الوضع الدولى فيما بين 1945 و 1952
نحاول هنا تحديد ملامح الوضع الدولى السائد قبيل قيام ثورة 23 يوليو 1952، ومن ثم إثارة التساؤلات عما إذا كان لذلك الوضع الدولى تأثير على قيام الثورة فى مصر فى 1952، أو حتى علاقة بها، وما إذا كان ذلك الوضع الدولى قد أثر فى صياغة مبادئ الثورة وجدول أعمالها السياسى.ولعل السؤال الأول الذى يثور فى الذهن يتعلق بتحديد النطاق الزمنى للفترة التى يجب دراسة ملامح الوضع الدولى فيها. ولعل الإجابة عن مثل ذلك السؤال تتحدد بأحداث دولية كبرى رسمت ملامح ذلك الوضع، أو بقراءتنا للعلاقة بين تلك الأحداث من ناحية، والتطور السياسى للمجتمع المصرى الذى انتهى إلى قيام الثورة فى يوليو 1952، من ناحية أخرى .
وعلى مستوى الأحداث الدولية الكبرى يبرز قيام الحرب العالمية الثانية كحدث أكبر فى الفترة السابقة على قيام الثورة، وإن كان هذا الحدث – على ضخامته وعمق تأثيره – غير منبت الصلة بسلسلة من الأحداث التى سبقته وربما قادت إليه، وذلك من قبيل الحرب العالمية الأولى وما أعقبها من تسويات دولية هدفت إلى إذلال المانيا، ومن ثم ظهور النازية كرد فعل وطنى متطرف على محاولة الإذلال الواقعة على ألمانيا من جانب الحلفاء المنتصرين، وفى الوقت ذاته قيام ثم سقوط عصبة الأمم، ولا يمكن إغفال الكساد العالمى العظيم الذى أصاب اقتصادات العالم فى 1929 – 1933 .
وعلى مستوى قراءتنا للعلاقة بين هذه الأحداث والتطور السياسى المصرى يبرز على نحو خاص الوجود والنفوذ البريطانى القوى فى مصر سواء فى ظل صيغة الحماية من 1914 – 1922، أو فى ظل صيغة الاستقلال الشكلى أو المنقوص منذ 1922. ومن هنا فإن مكانة بريطانيا فى النظام الدولى فى تلك المرحلة وطبيعة علاقات التحالف التى ربطتها مع قوى دولية معينة وعلاقات الصراع التى ربطتها بألمانيا – وبخاصة ألمانيا النازية – والصعود التدريجى لمكانة الولايات المتحدة فى هيكل علاقات القوة بالنظام الدولى فى ذات المرحلة، كانت من أهم ملامح التطور فى ذلك النظام التى انعكست على تطور مصر السياسى الداخلى آنذاك.لقد كان استمرار الاحتلال العسكرى البريطانى لمصر، وبخاصة فى منطقة القناة، وبصرف النظر عن استقلال مصر الشكلى، فضلاً عن التحالف القائم بين الاستعمار وقوى الاستغلال فى داخل مصر، والوجود البريطانى المباشر والقوى فى فلسطين والسياسات التى اتبعت فى تمكين حركة الهجرة اليهودية إليها، ومن ثم تمكين اليهود من بناء مؤسسات الدولة قبل الإعلان عنها، بالإضافة إلى سياسات بريطانيا والولايات المتحدة ومواقفها من مسألة تقسيم فلسطين فى 1947، ثم الاعتراف بدولة إسرائيل فور قيامها فى 1948، وما حدث فى حرب فلسطين وأثنائها، كل ذلك لعب دوراً مهماً فى الإعداد للثورة وربما التعجيل بقيامها. ومع أن التفاعل بين تطورات الوضع الدولى – وبخاصة الوجود الاستعمارى على أرض مصر ومعظم الوطن العربى – وبين تطورات الوضع السياسى الداخلى، وبخاصة فى رفضه لذلك الوجود وسعيه إلى وضع نهاية له، قد يعود بنا فى تحديد الفترة الزمنية التى يلزم دراستها إلى عام 1882 الذى بدأ فيه الاحتلال البريطانى لمصر أو عام 1914، وهو العام الذى أعلنت فيه الحماية البريطانية على مصر، أو عام 1919 وهو عام الثورة الشعبية ضد الاحتلال والقصر التى قادها سعد زغلول، أو عام 1922 وهو العام الذى أعلن فيه عن انتهاء الحماية البريطانية وحصول مصر على استقلالها، ومع أن فكر الثورة أو رؤيتها السياسية تحددت بتأثير من هذه الأحداث والتطورات كافة كما يعبر عن ذلك الميثاق الوطنى لعام 1962، فإنه لا شك أن عام 1945 يظل أهم تاريخ فى تطور الوضع الدولى المؤثر على صياغة التطور السياسى لمصر وغيرها من بلاد العالم الثالث .
ذلك أن الحرب العالمية الثانية التى انتهت فى ذلك العام قد خلقت عالماً جديداً انتهى فيه عصر الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية الكبرى، وظهر على قمته قوتان جديدتان إحداهما غير أوروبية وهى الولايات المتحدة، وثانيتهما نصف أوروبية وهى الاتحاد السوفيتى، وكلتاهما لم تتورطا فى علاقات استعمارية احتلالية من قبل، كما أن عام 1945 شهد قيام الأمم المتحدة كتنظيم دولى عالمى يفسح مكاناً أكبر لتطلعات شعوب العالم الثالث فى الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
ومن ناحية أخرى ترافق مع هذه التطورات العالمية التى نتجت عن انتهاء الحرب العالمية الثانية تطور للأوضاع داخل فلسطين فى اتجاه التقسيم ثم الإعلان عن قيام الدولة الإسرائيلية على جزء من أرضها. ونحسب أن هذا وذاك كان قد ألقى بظلاله قويةً على الحركة الوطنية المصرية بما أدى إلى قيام الثورة فى 1952، وإلى صياغة برنامجها للعمل الوطنى على نحو محدد. ومن ثم فإن عام 1945 يظل علامة فارقة فى سياق التطور السياسى الدولى وكذلك فى سياق التطور السياسى الإقليمى فى العالم العربى وفى مصر، ولذا فإن هذه الورقة تركز على متابعة لملامح الوضع الدولى فيما بين 1945 و1952.هل ساعد الوضع الدولى بعد 1945 على خلق مناخ مناسب لقيام الثورة؟انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار معسكر دول الحلفاء على معسكر دول المحور. ولكن ثلاثاً من دول الحلفاء المنتصرة خرجت من الحرب بخسائر بشرية واقتصادية فادحة، ولم يستثن من ذلك سوى الولايات المتحدة التى لم تقع معارك تلك الحرب على أرضها. وإذا كان الاتحاد السوفيتى قد خرج من هذه الحرب منهكاً بشرياً واقتصادياً فإن وجوده العسكرى خارج أرضه فى شرق أوروبا وحتى الخط الفاصل بين دولتى ألمانيا قد فرض واقعاً دولياً جديداً حظى فيه بوضع الدولة العظمى الثانية بعد الولايات المتحدة . أما بريطانيا – وبدرجة أكبر فرنسا – فقد خرجتا من الحرب رغم النصر السياسى، منهكتين بشرياً ومدمرتين اقتصادياً، وكان ذلك إيذاناً ببدء عصر انتهاء القوى أو الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية وظهور قوى دولية عظمى بديلة هى الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، وهى قوى توصف بأنها بالأساس غير استعمارية لعدم تورطها فى الماضى الاستعمارى الاحتلالى التقليدى الذى انغمست فيه بقوة كل من بريطانيا وفرنسا. وإذا كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى والمملكة المتحدة وفرنسا والصين قد احتلت المقاعد الدائمة الخمسة فى عضوية مجلس الأمن، ومن ثم أضحت منذ 1945 تمثل قيادة المنظومة الدولية رسمياً، فإن ثلاثاً من هذه الدول لم يكن ذو تأثير كبير على التطور السياسى فى مصر. فالصين كانت بعيدة عن المنطقة وظلت قوة إقليمية وليست عالمية، فضلاً عن أن الصراع داخلها استمر منتهياً فى 1949 بانتصار الثورة التى قادها "ماوتسى تونج"، ثم امتد الصراع بين الصين الشعبية وتايوان - منذ ذلك التاريخ - وهو ما جعل قدرة الصين على التأثير فى الأوضاع فى مصر قبل 1952 قدرة جد محدودة، أو حتى غائبة.أما الاتحاد السوفيتى فقد ظل انشغاله فى عهد ستالين محصوراً فى منطقة شرق أوروبا ومنطقة شرق آسيا؛ وبخاصة منذ اندلاع الحرب الكورية فى 1950؛ أى أن اهتمامه بالمنطقة العربية كان محدوداً فى ظل قائمة أولويات السياسة السوفيتية لمرحلة ما بعد الحرب الثانية. وكان الاهتمام السوفيتى بمصر محصوراً فى نطاق الانشغال بما كان يطرح عليها آنذاك من أفكار ومشاريع غربية " للدفاع عن الشرق الأوسط "؛ وذلك لارتباط تلك المشاريع المباشر بخطط الولايات المتحدة الرامية إلى حصر النفوذ الشيوعى، واحتواء الاتحاد السوفيتى، ومنع امتداد نفوذه إلى منطقة الشرق الأوسط. وكان طبيعياً أن يؤيد الاتحاد السوفيتى معارضة مصر لتلك المشاريع كما كان طبيعياً أن يحظى قرار حكومة مصطفى النحاس فى أكتوبر 1951 بإلغاء معاهدة 1936 واتفاقية الحكم الثنائى للسودان لعام 1899 من جانب واحد بالتأييد السوفيتى، وحظى هذا الموقف السوفيتى بترحيب وتأييد من جانب بعض القوى الوطنية الراديكالية فى مصر وبخاصة مصر الفتاة .
ولا نظن أن مجمل العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتى فيما بين 1945 و1952 كان من الأشياء التى أثرت مباشرةً فى الإعداد لثورة يوليو أو فى قيامها، ولكن ذلك لا يقطع بعدم وجود أى نوع من التأثير، ذلك أن المواقف المحبذة للسياسة السوفيتية تجاه مشاريع الدفاع الغربية فى الشرق الأوسط كانت مواقف قوى وطنية راديكالية، وكان لهذه القوى تأثير فى صياغة فكر أعضاء فى تنظيم الضباط الأحرار الذى أعد للثورة ونفذها، ومن ثم يمكن الزعم بوجود علاقة غير مباشرة بين تلك المواقف السوفيتية من مشاريع الدفاع الغربية، ومواقف حكومة الوفد السابقة على الثورة، ومواقف حكومة الثورة ذاتها لاحقاً من نفس القضية، كما يمكن الزعم بأن فكر قادة الثورة – أو فكر بعضهم – قد تأثر بتلك المواقف الرافضة للمشاريع الغربية الدفاعية.
وبالنسبة لفرنسا فقد كانت فى عام 1945 أضعف دول التحالف الأربع المنتصرة. وباستثناء ما أسفرت عنه تسويات الحرب العالمية الثانية من مشاركة لفرنسا فى الترتيب الغربى للأوضاع فى " ألمانيا الغربية " و " برلين الغربية " فإن الوجود الفرنسى بالخارج كان قد بدأ مرحلة المعاناة والاضمحلال. فقد كانت المتاعب التى تواجه فرنسا فى الهند الصينية وفى أفريقيا الفرانكفونية قد بدأت فى الظهور أو التزايد. وفى المنطقة العربية خرجت فرنسا من المشرق العربى بانتهاء انتدابها على كل من سوريا ولبنان فى عام 1946، وبدأت تواجه حركات تحرر وطنى نشطة فى بلاد المغرب العربى، وبخاصة فى الجزائر فى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكان كل ذلك يعنى غياباً للتأثير الفرنسى على صياغة الموقف السياسى الداخلى فى مصر. والحق أن تأثير الوجود والسياسة الفرنسية على ذلك الموقف لم يأخذ فى التبلور إلاَّ بعد قيام ثورة يوليو فى مصر، وبعد اشتداد ثورة الجزائر الباسلة ضد فرنسا منذ 1954، إذ كان التأييد المصرى للثورة الجزائرية قد بلغ حداً من القوة والتأثير أزعج فرنسا كثيراً فأخذت تتبنى مسلكاً عدائياً ضد مصر ظهر بوضوح فى العدوان الثلاثى فى 1956 وهو المنهج الأرعن الذى أدى إلى خسارة كثير من الأرض السياسية لفرنسا، ومن ثم خروجها من كافة بلاد المغرب العربى وانتهاء حقبة الاستعمار الفرنسى لهذه البلاد. وبالطبع امتد الدعم المصرى كذلك لحركات التحرر الوطنى المعادية لفرنسا فى كل من تونس والمغرب. ولكن ما يجب التأكيد عليه هو أن تأثير فرنسا على الأوضاع المصرية السابقة على 1952 كان شبه معدوم، بينما كان للمواجهة مع فرنسا فى المغرب العربى تأثير واضح فى صياغة فكر النظام الثورى فى مصر وترتيبه لأولوياته وتبنيه لبرنامج عمله السياسى، وذلك فى عقد الخمسينيات وربما حتى حصول الجزائر على استقلالها فى عام 1962.معنى ما تقدم أن بريطانيا والولايات المتحدة كانتا – من بين الدول الكبرى – الأكثر تأثيراً على صياغة أوضاع المنطقة العربية، ومصر فى القلب منها، فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.وكما سلف القول فإن بريطانيا – كانت قد أخذت فى الضعف بعد الحرب الثانية الأمر الذى انعكس على علاقتها بمستعمراتها فى آسيا وأفريقيا. وتبدى ذلك بوضوح فى خسارة بريطانيا لأهم مستعمراتها باستقلال الهند والباكستان عن النفوذ البريطانى فى عام 1947، وفى تخلى بريطانيا فى العام ذاته عن قيادة المعسكر الغربى لصالح الولايات المتحدة.
إن الضعف الذى اعترى الإمبراطورية البريطانية كنتيجة للحرب العالمية الثانية شجع حركات التحرر الوطنى فى البلاد الخاضعة لبريطانيا على تحدى الاحتلال والسعى نحو التحرر والاستقلال، الأمر الذى كان لا بد وأن يمثل مناخاً مواتياً للعمل الثورى التحررى فى مصر. وإذا كان إلغاء مصر بإرادة متفردة لمعاهدة 1936 ولاتفاقية 1899 الخاصة بالسودان قد مثل تحدياً مصرياً للإرادة البريطانية قبل قيام الثورة، فإن استمرار الوجود العسكرى والسياسى البريطانى المؤثر فى مصر والمنطقة هو الذى جعل ذلك التحرك من جانب حكومة الوفد فى 1951 محدود الأثر . ولذلك فإن حركة الضباط الأحرار وثورة يوليو 1952مثلت تغيراً نوعياً مهماً فى تعبير الشعب المصرى عن رفضه للخضوع للاحتلال البريطانى، ولتحالف القصر مع سلطة الاحتلال، ولمجمل الوضع السياسى القائم والذى لم يكن ليستطيع تخليص مصر من ربقة الاستعمار، ومع الضعف الذى أخذ يدب فى أوصال الإمبراطورية البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها حاولت بريطانيا - من خلال تقديم بعض المساعدات الاقتصادية لمستعمراتها - أن تحافظ على تماسك إمبراطوريتها بيد أنه لم يتوفر لنا معلومات موثوقة عما إذا كانت مصر قد تلقت بعضاً من هذه المساعدات وعما إذا كان لذلك أى تأثير على حركة مصر فى مواجهة بريطانيا فى تلك الفترة.
ورغم أن ذلك أمر يمكن أن يعكف على دراسته المؤرخون فإن ما يمكن القول به هنا أنه حتى ولو كانت مصر قد تلقت عونا اقتصادياً فى إطار تلك السياسة البريطانية المذكورة – وهو ما لا نستطيع الجزم به – فإن مثل ذلك العون لم ينتج تأثيراً ذا بال – أو أى تأثير على الإطلاق – بدليل تصاعد الحركة الثورية الوطنية ضد بريطانيا فى مصر، وهو الأمر الذى بلغ ذروته بقيام ثورة يوليو 1952. واللافت للنظر أنه رغم حرص بريطانيا على استمرار وجودها فى المنطقة العربية عموماً وفى الجزيرة العربية خصوصاً، وتمكنها من ذلك إذ لم تنسحب من اليمن الجنوبى إلا فى عام 1967، ولم تنسحب من ساحل الخليج العربى إلاّ فى عام 1971، رغم ذلك فإنها أسرعت إلى الخروج من فلسطين بإعلانها انتهاء الانتداب فى 14 مايو 1948 بعد أن كانت قد رتبت الأوضاع على نحو يضمن قيام دولة إسرائيل من خلال قرار التقسيم فى 1947، ومن خلال دعم المؤسسات اليهودية داخل فلسطين. إن بريطانيا تتحمل المسئولية الأكبر – باعتبارها دولة الانتداب على فلسطين – عن قيام دولة إسرائيل، بل إنها خانت مسئوليتها كدولة انتداب وأهدرت حق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره بدلاً من أن تساعده على ممارسته. ومن هنا فإن السلوك البريطانى فى فلسطين قد لعب دوراً مؤثراً فى التخطيط والتنفيذ لقيام دولة إسرائيل، وكان ذلك السلوك متصلاً منذ وعد بلفور فى 1917 وحتى انتهاء الانتداب فى 1948.
والواقع أن ما حدث فلسطين – وبخاصة حرب 1948 – كان له شأنه فى صياغة الرؤية السياسية لقادة تنظيم الضباط الأحرار، وبخاصة الرئيس جمال عبد الناصر، الذى كان للحصار الذى تعرض له ووحدته العسكرية فى الفالوجا فى 1948 تأثيراً مهماً على قيادته للحركة وعلى فكره السياسى.وفيما يتعلق بالولايات المتحدة، فإن الانخفاض فى مكانة بريطانيا الدولية والاهتزاز فى وضعها فى المنطقة العربية كان قد أغرى الولايات المتحدة للعمل على توسيع وجودها ونفوذها فى هذه المنطقة فى السنوات التالية على انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولكن تلك السياسة الأمريكية لم تكن تعنى السعى إلى طرد النفوذ البريطانى تماماً أو الحلول محله، فذاك أمر لم يطرأ على السياسة الأمريكية فى المنطقة إلاَّ بمناسبة العدوان الثلاثى على مصر فى 1956. وحتى فى منطقة الخليج فإن الوجود البريطانى ظل هناك برضا من الولايات المتحدة حتى عام 1971. وعلى العموم فإن رغبة الولايات المتحدة فى زيادة وجودها ونفوذها فى المنطقة لم يكن ليأتى بالضرورة على حساب بريطانيا، وبخاصة قبل عام 1956. ولذلك تصورت واشنطن أنه بإمكانها أن تصبح وسيطاً بين لندن والقاهرة، وأن تعمل على تهدئة التوتر فيما بين الطرفين وتحقق فى الوقت ذاته هدفاً رئيسياً لها من خلال ذلك الدور وهو منع النفوذ السوفيتى من الوصول إلى المنطقة. ورغم أن ذلك الهدف لم يصطدم مع جوهر مواقف النخبة الحاكمة فى مصر قبل 1952، فإن التأييد الأمريكى المطلق للدولة الإسرائيلية الوليدة من ناحية، والصيغة التى طرحتها السياسة الأمريكية لتحقيق ذلك الهدف من خلال إنشاء تنظيم دفاعى غربى فى المنطقة من ناحية أخرى، حالا دون التقاء السياستين المصرية والأمريكية.
كان بإمكان الولايات المتحدة أن تستثمر وضعها كقوة عالمية ليس لها أى ماضٍ استعمارى فى المنطقة العربية، ولكن العاملين السالف الإشارة إليهما قد قلصا كثيراً من تلك الميزة التى كانت للولايات المتحدة على القوى الاستعمارية التقليدية الأوروبية وبخاصة بريطانيا وفرنسا.إن الاعتراف الأمريكى الفورى بدولة إسرائيل والتأييد السياسى المطلق لها أصاب الشعوب العربية عموماً بالاحباط تجاه الولايات المتحدة وأشاع مشاعر من الشك وعدم الثقة إزاءها. ولقد كان التأثير السلبى الناتج عن تلك السياسة الأمريكية المنحازة تماماً لإسرائيل بادياً على الموقف المصرى من قضية الحرب الكورية؛ إذ اتخذت مصر موقفاً محايداً ولم تؤيد الموقف الأمريكى من تلك القضية فى مجلس الأمن، وكان ذلك تعبيراً عن أن السخط على السياسة الأمريكية المنحازة لإسرائيل لم يقتصر على الدوائر الشعبية، بل وصل إلى الدوائر الرسمية فى مصر كذلك.ولقد اتضح التناقض فى مواقف الولايات المتحدة بين تأييدها النظرى لحق الشعوب فى تقرير مصيرها وبين السياسة التى اتبعتها بتأييد بريطانيا فى المواجهة التى حدثت مع حكومة مصطفى النحاس فى 1951؛ بسبب قراراتها الخاصة بإلغاء معاهدة 1936 واتفاقية 1899. فرغم أن الولايات المتحدة كانت تتبنى مبدأ حق تقرير المصير للشعوب على عكس بريطانيا التى كانت تسعى للحفاظ على سيطرتها على المنطقة، فإن الحكومة الأمريكية قدمت دعماً سياسياً كاملاً لبريطانيا ضد قرار النحاس المشار إليه؛ وذلك لأن واشنطن لم تكن ترغب فى جلاء القوات البريطانية من منطقة قناة السويس التى هى منطقة القلب فى أى تنظيم دفاعى غربى عن الشرق الأوسط.
وفيما يخص مشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط التى تبنتها واشنطن وألحت فى عرضها، فإن المعضلة تمثلت فى أن هذه المشاريع ركزت على احتواء "الخطر الشيوعى" الذى لم يكن يمثل بالنسبة لمصر الخطر الأكبر، فى الوقت الذى تجاهل فيه تماماً الهدف الرئيسى لمصر والمتمثل فى التخلص من الاحتلال البريطانى من ناحية، واحتواء العدو الإسرائيلى من ناحية أخرى. لقد كان رفض مصر لفكرة التنظيم الدفاعى الغربى عن الشرق الأوسط سابقاً على قيام ثورة 1952، ثم تأكد هذا الرفض وتعزز على يد الثورة. وكان مرد الرفض قبل 1952 أن القبول بمشاركة مصر فى ذلك المشروع كان يعنى دوام الاحتلال البريطانى لمصر فضلاً عن إمكان ظهور وجود عسكرى لدول غربية أخرى على أرض مصر، وهو ما كان يمثل تناقضاً مع الهدف الرئيسى الذى حكم النضال الوطنى المصرى فى تلك المرحلة. وكذلك كان ثمة تخوف من التزام سرى بريطانى – أمريكى لإسرائيل بمشاركتها فى أعمال القيادة العسكرية لمثل ذلك المشروع دون علم مصر.إن الظاهرة الاستعمارية كانت إذاً قد تعرضت لبداية التآكل مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفى محاولة منها لمنع حدوث ذلك كان طبيعياً أن تزداد تلك الظاهرة شراسة للحفاظ على ما تبقى منها.
ولذلك فإنه رغم مشاركة البلاد العربية لصالح دول الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية فإنهم خرجوا من تلك الحرب والمشاركة صفر اليدين، ولم تتحقق تطلعاتهم المشروعة فى الاستقلال، وربما يكون ذلك الظلم الذى تعرض له العرب مرتين؛ مرة بعد الحرب الأولى، ومرة أخرى بعد الحرب الثانية قد عجل بدفع حركة الثورة فى مصر والمنطقة العربية، خاصة وأن ذلك الظلم قد حدث فى وقت كانت فيه حركات التحرر الوطنى تشتد فى آسيا وأفريقيا، وكان قيام الأمم المتحدة وتأكيد ميثاقها على حق الشعوب فى تقرير مصيرها، والنضال من أجل نيل حريتها واستقلالها عاملاً مهماً فى خلق مناخ مواتٍ لحركة الثورة.إدراك الثورة للوضع الدولى 1945 – 1952 :بطبيعة الحال ثمة صعوبة فى تحليل أو التعرف على إدراك رجال الثورة للوضع الدولى فى مرحلة الدراسة 1945 – 1952، فليس ثمة وثائق متاحة تركها رجال الثورة عن تصوراتهم لتلك المرحلة، والمذكرات الشخصية التى كتبوها بعد سنوات طويلة من قيام الثورة لا تمثل مصدراً يعتد به، أو مادة موثوقة يمكن استخلاص ملامح إدراكهم للوضع الدولى فى تلك المرحلة السابقة على الثورة .
وعلى العموم يصبح إشكالياً أن يقوم الباحث بتحليل الإدراك بأثر رجعى خاصة فى ظل ندرة أو غياب المادة الوثائقية الخام التى تنتمى إلى الفترة ذاتها، ومن المحتمل أن تكون المواد الوثائقية اللاحقة صالحة لدراسة "القراءة المستجدة" من جانب قادة الثورة لتلك المرحلة فى مراحل أخرى أحدث زمنياً، وليس لدراسة الإدراك الفعلى لهم لملامح الفترة المقصودة.وفى إطار ذلك القيد، وبمراجعة المصدر الوثائقى الأهم، والمتمثل فى الميثاق الوطنى لعام 1962 (الباب الثانى)، فإنه يمكن تحديد أهم معالم الوضع الدولى المؤثر فى صياغة موقف قادة الثورة فى المرحلة السابقة عليها مباشرة فى عدد من النقاط أهمها :
1 – تعاظم قوة الحركات الوطنية فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ضد القوى الاستعمارية حتى أصبح لها تأثير عالمى فعال.
2 – ظهور المعسكر الشيوعى فى مواجهة المعسكر الرأسمالى.
3 – تأثير التقدم العلمى الهائل على وسائل الإنتاج وأسلحة الحرب والتى أصبحت رادعاً ضد نشوب الحرب.
4 – زيادة تأثير القوى المعنوية فى العالم كالأمم المتحدة وقوى الرأى العام العالمى، وفى نفس الوقت سيطرة الاستعمار على الشعوب من الداخل عن طريق التكتلات الاقتصادية الاحتكارية، والحرب الباردة؛ لتشكيك الأمم الصغيرة فى قدرتها على تطوير أنفسها.ويمكن استخلاص بعض النتائج بشأن صلة غير مباشرة، لكنها مهمة، بين الظاهرة الاستعمارية وتحالفها مع العناصر المستغلة من الداخل ونكبة فلسطين، وبين قيام الثورة فى مصر فى 1952؛ وذلك من خلال قراءة مدركات بعض فقرات الميثاق الوطنى لعام 1962:
1 – ففى مواجهة عوامل القهر والاستغلال التى تحكمت طويلاً فى الأمة العربية فإن الثورة هى الوسيلة الوحيدة التى تمكن هذه الأمة من التخلص من أغلال القهر الاستعمارى الطويل، وذلك كما جاء فى الباب الثانى من الميثاق. وقد يثور التساؤل : إذا كان القهر الاستعمارى هو الدافع إلى العمل الثورى التحررى فلماذا لم تقم الثورة فى مصر قبل 1952 بسنوات طويلة؟ إن القهر الاستعمارى المتصل عبر فترة زمنية طويلة هو الذى يولد الأثر التراكمى السلبى حتى يصل بالأوضاع إلى نقطة الانفجار التى يكون حتمياً عندها قيام الثورة، فضلاً عن أن الشعب المصرى قد خاض قبل 1952 تجارب نضالية متصلة ضد الاستعمار البريطانى كان أبرزها حركة عرابى، وتجربة مصطفى كامل ومحمد فريد، وثورة 1919، ثم كانت ثورة 1952 هى التتويج لتلك التجربة النضالية الطويلة، ولا ننسى أن ذلك التتويج قد حدث حين أصاب الظاهرة الاستعمارية الوهن فأرادت أن تقاوم حركة التاريخ بمزيد من العدوانية والشراسة التى أدت فى المقابل إلى مزيد من الصلابة فى الحركة التحررية الوطنية.
2 – إن الاستعمار نفسه دون أن يدرى ساهم فى تقريب يوم الثورة "الاجتماعية"، وذلك حين توارى بمطامعه خلف العناصر المستغلة فى الداخل يوجهها ويحركها، فأصبح محتماً على الشعب ضربها معاً، وهزيمتها معاً، وذلك كما جاء فى الباب التاسع من الميثاق.
3 – فى الباب الرابع من الميثاق حديث عن تجربة أو مأساة حرب فلسطين، وكيف أن سلب فلسطين كان نتيجة مباشرة للقهر الاستعمارى الذى تعرضت له الأمة العربية، إذ أراد المستعمر بإنشائه لإسرائيل أن يستخدمها سوطاً فى يده، وفاصلاً يعوق امتداد الأرض العربية، وعملية امتصاص مستمرة للجهد الذاتى للأمة العربية، تشغلها عن حركة البناء الإيجابى، وكيف أن الجيوش العربية التى دخلت فلسطين لتحافظ على الحق العربى كانت تحت القيادة العليا لأحد عملاء الاستعمار، وأن العمليات العسكرية تحت هذه القيادة العليا كانت فى يد ضابط إنجليزى، وكيف أن الأمة العربية قد خرجت من هذه التجربة القاسية والمهينة بإصرار عميق على التحرر، وهو تحليل يمكن أن يخلص منه إلى إقامة ربط بين نكبة فلسطين 1948 وبين قيام ثورة 1952؛ وذلك فى إدراك قائد هذه الثورة.أثر الوضع الدولى 1945 – 1952 على برنامج الثورة فى مصر :إن أى حديث عن تأثير للوضع الدولى فى الفترة 1945 – 1952 على فكر الثورة وبرنامج تحركها السياسى هو من قبيل الاجتهاد الذى قد يصيب وقد يخطئ، ذلك أن فصل تأثير الداخل عن تأثير الخارج على صياغة ذلك الفكر أو تلك الحركة يعد من قبيل الفصل العسفى، ناهيك عن أن التأثير الأكبر يكون عادةً للأوضاع الداخلية؛ خاصة فى عصر لم يكن الاتصال والتواصل بين أجزاء العالم قد بلغ ما بلغه فيما بعد وبفضل الثورة العلمية والتكنولوجية .
ولكن على أية حال يمكن الاجتهاد فى هذا الصدد فى إطار الحدود الواردة على صحة وسلامة مثل ذلك الجهد.وأول ما يتبادر إلى الذهن هنا هو أنه إذا كانت الفترة، بل والحقبة السابقة على قيام ثورة يوليو 1952 فى مصر هى حقبة استعمارية، وإذا كانت مصر قد عانت من تسلط الاستعمار البريطانى عليها لفترة طويلة بلغت سبعين عاماً، ولأن القهر الاستعمارى كان يحتل مركزاً رئيسياً فى تفكير قادة الثورة كأخطر التحديات التى تجابه الأمة العربية، فإنه كان طبيعياً أن يكون القضاء على الاستعمار هو المبدأ الأول للثورة الذى احتل موقع الصدارة فى قائمة مبادئها الستة.ولقد ترجمت الثورة ذلك المبدأ فى سياسات محددة تمثلت فى إجلاء القوات البريطانية من منطقة القناة ومن مصر بكاملها، وفى دعم مصر لحركات التحرر الوطنى الساعية إلى الاستقلال والحرية والقضاء على الاستعمار فى الوطن العربى وأفريقيا، وفى رفض سياسة الأحلاف الغربية فى منطقة الشرق الأوسط، وفى المشاركة فى قيادة حركة تضامن الشعوب الأفروأسيوية وحركة عدم الانحياز، ثم فى مواجهة العدوان الثلاثى على مصر 1956، والسعى إلى وضع نهاية للاستعمار البريطانى فى مصر والوطن العربى.
وكان طبيعياً أن يكون جلاء القوات البريطانية عن مصر بموجب اتفاقية الجلاء فى 1954، ثم تحقق الجلاء التام فى أعقاب العدوان الثلاثى فى 1956، هو أول وأهم الخطوات على طريق تحقيق مبدأ القضاء على الاستعمار الذى وضعته الثورة على رأس قائمة أهدافها الستة. وفى السياق ذاته انتصرت ثورة 1952 لمبدأ حق الشعب السودانى فى تقرير مصيره؛ وذلك فى اتفاق 1953 الذى نتج عن المفاوضات مع بريطانيا فى هذا الصدد. بل وصل اهتمام الثورة بتكريس حق الشعب السودانى فى اختيار مستقبله وتقرير مصيره إلى الحد الذى جعلها توقع على الاتفاق الخاص بالسودان فى عام 1953، بينما لم تعقد اتفاق الجلاء إلاَّ فى عام 1954، وكان كل ذلك اتساقاً مع مسعى الثورة الأصيل لتخليص الشعبين المصرى والسودانى من ربقة الوجود الاستعمارى البريطانى والقهر الذى فرضه عليهما لسنوات طويلة.
ولم يقتصر دعم الثورة لحق الشعوب فى تقرير مصيرها سعياً نحو القضاء على الاستعمار على السودان الشقيق، بل امتد ليشمل كافة البلاد العربية والأفريقية على السواء.وإذا كان السعى إلى القضاء على الاستعمار قد فرض على ثورة يوليو تقديم المساعدة لكافة الشعوب الرامية إلى الاستقلال والحرية، فإنه فرض على الثورة أيضاً أن تنأى بنفسها عن المشاركة فى مشاريع الأحلاف الغربية بمنطقة الشرق الأوسط، فهذه المشاريع نظر إليها على أنها ذات أهداف لا تعنى الشعوب العربية كثيراً، فضلاً عن تجاهلها لأهداف النضال الوطنى للشعوب العربية، بل وتكريسها للوجود العسكرى للقوى الاستعمارية على أرض البلاد العربية.وتعبيراً عن الاستقلال الذى هو النتيجة الرئيسية للنجاح فى القضاء على الاستقلال اتجهت مصر إلى بناء حركة تضامن على مستوى الشعوب ثم حركة تضامن على مستوى الدول فى القارات الثلاث، فكانت حركة تضامن الشعوب الأفرأسيويه، ثم حركة عدم الانحياز، تأكيداً لقيمة الاستقلال والتحرر من خلال التضامن الجماعى بين الشعوب والدول التى كانت خاضعة للحكم الاستعمارى واستطاعت أن تستقل عنه.ثم كانت المواجهة الكبرى مع الاستعمارين البريطانى والفرنسى فى 1956، إذ كانت حرب 1956 التى فرضها العدوان الثلاثى البريطانى – الفرنسى – الإسرائيلى على مصر، تعبيراً عن تحرك عصبى غير رشيد من جانب القوى الاستعمارية أراد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فوقعت الواقعة وانتهى الأمر نتيجة للصمود المصرى المدعوم عربياً، ونتيجة للموقف الأمريكى الساعى إلى وضع نهاية لنفوذ القوى الاستعمارية التقليدية فى المنطقة، إلى سقوط الاستعمار التقليدى سقوطاً تاماً وانتهاء الحقبة الاستعمارية وتحقق المبدأ الأول من مبادئ الثورة.ومن ناحية أخرى فإن الماضى غير الاستعمارى للولايات المتحدة كان عاملاً إيجابياً فى العلاقة بين مصر والولايات المتحدة خلال السنوات الأولى من عمر الثورة؛ وذلك رغم ما مثله الدعم الأمريكى غير المحدود لإسرائيل وقيادة الولايات المتحدة لمشروعات الحلف الغربى فى المنطقة من عقبات سرعان ما انعكست سلباً على علاقات مصر مع الولايات المتحدة.والأمر المؤكد أن الثورة كانت قد حاولت الاستفادة من بزوغ الولايات المتحدة كقوة دولية مهمة وغير استعمارية. والمؤكد أيضاً أن عبد الناصر لم يبدأ ببرنامج يسارى راديكالى، بل إنه توجه فى البداية إلى الولايات المتحدة وكان حريصاً على إقامة علاقات جيدة معها.
ولقد تبدى ذلك فى عملية التفاوض مع بريطانيا بشأن السودان وبشأن الجلاء، وكذلك فى سعيه للحصول على أسلحة أمريكية، وفى سعيه للحصول على استثمارات أمريكية وعلى قروض أمريكية للمشاريع التنموية الرئيسية، وعلى رأسها مشروع السد العالى.وبينما نجح عبد الناصر فى الحصول على تعاون من الولايات المتحدة فى مجال مفاوضات السودان والجلاء ولعب دور الوسيط بينه وبين بريطانيا، فإن طلبه المتكرر لأسلحة أمريكية قوبل بالصدود من جانب الإدارة الأمريكية، الأمر الذى دفعه إلى طلب الأسلحة السوفيتية فى الصفقة الشهيرة بصفقة الأسلحة التشيكية عام 1955، وهى الصفقة التى أحدثت آثاراً عميقة على سياسات منطقة الشرق الأوسط وأوضاع القوى الكبرى فيها فى السنوات التالية. كذلك فإن مساعى عبد الناصر لإقناع القطاع الخاص المحلى والدولى كى يستثمر فى مصر، ومساعيه للحصول على القرض الخاص بتمويل عملية بناء السد العالى، الذى يعد من أكبر المشروعات التنموية، وأكثرها أهمية فى مصر وربما فى العالم، قد باءت بالفشل نتيجة للتعنت الأمريكى الذى بلغ أقصاه مع قرار سحب التمويل الأمريكى لذلك المشروع.وقد كان فى خلفية القرارات الأمريكية برفض طلب مصر من الأسلحة والاستثمارات والقروض الأمريكية، الموقف الأمريكى من الصراع العربى الإسرائيلى والدعم الأمريكى الأعمى لإسرائيل، فضلاً عن الخلاف حول مشاريع الدفاع الغربية عن الشرق الأوسط، ورغبة الولايات المتحدة فى فرض شروط ورقابة على برامج التسليح المصرية، وهو ما اعتبرته مصر مساساً بمستقبلها لا يمكن قبوله.
أى أن عبد الناصر لم يبدأ اشتراكياً و موالياً للسوفيت، وإنما اضطرته السياسة الأمريكية إلى الاتجاه شرقاً، وإلى البحث عن الدعم السوفيتى، بالضبط كما فعلت مع قادة وطنيين آخرين فى بلاد أخرى مهمة حدثت فيها مواجهات مع الولايات المتحدة لم يكن وراءها سياسات أو مواقف مقصودة من جانب هؤلاء القادة، بل كان وراءها مواقف متصلبة- وأحياناً غير مفهومة- من جانب الولايات المتحدة.وحينما اضطر عبد الناصر إلى التوجه إلى الاتحاد السوفيتى كان الأخير قد غير من موقفه الايديولوجى والسياسى من النظام الثورى فى مصر، بل من حركات التحرر الوطنى فى العالم الثالث إجمالاً. ومن ناحية أخرى كان للموقف المشترك بين مصر والاتحاد السوفيتى من مشاريع الدفاع أو الأحلاف الغربية فى الشرق الأوسط – رغم اختلاف الأسباب – تأثيراً فى تيسير التقارب المصرى السوفيتى .
وأخيراً فإن تأثيرات الأوضاع الدولية فى الفترة من 1945 – 1952، على فكر الثورة وبرنامجها السياسى كانت أوضح ما تكون فى المرحلة الأولى من عمر النظام الثورى فيما بين 1952 و1956، أما المواجهة الكبرى مع القوى الاستعمارية فى 1956 فإنها ولدت قوى ضغط وعوامل تأثير جديدة أخذت تحدث تأثيرات عميقة فى مسار فكر الثورة وحركتها؛ وبخاصة فيما يتعلق بالأسلوب والمنهج وأن لم تغير من الهدف العام المتمثل فى السعى إلى التحرر والاستقلال والتنمية. وهكذا كانت 1956 سنة فاصلة فى تاريخ مسيرة الثورة، وكذلك فى تحديد النطاق الزمنى للتأثير المباشر من جانب الأوضاع الدولية السابقة على قيام الثورة على برنامج عملها، وعلى فكرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق