية يحسب لها حساب في المنطقة. وقد برهنت على ذلك من خلال ثلاثة حروب ـ الحرب الرابعة وقعت بعد اعلان مبدأ نكسون ـ ومن خلال اعتداءاتها المستمرة على الدول المجاورة واستعدادها الدائم للعدوان. كما ان وضع اسرائيل في المنطقة يجعلها تتفانى من أجل خدمة المصالح الاميركية وتعزيز الهيمنة الاميركية فيها.
وايران هي الأخرى تمتلك قوة عسكرية لها ثقلها في منطقة الخليج، وتفوق قوة الانظمة الخليجية مجتمعة من حيث الآلة العسكرية ومن حيث القوى البشرية. وقد كان الشاه المقبور يلح باستمرار على الحكومة الاميركية لتزويده بمزيد من الاسلحة فقد كان يسعى لأن يجعل من نظامه القوة المهيمنة على المنطقة.
في حين ان الأنظمة العربية تفتقر إلى القوة العسكرية المؤثرة، وافتقرت نتيجة ذلك إلى الثقل السياسي في المنطقة.
من هنا نرى ان المرجحات التي تمتلكها كل من اسرائيل وايران تفوق مرجحات الانظمة العربية وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى أن تصيّرها القاعدتين الأقوى بع الشرق الاسلامي.
ويرى بعض الكتّاب اعتماد اميركا على اسرائيل وايران انما كان نتيجة لعدم ثقتهم بالعرب، وليس لتصورهم الذي ذكرناه سابقا.
فمثلا يقول الدكتور سعد الدين ابراهيم في كتابه (كسينجر وصراع الشرق الأوسط) في ص 128: "ولكن صانع القرار الاميركي لم يكن ليعتمد على الحلفاء العرب بشكل رئيسي أو حتى ثانوي في حفظ الاوضاع الراهنة فالأميركيون ربما كانوا في قرارة أنفسهم لا يثقون بقدرة العرب القتالية سواء كانوا حلفاء أو أعداء ومن ناحية اخرى لم يكن صانع القرار الاميركي ليركن إلى صداقة أية دولة عربية ـ مهما كان نظامها حليفا ـ حين يأتي الامر إلى الصراع العربي الاسرائيلي، ونعتقد ان التقدير الاميركي هنا كان صائبا، فالعرب مهما كانت أنظمة بلادهم الاجتماعية لا تزال أغلبيتهم العظمى، حكاما ومحكومين تتمتع بوازع عربي قومي لا يمكن التقليل من شأنه وقت الازمات الكبرى".
ان مثل هذا الرأي لا ينسجم مع حقيقة التوجهات السياسية للحكام العرب، حيث كانوا دائما على استعداد تام للتقرب من اميركا.
بل انهم يحاولون ان يبرهنوا على ولائهم لها من خلال معظم مواقفهم السياسية، وليس أدل على ذلك من مواقف أنظمة الأردن والسعودية وسلطنة عُمان.
لكن عدم توفر الشروط السابقة هي التي كانت تحول دون حصولهم على (شرف) خدمة الاستكبار الاميركي، فلقد تهالك العدد الأكبر من حكام العرب في احضان اميركا.
وتنكروا لكل الصفات التي ذكرها الدكتور سعد الدين ابراهيم:
يقابل تلك العوامل نقطة مهمة تتعلق بالكيان الصهيوني، الا وهي طبيعة العلاقة التي تربط الكيان بأميركا، ووضع المنطقة المتأزم نتيجة وجود هذا الكيان والدور الذي يلعبه في أزمة الشرق الإسلامي، وما يترتب على ذلك من مواقف سياسية دولية تهم الولايات المتحدة.
هذه النقطة تكفي وحدها لأن تكون أقوى المرجحات التي تجعل واشنطن توكل بتل أبيب مهمة الحليف الامين.
ان اطمئنان الادارة الاميركية إلى حليفتيها اسرائيل وايران.
يعني زيادة دعمها لهما وتقوية قدراتهما إلى الحدود القصوى لتحقق بالنتيجة تقوية الوجود الاميركي في الشرق الإسلامي.
وتدفقت على أثر هذه السياسة المساعدات العسكرية الاميركية إلى هذين النظامين، ضمن تعادل الكيان الصهيوني مع الدول العربية في الميزان العسكري، وحتى غدت ايران ترسانة هائلة من الاسلحة الاميركية.
للدرجة التي أثارت العديد من التساؤلات والاستغراب حول الهدف من هذه الاسلحة وحول الوجهة التي سيوجه نحوها الشاه هذا المخزون الضخم من السلاح، مع انه غير مهدد من اية جبهة.
هذه السياسة الاميركية تعرضت إلى اختيارين قاسيين وفي فترتين متباعدتين:
الاول ـ كان بعد تبني الادارة الاميركية لمبدأ نكسون بأربع سنوات، وبالتحديد في حرب تشرين 1973، ففي هذه الحرب وضعت حول الجيش الصهيوني علامة استفهام كبيرة وأصبحت قوته التي طالما وصفت بأنها لا تُقهر، موضع شك واستفسار.
لقد جعلت هذه الحرب المؤسسة العسكرية الصهوينية تواجه واقعا خطير اعلى المستوى القتالي للدرجة التي لم تمتلك الادارة الاميركية أعصابها فوضعت جيشها في حالة تأهب وأمرت ولأول مرة قوات حلف شمال الأطلسي لأن تكون في حالة استعداد تحسبا للطوارئ.
ان تجربة تشرين لم تكن اختبار عملي لقابلية الحليف الاميركي الأمين، بل كان لها بعد سياسي خطير، اذ أن الادارة الاميركية بقراراتها المنفعلة أحرجت نفسها في سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفيتي، فالفترة التي نشبت بها الحرب كانت تشهد مساع مكثفة من الاستكبارين للوصول إلى حالة وفاق بينهما. (37)
وليس هناك شك بأن الحكومة الاميركية كانت تدرك جيدا ما يترتب على حالات التأهب التي أعلنتها في قوات حلف الاطلسي إلى جانب قواتها، وتقدر كذلك انعكاساتها السلبية على الساحة الدولية.
وهذه الخطوة انما هي دليل عملي قاطع غعلى أهمية اسرائيل في سياستها الخارجية.
فمن أجل ان تحافظ على كيان حليفتها القوية لم تبال بالتفريط بمستقبل الوفاق.
او بمعنى آخر ان اسرائيل أكثر أهمية من علاقتها المقبلة مع المعسكر الشيوعي.
وان الوفاق يستند على ارضية رخوة.
وبالرغم من أن جدالا طويلا قد ثار في الأوساط الاميركية حول مستقبل علاقة اسرائيل بأميركا، وهل ان الاهتمام الاميركي بها سيستمر على وضعه حتى بعد هزيمتها في حرب تشرين أم أنه سيتغير.
وبالرغم من أن البعض كما يقترح أن تتخلى واشنطن عن التزاماتها او قسم من التزاماتها مع اسرائيل على أساس ان اصدقاء أميركا هم الأقوياء الذين يحسنون استغلال الدعم الاميركي، بالشكل الذي يبقون فيه هم الأقوى في مناطقهم بالرغم من كل ذلك فان نظرة واشنطن لاسرائيل لم تتغير، وبقيت على حالها الذي كانت عليه قبل الحرب، بل ان اميركا اقتنعت بأن من الضروري أن تحظى اسرائيل باهتمام اكثر، وان الدعم العسكري اذا كان في السابق يكتفي بالمحافظة على ميزان القوى متساويا بينها وبين الدول العربية، فان تجربة تشرين أثبتت ان من الضروري جعل هذا الميزان يميل لمصالح اسرائيل والمحافظة على رجاحة الكفة الصهيونية حتى في الحالات المفاجئة كما ان هذه التجربة التي خاضها الحليف الاميركي نبهت الادارة الامريكية إلى أن هناك سبلا يجب أن تسلكها وأن تسارع في تنفيذها فالسلام في الشرق الاسلامي لابد وأن توضع له اللبنات الاولى، وتغيير الوضع السياسي العام في المنطقة لابد وأن يحدث، والسادات من الضروي جدا أن يدخل قاعة المفاوضات من بابها الواسع.
ولتصبح معادلة الصراع في المنطقة ذات شكل جديد.
فبدل أن تقف اسرائيل وجها لوجه مع دولة قوية عسكريا (كمصر) في ساحة القتال، لابد لهذه الدولية أن تجلس إلى جانب اسرائيل وهي تحمل رايات الاستسلام. وهذا ما أثبتته السنوات اللاحقة.
ان تجربة تشرين وموقف الولايات المتحدة تجاه اسرائيل، كشفت عن حقيقة مهمة تلك هي أن الادارة الاميركية لا يمكن أن تتخلى عن اسرائيل وان هذه الاخيره حليف دائم لواشنطن، وان الولايات المتحدة تبذل أي شئ من أجل المحافظة على كيانها، وبالتالي المحافظة على المصداقية الاميركية أمام العالم.
كما ان الحكومة الاميركية أرادت من وراء هذا الموقف أن تعزز ثقة حلفائها بها، على اعتبار انها لا تتخلى عنهم في الظروف الحرجة وان كانت هذه الارادة نشأت بشكل لا ارادي وكنتيجة طبيعية لموقف اميركي خاص تجاه اسرائيل.
كان هذا هو الاختبار الاول لسياسة نكسون والذي برهن على ان الحليف الاميركي معرض للخطر أما الاختبار الثاني، فجاء بعد فترة بعيدة نسبيا عن الاول بعد أن تنحى نكسون عن الرئاسة، وبقيت مبادئه متبناة من قبل الادارة الاميركية الجديدة، لقد حدث الاختبار الثاني في شباط 1979 وفي ايران الحليف الثاني الأقوى في المنطقة.
مبدأ كارتر
عندما جاء كارتر إلى البيت الابيض في عام 1976 لم تكن الاوضاع في الشرق الإسلامي مستقرة.
الا ان عدم الاستقرار لم يكن واضحا على معالم المنطقة، وكانت لا تزال مبادئ نكسون تحظى باحترام صانعي القرار الاميركي على اعتبار انها ـ لحد الآن ـ ناجحة في حفظ الوجود الاميكري في الشرق الإسلامي.
فاسرائيل استعادت قوتها بعد حرب تشرين بفضل التدفق العسكري الاميركي نحوها بل ان وضعها العسكري أصبح أفضل مما كان عليه في عام 1973 حيث ان قدراتها العسكرية ارتفعت بنسبة تتراوح بين 40 ـ 60 بالمائة عما كانت عليه في حرب تشرين، (38) وخلال فترة لا تزيد على الثلاث سنوات والشاه في ايران الحارس الاوفى للمصالح الاميركية في الخليج، ومع ذلك فهو يطلب المزيد من الدعم العسكري للوصل إلى مزيد من الاستقرار في المنطقة.
أي أن الحليفين الرئيسيين في المنطقة لا يزالان مصدر اطمئنان الادارة الاميركية.
لقد كانت أزمة الشرق الإسلامي المتمثلة بالصراع العربي ـ الصهيوني موضع اهتمام الادارة الجديدة ولعلها تكون قد استفادت من السنوات السابقة وحاولت ان تكمل ما وضعته الادارة السابقة من لبنات على طريق السلام فضرورة انهاء الحرب بين اسرائيل وبعض جيرانها لها أهمية خاصة في السياسة الاميركية خصوصا فيما يتعلق بمستقبل المنطقة.
من هذه الاهيمة ألقت ادارة كارتر بثقلها في الأزمة لتفتح الملف الجديد فيها، ملف محادثات السلام بين نظام مصر والكيان الصهيوني عام 1977 والتي تمخضت عن توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في 6 أيلول 1978.
ان هذا النصر السياسي الذي حققه كارتر والذي صفق له البيت الأبيض بحرارة وتوقع على أثره المراقبون دورة انتخابة جديدة لكارتر.
هذا النصر السياسي لم تستمر فرحة الادارة الاميركية به طويلا، فلقد رافقه وعلى الطرف المقابل من الشرق الاوسط علامات خطر تنذر بمستقبل غامض، حيث أخذ نظام الشاه يتأرجح نتيجة تصاعد الثورة الاسلامية في ايران.
حتى اذا ما جاء شباط 1979 كان كل شئ قد تغير.
فقد تحطمت القاعدة الاميركية الكبرى في الخليج وانتصرت الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني، لتقلب موازين القوى في المنطقة رأسا على عقب، اذ أصبح الوجود الاميركي في منطقة رأسا على عقب، اذ أصبح الوجود الاميركي في منطقة الخليج مهددا بعد أن تحولت ايران من قاعدة اميركية قوية مهمتها حفظ المصالح الاميركية، إلى جبهة اسلامية آلت على نفسها تقريض النفوذ الاميركي وقلع جذوره من الخليج.
وهذا يعني ان الخطر الذي يواجه الولايات المتحدة ليس مصدره خسارة ايران فحسب، بل انقلابها إلى جبهة معادية.
لقد وضعت هذه التطورات الخطيرة الادارة الاميركية أمام وضع محرج، وفرضت عليها مراجعة ملفات سياستها الخارجية بدقة لتستخلص من سياسة نكسون الدروس التي يمكن أن تنطلق منها في رسم الأبعاد الجديدة لسياسة أميركا.
ان انتصار الاسلام في ايران كان تجربة قاسية لمبادئ نكسون وكان المحك الحقيقي لفشل هذه السياسة علاوة على ان نتائجه انسحبت على المواقف الاميركية السابقة التي حاولت أن تسجلها لنفسها وتحسبها على أنها مكاسب حققتها على صعيد السياسة الخارجية فقد برهن هذا الانتصار على جملة قضايا مهمة، ووضع أمام الحكومة الاميركية العديد من الدروس القاسية والحقائق المريرة أبرزها:
1 ـ ان الحليف الاميركي مهما كان قويا فانه معرض للهزيمة، واذا كان بالامكان معالجة وضعه المتدهور في الحربو عن طريق المبادرات السياسية والدعم العسكري.
فان الثورة الداخلية فيما لو اشتعلت ضده، فلا يمكن اطفاء فتيلها مهما تكدست الاسلحة في معسكراته ومهما كان الدعم الاميركي كبيرا.
فلقد عجزت كل أساليب الشاه المقبور، وفشلت المخططات الاميركية في اخماد الثورة الاسلامية في ايران، أو الحيولية دون انتصارها بل انها فشلت حتى في اطالة عمر النظام الشاهنشاهي ولو لفترة اضافة قصيرة.
2 ـ الاعتماد على الحليف في حفظ المصالح الاميركية، وتوفير أجواء الاستقرار للوجود الاميركي، عملية تتحكم فيها الظروف السياسية الداخلية للحليف، وقدرته في السيطرة عليها، فهي اذن تجعل مصير الوجود الاميركي خاضعا لنتائج معركة قد ينتصر فيها الحليف فيبقى هذا الوجود في مأمن، أو قد يهزم فيها فينهار هذا الوجود، وهيا ذعني انه وفقا لمبدأ نكسون يكون مصير المصالح الاميركية وبدرجة كبيرة بيد الحليف وحسن تعامله مع الأوضاع الطارئة.
3 ـ ان هزيمة نظام الحليف وسقوطه أخطر بكثير من هزيمته العسكرية، ففي الحالة الثانية لا يتعرض النفوذ الاميركي إلى خطر الزوال، ويمكن اعادة الاوضاع إلى سابق عهدها وربما بشكل افضل اما في الحالة الاولى فان سقوط النظام لابد أن يتبعه سقوط النفوذ الاميركي ولا يمكن اعادة الاوضاع كما كانت عليه في السابق ، لأن الدولة التي تخرج من الدائرة الاميركية تعني خسارة اميركا لقاعدة استراتيجية لا يمكن تعويضها مطلقا في تلك المنطقة، لأن اختيارها هذا منذ البداية كان على أساس أنها تمتلك أفضل الميزات الاستراتيجية من بين دول منطقتها التي تدور في الفلك الاميركي.
4 ـ ان فشل الحليف في المحافظة على كيانه، ومن ثم على كيان الوجود الاميركي، لا تنسحب آثاره على منقطة الفشل.
بل تشمل السياسة الاميركية بشكل عام. حيث ان سلبياته ستحسب على الادارة الاميركية، وبالالي على مصداقيتها كقوة عظمى لها امكانياتها الهائلة في تحديد مسقبل مناطق نفوذها فضلا عن مناطق العالم.
5 ـ سقوط نظام الحليف وتصدع المصداقة الأميركية، تضعف ثقة حلفاء أميركا بها بعد أن يرون ان القوى العظمى عاجزة عن حفظ كيان أحد أتباعها وإذا كانت الادارة الاميركية قد عززت هذه الثقة (بصورة لا ارادية) في نفوس حلفائها من خلال موقفها مع اسرائيل أثناء وبعد حزب تشرين، فان انتصار الثورة الاسلامية في ايران زعزع هذه الثقة، وبرهن عمليا ان تلك القوة لم تستطع ان تطيل عمر النظام الشاهنشاهي رغم ما استخدمته من أساليب.
ان هذه الدروس القاسية التي وضعتها ادارة كارتر أمام عينيها، والتي جاءت نتيجة الانتصار العظيم للثورة الاسلامية في ايران، كانت الدليل القاطع على فشل مبادئ نكسون وعدم فاعليتها في فرض الهيمنة الأميركية على منطقة الشرق الإسلامي خصوصا والعالم عموما.
أمام هذه الهزيمة، شعرت ادارة كارتر بضرورة التحرك السياسي السريع من أجل المحافظة على بقايا النفوذ الاميركي أولا، واسترداع ما فقدته الولايات المتحدة، سواء اعادة المناطق التي فقدتها إلى دائرة نفوذها وايجاد البدائل عنها ثانيا.
لقد كان الوضع العام لخارطة العالم الاسلامي التي وضعتها ادارة كارتر أمامها في محاولة لرسم سياستها الجديدة تتميز بالشكل التالي:
1 ـ المنطقة الخليجية تفتقر إلى الحماية المطلوبة، والأنظمة التابعة لأميركا لا تشكل ثقلا سياسيا وعسكريا في هذه المنطقة يمكن أن تطمئن إليه الولايات المتحدة في حفظ وجودها، مقارنة بالمركز المتقدم الذي تحتله الجمهورية الاسلامية في المنطقة.
ومما يزيد من حجم الخطر الذي يتهدد المصالح الاميركية تنامي الوعي الثوري الاسلامي في المنطقة والذي يعني ان كيان حكام هذه المنطقة مهدد بالفناء وان مصيرهم في النهاية سيلتقي مع مصير الشاه.
2 ـ والخليج مهدد بصورة غير مباشرة من السوفيت المعسكرين في افغانستان وعيونهم معلقة على الخليج، وأحلامهم في الوصول إلى آبار النفط لا تقف عند حد، خصوصا بعد أن ضعف الوجود الاميركي حو هذه الآبار عما كان عليه قبل انهيار العرش الشاهنشاهي.
3 ـ البحر الاحمر يوجد على شاطئيه نفوذ عسكري سوفيتي قوي، فاليمن الجنوبية قاعدة سوفيتية قوية وكذلك الحبشة.
وهذا النفوذ السوفيتي يشكل خطرا مباشرا على النفوذ الأميركي في منطقتي البحر الأحمر والخليج، وكذلك المحيط الهندي.
4 ـ وفي مقابل هذه النقاط الخطرة هناك نقاط آمنة للولايات المتحدة، فالعديد من الأنظمة الخليجية تابعة لها وترتبط معها باتفاقيات عسكرية، كما تنشر على أراضيها قواعد اميركية وان كانت تعتبر ثانونية مقارنة بقاعديتها (ايران واسرائيل).
5 ـ ان مفاوضات السلام بين النظام المصري والكيان الصهيوني قد قطعت شوطا ليس بالقصير، وبذلك يمكن ضمان عدم تعرض اسرائيل إلى خطر يهدد كيانها أو موقعها العسكري في المنطقة، بعد أن أصبحت الجبهة الجنوبية في مأمن تام، كما ان سعي السادات المقبور الآخر في اتجاه الحل السلمي رافقه تقرب كبير من واشنطن وبصورة صريحة، وهذا بدوره يفتح مجالات واسعة أمام الادارة الاميركية للتغلغل ومد نفوذها في العالم الاسلامي.
6 ـ هناك على الجانب الغربي من البحر الاحمر أنظمة خاضعة للولايات المتحدة وغارقة في العمالة لها وبالامكان زيادة الوجود العسكري الاميركي فيها.
وعلى ضوء هذا الوضع حدد كارتر السياسة الجديدة التي ستسير عليها حكومته والمعروفة بمبدأ كارتر.
يفيد مبدأ كارتر، ان الولايات المتحدة ستعمد إلى زيادة وجودها العسكري المباشر في مناطق نفوذها، وتكثيفه في المناطق الساخنة.
وعلى هذا الأساس العريض، فان سياسة كارتر تضمنت ثلاثة أساليب رئيسية:
الاول ـ زيادة القواعد العسكرية الاميركية في المناطق الحساسة من العالم، ورفع كفاءتها وقدراتها من حيث الآلة العسكرية والقوى البشرية العاملة فيها، لكي تكون قادرة على حسم الأوضاع الطارئة التي قد يتعرض فيها الوجود الاميركي إلى خطر الزوال والسقوط. وفي هذا المجال كثفت الولايات المتحدة وجودها العسكري في العديد من الانظمة التابعة لها عن طريق القواعد العسكرية، مثل قاعدة (مصيرة) في سلطان عمان، و"بربرة" في الصومال، و"مومباسا" في كينيا و"دييغورغارسيا" في المحيط الهندي و(راس بناس) في مصر اضافة إلى القواعد الاخرى المنتشرة في السعودية والبحرين والسودان وغيرها من الانظمة التابعة.
الثاني ـ انشاء قوات التدخل السريع وزيادة كفاءتها القتالية للدرجة التي تمكنها من التدخل المباشر في أية أزمة تنشب في مناطق النفوذ الاميركية وحسمها لصالحها.
والملاحظ على هذين الاسلوبين ان مهمة حفظ المصالح الاميركية هي من مسؤولية الادارة الاميركية مباشرة، وليست ملقاة على عاتق عملائها كما كان جاريا في سياسة نكسون، اضافة إلى ان الولايات المتحدة هي التي تتولى مهمة حفظ كيان هؤلاء الاتباع من خلال وجودها المباشر على اراضيهم، أي أنها اصبحت لا تثق بقدراتهم على حفظ مواقعهم في السلطة.
الثالث ـ استعداد الادارة الاميركية للتدخل بكل ثقلها لمواجهة أي تهديد يعرض مصالحها للخطر، واعتبار ان هذا التهديد يمكن أ، يكون ناشئا من دول المنطقة او قادما من المعسكر الشيوعي وفي الحالة الاولى ستكون المسؤولية من اختصاص القواعد العسكرية وقوات التدخل السريع، أما في الحالة الثانية فان المسؤولية ستكون من اختصاص القوات الاميركية كافة بصنفيها التقليدي والنووي، مضافا إليها قوات الاطراف التي تشترك مع الولايات المتحدة في الخطر. وهذا في الحقيقة ترجمة عملية للاستراتيجية العامة في سياسة كارتر التي تعرف بـ" حرب ونصف حرب" أي استعداد اميركا لخوض حرب شاملة مع اوروبا ضد السوفيت، ونصف حرب في المناطق الاخرى من العالم.
لقد وضع كارتر مبادئ سياسته هذه على امل انقاذ الموقف الاميركي المتدهور على صعيد السياسة الخارجية نتيجة الضربات الموجعة التي تعرضت لها هذه السياسة في العالم الاسلامي.
غير أن هذه المبادئ لم تدخل تجربة عملية تكون بمثابة المقياس الفاصل لمدى صوابها أو فشلها فهي جاءت بعد هزيمة اميركية، ولم تأت لمنع هذه الهزيمة، ومع افتقارها إلى التجربة العملية، فانها لم ترفض من قبل صانعي السياسة الاميركية، لأنها تنسجم مع الاتجاه العام لتفكيرهم السياسي المحصور في دائرة التدخل العسكري والسيطرة على العالم.
وهذا العالم وحده يكفي لأن يكون دافعا وراء عدم رفض هذه السياسة، بل إلى تعزيزها وتعميقها في ممارسات البيت الأبيض.
مبدأ ريغن
طوى كارتر ملفاته بعد هزيمته الانتخابية تاركا في المكتب البيضاوي ملفات العودة إلى الاساليب القديمة الثابتة في السياسة الأميركية والمتمثلة في التوسع والتدخل العسكري في انحاء العالم المختلفة.
وعندما فتح ريغن هذه الملفات كان يرى أن كارتر رغم كونه وضع اميركا ثانية على طريقها العام في الاعتماد على القوة العسكرية، الا أن أساليبه لم تكن متكاملة ولم تكن متناسبة مع حجم الهزيمة الأميركية في العالم الإسلامي.
لأن قراءاته لأوضاع هذه المنطقة لم تكن دقيقة جدا، فتجاوزت بعض الصفحات المهمة من ملفات الشرق الإسلامي.
ويبدو ان صدمة كارتر كانت قوية في إيران لاسيما بعد فشله المخزي في عملية انقاذ الرهائن، فمالت دون امكانية معالجة الأمور بهدوء في حين أن منطقة ملتهبة كالشرق الإسلامي تحتاج إلى برودة اعصاب.
كما ان تداخل المؤثرات السياسية في المنطقة كانت تبدو بعين كارتر متشابكة فتعامل معها بتشنج.
ومن شأن هذا التشنج أن يجعل كارتر يتجاوز بعض الحقائق المهمة وتغيب عنه نقاط حساسة بالنسبة للسياسة الأميركية التي تفرض مصالحها أن يكون التعامل معها أكثر بكثير مما فعله كارتر.
والحقيقة ان اتهامات ريغن لسلفه كارتر لم تكن صائبة كل الصواب، فحتمية الانتصار الإسلامي في إيران وضخامته من شأنها أن تربك أي صانع قرار أميركي، وأن تضع الادارة الأميركية بكافة لجانها ودوائرها أمام حيرة كبيرة، تتداخل فيها الخطوط، فتأتي الأساليب مرتبكة غير فاعلة.
لقد رأى ريغن ان من الضروري تصعيد القوة العسكرية واعتبارها الأساس الذي يجب أن تقوم عليه السياسة الخارجية الأميركية.
أي ان مبدأ ريغن يتلخص بـ "العصا الغليظة" وسياسته في حقيقتها لا تمثل تحولا كبيرا عن نهج كارتر، فهي استمرار له، ولكن بتركيز أكبر على الجانب العسكري.
والجديد الذي يمكن ملاحظته على هذه السياسة في الشرق الإسلامي ينحصر في جانبين:
الأول ـ زيادة الدعم العسكري للانظمة الحليفة والتابعة للولايات المتحدة وزيادة الفاعلية العسكرية لقوات التدخل السريع، مع الاستمرار في البحث وانشاء القواعد العسكرية في المناطق الاستراتيجية.
ومن هنا نجد ان الميزانية العسكرية قد تزايدت أرقامها بشكل ملحوظ عما كانت عليه فترة حكم كارتر.
الثاني ـ ايجاد مراكز دائمة في المنطقة لها القابلية على التأثير في اوضاعها السياسية والعسكرية، ومن ورائها تتمكن الولايات المتحدة من ضمان سيطرتها السياسية على الشرق الإسلامي.
والحليف الأميركي الوحيد الذي يتناسب مع هذا الاسلوب هو الكيان الصهيوني.
وبالرغم من أن إسرائيل قد تحسن وضعها في المنطقة في ظل ادارة كارتر خصوصاً بعد اتفاقيات كامب ديفيد، الا ان ادارة ريغن تريد زيادة تحسين وضعها، لأن الأهمية التي تراها في إسرائيل تفوق الاهمية التي كانت تنظر بها ادارة كارتر لاسرائيل، فاسرائيل في نظر الادارة الجديدة تعتبر الحليف الأميركي الوحيد في المنطقة القادر على تحقيق الاهداف الأميركية فيها، لما تتمتع به من امكانيات وقدرات ذاتية، ولأهدافها الخاصة التي تلتقي مع المصالح الاميركية، وهذه النقطة لا تتوفر في غيرها من انظمة المنطقة التابعة لواشنطن.
ويرى مستشارو ريغن ان وضع إسرائيل في الشرق الإسلامي لا يشابهه وضع أي حليف آخر، لاسيما بعد سقوط الشاه، لأن إسرائيل غير مهددة مطلقا بسقوط نظام الحكم فيها أو تغير مصالحه بشكل جذري، وعلى هذا الأساس فان إسرائيل بالنسبة لأميركا مركز استراتيجي متعدد الأغراض لما يقدمه من خدمات للبيت الابيض.
وبتعبير آخر، ان اميركا تنظر إلى إسرائيل على انها "ذخر استراتيجي لا مثيل له يمنع السوفيت من التدخل العسكري المباشر في المنطقة". (39)
لقد تعاملت ادارة ريغن مع المنطقة باسلوب جديدة بعض الشئ، فلقد استبعدت فكرة اعتماد الولايات المتحدة على عدة حلفاء، أي أن الدرس الذي استخلصته حكومة كارتر من هزيمة الشاه وانتصار الثورة الاسلامية، يختلف عن ادارة ريغن في فهمه، فالاخيرة تعتبر ان الشرط الرئيس لأن يكون الحليف حليفاد دائما لواشنطن ثبات نظامه السياسي وترابط مصالحه مع المصالح الأميركية ترابطا عضويا وهذا لا يتوفر الا في إسرائيل.
اما الاعتماد على عدة حلفاء فلا يمثل حلا لأزمة الوجود الاميركي، لأنه يهمل دور أحد الحلفاء (إسرائيل) عندما لا يعطيها الاهتمام المتميز من بين عدة حلفاء، أي ان ادارة ريغن تعتمد على إسرائيل كحليف دائم في حين تعتمد على الانظمة العربية التابعة كحلفاء لهم درجة اهتمام اقل من إسرائيل.
وهذا لا يعني ان دور الحلفاء قد تقلصت أهميته في ادارة ريغن، بل على العكس فقد ازداد عما كان عليه في ادارتي نكسون وكارتر، مقارنة بحجم الدعم العسكري الذي تقدمه لهم لكن الذي حدث ان ريغن اعتبر إسرائيل جزءاً من أميركا في الشرق الإسلامي، وهذا الاعتبار فريد من نوعه في المنطقة من حيث ترابط المصالح والدعم بين تل ابيب وواشنطن.
لقد حاولت الولايات المتحدة من وراء إسرائيل ان تغير المجريات السياسية في المنطقة.
فبعد حالة الركود التي وصلت إليها مسيرة السلام بين النظام المصري والكيان الصهيوني، ارادت الحكومة الأميركية ان تدفع بالسلام في خطوات جديدة، وان تجعله متعددا شاملا.
وما هذه المحاولة الا نقلة عريضة في الواقع السياسي العام للشرق الإسلامي. فبعد عقود طويلة من حالة حرب بين الانظمة العربية وبين اسرائيل، تصبح الحالة السائدة هي اللاحرب.
هذا التحول الكبير الذي أرادت واشنطن فرضه على المنطقة رافقه سعي حثيث من قبل إسرائيل للتحقيق مستلزماته وذلك من خلال المقدمات التي نفذتها في هذا الصدد، وأولها اجتياح ضخم للبنمان في حزيران 1982 تلاه مبادرات عربية جادة نحو السلام.
وإذا كان هذا التحول يمثل هدفا أساسيا لاسرائيل، فانه يعتبر أحد أهداف الولايات المتحدة في العالم الإسلامي، فانهاء الحرب يعني بقاء إسرائيل قوية في المنطقة عسكريا وسياسيا، ويعني في نفس الوقت نقل امكانياتها وامكانيات الانظمة العربية الخاضعة لأميركا من جبهة التصادم فيما بينها، إلى جبهة أخرى أكثر خطورة على المصالح الأميركية وأكثر خطورة على تلك الكيانات.
هذه الجبهة تتمثل بمواجهة المخاطر الجديدة التي تشهدها المنطقة وأبرزها الزحف الإسلامي القادم من شرق الخليج.
يضاف إلى ذلك، ان الحالة الجديدة لأوضاع المنطقة ستضيف رقما ضخما للوجود الأميركي فيها، حيث سيصبح في مأمن من الخطر الشيوعي بعد أن أصبح الحلفاء ينظرون بملء أعينهم نحو (العدد الجديد).
ان مبادئ ريغن لن تدخل تجربة عملية حقيقية تكشف مدى نجاحها أو احباطها، ولا تكفي بعض المكاسب السياسية ان تكون دليلا على نجاحها، طالما ان مواقف عسكرية يمكن أن تشهدها ساحة العالم الإسلامي، وقد تنسحب آثارها على الصعيد السياسي وتغير كل شئ.
تقييم مبادئ السياسة الأميركية
بعد هذا العرض لمبادئ الرؤساء الاميركان يمكن أن نسجل الملاحظات التالية:
1 ـ أن جميع المبادئ التي تبناها رؤساء اميركا كانت في معظم جوانبها ردة فعل لموقف حرج تتعرض له المصالح الاميركية، ثم حاولت من وراء هذه المبادئ خدمة اغراضها السياسية المستقبلية، ولم تأت على أساس انها نهج سياسي نابع من هدف مستقل، فمبدأ روزفلت في تشكيل القوة العسكرية من أجل اقامة نظام بوليسي عالمي، لم يدخل التطبيق العملي الا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، وغزو ألمانيا لأوروبا.
وترومان لم يطلق مبدأه في دعم الدول الاوروبية عسكريا واقتصاديا الا بعد ان تعرضت لتهديد سوفيتي خطير في التوسع وادخال اوروبا إلى الدائرة الشيوعية خصوصاً بعد الاوضاع الملتهبة التي شهدتها اليونان، والخطر العسكري السوفيتي الذي هدد تركيا.
وآيزنهاور رسم سياسته بعد التطورات المهمة التي شهدتها منطقة الشرق الإسلامي والتي رافقتها محاولات من السوفيت في التقرب من انظمتها، ونكسون أطلق مبدأه بعد هزيمة السياسة الأميركية في فيتنام.
وكارتر حدد اساليبه بعد الخطر الكبير الذي تعرض له النفوذ الأميركي في الخليج والشرق الإسلامي عموما وريغن انتهج سياسة العصا الغليظة بعد أن رأى عدم جدوى أساليب كارتر.
2 ـ بعض هذه المبادئ لم تكن لتنسجم مع المنطقة الموجه نحوها المبدأ، فآيزنهاور مثلا أراد ادخال الانظمة العربية في أحلاف عسكرية، ولم يضع في حساباته الوضع العام لها والذي كان يرفض التكتلات العسكرية أي أنه أراد أن يغير السياسة العامة لتلك الانظمة بما ينسجم مع أساليب سياسته الخاصة، الا ان يرسم أساليبه على ضوء الوضع السياسي لمنطقة الشرق الإسلامي.
4 ـ كما ان هذه السياسة الأميركية اصطدمت نتيجة عدم أخذها بالاعتبار الأوضاع السياسية في المنطقة، اصطدمت بالعديد من المعوقات التي فرضتها تلك الأوضاع فالسياسة الأميركية أرادت أن تطبق أساليبها في منطقة الشرق الإسلامي كلها.
وهذا لا يتم في ظل الصراعات السياسية التي تحكم واقعها العام، والتي تعني في النهاية تجاوب بعض انظمة المنطقة مع سياسة واشنطن، في حين يقف العبض الآخر منها موقفا رافضا إذا لم يكن نتيجة عدم قناعته بفاعليتها، فانه يقف هذا الموقف بدافع عدائه من الأنظمة التي تبنتها مسبقا، ولقد كان عدم الاهتمام الأميركي بهذا الوضع سببا في فشل أساليبها السياسية بصورة عامة، لأنها وضعتها على أساس أن تتبناها جميع تلك الأنظمة لا بعضها، وهذا واضح في سياسة آيزنهاون فلقد حاول أن يفرض سياسته على الشرق الإسلامي، وعندما بدا واضحا انها لم تلق تجاوبا مع معظم أنظمته لا سيما تلك التي لها ثقل سياسي كمصر مثلا، لم يغير من تركيبة اساليبه، بل انّه على العكس من ذلك تماما، سعى لأن يطبق أكثرها حساسية ألا وهو التدخل العسكري، مع علمه ان التدخل لم يكن يمتلك مبررات التطبيق.
ولعل سعيه هذا انّما كان ليرد على الانتقادات الشديدة التي وجهت إليه والتي كانت تنادي بعدم صلاحية مبدئه.
وهذا يكشف لنا حقيقة مهمة ألا وهي ان المبادئ السياسية لرؤساء اميركا، تتأثر إلى حد كبير بدوافعهم الشخصية المتمثلة في الحفاظ على مواقعهم في البيت الأبيض، والذي يعزز هذه الحقيقة موقف جونسون وموقف كارتر من بعده.
فجونسون سار في طريق مسدود عندما كان يزج بالقدرات العسكرية الهائلة في فيتنام، مع ان هذه القدرات لم تكن لتغير من الوضع في فيتنام شيئا، ومع ذلك كان (يقامر) بنهجه هذا من أجل خدمة وضعه في السلطة.
وكارتر سعى إلى تطبيق أحد أساليب التدخل في الجمهورية الإسلامية في ايران، بعد أن تعرض وضعه في الحكم إلى انتقادات شديدة على اثر هزيمة اميركا في إيران والخليج.
ومن الطبيعي أن يؤثر هذا النهد لرؤساء اميركا على فاعلية السياسة الخارجية الأميركية، بعد ان تكون قد حوت على عاملي ضعف الأول يتمثل بعدم الاهتمام بالأوضاع السياسية لمنطقة الاهتمام الاميركي، والثاني تأشرها بالدوافع الشخصية لرؤساء الولايات المتحدة.
5 ـ الملاحظ على مبادئ الرؤساء الاميركان انها تسير على خط عام ألا وهو التدخل العسكري واعتماد القوة العسكرية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وإذا كانت هناك فترات رئاسية تشهد فتورا في القوة العسكرية فانما هي حالات طارئة ومفروضة، لأنها جاءت بعد فشل عسكري كبير، لحقه فشل سياسي اميركي على الساحة الدولية.
6 ـ تأثرت هذه المبادئ إلى حد كبير بالخوف من التوسع السوفيتي أو الصيني، أي ان هذه المبادئ التي كانت تهدف بالدرجة الاولى إلى فرض السيطرة الأميركية على العالم، اصبحت في نفس الوقت أحد أساليب مواجهة التوسع الشيوعي، كما انها تأثرت بأهداف أخرى للسياسة الأميركية كاثبات المصداقية مثلا.
وكان لهذا التأثر نتائج سلبية على فاعليتها لأنها في هذه الحالة أصبحت ثانوية ولو لفترة محدودة أو لظرف مؤقت.
7 ـ ومن هذه الملاحظات يتبين ان السياسة الوحيدة التي حققت القسم الكبير من أغراضها ـ وليس كلها ـ هي سياسة ترومان، في حين فشلت غيرها من المبادئ والسياسات، فروزفلت عجز عن تحقيق القوة البوليسية والنظام العالمي، وآيزنهاور لم يتمكن من تطبيق سياسته في الشرق الإسلامي، ويمنع السوفيت من الوصول إليها، وكل من كنيدي وجونسون فشلا في اخضاع الهند الصينية للسيطرة الأميركية، ونكسون لم تستطع مبادئه أن تضمن بقاء الوجود الأميركي في الخيلج، وكارتر لم يقتنع خلفه بسياسته فحاول اضافة المزيد من الأساليب عليها لأنه لم يكن واثقا من كفاءتها في السيطرة على الشرق الإسلامي ومع ذلك فانها لم تدخل تجربة عملية.
واقتصرت سياسته على الصعيد الدولي بالعلاقات الدبلوماسية والتحركات السياسية، في حين ان "العصا الغليظة" التي يلوح بها لم يستخدمها بشكل مباشر، في المنطقة الإسلامية وان كان قد استخدمها في نيكاراغوا.

ليست هناك تعليقات: