الأحد، 20 أبريل 2008

كتاب كليلة ودمنة (1)

هو مجموعة من الحكايات تدور على ألسنة الحيوانات يحكيها الفيلسوف بيدبا للملك دبشليم، ويبث من خلالها ابن المقفع آراءه السياسية في المنهج القويم للحُكْم، والمشهور أن ابن المقفع ترجم هذه الحكايات عن الفارسية، وأنها هندية الأصل، لكن أبحاثًا كثيرة حديثة تؤكد أن كليلة ودمنة من تأليف ابن المقفع وليست مجرد ترجمة، كما أن بعض هذه الأبحاث يعتقد أن الآراء التي أوردها ابن المقفع في كليلة ودمنة كانت أحد الأسباب المباشرة لنهايته الأليمة،
باب مقدمة الكتاب:
قدمها بهنود بن سحوان ويعرف بعلي بن الشاه الفارسي. ذكر فيها السبب الذي من أجله عمل بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة لدبشليم ملك الهند كتابه الذي سماه كليلة ودمنة؛ وجعله على ألسن البهائم والطير صيانةً لغرضه فيه من العوام، وضنا بما ضمنه عن الطغام؛ وتنزيهاً للحكمة وفنونها، ومحاسنها وعيونها؛ إذ هي للفيلسوف مندوحة، ولخاطره مفتوحة؛ ولمحبيها تثقي، ولطالبيها تشريف.
وذكر السبب الذي من أجله أنفذ كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز ملك الفرص بروزيه رأس الأطباء إلى بلاد الهند كتاب كليلة ودمنة؛ وما كان من تلطف بروزيه عند دخوله إلى الهند؛ حتى حضر إليه الرجل الذي استنسخه له سراً من خزانة الملك ليلاً، مع ما وجد من كتب علماء الهند.
وقد ذكر الذي كان من بعثه بروزيه إلى مملكة الهند لأجل نقل هذا الكتاب؛ وذكر فيها ما يلزم مطالعه من إتقان قراءته والقيام بدراسته والنظر إلى باطن كلامه؛ وأنه إن لم يكن كذلك لك يحصل على الغاية منه.
وذكر فيها حضور بروزيه قراءة الكتاب جهراً.
وقد ذكر السبب الذي من اجله وضع بزرجمهر باباً مفرداً يسمى باب بروزيه التطبب، وذكر فيه شأن بروزيه من أول أمره وآن مولده إلى أن بلغ التأديب، وأحب الحكمة واعتبر في أقسامها. وجعله قبل باب الأسد والثور الذي هو أول الكتاب.قال علي بن الشاه الفارسي: كان السبب الذي من أجله وضع بيدبا الفيلسوف لدبشليم ملك الهند كتاب كليلة ودمنة، أن الإسكندر ذا القرنين الرومي لما فرغ من أمر الملوك الذين كانوا بناحية المغرب، سار يريد ملوك الشرق من الفرس وغيرهم؛ فلم يزل يحارب من نازعه ويواقع من واقعه، ويسالم من وادعه من ملوك الفرس، وهم الطبقة الأولى، حتى ظهر عليهم وقهر من ناوأه وتغلب على من حاربه؛ فتفرقوا طرائق وتمزقوا حزائق ، فتوجه بالجنود نحو بلاد الصين؛ فبدأ في طريقه بملك الهند ليدعوه إلى طاعته والدخول في ملته وولايته.
وكان على الهند في ذلك الزمان ملك ذو سطوة وبأس وقوة ومراس، يقال له فورٌ. فلما بلغه إقبال ذي القرنين نحوه تأهب لمحاربته، واستعد لمجاذبته؛ وشم إليه أطرافه، وجد في التألب عليه؛ وجمع له العدة في أسرع مدة من الفيلة المعدة للحروب، والسباع المضراة بالوثوب؛ مع الخيول المسرجة والسيوف القواطع، والحراب اللوامع. فلما قرب ذو القرنين من فور الهندي وبلغه ما أعد له من الخيل التي كأنها قطع الليل مما لم يلقه بمثله أحد من الملوك الذين كانوا في الأقاليم، تخوف ذو القرنين من تقصير يقع به إن عجل المبارزة.
وكان ذو القرنين رجلاً ذا حيل ومكايد، مع حسن تدبير وتجربة، فرأى إعمال الحيلة والتمهل، واحتفر خندقاً على عسكره؛ وأقام بمكانه لاستنباط الحيلة والتدبير لأمره؛ وكيف ينبغي له أي يقدم على الإيقاع به، فاستدعى بالمنجمين، وأمرهم بالاختيار ليوم موافق تكون له فيه سعادة لمحاربة ملك الهند والنصرة عليه. فاشتغلوا بذلك.
وكان ذو القرنين لا يمر بمدينة إلا أخذ الصناع المشهورين من صناعها بالحذق من كل صنف. فأنتجت له همته ودلته فطنته أن يتقدم إلى الصناع الذين معه في أن يصنعوا خيلاً من نحاس مجوفة، عليها تماثيل من الرجال، على بكرٍ تجري، إذا دفعت مرت سراعاً. وأمر إذا فرغوا منها أن تحشى أجوافها بالنفط والكبريت؛ وتلبس وتقدم أمام الصف في القلب. ووقت ما يلتقي الجمعان تضرم فيها النيران. فإن الفيلة إذا لفت خراطيمها على الفرسان وهي حامية، ولت هاربة، وأوعز إلى الصناع بالتشمير والانكماش والفراغ منها. فجدوا في ذلك وعجلوا. وقرب أيضاً وقت اختيار المنجمين.
فأعاد ذو القرنين رسله إلى فور يدعوه إليه من طاعته والإذعان لدولته. فأجاب جواب مصر على مصرٍ على مخالفته، مقيمٍ على محاربته. فلما رأى ذو القرنين عزيمته سار إليه بأهبته؛ وقدم فور الفيلة أمامه، ودفعت الرجال تلك الخيل وتماثيل الفرسان؛ فأقبلت الفيلة نحوها، ولفت خراطيمها عليها. فلما أحست بالحرارة ألقت من كان عليها، وداستهم تحت أرجلها، ومضت مهزومة هاربة، لا تلوي على شيءٍ ولا تمر بأحدٍ إلا وطئته. وتقطع فورٍ وجمعه، وتبعهم أصحاب الإسكندر؛ وأثخنوا فيهم الجراح.
وصاح الإسكندر: يا ملك الهند أبرز إلينا، وأبق على عدتك وعيالك، ولا تحملهم على الفناء. فإنه ليس من المروءة أي يرمي الملك بعدته في المهالك المتلفة والمواضع المجحفة، بل يقيهم بماله ويدافع عنهم بنفسه. فأبرز إلى ودع الجند، فأينا قهر صاحبه فهو الأسعد. فلما سمع فور من ذي القرنين ذلك الكلام دعته نفسه لملاقاته طمعاً فيه؛ وظن ذلك فرصةً. فبرز إليه الإسكندر فتجاولا على ظهري فرسيهما ساعات من النهار ليس يلقى أحدهما من صاحبه فرصةً؛ ولم يزالا يتعاركان. فلما أعيا الإسكندر أمره ولم يجد له فرصةً ولا حيلة أوقع ذو القرنين في عسكره صيحة عظيمة ارتجت لها الأرض والعساكر؛ فالتفت فورٌ عندما سمع الزعقة، وظنها مكيدة في عسكره؛ فعاجله ذو القرنين بضربة أمالته عن سرجه، وتبعه بأخرى؛ فوقع على الأرض. فلما رأت الهند ما نزل بهم، وما صار إليه ملكهم؛ حملوا على الإسكندر فقاتلوه قتالاً أحبوا معه الموت. فوعدهم من نفسه الإحسان، ومنحه الله أكتافهم؛ فاستولى على بلادهم، وملك عليه رجلاً من ثقاته. وأقام بالهند حتى استوثق مما أراد من أمرهم واتفاق كلمتهم؛ ثم انصرف عن الهند وخلف ذلك الرجل عليهم. مضى متوجهاً نحو ما قصد له.
فلما بعد ذو القرنين عن الهند بجيوشه، تغيرت الهند عما كانوا عليه من طاعة الرجل الذي خلفه عليهم؛ وقالوا ليس يصلح للسياسة ولا ترضى الخاصة والعامة أن يملكوا عليهم رجلاً ليس هو منهم ولا من أهل بيوتهم. فإنه لا يزال يستذلهم ويستقلهم. واجتمعوا يملكون عليهم رجلاً من أولاد ملوكهم؛ فملكوا عليهم ملكاً يقال له دبشليم؛ وخلعوا الرجل الذي كان خلفه عليهم الإسكندر. فلما استوسق له الأمر، واستقر له الملك. وكان مع ذلك مؤيداً مظفراً منصوراً. فهابته الرعية. فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة، عبث بالرعية واستصغر أمرهم وأساء السيرة فيهم. وكان لا ترتقي حاله إلا ازداد عتواً. فمكث على ذلك برهة من دهره. وكان في زمانه رحل فيلسوف من البراهمة، فاضلٌ حكيمٌ، يعرف بفضله، ويرجع في الأمور إلى قوله، يقال له بيدبا.
فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية، فكر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه، ورده إلى العدل والإنصاف؛ فجمع لذلك تلاميذه، وقال: أتعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه? اعلموا إني أطلت الفكرة في دبشليم وما هو عليه من الخروج عن العدل ولزوم الشر ورداءة السيرة وسوء العشرة مع الرعية؛ ونحن ما نروض أنفسنا لمثل هذه الأمور إذا ظهرت من الملوك، غلا لنردهم إلى فعل الخير ولزوم العدل، ومتى أغفلنا ذلك وأهملناه لزم وقوع المكروه بنا، وبلوغ المحذورات إلينا؛ غذ كنا في أنفس الجهال أجهل منهم؛ وفي العيون عندهم أقل منهم. وليس الرأي عندي الجلاء عن الوطن. ولا يسعنا في حكمتنا إبقاؤه على ما هو عليه من سوء السيرة وقبح الطريقة. ولا يمكننا مجاهدته بغير ألسنتنا. ولو ذهبنا إلى أن نستعين بغيرنا لم تتهيأ لنا معاندته. وإن أحس منا بمحالفته وإنكارنا سوء سيرته كان في ذلك بوارنا. وقد تعلمون أن مجاورة السبع والكلب والحية والثور على طيب الوطن ونضارة العيش لغدرٍ بالنفس. وإن الفيلسوف لحقيقٌ أن تكون همته مصروفة إلى ما يحصن به نفسه من نوازل المكروه ولواحق المحذور؛ ويدفع المخوف لاستجلاب المحبوب.
ولقد كنت أسمع أن فيلسوفاً كتب لتلميذه يقول: إن مجاور رجال السوء ومصاحبهم كراكب البحر: إن سلم من الغرق لم يسلم من المخاوف. فإذا هو أورد نفسه موارد المهلكات ومصادر المخوفات، عد من الحمير التي لا نفس لها. لأن الحيوان البهيمية قد خصت في طبائعها بمعرفة ما تكتسب به النفع وتتوقى المكروه: وذلك أننا لم نرها تورد أنفسها مورداً فيه هلكتها. وأنها متى أشرفت على مورد مهلك لها، مالت بطبائعها التي ركبت فيها - شحاً بأنفسها وصيانةً لها - إلى النفور والتباعد عنه، وقد جمعتكم لهذا الأمر: لأنكم أسرتي ومكان سري وموضع معرفتي؛ وبكم أعتضد، وعليكم أعتمد. فإن الوحيد في نفسه والمنفرد برأيه حيث كان فهو ضائع ولا ناصر له.
على أن العاقل قد يبلغ بحيلته ما لا يبلغ بالخيل والجنود. والمثل في ذلك أن قنبرةً اتخذت أدخيةً وباضت فيها على طريق الفيل؛ وكان للفيل مشرب يتردد إليه. فمر ذات يوم على عادته ليرد مورده فوطئ عش القنبرة؛ وهشم بيضها وقتل فراخها. فلما نظرت ما ساءها، علمت أن الذي نالها من الفيل لا من غيره. فطارت فوقعت على رأسه باكيةً؛ ثم قالت: أيها الملك لم هشمت بيضي وقتلت فراخي، وأنا في جوارك? أفعلت هذا استصغاراً منك لأمري واحتقاراً لشأني.
قال: هو الذي حملني على ذلك. فتركته وانصرفت إلى جماعة الطير؛ فشكت إليها ما نالها من الفيل. فقلن لها وما عسى أن نبلغ منه ونحن الطيور? فقالت للعقاعق والغربان: أحب منكن أن تصرن معي إليه فتفقأن عينيه؛ فإني أحتال له بعد ذلك حيلةً أخرى. فأجبنها إلى ذلك، وذهبن إلى الفيل، ولم يزلن ينقرن عينيه حتى ذهبن بهما. وبقي لا يهتدي إلى طريق مطعمه ومشربه إلا ما يلقمه من موضعه. فلما علمت ذلك منه، جاءت إلى غدير فيه ضفادع كثير، فشكت إليها ما نالها من الفيل.قالت الضفادع: ما حيلتنا نحن في عظم الفيل? وأين نبلغ منه.
قالت: احب منكن أن تصرن معي إلى وهدةٍ قريبةٍ منه، فتنققن فيها، وتضججن. فإنه إذا سمع أصواتكن لم يشك في الماء فيهوي فيها. فأجبنها إلى ذلك؛ واجتمعن في الهاوية، فسمع الفيل نقيق الضفادع، وقد اجهده العطش، فأقبل حتى وقع في الوهدة، فارتطم فيها. وجاءت القنبرة ترفرف على رأسه؛ وقالت: أيها الطاغي المغتر بقوته المحتقر لأمري، كيف رأيت عظم حيلتي مع صغر جثتي عند عظم جثتك وصغر همتك? فليشر كل واحد منكم بما يسنح له من الرأي.
قالوا بأجمعهم: أيها الفيلسوف الفاضل، والحكيم العادل، أنت المقدم فينا، والفاضل علينا، وما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك، وفهمنا عند فهمك? غير أننا نعلم أن السباحة في الماء مع التماسيح تغريرٌ؛ والذنب فيه لمن دخل عليه في موضعه. والذي يستخرج السم من ناب الحية فيبتلعه ليجربه جانٍ على نفسه، فليس الذنب للحية. ومن دخل على الأسد في غابته لم يأمن من وثبته. وهذا الملك لم تفزعه النوائب، ولم تؤدبه التجارب. ولسنا نأمن عليك ولا على أنفسنا سطوته وإنا نخاف عليك من سورته ومبادرته بسوءٍ إذا لقيته بغير ما يحب.
فقال الحكيم بيدبا: لعمري لقد قلتم فأحسنتم، لكن ذا الرأي الحازم لا يدع أن يشاور من هو دونه أو فوقه في المنزلة. والرأي الفرد لا يكتفي به في الخاصة ولا ينتفع به في العامة. وقد صحت عزيمتي على لقاء دبشليم. وقد سمعت مقالتكم؛ وتبين لي نصيحتكم والإشفاق علي وعليكم. غير أني قد رأيت رأياً وعزمت عزماً؛ وستعرفون حديثي عند الملك ومجاوبتي إياه فإذا اتصل بكم خروجي من عنده فاجتمعوا إلي. وصرفهم يدعون له بالسلامة.
ثم إن بيدبا اختار يوماً للدخول على الملك؛ حتى إذا كان ذلك الوقت ألقى عليه مسوحة وهي لباس البراهمة؛ وقصد باب الملك، وسأل عن صاحب إذنه وأرشد إليه وسلم عليه؛ وأعلمه قال لي: إني رجل قصدت الملك في نصيحةٍ. فدخل الآذن على الملك في وقته؛ وقال: بالباب رجلٌ من البراهمة يقال له بيدبا، ذكر أن معه للملك نصيحة. فأذن له؛ فدخل ووقف بين يديه وكفر وسجد له واستوى قائماً وسكت.
وفكر دبشليم في سكوته؛ وقال: إن هذا لم يقصدنا إلا لأمرين: إما لالتماس شيءٍ منا يصلح به حاله، وإما لأمر لحقه فلم تكن له به طاقةٌ. ثم قال: إن كان للملوك فضلٌ في مملكتها فإن للحكماء فضلاً في حكمتها أعظم: لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال. وقد وجدت العلم والحيا إلفين متآلفين لا يفترقان: متى فقد أحدهما لم يوجد الآخر؛ كالمتصافيين إن عدم منهما أحد لم يطب صاحبه نفساً بالبقاء تأسفاً عليه.
ومن لم يستحي من الحكماء ويكرمهم، ويعرف فضلهم على غيرهم، ويصنهم عن المواقف الواهنة، وينزههم عن المواطن الرذلة كان ممن حرم عقله، وخسر دنياه، وظلم الحكماء حقوقهم، وعد من الجهال. ثم رفع رأسه إلى بيدبا؛ وقال له: نظرت إليك يا بيدبا ساكتاً لا تعرض حاجتك، ولا تذكر بغيتك، فقلت: إن الذي أسكته هيبةٌ ساورته أو حيرةٌ أدركته؛ وتأملك عند ذلك من طول وقوفك، وقلت: لك يكن لبيدبا أن يطرقنا على غير عادةٍ عن سبب دخوله؛ فإن لم يكن من ضيمٍ ناله، كنت أولى من أخذ بيده وسارع في تشريفه، وتقدم في البلوغ إلى مراده وإعزازه؛ وإن كانت بغيته غرضاً من أغراض الدنيا أمرت بإرضائه من ذلك فيما أحب؛ وإن يكن من أمر الملك، ومما لا ينبغي أن يبذلوه من أنفسهم ولا ينقادوا إليه نظرت في قدر عقوبته؛ على أن مثله لم يكن ليجترئ على إدخال نفسه في باب مسألة الملوك؛ وإن كان شيئاً من أمور الرعية يقصد فيه أني أصرف عنايتي إليهم، نظرت ما هو؛ فإن الحكماء لا يشيرون إلا بالخير، والجهال يشيرون بضده. وأنا قد فسحت لك في الكلام.
فلما سمع بيدبا ذلك من الملك أفرخ روعه ؛ وسرى عنه ما كان وقع في نفسه من خوفه وكفر له وسجد؛ ثم قام بين يديه وقال: أول ما أقول لك أسأل الله تعالى بقاء الملك على الأبد، ودوام ملكه على الأمد: لأن الملك قد منحني في مقامي هذا محلاً جعله شرفاً لي على جميع من بعدي من العلماء؛ وذكراً باقياً على الدهر عند الحكماء.
ثم أقبل على الملك بوجهه، مستبشراً به فرحاً بما بدا له منه، وقال: قد عطف الملك علي بكرمه وإحسانه. والأمر الذي دعاني إلى الدخول على الملك، وحملني على المخاطرة لكلامه، والإقدام عليه، نصيحةٌ اختصصته بها دون غيره. وسيعلم من يتصل به ذلك أني لم أقصر عن غايةٍ فيما يجب للمولى على الحكماء. فإن فسح في كلامي ووعاه عني، فهو حقيق بذلك وما يراه؛ وإن هو ألقاه، فقد بلغت ما يلزمني وخرجت من لوم يلحقني.
قال الملك بيدبا تكلم كيف شئت: فإنني مصغٍ إليك، ومقبل عليك، وسامع منك، حتى أستفرغ ما عندك إلى آخره، وأجازيك على ذلك بما أنت أهله.
قال بيدبا: إني وجدت الأمور التي اختص بها الإنسان من بين سائر الحيوانات أربعة أشياء، وهي جماع ما في العالم، وهي الحكمة والعفة والعقل والعدل. والعلم والأدب والروية داخلةٌ في باب الحكمة. والحلم والصبر والوقار داخلةٌ في باب العقل. والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلةٌ في باب العفة. والصدق والإحسان والمراقبة وحسن الخلق داخلةٌ في باب العدل. وهذه هي المحاسن، وأضدادها هي المساوئ. فمتى كملت هذه في واحدٍ لم تخرجه الزيادة في نعمةٍ إلى سوء الحظ من دنياه ولا إلى نقصٍ في عقباه، ولم يتأسف على ما لم يعن التوفيق ببقائه، ولم يحزنه ما تجري به المقادير في ملكه، ولك يدهش عند مكروهٍ. فالحكمة كنزٌ لا يفنى على إنفاقٍ، وذخيرةٌ لا يضرب لها بالإملاق ، وحلة لا تخلق جدها، ولذةٌ لا تنصرم مدتها. ولئن كنت عند مقامي بين يدي الملك أمسكت عن ابتدائه بالكلام، وإن ذلك لم يكن مني إلا لهيبته والإجلال له. ولعمري إن الملوك لأهلٌ أن يهابوا؛ لا سيما من هو في المنزلة التي جل فيها الملك عن منازل الملوك قبله. وقد قالت العلماء: الزم السكوت؛ فإن فيه سلامةً؛ وتجنب الكلام الفارغ؛ فإن عاقبته الندامة. وحكي أن أربعةً من العلماء ضمهم مجلس الملك، فقال لهم: ليتكلم كلٌ بكلام يكون أصلاً للأدب.
فقال أحدهم: أفضل خلة العلم السكوت.
وقال الثاني: إن من انفع الأشياء للإنسان أن يعرف قدر منزلته من عقله.
وقال الثالث: أنفع الأشياء للإنسان ألا يتكلم بما لا يعنيه.
وقال الرابع: أروح الأمور على الإنسان التسليم للمقادير. واجتمع في بعض الزمان ملوك الأقاليم من الصين والهند وفارس والروم؛ وقالوا ينبغي أن يتكلم كل واحدٍ منا بكلمة تدون عنه على غابر الدهر.
فقال ملك الصين: أنا على ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة فإن كانت له لم تنفعه، وإن كانت عليه أوبقته . وقال ملك فارس: أنا إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، وإذا لم أتكلم بها ملكتها.
وقال ملك الروم: ما ندمت على ما لم أتكلم به قط، ولقد ندمت على ما تكلمت به كثيراً. والسكوت عند الملوك أحسن من الهذر الذي لا يرجع منه إلى نفع. وأفضل ما استظل به الإنسان لسانه. غير أن الملك، أطال الله مدته، لما فسح لي في الكلام وأوسع لي فيه؛ كان أولى ما أبدأ به من الأمور التي هي غرضي أن يكون ثمرة ذلك له دوني؛ وأن اختصه بالفائدة قبلي.
على أن العقبى هي ما أقصد في كلامي له؛ وإنما نفعه وشرفه راجعٌ إليه؛ وأكون أنا قد قضيت فرضاً وجب علي فأقول: أيها الملك إنك في منازل آبائك وأجدادك من الجبابرة الذين أسسوا الملك قبلك، وشيدوه دونك، وبنوا القلاع والحصون، ومهدوا البلاد، وقادوا الجيوش؛ واستجاشوا العدة ، وطالت لم المدة؛ واستكثروا من السلاح والكراع؛ وعاشوا الدهور، في الغبطة والسرور؛ فلم يمنعهم ذلك من اكتساب جميل الذكر، ولا قطعهم عن اغتنام الشكر؛ ولا استعمال الإحسان إلى من خولوه، والإرفاق بمن ولوه، وحسن السيرة فيما تقلدوه؛ مع عظم ما كانوا فيه من غرة الملك، وسكرة الاقتدار.
وإنك أيها الملك السعيد جدة، الطالع كوكب سعده، قد ورثت أرضهم وديارهم وأموالهم ومنازلهم التي كانت عدتهم؛ فأقمت فيما خولت من الملك وورثت من الأموال والجنود؛ فلم تقم في ذلك بحق ما يجب عليك؛ بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت على الرعية، وأسأت السيرة، وعظمت منك البلية.
وكان الأولى والاشبه بك أن تسلك سبيل أسلافك، وتتبع آثار الملوك قبلك، وتقفو محاسن ما أبقوه لك، وتقلع عما عاره لازم لك، وشينه واقع بك؛ تحسن النظر برعيتك، وتسن لهم سنن الخير الذي يبقى بعدك ضره، ويعقبك الجميل فخره؛ ويكون ذلك أبقى على السلامة وأدوم على الاستقامة. فإن الجاهل المغتر من استعمل في أموره البطر والأمنية، والحازم اللبيب من ساس الملك بالمداراة والرفق؛ فانظر أيها الملك ما ألقيت إليك، ولا يثقلن ذلك عليك: فلم أتكلم بهذا ابتغاء عرضٍ تجازيني به، ولا التماس معروفٍ تكافئني به؛ ولكني أتيتك ناصحاً مشفقاً عليك.
فلما فرغ منه بيدبا من مقالته، وقضى مناصحته، أوغر صدر الملك فأغلظ له في الجواب استصغاراً لأمره؛ وقال: لقد تكلمت بكلامٍ ما كنت أظن أحداً من أهل مملكتي يستقبلني بمثله، ولا يقدم على ما أقدمت عليه.
فكيف أنت مع صغر شأنك، وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت إعجابي من إقدامك علي، وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك. وما أجد شيئاً في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك. فذلك عبرةٌ وموعظةٌ لكن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من الملوك إذا أوسعوا لهم في مجالسهم. ثم أمر به أن يقتل ويصلب. فلما مضوا به فيما أمر، فكر فيما أمر به فأحجم عنه، ثم أمر بحبسه وتقييده.
فلما حبس أنفذ في طلب تلاميذه ومن كان يجتمع إليه فهربوا في البلاد واعتصموا بجزائر البحار؛ فمكث بيدبا في محبسه أياماً لا يسأل الملك عنه، ولا يلتفت إليه؛ ولا يجسر أحدٌ أن يذكره عنده؛ حتى إذا كان ليلةٌ من الليالي سهد الملك سهداً شديداً ؛ فطال سهده، ومد إلى الفلك بصره؛ وتفكر في تفلك الفلك وحركات الكواكب، فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إلى استنباط شيءٍ عرض له من أمور الفلك، والمسألة عنه. فذكر عند ذلك بيدبا، وتفكر فيما كلمه به؛ فأرعوى لذلك. وقال في نفسه: لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف، وضيعت واجب حقه؛ وحملني على ذلك سرعة الغضب.
وقد قالت العلماء: أربعةٌ لا ينبغي أن تكون في الملوك: الغضب فإنه أجد الأشياء مقتاً؛ والبخل فإن صاحبه ليس بمعذورٍ مع ذات يده؛ والكذب فإنه ليس لأحدٍ أن يجاوره؛ والعنف في المحاورة فإن السفه ليس من شأنها. وإني أتي إلى رجل نصح لي، ولم يكن مبلغاً؛ فعاملته بضد ما يستحق، وكافأته بخلاف ما يستوجب. وما كان هذا جزاءه مني؛ بل كان الواجب أن أسمع كلامه، وأنقاد لما يشير به. ثم أنفذ في ساعته من يأتيه به. فلما مثل بين يديه قال له: يا بيدبا ألست الذي قصدت إلى تقصير همتي، وعجزت رأيي في سيرتي بما تكلمت به آنفاً? قال له بيدبا: أيها الملك الناصح الشفيق، والصادق الرفيق، إنما نبأتك بما فيه صلاحٌ لك ولرعيتك، ودوام ملكك لك، قال له الملك: يا بيدبا أعد علي كلامك كله، ولا تدع منه حرفاً إلا جئت به. فجعل بيدبا ينثر كلامه، والملك مصغٍ إليه. وجعل دبشليم كلما سمع منه شيئاً ينكت على الأرض بشيءٍ كان في يده. ثم رفع طرفه إلى بيدبا، وأمره بالجلوس.
وقال له: يا بيدبا، إني قد استعذبت كلامك وحسن موقعه من قلبي. وأنا ناظر في الذي أشرت به، وعامل بما أمرت. ثم أمر بقيوده فحلت. وألقى عليه من لباسه، وتلقاه بالقبول. فقال بيدبا: يا أيها الملك، إن في دون ما كلمتك به نهيةً لمثلك. قال: صدقت أيها الحكيم الفاضل. وقد وليتك من مجلسي هذا إلى جميع أقاصي مملكتي. فقال له: أيها الملك أعفني من هذا الأمر: فإني غير مضطلعٍ بتقويمه إلا بك. فأعفاه من ذلك. فلما انصرف، علم أن الذي فعله ليس برأي، فبث فرده. وقال: إني فكرت في إعفائك مما عرضته عليك فوجدته لا يقوم إلا بك، ولا ينهض به غيرك، ولا يضطلع به سواك. فلا تخالفني فيه. فأجابه بيدبا إلى ذلك.
وكان عادة ملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيراً أن يعقدوا على رأسه تاجاً، ويركب في أهل المملكة، ويطاف به في المدينة. فأمر الملك أن يفعل ببيدبا ذلك. فوضع التاج على رأسه، وركب المدينة ورجع فجلس بمجلس العدل والإنصاف: يأخذ للدني من الشريف، ويساوي بين القوي والضعيف؛ ورد المظالم، ووضع سنن العدل، وأكثر من العطاء والبذل. واتصل الخبر بتلاميذه فجاءوه من كل مكان، فرحين بما جدد الله له من جديد رأي الملك في بيدبا؛ وشكروا الله تعالى على توفيق بيدبا في إزالة دبشليم عما كان عليه من سوء السيرة، واتخذوا ذلك اليوم عيداً يعيدون فيه فهو إلى اليوم عيدٌ عندهم في بلاد الهند.
ثم أن بيدبا لما أخلى فكره من اشتغاله بدبشليم، تفرغ لوضع كتب السياسة ونشط لها، فعمل كتباً كثيرةً، فيها دقائق الحيل. ومضى الملك على ما رسم له بيدبا من حسن السيرة والعدل في الرعية. فرغبت إليه الملوك الذين كانوا في نواحيه، وانقادت له الأمور على استوائها. وفرحت به رعيته وأهل مملكته. ثم أن بيدبا جمع تلاميذه فأحسن صلتهم، ووعدهم وعداً جميلاً. وقال لهم: لست أشك أنه وقع في نفوسكم وقت دخولي على الملك أن قلتم: إن بيدبا قد ضاعت حكمته، وبطلت فكرته: إذ عزم على الدخول على هذا الجبار الطاغي. فقد علمتم نتيجة رأيي وصحة فكري.
وإني لم آته جهلاً به: لأني كنت أسمع من الحكماء قبلي تقول: إن الملوك لها سورةٌ كسورة الشراب: فالملوك لا تفيق من السورة إلا بمواعظ العلماء وأدب الحكماء. والواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ العلماء. والواجب على العلماء تقويم الملوك بألسنتها، وتأديبها بحكمتها، وإظهار الحجة البينة اللازمة لهم: ليرتدعوا عما هم عليه من الاعوجاج والخروج عن العدل. فوجدت ما قالت العلماء فرضاً واجباً على الحكماء لملوكهم ليوقظوهم من رقدتهم؛ كالطبيب الذي يجب عليه في صناعته حفظ الأجساد على صحتها أو ردها إلى الصحة. فكرهت أن يموت أو أموت وما يبقى على الأرض غلا من يقول: إنه كان بيدبا الفيلسوف في زمان دبشليم الطاغي فلم يرده عما كان عليه. فإن قال قائل: إنه لم يمكنه كلامه خوفاً على نفسه، قالوا: كان الهرب منه ومن جواره أولى به؛ والانزعاج عن الوطن شديدٌ؛ فرأيت أن أجود بحياتي؛ فأكون قد أتيت فيما بيني وبين الحكماء بعدي عذراً. فحملتها على التغرير أو الظفر بما أريده.
وكان من ذلك ما أنتم معاينوه: فإنه يقال في بعض الأمثال: إن لم يبلغ أحد مرتبة إلا بإحدى ثلاثٍ: إما بمشقةٍ تناله في نفسه، وإما بوضعيةٍ في ماله أو وكسٍ في دينه . ومن لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب. وإن الملك دبشليم قد بسط لساني في أن أضع كتاباً فيه ضروب الحكمة. فليضع كل واحد منكم شيئاً في أي فن شاء؛ وليعرضه علي لأنظر مقدار عقله، وأين بلغ من الحكمة فهمه. قالوا: أيها الحكيم الفاضل، واللبيب العاقل، والذي وهب لك ما منحك من الحكمة والعقل والأدب والفضيلة، ما خطر هذا بقلوبنا ساعةً قط. وأنت رئيسنا وفاضلنا، وبك شرفنا، وعلى يدك انتعاشنا. ولكن سنجهد أنفسنا فيما أمرت. ومكث الملك على ذلك من حسن السيرة زماناً يتولى ذلك له بيدبا ويقوم به.
ثم إن الملك دبشليم لما استقر له الملك، وسقط عنه النظر في أمور الأعداء بما قد كفاه ذلك بيدبا، صرف همته إلى النظر في الكتب التي وضعتها فلاسفة الهند لآبائه وأجداده؛ فوقع في نفسه أن يكون له أيضاً كتابٌ مشروحٌ ينسب إليه وتذكر فيه أيامه كما ذكر آباؤه وأجداده من قبله. فلما عزم على ذلك، علم أنه لا يقوم ذلك إلا ببيدبا: فدعاه وخلا به؛ وقال له: يا بيدبا، إنك حكيم الهند وفيلسوفها. وإني فكرت ونظرت في خزائن الحكمة التي كانت للملوك قبلي؛ فلم أر فيهم أحداً إلا وضع كتاباً يذكر فيه أيامه وسيرته، وينبئ عن أدبه وأهل مملكته؛ فمنه ما وضعته الملوك لأنفسها، وذلك لفضل حكمةٍ فيها؛ ومنها ما وضعته حكماؤها. وأخاف أن يلحقني ما لحق أولئك مما لا حيلة لي فيه، ولا يوجد في خزائني كتابٌ أذكر به من بعدي، وأنسب إليه كما ذكر من كان قبلي بكتبهم. وقد أحببت أن تضع لي كتاباً بليغاً تستفرغ فيه عقلك يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية على طاعة الملك وخدمته؛ فيسقط بذلك عني وعنهم كثيرٌ مما نحتاج إليه في معاناة الملك. وأريد أن يبقى لي هذا الكتاب من بعدي ذكراً على غابر الدهور. فلما سمع بيدبا كلامه خر له ساجداً، ورفع رأسه وقال: أيها الملك السعيد جده، علا نجمك، وغاب نحسك، ودامت أيامك؛ إن الذي قد طبع عليه الملك من جودة القريحة ووفور العقل حركه لعالي الأمور؛ وسمت به نفسه وهمته إلى أشرف المراتب منزلةً، وأبعدها غايةً؛ وأدام الله سعادة الملك وأعانه على ما عزم من ذلك، وأعانني على بلوغ مراده.
فليأمر الملك بما شاء من ذلك: فإن صائرٌ إلى غرضه، مجتهداٌ فيه برأيي. قال له الملك: يا بيدبا لم تزل موصوفاً بحسن الرأي وطاعة الملوك في أمورهم. وقد اختبرت منك ذلك، واخترت أن تضع هذا الكتاب، وتعمل فيه فكرك، وتجهد فيه نفسك، بغاية ما تجد إليه السبيل. وليكن مشتملاً على الجد والهزل واللهو والحكمة والفلسفة. فكفر له بيدبا وسجد، وقال: قد أجبت الملك أدام الله أيامه إلى ما أمرني به، وجعلت بيني وبينه أجلاً. قال: وكم هو الأجل? قال: سنةٌ. قال: قد أجلتك؛ وأمر له بجائزةٍ سنيةٍ تعينه على عمل الكتاب فبقى بيدبا مفكراً في الأخذ فيه، وفي أي صورةٍ يبتدي بها فيه وفي وضعه. ثم إن بيدبا جمع تلاميذه وقال لهم: إن الملك قد ندبني لأمر فيه فخري وفخركم وفخر بلادكم، وقد جمعتكم لهذا الأمر. ثم وصف لهم ما سأل الملك من أمر الكتاب، والغرض الذي قصد فيه، فلم يقع لهم الفكر فيه فلما لم يجد عندهم ما يريده فكر بفضل حكمته، وعلم أن ذلك أمرٌ إنما يتم باستفراغ العقل وإعمال الفكر؛ وقال: أرى السفينة لا تجري في البحر إلا بالملاحين: لأنهم يعدلونها؛ وإنما تسلك اللجة بمدبرها الذي تفرد بإمرتها ؛ ومتى شحنت بالركاب الكثيرين وكثر ملاحوها لم يؤمن عليه من الغرق.
ولم يزل يفكر فيما يعمله في باب الكتاب حتى وضعه على الانفراد بنفسه، مع رجلٍ من تلاميذه كان يثق به؛ فخلا به منفرداً معه، بعد أن أعد الورق الذي كانت تكتب فيه الهند شيئاً، ومن القوت ما يقوم به وبتلميذه تلك المدة. وجلسا في مقصورةٍ، وردا عليهما الباب ثم بدأ في نظم الكتاب وتصنيفه؛ ولم يزل هو يملي وتلميذه يكتب، ويرجع هو فيه؛ حتى استقر الكتاب على غاية الإتقان والإحكام. ورتب فيه أربعة عشر باباً؛ كل بابٍ منها قائم بنفسه. وفي كل باب مسألةٌ والجواب عنها؛ ليكون لمن نظر فيه حظٌ من الهداية. وضمن تلك الأبواب كتاباً واحداً؛ وسماه كتاب كليلة ودمنة. ثم جعل كلامه على ألسن البهائم والسباع والطير: ليكون ظاهره لهواً للخواص والعوام، وباطنه رياضةً لعقول الخاصة. وضمنه أيضاً ما يحتاج إليه الإنسان من سياسة نفسه وأهله وخاصته، وجميع ما يحتاج إليه من أمير دينه ودنياه، وأخرته وأولاه؛ ويحضه على حسن طاعته للملوك ويجنبه ما تكون مجانبته خيراً له.
ثم جعله باطناً وظاهراً كرسم سائر الكتب التي برسم الحكمة: فصار الحيوان لهواً، وما ينطق به حكمةً وأدباً. فلما ابتدأ بيدبا بذلك جعل أول الكتاب وصف الصديق، وكيف يكون الصديقان، وكيف تقطع المودة الثابتة بينهما بحيلة ذي النميمة. وأمر تلميذه أن يكتب على لسان بيدبا مثل ما كان الملك شرطه في أن جعله لهواً وحكمةً. فذكر بيدبا أن الحكمة متى دخلها كلام النقلة أفسدها وجهلت حكمتها. فلم يزل هو وتلميذه يعملان الفكر فيما سأله الملك، حتى فتق لهما العقل أن يكون كلامهما على لسان بهيمتين. فوقع لهما موضع اللهو والهزل بكلام البهائم. وكانت الحكمة ما نطقا به. فأصغت الحكماء إلى حكمه وتركوا البهائم واللهو، وعلموا أنها السبب في الذي وضع لهم. ومالت إليه الجهال عجباً من محاورة بهيمتين، ولم يشكوا في ذلك؛ واتخذوه لهواً، وتركوا معنى الكلام أن يفهموه، ولم يعلموا الغرض الذي وضع له؛ لأن الفيلسوف إنما كان غرضه في الباب الأول أن يخبر عن تواصل الإخوان كيف تتأكد المودة بينهم على التحفظ من أهل السعاية والتحرز ممن يوقع العداوة بين المتحابين: ليجر بذلك نفعاً إلى نفسه. فلم يزل بيدبا وتلميذه في المقصورة، حتى استتما عمل الكتاب في مدة سنةٍ. فلما تم الحول أنفذ إليه الملك أن قد جاء الوعد فماذا صنعت? فأنفذ إليه بيدبا: إني على ما وعدت الملك. فليأمرني بحمله، بعد أن يجمع أهل المملكة لتكون قراءتي هذا الكتاب بحضرتهم، فلما رجع الرسول إلى الملك سر بذلك، ووعده يوماً يجمع فيه أهل المملكة.
ثم نادى في أقاصي بلاد الهند ليحضروا قراءة الكتاب. فلما كان ذلك اليوم، أمر الملك أن ينصب لبيدبا سريرٌ مثل سريره، كراسي لأبناء الملوك والعلماء. وأنفذ فأحضره. فلما جاءه الرسول قام فلبس الثياب التي كان يلبسا إذا دخل على الملوك وهي المسوح السود، وحمل الكتاب تلميذه. فلما دخل على الملك وثب الخلائق بأجمعهم، وقام الملك شاكراً. فلما قرب من الملك كفر له وسجد، ولم يرفع رأسه. فقال له الملك: يا بيدبا ارفع رأسك، فإن هذا يوم هناءةٍ وفرحٍ وسرورٍ، وأمره أن يجلس. فحين جلس لقراءة الكتاب، سأله عن معنى كل باب من أبوابه، وإلى أي شيءٍ قصد فيه. فأخبره بغرضه فيه، وفي كل باب. فازداد الملك منه تعجباً وسروراً. فقال له: يا بيدبا ما عدوت الذي في نفسي؛ وهذا الذي كنت أطلب؛ فالطلب ما شئت وتحكم. فدعا له بيدبا بالسعادة وطول الجد.
وقال: أيها الملك أما المال فلا حاجة لي فيه، وأما الكسوة فلا أختار على لباسي ذا شيئاً؛ ولست أخلي الملك من حاجةٍ. قال الملك: يا بيدبا ما حاجتك? فكل حاجةٍ لك قبلنا مقضيةٌ. قال: يأمر الملك أن يدون كتابي هذا كما دون آباؤه وأجداده كتبهم، ويأمر بالمحافظة عليه: فإن أخاف أن يخرج من بلاد الهند، فيتناوله أهل فارس إذا علموا به؛ فالملك يأمر ألا يخرج من بيت الحكمة. ثم دعا الملك بتلاميذه وأحسن لهم الجوائز. ثم إنه لما ملك كسرى أنوشروان وكان مستأثراً بالكتب والعلم والأدب والنظر في أخبار الأوائل ويقع له خبر الكتاب؛ فلم يقر قراره حتى بعث بروزيه الطبيب وتلطف حتى أخرجه من بلاد الهند فأقره في خزائن فارس.اف أن يخرج من بلاد الهند، فيتناوله أهل فارس إذا علموا به؛ فالملك يأمر ألا يخرج من بيت الحكمة. ثم دعا الملك بتلاميذه وأحسن لهم الجوائز. ثم إنه لما ملك كسرى أنوشروان وكان مستأثراً بالكتب والعلم والأدب والنظر في أخبار الأوائل ويقع له خبر الكتاب؛ فلم يقر قراره حتى بعث بروزيه الطبيب وتلطف حتى أخرجه من بلاد الهند فأقره في خزائن فارس.
باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند:
وكذلك طالب الآخرة مجتهد في العمل المنجي به روحه لا يقدر على إتمام عمله وإكماله إلا بالعقل الذي هو سبب كل خير ومفتاح كل سعادةٍ. فليس لأحد غني عن العقل. والعقل مكتسب بالتجارب والأدب. وله غريزةٌ مكنونةٌ في الإنسان كامنةٌ كالنار في الحجر لا تظهر ولا يرى ضوءها حتى يقدحها قادحٌ من الناس؛ فإذا قدحت ظهرت طبيعتها.
وكذلك العقل كامن في الإنسان لا يظهر حتى يظهره الأدب وتقويه التجارب. ومن رزق العقل ومن به عليه وأعين على صدق قريحته بالأدب حرص على طلب سعد جده، وأدرك في الدنيا أمله، وحاز في الآخرة ثواب الصالحين. وقد رزق الله الملك السعيد أنوشروان من العقل أفضله، ومن العلم أجزله؛ ومن المعرفة بالأمور أصوبها، ومن الأفعال أسدها، ومن البحث عن الأصول والفرع أنفعه؛ وبلغه من فنون اختلاف العلم، وبلوغ منزلة الفلسفة، ما لم يبلغه ملكٌ قط من الملوك قبله؛ حتى كان فيما طلب وبحث عنه من العلم أن بلغه عن كتاب بالهند، علم أنه أصل كل أدب ورأس كل علمٍ، والدليل على منفعةٍ، ومفتاح عمل الآخرة وعلمها، ومرعبة النجاة من هولها؛ فأمر الملك وزيره بزرجمهر أن يبحث له عن رجل أديبٍ عاقل من أهل مملكته، بصير بلسان الفارسية، ماهر في كلام الهند؛ ويكون بليغاً باللسانين جميعاً، حريصاً على طلب العلم مجتهداً في استعمال الأدب، مبادراً في طلب العلم، والبحث عن كتب الفلسفة. فأتاه برجلٍ أديب كامل العقل والأدب، معرفٍ بصناعة الطب، ماهر في الفارسية والهندي يقال له بروزيه؛ فلما دخل عليه كفر وسجد بين يديه. فقال له الملك: يا بروزيه: إن قد اخترتك لما بلغني من فضلك وعلمك وعقلك، وحرصك على طلب العلم حيث كان. وقد بلغني عن كتاب بالهند مخزون في خزائنهم، وقص عليه ما بلغه عنه.
وقال له: تجهز فإني مرحلك إلى أرض الهند؛ فتلطف بعقلك وحسن أدبك وناقد رأيك، لاستخراج هذا الكتاب من خزائنهم ومن قبل علمائهم؛ فتستفيد بذلك وتفيدنا. وما قدرت عليه من كتب الهند مما ليس في خزائننا منه شيءٌ فأحمله معك؛ وخذ معك من المال ما تحتاج إليه، وعجل ذلك، ولا تقصر في طلب العلوم وإن أكثرت فيه النفقة، فإن جميع ما في خزائني مبذول لك في طلب العلوم. وأمر بإحضار المنجمين؛ فاختاروا له يوماً يسير فيه، وساعة صالحةً يخرج فيها. وحمل معه من المال عشرين جراباً؛ كل جرابٍ فيه عشرة آلاف دينار. فلما قدم بروزيه بلاد الهند طاف بباب الملك ومجالس السوقة ، وسأل عن خواص الملك والأشراف والعلماء والفلاسفة؛ فجعل يغشاهم في منازلهم، ويتلقاهم بالتحية، ويخبرهم بأنه رجل غريب قدم بلادهم لطلب العلوم والأدب، وأنه محتاج إلى معاونتهم في ذلك.
فلم يزل كذلك زماناً طويلاً يتأدب عن علماء الهند يما هو عالم بجميعه؛ وكأنه لا يعلم منه شيئاً؛ وهو فيما بين ذلك يستر بغيته وحاجته. واتخذ في تلك الحالة لطول مقامه أصدقاء كثيرةٌ من الأشراف والعلماء والفلاسفة والسوقة ومن أهل كل طبقة وصناعةٍ؛ وكان قد اتخذ من بين أصدقائه رجلاً واحداً قد اتخذه لسره وما يحب مشاورته فيه؛ للذي ظهر له من فضله وأدبه، واستبان له من صحة إخائه؛ وكان يشاوره في الأمور، ويرتاح إليه في جميع ما أهمه.
إلا أنه كان يكتم منه الأمر الذي قدم من أجله لكي يبلوه ويخبره، وينظر هل هو أهل أن يطلعه على سره. فقال له يوماً وهما جالسان: يا أخي ما أريد أن أكتمك من أمري فوق الذي كتمتك. فاعلم أنني لأمرٍ قدمت، وهو غير الذي يظهر مني؛ والعاقل يكتفي من الرجل بالعلامات من نظره، حتى يعلم سر نفسه وما يضمره قلبه. قال له الهندي: إني وإن لم أكن بدأتك وأخبرتك بما جئت له، وإياه تريد؛ وأنك تكتم أمراً تطلبه، وتظهر غيره؛ ما خفي على ذلك منك. ولكني لرغبتي في إخائك، كرهت أن أواجهك به. وإنه قد استبان ما تخفيه مني. فأما إذ قد أظهرت ذلك، وأفصحت به وبالكلام فيه، فإني مخبرك عن نفسك، ومظهر لك سريرتك، ومعلمك بحالك التي قدمت لها؛ فإنك قدمت بلادنا لتسلبنا كنوزنا النفيسة، فتذهب بها إلى بلادك، وتسربها ملكك. وكان قدومك بالمكر والخديعة.
ولكني لما رأيت صبرك، ومواظبتك على طلب حاجتك، والتحفظ من أن يسقط منك الكلام، مع طول مكثك عندنا، بشيءٍ يستدل به على سريرتك وأمورك، ازددت رغبةً في إخائك، وثقة بعقلك، فأحببت مودتك. فإني لم أر في الرجال رجلاً هو أرصن منك عقلاً، ولا أحسن أدباً، ولا أصبر على طلب العلم ولا أكتم لسره منك؛ ولا سيما في بلاد الغربة، ومملكة غير مملكتك، عند قومٍ لا تعرف سنتهم. وإن عقل الرجل ليبين في ثماني خصال:
الأولى الرفق،
والثانية أن يعرف الرجل نفسه فيحفظها،
والثالثة طاعة الملوك، والتحري لما يرضيهم.
والرابعة معرفة الرجل موضع سره، وكيف ينبغي أن يطلع عليه صديقه،
والخامسة أن يكون على أبواب الملوك أديباً ملق اللسان .
والسادسة أن يكون لسره وسر غيره حافظاً.
والسابعة أن يكون على لسانه قادراً، فلا يتكلم إلا بما يأمن تبعته.
والثامنة إن كان بالمحفل لا يتكلم إلا بما يسأل عنه.
فمن اجتمعت فيه هذه الخصال كان هو الداعي الخير إلى نفسه. وهذه الخصال كلها قد اجتمعت فيك، وبانت لي منك. فالله تعالى يحفظك، ويعينك على ما قدمت له؛ فمصادقتك إياي، وإن كانت لتسلبني كنزي وفخري وعلمي، تجعلك أهلاً لأن تسعف بحاجتك، وتشفع بطلبتك ، وتعطي سؤلك. فقال له بروزيه: إني كنت هيأت كلاماً كثيراً، وشعبت له شعوباً؛ وأنشأت له أصولاً وطرقاً؛ فلما انتهيت إلى ما بدأتني به من إطلاعك على أمري والذي قدمت له، وألقيته على من ذات نفسك، ورغبتك فيما ألقيت من القول، اكتفيت باليسير من الخطاب معك، وعرفت الكبير من أموري بالصغير من الكلام، واقتصرت به معك على الإيجاز. ورأيت من إسعافك إياي بحاجتي ما دلني على كرمك وحسن وفائك: فإن الكلام إذا ألقي إلى الفيلسوف، والسر إذا استودع إلى اللبيب الحافظ، فقد حصن وبلغ به نهاية أمل صاحبه، كما يحصن الشيء النفيس في القلاع الحصينة. قال له الهندي: لا شيء أفضل من المودة.
ومن خلصت مودته كان أهلاً أن يخلطه الرجل بنفسه، ولا يدخر عنه شيئاً، ولا يكتمه سراً: فإن حفظ السر رأس الأدب. فإذا كان السر عند الأمين الكتوم فقد احترز من التضييع؛ مع أنه خليق ألا يتكلم به؛ ولا يتم سرٌ ين اثنين قد علماه وتفاوضاه. فإذا تكلم بالسر اثنان فلا بد من ثالث من جهة أحدهما؛ فإذا صار إلى الثلاثة فقد شاع وذاع، حتى لا يستطيع صاحبه أن يجحده ويكابر عنه؛ كالغيم إذا كان متقطعاً في السماء فقال قائل: هذا غيمٌ متقطعٌ، لا يقدر أحدٌ على تكذيبه. وأنا قد يداخلني من مودتك وخلطتك سرورٌ لا يدله شيءٌ. وهذا الأمر الذي تطلبه مني أعلم أنه من الأسرار التي لا تكتم؛ فلا بد أن يفشو ويظهر، حتى يتحدث به الناس.
فإذا فشا فقد سعيت في هلاكي هلاكاً لا أقدر على الفداء منه بالمال وإن كثر: لأن ملكنا فظٌ غليظُ، يعاقب على الذنب الصغير أشد العقاب؛ فكيف مثل هذا الذنب العظيم? وإذا حملتني المودة التي بين وبينك فأسعفتك بحاجتك لم يرد عقابه عني شيءٌ. قال بروزيه: إن العلماء قد مدحت الصديق إذا كتم سر صديقه وأعانه على الفوز. وهذا الأمر الذي قدمت له، لمثلك ذخرته، وبك أرجو بلوغه؛ وأنا واثقٌ بكرم طباعك ووفور عقلك، وأعلم أنك لا تخشى مني ولا تخاف أن أبديه؛ بل تخشى أهل بيتك الطائفين بك وبالملك أن يسعوا بك إليه.
وأنا أرجو ألا يشيع شيءٌ من هذا الأمر: لأني أنا ظاعنٌ وأنت مقيمٌ، وما أقمت قلا ثالث بيننا. فتعاهدا على هذا جميعاً. وكان الهندي خازن الملك، وبيده مفاتيح خزائنه. فأجابه إلى ذلك الكتاب وغلى غيره من الكتب. فأكب على تفسيره ونقله من اللسان الهندي إلى اللسان الفارسي؛ وأتعب نفسه، وانسب بدنه ليلاً ونهاراً. وهو مع ذلك وجلٌ وفزعٌ من ملك الهند؛ خائفٌ على نفسه من أن يذكر الملك الكتاب في وقتٍ لا يصادفه في خزائنه.
فلما فرغ من انتساخ الكتاب وغيره مما أراد من سائر الكتب. كتب إلى أنوشروان يعلمه بذلك. فلما وصل إليه الكتاب، سر بذلك سروراً شديداً، ثم تخوف معاجلة المقادير أن تنغص عليه الفرحة؛ فكتب إلى بروزيه يأمره بتعجيل القدوم. فسار بروزيه متوجهاً نحو كسرى. فلما رأى الملك ا قد مسه من الشحوب والتعب والنصب، قال له: أيها العبد الناصح الذي كان يأكل ثمرة ما قد غرس، أبشر وقر عيناً: فإني مشرفك وبالغٌ بك أفضل درجةٍ. وأمره أن يريح بدنه سبعة أيام. فلما كان اليوم الثامن، أمر الملك أن يجتمع إليه الأمراء والعلماء. فلما اجتمعوا، آمر بروزيه بالحضور. فحضر ومعه الكتب؛ ففتحها وقرأها على من حضر من أهل المملكة.
فلما سمعوا ما فيها من العلم فرحواً فرحاً شديداً؛ وشكروا لله على ما رزقهم، ومدحوا بروزيه وأثنوا عليه؛ وأمر الملك أن تفتح لبروزيه خزائن اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؛ وأمره أن يأخذ من الخزائن ما شاء من مالٍ أو كسوةٍ؛ وقال: يا بروزيه إني قد أمرت أن تجلس على مثل سريري هذا، وتلبس تاجاً، وتترأس على جميع الأشراف. فسجد بروزيه للملك ودعا له وطلب من الله وقال: أكرم الله تعالى الملك كرامة الدنيا والآخرة، وأحسن عني ثوابه وجزاءه؛ فإني بحمد الله مستغنٍ عن المال بما رزقني الله على بد الملك السعيد الجد، العظم الملك؛ ولا حاجة لي بالمال؛ لكن لما كلفني الملك ذلك وعلمت أنه يسره، أنا أمضي إلى الخزائن فآخذ منها طلباً لمرضاته وامتثالاً لأمره.
ثم قصد خزانة الثياب فأخذ منها تختاً من طرائف خراسان من ملابس الملوك. فلما قبض بروزيه ما اختاره ورضيه من الثياب فال: أكرم الله تعالى الملك ومد في عمره أبداً. لابد أن الإنسان إذا أكرم وجب عليه الشكر؛ وإن كان قد استوجبه تعباً ومشقةً فقد كان فيهما رضا الملك. وأما أنا فما لقيته من عناءٍ وتعبٍ ومشقةٍ، لما أعلم أن لكم فيه الشرف يأهل هذا البيت! فإن لم أزل إلى هذا اليوم تابعاً رضاكم، أرى العسير فيه يسيراً. والشاق هيناً، والنصب والأذى سروراً ولذةً: لما أعلم أن لكم فيه رضاً وقربة عندكم. ولكني أسألك أيها الملك حاجة تسعفني بها، وتعطيني فيها سؤلي: فإن حاجتي يسيرةٌ، وفي قضائها فائدةٌ كثيرةٌ. قال أنوشروان: قل فكل حاجةٍ لك من قبلنا مقضيةٌ، ولم نرد طلبتك؛ فكيف ما سوى ذلك? فقل وتحتشم؛ فإن الأمور كلها مبذولة لك.
قال بروزيه: أيها الملك لا تنظر إلى عنائي في رضاك وانكماشي في طاعتك؛ فإنما أنا عبدك يلزمني بذل مهجتي في رضاك؛ ولو لم تجزني لم يكن ذلك عندي عظيماً ولا واجباً على الملك؛ ولكن لكرمه وشرف منصبه عمد إلى مجازاتي؛ وخصني وأهي بيتي بعلو المرتبة ورفع الدرجة؛ حتى لو قدر أن يجمع لنا بين شرف الدنيا والآخرة لفعل. فجزاه الله عنا أفضل الجزاء.قال أنوشروان: اذكر حاجتك، فعلى ما يسرك. فقال بروزيه: حاجتي أن يأمر الملك، أعلاه الله تعالى، وزيره بزرجمهر بن البختكان؛ ويقسم عليه أن يعمل فكره، ويجمع رأيه، ويجهد طاقته، ويفرغ قلبه في نظم تأليف كلامٍ متقنٍ محكمٍ؛ ويجعله باباً يذكر فيه أمري ويصف حالي؛ ولا يدع من المبالغة في ذلك أقصى ما يقدر عليه. ويأمره إذا استتمه أن يجعله أول الأبواب التي تقرأ قبل باب الأسد والثور: فإن الملك إذا فعل ذلك فقد بلغ بي وبأهلي غايةً الشرف وأعلى المراتب؛ وأبقى لنا ما لا يزال ذكره باقياً على الأبد حيثما قرئ هذا الكتاب.
فلما سمع كسرى أنوشروان والعظماء مقالته وما سمت إليه نفسه من محبة إبقاء الذكر استحسنوا طلبته واختياره، وقال كسرى: حباً وكرامةً لك يا بروزيه، إنك لأهل أن تسعف بحاجتك؛ فما أقل ما قنعت به وأيسره عندنا! وإن كان خطره عندك عظيماً. ثم أقبل أنوشروان على وزيره بزرجمهر فقال له: قد عرفت مناصحة بروزيه لنا، وتجشمه المخاوف والمهالك فيما يقربه منا، وإتعابه بدنه فيما يسرنا، وما أتى به إلينا من المعروف، وما أفادنا الله على يده من الحكمة والأدب الباقي لنا فخره، وما عرضنا عليه من خزائننا لنجزيه بذلك على ما كان منه، فلم تمل نفسه إلى شيءٍ من ذلك؛ وكان بغيته وطلبته منا أمراً يسيراً رآه هو الثواب منا له والكرامة الجليلة عنده؛ فإني أحب أن تتكلم في ذلك وتسعفه بحاجته وطلبته.
واعلم أن ذلك مما يسرني، ولا تدع شيئاً من الاجتهاد والمبالغة إلا بلغته، وإن نالتك فيه مشقة. وهو أن تكتب باباً مضارعاً لتلك الأبواب التي في الكتاب؛ وتذكر فيه فضل بروزيه، وكيف كان ابتداء أمره وشأنه، وتنسبه إليه وإلى حسبه وصناعته، وتذكر فيه بعثته إلى بلاد الهند في حاجتنا؛ وما أفدنا على يديه من هنالك؛ وشرفنا به وفضلنا على غيرنا؛ وكيف كان حال بروزيه وقدومه من بلاد الهند؛ فقل ما تقدر عليه من التقريظ والإطناب في مدحه، وبالغ في ذلك أفضل المبالغة واجتهد في ذلك اجتهاداً يسر بروزيه وأهل المملكة.وإن بروزيه أهل لذلك مني ومن جميع أهل المملكة ومنك أيضاً: لمحبتك للعلوم. واجهد أن يكون غرض هذا الكتاب الذي ينسب إلى بروزيه أفضل من أغراض تلك الأبواب عند الخاص والعام، وأشد مشاكلةً لحال هذا العلم: فإنك أسعد الناس كلهم بذلك: لانفرادك بهذا الكتاب، واجعله أول الأبواب.
فإذا أنت عملته ووضعته في موضعه فأعلمني لأجمع أهل المملكة وتقرأه عليهم، فيظهر فضلك واجتهادك في محبتنا؛ فيكون لك بذلك فخر. فلما سمع بزرجمهر مقالة الملك خر له ساجداً، وقال: أدام الله لك أيها الملك البقاء، وبلغك أفضل منازل الصالحين في الآخرة والأولى؛ لقد شرفتني بذلك شرفاً باقياً إلى الأبد. ثم خرج بزرجمهر من عند الملك، فوصف بروزيه من أول يوم دفعه أبواه إلى المعلم، ومضيه إلى بلاد الهند في طلب العقاقير والأدوية؛ وكيف تعلم خطوطهم ولغتهم؛ إلى أن بعثه أنوشروان إلى الهند في طلب الكتاب.
ولم يدع من فضائل بروزيه وحكمته وخلائقه ومذهبه أمراً إلا نسقه، وأتى به بأجود ما يكون من الشرح. ثم أعلم الملك بفراغه منه. فجمع أنوشروان أشراف قومه وأهل مملكته، وأدخلهم إليه؛ وأمر بزرجمهر بقراءة الكتاب، وبروزيه قائم إلى جانب بزرجمهر، وابتدأ بوصف بروزيه حتى انتهى إلى آخره. ففرح الملك بما أتى به بزرجمهر من الحكمة والعلم. ثم أثنى الملك وجميع من حضره على بزرجمهر، وشكروه ومدحوه؛ وأمر الملك بمال جزيل وكسوةٍ وحليٍ وأوانٍ؛ فلم يقبل من ذلك شيئاً غير كسوةٍ كانت من ثياب الملوك. ثم شكر له ذلك بروزيه وقبل رأسه ويده؛ وأقبل بروزيه على الملك وقال: أدام الله لك الملك والسعادة فقد بلغت بي وبأهلي غاية الشرف بما أمرت به بزرجمهر من صنعه الكتاب في أمري وإبقاء ذكري.
باب عرض الكتاب ترجمة عبد الله بن المقفع
هذا كتاب كليلة ودمنة، وهو مما وضعه علماء الهند من الأمثال والأحاديث التي ألهموا أن يدخلوا فيها أبلغ ما وجدوا من القول في النحو الذي أرادوا. ولم تزل العلماء من أهل كل ملة يلتمسون أن يعقل عنهم، ويحتالون في ذلك بصنوف الحيل؛ ويبتغون إخراج ما عندهم من العلل، حتى كان من تلك العلل وضع هذا الكتاب على أفواه البهائم والطير. فاجتمع لهم بذلك خلالٌ. أما هم فوجدوا متصرفاً في القول وشعاباً يأخذون منها. وأما الكتاب فجمع حكمةً ولهواً: فاختاره الحكماء لحكمته. والسفهاء للهوه، والمتعلم من الأحداث ناشطٌ في حفظ ما صار إليه من أمر يربط في صدره ولا يدري ما هو، بل عرف أنه قد ظفر من ذلك بمكتوي مرقومٍ. وكان كالرجل الذي لما استكمل الرجولية وجد أبويه قد كنزا له كنوزاً وعقدا له عقوداً استغنى بها عن الكدح فيما يعمله من أمر معيشته؛ فأغناه ما أشرف عليه من الحكمة عن الحاجة إلى غيرها من وجوه الأدب.
وينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له؛ وإلى أي غايةٍ جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصحٍ؛ وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً: فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني، ولا أي ثمرةً يجتني منها، ولا أي نتيجة تحصل له من مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب.
وإنه وإن كان غيته استتمام قراءته إلى آخره دون معرفة ما يقرأ منه لم يعد عليه شيءٌ يرجع إليه نفعه.ومن استكثر من جمع العلوم وقراءة الكتب؛ من غير إعمال الروية فيما يقرؤه، كان خليقاً ألا يصيبه إلا ما أصاب الرجل الذي زعمت العلماء أنه اجتاز ببعض المفاوز، فظهر لو موضع آثار كنز؛ فجعل يحفر ويطلب، فوقع على شيءٍ من عينٍ وورقٍ؛ فقال في نفسه: إن أنا أخذت في نقل هذا المال قليلاً قليلاً طال علي، وقطعني الاشتغال بنقله وإحرازه عن اللذة بما أصبت منه؛ ولكن سأستأجر أقواماً يحملونه إلى منزلي، وأكون أنا أخرهم، ولا يكون بقي ورائي شيءٌ يشغل فكري بنقله؛ وأكون قد استظهرت لنفسي في إراحة بدني عن الكد بيسير الأجرة أعطيهم إياها. ثم جاء بالحمالين، فجعل يحمل كل واحدٍ منهم ما يطيق، فينطلق به إلى منزله: فلم يجد فيه من المال شيئاً، لا قليلاً ولا كثيراً.
وإذا كل واحدٍ من الحمالين قد فاز بما حمله لنفسه. ولك يكن له من ذلك إلا العناء والتعب: لأنه لم يفكر في آخر أمره. وكذلك من قرأ هذا الكتاب، ولم يفهم ما فيه، ولم يعلم غرضه ظاهراً وباطناً، لم ينتفع بما بدا له من خطه ونقشه؛ كما لو أن رجلاً قدم له جوزٌ صحيحٌ لم ينتفع به إلا أن يكسره؛ وكان أيضاً كالرجل الذي طلب علم الفصيح من كلام الناس؛ فأتى صديقاً له من العلماء، له علمٌ بالفصاحة، فأعلمه حاجته إلى علم الفصيح؛ فرسم له صديقه في صحيفة صفراء فصيح الكلام وتصاريفه ووجوهه؛ فانصرف المتعلم إلى منزله؛ فجعل يكثر قراءتها ولا يقف على معانيها. ثم إنه جلس ذات يومٍ في محفلٍ من أهل العلم والأدب، فأخذ في محاورتهم؛ فجرت له كلمةٌ أخطأ فيها؛ فقال له بعض الجماعة: إنك قد أخطأت؛ والوجه غير ما تكلمت به، فقال وكيف أخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء؛ وهي في منزلي? فكانت مقالته لهم أوجب للحجة عليه وزاده ذلك قرباٌ من الجهل وبعداً من الأدب.ثم إن العاقل إذا فهم هذا الكتاب وبلغ نهاية علمه فيه، ينبغي له أن يعمل بنا علم منه لينتفع به؛ ويجعله مثالاً لا يحيد عنه.
فإذا لم يفعل ذلك، كان مثله كالرجل الذي زعموا أن سارقاً تسور عليه وهو نائم في منزله، فعلم به فقال: والله لأسكتن حتى أنظر ماذا يصنع، ولا أذعره؛ ولا أعلمه أني قد علمت به. فإذا بلغ مراده قمت إليه، فنغصت ذلك عليه. ثم إنه أمسك عنه. وجعل السارق يتردد، وطال تردده في جمعه ما يجده؛ فغلب الرجل النعاس فنام، وفرغ اللص مما أراد، وأمكنه الذهاب. واستيقظ الرجل، فوجد اللص قد أخذ المتاع وفاز به. فأقبل على نفسه يلومها، وعرف أن لم ينتفع بعلمه باللص: إذ لم يستعمل في أمره ما يجب. فالعلم لا يتم إلا بالعمل، وهو كالشجرة والعمل به كالثمرة. وإنما صاحب العلم يقوم بالعمل لينتفع به؛ وإن لم يستعمل ما يعلم لا يسمى عالماً.
ولو أن رجلاً كان عالماً بطريقٍ مخوفٍ، ثم سلكه على علمٍ به، سمي جاهلاً؛ ولعله إن حاسب نفسه وجدها قد ركبت أهواءً هجمت بها فيما هو أعرف بضررها فيه وأذاها من ذلك السالك في الطريق المخوف الذي قد جهله. ومن ركب هواه ورفض ما ينبغي أن يعمل بما جربه هو أو أعلمه به غيره، كان كالمريض العالم برديء الطعام والشراب وجيده وخفيفه وثقيله، ثم يحمله الشره على أكل رديئه وترك ما هو أقرب إلى النجاة والتخلص من علته. وأقل الناس عذراً في اجتناب محمود الأفعال وارتكاب مذمومها من أبصر ذلك وميزه وعرف فضل بعضه على بعض كما أنه لو أن رجلين أحدهما بصير والآخر أعمى ساقهما الأجل إلى حفرة فوقعا فيها، كانا إذا صارا في قاعها بمنزلةٍ واحدةٍ؛ غير أن البصير أقل عذراً عند الناس من الضرير: إذ كانت له عينان يبصر بهما، وذاك بما صار إليه جاهل غير عارف.
وعلى العالم أن يبدأ بنفسه ويؤدبها بعلمه، ولا تكون غايته اقتناؤه العلم لمعاونة غيره، ويكون كالعين التي يشرب منها الناس ماءها وليس لها في ذلك شيءٌ من المنفعة، وكدودة القز التي تحكم صنعته ولا تنتفع به. فينبغي لمن يطلب العلم أن يبدأ بعظة نفسه، ثم عليه بعد ذلك أن يقبسه ؛ فإن خلالاً ينبغي لصاحب الدنيا أن يقتنيها ويقبسها: منها العلم والمال. ومنها اتخاذ المعروف. وليس للعالم أن يعيب أمراً بشيءٍ فيه مثله، ويكون كالأعمى الذي يعير الأعمى بعماه. وينبغي لم طلب أمراً أن يكون له فيه غايةٌ ونهايةُ، ويعمل بها، ويقف عندها؛ ولا يتمادى في الطلب؛ فإنه يقال: من سار إلى غير غاية يوشك أن تنقطع به مطيته؛ وأنه كان حقيقاً ألا يعني نفسه في طلب ما لا حد له، وما لم ينله أحد قبله، ولا يتأسف عليه؛ ولا يكون لدنياه مؤثراً على أخرته: فإن من لم يعلق قلبه بالغايات قلت حسرته عند مفارقتها.
وقد يقال في أمرين إنهما يجملان بكل أحدٍ: أحدهما النسك والآخر المال الحلال ولا يليق بالعاقل أن يؤنب نفسه على ما فاته وليس في مقدوره؛ فربما أتاح الله ما يهنأ به ولم يكن في حسبانه. ومن أمثال هذا أن رجلاً كان به فاقةٌ وجوعٌ وعريٌ، فألجأه ذلك إلى أن سأل أقاربه أصدقاءه، فلم يكن عند أحد منهم فضل يعود به عليه. فبينما هو ذات ليلةٍ في منزله إذ أبصر بسارقٍ فيه؛ فقال: والله ما في منزلي شيءٌ أخاف عليه: فليجهد السارق جهده. فبينما السارق يجول إذ وقعت يده على خابية فيها حنطةٌ، فقال السارق: والله ما أحب أن يكون عنائي الليلة باطلاً. ولعلي لا أصل إلى موضع آخر، ولكن سأحمل هذه الحنطة. ثم بسط قميصه ليصب عليه الحنطة. فقال الرجل: أيذهب هذا بالحنطة وليس ورائي سواها? فيجتمع علي مع العري ذهاب ما كنت أقتات به.
وما تجتمع والله هاتان الخلتان على أحدٍ إلا أهلكاه. ثم صاح بالسارق، وأخذ هراوةً كانت عند رأسه؛ فلم يكن للسارق حليةٌ إلا الهرب منه، وترك قميصه ونجا بنفسه؛ وغدا الرجل به كاسياً. وليس ينبغي أن يركن إلى مثل هذا ويدع ما يجب عليه من الحذر والعمل في مثل هذا لصلاح معاشه؛ ولا ينظر إلى من تواتيه المقادير وتساعده على غير التماس منه: لأن أولئك في الناس قليلٌ؛ والجمهور منهم من أتعب نفسه في الكد والسعي فيما يصلح أمره وينال به ما أراد. وينبغي أن يكون حرصه على ما طاب كسبه وحسن نفعه؛ ولا يتعرض لما يجلب عليه العناء والشقاء؛ فيكون كالحمامة التي تفرخ الفراخ وتذبح، ثم لا يمنعها ذلك أن تعود فتفرخ موضعها، وتقيم بمكانها فتؤخذ الثانية من فراخها فتذبح. وقد يقال: إن الله تعالى قد جعل لكل شيءٍ حداً يوقف عليه.
ومن تجاوز في أشياء حدها أوشك أن يلحقه التقصير عن بلوغها. ويقال: من كان سعيه لأخرته ودنياه فحياته له وعليه. ويقال في ثلاثة أشياء يجب على صاحب الدنيا إصلاحها وبذل جهده فيها: منها أمر معيشته؛ ومنها ما بينه وبين الناس؛ ومنها ما يكسبه الذكر الجميل بعد. وقد قيل في أمورٍ من كن فيها لم يستقم له عملٌ. من التواني؛ ومنها تضييع الفرص؛ ومنها التصديق لكل مخبرٍ. فرب مخبرٍ بشيءٍ عقله ولا يعرف استقامته فيصدقه.وينبغي للعاقل أن يكون لهواه متهماً؛ ولا يقبل من كل أحدٍ حديثاً؛ ولا يتمادى في الخطأ إذا ظهر له خطؤه ولا يقدم على أمرٍ حتى يتبين له الصواب، وتتضح له الحقيقة؛ ولا يكون كالرجل الذي يحيد عن الطريق، فيستمر على الضلال، فلا يزداد في السير إلا جهداً، وعن القصد إلا بعداً؛ وكالرجل الذي تقذى عينه فلا يزال يحكها، وربما كان ذلك الحك سبباً لذهابها. ويجب على العاقل أن يصدق بالقضاء والقدر، ويأخذ بالحزم، ويحب الناس ما يحب لنفسه، ولا يلتمس صلاح نفسه بفساد غيره، فإنه من فعل ذلك كان خليقاً أن يصيبه ما أصاب التاجر من رفيقه.
فإنه يقال إنه كان رجلٌ تاجرٌ، وكان له شريكٌ، فاستأجرا حانوتاً، وجعلا متاعهما فيه. وكان أحدهما قريب المنزل من الحانوت؛ فأضمر في نفسه أن يسرق عدلاً من أعدال رفيقه؛ ومكر الحيلة في ذلك، وقال: إن أتيت ليلاً لم آمن من أن أحمل عدلاً من أعدالي أو رزمة من رزمي ولا أعرفها؛ فيذهب عنائي وتعبي باطلاً. فأخذ رداءه، وألقاه على العدل الذي أضمر أخذه. ثم انصرف إلى منزله. وجاء رفيقه بعد ذلك ليصلح أعداله، فوجد رداء شريكه على بعض أعداله، فقال: والله هذا رداء صاحبي؛ ولا أحسبه إلا قد نسيه. وما الرأي أن أدعه هاهنا؛ ولكن اجعله على رزمه؛ فلعله يسبقني إلى الحانوت فيجده حيث يحب. ثم أخذ الرداء فألقاه على عدلٍ من أعدال رفيقه ومعه رجلٌ قد واطأه على ما عزم عليه، وضمن له جعلاً على حمله؛ فصار إلى الحانوت؛ فالتمس الإزار في الظلمة فوجده على العدل؛ فاحتمل ذلك العدل؛ وأخرجه هو والرجل، وجعلا يتراوحان على حمله؛ حتى أتى منزله، ورمى نفسه تعباً.
فلما أصبح افتقده فإذا هو بعض أعداله؛ فندم أشد الندامة. ثم انطلق نحو الحانوت، فوجد شريكه قد سبقه إليه ففتح الحانوت ووجد العدل مفقوداً: فاغتم لذلك غماً شديداً؛ وقال: واسوءتاه من رفيق صالحٍ قد ائتمنني على ماله وخلفني فيه! ماذا يكون حالي عنده? ولست أشك في تهمته إياي. ولكن قد وطنت نفسي على غرامته. ثم أتى صاحبه فوجده مغتماً، فسأله عن حاله؛ فقال إني قد افتقدت الأعدال، وفقدت عدلاً من أعدالك، ولا أعلم بسببه؛ وإني لا أشك في تهمتك إياي؛ وإني قد وطنت نفسي على غرامته. فقال له: يا أخي لا تغتم: فإن الخيانة شر ما عمله الإنسان، والمكر والخديعة لا يؤديان إلى خيرٍ؛ وصاحبهما مغرور أبداً، وما عاد وبال البغي إلا على صاحبه: وكيف كان ذلك? فأخبره بخبره، وقص عليه قصته. فقال له رفيقه: ما مثلك إلا مثل اللص والتاجر.
فقال له: وكيف كان ذلك? قال: زعموا أن تاجراً كان له في منزله خابيتان إحداهما مملوءة حنطة، والأخرى مملوءة ذهباً. فترقبه بعض اللصوص زماناً، حتى إذا كان بعض الأيام تشاغل التاجر عن المنزل؛ فتغفله اللص، ودخل المنزل، وكمن في بعض نواحيه. فلما هي بأخذ الخابية التي فيها الدنانير أخذ التي فيها الحنطة، وظنها التي فيها الذهب؛ ولم يزل في كدٍ وتعبٍ حتى أتى بها منزله فلما فتحها وعلم ما فيها ندم. قال له الخائن: ما أبعدت المثل، ولا تجاوزت القياس؛ وقد اعترفت بذنبي وخطئي عليك، وعزيز علي أن يكون هذا كهذا. غير أن النفس الرديئة تأمر بالفحشاء. فقبل الرجل معذرته، وأضرب عن توبيخه وعن الثقة به؛ وندم هو عندما عاين من سوء فعله وتقديم جهله.
وقد ينبغي للناظر في كتابنا هذا ألا تكون غايته التصفح لتزاويقه. بل يشرف على ما يتضمن من الأمثال، حتى ينتهي منه؛ ويقف عند كل مثلٍ وكلمةٍ، ويعمل فيها رؤيته؛ ويكون مثل أصغر الاخوة الثلاثة الذين خلف لهم أبوهم المال الكثير، قتنازعوه بينهم؛ فأما الكبيران فإنهما أسرعا في إتلافه وإنفاقه في غير وجهه؛ وأما الصغير فإنه عندما نظر ما صار إليه أخواه من إسرافهما وتخليهما من المال، اقبل على نفسه يشاورها وقال: يا نفسي إنما المال يطلبه صاحبه، ويجمعه من كل وجهٍ: لبقاء حاله، وصلاح معاشه ودنياه، وشرف منزلته في أعين الناس، واستغنائه عما في أيديهم، وصرفه في وجهه: من صلة الرحم، والإنفاق على الولد، والإفضال على الإخوان.
فمن كان له مالٌ ولا ينفقه في حقوقه، كان كالذي يعد فقيراً وإن كان موسراً. وإن هو أحسن إمساكه والقيام عليه، لم يعدم الأمرين جميعاً من دنيا تبقى عليه، وحمدٍ يضاف إليه؛ ومتى قصد إنفاقه على غير الوجوه التي علمت، لم يلبث أن يتلفه ويبقى على حسرةٍ وندامةٍ. ولكن الرأي أن أمسك هذا المال، فإني أرجو أن ينفعني الله به: ويغني أخوي على يدي: فإنما هو مال أبي ومال أبيهما. وإن أولى الإنفاق على صلة الرحم وإن بعدت، فكيف بأخوي? فأنفذ فأحضرهما وشاطرهما ماله، وكذلك يجب على قارئ هذا الكتاب أن يديم النظر فيه من غير ضجرٍ، ويلتمس جواهر معانية، ولا يظن أن نتيجة الإخبار عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبعٍ لثورٍ: فينصرف بذلك عن الغرض المقصود. ويكون مثله مثل الصياد الذي كان في بعض الخلجان يصيد فيه السمك في زورق فرأى ذات يوم في أرض الماء صدفةً تتلألأ حسناً، فتوهمها جوهراً له قيمة وكان قد ألقى شبكته في البحر، فاشتملت على سمكةٍ كانت قوت يومه، فخلاها وقذف نفسه في الماء ليأخذ الصدفة، فلما أخرجها وجدها فارغة لا شيء فيها مم ظن.
فندم على ترك ما في يده للطمع، وتأسف على ما فاته، فلما كان اليوم الثاني تنحى عن ذلك المكان، وألقى شبكته، فأصاب حوتاً صغيراً، ورأى أيضاً صدفة سنيةً، فلم يلتفت إليها، وساء ظنه بها، فتركها. فاجتاز بها بعض الصيادين فأخذها، فوجد فيها درةً تساوي أموالاً. وكذلك الجهال إذا أغفلوا أمر التفكير في هذا الكتاب، وتركوا الوقوف على أسرار معاني، وأخذوا بظاهره. ومن صرف همته إلى النظر في أبواب الهزل، كان كرجلٍ أصاب أرضاً طيبةًَ حرةً وحباً صحيحاً، فزرعها وسقاها، حتى إذا قرب خيرها وأينعت، تشاغل عنها بجمع ما فيها من الزهر وقطع الشوط؛ فأهلك بتشاغله ما كان أحسن فائدةً وأجمل عائدةً.وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراضٍ: أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان، فتستمال به قلوبهم: لأنه الغرض بالنوادر من حيل الحيوان.والثاني إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان: ليكون أنساً لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور. والثالث أن يكون على هذه الصفة: فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام؛ ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً. والغرض الرابع، وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصةً.
باب بروزيه ترجمة بزرجمهر بن البختكان
قال بروزيه رأس أطباء فارس، وهو الذي تولى انتساخ هذا الكتاب، وترجمه من كتب الهند - وقد مضى ذكر ذلك من قبل - : أبي كان من المقاتلة، وكانت أمي من عظماء بيوت الزمازمة . وكان منشئي في نعمةٍ كاملةٍ، وكنت أكرم ولد أبوي عليهما؛ وكانا بي أشد احتفاظاً من دون إخوتي، حتى إذا بلغت السبع سنين، أسلماني إلى المؤدب؛ فلما حذقت الكتابة، شكرت أبوي؛ ونظرت في العلم، فكان أول ما ابتدأت به وحرصت عليه، علم الطب: لأني كنت عرفت فضله. وكلما ازددت منع علماً ازددت فيه حرصاً ، وله اتباعاً. فلما همت نفسي بمداواة المرضى، وعزمت على ذلك آمرتها ثم خيرتها بين الأمور الأربعة التي يطلبها الناس، وفيها يرغبون، ولها يسعون. فقلت: أي هذه الخلال أبتغي في علمي? وأيها أحرى بي فأدرك منه حاجتي? المال، أم الذكر، أم اللذات أم الآخرة? وكنت وجدت في كتب الطب أن أفضل الأطباء من واظب على طبه، لا يبتغي إلا الآخرة.
فرأيت أن أطلب الاشتغال بالطب ابتغاء الآخرة: لئلا أكون كالتاجر الذي باع ياقوتةً ثمينةً بخرزةٍ لا تساوي شيئاً؛ مع أني قد وجدت في كتب الأولين أن الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك حظه في الدنيا. وإن مثله مثل الزارع الذي يعمر أرضه ابتغاء الزرع لا ابتغاء العشب. ثم هي لا محالة نابت فيها ألوان العشب مع يانع الزرع. فأقبلت على مداواة المرضى ابتغاء أجر الآخرة، فلم أدع مريضاً أرجو له البرء، وآخر لا أرجو له ذلك، إلا أني أطمع أن يخف عنه بعض المرض، إلا بالغت في مداواته ما أمكنني القيام عليه بنفسي؛ ومن لم أقدر على القيام عليه وصفت له ما يصلح، وأعطيته من الدواء ما يعالج به.
ولم أرد ممن فعلت معه ذلك جزاءً ولا مكافأةً؛ ولم أغبط أحداً من نظرائي الذين هم دوني في العلم وفوقي في الجاه والمال وغيرهما مما لا يعود بصلاح ولا حسن سيرةٍ قولاً ولا عملاً. لما تاقت نفسي إلى غشيانهم وتمنت منازلهم أثبت لها الخصومة ؛ فقلت لها: يا نفس، أما تعرفين نفعك من ضرك? ألا تنتهين عن تمني ما لا يناله أحد إلا قلّ انتفاعه به، وكثر عناؤه فيه، واشتدت المئونة عليه وعظمت المشقة لديه بعد فراقه? يا نفسي، أما تذكرين ما بعد هذه الدار: فينسيك ما تشرهين إليه منها? ألا تستحبين من مشاركة الفجار في حب هذه العاجلة الفانية التي من كان في يده شيءٌ منها فليس له، وليس بباقٍ عليه؛ فلا يألفها إلا المغترون الجاهلون? يا نفس انظري في أمرك، وانصرفي عن هذا السفه، وأقبلي بقوتك وسعيك على تقديم الخير، وإياك والشر، واذكري أن هذا الجسد موجودٌ لآفاتٍ، وأنه مملوءٌ أخلاطاً فاسدةً قذرةً، تعقدها الحياة، والحياة إلى نفادٍ؛ كالصنم المفصلة أعضاؤه إذا ركبت ووضعت، يجمعها مسمارٌ واحدٌ، ويضم يعضها إلى بعضٍ، فإذا أخذ ذلك المسمار تساقطت الأوصال. يا نفس، لا تغتري بصحبة أحبائك وأصحابك، ولا تحرصي على ذلك كل الحرص: فإن صحبتهم - على ما فيها من السرور - كثيرة المئونة، وعاقبة ذلك الفراق.
ومثلها مثل المغرفة التي تستعمل في جدتها لسخونة المرق، فإذا انكسرت صارت وقوداً. يا نفس، لا يحملنك أهلك وأقاربك على جمع ما تهلكين فيه، إرادة صلتهم؛ فإذا أنت كالدخنة الأرجة التي تحترق ويذهب آخرون بريحها. يا نفس، لا يبعد الكثير باليسير؛ كالتاجر الذي كان له ملء بيتٍ من الصندل، فقال: إن بعته وزناً طال علي، فباعه جزافاً بأبخس الثمن. وقد وجدت آراء الناس مختلفة وأهواءهم متباينة؛ وكلٌ على كلٍ رادٌ، وله عدوٌ ومغتابٌ، ولقوله مخالفٌ. فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحدٍ منهم سبيلاً؛ وعرفت أني إن صدقت أحداً منهم لا علم لي بحاله، كنت في ذلك كالمصدق المخدوع الذي زعموا في شأنه أن سارقاً علا ظهر بيت رجلٍ من الأغنياء، وكان معه جماعةٌ من أصحابه، فاستيقظ صاحب المنزل من حركة أقدامهم، فعرف امرأته ذلك؛ فقال لها: رويداً إني لأحسب اللصوص علوا البيت، فأيقظيني بصوت يسمعه اللصوص وقولي ألا تخبرني أيها الرجل عن أموالك هذه الكثيرة وكنوزك العظيمة? فإذا نهيتك عن هذا السؤال فألحي علي بالسؤال. ففعلت المرأة ذلك وسألته كما أمرها؛ وأنصتت اللصوص إلى سماع قولهما.
فقال لها الرجل: أيتها المرأة، قد ساقك القدر إلى رزقٍ واسعٍ كثيرٍ: فكلي واسكتي، ولا تسألي عن أمرٍ إن أخبرتك به لم آمن من أن يسمعه أحدٌ، فيكون في ذلك ما أكره وتكرهين. فقالت المرأة: أخبرني أيها الرجل، فلعمري ما بقربنا أحدٌ يسمع كلامنا. فقال لها: فإني أخبرك أني لم أجمع هذه الأموال إلا من السرقة. قال: وكيف كان ذلك? وما كنت تصنع? قال: ذلك لعلمٍ أصبته في السرقة، وكان الأمر علي يسيراً، وأنا آمن من أن يتهمني أحدٌ أو يرتاب في.ين. فقالت المرأة: أخبرني أيها الرجل، فلعمري ما بقربنا أحدٌ يسمع كلامنا. فقال لها: فإني أخبرك أني لم أجمع هذه الأموال إلا من السرقة. قال: وكيف كان ذلك? وما كنت تصنع? قال: ذلك لعلمٍ أصبته في السرقة، وكان الأمر علي يسيراً، وأنا آمن من أن يتهمني أحدٌ أو يرتاب في.
قالت: فاذكر لي ذلك، قال: كنت أذهب في الليلة المقمرة، أنا وأصحابي، حتى أعلو داء بعض الأغنياء مثلنا؛ فأنتهي إلى الكوة التي يدخل منها الضوء فأرقي بهذه الرقية وهي شولم شولم سبع مرات، وأعتنق الضوء؛ فلا يحس بوقوعي أحدٌ، فلا أدع مالاً ولا متاعاً إلا أخذته. ثم أرقي بتلك الرقية سبع مراتٍ. وأعتنق الضوء فيجذبني؛ فأصعد إلى أصحابي، فنمضي سالمين آمنين. فلما سمع اللصوص ذلك قالوا: قد ظفرنا الليلة بما نريد من المال؛ ثم إنهم أطالوا المكث حتى ظنوا أن صاحب الداء وزوجته قد هجعا؛ فقام قائدهم إلى مدخل الضوء؛ وقال: شولم شولم سبع مراتٍ؛ ثم اعتنق الضوء لينزل إلى أرض المنزل، فوقع على أم رأسه منكساً. فوثب إليه الرجل بهراوته، وقال له: من أنت? قال: أنا المصدق المخدوع المغتر يما لا يكون أبداً؛ وهذه ثمرة رقيتك.
فلما تحرزت من تصديق ما لا يكون، ولم آمن إن صدقته أن يوقعني في مهلكةٍ عدت إلى طلب الأديان والتماس العدل منها؛ فلم أجد عند أحدٍ ممن كلمته جواباً فيما سألته عنه فيها، ولم أر فيما كلموني به شيئاً يحق لي في عقلي أن أصدق به ولا أن أتبعه. فقلم لما لم أجد ثقةً آخذ منه، الرأي أن ألزم دين آبائي وأجدادي الذي وجدتهم عليه. فلما ذهبت التمس العذر لنفسي في لزوم دين الآباء والأجداد، لم أجد لها على الثبوت على دين الآباء طاقةً؛ بل وجدتها تريد أن تتفرغ للبحث عن الأديان والمسألة عنها، وللنظر فيها؛ فهجس في قلبي وخطر على بالي قرب الأجل وسرعة انقطاع الدنيا واعتباط أهلها وتحزم الدهر حياتهم. ففكرت في ذلك.
فلما خفت من التردد والتحول، رأيت ألا أتعرض لما أتخوف منه المكروه؛ وأن أقتصر على عملٍ تشهد النفس أنه يوافق كل الأديان. فكففت يدي عن القتل والضرب، وطرحت نفسي عن المكروه والغضب والسرقة والخيانة والكذب والبهتان والغيبة، وأضمرت في نفسي ألا أبغي على أحدٍ، ولا أكذب بالبعث ولا القيامة ولا الثواب ولا العقاب؛ وزايلت الأشرار بقلبي، وحاولت الجلوس مع الأخيار بجهدي، ورأيت الصلاح ليس كمثله صاحب ولا قرينٌ، ووجدت مكسبه إذا وفق الله وأعان يسيراً؛ ووجدته لا ينقص على الإنفاق منه؛ بل يزداد جدةً وحسناً؛ ووجدته لا خوف عليه من السلطان أن يغصبه، ولا من الماء أن يغرقه، ولا من النار أن تحرقه، ولا من اللصوص أن تسرقه، ولا من السباع وجوارح الطير أن تمزقه؛ووجدت الرجل الساهي اللاهي المؤثر اليسير يناله في يومه ويعدمه في غده على الكثير الباقي نعيمه، يصيبه ما أصاب التاجر الذي زعموا أنه كان له جوهرٌ نفيسٌ، فاستأجر لثقبه رجلاً، اليوم بمائة دينار؛ وانطلق به إلى المنزل ليعمل؛ وإذا في ناحية البين صنجٌ موضوعٌ. فقال التاجر للصانع: هل تحسن أن تلعب بالصنج? قال نعم.
وكان بلعبه ماهراً. فقال التاجر: دونك الصنج فأسمعنا ضربك به. فأخذ الرجل الصنج، ولم يزل يسمع التاجر الضرب الصحيح، والصوت الرفيع، والتاجر يشير بيده ورأسه طرباً، حتى أمسى. فلما حان وقت الغروب قال الرجل للتاجر: مر لي بالأجرة. فقال له التاجر: وهل عملت شيئاً تستحق به الأجرة? فقال له: عملت ما أمرتني به، وأنا أجيرك، وما استعملتني عملت؛ ولم يزل به حتى استوفى منه مائة دينار. وبقي جوهره غير مثقوب. فم أزدد في الدنيا وشهواتها نظراً، إلا ازددت فيها زهادةً ومنها هرباً. ووجدت النسك هو الذي يمهد للمعاد كما يمهد الوالد لولده؛ ووجدته هو الباب المفتوح إلى النعيم المقيم؛ووجدت الناسك قد تدبر فعلته بالسكينة فشكر؛ وتواضع وقنع فاستغنى، ورضي ولم يهتم، وخلع الدنيا فنجا من الشرور، ورفض الشهوات فصار طاهراً، واطرح الحسد فوجبت له المحبة، وسخت نفسه بك شيءٍ؛ واستعمل العقل وأبصر العاقبة فأمن الندامة، ولم يخف الناس ولم يدب إليهم فسلم منهم. فلم أزدد في أمر النسك نظراً، إلا ازددت فيه رغبةً، حتى هممت أن أكون من أهله.
ثم تخوفت ألا أصبر على عيش الناسك، ولم آمن إن تركت الدنيا وأخذت في النسك، أن أضعف عن ذلك؛ ورفضت إعمالاً كنت أرجو عائدتها؛ وقد كنت أعملها فأنتفع بها في الدنيا، فيكون مثلي في ذلك مثل الكلب الذي مر بنهرٍ وفي فيه ضلعٌ، فرأى ظلها في الماء، فهوى ليأخذها، فأتلف ما كان معه؛ ولم يجد في الماء شيئاً. فهبت النسك مهابةً شديدةً، وخفت من الضجر وقلة الصبر، وأردت الثبوت على حالتي التي كنت عليها. ثم بدا لي أن أسبر ما أخاف ألا أصبر عليه من الأذى والضيق والخشونة في النسك؛ وما يصيب صاحب الدنيا من البلاء؛ وكان عندي أنه ليس شيءٌ من شهوات الدنيا ولذاتها إلا وهو متحول إلى الأذى ومولدٌ للحزن.
فالدنيا كالماء الملح الذي يصيبه الكلب فيجد فيه ريح اللحم؛ فلا يزال يطلب ذلك حتى يدمي فاه. وكالحدأة التي تظفر بقطعة من اللحم، فيجتمع عليها الطير، فلا تزال تدور وتدأب حتى تعيا وتتعب؛ فإذا تعبت ألقت ما معها. وكالكوز من العسل الذي في أسفله السم الذي يذاق منه حلاوةٌ عاجلةٌ وآخره موتٌ ذعافٌ ، وكأحلام النائم التي يفرح بها الإنسان في نومه، فإذا استيقظ ذهب الفرح. فلما فكرت في هذه الأمور، رجعت إلى طلب النسك، وهزني الاشتياق إليه؛ ثم خاصمت نفسي إذ هي في شرورها سارحةٌ، وقد لا تثبت على أمرٍ تعزم عليه: كقاضٍ سمع من خصمٍ واحدٍ فحكم له، فلما خضر الخصم الثاني عاد إلى الأول وقضى عليه. ثم نظرت في الذي أكابده من احتمال النسك وضيقه؛ فقلت: ما أصغر هذه المشقة في جانب روح الأبد وراحته. ثم نظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا، فقلت: ما أمر هذا وأوجعه، وهو يدفع إلى عذاب الأبد وأهواله! وكيف لا يستحلي الرجل مرارةً قليلةً تعقبها حلاوةٌ طويلةٌ? وكيف لا تمر عليه حلاوةٌ قليلةٌ تعقبها مرارةٌ دائمةٌ? وقلت: لو أن رجلاً عرض عليه أن يعيش مائة سنةٍ، لا يأتي عليه يومٌ واحدٌ إلا بضع منه بضعةٌ ؛ ثم أعيد عليه من الغد؛ غير أنه يشرط له، أنه إذا استوفى السنين المائة، نجا من كل ألم وأذى، وصار إلى الأمن والسرور، كان حقيقاً ألا يرى تلك السنين شيئاً. أسبر ما أخاف ألا أصبر عليه من الأذى والضيق والخشونة في النسك؛ وما يصيب صاحب الدنيا من البلاء؛ وكان عندي أنه ليس شيءٌ من شهوات الدنيا ولذاتها إلا وهو متحول إلى الأذى ومولدٌ للحزن.
فالدنيا كالماء الملح الذي يصيبه الكلب فيجد فيه ريح اللحم؛ فلا يزال يطلب ذلك حتى يدمي فاه. وكالحدأة التي تظفر بقطعة من اللحم، فيجتمع عليها الطير، فلا تزال تدور وتدأب حتى تعيا وتتعب؛ فإذا تعبت ألقت ما معها. وكالكوز من العسل الذي في أسفله السم الذي يذاق منه حلاوةٌ عاجلةٌ وآخره موتٌ ذعافٌ ، وكأحلام النائم التي يفرح بها الإنسان في نومه، فإذا استيقظ ذهب الفرح. فلما فكرت في هذه الأمور، رجعت إلى طلب النسك، وهزني الاشتياق إليه؛ ثم خاصمت نفسي إذ هي في شرورها سارحةٌ، وقد لا تثبت على أمرٍ تعزم عليه: كقاضٍ سمع من خصمٍ واحدٍ فحكم له، فلما خضر الخصم الثاني عاد إلى الأول وقضى عليه. ثم نظرت في الذي أكابده من احتمال النسك وضيقه؛ فقلت: ما أصغر هذه المشقة في جانب روح الأبد وراحته. ثم نظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا، فقلت: ما أمر هذا وأوجعه، وهو يدفع إلى عذاب الأبد وأهواله! وكيف لا يستحلي الرجل مرارةً قليلةً تعقبها حلاوةٌ طويلةٌ? وكيف لا تمر عليه حلاوةٌ قليلةٌ تعقبها مرارةٌ دائمةٌ? وقلت: لو أن رجلاً عرض عليه أن يعيش مائة سنةٍ، لا يأتي عليه يومٌ واحدٌ إلا بضع منه بضعةٌ ؛ ثم أعيد عليه من الغد؛ غير أنه يشرط له، أنه إذا استوفى السنين المائة، نجا من كل ألم وأذى، وصار إلى الأمن والسرور، كان حقيقاً ألا يرى تلك السنين شيئاً.
وكيف يأبى الصبر على أيام قلائل يعيشها في النسك، وأذى تلك الأيام قليلٌ يعقب خيراً كثيراً? فلنعلم أن الدنيا كلها بلاءٌ وعذابٌ. أوليس الإنسان إنما يتقلب في عذاب الدنيا من حين يكون جنيناً إلى أن يستوفي أيام حياته? فإذا كان طفلاً ذاق من العذاب ألواناً: إن جاع فليس به استطعامٌ، أو عطش فليس به استسقاءٌ، أو وجع فليس به استغاثةٌ؛ مع ما يلقى من الوضع والحمل واللف والدهن والمسح؛ إن أنيم على ظهره لم يستطع تقلباً؛ ثم يلقى أصناف العذاب مادام رضيعاً، فإذا أفلت من هذا الرضاع، أخذ في عذاب الأدب، فأذيق من ألواناً: من عنف المعلم، وضجر الدرس، وسآمة الكتابة؛ ثم له من الدواء والحمية والأسقام والأوجاع أوفى حظٍ. فإذا أدرك كانت همته في جمع المال وتربية الولد ومخاطرة الطلب والسعي والكد والتعب. وهو مع ذلك يتقلب مع أعدائه الباطنية اللازمة له: وهي الصفراء والسوداء والريح والبلغم والدم والسم المميت والحية اللاذعة؛ مع الخوف من السباع والهوام؛ مع صرف الحر والبرد والمطر والرياح؛ ثم أنواع عذاب الهرم لمن يبلغه.
فلو لم يخف من هذه الأمور شيئاً، وكان قد أمن ووثق بالسلامة منها فلم يفكر فيها، لوجب عليه أن يعتبر بالساعة التي يحضره فيها الموت، فيفارق الدنيا؛ ويتذكر ما هو نازل به في تلك الساعة: من فراق الأحبة والأهل والأقارب وكل منونٍ به من الدنيا، والإشراف على الهول العظيم بعد الموت. فلو لم يفعل ذلك، لكان حقيقاً أن يعد عاجزاً مفرطاً محباً للدناءة مستحقاً للوم؛ فمن ذا الذي يعلم ولا يحتال لغد جهده في الحيلة، ويرفض ما يشغله ويلهيه من شهوات الدنيا وغرورها? و لاسيما في هذا الزمان الشبيه بالصافي وهو كدرٌ فإنه وإن كان الملك حازماً عظيم المقدرة، رفيع الهمة بليغ الفحص، عدلاً مرجواً صدوقاً شكوراً، رحب الذراع مفتقداً مواظباً مستمراً عالماً بالناس والأمور، محباً للعلم والخير والأخيار، شديداً على الظلمة، غير جبانٍ و خفيف القياد، رفيقاً بالتوسع على الرعية فيما يحبون، والدفع لما يكرهون؛ فإنا قد نرى الزمان مدبراً بكل مكانٍ، فكأن أمور الصدق قد نزعت من الناس، فأصبح ما كان عزيزاً فقده مفقوداً، وموجوداً ما كان ضائراً وجوده. وكأن الخير أصبح ذابلاً والشر أصبح ناضراً. وكأن الفهم أصبح قد زالت سبله. وكأن الحق ولى كسيراً وأقبل الباطل تابعه. وكأن اتباع الهوى وإضاعة الحكم أصبح بالحكام موكلاً؛ وأصبح المظلوم بالحيف مقراً والظالم لنفسه مستطيلاً.
وكأن الحرص أصبح فاغراً فاه من كل وجهةٍ يتلقف ما قرب منه وما بعد. وكأن الرضا أصبح مجهولاً. وكأن الأشرار يقصدون السماء صعوداً. وكأن الأخيار يريدون بطن الأرض؛ وأصبحت الدناءة مكرمةٌ ممكنةٌ؛ وأصبح السلطان منتقلاً عن أهل الفضل إلى أهل النقص. وكأن الدنيا جذلة مسرورةٌ تقول: قد غيبت الخيرات وأظهرت السيئات. فلما فكرت في الدنيا وأمورها؛ وأن الإنسان هو أشرف الخلق فيها وأفضله؛ ثم هو لا يتقلب إلا في الشرور والهموم، عرفت أنه ليس إنسانٌ ذو عقلٍ يعلم ذلك ثم لا يحتال لنفسه في النجاة؛ فعجبت من ذلك كل العجب. ثم نظرت فإذا الإنسان لا يمنعه عن الاحتيال لنفسه إلا لذةٌ صغيرةٌ حقيرةٌ غير كبيرةٍ من الشم والذوق والنظر والسمع واللمس: فعله يصيب منها الطفيف أو يقتني منها اليسير؛ فإذا ذلك يشغله ويذهب به عن الاهتمام لنفسه وطلب النجاة لها.
فالتمست للإنسان مثلاً، فإذا مثله مثل رجلٍ نجا من خوف فيلٍ هائجٍ إلى بئرٍ، فتدلى فيها، وتعلق بغصنين كانا على سمائها، فوقعت رجلاه على شيءٍ في طي البئر. فإذا حياتٌ أربع قد أخرجن رءوسهن من أحجارهن، ثم نظر فإذا في قاع البئر تنين فاتح فاه منتظر له ليقع فيأخذه؛ فرفع بصره إلى الغصنين فإذا في أصلهما جرذان أسود وأبيض، وهما يقرضان الغصنين دائبين لا يفتران، فبينما هو في النظر لأمره والاهتمام لنفسه، إذا أبصر قريباً منه كوارةً فيها عسل نحلٍ؛ فذاق العسل، فشغلته حلاوته وألهته لذته عن الفكرة في شيءٍ من أمره، وأن يلتمس الخلاص لنفسه؛ ولم يذكر أن رجليه على حياتٍ أربعٍ لا يدري متى يقع عليهن؛ ولم يذكر أن الجرذين دائبان في قطع الغصنين؛ ومتى انقطعا وقع على التنين. فلم يزل لاهياً غافلاً مشغولاً بتلك الحلاوة حتى سقط في فم التنين فهلك. فشبهت بالبئر الدنيا المملوءة آفاتٍ وشروراً، ومخافاتٍ وعاهاتٍ؛ وشبهت بالحيات الأربع الأخلاط الأربعة التي في البدن: فإنها متى هاجت أو أحدها كانت كحمة الأفاعي والسم المميت؛ وشبهت بالجرذين الأسود والأبيض الليل والنهار اللذين هما دائبان في إفناء الأجل؛ وشبهت بالتنين المصير الذي لا بد منه؛ وشبهت بالعسل هذه الحلاوة القليلة التي ينال منها الإنسان فيطعم ويسمع ويشم ويلمس، ويتشاغل عن نفسه، ويلهو عن شأنه، ويصد عن سبيل قصده. فحينئذٍ صار أمري إلى الرضا بحالي وإصلاح ما استطعت إصلاحه من عملي: لعلي أصادف باقي أيامي زماناً أصيب فيه دليلاً على هداي، وسلطاناً على نفسي، وقواماً لأمري، فأقمت على هذه الحال وانتسخت كتباً كثيرةً؛ وانصرفت من بلاد الهند، وقد نسخت هذا الكتاب.
باب الأسد والثور وهو أول الكتاب
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف، وهو رأس البراهمة: اضرب لنا مثلاً لمتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال، حتى يحملهما على العداوة والبغضاء. قال بيدبا: إذا ابتلي المتحابان بأن يدخل بينهما الكذوب المحتال، لم يلبثا أن يتقاطعا ويتدابرا. ومن أمثال ذلك أنه كان بأرض دستاوند رجلٌ شيخٌ وكان له ثلاثة بنين. فلما بلغوا أشدهم أسرفوا في مال أبيهم؛ ولم يكونوا احترفوا حرفةً يكسبون لأنفسهم بها خيراً. فلامهم أبوهم؛ ووعظهم على سوء فعلهم؛ وكان من قوله لهم: يا بني إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور لن يدركها إلا بأربعة أشياء: أما الثلاثة التي يطلب، فالسعة في الرزق والمنزلة في الناس والزاد للآخرة؛ وأما الأربعة التي يحتاج إليها في درك هذه الثلاثة، فاكتساب المال من أحسن وجه يكون، ثم حسن القيام على ما اكتسب منه، ثم استثماره، ثم إنفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضي الأهل والإخوان، فيعود عليه نفعه في الآخرة. فمن ضيع شيئاً من هذه الأحوال لم يدرك ما أراد من حاجته: لأنه إن لم يكتسب، لم يكن مالٌ يعيش به؛ وإن هو كان ذا مالٍ واكتسابٍ ثم لم يحسن القيام عليه، أوشك المال أن يفنى ويبقى معدماً؛ وإن هو وضعه ولم يستثمره، لم تنعه قلة الإنفاق من سرعة الذهاب: كالكحل الذي لا يؤخذ منه إلا غبار الميل ثم هو مع ذلك سريعٌ فناؤه. وإن أنفقه في غير وجهه، ووضعه في غير موضعه، وأخطأ في مواضع استحقاقه، صار بمنزلة الفقير الذي لا مال له؛ ثم لا يمنع ذلك ماله من التلف بالحوادث والعلل التي تجري عليه؛ كمحبس الماء الذي لا تزال المياه تنصب فيه، فإن لم يكن له مخرجٌ ومفيضٌ ومتنفسٌ يخرج الماء منه بقدر ما ينبغي، خرب وسال ونز من نواحٍ كثيرةٍ، وربما انبثق البثق العظيم فذهب الماء ضياعاً. ثم أنبني الشيخ اتعظوا بقول أبيهم وأخذوا به وعلموا أن فيه الخير وعولوا عليه؛ فانطلق أكبرهم نحو أرضٍ يقال لها ميون؛ فأتى في طريقه على مكانٍ فيه وحلٌ كثيرٌ؛ وكان معه عجلةٌ يجرها ثوران يقال لأحدهما شتربة وللآخر بندبة، فوحل شتربة في ذلك المكان، فعالجه الرجل وأصحابه حتى بلغ منهم الجهد، فلم يقدروا على إخراجه؛ فذهب الرجل وخلف عنده رجلاً يشارفه: لعل الوحل ينشف فيتبعه بالثور. فلما بات الرجل بذلك المكان، تبرم به واستوحش؛ فترك الثور والتحق بصاحبه، فأخبره أن الثور قد مات؛ وقال له: إن الإنسان إذا انقضت مدته وحانت منيته فهو وإن اجتهد في التوقي من الأمور التي يخاف فيها على نفسه الهلاك لم يغن ذلك عنه شيئاً؛ وربما عاد اجتهاده في توقيه وحذره وبالاً عليه .
كالذي قيل: إن رجلاً سلك مفازةً فيها خوفٌ من السباع؛ وكان الرجل خبيراً بوعث تلك الأرض وخوفها؛ فلما سار غير بعيد اعترض له ذئبٌ من أحد الذئاب وأضراها؛ فلما رأى الرجل أن الذئب قاصد نحوه خاف منه، ونظر يميناً وشمالاً ليجد موضعاً يتحرز فيه من الذئب فلم ير إلا قريةً خلف واد؛ ورأى الذئب قد أدركه، فألقى نفسه في الماء، وهو لا يحسن السباحة، وكاد يغرق، لولا أن بصر به قومٌ من أهل القرية؛ فتواقعوا لإخراجه فأخرجوه، وقد أشرف على الهلاك؛ فلما حصل الرجل عندهم وأمن على نفسه من غائلة الذئب رأى على عدوة الوادي بيتاً مفرداً؛ فقال: أدخل هذا البيت فأستريح فيه. فلما دخله وجد جماعةً من اللصوص قد قطعوا الطريق على رجلٍ من التجار. وهم يقتسمون ماله؛ ويريدون قتله؛ فلما رأى الرجل ذلك خاف على نفسه ومضى نحو القرية؛ فأسند ظهره إلى حائط من حيطانها ليستريح مما حل به من الهول والإعياء، إذ سقط الحائط عليه فمات. قال التاجر: صدقت؛ قد بلغني هذا الحديث. وأما الثور فإنه خلص من مكانه وانبعث. فلم يزل في مرجٍ مخصبٍ كثير الماء والكلأ؛ فلما سمن وأمن جعل يخور ويرفع صوته بالخوار.
وكان قريباً منه أجمةٌ فيها أسدٌ عظيمٌ؛ وهو ملك تلك الناحية، ومعه سباعٌ كثيرةٌ وذئابٌ وبنات آوى وثعالب وفودٌ ونمورٌ؛ وكان هذا الأسد منفرداً برأيه دون أخذٍ برأي أحدٍ من أصحابه. فلما سمع خوار الثور، ولم يكن رأى ثوراُ قط، ولا سمع خواره؛ لأنه كان مقيماً مكانه لا يبرح ولا ينشط؛ بل يؤتى برزقه كل يومٍ على يد جنده. وكان فيمن معه من السباع ابنا آوى يقال لأحدهما كليلة وللآخر دمنة؛ وكانا ذوي دهاء وعلمٍ وأدبٍ. فقال دمنة لأخيه كليلة: يا أخي ما شأن الأسد مقيماً مكانه لا يبرح ولا ينشط? قال له كليلة: ما شأنك أنت والمسألة عن هذا? نحن على باب ملكنا آخذين بما أحب وتاركين لما يكره؛ ولسنا من أهل المرتبة التي يتناول أهلها كلام الملوك والنظر في أمورهم. فأمسك عن هذا، واعلم أنه من تكلف من القول والفعل ما ليس من شأنه أصابه ما أصاب القرد من النجار. قال دمنة: وكيف كان ذلك? قال كليلة: زعمواً أن قرداً رأى نجاراً يشق خشبة بين وتدين، وهو راكب عليها؛ فأعجبه ذلك.
ثم إن النجار ذهب لبعض شأنه. فقام القرد؛ وتكلف ما ليس من شغله، فركب الخشبة، وجعل ظهره قبل الوتد، ووجهه قبل الخشبة؛ فتدلى ذنبه في الشق، ونزع الوتد فلزم الشق عليه فخر مغشياً عليه. فكان ما لقي من النجار من الضرب أشد مما أصابه من الخشبة. قال دمنة: قد سمعت ما ذكرت، ولكن اعلم أن كل من يدنو من الملوك ليس يدنو منهم لبطنه، وإنما يدنو منهم ليسر الصديق ويكبت العدو. وإن من الناس من لا مروءة له؛ وهم الذين يفرحون بالقليل ويرضون بالدون؛ كالكلب الذي يصيب عظماً يابساً فيفرح به. وأما أهل الفضل والمروءة فلا يقنعهم القليل، ولا يرضون به، دون أن تسموا به نفوسهم إلى ما هم أهلٌ له، وهو أيضاً لهم أهلٌ؛ كالأسد الذي يفترس الأرنب، فإذا رأى البعير تركها وطلب البعير، ألا ترى أن الكلب يبصبص بذنبه. حتى ترمى له الكسرة، وأن الفيل المعترف بفضله وقوته إذا قدم إليه علفه لا يعتلفه حتى يمسح ويتملق له. قمن عاش ذا مالٍ وكان ذا فضلٍ وإفضالٍ على أهله وإخوانه فهو وإن قل عمره طويل العمر. ومن كان في عيشه ضيقٌ وقلةٌ وإمساكٌ على نفسه وذويه فالمقبور أحيا منه. ومن عمل لبطنه وقنع وترك ما سوى ذلك عد من البهائم.
قال كليلة: قد فهمت ما قلت؛ فراجع عقلك، واعلم أن لكل إنسانٍ منزلةً وقدراً. فإن كان في منزلته التي هو فيها متماسكاً، كان حقيقاً أن يقنع. وليس لنا من المنزلة ما يحط حالنا التي نحن عليها. قال دمنة: إن المنازل متنازعةٌ مشتركةٌ على قدر المروءة؛ فالمرء ترفعه مروءته من المنزلة الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة؛ ومن لا مروءة له يحط نفسه من المنزلة الرفيعة إلى المنزلة الوضيعة. إن الارتفاع إلى المنزلة الشريفة شديدٌ، والانحطاط منه مهينٌ؛ كالحجر الثقيل: رفعه من الأرض إلى العاتق عسرٌ، ووضعه إلى الأرض هينٌ. فنحن أحق أن نروم ما فوقنا من المنازل، وأن نلتمس ذلك بمروءتنا. ثم كيف نقنع بها ونحن نستطيع التحول عنها? قال كليلة: فما الذي اجتمع عليه رأيك? قال دمنة: أريد أن أتعرض لأسد عند هذه الفرصة: فإن الأسد ضعيف الرأي. ولعلي على هذه الحال أدنو منه فأصيب عنده منزلةً ومكانةً. قال كليلة: وما يدريك أن الأسد قد التبس عليه أمره? قال دمنة: بالحس والرأي أعلم ذلك منه: فإن الرجل ذا الرأي يعرف حال صاحبه وباطن أمره بما يظهر له من دله وشكله. قال كليلة: فكيف ترجو المنزلة عند الأسد ولست بصاحب السلطان، ولا لك علمٌ بخدمة السلاطين? قال دمنة: الرجل الشديد القوي لا يعجزه الحمل الثقيل، وإن لم تكن عادته الحمل؛ والرجل الضعيف لا يستقل به وإن كان ذلك من صناعته. قال كليلة: فإن السلطان لا يتوخى بكرامته فضلاء من بحضرته؛ ولكنه يؤثر الأدنى ومن قرب منه.
ويقال: إن مثل السلطان في ذلك مثل شجر الكرم الذي لا يعلق إلا بأقرب الشجر. وكيف ترجو المنزلة عند الأسد ولست تدنو منه? قال دمنة: قد فهمت كلامك جميعه وما ذكرت، وأنت صادقٌ. لكن اعلم أن الذي هو قريبٌ من السلطان ولا ذلك في موضعه ولا تلك منزلته، ليس كمن دنا منه بعد البعد وله حقٌ وحرمةٌ؛ وأنا ملتمس بلوغ مكانتهم بجهدي. وقد قيل: لا يواظب على باب السلطان إلا من يطرح الأنفة ويحمل الأذى ويكظم الغيظ ويرفق بالناس ويكتم السر؛ فإذا وصل إلى ذلك فقد بلغ مراده. قال كليلة: هبك وصلت إلى الأسد، فما توفيقك عنده الذي ترجو أن تنال به المنزلة والحظوة لديه? قال دمنة: لو دنوت منه وعرفت أخلاقه، لرفقت في متابعته وقلة الخلاف له. وإذا أراد أمراً هو في نفسه صواب، زينته له وصبرته عليه، وعرفته بما فيه من النفع والخير؛ وشجعته عليه وعلى الوصول إليه، حتى يزداد به سروراً. وإذا أراد أمراً بما فيه الضر والشين، وأوقفته على ما في تركه من النفع والزين، بحسب ما أجد إليه السبيل. وأنا أرجو أن أزداد بذلك عند الأسد مكانةً ويرى مني ما لا يراه من غيري: فإن الرجل الأديب الرفيق لو شاء أن يبطل حقاً أو يحق باطلاً لفعل: كالمصور الماهر الذي يصور في الحيطان صوراً كأنها خارجةٌ وليست بخارجةٍ، وأخرى كأنها داخلةٌ وليست بداخلةٍ. قال كليلة: أما إن قلت هذا أو قلت هذا فإن أخاف عليك من السلطان فإن صحبته خطرةٌ.
وقد قالت العلماء: إن أموراً ثلاثة لا يجترئ عليهن إلا أهوج، ولا يسلم منهن إلا قليلٌ، وهي: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة. وإنما شبه العلماء السلطان بالجبل الصعب المرتقى الذي فيه الثمار الطيبة والجواهر النفيسة والأدوية النافعة. وهو مع ذلك معدن السباع والنمور والذئاب وكل ضارٍ مخوفٍ. فالارتقاء إليه شديدٌ، والمقام فيه أشد. قال دمنة: صدقت فيما ذكرت؛ غير أنه من لم يركب الأهوال، لم ينل الرغائب؛ ومن ترك الأمر الذي لعله يبلغ فيه حاجته هيبةً ومخافةً لما لعله أن يتوقاه، فليس ببالغٍ جسيماً. وقد قيل: إن خصالاً ثلاثاً لن يستطيعها أحد إلا يمعونة من علو همةٍ وعظيم خطرٍ: منها عمل السلطان وتجارة البحر ومناجزة العدو. وقد قالت العلماء في الرجل الفاضل الرشيد: إن لا يرى إلا في مكانين، ولا يليق به غيرهما: إما مع الملوك مكرماً، وإما مع النساك متعبداً، كالفيل إنما جماله وبهاؤه في مكانتين: إما أن تراه وحشياً وإما مركباً للملوك. قال كليلة: خار الله لك فيما عزمت عليه.
ثم إن دمنة انطلق حتى دخل الأسد فسلم عيه. فقال الأسد لبعض جلسائه: من هذا? فقال فلان بن فلان. قال: قد كنت أعرف أباه. ثم سأله أين تكون? قال: لم أزل ملازماً باب الملك، رجاء أن يحضر أمرٌ فأعين الملك به بنفسي ورأيي: فإن أبواب الملك تكثر فيها الأمور التي ربما تحتاج فيها إلى الذي لا يؤبه له؛ وليس أحدٌ يصغر أمره إلا وقد يكون عنده بعض الغناء والمنافع على قدره؛ حتى العود الملقى في الأرض ربما نفع، فيأخذه الرجل فيكون عدته عند الحاجة إليه. فلما سمع الأسد قول دمنة أعجبه، وظن أن عنده نصيحةً ورأياً. فأقبل على من حضر فقال: إن الرجل ذا العلم والمروءة يكون خامل الذكر خافض المنزلة، فتأبى منزلته إلا أن تشب وترتفع؛ كالشعلة من النار يضربها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً. فلما عرف دمنة أن الأسد قد عجب منه قال: إن رعية الملك تحضر باب الملك، رجاء أن يعرف ما عندها من علمٍ وافرٍ. وقد يقال: إن الفضل في أمرين: فضل المقاتل على المقاتل والعالم على العالم. وإن كثرة الأعوان إذا لم يكونوا مختبرين ربما تكون مضرةً على العمل: فإن العمل ليس رجاؤه بكثرة الأعوان ولكن بصالحي الأعوان. ومثل ذلك مثل الرجل الذي يحمل الحجر الثقيل، فيقل به نفسه، ولا يجد له ثمناً. والرجل الذي يحتاج إلى الجذوع لا يجزئه القصب وإن كثر.
فأنت الآن أيها الملك حقيقٌ ألا تحقر مروءةٌ أنت تجدها عند رجل صغير المنزلة: فإن الصغير ربما عظم، كالعصب يؤخذ من الميتة فإذا عمل منه القوس أكرم، فتقبض عليه الملوك وتحتاج إليه في البأس واللهو.وأحب دمنة أن يري القوم أن ما ناله من كرامة الملك غنما هو لرأيه ومروءته وعقله: لأنهم عرفوا قبل ذلك أن ذلك لمعرفته أباه، فقال: إن السلطان لا يقرب الرجال لقرب آبائهم، ولا يبعدهم لبعدهم، ولكن ينبغي أن ينظر إلى كل رجلٍ بما عنده: لأنه لا شيء أقرب إلى الرجل من جسده ومن جسده ما يدوى حتى يؤذيه ولا يدفع ذلك عنه إلا بالدواء الذي يأتيه من بعد.فلما فرغ دمنة من مقالته هذه أعجب الملك به إعجاباً شديداً، وأحسن الرد عليه، وزاد في كرامته. ثم قال لجلسائه: ينبغي للسلطان ألا يلج في تضييع حق ذوي الحقوق. والناس في ذلك رجلان: رجلٌ طبعه الشراسة، فهو كالحية إن وطئها الواطئ فلم تلدغه، لم يكن جديراً أن يغره ذلك منها، فيعود إلى وطئها ثانية فتلدغه؛ ورجلٌ أصل طباعه السهولة، فهو كالصندل البارد الذي إذا أفرط في حكه صار حاراً مؤذياً.ثم إن دمنة استأنس بالأسد وخلا به. فقال يوما: أرى الملك قد أقام في مكانٍ واحدٍ لا يبرح منه، فما سبب ذلك? فبينما هما في هذا الحديث إذ خار شتربة خواراً شديداً: فهيج الأسد وكره أن يخبر دمنة بما ناله؛ وعلم دمنة أن ذلك الصوت قد أدخل على الأسد ريبةً وهيبةً. فسأله: هل راب الملك سماع هذا الصوت? قال لم يربني شيءٌ سوى ذلك. قال دمنة: ليس الملك بحقيقٍ أن يدع مكانه لأجل صوتٍ. فقد قالت العلماء: إن ليس من كل الأصوات تجب الهيبة. قال الأسد: وما مثل ذلك?
قال دمنة: زعموا أن ثعلباً أتى أجمةً فيها طبل معلق على شجرةٍ، وكلما هبت الريح على قضبان تلك الشجرية حركتها، فضربت الطبل فسمع له صوتٌ عظيمٌ؛ فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظم صوته؛ فلما أتاه وجده ضخماً، فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم. فعالجه حتى شقه. فلما رآه أجوف لا شيء فيه، قال: لا أدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثةً. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن هذا الصوت الذي راعنا، لو وصلنا إليه، لوجدناه ايسر مما في أنفسنا. فإن شاء الملك بعثني وأقام بمكانه حتى آتيه ببيان هذا الصوت. فوافق الأسد قوله، فأذن له بالذهاب نحو الصوت. فانطلق دمنة إلى المكان الذي فيه شتربة. فلما فصل دمنة من عند الأسد، فكر الأسد في أمره، وندم على إرسال دمنة حيث أرسله، وقال في نفسه: وأصبت في ائتماني دمنة، وقد كان ببابي مطروحاً، فإن الرجل إذا كان يحضر باب الملك، وقد أبطلت حقوقه من غير جرمٍ كان منه، أو كان مبغياً عليه عند سلطانه؛ أو كان عنده معروفاً بالشره والحرص، أو كان قد أصابه ضرٌ وضيقٌ فلم ينعشه، أو كان قد اجترم جرماً فهو يخاف العقوبة منه، أو كان يرجو شيئاً يضر الملك وله منه نفع؛ أو يخاف في شيءٍ مما ينفعه ضراً، أو كان لعدو الملك مسالماً، ولمسالمه محارباً، فليس السلطان بحقيقٍ أن يعجل بالاسترسال إليه، والثقة به، والائتمان له: فإن دمنة داهيةٌ أريبٌ. وقد كان ببابي مطروحاً مجفواً.
ولعله قد احتمل علي بذلك ضغناً، ولعل ذلك يحمله على خيانتي وإعانة عدوي ونقيصتي عنده؛ ولعله صادف صاحب الصوت أقوى سلطاناً مني فيرغب به عني ويميل مع عليّ. ثم قام من مكانه فمشى غير بعيدٍ، فبصر بدمنة مقبلاً نحوه فطابت نفسه بذلك، ورجع إلى مكانه، ودخل دمنة على الأسد فقال له: ماذا صنعت? وماذا رأيت? قال: رأيت ثوراً هو صاحب الخوار والصوت الذي سمعته. قال: فما قوته? قال: لا شوكة له. وقد دنوت منه وحاورته محاورة الأكفاء ولا يصغرن عندك أمره: فإن الريح الشديدة لا تعبأ بضعيف الحشيش، لكنها تحطم طوال النخل وعظيم الشجر. قال دمنة: لا تهابن أيها الملك منه شيئاً؛ ولا يكبرن عليك أمره: فأنا آتيك به ليكون لك عبداً سامعاً مطيعاً. قال الأسد: دونك وما بدا لك.فانطلق دمنة إلى الثور، فقال له غير هائب ولا مكترث: إن الأسد أرسلني إليك لآتيه بك. وأمرني، إن أنت عجلت إليه طائعاً، أو أؤمنك على ما سلف من ذنبك في التأخر عنه وتركك لقاءه؛ وإن أنت تأخرت عنه وأحجمت، أن أعجل الجرعة إليه فأخبره. قال له شتربة: ومن هو هذا الأسد الذي أرسلك إلي? وأين هو? وما حاله? قال دمنة: هو ملك السباع، وهو بمكان كذا، ومعه جندٌ كثيرٌ من جنسه فرعب شتربة من ذكر الأسد والسباع. وقال: إن أنت جعلت لي الأمان على نفسي أقبلت معك إليه. فأعطاه دمنة من الأمان ما وثق به. ثم أقبل والثور معه، حتى دخلا على الأسد فأحسن الأسد إلى الثور وقرّبه؛ وقال له: متى قدمت هذه البلاد? وما أقدمكها? فقص شتربة عليه قصته. فقال له الأسد اصحبني والزمني: فإني مكرمك. فدعا الثور وأثنى عليه.ثم إن الأسد قرب شتربة وأكرمه وأنس به وأتمنه على أسراره وشاوره في أمره، ولم تزده الأيام إلا عجباً به ورغبةً فيه وتقريباً منه؛ حتى صار أخص أصحابه عنده منزلةً. فلما رأى دمنة أن الثور قد اختص بالأسد دونه ودون أصحابه، وأنه قد صاد صاحب رأيه وخلواته ولهوه، حسده حسداً عظيماً، وبلغ منه غيظه كل مبلغ: فشكا ذلك إلى أخيه كليلة، وقال له: ألا تعجب يا أخي من عجز رأيي، وصنعي بنفسي? ونظري فيما ينفع الأسد، وأغفلت نفع نفسي حتى جلبت إلى الأسد ثوراً غلبني على منزلتي.
قال كليلة: أخبرني عن رأيك وما تريد أن تعرم عليه في ذلك. قال دمنة: أما أنا فلست اليوم أرجو أن تزداد منزلتي عند الأسد فوق ما كانت عليه؛ ولكن ألتمس أن أعود إلى ما كنت عليه: فإن أموراً ثلاثةً العاقل جدير بالنظر فيها، والاحتيال لها بجهده: منها النظر فيما مضى من الضر والنفع، فيحترس من الضر الذي أصابه فيما سلف لئلا يعود إلى ذلك الضر، ويلتمس النفع الذي مضى ويحتال لمعاودته؛ ومنها النظر فيما هو مقيم فيه من المنافع والمضاء، والاستيثاق بما ينفع والهرب مما يضر؛ ومنها النظر في مستقبل ما يرجو من قبل النفع، وما يخاف من قبل الضر، فيستتم ما يرجو ويتوقى ما يخاف بجهده. وإني لما نظرت في الأمر الذي به أرجو أن تعود منزلتي، وما غلبت عليه مما كنت فيه، لم أجد حيلةً ولا وجهاً إلا الاحتيال لآكل العشب هذا، حتى أفرق بينه وبين الحياة: فإنه إن فارق الأسد عادت لي منزلتي. ولعل ذلك يكون خيراً للأسد: فإن إفراطه في تقريب الثور خليقٌ أن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: ما أرى على الأسد في رأيه في الثور ومكانه منه ومنزلته عنده شيناً ولا شراً. قال دمنة: إنما يؤتى السلطان ويفسد أمره من قبل ستة أشياء: الحرمان والفتنة والهوى والفظاظة والزمان والخرق.فأما الحرمان فأن يحرم صالح الأعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة والأمانة، وترك التفقد لمن هو كذلك. وأما الفتنة فهي تحارب الناس ووقوع الحرب بينهم. وأما الهوى فالغرام بالحدث واللهو والشراب والصيد وما أشبه ذلك. وأما الفظاظة فهي إفراط الشدة حتى يجمح اللسان بالشتم واليد بالبطش في غير موضعهما. وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من السنين والموت ونقص الثمرات والغزوات وأشباه ذلك.
وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين، واللين في موضع الشدة. وإن الأسد قد أغرم بالثور إغراماً شديداً هو الذي ذكرت لك أنه خليق لأن يشينه ويضره في أمره. قال كليلة: وكيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على الأسد وأكثر أعواناً? قال دمنة: لا تنظر إلى صغري وضعفي: فإن الأمور ليست بالضعف ولا القوة ولا الصغر ولا الكبر في الجثة: فرب صغيرٍ ضعيفٍ قد بلغ حيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثير من الأقوياء. أولم يبلغك أن غراباً ضعيفاً احتال لأسود حتى قتله? قال كليلة: وكيف كان ذلك? قال دمنة: زعموا أن غراباً كان له وكرٌ في شجرةٍ على جبلٍ؛ وكان قريباً منه حجر ثعبانٍ أسود، فكان الغراب إذا فرخ عمد الأسود إلى فراخه فأكله؛ فبلغ ذاك من الغراب وأحزنه، فشكا ذلك إلى صديق له من بنات آوى؛ وقال له: أريد مشاورتك في أمرٍ قد عزمت عليه؛ قال: وما هو? قال الغراب: قد عزمت أن أذهب اليوم إلى الأسود إذا نام، فأنقر عينيه، فأفقأهما، لعلي أستريح منه. قال ابن آوى: بئس الحيلة التي احتلت؛ فالتمس أمراً تصيب فيه بغيتك من الأسود، من غير أن تغرر بنفسك وتخاطر بها. وإياك أن يكون مثلك مثل العلجوم الذي أراد قتل السرطان فقتل نفسه. قال الغراب: وكيف كان ذلك?
قال ابن آوى: زعموا أن علجوماً عشّش في أجمةٍ كبيرة السمك؛ فعاش بها ما عاش؛ ثم هرم فلم يستطع صيداً؛ فأصابه جوعٌ وجهدٌ شديدٌ؛ فجلس حزيناً يلتمس الحيلة في أمره؛ فمر به سرطانٌ، فرأى حالته وما هو عليه من الكآبة والحزن؛ فدنا منه وقال: مالي أراك أيها الطائر هكذا حزيناً كئيباً? قال العلجوم: وكيف لا أحزن وقد كنت أعيش من صيد ما ها هنا من السمك? وإني قد رأيت اليوم صيادين قد مرا بهذا المكان؛ فقال أحدهما لصاحبه: إن ها هنا سمكاً كثيراً أفلا نصيده أولاً? فقال الآخر: إني قد رأيت في مكان كذا سمكاً أكثر من هذا السمك، فلنبدأ بذلك، فإذا فرغنا منه جئنا إلى هذا فأفنيناه. وقد علمت أنهما إذا فرغا مما هناك، انتهيا إلى هذه الأجمة فاصطادا ما فيها؛ فإذا كان ذلك فهو هلاكي ونفاذ مدتي. فانطلق السرطان من ساعته إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك؛ فأقبلن إلى العلجوم فاستشرنه؛ وقلن له: إنا أتينا لك لتشير علينا: فإن ذا العقل لا يدع مشاورة عدوه. قال العلجوم: أما مكابرة الصيادين فلا طاقة لي بها؛ ولا أعلم حيلةً إلا المصير إلى غديرٍ قريبٍ من ها هنا، فيه سمكٌ ومياهٌ عظيمةٌ وقصبٌ، فإن استطعن الانتقال إليه، كان فيه صلاحكن وخصبكن. فقلن له: ما يمن علينا بذلك غيرك. فجعل العلجوم يحمل في كل يوم سمكتين حتى ينتهي بهما إلى بعض التلال فيأكلهما؛ حتى إذا كان ذات يوم جاء لأخذ السمكتين؛ فجاءه السرطان؛ فقال له: إني أيضاً قد أشفقت من مكاني هذا واستوحشت منه فاذهب بي إلى ذلك الغدير؛ فاحتمله وطار به، حتى إذا دنا من التل الذي كان يأكل السمك فيه نظر السرطان فرأى عظام السمك مجموعةً هناك؛ فعلم أن العلجوم هو صاحبها؛ وأنه يريد به مثل ذلك. فقال في نفسه: إذا لقي الرجل عدوه في المواطن التي يعلم أنه فيها هالك.
سواءٌ قاتل أم لم يقاتل؛ كان حقيقاً أن يقاتل عن نفسه كرماً وحفاظاً ، ثم أهوى بكلبتيه على عنق العلجوم، فعصره فمات؛ وتخلص السرطان إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن بعض الحيلة مهلكة للمحتال ولكني أدلك على أمرٍ، إن أنت قدرت عليه، كان فيه هلاك الأسود من غير أن تهلك به نفسك، وتكون فيه سلامتك. قال الغراب وما ذاك? قال ابن آوى: تنطلق فتبصر في طيرانك: لعلك أن تظفر بشيءٍ من حلي النساء فتخطفه؛ ولا تزال طائراً واقعاً، بحيث لا تفوت العيون، حتى تأتي حجر الأسود فترمي بالحلي عنده. فإذا رأى الناس ذلك أخذوا حليهم وأراحوك من الأسود. فانطلق الغراب محلقا في السماء؛ فوجد امرأةً من بنات العظماء فوق سطح تغتسل؛ وقد وضعت ثيابها وحليها ناحيةً؛ فانقض واختطف من حليها عقداً، وطار به، فتبعه الناس؛ ولم يزل طائراً واقعاً، بحيث يراه كل أحدٍ؛ حتى انتهى الأمر إلى جحر الأسود؛ فألقى العقد عليه، والناس ينظرون إليه. فلما أتوه أخذوا العقد وقتلوا الأسود. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن الحيلة تجرئ مالا تجزئ القوة. قال كليلة: إن الثور لو لم يجتمع مع شدته رأيه لكان كما تقول. ولكن له مع شدته وقوته حسن الرأي والعقل. فماذا تستطيع له? قال دمنة: إن الثور لكما ذكرت في قوته ورأيه، ولكنه مقرٌ لي بالفضل؛ وأنا خليق أن اصرعه كما صرعت الأرنب الأسد. قال كليلة: وكيف كان ذلك?
قال دمنة: زعموا أن أسداً كان في أرضٍ كثيرة المياه والعشب؛ وكان في تلك الأرض من الوحوش في سعة المياه والمرعى شيءٌ كثيرٌ؛ إلا أنه لم يكن ينفعها ذلك لخوفها من الأسد؛ فاجتمعت وأتت إلى الأسد، فقالت له: إنك لتصيب منا الدابة بعد الجهد والتعب؛ وقد رأينا لك رأياً فيه صلاح لك وأمنٌ لنا. فإن أنت امنتنا ولم تخفنا، فلك علينا في كل يومٍ دابةٌ نرسل بها إليك في وقت غدائك: فرضي الأسد بذلك، وصالح الوحوش عليه، ووفين له به. ثم إن أرنباً أصابتها القرعة، وصارت غداء الأسد؛ فقالت للوحوش: إن أنتن رفقتن بي فيما لا يضركن؛ رجوت أن أريحكن من الأسد. فقالت الوحوش: وما الذي تكلفيننا من الأمور? قالت: تأمرن الذي ينطلق بي إلى الأسد أن يمهلني ريثما أبطئ عليه بعض الإبطاء. فقلن لها ذلك لك. فانطلقت الأرنب متباطئةً؛ حتى جاوزت الوقت الذي كان يتغدى فيه الأسد. ثم تقدمت إليه وحدها رويداً، وقد جاع؛ فغضب وقام من مكانه نحوها؛ فقال لها: من أين أقبلت? قالت: أنا رسول الوحوش إليك: بعثني ومعي أرنبٌ لك، فتبعني أسدٌ في بعض تلك الطريق، فأخذها مني، وقال: أنا أولى بهذه الأرض وما فيها من الوحش.
فقلت: إن هذا غداء الملك أرسلني به الوحوش إليه. فلا تغصبنه، فسبك وشتمك. فأقبلت مسرعةً لأخبرك. فقال الأسد: انطلقي معي فأريني موضع هذا الأسد. فانطلقت الأرنب إلى جب فيه ماءٌ غامرٌ صافٍ؛ فاطلعت فيه، وقالت: هذا المكان. فاطلع الأسد، فرأى ظله وظل الأرنب في الماء؛ فلم يشك في قولها؛ ووثب إليه ليقاتله، فغرق في الجب. فانقلبت الأرنب إلى الوحوش فأعلمتهن صنيعها بالأسد. قال كليلة: إن قدرت على هلاك الثور بشيءٍ ليس فيه مضرةٌ للأسد فشأنك: فإن الثور قد أضر بي وبك وبغيرنا من الجند؛ وإن أنت لم تقدر على ذلك إلا بهلاك الأسد، فلا تقدم عليه؛ فإنه غدرٌ مني ومنك. ثم إن دمنة ترك الدخول على الأسد أياماً كثيرةً؛ ثم أتاه على خلوةٍ منه؛ فقال له الأسد: ما حبسك عني? منذ زمان لم أرك. ألا لخيرٍ كان انقطاعك? قال دمنة: فليكن خيراً أيها الملك. قال الأسد: وهل حدث أمرٌ? قال دمنة: حدث ما لم يكن الملك يريده ولا أحد من جنده. قال: وما ذاك? قال: كلامٌ فظيعٌ. قال: أخبرني به. قال دمنة إنه كلامٌ يكرهه سامعه، ولا يشجع عليه قائله. وإنك أيها الملك لذو فضيلةٍ، ورأيك يدلك على أن يوجعني أن أقول ما تكره؛ وأثق بك أن تعرف نصحي وإيثاري إياك على نفسي. وإنه ليعرض لي أنك غير مصدقي فيما أخبرك به؛ ولكني إذا تذكرت وتفكرت أن نفوسنا، معاشر الوحوش، متعلقةٌ بك لم أجد بداً من أداء الحق الذي يلزمني وإن أنت لم تسألني وخفت ألا تقبل مني فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته والإخوان رأيه فقد خان نفسه. قال الأسد: فما ذاك? قال دمنة: حدثني الأمين الصدوق عندي أن شتربة خلا برءوس جندك، وقال: قد خبرت الأسد وبلوت رأيه ومكيدته وقوته: فاستبان لي أن ذلك يئول منه إلى ضعفٍ وعجزٍ، وسيكون لي وله شأنٌ من الشئون.
فلما بلغني ذلك علمت أن شتربة خوانٌ غدارٌ؛ وأنك أكرمته الكرامة كلها، وجعلته نظير نفسك، وهو يظن أنه مثلك. وأنك متى زلت عن مكانك صار له ملكك؛ ولا يدع جهداً إلا بلغه فيك. وقد كان يقال: إذا عرف الملك من الرجل أنه قد ساواه في المنزلة والحال، فليصرعه؛ فإن لم يفعل به ذلك، كان هو المصروع. وشتربة أعلم بالأمور وأبلغ فيها؛ والعاقل هو الذي يحتال للأمر قبل تمامه ووقوعه: فإنك لا تأمن أن يكون ولا تستدركه. فإنه يقال: الرجال ثلاثةٌ: حازمٌ وأحزم منه وعاجزٌ؛ فأحد الحازمين من إذا نزل به الأمر لم يدهش له، ولم يذهب قلبه شعاعاً ، ولم تعي به حيلته ومكيدته التي يرجو بها المخرج منه؛ وأحزم من هذا المتقدم ذو العدة الذي يعرف الابتلاء قبل وقوعه، فيعظمه إعظاماً، ويحتال له حتى كأنه قد لزمه: فيحسم الداء قبل أن يبتلي به، ويدفع الأمر قبل وقوعه. وأما العاجز فهو في ترددٍ وتمنٍ وتوانٍ حتى يهلك. ومن أمثال ذلك مثل السمكات الثلاث. قال الأسد: وكيف كان ذلك?
قال دمنة: زعموا أن غديراً كان فيه ثلاث سمكاتٍ: كيسةٌ وأكيس منها وعاجزةٌ؛ وكان ذلك الغدير بنجوةً من الأرض لا يكاد يقربه أحدٌ وبقربه نهر جارٍ. فاتفق أنه اجتاز بذلك النهر صيادان؛ فأبصرا الغدير، فتواعدا أن يرجعا إليه بشباكهما فيصيدا ما فيه من السمك. فسمع السمكات قولهما: فأما أكيسهن لما سمعت قولهما، وارتابت بهما، وتخوفت منهما؛ فلم تعرج على شيءٍ حتى خرجت من المكان الذي يدخل فيه الماء من النهر إلى الغدير. وأما الكيسة فإنها مكثت مكانها حتى جاء الصيادان؛ فلما رأتهما، وعرفت ما يريدان، ذهبت لتخرج من حيث يدخل الماء؛ فإذا بهما قد سدا ذلك المكان فحينئذٍ قالت: فرطت، وهذه عاقبة التفريط؛ فكيف الحيلة على هذه الحال. وقلما تنجع حيلة العجلة والإرهاق ، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي، ولا ييئس على حالٍ، ولا يدع الرأي والجهد. ثم إنها تماوتت فطفت على وجه الماء منقلبة على ظهرها تارةً، وتارةً على بطنها؛ فأخذها الصيادان فوضعاها على الأرض بين النهر والغدير؛ فوثبت إلى النهر فنجت. وأما العاجزة فما تزلْ في إقبال وإدبار حتى صيدت.قال الأسد: قد فهمت ذلك؛ ولا أظن الثور يغشني ويرجو لي الغوائل . وكيف يفعل ولم ير مني سوءاً قطُّ? ولم أدع خيراً إلا فعلته معه? ولا أمنيةً إلا بلغته إياها?.
قال دمنة: إن اللئيم لا يزال نافعاً ناصحاً حتى يرفع إلى المنزلة التي ليس لها بأهل؛ فإذا بلغها التمس ما فوقها؛ ولا سيما أهل الخيانة والفجور: فإن اللئيم الفاجر لا يخدم السلطان ولا ينصح له إلا من فرقٍ . فإذا استغنى وذهبت الهيبة عاد إلى جوهره؛ كذنب الكلب الذي يربط ليستقيم فلا يزال مستوياً ما دام مربوطاً؛ فإذا حل انحنى واعوج كما كان. واعلم أيها الملك أنه من لم يقبل من نُصائِحه ما يثقل عليه مما ينصحون له به، لم يحمد رأيه؛ كالمريض الذي يدع ما يبعث له الطبيب؛ ويعمد إلى ما يشتهيه. وحق على موازر السلطان أن يبالغ في التحضيض له على ما يزيد من سلطانه قوةً ويزينه؛ والكف عما يضره ويشينه؛ وخير الإخوان والأعوان أقلهم مداهنة في النصيحة؛ وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار؛ وأشرف الملوك من لم يخالطه بطرٌ؛ وخير الأخلاق أعونها على الورع. وقد قيل: لو أن أمراً توسد النار وافترش الحيات، كان أحق ألا يهنئه النوم. والرجل إذا أحس من صاحبه بعداوةٍ يريده بها؛ لا يطمئن إليه؛ وأعجز الملوك آخذهم بالهوينى، وأقلهم نظراً في مستقبل الأمور. وأشبههم بالفيل الهائج الذي لا يلتفت إلى شيءٍ: فإن حز به أمر تهاون به، وإن أضاع الأمور حمل ذلك على قرنائه. قال له الأسد: لقد أغلظت في القول؛ وقول الناصح مقبولٌ محمولٌ. وإن كان شتربة معادياً لي، كما تقول، فإنه لا يستطيع لي ضراً؛ وكيف يقدر على ذلك وهو آكل عشب وأنا آكل لحم? وإنما هو لي طعام، وليس علي منه مخافةٌ.
ثم ليس إلى الغدر به سبيل بعد الأمان الذي جعلته له، وبعد إكرامي له، وثنائي عليه. وإن غيرت ما كان مني وبدلته. سفهت رأيي وجهلت نفسي وغدرت بذمتي. قال دمنة: لا يغرنك قولك: هو لي طعام وليس علي منه مخافةٌ: فإن شتربة إن لم يستطعك بنفسه احتال لك من قبل غيره. ويقال: إن استضافك ضيفٌ ساعةً من نهارٍ، وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك؛ ولا تأمن أن يصلك منه أو بسببه ما أصاب القملة من البرغوث. قال الأسد: وكيف كان ذلك?
قال دمنة: زعموا أن قملة لزمت فراش رجلٍ من الأغنياء دهراً فكانت تصيب من دمه وهو نائمٌ لا يشعر، وتدب دبيباً رفيقاً؛ فمكث كذلك حيناً حتى استضافها ليلةً من الليالي برغوثٌ؛ فقالت له: بت الليلة عندنا في دمٍ طيبٍ وفراشٍ لينٍ؛ فأقام البرغوث عندها حتى إذا أوى الرجل إلى فراشه وثب عليه البرغوث فلدغه لدغةً أيقظته؛ وأطارت النوم عنه؛ فقام الرجل وأمر أن يفتش فراشه؛ فنظر فلم ير إلا القملة؛ فأخذت فقصعت وفر البرغوث. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن صاحب الشر بسببه. وإن كنت لا تخاف من شتربة، فخف غيره من جندك الذين قد حملهم عليك وعلى عداوتك.
فوقع في نفس الأسد كلام دمنة. فقال: فما الذي ترى إذاً? وبماذا تشير? قال دمنة: إن الضرس لا يزال متآكلاً، ولا يزال صاحبه منه في ألمٍ وأذًى حتى يفارقه. والطعام الذي قد عفن في البطن، الراحة في قذفه. والعدو المخوف، دواؤه قتله.
قال الأسد: لقد تركتني أكره مجاورة شتربة إياي؛ وأنا مرسلٌ إليه، وذاكراً له ما وقع في نفسي منه؛ ثم آمره باللحاق حيث أحب. فكره دمنة ذلك، وعلم أن الأسد متى كلم شتربة في ذلك وسمع منه جواباً عرف باطل ما أتى به، واطلع على غدره وكذبه؛ ولم يخف عليه أمره. فقال للأسد: أما إرسالك إلى شتربة فلا أراه لك رأياً ولا حزماً؛ فلينظر الملك في ذلك: فإن شتربة متى شعر بهذا الأمر، خفت أن يعاجل الملك بالمكابرة. وهو إن قاتلك قاتلك مستعداً؛ وإن فارقك، فارقك فراقاً يليك منه النقص، ويلزمك منه العار. مع أن ذوي الرأي من الملوك لا يعلنون عقوبة من لم يعلن ذنبه؛ ولكن لكل ذنب عندهم عقوبةٌ: فلذنب العلانية عقوبة العلانية، ولذنب السر عقوبة السر. قال الأسد: إن الملك إذا عاقب أحداً عن ظنةٍ ظنها من غير تيقن بجرمه، فنفسه عاقب وإياها ظلم. قال دمنة: أما إذا كان هذا رأي الملك، فلا يدخلن عليك شتربة إلا وأنت مستعدٌ له؛ وإياك أن تصيبك منه غرةٌ أو غفلةٌ: فإني لا أحسب الملك حين يدخل عليه إلا سيعرف أنه قد هم بعظيمةٍ. ومن علامات ذلك أنك ترى لونه متغيراً؛ وترى أوصاله ترعد؛ وتراه ملتفتاً يميناً وشمالاً؛ وتراه يهز قرنيه فعل الذي هم بالنطاح والقتال. قال الأسد: سأكون منه على حذرٍ؛ وإن رأيت منه ما يدل على ما ذكرت علمت أن ما في أمره شكٌ.
فلما فرغ دمنة من حمل الأسد على الثور، وعرف أنه قد وقع في نفسه ما كان يلتمس، وأن الأسد سيتحذر الثور، ويتهيأ له، أراد أن يأتي الثور ليغريه بالأسد؛ وأحب أن يكون إتيانه من قبل الأسد مخافة أن يبلغه ذلك فيتأذى به. فقال: أيها الملك ألا آتي بشتربة فانظر إلى حاله وأمره؛ وأسمع كلامه: لعلي اطلع على سره، فأطلع الملك على ذلك، وعلى ما يظهر لي منه? فأذن له الأسد في ذلك. فانطلق فدخل على شتربة كالكئيب الحزين. فلما رآه الثور رحب به، وقال: كان سبب انقطاعك عني? فإني لم أرك منذ أيامٍ؛ ولعلك في سلامةٍ! قال دمنة: ومتى كان أهل السلامة من لا يملك نفسه، وأمره بيد غيره ممن لا يوثق به، ولا ينفك على خطرٍ وخوفٍ. حتى ما من ساعة تمر ويأمن فيها على نفسه. قال شتربة: وما الذي حدث? قال دمنة: حدث ما قدر وهو كائنٌ.
ومن ذا الذي غالب القدر? ومن ذا الذي بلغ من الدنيا جسيماً من الأمور فلم يبطر? ومن ذا الذي بلغ منياه فلم يغتر? ومن ذا الذي تبع هواه فلم يخسر? ومن ذا الذي طلب من اللئام فلم يحرم? ومن ذا الذي خالط الأشرار فسلم? ومن ذا الذي صحب السلطان فذام له منه الأمن والإحسان? قال شتربة: إني أسمع منك كلاماً يدل على أنه قد رابك من الأسد ريبٌ، وهالك منه أمرٌ. قال دمنة: أجل، لقد رابني منه ذلك، وليس هو في أمر نفسي، قال شتربة: ففي نفس من رابك? قال دمنة: قد تعلم ما بيني وبينك، وتعلم حقك علي، وما كنت جعلت لك من العهد والميثاق أيام أرسلني الأسد إليك، فلم أجد لك بداً من حفظك وإطلاعك على ما أطلعت عليه مما أخاف عليك منه. قال شتربة: وما الذي بلغك? قال دمنة: حدثني الخبير الصدوق الذي لا مرية في قوله أن الأسد قال لبعض أصحابه وجلسائه: قد أعجبني سمن الثور؛ وليس لي إلى حياته حاجةٌ، فأنا آكله ومطعم أصحابي من لحمه. فلما بلغني هذا القول، وعرفت غدره ونقض عهده؛ أقبلت إليك لأقضي حقك؛ وتحتال أنت لأمرك. فلما سمع شتربة كلام دمنة، وتذكر ما كان من دمنة جعل له من العهد والميثاق، وفكر في أمر الأسد، ظن أن دمنة قد صَدَقَهُ ونصح له؛ ورأى أن الأمر شبيهٌ بما قال دمنة. فأهمه ذلك؛ وقال: ما كان للأسد أن يغدر بي ولم آت إليه ذنباً، ولا إلى أحد من جنده، منذ صحبته؛ ولا أظن الأسد إلا قد حمل علي بالكذب وشبه عليه أمري: فإن الأسد قد صحبه قوم سوءٍ؛ وجرَّب منهم الكذب وأموراً هي تصدق عنده ما بلغه من غيرهم: فإن صحبة الأشرار ربما أورثت صاحبها سوء الظن بالأخيار؛ وحملته تجربته على الخطأ كخطأ البطة التي زعموا أنها رأت في الماء ضوء كوكبٍ، فظنته سمكةً، فحاولت أن تصيدها، فلما جربت ذلك مراراً، علمت أنه ليس بشيءٍ يصاد فتركته.
ثم رأت من غد ذلك اليوم سمكةً، فظنت أنها مثل الذي رأته بالأمس، فتركتها ولم تطلب صيدها. فإن كان الأسد بلغه عني كذبٌ فصدقه علي وسمعه في، فما جرى على غيري يجري علي. وإن كان لم يبلغه شيءٌ، وأراد السوء بي من غير علةٍ، فإن ذلك لمن أعجب الأمور. وقد كان يقال: إن من العجب أن يطلب الرجل رضا صاحبه ولا يرضى. وأعجب من ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط. فإذا كانت الموجدة عن علةٍ، كان الرضا موجوداً والعفو مأمولاً. وإذا كانت عن غير علةٍ، انقطع الرجاء: لأن العلة إذا كانت المودة في ورودها، كان الرضا مأمولاً في صدورها.
قد نظرت: فلا أعلم بيني وبين الأسد جرماً، ولا صغير ذنب، ولا كبيره. ولعمري ما يستطيع أحد أطال صحبة صاحب أن يحترس في كل شيءٍ من أمره، ولا أن يتحفظ من أن يكون منه صغيرةٌ أو كبيرةٌ يكرهها صاحبه؛ ولكن الرجل ذا العقل وذا الوفاء إذا سقط عنده صاحبه سقطةً نظر فيها، وعرف قدر مبلغ خطئه عمداً كان أو خطأً. ثم ينظر هل في الصفح عنه أمرٌ يخاف ضره وشينه? فلا يؤاخذ صاحبه بشيءٍ يد فيه إلى الصفح عنه سبيلاً. فإن كان الأسد قد اعتقد على ذنباً؛ فلست أعلمه؛ إلا أني خالفته في بعض رأيه نصيحةً له؛ فعساه أن يكون قد أنزل أمري على الجراءة عليه والمخالفة له؛ ولا أجد لي في هذا المحضر إثماً ما: لأني لم أخالفه في شيءٍ إلا ما قد ندر من خالفة الرّشد والمنفعة والدِّين، ولم أجاهر بشيءٍ من ذلك على رءوس جنده وعند أصحابه؛ ولكني كنت أخلو به وأكلمه سراً كلام الهائب الموقر وعلمت أنه من التمس الرخص من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ منافع الرأي؛ وازداد فيما وقع فيه من ذلك تورطاً ، وحمل الوزر. وإن لم يكن هذا، فعسى أن يكون ذلك من بعض سكرات السلطان: فإن مصاحبة السلطان خطرةٌ، وإن صوحب بالسلامة والثقة والمودة وحسن الصحبة.
وإن لم يكن هذا، فبعض ما أوتيت من الفضل قد جعل لي فيه الهلاك. وإن لم يكن هذا ولا هذا، فهو إذاً من مواقع القضاء والقدر الذي لا يدفع عنه؛ وهو الذي يحمل الرجل الضعيف على ظهر الفيل الهائج؛ وهو الذي يسلط على الحية ذات الحمة من ينزع حمتها ويلعب بها؛ وهو الذي يجعل العاجز حازماً، ويثبط الشهم، ويوسع على المقتر ، ويشجع الجبان، ويجبن الشجاع عندما تعتريه المقادير من العلل التي وضعت عليه الأقدار.قال دمنة: إن إرادة الأسد بك ليست من تحميل الأشرار ولا سكرة السلطان ولا غير ذلك، ولكنها الغدر والفجور منه: فإن فاجرٌ خوانٌ غدارٌ: لطعامه حلاوةٌ وآخره سمٌ مميتٌ.
قال شتربة: فأراني قد استلذذت الحلاوة إذ ذقتها: وقد انتهيت إلى آخرها الذي هو الموت؛ ولولا الحين ما كان مقامي عند الأسد، وهو آكل لحمٍ وأنا آكل عشبٍ فأنا في هذه الورطة كالنحلة التي تجلس على نور النيلوفر إذ تستلذ ريحه وطعمه، فتحبسها تلك اللذة؛ فإذا جاء الليل ينضم عليها، فترتبك فيه وتموت. ومن لم يرض من الدنيا بالكفاف الذي يغنيه وطمحت عينه إلى ما سوى ذلك، ولم يتخوف من عاقبتها، كان كالذباب الذي لا يرضى بالشجرة والرياحين، ولا يقنعه ذلك، حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل، فيضربه الفيل بآذانه فيهلكه. ومن يبذل وده ونصيحته لمن لا يشكره، فهو كمن يبذر في السباخ. ومن يشر على المعجب، فهو كمن يشاور الميت أو يسار الأصم. قال دمنة: دع عنك هذا الكلام واحتل لنفسك. قال شتربة: بأي شيءٍ أحتال لنفسي، إذا أراد الأسد أكلي، مع ما عرفتني به من رأي الأسد وسوء أخلاقه? وأعلم أنه لم يرد بي إلا خيراً، ثم أراد أصحابه بمكرهم وفجورهم هلاكي لقدروا على ذلك فإنه إذا اجتمع المكرة الظلمة على البريء الصحيح، كانوا خلقاء أن يهلكوه، وإن كانوا ضعفاء وهو قوي؛ كما أهلك الذئب والغراب وابن آوى الجمل، حين اجتمعوا عليه بالمكر والخديعة والخيانة. قال دمنة: وكيف كان ذلك?
قال شتربة: زعموا أن أسداً كان في أجمةٍ مجاورةٍ لطريقٍ من طرق الناس؛ وكان له أصحابٌ ثلاثةٌ: ذئبٌ وغرابٌ وابن آوى؛ وأن رعاةً مروا بذلك الطريق، ومعهم جمالٌ، فتخلف منها جملٌ، فدخل تلك الأجمة حتى انتهى إلى الأسد؛ فقال له الأسد: من أين أقبلت? قال: من موضع كذا. قال: فما حاجتك? قال: ما يأمرني به الملك. قال: تقيم عندنا في السعة والأمن والخصب. فأقام الأسد والجمل معه زمناً طويلاً. ثم إن الأسد مضى في بعض الأيام لطلب الصيد، فلقي فيلاً عظيماً، فقاتله قتالاً شديداً؛ وأفلت منه مثقلاً مثخناً بالجراح، يسيل منه الدم، وقد خدشه الفيل بأنيابه. فلما وصل إلى مكانه، وقع لا يستطيع حراكاً، ولا يقدر على طلب الصيد؛ فلبث الذئب والغراب وابن آوى أياماً لا يجدون طعاماً: لأنهم كانوا يأكلون من فضلات الأسد وطعامه؛ فأصابهم جوعٌ شديدٌ وهزالٌ، وعرف الأسد ذلك منهم؛ فقال: لقد جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون. فقالوا لا تهمنا أنفسنا: لكنا نرى الملك على ما نراه. فليتنا نجد ما يأكله ويصلحه. قال الأسد: ما أشك في نصيحتكم، ولكن انتشروا لعلكم تصيبون صيداً تأتونني به؛ فيصيبني ويصيبكم منه رزقٌ. فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند الأسد؛ فتنحوا ناحيةً، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: مالنا ولهذا الأكل العشب الذي ليس شأنه من شأننا، ولا رأيه من رأينا? ألا نزين للأسد فيأكله ويطعمنا من لحمه? قال ابن آوى: هذا مما لا نستطيع ذكره للأسد: لأنه قد أمن الجمل، وجعل له من ذمته عهداً.
قال الغراب: أنا أكفيكم أمر الأسد. ثم انطلق فدخل على الأسد؛ فقال له الأسد: هل أصبت شيئاً? قال الغراب: إنما يصيب من يسعى ويبصر. وأما نحن فلا سعي لنا ولا بصر: لما بنا من الجوع؛ ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه؛ إن وافقنا الملك فنحن له مجيبون. قال الأسد: وما ذاك? قال الغراب: هذا الجمل آكل العشب المتمرّغ بيننا من غير منفعة لنا منه، ولا رد عائدةٍ، ولا عمل يعقب مصلحةً. فلما سمع الأسد ذلك غضب وقال: ما أخطأ رأيك، وما اعجز مقالك، وأبعدك من الوفاء والرحمة? وما كنت حقيقاً أن تجتري علي بهذه المقالة، وتستقبلني بهذا الخطاب؛ مع ما علمت من أني قد أمنت الجمل، وجعلت له من ذمتي. أو لم يبلغك أنه لم يتصدق متصدقٌ بصدقةٍ هي أعظم أجراً ممن أمن نفساً خائفةً، وحقن دماً مهدراً? وقد أمنته ولست بغادر به.
قال الغراب: إني لأعرف ما يقول الملك؛ ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت؛ وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة؛ والقبيلة يفتدى بها أهل المصر؛ وأهل المصر فداء الملك. وقد نزلت بالملك الحاجة؛ وأنا أجعل له من ذمته مخرجاً، على ألا يتكلف الملك ذلك، ولا يليه بنفسه، ولا يأمر به أحداً؛ ولكنا نحتال بحيلةٍ لنا وله فيها إصلاحٌ وظفرٌ. فسكت الأسد عن جواب الغراب عن هذا الخطاب. فلما عرف الغراب إقرار الأسد أتى أصحابه، فقال لهم: قد كلمت الأسد في أكله الجمل؛ على أن نجتمع نحن والجمل عند الأسد، فنذكر ما أصابه، ونتوجع له اهتماماً منا بأمره، وحرصاً على صلاحه؛ ويعرض كل واحدٍ منا نفسه عليه تجملاً ليأكله، فيرد الآخران عليه، ويسفها رأيه، ويبينان الضرر في أكله. فإذا فعلنا ذلك، سلمنا كلنا ورضي الأسد عنا. ففعلوا ذلك، وتقدموا إلى الأسد؛ فقال الغراب: قد احتجت أيها الملك إلى ما يقويك؛ ونحن أحق أن نهب أنفسنا لك: فإنا بك نعيش؛ فإذا هلكت فليس لأحدٍ منا بقاءٌ عندك، ولا لنا في الحياة من خيرةٍ؛ فليأكلني الملك: فقد طبت بذلك نفساً. فأجابه الذئب وابن آوى أن اسكت؛ فلا خير للملك في أكلك؛ وليس فيك شبعٌ. قال ابن آوى لكن أنا أشبع الملك، فليأكلني: فقد رضيت بذلك، وطبت عنه نفساً. فرد عليه الذئب والغراب بقولهما: إنك لمنتنٌ قذرٌ. قال الذئب: إني لست كذلك، فليأكلني الملك، فقد سمحت بذلك، وطبن عنه نفساً؛ فاعترضه الغراب وابن آوى وقالا: قد قالت الأطباء: من أراد قتل نفسه فليأكل لحم ذئبٍ. فظن الجمل أنه إذا عرض نفسه على الأكل، التمسوا له عذراً كما التمس بعضهم لبعضٍ الأعذار، فيسلم ويرضى الأسد عنه بذلك، وينجو من المهالك. فقال: لكن أنا في للملك شبعٌ وريٌ؛ ولحمي طيبٌ هنيٌ، وبطني نظيفٌ، فليأكلني الملك، ويطعم أصحابه وخدمه: فقد رضيت بذلك، وطابت نفسي عنه، وسمحت به. فقال الذئب والغراب وابن آوى: لقد صدق الجمل وكرم؛ وقال ما عرف.
ثم إنهم وثبوا عليه فمزقوه.م إنهم وثبوا عليه فمزقوه.وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنه إن كان أصحاب الأسد قد اجتمعوا على هلاكي فإني لست أقدر أن أمتنع منهم، ولا أحترس؛ وإن كان رأي الأسد لي على غير ما هم من الرأي في، فلا ينفعني ذلك، ولا يغني عني شيئاً. وقد يقال: خير السلاطين من عدل في الناس. ولو أن الأسد لم يكن في نفسه لي إلا الخير والرحمة، لغيرته كثرة الأقاويل: فإنها إذا كثرت لم تلبث دون أن تذهب الرقة والرأفة. ألا ترى الماء ليس كالقول؛ وأن الحجر لم يلبث حتى يثقبه ويؤثر فيه. وكذلك القول في الإنسان. قال دمنة: فماذا تريد أن تصنع الآن? قال شتربة: ما أرى إلا الاجتهاد والمجاهدة بالقتال: فإنه ليس للمصلي في صلاته، ولا للمتصدق في صدقته، ولا للورع في ورعه من الأجر ما للمجاهد عن نفسه، إذا كانت مجاهدته على الحق. قال دمنة: لا ينبغي لأحد أن يخاطر بنفسه، وهو يستطيع غير ذلك، ولكن ذا الرأي جاعل القتال آخر الحيل؛ وبادئٍ قبل ذلك بما استطاع من رفقٍ وتمحلٍ. وقد قيل: لا تحقرن العدو الضعيف المهين، ولا سيما إذا كان ذا حيلةٍ ويقدر على الأعوان؛ فكيف بالأسد على جراءته وشدته? فإن من حقر عدوه لضعفه أصابه ما أصاب وكيل البحر من الطيطوى قال شتربة: وكيف كان ذلك? قال دمنة: زعموا أن طائراً من طيور البحر يقال له الطيطوى كان وطنه على ساحل البحر، ومعه زوجةٌ له، فلما جاء أوان تفريخها قالت الأنثى للذكر: لو التمسنا مكاناً حريزاً نفرخ فيه: فإني أخشى من وكيل البحر إذا مد الماء أن يذهب بفراخنا. فقال لها: أفرخي مكانك: فإنه موافق لنا؛ والماء والزهر منا قريبٌ.
قالت له: يا غافل ليحسن نظرك: فإن أخاف وكيل البحر أن يذهب بفراخنا. فقال لها أفرخي مكانك: فإنه لا يفعل ذلك فقالت له: ما أشد تعنتك ! أما تذكر وعيده وتهديده إياك? ألا تعرف نفسك وقدرك? فأبى أن يطيعها. فلما أكثرت عليه ولم يسمع قولها، قالت له: إن من لم يسمع قول الناصح يصيبه ما أصاب السلحفاة حين لم تسمع قول البطتين. قال الذكر: وكيف كان ذلك? قالت الأنثى: زعموا أن غديراً كان عنده عشبٌ، وكان فيه بطتان وكان في الغدير سلحفاةٌ، بينها وبين البطتين مودةٌ وصداقةٌ. فاتفق أن غيض ذلك الماء؛ فجاءت البطتان لوداع السلحفاة، وقالتا: السلام عليك فإننا ذاهبتان عن هذا المكان لأجل نقصان الماء عنه.
فقالت: إنما يبين نقصان الماء على مثلي: فإني كالسفينة لا أقدر على العيش إلا بالماء. فأما أنتما فتقدران على العيش حيث كنتما. فاذهبا بي معكما . قالتا لها: نعم. قالت: كيف السبيل إلى حملي? قالتا: نأخذ بطرفي عودٍ، وتتعلقين بوسطه؛ ونطير بك في الجو. وإياك، إذا سمعت الناس يتكلمون، أن تنطقي. ثم أخذتاها فطارتا بها في الجو. فقال الناس: عجبٌ: سلحفاة بين بطتين، قد حملتاها. فلما سمعت ذلك قالت: فقأ الله أعينكم أيها الناس، فلما فتحت فاها بالنطق وقعت على الأرض فماتت. قال الذكر: قد سمعت مقالتك؛ فلا تخافي وكيل البحر. فلما مد الماء ذهب بفراخها. فقالت الأنثى: قد عرفت في بدء الأمر أن هذا كائنٌ.
قال الذكر: سوف أنتقم منه. ثم مضى إلى جماعة الطير فقال لهن: إنكن أخواتي وثقاتي: فأعنني. قلن: ما تريد أن نفعل? قال: تجتمعن وتذهبن معي إلى سائر الطير، فنشكو إليهن ما لقيت من وكيل البحر؛ ونقول لهن: إنكن طيرٌ مثلنا: فأعننا. فقالت له جماعة الطير: إن العنقاء هي سيدتنا وملكتنا: فاذهب بنا إليها حتى نصيح بها، فنظهر لنا؛ فنشكو إليها ما نالك من وكيل البحر؛ ونسألها أن تنتقم لنا بقوة ملكها. ثم إنهن ذهبن إليها من الطيطوى، فستغثنها؛ وصحن بها؛ فتراءت لهن فأخبرنها بقصتهن؛ وسألنها أن تسير معهن إلى محاربة وكيل البحر، فأجابتهن إلى ذلك. فلما علم وكيل البحر أن العنقاء قد قصدته في جماعة الطير خاف من محاربة ملكٍ لا طاقة له به. فرد فراخ الطيطوى؛ وصالحه فرجعت العنقاء عنه.
وإنما حدثتك بهذا الحديث لتعلم أن القتال مع الأسد لا أراه لك رأياً. قال شتربة: فما أنا بمقاتل الأسد، ولا ناصب له العداوة سراً ولا علانيةً لا متغيرٍ له عما كنت عليه، حتى يبدو لي منه ما أتخوف فأغالبه. فكره دمنة قوله، وعلم أن الأسد إن لم ير من الصور العلامات التي ذكرها له اتهمه وأساء به الظن. فقال دمنة لشتربة: اذهب إلى الأسد فستعرف حين ينظر إليك ما يريد منك. قال شتربة: وكيف أعرف ذلك? قال دمنة: سترى الأسد حين تدخل عليه مقعياً على ذنبه، رافعاً صدره إليك، ماداً بصره نحوك، قد صر أذنيه وفغر فاه، واستوى للوثبة. قال شتربة: إن رأيت هذه العلامات من الأسد عرفت صدقك في قولك. ثم إن دمنة لما فرغ من حمل الأسد على الصور، والثور على الأسد توجه إلى كليلة. فلما التقيا، قال كليلة: إلام انتهى عملك الذي كنت فيه? قال دمنة: قريبٌ من الفراغ على ما أحب وتحب.
ثم إن كليلة ودمنة انطلقا جميعاً ليحضرا قتال الأسد والثور، وينظرا ما يجري بينهما، ويعاينا ما يئول إليه أمرهما. وجاء شتربة، فدخل على الأسد، فرآه مقعياً كما وصفه له دمنة، فقال: ما صاحب السلطان إلا كصاحب الحية التي في مبيته ومقيله، فلا يدري متى تهيج به. ثم إن الأسد نظر إلى الثور فرأى الدلالات التي ذكرها له دمنة: فلم يشك أنه جاء لقتاله. فواثبه، ونشأ بينهما الحرب، واشتد قتال الثور والأسد، وطال، وسالت بينهما الدماء. فلما رأى كليلة أن الأسد قد بلغ منه ما قد بلغ. قال لدمنة: أيها الفسل ما أنكر جهلتك وأسوأ عاقبتك في تدبيرك! قال دمنة: وما ذاك? قال كليلة: جرح الأسد وهلك الثور. وإن أخرق الخرق من حمل صاحبه على سوء الخلق والمبارزة والقتال، وهو يجد إلى غير ذلك سبيلاً. وإن العاقل يدبر الأشياء ويقيسها قبل مباشرتها: فما رجا أن يتم له منها أقدم عليه، وما خاف أن يتعذر عليه منها انحرف عنه، ولم يلتفت إليه. وإني لأخاف عليك عاقبة بغيك هذا: فإنك قد أحسنت القول ولم تحسن العمل. أين معاهدتك إياي أنك لا تضر بالأسد في تدبيرك? وقد قيل: لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الحياة إلا مع الصحة، ولا في الأمن إلا مع السرور.
واعلم أن الأدب يذهب عن العاقل الطيش، ويزيد الأحمق طيشاً؛ كما أن النهار يزيد كل ذي بصر نظراً، ويزيد الخفاش سوء النظر.وقد أذكرني أمرك شيئاً سمعته، فإن يقال: إن السلطان إذا كان صالحاً، ووزراؤه وزراء سوءٍ، منعوا خيره، فلا يقدر أحدٌ أن يدنو منه. ومثله في ذلك مثل الماء الطيب الذي فيه التماسيح: لا يقدر أحدٌ أن يتناوله، وإن كان إلى الماء محتاجاً. وأنت يا دمنة أردت ألا يدنو من الأسد أحد سواك. وهذا أمرٌ لا يصح ولا يتم أبداً. وذلك للمثل المضروب: إن البحر بأمواجه، والسلطان بأصحابه. ومن الحمق الحرص على التماس الإخوان بغير الوفاء لهم، وطلب الآخرة بالرياء، ونفع النفس بغير الضر. وما عظتي وتأديبي إياك إلا كما قال الرجل للطائر: لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم، ولا تعالج تأديب من لا يتأدب. قال دمنة: وكيف كان ذلك? قال كليلة: زعموا أن جماعةً من القردة كانوا سكاناً في جبلٍ، فالتمسوا في ليلةٍ باردةٍ ذات رياح وأمطارٍ نادراً، فلم يجدوا، فرأوا يراعةً تطير كأنها شرارة نارٍ، فظنوها ناراً، وجمعوا حطباً كثيراً فألقوه عليها، وجعلوا ينفخون طمعاً أن يوقدوا ناراً يصطلون بها من البرد.
وكان قريباً منهم طائر على شجرةٍ، ينظرون إليه وينظر إليهم، وقد رأى ما صنعوا، فجعل يناديهم ويقول: لا تتعبوا فإن الذي رأيتموه ليس بنارٍ. فلما طال ذلك عليه عزم على القرب منهم لنهاهم عما هم فيه، فمر به رجلٌ فعرف ما عزم عليه. فقال له: لا تلتمس تقومي ما لا يستقيم: فإن الحجر المانع الذي لا ينقطع لا تجرب عليه السيوف، والعود الذي لا نحني لا يعمل منه القوس: فلا تتعب. فأبى الطائر أن يطيعه، وتقدم إلى القردة ليعرفهم أن البراعة ليسن بناءٍ. فتناوله بعض القردة فضرب به الأرض فمات. فهذا مثلي معك في ذلك. ثم قد غلب عليك الخبّ والفجور ، وهما خلتا سوءٍ، والخصب شرهما عاقبةً. ولهذا مثل. قال دمنة: وما ذلك المثل?
قال كليلة: زعموا أن خباً ومغفلاً اشتركا في تجارةٍ وسافرا، فبينما هما في الطريق، إذ تخلف المغفل لبعض حاجته، فوجد كيساً فيه ألف دينار، فأخذه؛ فأحس به الخب، فرجعا إلى بلدهما؛ حتى إذا دنوا من المدينة قعدا لاقتسام المال. فقال المغفل: خذ نصفه وأعطني نصفه؛ وكان الخب قد قرر في نفسه أن يذهب بالألف جميعه. فقال له: لا نقتسم، فإن الشركة والمفاوضة أقرب إلى الصفاء والمخالطة؛ ولكن آخذ نفقةً، وتأخذ مثلها؛ وندفن الباقي في أصل هذه الشجرة: فهو مكانٌ حريزٌ. فإذا احتجنا جئنا أنا وأنت فنأخذ حاجتنا منه؛ ولا يعلم بموضعنا أحدٌ. فأخذا منه يسيراً، ودفنا الباقي في أصل دوحةٍ، ودخلا البلد. ثم إن الخب خالف المغفل إلى الدنانير فأخذها، وسوى الأرض كما كانت. وجاء المغفل بعد ذلك بأشهر فقال للخب: قد احتجت إلى نفقةٍ فانطلق بنا نأخذ حاجتنا؛ فقام الخب معه وذهبا إلى المكان فحفرا، فلم يجدا شيئاً. فأقبل الخب على وجهه يلطمه يقول: لا تغتر بصحبة صاحب: خالفتني إلى الدنانير فأخذتها.
فجعل المغفل يحلف ويلعن آخذها ولا يزداد الحب إلا شدة في اللطم. وقال: ما أخذها غيرك. وهل شعر بها أحدٌ سواك? ثم طال ذلك بينهما، فترافعا إلى القاضي، فاقتص القاضي قصتهما، فادعى الخب أن المغفل أخذها، وجحد المغفل. فقال للخب: ألك على دعواك بينة? قال: نعم الشجرة التي كانت الدنانير عندها تشهد لي أن المغفل أخذها. وكان الخب قد أمر أباه أن يذهب فيتوارى في الشجرة بحيث إذا سئلت أجاب. فذهب أبو الخب فدخل جوف الشجرة. م إن القاضي لما سمع ذلك من الخب أكبره، وانطلق هو وأصحابه والخصب والمغفل معه؛ حتى وافى الشجرة؛ فسألها عن الخبر. فقال الشيخ من جوفها: نعم المغفل أخذها. فلما سمع القاضي ذلك اشتد تعجبه. فدعا بحطب وأمر أن تحرق الشجرة. فأضرمت حولها النيران فاستغاث أبو الخب عند ذلك. فأخرج وقد أشرف على الهلاك. فسأله القاضي عن القصة فأخبره بالخبر؛ فأوقع بالخب ضرباً، وبأبيه صفعاً، وأركبه مشهوراً ، وغرّم الخب الدنانير فأخذها وأعطاها المغفل.وإنما ضربت لك هذا المثل لتعمل أن الحب والخديعة ربما كان صاحبها هو المغبون. وإنك يا دمنة جامعٌ للخب والخديعة والفجور. وإني أخشى عليك ثمرة عملك، مع أنك لست بناجٍ من العقوبة: لأنك ذو لونين ولسانين. وإنما عذوبة ماء الأنهار ما لم تبلغ إلى البحار.
وصلاح أهل البيت ما لم يكن فيهم المفسد. وإنه لا شيء أشبه بك من الحية ذات اللسانين التي فيها السم: فإن قد يجري من لسانك كسمها. وإني لم أزل لذلك السم من لسانك خائفاً، ولما يحل بك متوقعاً، والمفسد بين الإخوان والأصحاب كالحية يربيها الرجل ويطعمها ويمسحها ويكرمها، ثم لا يكون له منها غير اللدغ. وقد يقال: الزم ذا العقل وذا الكرم، واسترسل إليهما، وإياك ومفارقتهما؛ واصحب الصاحب إذا كان عاقلاً كريماً أو عاقلاً غير كريمٍ: فالعاقل الكريم كاملٌ، والعاقل غير الكريم أصحبه، وإن كان غير محمود الخليقة، وأحذر من سوء أخلاقه وانتفع بعقله، والكريم غير العاقل، الزمه ولا تدع مواصلته، وإن كنت لا تحمد عقله، وانتفع بكرمه، وانفعه بعقلك؛ والقرار كل القرار من اللئيم الأحمق. وإني بالفرار منك لجديرٌ. وكيف يرجو إخوانك عندك كرماً ووداً وقد صنعت بملكك الذي أكرمك وشرفك ما صنعت? وإن مثلك مثل التاجر الذي قال: إن أرضاً تأكل جرذانها مائة منًّ حديداً، ليس بمستنكر على بزاتها أن تختطف الأفيال. قال دمنة: وكيف كان ذلك?
قال كليلة: زعموا أنه كان بأرض كذا تاجرٌ، فأراد الخروج إلى بعض الوجوه لابتغاء الرزق؛ وكان عنده مائة من حديداً؛ فأودعها رجلاً من إخوانه، وذهب في وجهه. ثم قدم بعد ذلك بمدةٍ؛ فجاء والتمس الحديد، فقال له: إنه قد أكلته الجرذان. فقال: قد سمعت أنه لاشيء أقطع من أنيابها للحديد. ففرح الرجل بتصديقه على ما قال وادعى.
ثم إن التاجر خرج، فلقي ابناً للرجل؛ فأخذه وذهب به إلى منزله؛ ثم رجع إليه الرجل من الغد فقال له: هل عندك علم بابني: فقال له التاجر: إني لما خرجت من عندك بالأمس، رأيت بازياً قد اختطف صبياً، ولعله ابنك. فلطم الرجل على رأسه وقال: يا قوم هل سمعتم أو رأيتم أن البزاة تخطف الصبيان? فقال: نعم. وإن أرضاً تأكل جرذانها مائة منً من حديداً ليس بعجب أن تختطف بزاتها الفيلة. قال له الرجل: أنا أكلت حديدك وهذا ثمنه. فاردد على ابني. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنك إذا غدرت بصاحبك فلا شك أنك بمن سواه أغدر؛ وأنه إذا صاحب أحد صاحباً وغدر بمن سواه فقد علم صاحبه أنه ليس عنده للمودة موضعٌ: فلا شيء أضيع من مودةٍ تمنح من لا وفاء له، وحباءٍ يصطنع عند من لا شكر له، وأدبٍ يحمل إلى من لا يتأدب به ولا يسمعه، وسر يستودع من لا يحفظه؛ فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر: كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيباً، وإذا مرت بالنتن حملت نتناً، وقد طال وثقل كلامي عليك.فانتهى كليلة من كلامه إلى هذا المكان وقد فرغ الأسد من الثور، ثم فكر في قتله بعد أن قتله وذهب عنه الغضب.
وقال: لقد فجعني شتربة بنفسه؛ وقد كان ذا عقلٍ ورأيٍ وخلقٍ كريمٍ، ولا أدري لعله كان بريئاً أو مكذوباً عليه؛ فحزن وندم على ما كان منه، وتبين ذلك في وجهه؛ وبصر به دمنة، فترك محاورة كليلة، وتقدم إلى الأسد فقال له: ليهنئك الظفر إذ أهلك الله أعداءك. فماذا يحزنك أيها الملك? قال: أنا حزينٌ على عقل شتربة ورأيه وأدبه? قال له دمنة: لا ترحمه أيها الملك: فإن العاقل لا يرحم من يخافه. وإن الرجل الحازم ربما أبغض الرجل وكرهه، ثم قربه وأدناه: لما يعلم عنده من الغناء والكفاية، فعل الرجل المتكاره على الدواء الشنيع رجاء منفعته. وربما أحب الرجل، وعز عليه، فأقصاه وأهلكه، مخافة ضرره؛ كالذي تلدغه الحية في إصبعه فيقطعها، ويتبرأ منها مخافة أن يسر سمها إلى بدنه. فرضي الأسد بقول دمنة. ثم علم بعد ذلك بكذبه وغدره وفجوره فقتله شر قتلةٍ.

ليست هناك تعليقات: