الثلاثاء، 15 أبريل 2008

دراسات في الحقبة الناصرية (1)

الطريق إلى الثورة

الحركة الوطنية فى مصر1918-1952


كانت الحرب العالمية الأولى علامة فارقة فى تاريخ مصر الحديث، ففى بدايتها قامت بريطانيا بتغيير وضع مصر الدولى من ولاية تابعة للدولة العثمانية إلى كيان سياسى يقع تحت الحماية البريطانية (18 من ديسمبر 1914). ونظرت النخبة السياسية – الاجتماعية إلى هذا التطور على أنه بارقة أمل فى تحقيق الاستقلال الوطنى المنشود عند نهاية الحرب، ومن ثم تفقد الحماية مبرر وجودها، وتنال مصر جزاء مساعدتها لبريطانيا وحلفائها فى الحرب استقلالاً يقوم على أساس تنظيم علاقتها ببريطانيا من خلال اتفاقية تضمن لبريطانيا مصالحها الإستراتيجية، وتطلق يد مصر فى إدارة أمورها.وما كادت الحرب تضع أوزارها (11 من نوفمبر 1918)، حتى أخذ الساسة المصريون يتشاورون فى مصير البلاد بعد الحرب، وكان للتصريح الإنجليزى – الفرنسى الصادر فى أوائل نوفمبر 1918 – فيما يتعلق بسوريا والعراق- أثراً كبيراً عليهم، إذ جاء فيه : "أن بريطانيا العظمى وفرنسا تنويان تحرير الشعوب التى أنقذت من الظلم العثمانى تحريراً تاماً، وأن تنشئ لها حكومات وطنية تستمد سلطانها من السنن التى يسنونها من تلقاء أنفسهم ومطلق اختيارهم"، وشد من أزر الساسة المصريين إنشاء مملكة عربية مستقلة فى الحجاز قبيل نهاية الحرب، واستعداد الأمير فيصل لتمثيل والده الشريف حسين ملك الحجاز أمام مؤتمر الصلح الذى تقرر انعقاده فى باريس.
وكان الاتجاه إلى عرض وضع مصر على مؤتمر الصلح شائعاً بين الساسة المصريين عند نهاية الحرب العالمية الأولى، امتداداً للخط السياسى القديم الذى كان يرى حل المسألة المصرية حلاً " قانونياً "، فينظر إلى المسألة على أنها " قضية "، مستنداتها تتمثل فى عدم استناد الاحتلال إلى أساس قانونى، والوعود المبهمة التى قطعها الإنجليز على أنفسهم فى أكثر من مناسبة بالجلاء عن مصر، وتبعية مصر للإمبراطورية التى سيطرح أمر البلاد التابعة لها على مؤتمر الصلح، ونعنى بها الدولة العثمانية.
فتحديد مستقبل مصر -إذاً- يحتاج إلى قرار من المجتمع الدولى ممثلاً فى الأطراف التى ستجتمع حول مائدة الصلح، مما يتطلب تشكيل "وفد مصرى" يضطلع بهذه المهمة.كان ذلك رأى جماعة (المعتدلين) من رجال "حزب الأمة" وأشياعهم، الذين خلت أمامهم ساحة العمل السياسى بعد تهميش دور "الحزب الوطنى" وتشريد قياداته قبيل الحرب، وأن كان من تبقى من كوادر الحزب الوطنى قد راقت لهم فكرة تمثيل مصر أمام مؤتمر الصلح للمطالبة بالاعتراف بالاستقلال وذلك من خلال "وفد مصرى"، وبعد مناورات دارت وراء الكواليس، علا صوت المصلحة الوطنية على صوت المحن والخلافات، وتم توحيد الصفوف والجهود حول فكرة تكوين "وفد" بزعامة سعد زغلول باشا (وكيل الجمعية التشريعية) يتولى عرض وجهة نظر الشعب المصرى على مؤتمر الصلح، ووفد آخر رسمى يتألف من حسين رشدى باشا رئيس الوزراء وعدلى يكن باشا للغاية ذاتها. ورأى القائمون على الحركة وضع صيغة توكيل يوقع عليها من لهم "صفة النيابة الطبيعية عن الأمة" أى الأعيان والعلماء وغيرهم ممن يقبلون التوقيع على التوكيل حتى يكتسب الوفد الشعبى الصفة الشرعية.وفى 13 نوفمبر 1918، تمت المقابلة الشهيرة بين رئيس الوفد (سعد زغلول) وزميليه على شعراوى وعبد العزيز فهمى وكان ثلاثتهم من أعضاء الجمعية التشريعية التى عطلت اجتماعاتها عند بداية الحرب، والمندوب السامى البريطانى السير "رجنالد ونجت"، وقد حدد (الوفد) المطالب المصرية على النحو التالى :
1-الاستقلال التام استناداً إلى ما لمصر من مؤهلات تجعلها جديرة به.
2- تأمين المصالح الاستراتيجية لبريطانيا فى قناة السويس بعقد محالفة عسكرية معها، والسماح لها باحتلالها فى حالة وقوع توتر دولى يعرض مصر لأطماع دولة أخرى، ويهدد بالخطر المصالح الاستراتيجية لبريطانيا.
3- القبول بوجود مستشار مالى بريطانى تنتقل إليه سلطات صندوق الدين يلعب دور القيم على مصالح الدائنين .
4-اعتماد المصريين لأسلوب التفاوض المباشر مع بريطانيا لتحقيق الاستقلال المنشود، دون إدخال أطراف دولية أخرى فى الموضوع .كانت السلطات البريطانية فى مصر تجهل حقيقة تطلع الشعب المصرى إلى الاستقلال، فلم تلق بالاً إلى مطالبة أعضاء الوفد المصرى السماح لهم بالسفر إلى أوروبا لعرض مطالب مصر على مؤتمر الصلح. مما دفع سعد زغلول إلى إعلان بطلان الحماية فى 7 فبراير 1919 وأرسل احتجاجاً شديد اللهجة إلى السلطان أحمد فؤاد لقبوله استقالة وزارة حسين رشدى، واحتج لدى قناصل الدول الأوروبية فى مصر على السياسة البريطانية. وفى 8 من مارس 1919 ألقى القبض على سعد زغلول ومحمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقى ونفوا إلى مالطا؛ وهم من حملة رتبة الباشاوية، ويبدو أن الهدف من ذلك تخويف بقية أعضاء الوفد، وبث روح اليأس فى نفوس المصريين جميعاً. ولكن حدث ما لم يكن فى حسبان أحد، ففى اليوم التالى انفجر بركان الثورة.كانت ثورة 1919، أول ثورة شعبية مصرية تلقائية، عبرت فيها الجماهير المصرية تعبيراً عفوياً عن رفضها للظلم الاجتماعى والسيطرة الأجنبية معاً، وتجلى ذلك فى الهجوم على قصور كبار الملاك، حتى من كان منهم من أعضاء الوفد، وتحطيم مراكز الشرطة باعتبارها رمزاً لتعسف الشرطة وقمعها للجماهير، واقتلاع السكك الحديدية، ومهاجمة الجنود الإنجليز وقتلهم.
وقد جاءت الثورة مفاجأة لتلك النخبة الاجتماعية السياسية التى تصدت للعمل السياسى عند نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان لأحداثها وما صاحبها من عنف شديد طال ممتلكات كبار الأعيان، أثر واضح فى موقف غالبية أعضاء الوفد المصرى فى باريس بعد ما سمح لهم بالسفر إلى هناك من حيث التلهف على التوصل إلى اتفاق مع الإنجليز، وخاصة أن ما كان معروضاً عليهم هو صيغة الاستقلال الذاتى التى كانوا يطمحون إليها قبل الحرب وبعدها، ومن ثم تمسك تلك النخبة بأسلوب التفاوض سبيلاً لتحقيق الاستقلال الوطنى، ونبذها لفكرة الكفاح المسلح التى تحتوى على قدر كبير من المخاطرة بمصالحها الاقتصادية والسياسية، لما قد يترتب على الكفاح المسلح من إفساح مجال أرحب أمام الجماهير الشعبية للتعبير عن مصالحها، ولعب دور أكبر فى الحياة السياسية.
وعندما قبلت حكومة الوفد بفكرة الكفاح المسلح عام 1951، كان ذلك استجابة للضغط الشعبى، وجاء من قبيل المناورة السياسية المحسوبة، وعندما جاءت الأحداث بعكس حسابات النخبة الاجتماعية السياسية، سعت كل أطرافها، بما فى ذلك الوفد، للبحث عن سبيل لإجهاض حركة الكفاح المسلح فى منطقة القناة.وهكذا قبلت تلك النخبة بتصريح 28 فبراير 1922 الذى أعطى مصر استقلالاً منقوصاً بتحفظه على أربعة أمور تمثل جوهر الاستقلال (الدفاع – المواصلات – حماية الأجانب والأقليات – السودان) لتصبح موضع مفاوضات بين مصر وبريطانيا استمرت حتى تم التوصل إلى معاهدة الجلاء على يد ثورة يوليو عام 1954. ولم يتخلف سعد زغلول عن القبول بتصريح 28 فبراير 1922 رغم أنه وصفه من منفاه "بالنكبة الوطنية" وخلع على لجنة صياغة دستور 1923 لقب " لجنة الأشقياء "، ولكنه ما لبث أن دخل الانتخابات التى أجريت عقب صدور الدستور وشكل أول وزارة فى ظله.وبذلك عجزت قيادة ثورة 1919 عن تحقيق الاستقلال الوطنى المنشود، كما عجزت النخبة الاجتماعية السياسية التى تصدت للعمل السياسى فى ظل دستور 1923 عن التوصل إلى علاج للأزمة الاجتماعية التى بلغت حدتها عند نهاية الحرب العالمية الأولى، وازداد تفاقمها خلال كساد الثلاثينات وأزمة الحرب العالمية الثانية، وانعكس ذلك كله على حركة الجماهير المصرية التى تطلعت إلى نظام سياسى جديد يحقق الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية معاً، وعبرت بعض جماعات الرفض الاجتماعى والسياسى عن تلك التطلعات المشروعة لتقيم نظاماً سياسياً جديداً.وبعبارة أخرى، شكلت أزمة النظام السياسى الذى أقامه دستور 1923، وتفاقم الأزمة الاجتماعية، وظهور جماعات الرفض الاجتماعى والسياسى ملامح الحركة الوطنية التى جعلت من ثورة يوليو 1952 نتيجة طبيعية للبحث عن مخرج لتلك الأزمات.أولاً: أزمة النظام السياسى :لقد انعكست ظروف نشأة وتطور النخبة الاجتماعية التى قادت العمل السياسى فى مصر بعد الحرب العالمية الأولى، على درجة وعيها الاجتماعى والسياسى، وكان لذلك أثره على خياراتها عند وضع أسس النظام السياسى الذى صاغته فى دستور 1923، فجاء تعبيراً عن مصالحها، ولم يأت تجسيداً لمصالح الجماهير الشعبية التى لعبت الدور الرئيسى فى ثورة 1919، وعبر عن توازن سياسى لعبت فيه قوى القصر والإنجليز وكبار ملاك الأراضى الزراعية الدور الأكبر، ومن ثم جاء النظام السياسى الذى أرسى هذا الدستور دعائمه تعبيراً عن هذا التوازن وتأكيداً لاستمراره.ورغم أن الدستور كان مطلباً وطنياً أساسياً منذ الثورة العرابية، وكان فى طليعة مطالب "الحزب الوطنى" بزعامة محمد فريد، ولم يرد ذكر الدستور فى مطالب الوفد، وعندما انفجرت ثورة 1919، كانت الشعارات التى رفعتها الجماهير الثائرة ورددتها فى مظاهراتها هى "الاستقلال التام"، كما أن المقالات التى حفلت بها صحف الثورة لم تتناول النظام السياسى الذى يتصوره كتابها بعد تحقيق الاستقلال، فيما عدا جماعة صغيرة من المثقفين ضمت منصور فهمى، ومحمود عزمى، وعزيز ميرهم نشرت فى جريدة النظام فى 8 سبتمبر 1919 برنامج ما أسمته "الحزب الديمقراطى" تضمن ضرورة أن يكون الحكم نيابيا يحقق سيادة الشعب باعتباره مصدر السلطات.
غير أن هذه الجماعة الصغيرة لم تخلق تياراً عاماً يساند أفكارها وسط هدير الحركة التى كان يقودها الوفد.ومن عجب أن تأتى مبادرة إقامة حكم نيابى دستورى فى مصر من جانب السلطات البريطانية ذاتها فى المذكرة التفسيرية التى قدمها المندوب السامى البريطانى إلى السلطان أحمد فؤاد فقد رفق تصريح 28 فبراير 1922 الذى اعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة مع التحفظات الأربعة الشهيرة التى جعلت من هذا الاستقلال استقلالاً إسمياً، إذ نص البند العاشر من تلك المذكرة التفسيرية على أن "إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف والرقابة على السياسة والإدارة فى حكومة مسئولة على الطريقة الدستورية، يرجع الأمر فيه إلى السلطان والشعب المصرى، مما يعنى – ضمناً – ضرورة قيام حكم نيابى يقترن بقبول تصريح 28 فبراير، فقبول السلطان للتصريح يعنى التزامه بإقامة نظام برلمانى دستورى.
ولعل هذا يفسر محاولات الملك التملص من إصدار الدستور فيا بعد – دون جدوى – كما يفسر الأسلوب الذى تم به إعداد دستور 1923، فقد كان أحمد فؤاد - الذى أصبح ملكاً - يسعى لتحقيق المبادرة البريطانية بالشكل الذى لا يؤثر على ميوله الأوتقراطية، مما انعكس على صياغة الدستور ذاته، فقد اتجه الملك إلى تشكيل لجنة إدارية لوضع الدستور، ولم يعهد به إلى جمعية وطنية تأسيسية منتخبة تمثل الأمة. وبدلاً من أن تتخذ اللجنة من التجربة الدستورية المصرية (لائحة 1882 التى وضعت أيام الثورة العرابية) إطاراً مرجعياً لها، لجأت إلى بعض الدساتير الأوروبية – وخاصة الدستور البلجيكى – فعكفت على دراساتها، وصاغت مواد الدستور المصرى على هديها بعد أن شذبت ما اقتبسته بما يتلاءم مع رغبات الملك ومضمون تصريح 28 فبراير 1922، ثم تولت اللجنة التشريعية لوزارة الحقانية (العدل) تعديل المشروع؛ لتوسيع سلطات الملك على حساب الشعب.وبدلاً من أن يطرح الدستور للاستفتاء العام قبل إصداره صدر بأمر ملكى فى 19 أبريل 1923 ليتخذ صورة "المنحة الملكية" للشعب، ومن ثم كان من حق الملك استرداد ما منح وقتما شاء، وصد ما حدث بالفعل فى الانقلابات الدستورية الشهيرة.
وأدت السلطات الكبيرة التى خص الملك نفسه بها فى الدستور إلى إضعاف التجربة النيابية والإضرار بالدستور، فاتخذ القصر من أحزاب الأقلية أدوات يستند إليها فى حكمه. وزيفت الانتخابات ليتم بذلك القضاء على المبدأ القائل بأن الأمة مصدر السلطات، والذى يمثل محور الليبرالية. فقد استغلت أحزاب الأقلية الثغرات التى تضمنها قانون الانتخابات فى تزوير الانتخابات، وتزييف إرادة الناخبين عن طريق التلاعب فى إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية وفقاً لرغبة مرشحى الحكومة التى تقوم بإجراء الانتخابات؛ للاستفادة من الأوضاع المحلية - العصبيات العائلية ومواقع الملكيات الكبيرة - فى ضمان كسب مرشحين بعينهم لأصوات تلك الدوائر. وامتدت عمليات التزوير لتشمل جداول الانتخاب، فقامت الإدارة بوضع جداول ملفقة تتضمن تكرار للأسماء، وأسماء أشخاص لا وجود لهم، وأسماء الموتى.
وكانت الانتخابات تجرى وفق هذه الجداول التى لا تعبر عن المواطنين وتفتح الباب على مصراعيه لتزوير إرادة الشعب، هذا فضلاً عن إرهاب الأميين من الناخبين - وهم الغالبية - الذين كانوا يصوتون شفاهة، فالويل لمن يعطى صوته لغير أنصار الحكومة. أضف إلى ذلك ما شاع من رشوة الناخبين وشراء أصواتهم من جانب بعض المرشحين وخاصة فى المدن، وما جرت عليه العادة من تخلص الحكومات من العمد والمشايخ المعارضين لها بفصلهم قبل الانتخابات لضمان نجاح مرشحى السلطة.وهكذا كانت الممارسات الانتخابية فى الحقبة المسماه بالليبرالية تمسخ جوهر النظام الليبرالى الذى يقوم أصلاً على الإرادة الحرة للناخب فى اختيار من ينوب عنه ويمثله فى المجلس النيابى؛ فنادراً ما كانت نتيجة الانتخابات تعبر تعبيراً صادقاً عن الإرادة الحرة للناخب، وبذلك لم يحقق دستور 1923 حياة ديمقراطية سليمة.ولعل ذلك يفسر عدم استقرار الحياة النيابية فى مصر فى تلك الحقبة. فمنذ برلمان 1924، توالت على مصر عشر هيئات نيابية حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952، ولم يكمل برلمان واحد سنواته الخمس على مدى تلك الفترة. فقد حل برلمان 1924 - الذى انعقد فى مارس - فى ديسمبر من نفس العام. وعندما أجرت وزارة زيور باشا الانتخابات أجتمع مجلس النواب الجديد يوم 23 مارس 1925 ليحل فى اليوم نفسه، وانعقد البرلمان الثالث فى يوليو 1926 لدورات ثلاث، ثم أوقف محمد محمود باشا الحياة النيابية لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد عام 1928، ولكن وزارته سقطت قبل انتهاء المدة.
وانتخب برلمان رابع فى يناير 1930 ليحل فى السنة نفسها وهى الفترة التى شهدت الإطاحة بدستور 1923، وإصدار دستور أكتوبر 1930، ووضع قانون انتخابات جديد ضيق من حق الانتخاب وقصره على شرائح اجتماعية معينة. وفى ظل الانقلاب الدستورى انتخب برلمان خامس استمر أربع دورات تشريعية قطعها عودة دستور 1923 من جديد تحت ضغط الحكومة الوطنية فى ديسمبر 1935 وانتخب البرلمان السادس فى ظله فى مايو 1936، ولم يستمر أكثر من عامين. وقام البرلمان السابع فى أبريل 1938، والثامن فى مارس 1942، والتاسع فى يناير 1945، والعاشر فى يناير 1950.
ومع عدم استقرار الحياة النيابية خلال تلك الحقبة، عانت مصر من عدم استقرار السلطة التنفيذية، فتعاقبت الوزارات على الحكم الواحدة تلو الأخرى، ولم يعمر أى منها إلا أربعة عشر شهراً فى المتوسط، مما كان له أثاره السلبية على الإدارة الحكومية، وحاول دون متابعة السياسات التى كانت تتبناها تلك الحكومات المتعاقبة.ومن الغريب أن تشكيل البرلمانات العشرة التى شهدتها مصر خلال تلك الحقبة كان يتناقض تناقضاً كبيراً من مجلس تشريعى لآخر، فنجد الحزب الذى أحرز الأغلبية فى مجلس نيابى يحتل مقاعد الأقلية فى المجلس الذى يليه، وقد تتحول هذه الأقلية إلى أغلبية ساحقة فى برلمان تال ينتخب بعد شهور قليلة، وهلم جرا، دون أن يكون هذا التحول انعكاساً حقيقياً لتغير موازين القوى على الساحة السياسة، أو يكون تعبيراً عن انحسار الشعبية عن حزب سياسى لصالح حزب آخر، أو عن تغير اتجاهات الرأى العام، بقدر ما كان تعبيراً عن مكونات "طبخة" الانتخابات، ولم يستطع حزب الأغلبية - الوفد - الذى كان يقود الحركة الوطنية أن يصل إلى الحكم إلا من خلال انتخابات تجريها وزارات محايدة فى ظروف معينة تفرضها مقتضيات الحالة السياسية على كل من القصر والإنجليز.وهكذا كانت الديمقراطية الليبرالية التى عرفتها مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952 ديمقراطية وهمية، وكان الحكم فى حقيقة الأمر بيد القصر تمارسه نخبة محدودة من الشرائح العليا للبورجوازية المصرية ربطتها بالقصر روابط التحالف والمصالح المشتركة.
ويتضح ذلك عندما نقارن عدد السنوات التى انفرد فيها القصر بالحكم من خلال أحزاب الأقلية، بعدد السنوات التى حكم فيها الوفد باعتباره حزب الأغلبية البرلمانية. ففى الفترة الواقعة بين 1924-1952 حكم القصر مدة تقرب من تسعة عشر عاماً، بينما حكم الوفد أقل من ثمانى سنوات، وحكم مؤتلفاً مع الأحرار الدستوريين لمدة عامين.وقد شهدت الحقبة المسماة بالليبرالية حياة حزبية امتازت فيها الأحزاب بالتعدد، وإن كانت جميعاً تعبر عن مصالح البورجوازية المصرية الكبيرة التى شاركت فى صياغة دستور 1923، ودخلت طرفاً فى لعبة السياسة المصرية خلال تلك الحقبة لتجد نفسها مكاناً فى البرلمان والسلطة. وقد تأثرت الأحزاب المصرية التى قامت بعد ثورة 1919 – إلى حد كبير – بظروف الحياة الحزبية قبل الحرب العالمية الأولى، وقد قامت تعبيراً عن موقف جماعات المصالح من القضية الوطنية، بعد أن تجدد مسارها بصدور تصريح 28 فبراير 1922، ورسم دستور 1923 معالم النظام السياسى الجديد. فنظمت نفسها فى أحزاب تخوض الانتخابات من أجل المشاركة فى السلطة والاشتراك فى صياغة مشروع الاستقلال الوطنى حسب رؤيتها السياسية. ولعل ذلك التأثر بالتجربة الحزبية السابقة على الحرب العالمية الأولى يعود إلى اشتراك من اتصلوا بتلك التجربة فى تأسيس الأحزاب الجديدة، بل كان بعضها - كحزب الأحرار الدستوريين - امتداداً لأحد أحزاب ما قبل الحرب الأولى (حزب الأمة)، وكان أحدها (الحزب الوطنى) استمراراً لنفس الحزب مع اختلاف الظروف والوزن السياسى. أضف إلى ذلك أن أحزاب ما بعد ثورة 1919 خرجت من عباءة الوفد المصرى الذى كان يمثل جبهة وطنية عريضة ضمت أغلبية من حزب الأمة مع ممثلين للحزب الوطنى وبعض جماعات المصالح والأقليات، ومن ثم لم يكن منقطع الصلة عن الواقع السياسى الذى ساد مصر قبل الحرب العالمية الأولى.
ورغم أن الوفد كان أكبر الأحزاب السياسية فى تلك الحقبة، وأقواها، وأكثرها شعبية، إلا أنه ظل ينكر أن صفة "الحزب السياسى" تنطبق عليه، فما هو إلا وكيل الأمة المصرية، المدافع عن مصالحها والمطالب بحقوقها واستقلالها. ولكن "الوفد" كان رغم ذلك حزباً سياسياً من قبل أن يخوض قادته وأنصاره انتخابات 1924، بذلك ارتضى ضمناً بتصريح 28 فبراير الذى سبق أن عده سعد زغلول "نكتة وطنية" وقَبِل بدستور 1923 الذى وضعته لجنة وصفها سعد زغلول بلجنة "الأشقياء"، ولو فعل غير ذلك لوقع فى مأزق خطير ولا ينتهى بذلك دوره السياسى، وخاصة أن من انشقوا على الوفد من كبار الأعيان أقطاب حزب الأمة القديم هيأوا أنفسهم لخوض غمار العمل السياسى فى المرحلة الجديدة إعلان تأسيس "حزب الأحرار الدستورين"، فى أكتوبر 1922 كما شاركوا فى صياغة دستور 1923.وتمتع رئيس الوفد – على مر الحقبة – بمكانة مرموقة ، فالوفديون أطلقوا على سعد زغلول "نبى الوطنية" و "زعيم الأمة"، وكان النحاس باشا يحمل نفس اللقب الأخير إضافة إلى "الرئيس الجليل" ولقبه مكرم عبيد ذات مرة "بالزعيم المقدس" ويعكس ذلك أوتوقراطية الزعامة الوفدية التى كانت وراء الانشقاقات التى حدثت فى الوفد نتيجة انفراد"الزعيم" باتخاذ القرارات، حتى لو خالف بها أغلبية أعضاء "هيئة الوفد"، وكان فى هذه الانشقاقات، وخروج العناصر المشهود لها بسابقة الجهاد الوطنى، إضعافاً لقدرة الوفد على الحركة، وتهديد لبنيانه الداخلى. وزاد من حدة الأزمة الداخلية للوفد أن خروج هذه القيادات صاحبه دخول عناصر من كبار الملاك إلى قيادته، فشكلت قوة ضاغطة وراء سياسة مهادنة واحتواء ودعم من التأثير السلبى لهذه العناصر طبيعة تنظيم "الوفد" الذى لا يأخذ بمبدأ الانتخابات ويعتمد على صلاحيات الرئيس التى تسمح له بتعيين أعضاء "هيئة الوفد" (القيادة العليا للحزب)، أضف إلى ذلك ما ترتب على الانشقاقات الأخيرة من تعميق أزمة الثقة بالقيادة الوفدية، لما لاكته الألسن والأقلام عن التصرفات الماسة بنزاهة الحكم الوفدى عام 1942.
ورغم أن الوفد كان المدافع الأول عن الديمقراطية فى مصر خلال تلك الفترة، إلا أنه لم يأخذ بها فى تنظيمه، فصلاحيات "الزعيم" تفوق صلاحيات القيادة كلها، وقراراته لا تقبل الجدل؛ ولذلك لم تكن تنظيمات الوفد على درجة من القوة والثورية تمكنها من الدخول فى معارك طويلة الأمد مع القصر، أو الإنجليز، وإنما تمرست فى تنظيم المظاهرات والإضرابات ذات الطابع الوقتى المحدود. وبذلك يمكن القول أن الوفد المصرى كان يعتمد على إثارة المشاعر التلقائية للجماهير المرتبطة به، وبالدعوة إلى الاستقلال أكثر من اعتماده على قوة التنظيم الحزبى.ولم ينفرد الوفد بظاهرة ضعف البناء التنظيمى دون غيره من الأحزاب الليبرالية الأخرى، فقد شاركته فى ذلك أحزاب الأقلية التى خرجت من تحت عباءته، سواء فى ذلك "الأحرار الدستوريين"، أو "الهيئة السعدية"، أو "الكتلة الوفدية" فغالباً ما كان رئيس الحزب هو الذى يتولى تعيين أعضاء مجلس القيادة، وقد يطلب إلى الجمعية العمومية للحزب تزكية ذلك التعيين (كما فى حالة حزب الأحرار الدستوريين)، وقد لا يحتاج إلى ذلك. ولا تكن لتلك الأحزاب – من الناحية الفعلية – مستويات قاعدية تغذى التنظيمات القيادية بالكوادر. وكان انضمام الأفراد إلى القيادة دون المرور بالعضوية أمراً وارداً عند جميع الأحزاب، مما أتاح لبعض الشخصيات فرصة الانتقال من قيادة حزب إلى أخر أربع مرات خلال ثلاث سنوات.ولعل ذلك يفسر السهولة التى استطاعت بها ثورة يوليو التخلص من هذه الأحزاب بقرار الحل الذى صدر فى يناير 1953، فلم تتحرك الجماهير للدفاع عن تلك الأحزاب - بما فيها الوفد - لغياب القواعد الحزبية الجماهيرية التى تقدم حلولاً لمشاكل الجماهير. بينما لقيت ثورة يوليو مقاومة من جانب التنظيمات الايديولوجية بالأحزاب الليبرالية.
وتشترك الأحزاب الليبرالية جميعاً فى غياب البرامج السياسية التى تعالج مشاكل المجتمع وترسم إطار السياسات الاجتماعية اللازمة لحلها، فقد جاءت هذه الأحزاب من النخبة البورجوازية، فلم تهتم إلا برعاية مصالحها الذاتية على حساب مصالح الجماهير الشعبية. وجاءت المقترحات الخاصة بالإصلاح الاجتماعى من عناصر لا تنتمى إلى تلك الأحزاب، ولقيت مقاومة شديدة من جانبهم مثل : الاقتراحات الخاصة بالإصلاح الزراعى، وتوفير الرعاية الصحية للفلاحين، وحماية الملكيات الصغيرة، والتعليم الإلزامى، وغيرها. ولم تصدر التشريعات العمالية التى صيغت خلال تلك الحقبة إلا تحت ضغط الحركة العمالية، وبصورة تقل كثيراً عما كان يطمح إليه العمال، وحتى تلك التشريعات الهزلية تضمنت النص على عدم سريانها على عمال الزراعة زيادة فى الحرص على مصالح كبار الملاك الذين يجلس ممثلوهم فى سدة الحكم، ويشغلون مقاعد البرلمان ممثلين لمختلف الأحزاب السياسية.وكانت حجة تلك الأحزاب فى إغفال وضع البرامج التى تعالج المسألة الاجتماعية التركيز على قضية الاستقلال الوطنى باعتبارها صاحبة الأولوية، أما ما عداها من قضايا فتستطيع الانتظار إلى ما بعد تحقيق الاستقلال. وحتى تلـك المهمــة العاجلـة أصبحـت موضع مـزايـدات بيـن الأحــزاب كلمـا دارت المفاوضات مع الإنجليز حولها، فإذا لم يكن الفرد طرفاً فيها هاجم خصومه واتهمهم بالتفريط فى حقوق الوطن.واشتركت تلك الأحزاب – أيضاً – فى ظاهرة محاباة الأنصار عند الوصول إلى السلطة، فيتم فصل العمد المناصرين للخصوم، ويرقى الأنصار من موظفى الدولة ترقيات استثنائية، وتتم محاباة الأقارب والأصهار. فكان أنصار الوفد يتعرضون للاضطهاد فى فترات حكم وزارات الأقلية، حتى إذا وصل الوفد إلى السلطة أنصف أنصاره ونكل بخصومه، مما كان له انعكاس على موقف الرأى العام من السلطة، وإثارة مسألة نزاهة الحكم، وخاصة بالنسبة للوفد بعد صدور كتاب مكرم عبيد "الكتاب الأسود"، وإقالة وزارة النحاس السادسة فى أكتوبر 1944.
ولعبت أحزاب الأقلية التى خرجت من عباءة الوفد دوراً هاماً فى إضعاف النظام الحزبى ذاته، سواء من خلال الحملات الصحفية التى وجهت ضد الوفد، أو من خلال الارتكان إلى القصر تارة، والإنجليز تارة أخرى؛ ضماناً للوصول إلى السلطة ما دامت كانت تعجز عن تحقيق ذلك بالوسائل الدستورية. وفى ظل ظروف كهذه، كانت علاقات الصداقة والمصاهرة والقربى أهم من الاتفاق السياسى أو الفكرى، وكانت الولاءات الشخصية أساس العلاقات السياسية، فهى أحزاب أشخاص لا أحزاب مبادئ. ومن ثم اتسم نشاطها بالانتهازية السياسية والبعد عن الجماهير، فهى أقرب إلى الأجنحة السياسية منها إلى الأحزاب.وهكذا نضع أيدينا على ملامح أزمة النظام السياسى الذى أقامه دستور 1923، فقد كان نظاماً أوتوقراطيا استبداديا يلبس مسوح الليبرالية ممثلة فيما اشتمل عليه الدستور من مبادئ تتعلق بالحريات العامة، ومن نصه على أن الأمة مصدر السلطات إذ سرعان ما كبلت الحريات العامة والشخصية بالأحكام العرفية التى سادت معظم الحقبة المسماة بالليبرالية – إلا سنوات قليلة معدودة – استخدمت دائماً لضرب المعارضة السياسية، وتكميم الصحافة، وحرمان الجماهير الشعبية؛ من العمال، والفلاحين، والطلبة من التعبير عن مصالحها بتقييد حريتها من ناحية، وتزوير إرادتها فى الانتخابات العامة من ناحية أخرى. وكان الملك هو المصدر الحقيقى للسلطات - وليس الأمة - يشاركه فيها الإنجليز من خلال حقيقة وجود جيش الاحتلال على أرض مصر، ومن خلال ما كفله لهم تصريح 28 فبراير 1922 من حق التدخل فى شئون مصر الدفاعية والتشريعية فى إطار التحفظات الأربعة الشهيرة، ثم من خلال ما تمتعت به "الحليفة بريطانيا" من مزايا وفرتها لها معاهدة 1936 بعد أبرامها.وكيفت الأحزاب السياسية نفسها مع هذا الوضع بما فيها الوفد، فجعلت من الوصول إلى السلطة هدفاً لها؛ لتحقيق الاستقلال الوطنى – كما تراه – بوسيلة واحدة هى المفاوضات، غير أن هدف الوصول إلى السلطة احتل – فى النهاية – مرتبة الصدارة على حساب الغاية المنشودة من ورائه (الاستقلال الوطنى)، وتجلى ذلك فى المهاترات التى حفلت بها الصحف الحزبية على مر تلك الحقبة، وفى ارتماء أحزاب الأقلية فى أحضان قصر عابدين (الملك) تارة، وتمسحهم بأعتاب قصر الدوبارة (دار المندوب السامى ثم السفارة البريطانية بعد 1936) تارة أخرى للحصول على جواز المرور إلى السلطة.
ولم يسلم الوفد من ذلك – أيضاً – فكان دخوله انتخابات 1924 بعد وفاق مع القصر، وكانت الانتخابات الحرة التى حملته إلى السلطة فى 1936 و 1950 نتيجة رضاء الإنجليز والملك عن إتاحة الفرصة له للعب دور محدود ينتهى بإقالة وزارته عندما يرى الطرفان أنه قد أدى دوره، أو عندما يحسان أنه قد هم بتجاوز ذلك الدور. وفرض الإنجليز حكومة الوفد على الملك فرضا (حادث 4 فبراير 1942) عندما اقتضت مصلحتهم وجوده فى السلطة.وفى ظل ذلك النظام السياسى، أخليت ساحة البرلمان والسلطة التنفيذية للشريحة العليا من البورجوازية المصرية من كبار الملاك الزراعيين وأصحاب الأعمال، فعملوا من خلال الهيئتين التشريعية والتنفيذية على رعاية مصالحهم الطبقية الضيقة وحدها، وقادوا سداً منيعاً فى وجه دعوات الإصلاح التى روج لها بعض من تميزوا ببعد النظر من مثقفى نفس الشريحة الاجتماعية، فرفضوا المقترحات التى قدمت لحل بعض جوانب المسألة الاجتماعية التى تفاقمت خلال تلك الفترة، ورأوا أن إبقاء الطبقات الفقيرة تعانى الفقر والجهل والمرض - ثالوث المسألة الاجتماعية عندئذ - أضمن لمصالحهم، فتقاعسوا عن محاولة إيجاد حلول للمسألة الاجتماعية التى ازدادت تفاقماً، وأدى ذلك إلى استفحال مظاهر الرفض الاجتماعى التى قوبلت –دائماً– بالقمع من جانب السلطة.ثانياً : تفاقم المسألة الاجتماعية :فقد ترتب على تبعية الاقتصاد المصرى الرأسمالى العالمى التى تحققت تدريجياً منذ منتصف القرن التاسع عشر وحسمت نهائياً عندما رُبط النقد المصرى بالجنيه الإسترلينى خلال الحرب العالمية الأولى، ترتب عليها تغيرات اجتماعية واقتصادية هامة، فنتج عن تحول الأرض الزراعية – أداة الإنتاج فى اقتصاد زراعى متخصص – إلى سلعة، تدعيم الأساس القانونى للملكية الفردية للأرض الزراعية، واتجهت الملكيات الزراعية نحو التركيز فى مساحات كبيرة وأيدى عدد محدود من كبار الملاك الذين ارتبطت مصالحهم بالسوق العالمية باعتبارهم يمثلون كبار منتجى القطن فى مصر. وحرص الاحتلال البريطانى على بقائهم داخل هذا الإطار، يردهم إليه كلما حاولوا تجاوزه باستثمار فائض أموالهم فى مشروعات غير زراعية.
ورغم المكاسب الكبيرة التى حققها كبار الملاك الزراعيين خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، نجدهم يبددونها فى شراء المزيد من الأراضى الزراعية التى ارتفعت أسعارها ارتفاعاً جنونياً دون أن تزيد بالمقابل طاقتها الإنتاجية، كما استخدموا جانباً كبيراً من تلك المكاسب فى تسديد ما عليهم من ديون عقارية للبنوك الأجنبية فهبطت الديون بمقدار الثلث، وكان من نتائج ذلك إعاقة فرصة تحقيق تراكم لرأس المال الوطنى بدرجة كافية عند نهاية الحرب العالمية الأولى.وعلى الجانب الآخر، تعرضت الملكيات الزراعية الصغيرة للتفتت والانقراض نتيجة الإرث حسب الشريعة الإسلامية، ونتيجة نزع ملكيتها لصالح المرابين الذين انتشروا فى الريف المصرى يقدمون القروض للفلاحين بفوائد باهظة، مستغلين حاجة الفلاحين إلى مصدر تمويل لزراعة القطن فى غيبة مصادر الائتمان الزراعى التى تخدم صغار الملاك، وكذلك ضعف الحركة التعاونية. فازدادت الملكيات الصغيرة تفتتاً وانخفضت نسبة ملكية الفرد فيها، وأخذت أعداد الفلاحين المعدمين تتزايد. فبينما كانت نسبة المعدمين من سكان الريف تبلغ 76% عام 1937، نجد أن نسبتهم قد بلغت 80% من جملة السكان عام 1952، مما يعكس بشاعة مشكلة الفقر فى الريف المصرى؛ وخاصة إذا وضعنا فى الاعتبار أن نسبة صغار الملاك ازدادت من 93% من عدد الملاك إلى 94% فى الفترة نفسها، ولم تزد ملكية الفرد منهم فى المتوسط عن 19.2% قيراط.وإذا القينا نظرة على الإحصاءات الخاصة بتوزيع الملكيات الزراعية وجدناها تنطق بالتناقض الكبير بين فئات الملاك أنفسهم الذين لا يمثلون سوى 24% من سكان الريف (عام 1937)، ونحو 20% من سكان الريف (عام 1952)؛ فكبار الملاك بينهم يبلغون نحو نصف المائة أو أقل قليلاً يملكون ما بين 38% من أراضى مصر الزراعية (عام 1937)، ونحو 35% فيها (عام 1952)، وبلغ متوسط الملكية الفردية فى هذه الشريحة 181 فداناً (عام 1937)، ونحو 186 فداناً (عام 1952). بينما الشريحة الأكثر عدداً من الملاك هم صغار الملاك الذين يملكون أقل من خمسة أفدنة ويمثلون نحو 94% من جملة عدد ملاك الأراضى الزراعية، ولا يملكون سوى ما يزيد قليلاً على 31% من مساحة الأرض الزراعية، ولا تتجاوز متوسط ملكية الفرد بينهم 21 قيراطا (عام 1937)، و 19.2قيراط (عام 1952). وبين شريحة ما دون النصف بالمائة وهذا القطاع العريض من صغار الملاك تقع غلالة رقيقة من متوسطى الملاك تكاد تصل نسبتهم إلى 6% من عدد الملاك يملكون نحو 30% من مساحة الأرض الزراعية بمتوسط لملكية الفرد نحو 12 فداناً، وحتى بين تلك الغلالة الرقيقة من متوسطى الملاك تبرز التناقضات بين شرائحها العليا وشرائحها الدنيا من حيث؛ العدد ونصيب كل شريحة من مساحة الملكيات الزراعية. فإذا وضعنا فى اعتبارنا نسبة المعدمين من سكان الريف التى تراوحت بين 76% و80% خلال الفترة، أدركنا مدى تأثير البنية الاقتصادية على الواقع الاجتماعى فى الريف المصرى عندئذ.
ففى إطار التبعية للاقتصاد العالمى الرأسمالى، والتخصص فى الإنتاج الزراعى كانت الأرض الزراعية المجال المتاح لاستثمار رؤوس الأموال، وخاصة أن الأجانب كانوا يهيمنون على الاقتصاد المصرى من خلال البنوك التى كانت أجنبية تماماً فيما عدا بنك مصر، وشركات التأمين والشركات التجارية، والبورصة، وشركات التعدين والصناعة كانت غالبيتها مملوكة للأجانب، فإذا وجد رأس مال مصرى فى تلك المجالات الاستثمارية كان له موقع الشريك الأصغر لرأس المال الأجنبى.وترتب على اعتبار الأرض مجالاً لاستثمار الأموال، وليس مجرد أداة للإنتاج الزراعى تجمع الأراضى الزراعية فى أيدى شريحة ما دون النصف بالمائة من أصحاب رؤوس الأموال من المصريين والأجانب على حد سواء، وحرمان المنتج الحقيقى - الفلاح - من أداة الإنتاج الزراعى (الأرض). فلم يعد هناك مجال أمام السواد الأعظم من سكان الريف المعدمين سوى العمل كأجراء لدى كبار الملاك، أو النزوح إلى المدن التماساً للرزق. كما لم يكن هناك مفر أمام صغار الملاك من أن يلجأوا إلى كبار الملاك لتمويل نشاطهم الزراعى، فيقترضون منهم أو من المرابين الذين انتشروا فى ربوع الريف المصرى، وكثيراً ما كانوا يعجزون عن الوفاء بديونهم، فيسلبون أرضهم، وينضمون بذلك إلى جيش المعدمين، أو يستأجرون أرضاً من المالك الكبير يفلحونها ويعيشون على فتات فائض إنتاجها بعد ما يستولى صاحب الأرض على معظم الريع.وبذلك يمكن القول أن السواد الأعظم من سكان الريف المصرى كانوا يشكلون "بروليتاريا ريفية" تعيش عند حد الكفاف، أو تحت ذلك الحد أحياناً فى أوقات الأزمات الاقتصادية الطاحنة التى تواترت على مصر، والتى وقع عبؤها على تلك الطبقة البائسة.
غير أن "البروليتاريا الحضرية" لم تكن أحسن حالاً، فقد تأثرت بدورها لما أصاب الصناعة من اتساع وانكماش تبعاً للظروف الاقتصادية التى مرت بها البلاد منذ الحرب العالمية الأولى، فقد حالت ظروف تلك الحرب دون استيراد المواد المصنعة فاتجه المستثمرون الأجانب إلى تصنيع بعض المواد الضرورية فى مصر، كما أدت متطلبات الحرب إلى إقامة عدد من الصناعات الصغيرة التى تخدم جيوش بريطانيا، وإلى تنشيط بعض الصناعات التى كانت قائمة منذ أوائل القرن. وشكلت فى عام 1917 لجنة حكومية لدراسة أحوال التجارة والصناعة، فقدمت تقريراً أوصت فيه الحكومة بتشجيع الصناعة، وحمايتها. وعلى كل ، كانت الحرب بمثابة حماية جمركية طبيعية ساعدت على ازدهار الصناعة فى مصر ازدهاراً نسبياً.وبانتهاء الحرب، انتهت هذه الحماية الطبيعية، وأخذت المؤسسات الصناعية تعانى من الصعوبات الاقتصادية؛ نتيجة انكماش حجم السوق المحلية بانتهاء الحرب ورحيل القوات التى استدعت ظروف الحرب حشدها فى مصر، وعودة حركة الواردات إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وتدفق المصنوعات الأوروبية من جديد على السوق المصرية بأسعار جعلت الإنتاج المحلى يعجز عن منافستها فى غيبة الحماية الجمركية. أضف إلى ذلك ضعف القوة الشرائية فى السوق المصرية؛ بسبب تفشى الفقر بين الجماهير المصرية وبقاء الأجور عند الحدود التى كانت عليها قبل الحرب، وذلك فى الوقت الذى ازدادت فيه تكاليف المعيشة إلى ما يربو على 100% مما كانت عليه قبل الحرب.وكان من الطبيعى أن تغلق بعض المصانع أبوابها وتعجز عن متابعة الإنتاج، بينما اتجه بعضها الآخر إلى محاولة خفض نفقات الإنتاج عن طريق انقاص العمالة وتخفيض الأجور وإطالة ساعات العمل، ولم يكن من المنتظر أن يقف العمال مكتوفى الأيدى فى مواجهة هذه الإجراءات فشملت البلاد حركة إضرابات عارمة حركها واقع العمال التعس، طالبت بإصدار تشريعات العمل التى تكفل تنظيم العلاقة بين العمل ورأس المال وحماية حقوق العمال، ووضع حد لحركة الفصل الجماعى التى انتشرت فى كل القطاعات الاقتصادية تقريباً، وزيادة الأجور، وإنقاص ساعات العمل، والاعتراف القانونى بنقابات العمال.
وكانت البروليتاريا المصرية بشقيها؛ الريفى والحضرى من أبشع الطبقات الاجتماعية معاناة من الأزمة الاقتصادية التى تفجرت فى العالم الرأسمالى فى نهاية العشرينات وامتد أثارها إلى مصر. فقد أدت السياسة التى انتهجتها الحكومة المصرية لمواجهة الأزمة الاقتصادية إلى وقوع موجة من الغلاء الفاحش أثقلت كاهل المستهلكين؛ وخاصة الطبقات الفقيرة فى المجتمع. إذ أدت السياسة الجمركية التى فرضتها الحكومة فى فبراير 1930 إلى رفع أسعار الكثير من السلع الضرورية، وحرمان المستهلك من الحصول على هذه السلع من الأسواق الخارجية بالأسعار الهابطة التى خلفتها الأزمة الاقتصادية العالمية. كما فتحت المجال أمام المنتجين والتجار المصريين – وخاصة فى ميدان السلع الاستهلاكية – لفرض الأسعار العالية والتلاعب بها بالتخزين والاحتكار الضار بالمستهلكين. وفى نفس الوقت ترتب على الأزمة الاقتصادية انخفاض فى معدلات الأجور، إذ يتضح من تقرير "هارولد بتلر" (خبير مكتب العمل الدولى) أن الأجر اليومى للعامل غير الفنى فى مارس 1932 كان يتراوح بين 7-12 قرشاً، بينما أجر العامل الفنى كان يتراوح بين 20-30 قرشا، وأجر العامل الحرفى بين 6-8 قروش يومياً، وبلغ أجر الحدث خمسة قروش فى الأسبوع.
أضف إلى ذلك تعرض عمال الصناعة والمرافق العامة للبطالة نتيجة الانكماش الاقتصادى الذى صاحب الأزمة، وما ترتب عليه من تخفيض حجم العمالة فى تلك المؤسسات.لذلك حفلت الثلاثينات بالإضرابات والشكاوى الجماعية من قطاعات واسعة ومتباينة من الطبقة العاملة بصورة تلقائية تفتقر إلى التنظيم، ودارت مطالبها حول إصدار تشريع العمل، ومواجهة آثار الأزمة الاقتصادية على الأسعار والأجور، والاعتراف القانونى بنقابات العمال، وضمان الحرية النقابية.ولقد واجهت البروليتاريا المصرية مصاعب جمة خلال الحرب العالمية الثانية؛ فالفلاحون فى الريف كانوا يعانون الكثير – على نحو ما رأينا – فعمال الزراعة لا يزيد أجر الواحد منهم عن قرشين أو ثلاثة قروش فى اليوم، ولا يحظون بفرصة عمل دائمة، وصغار مستأجرى الأراضى كانوا يعانون من ارتفاع قيمة الإيجارات الزراعية ارتفاعاً لا تبرره الاعتبارات الاقتصادية، بل إن حرية التعاقد على الإيجارات كانت مفقودة؛ نظراً لتضخم عدد سكان الريف والتنافس على التأجير، ولم يكن عمال الصناعة بالمدن أحسن حالاً من إخوانهم أهل الريف. حقيقة أن فرص العمل قد زادت أمامهم؛ بسبب كثرة المصانع وورش الإصلاح والصيانة، سواء منها المحلى أو التابع للقوات البريطانية، فانتعشت أحوال من كان يعمل منهم بالمؤسسات المتصلة بالمجهود الحربى التى اضطرت لتشغيل أكبر عدد من العمال للوفاء بمتطلبات الحرب، فكان انتعاشاً استثنائياً ارتبط بالظروف الاستثنائية التى أوجدتها الحرب. وعندما انخفض الإنتاج الصناعى فى أواخر الحرب، بدأت البطالة تنتشر بين العمال انتشاراً كبيراً، وعاد العمال ينظمون حركتهم؛ للمطالبة بتحسين ظروف العمل وشروطه.
وهكذا تفاقمت المسألة الاجتماعية تفاقماً كبيراً، نتيجة سوء توزيع الثروات وغياب السياسات الاجتماعية. ولا أدل على ذلك من استمرار الهبوط فى متوسط الدخل القومى للفرد من 9.6 جنيه فى العام خلال الفترة 1935-1939 إلى 9.4 جنيه فى العام خلال سنوات الحرب العالمية الثانية على أساس الأسعار الثابتة أى الأسعار الحقيقية مع استبعاد عامل الارتفاع الملحوظ فى الأسعار. فإذا أمعنا النظر فى كيفية توزيع الدخل القومى لوجدنا 61% من هذا الدخل يذهب إلى الرأسماليين وكبار الملاك. فقد قدر الدخل القومى عام 1954 بمبلغ 502 ملايين جنيه، ذهب منه ما يزيد على 308 ملايين جنيه على شكل إيجارات وأرباح وفوائد بينما نجد متوسط أجر العامل الزراعى فى العام لا يزيد على أربعة عشر جنيهاً وفق إحصاءات 1950. فإذا أخذنا فى الاعتبار ارتفاع تكاليف المعيشة لكان الأجر الحقيقى للعامل الزراعى لا يتجاوز ثلاثة جنيهات فى العام، كما أن متوسط الأجر السنوى للعامل الصناعى لا يزيد على خمسة وثلاثين جنيها؛ أى ثمانية جنيهات أجراً حقيقياً فى العام الواحد .وهذه الأرقام وحدها لا تكفى للدلالة على تفاقم المسألة الاجتماعية، فقد قدرت مصلحة الإحصاء (عام 1942) أن ما يلزم للأسرة المكونة من زوج وزوجة وأربعة أولاد لا يقل عن 439 قرشاً فى الشهر طعاماً وكساءً وفق الأسعار الرسمية لا أسعار السوق السوداء التى كانت منتشرة فى ذلك الوقت. ومع هذا، فقد كان متوسط الأجر الشهرى للعامل فى عام 1942 لا يتجاوز 262 قرشاً فى الشهر؛ أى أن الأغلبية الساحقة للبروليتاريا فى المدن كانت تعيش دون الحد الأدنى للكفاءات بمقدار النصف تقريباً، أما البروليتاريا الريفية فكانت أسوأ حالاً. هذا فى الوقت الذى ارتفعت فيه الأرباح الموزعة فى الشركات المساهمة فى مصر من 7.5 مليون جنيه عام 1942 إلى قرابة 20 مليوناً فى عام 1946، ذهب أغلبها إلى جيوب الرأسماليين الأجانب وشركائهم الصغار من المصريين، كما ارتفعت إيجارات الأراضى الزراعية من 35 مليون جنيه عام 1939 إلى 90 مليوناً عام 1945 ذهب معظمها إلى جيوب كبار ملاك الأراضى الزراعية، فضلاً عما حققه هؤلاء من أرباح طائلة من وراء بيع المحاصيل التى أنتجتها أراضيهم التى كانت تزرع على الذمة.
وترجع تلك الصورة القاتمة التى كانت عليها المسألة الاجتماعية فى مصر – عندئذ – إلى غياب السياسات الاجتماعية، فأداة الحكم فى مصر كانت جهاز تسلط واستبداد، وليست جهاز خدمات وحماية لمصالح المواطنين جميعاً، والحكام – على اختلاف مراتبهم – كانوا من كبار الملاك الزراعيين الذين استفادوا من ظاهرة تركز ملكية أداة الإنتاج الزراعى (الأرض) فى أيدى القلة، وكان معظمهم ينتمى إلى تلك العائلات التى كونت ملكياتها نتيجة اكتساب الحظوة لدى الحكام فى القرن الماضى، وطورت ملكياتها من خلال الاستفادة من الظروف الاقتصادية المتاحة خلال القرن الحالى. وهم رغم توفر الوعى الطبقى لديهم – بصورة غريزية – إلا أنهم كانوا يفتقرون إلى الوعى الاجتماعى، وهى آفة لازمت البورجوازية المصرية على مر تاريخها، ووصمتها بالأنانية وقصر النظر وعدم القدرة على تبين موطن الخطر على مصالحها، بل وبقائها فى حالة ترك الحبل على الغارب للتناقضات الاجتماعية لتعصف بالاستقرار الاجتماعى، وتهدد النظام الذى استفادت منه تلك الطبقة المتسلطة كثيراً. ولو توفر لديها الوعى الاجتماعى المفقود، لتبنت من السياسات الاجتماعية ما يخفف من وطأة المسألة الاجتماعية، ويضمن لها استمرار مصالحها.
ومن عجب أن سلطات الاحتلال البريطانى – وهى تتحمل جانباً كبيراً من مسئولية صياغة النظام الاقتصادى الذى استمر بصورة أو بأخرى حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952 – كانت تعى تماماً خطورة استمرار ظاهرة سوء توزيع الثروات بين المصريين من زاوية سياسية محضة، فقد كانت تنظر بعين القلق إلى ما قد يترتب على استمرار تلك الظاهرة من قلاقل اجتماعية قد تتخذ طابع العمل السياسى المعادى للوجود البريطانى فى مصر. لذلك تبنت سياسة ترمى إلى توسيع نطاق الملكيات المتوسطة وتشجيعها وتثبيت الملكيات الصغيرة والحيلولة دون استمرار تفتتها، فحاولت أن توفر مصادر الائتمان لصغار ومتوسطى الملاك، وتدخلت بالتشريع فى محاولة حل مشكلة ديون الفلاحين بإصدار قانون الخمسة أفدنة فى عام 1913.
وإذا كانت تلك المحاولات قد باءت بالفشل، فإن ذلك يرجع إلى عدم المساس بالبنية الاقتصادية التى أفرزت الظاهرة المطلوب علاجها، فتحقيق النجاح لمثل هذه السياسة كان يقتضى فتح مجالات جديدة أمام كبار الملاك المصريين والأجانب لاستثمار أموالهم بعيداً عن الزراعة، وهو ما لم يفكر فيه الإنجليز فى ظل التبعية الاقتصادية، ونظام تقسيم العمل الدولى الذى جعل من مصر وحدة إنتاج القطن. وهكذا باءت محاولات الإنجليز لتبنى سياسة اجتماعية بالفشل لتناقضها مع البنية الاقتصادية التى ساهم الإنجليز بقسط كبير من إقامتها.
وفيما عدا تلك المحاولات التى تمت على يد الاحتلال البريطانى، لا نجد اهتماماً من جانب السلطات الحاكمة برسم سياسة اجتماعية تهدف إلى تخفيف أعباء الحياة عن عاتق الطبقات الفقيرة فى المجتمع، وبالتالى التخفيف من حدة التناقضات الاجتماعية، فَتُرِكَ الحبل على الغارب لرأس المال الزراعى والصناعى دون ضابط أو رابط، فإذا تدخلت الحكومة بالتشريع كان ذلك لمصلحة الأغنياء وحرصاً على مصالحهم، كما حدث بالنسبة لتدخل الحكومة لتنظيم تجارة القطن خلال الحربين العالميتين، والتى أنقذت كبار المزارعين من خسائر محققة كانت ستحل بهم لولا تدخل الحكومة لمصلحتهم.أما بالنسبة للفقراء، فلا تتحرك الحكومة إلا إذا احتدمت الأمور وهددت بالانفجار أو كادت، عندئذ تضع النظم التى تفتقر إلى القوة الرادعة التى تضمن تنفيذها لصالح الفقراء، مثلما حدث بالنسبة للأوامر العسكرية التى صدرت خلال الحرب العالمية الثانية، ووضعت حدوداً لإيجارات الأراضى الزراعية ولكنها لم تنص على عقاب الملاك الذين يخالفونها، فلم يلتزم بها أحد. ولعل لجان التوفيق والتحكيم التى شكلت عام 1919؛ لفض المنازعات بين العمال وأصحاب الأعمال تقدم نموذجاً آخر لاستهانة الحكومة بمصالح العمال واهتمامها بمصالح رأس المال، فلم تكن قرارات تلك اللجان ملزمة لأحد.كما أن القوانين العمالية التى صدرت فى أواخر الثلاثينات وفى الأربعينات تحت ضغط الحركة العمالية فيما يخص الأجور وساعات العمل وإصابات العمل والتأمين كانت مليئة بالثغرات التى سهلت لأصحاب الأعمال فرص التحايل عليها، كما أن الغرامات التى نصت عليها فى حالة عدم التزام أصحاب الأعمال بها كانت على درجة من التفاهة شجعت أصحاب الأعمال على خرقها.
وقد يتبادر إلى الأذهان أن السلطة الوطنية عاجزة عن التدخل بالتشريع لوضع السياسات الاجتماعية الواجبة؛ بسبب الامتيازات الأجنبية وضرورة تصديق الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة على التشريعات حتى تسرى على المؤسسات الأجنبية والملاك الأجانب ،وما أكثرهم، ولكن ذلك لم يكن وارداً عند صناع القرار فى مصر، فهناك سياسات كان يمكن رسمها دون المساس بمصالح الأجانب، ودون حاجة للمرور عبر المحاذير التى تمثلها الامتيازات الأجنبية مثل : تحسين مياه الشرب فى الريف، ونشر التعليم الأساسى، والعناية الصحية بالمواطنين، والعمل على حل مشكلة الإسكان للعمال، وكلها مطالب رفعتها فصائل مختلفة داخل الحركة السياسية، ونادت بها أقلام الكتاب الذين كانوا ينشدون الأصلح، ورغم ذلك لم تجد صدى عند الحكومة.ومن يتتبع المناقشات التى دارت فى المؤتمر الزراعى الثالث المنعقد بالقاهرة (مارس أبريل 1949) يدرك مدى غياب الوعى الاجتماعى عند النخبة الحاكمة باعتبارها الممثل لمصالح البورجوازية المصرية. ففى محاضرة ألقاها حامد جودة بك - رئيس مجلس النواب السعدى - أمام المؤتمر، طالب كبار الملاك بتحسين أحوال عمال الزراعة بإقامة مساكن صحية لهم كتلك التى يعنون بإقامتها لمواشيهم، وأن يهتموا بعلاج الفلاح إذا مرض كما يهتمون بعلاج مواشيهم إذا أصابها المرض، وطرح نفس الأفكار فى مجلس النواب فلم يلق أذناً صاغية، بل كان عرضة للنقد من جانب بعض الصحف الحزبية بدعوى الترويج لمبادئ هدامة.ونظرة إلى المناقشات التى دارت بالبرلمان أثناء نظر قانون التعليم الأول فى مايو 1933؛ حيث اعتبر بعض النواب أن تعليم أولاد الفقراء "خطر اجتماعى هائل لا يمكن تصور مداه، لأن ذلك لن يؤدى إلى زيادة عدد المتعلمين العاطلين، بل يؤدى إلى ثورات نفسية"، وطالب بأن يقتصر التعليم على أبناء المؤسرين من أهل الريف، وعبر نائب آخر عن خشيته من أن يفسد التعليم أبناء الفلاحين، ويجعلهم يعتادون حياة المدينة، ويخرجون إلى حقولهم بالبلاطى والأحذية، ويركبون الدراجات، ويتطلعون إلى ركوب السيارات.وعندما طُرح قانون التعليم الإلزامى للمناقشة بالبرلمان (1937-1938) تجدد الحديث حول الخشية من إفساد التعليم للفلاح، وعدم جدوى تعليم أبناء الفلاح الجغرافيا والتاريخ بل يجب أن يتعلموا شيئاً عن أدوات الزراعة ودودة القطن وكيفية مقاومتها. وأبدى أحد النواب مخاوفه من أن يجد الفلاحين وقد "ارتدوا جلاليب مكوية أو طواقى بالأجور وأحذية ملونة" حتى لا يحول "أصحاب الجلاليب الزرقاء إلى أصحاب جلاليب مكوية".
وتكشف تلك المناقشات عن مدى غياب الوعى الاجتماعى عند كبار الملاك المصريين الذى جعلهم يرون إبقاء الطبقات الفقيرة تعيش فى فقر وجهل ومرض أضمن لمصالحها، وبالتالى وقفت ضد كل علاج يطرح لحل بعض جوانب المسألة الاجتماعية من خلال وضع مسكنات لها، فضلاً عن التفكير فى الحلول الجذرية.لذلك شهدت الحقبة الواقعة بين ثورتى 1919 و 1952 بعض مظاهر الرفض الاجتماعى من جانب الطبقات المسحوقة، وإذا كان الفلاحون قد جبلوا على الصبر وتحمل المشاق، فإن ضغوط الحياة كانت تدفعهم إلى التمرد على واقعهم الاجتماعى السيئ فى صورة هبات تلقائية غير منظمة، سرعان ما يتم القضاء عليها وإنزال العقوبات الشديدة بالمشاركين فيها دون الاهتمام بحل المشكلات التى قادت إلى تلك الحوادث. ولعل افتقار الفلاحين إلى القيادات السياسية الواعية، وإلى الخبرة بالنضال الجماعى والتنظيم، وغياب الوعى الطبقى بينهم، يشكل الأسباب الجوهرية لفشل الفلاحين فى تنظيم حركة للدفاع عن مصالحهم فى مواجهة كبار الملاك، وهى أسباب يرجع إليها أيضاً فشل الهبات التى قام بها الفلاحون فى الريف المصرى هنا وهناك كلما اشتدت وطأة التنظيم الاجتماعى وضاقت سبل العيش أمامهم .غير أن الطبقة العاملة كانت أكثر قدرة على التنظيم، وأكثر خبرة بأساليب النضال الجماعى من الفلاحين، وإن كانوا يفتقرون إلى التنظيم الجيد والقيادة القادرة الواعية دائماً والوعى الطبقى - أحياناً - قياساً بأبناء طبقتهم فى المجتمعات الرأسمالية الأوروبية، إلا أنهم كانوا أحسن حالاً من الفلاحين من حيث؛ التنظيم والحركة. بل كان استمرار تدفق أعداد كبيرة من الفلاحين – المهاجرين إلى المدن – بين صفوف الطبقة العاملة منذ الثلاثينات يشكل عامل ضعف يحد من فاعلية الحركة العمالية، ويقلل من قدراتها النضالية.وقد اتخذ الرفض الاجتماعى عند العمال مظاهر شتى من بينها : تنظيم الإضرابات وحركات الاحتجاج، واحتلال المصانع، وتحطيم الآلات. وكانت تلك المظاهر تتخذ شكل الظاهرة المستمرة فى أوقات الأزمات الاقتصادية الخانقة مثل : مطلع العشرينات عندما سرحت المصانع آلاف العمال بالإسكندرية والقاهرة ومدن قناة السويس، وأنقصت الأجور، فهب العمل بزعامة اتحادهم العام الذى استطاع أن ينظم حركة إضرابات عامة فى المراكز الصناعية الهامة، واحتل العمال المصانع حتى تجاب مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية، كذلك نظمت موجة عارمة من الإضرابات فى الثلاثينات خلال أزمة الكساد العالمى الكبير شملت المراكز الصناعية الهامة فى مصر، واتسمت بطابع العنف من جانب العمال وأصحاب الأعمال، وهى الحركة التى انفصلت خلال الحرب العالمية الثانية، وصدر تحت ضغطها قانون الاعتراف بالنقابات وقوانين عقد العمل الفردى، والتعويض عن إصابات العمل التى صدرت خلال الحرب.ولا يعنى ذلك أن ظاهرة الرفض الاجتماعى من جانب العمال كانت تقابلها السلطات بالاستجابة التامة لمطالبهم وتقديم التنازلات لهم، فقد كانت الحركة العمالية تواجه بمختلف أساليب القمع، ابتداء من حظر الاجتماعات وانتهاء بفض المظاهرات والإضرابات بإطلاق الرصاص على العمال، مروراً بإلقاء القادة النقابيين فى غياهب السجون، وفصلهم من أعمالهم، وتشريدهم وتطبيق قانون المشبوهين عليهم، ومحاولة استئناس حركتهم بإخضاعها لسيطرة البورجوازية.
ولم يأت الإحساس بخطورة المسألة الاجتماعية وبضرورة البحث عن حلول لها من جانب أحزاب النخبة الاجتماعية الحاكمة، وإنما جاء ذلك الإحساس من جانب بعض الهيئات السياسية ذات الطابع الايديولوجى التى ظهرت خلال الفترة وطرحت أفكارها دون أن تلعب دوراً فى الهيئات المهيمنة على صنع القرار عندئذ.وكان "الحزب الاشتراكى المصرى" فى طليعة تلك الهيئات السياسية التى اهتمت بالمسألة الاجتماعية، وضمن برنامجه الذى أعلن فى أغسطس 1921 – تصوراً لحلها؛ فنص البرنامج على أن الحزب يعمل على "استغلال جماعة لأخرى، والقضاء على التفرقة بين الطبقات فى الحقوق الطبيعية، وإخماد استبداد المستغلين والمضاربين، والسعى إلى إنشاء مجتمع اقتصادى يقوم على دعائم المبادئ الاشتراكية الآتية :
1- توجيه الثروة الطبيعية ومصادر الإنتاج العامة لمجموع الأمة.
2-التوزيع العادل للثروات على العاملين طبقاً لقانون الإنتاج والكفاية الشخصية.
3-إخماد المزاحمة الرأسمالية.
4-اعتبار التعليم حقاً شائعاً لجميع أفراد الأمة نساء ورجالاً بجعله مجانياً ملزماً.
5- العمل على تحسين حال العمال بتحسين الأجور وتقرير المكافآت والمعاشات فى حالة العجز عن العمل والبطالة.
6-العمل على تحرير المرأة الشرقية وتربيتها تربية سليمة منتجة.وقد قدم هذا البرنامج أول فكر مصرى لحل المسألة الاجتماعية يتسم بالروح التقدمية، وإن افتقر إلى تحديد وسائل تحقيقه تحديداً دقيقاً، فيما عدا النص على أنه سيعمل على تحقيق مبادئه؛ فالصراع الحزبى والدعوة السلمية مستعيناً على ذلك بإنشاء النقابات الزراعية والصناعية الحرة، ونقابات الإنتاج والاستهلاك، والإصلاح التشريعى عن طريق البرلمان، وبث الدعاية بطريق النشر والخطابة.
وجاءت المساهمة الثانية فى تقديم حلول لجوانب من المسألة الاجتماعية على يد "حزب العمال المصرى" الذى ضمن برنامجه الصادر فى سبتمبر 1931 النص على استصدار تشريع للعمال على أحدث المبادئ العصرية يشترك العمال فى وضعه، ويكفل حرية تأليف النقابات والاعتراف بها، وتحسين أجور العمال، وتحديد ساعات العمل، ومجانية العلاج، والتأمين ضد الحوادث والمرض والتقاعد والبطالة. كما نصت مبادئ الحزب على أنه يعمل على جعل التعليم الابتدائى مجانياً الزامياً لجميع المصريين من الجنسين، وزيادة نسبة المجانية فى التعليم الثانوى والعالى لأبناء الطبقة العاملة، وإلزام الحكومة والشركات بتأسيس مساكن صحية للعمال، وتشجيع الحركة التعاونية.
وقد نظر "حزب العمال المصرى" إلى المسألة الاجتماعية من زاوية عمال الصناعة والخدمات، وأغفل أمر عمال الزراعة إغفالاً تاماً، كما أسقط من اعتباره جوهر المشكلة المتمثل فى سوء توزيع الثروات، فلم يشر إليها من قريب أو بعيد، وهو موقف متكرر عند كل الهيئات السياسية البورجوازية التى أولت المسألة الاجتماعية جانباً من اهتمامها.ونجد نفس الموقف عند "جمعية مصر الفتاة" التى تناول برنامجها الصادر عام 1933 تحقيق العدالة الاجتماعية من زاوية الاهتمام بالفلاح والعمل على محو أميته وتقديم الخدمات الصحية له، وإقامة مساكن صحية مزودة بمياه الشرب النقية ومضاءة بالكهرباء لسكنى الفلاحين، تنظيم التأمين الاجتماعى لكل الأفراد فى الأمة، وتهيئة فرص العمل لجميع الأفراد.
وبذلك أغفلت الجمعية جوهر المسألة الاجتماعية، وهو التفاوت الكبير فى الثروات، وسوء توزيعها، واشتداد وطأة الفقر على غالبية المصريين، وراحت تقدم من خزانة أفكارها بعض المسكنات لمظاهر المسألة الاجتماعية من منطلق مفهوم محدود للعدالة الاجتماعية.ولم يكن "حزب الفلاح" أبعد نظرا من "مصر الفتاة" ، فأغفل بدوره جوهر المسألة الاجتماعية، وضمن برنامجه – الصادر فى ديسمبر 1938 – تصوراً لحلول تتعلق ببعض ظواهر تلك المسألة دون بلوغ جوهرها، فنص على محاربة الأمية بين صفوف الفلاحين، والنهوض بمستواهم الاجتماعى، وتنظيم مساكن لهم، وتوفير مياه الشرب الصحية لهم، والقضاء على الأمراض المنتشرة بينهم؛ بنشر الوعى الصحى، وتعميم المستشفيات القروية، ومحاربة هجرة الملاك وصغار الفلاحين للقرى. كما نص على محاربة الفقر والجوع والبؤس والبطالة بين صفوف الفلاحين، وذلك عن طريق تحديد العلاقات الإنتاجية فى شكل قانون للإيجارات والأجور، وتعويض الفلاحين عن إصابات العمل، ومكافآتهم فى نهاية الخدمة وتحديد ساعات العمل وأيام الراحة، ووضع نظام لفض المنازعات بينهم وبين أصحاب الأملاك، وتعميم وسائل التأمين الاجتماعى منهم، وتوسيع نطاق الملكيات الصغيرة، ونطاق التسليف الزراعى وتبسيط إجراءاته، وتعميم الجمعيات التعاونية بالقرى واستغلال الأراضى البور وتوزيعها على الفلاحين.
وحرص الحزب على تأكيد أن الإصلاح الذى يرمى إليه "يجب أن يتناسب مع مصلحة الفلاح ورفع مستواه، ولا يتعارض مع مصلحة المالك"؛ بمعنى الوصول إلى حل وسط للمشاكل القائمة بين الطرفين دون أن يؤدى ذلك إلى تحميل المالك أعباء ذات مال، وهو أمر صعب التحقيق .وجاءت أفكار "جماعة النهضة القومية" خلال الفترة من 1944-1946؛ لتقدم حلاً متصوراً للمسألة الاجتماعية من منظور ليبرالى، ومن منطلق الوعى الاجتماعى الذى توفر لدى النخبة التى كونت تلك الجماعة. فطالبت الجماعة برفع مستوى الفلاح بنشر الملكية الصغيرة والمحافظة عليها، وتقييد الملكية الكبيرة، وتنظيم الإيجارات الزراعية، ودعم الحركة التعاونية فى الإنتاج والاستهلاك، وحماية العمل الزراعى والصناعى بالتوسع فى تشريعات التأمين الاجتماعى، وتحديد أجور تكفل للعمال حياة مقبولة؛ وذلك كله بغرض إقامة توزان اجتماعى يحقق قدراً من الاستقرار الاجتماعى، وهو توازن لا يتم إلا إذا قدمت الشرائح العليا من البورجوازية تنازلاً – ولو جزئياً – عن بعض امتيازاتها، ولكن الجماعة ركزت على دور الدولة فى تحقيق الإصلاح الاجتماعى المنشود، ولم تشأ أن تلزم البورجوازية المصرية بتقديم التضحيات.
وساهم الماركسيون – على اختلاف تنظيماتهم – فى تقديم الأفكار التى طالبت بالإصلاح الزراعى وتأميم الاحتكارات الرأسمالية، وتوسيع دائرة تشريع العمل ليشمل الفلاحين، وتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية للطبقات الكادحة، وتحرير الاقتصاد المصرى من السيطرة الأجنبية، مع بعض التفاوت فى الطرح والتحليل للمسألة الاجتماعية.ولكن كل تلك الأفكار الإصلاحية على اختلاف توجهاتها ومنطلقاتها إنما كانت تدق أجراس الخطر، وتحاول أن تنبه الأذهان إلى صعوبة استمرار الخلل الناجم عن التطور الاجتماعى منذ الحرب العالمية الأولى دون حل، وتحذر من ثورة اجتماعية لا تبقى ولا تذر. ولكن كل تلك الدعوات ظلت صرخة فى واد؛ لافتقار النخبة السياسية الحاكمة من البورجوازية المصرية إلى الوعى الاجتماعى، وإغراقها فى الأنانية ومعاناتها قصر النظر السياسى، وكان تفاقم المسألة الاجتماعية خطوة واسعة على الطريق إلى ثورة يوليو 1952.ثالثاً: جماعات الرفض السياسى :واكب نشاط الأحزاب السياسية الليبرالية التى شاركت فى الحياة النيابية والسلطة فى ظل دستور 1923، ظهور ثلاث من الحركات السياسية ذات التوجهات الايديولوجية لعبت أدواراً متفاوتة على الساحة السياسية قبل ثورة 23 يوليو 1952، وظلت اثنتان منها تمارسان نشاطا متباينا فى الحجم والتأثير بعد الثورة، وأن كان ذلك خارج إطار الشرعية السياسية.
ويرجع ظهور تلك الحركات إلى عوامل داخلية وأخرى خارجية، ويأتى فى مقدمة العوامل الداخلية الشعور بالإحباط الذى عانى منه شباب ثورة 1919، فبعد كل ما قدموه من تضحيات وشهداء من أجل تحقيق الاستقلال التام، جاء تصريح 28 فبراير 1922 ليسلب الاستقلال مضمونه الحقيقى بالإبقاء على جيش الاحتلال البريطانى فى مصر. وبالتحفظات الأربعة الشهيرة التى لم تغير شيئاً من جوهر الهيمنة البريطانية على مصر. كما أن الواقع الاقتصادى والاجتماعى الذى عاشته مصر خلال الحرب الأولى وكان وراء انفجار ثورة الجماهير المصرية عام 1919، بعد ما بلغت معاناة العمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة حدا يفوق طاقاتها على التحمل، هذا الواقع الاقتصادى والاجتماعى لم يتغير بعد الثورة. فقد استحكمت - على نحو ما رأينا- حلقات الأزمة الاجتماعية : فالفوارق شاسعة بين الملاك والمعدمين، والبطالة تعض بأنيابها جيشاً جراراً من العمال العاطلين، وظروف العمل وشروطه بلغت درجة كبيرة من التدنى فى غيبة التشريعات التى تحفظ للعمل حقوقهم، وتعترف لهم بحق التنظيم النقابى والسياسات الاجتماعية مصطلح مجهول فى السياسة المصرية، وشباك التبعية الاقتصادية تنصب بأحكام حول مصر، فيمتص الأجانب خيرات البلاد، ويعيشون فيها فى وضع ممتاز، بينما ظل المصريون غرباء فى بلادهم. فالاستقلال المنشود كان سراباً متبدداً على موائد المفاوضات، والعدل الاجتماعى كان حلماً بعيد المنال. ومن ثم شغل الشباب المصرى المتعلم من أبناء البورجوازية الصغيرة – على وجه الخصوص – بمستقبل بلاده، انطلاقاً من رفض النظام السياسى الذى أقامه دستور 1923، وراح يبحث لبلاده عن طريق للنهضة، فتعددت اجتهاداته فى الاختيار بين نماذج مختلفة أفرزتها توجهات أيديولوجية متباينة بعضها يضرب بجذوره فى تراث الماضى الإسلامى، وبعضها الآخر يستلهم بعض النماذج التى عرفت طريقها إلى التطبيق فى الغرب. ورغم اختلاف توجهات كل جماعة من أبناء ذلك الجيل من شباب مصر، فقد اتفقوا جميعاً على رفض ما أسفرت عنه ثورة 1919 من نتائج سياسية واجتماعية، وسعوا للبحث عن بديل للنظام السياسى الذى وضع أسسه دستور 1923، وخاصة أن قيادة العمل السياسى - الوفد وغيره من الأحزاب- أغفلت وضع تصور لمشروع نهضوى فى برامجها، واكتفت بالتركيز على استكمال الاستقلال السياسى عن طريق التفاوض.أما العوامل الخارجية التى هيأت المناخ الملائم لظهور الحركات السياسية ذات التوجهات الايديولوجية فى مصر، فتتمثل فى متغيرات الحرب العالمية الأولى فى الدائرة القريبة – نسبياً – من مصر. وتأتى ثورة أكتوبر 1917 فى روسيا فى مقدمة تلك المتغيرات التى كان لها صداها فى مصر، فانكبت نخبة من الشباب المصرى على دراسة الفكر الاشتراكى بغية التعرف عليه، فى محاولة للبحث عن علاج لما تعانيه مصر من أمراض اجتماعية، وساهموا – فيما بعد – فى تأسيس "الحزب الاشتراكى المصرى".وتمثل التغير الثانى فى استيلاء الفاشيين على السلطة فى إيطاليا عام 1922، وما ترتب على ذلك من علو المد الفاشى فى أوروبا ومناطق أخرى من العالم حتى بلغ ذروته بوصول النازيين إلى السلطة فى ألمانيا عام 1933. فجلب التطرف القومى الذى تميزت به الفاشية لب فريق من الشباب المصرى الذى أعجب مما حققته الفاشية من إنجازات اقتصادية براقة، وما صاحب تنظيمها الحزبى من ميليشيات شبه عسكرية، فأقاموا تنظيماً سياسياً استلهم أفكار الفاشية وممارستها السياسية.أما التغير الثالث، فتمثل فى إلغاء الخلافة الإسلامية على يد كمال أتاتورك عام 1924، وما تمخض عنه من نتائج – فى العالم الإسلامى عامة ومصر خاصة – تأرجحت بين مشاعر الجزع والدعوة إلى أحياء الخلافة عند البعض، ومشاعر الارتياح والدعوة إلى العلمانية عند البعض الآخر، وما ترتب على ذلك من ردود أفعال من جانب فريق من الشباب رأى السلامة فى التمسك بالتراث وصياغة النظام الاجتماعى على هديه.ونتيجة تفاعل العوامل الداخلية والخارجية مع بعضها البعض، ظهرت تباعاً حركات ثلاث هى : الحركة الاشتراكية، والإخوان المسلمين، ثم مصر الفتاة، على يد شباب البورجوازية الوطنية الصغيرة، اتخذت قواعدها بين صفوف تلك الشريحة الاجتماعية (مع بعض الاستثناءات بالنسبة للحركة الاشتراكية على وجه الخصوص).
ولا يتسع المقام هنا لرصد إطار كل حركة من تلك الحركات من حيث التوجهات الإيديولوجية والبرامج السياسية التى طرحتها، وبناؤها التنظيمى، ودورها على الساحة السياسية، اكتفاء بإلقاء نظرة عامة على السمات الرئيسية لها.فقد اتفقت الحركات الثلاث فى استنادها إلى أبناء البورجوازية الصغيرة بالدرجة الأولى؛ وخاصة شباب تلك الشريحة الاجتماعية من الطلاب والمثقفين والمهنيين والتجار ومتوسطى الملاك. وجاء انتماء بعض أفراد البورجوازية الكبيرة إلى تلك الحركات استثناء، كما كان انتماء الطبقة العاملة إليها لا يتجاوز أفراد قلائل، وحتى الجماعات الماركسية كان وجود العمال فى تنظيماتها محدوداً مقارنةً بالوجود المكثف لأبناء البورجوازية الصغيرة.وتجاوزت الحركات الايديولوجية الثلاث الإطار الضيق للعمل السياسى كما حددته الأحزاب الليبرالية، وهو التركيز على استكمال الاستقلال الوطنى بأسلوب التفاوض، وإهمال المسألة الاجتماعية. فحاولت تلك الحركات التماس مشروع نهضوى يرتكز على التحرر الوطنى، ويتجاوز الإطار الضيق للعمل السياسى فى ظل الوفد والأحزاب التقليدية الأخرى، ومن ثم كان موقفها موقف الرفض لتلك الأحزاب ولأسلوب عملها، وعدم الرضا بما أسفرت عنه ثورة 1919 من نتائج لا تخدم مصالح الجماهير الشعبية التى كان أبناء البورجوازية الصغيرة يعبرون عنها.
ونظرة إلى بداية تلك الحركات تؤكد لنا ذلك، فالحركة الاشتراكية تبدأ مع بداية الأخذ بمبدأ التفاوض ومع بداية أولى حلقاته؛ تعبيراً عن رفض أسلوب نخبة البورجوازية المصرية فى معالجة القضية الوطنية، وطرحاً لمشروع سياسي بديل أبعد مدى وأكثر مراعاة للواقع المصرى، وحركة الإخوان المسلمين تبدأ مع اختفاء الخلافة الإسلامية واختفاء شخصية سعد زغلول الكارزمية؛ لتبحث عن صيغة لإحياء الخلافة وإقامة حكومة إسلامية، ولتقدم بديلا دينياً إسلامياً للتجربة الليبرالية الوليدة فى محاولة لتقويض أسسها العلمانية بغض النظر عن مدى نجاحها أو فشلها فى طرح الإطار الجديد. وحركة "مصر الفتاة" تبدأ مع كبوة التجربة الليبرالية فى إطار الأزمة الاقتصادية العالمية التى طحنت الطبقات الكادحة طحناً؛ وخاصة العمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة.وإذا كانت الحركات الثلاث قد اتفقت جميعا فى عدم تمثلها للأطر المرجعية التى استمدت منها أفكارها، وعدم توصلها إلى صيغة رصينة لمشروع نهضوى يتلاءم مع الواقع المصرى الاقتصادى والاجتماعى، فمرد ذلك إلى أن قادتها كانوا شبابا بلغوا الحلم وشيكا، ولم تتوافر لديهم الخبرات النظرية والتنظيمية الضرورية لإقامة مثل هذه الحركات على أسس قومية، واستلهموا أيديولوجيات أفرزتها ظروف مجتمعات يختلف واقعها عن واقع المجتمع المصرى، فُتنوا بها دون دراسة كافية، ومن ثم كان التناقض والغموض الذى حفلت به برامجها. وحتى أولئك الذين استلهموا التراث الإسلامى لم يسلموا من ذلك، فعاشوا عالة على الأفكار السلفية المطروحة من قبل فى ظروف تباينت عن ظروف المجتمع المصرى عندئذ تبايناً تاماً، فكانوا بذلك يسيرون عكس حركة المجتمع.وقد لعبت تلك الحركات التى انطلقت من رفض النظام السياسى الذى أقامه دستور 1923 – على اختلاف توجهاتها – دوراً هاماً فى صياغة الأفكار والمبادئ الأساسية التى نادت بها ثورة 23 يوليو 1952 وعملت على تطبيقها، نتيجة ما قدمته تلك الحركات للتراث السياسى المصرى من مساهمات فكرية كان لها أثرها فى صياغة أفكار جيل الشباب الذى بدأ وعيه السياسى يكتمل فى أواخر الثلاثينات، جيل صناع ثورة يوليو 1952.وهكذا حددت التطورات التى شهدتها مصر فى أعقاب مارس 1919 معالم الطريق إلى ثورة 23 يوليو 1952، فقد بلغت أزمة النظام السياسى ذروتها عندما عجز عن تحقيق الأهداف الوطنية التى تطلعت إليها الجماهير المصرية عندما خرجت ثائرة على الاحتلال الأجنبى والظلم الاجتماعى معا، فظل للإنجليز وجود عسكرى فى مصر، وهيمنة على مقدراتها السياسية، وظلت الديمقراطية الاجتماعية حلماً بعيد المنال عندما تركت المسألة الاجتماعية تتفاقم. وبات واضحاً أن النخبة السياسية الحاكمة غير مهيأة تماماً لإعادة صياغة الواقع المصرى فى إطار مشروع نهضوى وطنى يحقق أمل الجماهير فى التحرر الوطنى والعدل الاجتماعى، وهو ما دارت حوله اجتهادات بعض دعاة الإصلاح وحركات الرفض السياسى حتى قدم الجيش المصرى الطليعة الثورية من الضباط الأحرار التى أطاحت بالنظام السياسى الذى صاغه دستور 1923، ليحل محله نظام سياسى جديد سعى لتحقيق أمل الجماهير المصرية فى التحرر الوطنى والعدل الاجتماعى فى مواجهة أعتى التحديات على الصعيدين الداخلى والخارجى .



هذه الدراسة قام بها المشاركون:
أ. أحمد عبيد د. على ليله
د. جمال معوض شقرة
أ. عونى فرسخ
د. حسن نافعة
أ. محسن عوض
د. رؤوف عباس حامد
د. محمد السعيد إدريس
د. صفوت حاتم
أ. محمد سيد أحمد
أ. طارق البشرى
د. محمد محمود الإمام
د. عاصم الدسوقى
د. مصطفى علوى سيف
وحدة دراسات الثورة المصرية" بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

ليست هناك تعليقات: