الاثنين، 14 أبريل 2008

مذكرات القرضاوي (11)

الأزهر يعينني والمباحث تفصلني
كل كائن حي له مطالب وحاجات تتنوع وتكثر بمقدار رقي حياته؛ فحاجة النبات أقل من حاجة الحيوان، وحاجة الحيوان أقل من حاجة الإنسان، وحاجة الإنسان البدوي أقل من حاجة الإنسان الحضري، وحاجة الإنسان الأمي أقل من حاجة الإنسان المتعلم، والشاعر العربي قال من قديم:
نروح ونعـدو لحاجاتنا وحاجات من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
لهذا كان كل إنسان في حاجة إلى العمل ليكسب منه رزقه ويوفر حاجاته. صحيح أن الله تعالى قد ضمن لكل كائن حي رزقه، كما قال تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} (هود:6)، {وَكَأَيِّن مِّنْ دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا} (العنكبوت:60).
ولكن معنى ضمان الرزق أنه هيأ موارده وأسبابه في هذه الأرض، فمنذ خلقها بارك فيها وقدر فيها أقواتها، وجعل لأهلها معايش تكفيهم، بيد أن سنته تعالى أن رزقه المضمون لا يُنال إلا بالسعي والكدح والمشي في مناكب الأرض، والتماس الرزق في خباياها، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} (الملك:15) فمن سعى ومشى في مناكب الأرض استحق أن يأكل من رزق الله فيها، ومن قعد وتكاسل، كان خليقا أن يحرم من رزقه.
وقد رأى الخليفة عمر بن الخطاب جماعة قاعدين في المسجد بعد صلاة الجمعة، فسألهم: من أنتم؟ قالوا: متوكلون! فقال: بل متأكّلون! لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض. أما قرأتم قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} (الجمعة:10).
لهذا كان عليّ أن أسعى للحصول على ما يكفي حاجاتي في هذه المرحلة، وقد أصبحت حاجاتي اليوم أكثر منها عندما كنت طالبا. فقد كان يكفيني من قبل نصف حجرة وأنا أطلب الآن نصف شقة.
ولست ممن سموهم بعد الثورة (العاطلين بالوراثة) فلم أرث من أبي وجدي من الأرض الزراعية أو من العقارات أو الأموال السائلة في الخزائن الخاصة والبنوك العامة ما يلبي حاجاتي، ويغنيني عن طلب العمل. وحتى لو كان لي مثل هذا لكان عليّ أن أطلب العمل؛ لأن العمل في ذاته واجب على الإنسان كما أنه حق له، وهو كذلك شرف له. وما ينبغي للإنسان أن يأخذ من الحياة ولا يعطيها.
والتوكل على الله لا يعني إهمال الأسباب، والحديث الذي يتوكأ عليه المتبطلون يرد عليهم، حيث يقول: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانًا" فهو لم يضمن لها الرواح والعودة بطانا أي ممتلئة البطون، إلا بعد غدوها وسعيها خماصا.
ومن ثم جئت من القرية إلى القاهرة، بحثًا عن العمل، وأخذًا بالأسباب رجاءً في فضل الله، الذي يرزق من يشاء بغير حساب.
التعيين في الأزهر ثم إلغاؤه:
عينوني في سطوح وزارة الأوقاف
ثم كان أول ما اتجهت إليه: أن أقدم أوراقي إلى إدارة الأزهر، لأعين في معاهده مدرسا، فقد كنت عينت قبل الاعتقال، ولكني لم أتسلم العمل، فسقط حقي، على أني لو كنت تسلمته لفصلت منه، كما فصل كثير من إخواني.
أما المسجد الذي كنت أخطب فيه في مدينة المحلة ـ وهو مسجدٌ أهلي ضم إلى وزارة الأوقاف بعد ـ فقد فصلوني منه لغيابي.
وبعد تقديم أوراقي إلى الأزهر انتظرت نحو أسبوعين أو ثلاثة، وإذا بإدارة الأزهر تعلق كشفا بالمقبولين للتعيين في معاهدها، وكان أول اسم في الكشف هو اسمي، ومعي الأخ العسال. وقلت: الحمد لله، قد حقق الله الرجاء.
فقال لي الموظفون المختصون: لقد كان اسمك أول الأسماء المرشحة؛ لأنك حاصل على أكبر مجموع في المتقدمين من الكليات الثلاث، سواء في سنة تخرجك أم في هذه السنة. (فقد كان ترتيبي الأول في العالمية، وفي تخصص التدريس)، ولكن هناك عقبة يجب أن تجتازها. قلت: ما هي؟ قالوا: موافقة جهات الأمن (المباحث العامة). فقلت: وقعنا في الفخ. هذه هي العقدة، وعلى كل حال، يقضي الله ما يشاء، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
وبعد أيام جاء الرد من المباحث العامة بحذف اسمي واسم العسال من المعينين، ولاموا الأزهر على إعلانه النتيجة بالأسماء المقبولة قبل مراجعة جهات الأمن المختصة في وزارة الداخلية. ولذا أضحى المعمول به بعد ذلك: إرسال أسماء المعينين أولا إلى الداخلية، فمن قبلته منهم أعلن عنه، وإلا فلا.
وقد أعلمونا أن أي عمل يتصل بالجماهير هو محظور علينا، فلا نطمع يومًا أن نعيَّن مدرسين أو وعاظا في الأزهر، أو خطباء في وزارة الأوقاف؛ لأن هذه الأعمال لها تأثيرها في الجمهور، ونحن غير مأمونين عليها!
البحث عن المدارس الخاصة:
وهنا لم يكن أمامنا باب مفتوح إلا المدارس الخاصة التي تحتاج إلى مدرسين للغة العربية، فلم يكن الدين يحتاج إلى مدرس خاص به، فإن حصصه محدودة جدا، يأخذها مدرس اللغة العربية مضافة إلى جدوله، وربما لم تكن إجبارية في بعض السنوات.
وظللت أنا وأخي العسال نقرأ الصحف كل يوم نفتش في "إعلاناتها المبوّبة" لأول مرة، عن مدرسة خاصة تطلب مدرسين للغة العربية، فإذا وجدنا مدرسة في أي مكان في القاهرة أو الجيزة، سارعنا للذهاب إليها، لنقدم إليها أوراقنا، وقد صورنا منها عدة نسخ على صعوبة التصوير في ذلك الوقت.
ولكنا كنا نرجع بخفي حنين، إذ تعتذر إدارات المدارس عن عدم قبولنا، بسبب واضح، وهو أنهم يحتاجون إلى مدرس للغة العربية، ولذا هم في حاجة إلى خريجي اللغة العربية من الأزهر، أو كلية دار العلوم من جامعة القاهرة، وأنا خريج أصول الدين، والأخ العسال خريج الشريعة!
وهذا ما جعلني أقول عبارة تناقلها الإخوة الزملاء بعد ذلك، وهي: أبأس الناس: الموظفون، وأبأس الموظفين: المدرسون، وأبأس المدرسين: مدرسو اللغة العربية، وأبأس مدرسي اللغة العربية: خريجو أصول الدين والشريعة!
ارتديت "البدلة" وخلعت "الكاكولة"!!
ارتديت البدلة لأحصل على قوت يومي
ثم شاء الله تعالى أن أقرأ إعلانا عن حاجة مدارس الشرق الخاصة بالزمالك والمنيرة ـ التي يملكها الأستاذ يس سراج الدين العضو الوفدي المعروف، وشقيق فؤاد باشا سراج الدين ـ إلى مدرسين للغة العربية. وكان الأخ العسال قد يئس من كثرة تقديمنا لمثل هذه المدارس ورجوعنا منها بالرفض والاعتذار، ولكني توكلت على الله وقدمت الطلب لمدير المدرسة بالزمالك، وجلست أنتظر ماذا يقول المدير بعد أن يقرأ الأوراق، ولم أكن أتوقع إلا أن يعتذر كما اعتذر إخوة له من قبل.
ولكني فوجئت بمن يناديني باسمي، ويقول لي: إن المدير يطلبك، وكان اسمه الأستاذ عبد الحليم بشير، من رجال التربية، ومن خريجي دار العلوم القدامى، وقد رحب بي، وقال لي: يا شيخ يوسف، نحن عادة لا نقبل خريجي أصول الدين في تدريس اللغة العربية، لأنهم في الغالب غير متخصصين، ويبدو ضعفهم في التدريس، ولكني حين نظرت في أوراقك وجدت أنك أول زملائك في الشهادة العالية من كلية أصول الدين، كما أنك أول زملائك في العالمية مع إجازة التدريس، وهذا يدل على أنك شخص متميز، ولست بالرجل العادي، ولهذا سأخرق القاعدة وأقبلك مدرسا بمدرستنا على مسؤوليتي.
قلت له: شكر الله لك حسن ثقتك بي، وأرجو أن أبيض وجهك وأكون عند حسن ظنك إن شاء الله.
وكان المدير الإداري والمالي للمدرسة موجودًا، واسمه صلاح ذهني، فقال لي: لكني يا أستاذ يوسف أريد أن أسدي إليك نصيحة أريد ألا تفسرها خطأ، قلت: خيرًا، ما هي؟ قال: تعلم أن هذه المدرسة في حي الزمالك، حي الأعيان والطبقات الراقية، وربما لم يكن زيك الأزهري هذا (الجبة والعمامة) مناسبا لهذه البيئة، ولذا أنصحك أن تغير زيك هذا، وتلبس (البذلة) الإفرنجية.
وقال الأستاذ عبد الحليم: وأنا أؤيد الأستاذ صلاح في هذا، ولعلك تحفظ قول الشاعر العربي قديما:
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها!
قلت: نعم أحفظه، وأحفظ قول فقهائنا بمراعاة العرف، ما لم يكن مخالفا للشرع، وقول الناظم في الفقه:
والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار
وعدت إلى مسكننا في شبرا، لأخبر أخي العسال بما حدث معي، وبقبولي في مدارس الشرق الخاصة بالزمالك، وبطلبهم مني أن أغير زيي، فأصبح بدل "الشيخ يوسف" "يوسف أفندي"! وضحكنا على هذا التغيير المفاجئ. وقال الأخ العسال: أنت الآن تطبق نظرية ماركس في أن الحاجات الاقتصادية هي التي تغير سلوك الإنسان، فما كان أحد يظن أن الشيخ يوسف سيخلع يوما "كاكولته" وعمامته، لولا الضرورات الاقتصادية التي تفرض على الإنسان ما لا يحبه ولا يهواه.
وبالفعل اشتريت قطعتين من الصوف المحترم، ثم سألت بعض الإخوة "الطرزية" المعروفين بالتفنن والإتقان، فدلوني على الأخ عبد العزيز البقلي، وكان من الطراز المتميز في صنعته وفنه، وكان هو الذي خاط بدلة الضابط لعبد المجيد حسن قاتل النقراشي! فقلت لهم: ألا يوجد ترزي آخر؟! فقالوا: هذا هو الذي نعرفه. قلت: على بركة الله. وفصّل لي أول بدلتين في حياتي، وسرعان ما خاطهما لشدة حاجتي إليهما، وتسلمتهما. وكان عليّ أن أتعلم كيف أستخدم رباط العنق (الكرافتة) فهي تحتاج إلى مهارة سرعان ما أتقنتها.
وأول ما لبست هذه الحُلة، شعرت كأني إنسان آخر، لم يعد هو الشيخ يوسف القديم، وخيّل إليّ أن الناس كلهم ينظرون إليّ، ويقولون: هذا هو الرجل الذي غيّر زيه، وتزايد هذا الشعور عندي عندما ذهبت إلى قريتنا، ورآني أهلها لأول مرة بهذا الزي الجديد.
ولكن سرعان ما أمسى هذا أمرا مألوفا، وتعود الجميع عليّ بهذا الزي الجديد، وقال كثيرون: إنه لائق عليك، وملائم لك، ربما أكثر من الجبة والعمامة!
ومهما يكن فالواقع يفرض نفسه، والمرء ليس بزيه وليس بشكله بل بعلمه وعمله.
وعندما بدأ العام الدراسي ذهبت إلى المدرسة بالزمالك، وكان مشوارها طويلا شاقا، إذ كان علي أن أركب من شبرا إلى ميدان التحرير، بعد أن أمشي على قدمي من المنزل إلى شارع شبرا لأمتطي الأوتوبيس، ثم أركب مرة أخرى من التحرير إلى الزمالك، ثم أمشي إلى المدرسة. ثم عليّ أن أحضر الدروس وأن أصحح الكراريس، كل هذا من أجل اثني عشر جنيها.
إلا أن ميزة هذه المدارس عند أكثر المدرسين أنها فرصة للدروس الخصوصية، فطلابها من الأسر الثرية، وجلهم يحتاجون إلى الدروس لرفع مستواهم، ولا سيما إذا عرف المدرس بينهم بالتميز في تدريسه، وانتشر صيته بين التلاميذ.
وقد بدأ اسمي يظهر بين تلاميذ المدرسة وتلميذاتها، وهي مدرسة إعدادية، وهي مختلطة تجمع بين البنين والبنات، وطفق التلاميذ يطلبونني لأعطيهم دروسا خصوصية، ولكني لم أكن من النوع الذي يركض وراء هذه الدروس، لأنها تكسب النقود، وتأكل الأوقات، وأنا في حاجة إلى وقتي للاطلاع والقراءة، وهو أغلى عندي من بضعة جنيهات أضعها في جيبي؛ هذا مذهبي، وربما لا يعجب الكثيرين اليوم، ولكن الشاعر يقول:
تعشقتها شمطاء شاب وليدها وللناس فيما يعشقون مذاهب!
والحقيقة أني بعد مدة قليلة صعبت عليّ نفسي، فلم تكن هذه المدرسة تشبع مطامحي، وترضي آمالي، وكثيرًا ما كنت أسائل نفسي: أهذا مصيرك يا يوسف؟
ولهذا لم أقبل من الدروس إلا درسًا واحدًا، كلفني به المدير لبنت صاحب المدرسة الأستاذ يس سراج الدين، وكانت في المرحلة الإعدادية، وهي كبرى بناته، وكانت صغيرة، وعلى غاية من الأدب. ولم أملك أن أقول: لا.
العدوان الثلاثي على مصر
عبد الناصر يخطب بالأزهر عقب العدوان الثلاثي على مصر
إلا أن بقائي في مدرسة الزمالك هذه لم يطل أكثر من شهر فيما أذكر، ثم حدث "العدوان الثلاثي" الشهير على مصر، انتقاما لتأميم قناة السويس. فقد هاجمت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل منطقة القناة، وخصوصا مدينة بور سعيد، وأمطرتها بوابل من القنابل.
وتغير الحال في مصر كلها، وباتت في حالة حرب في مواجهة هذه الدول، وتوقفت الجامعات والمدارس كلها، وذهب عبد الناصر إلى الأزهر ليعلن في الناس: سنقاتل، سنقاتل، ولن نستسلم.
وتكونت لجان المقاومة الشعبية في كل مكان، وتجاوب الشعب كله مع عبد الناصر، ورأيت الإخوان المسلمين الذين أصابهم من عذاب عبد الناصر ما أصابهم ينضمون إلى جبهات المقاومة، فمصر بلدهم، وليست بلد عبد الناصر، والشاعر يقول:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام!
المهم أن مدارس الشرق الخاصة عطلت كما عطل غيرها من المدارس. ومعنى تعطيلها: أن لا راتب لنا نقبضه منها، كما يقبض مدرس الحكومة وإن عطلت الدراسة، ولذا بقيت أياما في القاهرة، ثم رأيت أن الأصلح لي أن أدعها إلى القرية، فالمعيشة في القاهرة تكلفني وتتعبني، وفي القرية لا أتكلف شيئا، فأنا آكل مما تأكل العائلة.
وما هي إلا أيام حتى جاءتني برقية من وزارة الأوقاف تطلب إلي أن أحضر بسرعة إلى القاهرة لأتسلم منبر الأزهر، لرفع الروح المعنوية في الشعب في هذه المرحلة الخطيرة في تاريخ مصر، وكان هذا بتوجيه من شيوخنا: البهي الخولي ومحمد الغزالي وسيد سابق، الذين أشاروا على الشيخ الباقوري أن يستدعيني للأزهر.
بيد أني لم أتجاوب مع هذه البرقية، وقلت في نفسي: إنهم يستنجدون بي الآن، حتى إذا انكشفت الغمة طرحونا وراءهم ظهريا!
ولما لم أرد عليهم كلفوا شيخنا الشيخ محمد الغزالي الذي اعتلى منبر الأزهر، وظل يخطب فيه عدة سنوات، وقد كان الشيخ الغزالي يخطب في جامع الزمالك الكبير، فخلا مكانه، فأرسلوا إلي في القرية أحد الإخوة ليبلغني بضرورة الاستجابة إلى طلب الأوقاف، وإلحاحهم في أن أحل محل الشيخ الغزالي في مسجد الزمالك، وكان الأخ الذي حمل إليّ الرسالة هو الأخ إسماعيل حمد، شقيق زميلي وصديقي أحمد حمد.
واستجبت إلى رغبة شيوخنا، وسافرت إلى القاهرة، وتسلمت مسجد الزمالك لأخطب فيه، بمكافأة قدرها اثنا عشر جنيها، وعرف الكثيرون ذلك فبدأ الناس يتوافدون على المسجد من أنحاء القاهرة وضواحيها، بل من خارج القاهرة أيضا، فقد كانت إذاعة القاهرة تذيع منه خطبة الجمعة كل عدة أسابيع، وكان الذي يضايقني من إذاعة الخطبة أنهم يطلبونها مكتوبة قبل أن تذاع، ويريدونني أن أقرأها عند إذاعتها، وأنا لم أتعود أن أقرأ الخطبة من ورقة، ولهذا كنت أحيانا أخرج على النص، وأرتجل كلمات من عندي، وقد لاحظوا ذلك يوما فلفتوا نظري إلى ذلك.
وظللت أكثر من سنة أخطب الجمعة بمسجد الزمالك، حتى بعد أن انتهت الحرب، ولاحظ رجال المباحث العامة أن المسجد أصبح يمثل مدرسة دعوية متميزة بخطبه، وبالحلقات التي أعقدها بعد كل خطبة أجيب فيها عن أسئلة الناس، وأمسى الناس يفدون إليه من كل صوب وحدب. وكثيرا ما رأيت مخبري المباحث يلاحقون الناس ويسألونهم عن أسمائهم ووظائفهم، حتى إنهم مرة لاحقوا أحد الذين صلوا معي، ثم جاء يسلم عليّ في حجرة الإمام، وقلت للمخبر: هذا سعد الدين بك خضير عضو مجلس الشعب عن دائرة صفط تراب! فأسقط في يد الرجل.
وأخيرا ضاق صدرهم، ونفد صبرهم، فأجبروا الأوقاف أن تمنعني من الخطابة، فقد انتهت مهمتي بعد أن أصرت أمريكا على دول العدوان الثلاثي أن تجلو عن مصر، وهذا ما كنت أتوقعه منهم.
والعجيب أن المصلين في المسجد أرسلوا برقيات إلى وزير الداخلية، يطلبون إليه أن يعيد إليهم الخطيب المحبوب الذي يفد الناس إليه بالآلاف من القاهرة وما حولها.. وقلت لهم: إن قولكم هذا يضر القضية ولا ينفعها، فما تقولونه هو الذي يخيفهم ويفزعهم.
بقي أن أقول: إن تعييني في مسجد الزمالك بمكافأة: اثني عشر جنيها، جعلني أستغني عن العودة إلى مدارس الشرق الخاصة، بعد انتهاء أزمة العدوان الثلاثي، وقد كان يمكنني أن أجمع بين الوظيفتين، ولكني وجدت المدرسة تأخذ مني وقتا وجهدا وطاقة أنا في حاجة إليها فيما هيأت نفسي له، وهو العمل العلمي والفكري المتعمق الذي يتطلب مني أن أفرّغ له عقلي ونفسي ووقتي ما استطعت. أما المال فيكفيني منه القليل، وقد قال أبو فراس الشاعر الفارس:
إن الغني هــو الغني بنفسه ولو أنه عاري المناكب حافي
ما كل ما فوق البسيطة كافيا وإذا قنعت فبعض شيء كافي
ومع تركي لمدارس الشرق الخاصة، وقبولهم استقالتي، فقد طلبوا مني أن أستمر في درسي الخاص مع ابنة يس سراج الدين، وقد بقيت معها لأكثر من عدة أشهر، ثم رشحتني الأوقاف للذهاب إلى مدينة العريش في بعثة وعظية بمناسبة شهر رمضان، ولم أكن قد قبضت من دروسي الخصوصية كثيرا ولا قليلا، وأنا أستحي أن أطلب، وهم لعلهم غافلون. ثم ضغطت على نفسي، وغالبت طبيعة الحياء عندي، وكتبت كلمات للأستاذ سراج الدين قلت فيها:
لولا ما تعرف من غلاء المعيشة، وضغط تكاليف الحياة، لمنعني الحياء أن أذكرك بقول الشاعر:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة سكوتي بيان عندها وخطاب!
مع خالص تحياتي.
وأعطيت الورقة لتلميذتي لتسلمها إلى أبيها. وعندما حضرت الدرس التالي وجدت الرجل قد ترك لي عشرة جنيهات، مع ورقة تتضمن شكرا واعتذارا عن التأخير.
الباقوري يعين الإخوان العشرة رغم أنف المباحث
الباقوري
ومن المهم أنه في هذه الفترة عقدت مسابقة لتعيين وعاظ بالأزهر، وأئمة وخطباء بالأوقاف، وقدمت فيها أنا وعدد من الإخوان، ونحن نعلم أننا ممنوعون من الوظائف المتصلة بالجماهير، ومنها الخطابة والوعظ، ولكن قلنا: لن نخسر شيئا إذا قدمنا، فربما نجحنا وقبلنا.
ودخلنا الامتحان دخول من لا يعتقد أن وراءه جدوى، وسرعان ما ظهرت النتيجة، وقد نجح فيه عشرة من الإخوان: أنا والعسال وسليمان عطا، وعبد الرؤوف عامر، وعبد التواب هيكل، ومصباح عبده، وعبد الحميد شاهين… إلخ.
وكان ترتيبي هو الثاني في هذه المسابقة، فقد كان الأول هو زميلنا الأخ العالم الفاضل الشيخ إبراهيم الدسوقي جلهوم خطيب مسجد السيدة زينب فيما بعد.
وبعد نجاحنا كان للشيخ الباقوري وزير الأوقاف موقف رجولة وإنسانية لا ننساه، وهو أنه عارض رجال الأمن، وقال: أنا سأعينهم على مسؤوليتي، في أعمال غير الخطابة والتدريس.
وفعلا كانت وظيفتنا الرسمية: الإمامة والخطابة، ووظيفتنا الفعلية التي انتدبنا لها نحن العشرة العمل بقسم النظار والأوقاف، ومقره سطوح وزارة الأوقاف.
وقد حضرت أنا وأخي العسال يومًا واحدًا في هذا القسم، ثم انتدبنا للعمل في مراقبة الشؤون الدينية، وكلفني المراقب العام للشؤون الدينية الأستاذ البهي الخولي بالإشراف على "معهد الأئمة" وكلف العسال بالإشراف على مكتبة إدارة الثقافة بمسجد عمر مكرم.
ومعهد الأئمة ليس له مبنى، ولكنه (فكرة) تقوم على أساس النهوض بمستوى الأئمة، والرقي بثقافتهم، على أساس تنظيم محاضرات لهم في موضوعات إسلامية وفكرية متنوعة من علماء ومفكرين كبار، توسع من آفاقهم، وتنير من بصائرهم، في فقه حقيقة الدين، وحقيقة الواقع.
وكان من هؤلاء الأعلام: الشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ الدكتور محمد عبد الله دراز، والدكتور محمد البهي، والشيخ محمد المدني، والدكتور علي عبد الواحد وافي الذي كان يقرأ للأئمة فصولا من مقدمة ابن خلدون، ويعلق عليها، بالإضافة إلى محاضرات الأستاذ البهي الخولي والشيخ الغزالي والشيخ سيد سابق.
الشيخ الباقوري:
وبمناسبة موقف الشيخ الباقوري منا نحن الإخوان العشرة، أو العشرة الطيبة كما سماها بعضهم، أود أن أقول كلمة هنا عن الشيخ رحمه الله.
كان الشيخ الباقوري طوال حياته من طلاب الأزهر النابهين، وكان خطيبا مفوها، وشاعرا مجيدا، وقد اختاره طلاب الأزهر قائدا لثورتهم سنة 1940، حين ثاروا على مشيختهم المفروضة عليهم من قبل الملك الذي أقال شيخهم الأكبر القريب منهم والمحبب إليهم: الشيخ محمد مصطفى المراغي.
ثار الأزهر على الظلم الواقع عليه، فقد كان العالم من خريجي الأزهر في أي من كلياته يعين براتب قدره ثلاثة جنيهات في معاهد الأزهر، وكان معلم المدرسة الإلزامية خريج مدرسة المعلمين الابتدائية يعيّن بأربع جنيهات، ولم يجد الأزهريون شيخا يتبنى مطالبهم غير الشيخ المراغي، وهو من الشيوخ الذين جمعوا بين الأصالة والمعاصرة، فثاروا مطالبين بتحسين أوضاعهم، وإعادة شيخهم المراغي لقيادة سفينة الأزهر.
ومما ينسب إلى الباقوري من الشعر في هذه الثورة قوله:
ثورة الأزهر أرخصنا الدماء فكلي الأرض وثنّي بالسماء!
وانتصرت ثورة الأزهر التي لمع فيها اسم الباقوري زعيم الثورة، حتى أطلقت إحدى الباحثات لقب "ثائر تحت العمامة" على الشيخ الباقوري، في دراسة لها عن الباقوري ومواقفه وحياته، فلم تجد عنوانا يعبر عن مواقفه إلا هذا العنوان.
وأصهر الباقوري إلى أحد كبار علماء الأزهر، وهو الشيخ محمد عبد اللطيف دراز الذي تزوج ابنته، وأنجب منها ثلاث بنات.
كان الشيخ الباقوري إلى الأدباء أقرب منه إلى العلماء؛ لذا عرف بالخطابة والشعر أكثر مما عرف بالفقه والبحث العلمي.
وكان له شعر جميل كنا نحفظه، أناشيد تثير فينا مشاعر الحب والحماس للإسلام، ومنها النشيد المعروف:
يا رسول الله هل يرضيك أنا إخوة في الله للإسلام قمنا
ننفض اليوم غبار النوم عنا لا نهاب الموت لا بل نتمنى
أن يرانا الله في ساح الفداء
وهو النشيد الذي اعترض عليه بعض الإخوة السلفيين بأنه يخالف العقيدة الصحيحة؛ لأنه يوحي بأن العمل يكون لإرضاء رسول الله، لا لإرضاء الله.
ورأيي أن الشيخ لا يقصد ما ذهب إليه هؤلاء، وإنما يريد أن يقول: هل يسرك يا رسول الله ويفرحك ويقر عينك: أخوتنا في الله، وقيامنا لنصرة دينك، والدفاع عن دعوتك... إلخ.
ولا أعلم أن شعر الباقوري جُمع إلى اليوم، وقد سمعته مرة وقد سئل عن شعره، فقال في تواضع: إنه من شعر العلماء، وشعر العلماء كعلم الشعراء.
وأحسب أن هذا من جميل أدبه وتواضعه، فكثيرا ما يكون للشعراء علم راسخ، كما يكون للعلماء شعر رائع.
ومن هذا شعر الإمام الشافعي الذي لا يشك دارس في قيمته الأدبية، وعلو مستواه الفني. ومن ذلك قوله:
أمطري لؤلؤا جبال سرنديب، وفيضي آبار تبريز تبرا
أنا إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك، ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري فلماذا أخاف زيدا وعمرا؟
على أننا إذا غلبنا الجانب الأدبي في حياة الباقوري العلمية، فمن الإنصاف أن يذكر أن له بعض مؤلفات جيدة، تحمل روح الداعية، وأسلوب الأديب، منها: كتابه "قطوف من أدب النبوة" الذي شرح فيه عددا من الأحاديث شرحا ميسرا سلسا، في متناول القراء العاديين، والكتاب يقع في جزأين صغيرين. وله كذلك كتابه: "من أدب القرآن: تفسير سورة تبارك".
أما ما يدل على عقلية الباقوري البحثية، فهو كتابه الصغير الحجم، الكثير النفع، "أثر القرآن الكريم في اللغة العربية"، وهو كتاب شهد بغزارة علم مؤلفه وجزالة أسلوبه وقوة حجته: الأديب المعروف الدكتور طه حسين، حتى كتب مقدمة للكتاب، أثنى فيها على الباقوري وعلمه.
وكان الشيخ الباقوري قد انضم إلى دعوة الإخوان المسلمين من قديم، وبايع الإمام حسن البنا على العمل لنصرة الإسلام، واستعادة مجده، وتحرير أوطانه، والتمكين له عقيدة ونظاما في حياة المسلمين، وكان عضوا في الهيئة التأسيسية، ثم بعد ذلك في مكتب الإرشاد العام.
وقد ذكرت في الجزء الماضي أننا ـ نحن طلاب معهد طنطا ـ حين زرنا المركز العام في إحدى المرات، وطلبنا إلى الإمام البنا أن يلقانا لقاء خاصا، اعتذر البنا لارتباط عنده، ورشح لنا الشيخ الباقوري ليلتقينا.
وحين أصدر الأستاذ البنا "مجلة الشهاب" حياها بقصيدة جميلة من قصائده، كما حيا من قبل مجلة "جريدة الإخوان المسلمين" ـ وهي أولى مجلات الإخوان ـ بقصيدة رائعة، عنوانها: "تحيتي".[1]
وعندما حل النقراشي جماعة الإخوان في ديسمبر 1948م، بلغني أن الأستاذ البنا أوصى بأن يكون الباقوري مسؤولاً عن الإخوان خارج المعتقل.
وبعد استشهاد الإمام البنا كان اسم الباقوري أحد الأسماء المرشحة لقيادة الجماعة.
وفي الانتخابات التي جرت بعد سقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي وحزب السعديين: رشح الشيخ الباقوري نفسه في دائرة الخليفة بالقلعة، كما رشح عدد من الإخوان أنفسهم، وقد شهدته وهو يدور على أماكن التجمعات في الدائرة ويخطب فيها، وإن لم يحالفه النجاح في النهاية، شأنه شأن كل مرشحي الإخوان: مصطفى مؤمن، وفهمي أبو غدير، وطاهر الخشاب، والشيخ عبد المعز عبد الستار وغيرهم.
وأذكر أني لقيته في تلك الفترة ـ بعد خروج الإخوان من المعتقلات ـ في محطة القطار بمدينة طنطا، فهرعت إليه، وسلمت عليه، وعرفته بنفسي، وسألته عن حال الإخوان، فتنفس الصعداء، وشكا إلى الله من سوء الحال وقال: خير للجماعة أن تكتفي بما أنجزت، وأن تقف عند هذا الحد، وتبقي على هذا التاريخ الناصع، بدل أن تكدر صفاءه بما لا يلائم تراث الجماعة ومواقفها الشامخة في قضايا الوطن والإسلام.
وحين اختارت الجماعة الأستاذ الهضيبي مرشدًا عامًا، كان الباقوري أول من بايعه، وكان الهضيبي يصطحب الباقوري كثيرا في رحلاته إلى محافظات مصر، ويقدمه للحديث إلى الجماهير، وقد صحبته في رحلتين كان الباقوري رفيقه في كلتيهما: إحداهما إلى مدينة السويس، والأخرى إلى كفر الشيخ.
وكان الباقوري عضوًا في مكتب الإرشاد مع الأستاذ الهضيبي، حتى قامت ثورة 23 يوليو. وحين طلب جمال عبد الناصر ورجال الثورة من الإخوان أن يرشحوا أشخاصا للوزارة رشح الأستاذ الهضيبي لهم ثلاثة لم يكن الباقوري بينهم. واختار رجال الثورة الباقوري ليتولى وزارة الأوقاف معهم، وأبدى الباقوري للهضيبي أنه راغب في الاستجابة لهم، وأن لديه أفكارًا وتطلعات في إصلاح المساجد والأوقاف، ولم يمانع الأستاذ الهضيبي في ذلك، ولكنه طلب إليه أن يدخل في الوزارة باسمه لا باسم الجماعة. وهذا يتطلب منه أن يقدم استقالته من الجماعة، وقد قبل.
ومن مكارم الأستاذ الهضيبي أنه ذهب للباقوري في مكتبه يهنئه بمنصبه. وهذا يعني أنه لم يعتبر دخوله قطعًا لصلة المودة له. وقال له الباقوري: عفوًا يا مولانا. إنها شهوة نفس. فقال له الهضيبي: اشبع بها!
ومما يذكر للباقوري ما نشرته جريدة "المصري" في 11-9-1952، فقد سأل مندوبها الشيخ عن أسباب استقالته من الإخوان فكان جوابه: هي أسباب أحب أن أوثر نفسي بها. وليس من بينها سبب واحد يمس احترامي لإخواني، واعتزازي بهم، فكل واحد منهم ـ صغيرا كان أو كبيرا ـ في أعمق مكان في قلبي.
انسجم الباقوري مع الثورة، وانسجمت معه الثورة، وكان خطيبها ولسانها المتحدث باسم الدين، وهو رجل حسن المظهر، حصيف الرأي، حلو اللسان، يحسن استقبال الناس، ويحسن الحديث إليهم، ويعرف متى يمسك لسانه، ومتى يطلقه، وفيم يطلقه.
ومن حسناته: أنه ضم إليه مجموعة من الدعاة المعروفين، ووكل إليهم شؤون الدعوة والمساجد، والثقافة الدينية، وعلى رأس هؤلاء: أستاذنا البهي الخولي الذي ولاه منصب مراقبة الشؤون الدينية، وشيخنا الشيخ محمد الغزالي الذي تولى منصب مدير المساجد، وشيخنا الشيخ سيد سابق، الذي تولى منصب مدير الثقافة.
كما شهد الكثيرون من الإخوان أن الباقوري ما ذهب إليه من أعضاء الجماعة أحد يطلب منه عونًا أو خدمة في قضية، إلا لبّى طلبه وقضى حاجته، ما دام يقدر عليها.
وظل عبد الناصر راضيا عن الباقوري سنين طويلة، حتى بلغه عنه شيء كرهه منه، قيل: إنه حديث جرى عنده من الأديب والمحقق الكبير الأستاذ محمود محمد شاكر، وهو رجل معروف بأنه لا يبالي من أصاب بلسانه، لا يخاف لومة لائم، ولا نقمة ظالم، فيبدو أنه ـ على سجيته ـ صب جام غضبه على عبد الناصر، ولم يدافع الباقوري عن رئيسه وقائده كما ينبغي، ولم يعلم أن ذلك سيبلغ عبد الناصر، الذي له عيون وآذان في كل مكان، حتى عند وزرائه أنفسهم، وقد قيل: إن هذا الحديث سجل، وسمعه عبد الناصر. وقيل: إن الباقوري كان مشغولاً حين تكلم شاكر مع صديق له في بيت الباقوري، وأن الباقوري لم يسمع كلام شاكر.
وغضب جمال على وزيره، ولم يشفع له ماضيه معه، وخرج الباقوري من الوزارة سنة 1959م، وجلس في بيته معتكفا أو كالمعتكف، خمس سنوات أو يزيد، واتخذ من بيته صومعة يخلو فيها إلى التعبد وتلاوة القرآن، ومدارسة كتب العلم، ولا يكاد يقابل أحدا، ثم بدأ يلقى في بيته بعض الخاصة من الناس، من أهل العلم والفكر، يذهبون ويجلسون عنده، يتراجعون في بعض مسائل العلم، وقضايا الأدب والفكر، وقد يحتد النقاش بينهم، فيرجعون إلى مصدر من المصادر في مكتبة الشيخ.
وقد زرته في هذه الفترة أنا وأخي أحمد العسال، فكان عنده العالم الأزهري البحاثة المعروف: الشيخ عبد الجليل عيسى، مؤلف كتاب "صفوة صحيح البخاري" الذي كان مقررا علينا في المرحلة الثانوية، وكتاب "اجتهاد رسول الإسلام" وكتاب "ما لا يجوز الخلاف فيه بين المسلمين" و"تيسير التفسير" وغيرها، وكان من جلسائه الدائمين.
كما وجدنا عنده الأستاذ خالد محمد خالد الكاتب الشهير، الذي لم أكن أعرف وجهه، ولم أعلم أنه خالد إلا بعد انصرافه.
وبعد ذلك رضي عنه عبد الناصر، فأسند إليه في سنة 1964 منصب أول مدير لجامعة الأزهر بعد التطوير، واستمر فيه حتى وفاته رحمه الله 1985.
كما كان مديرًا لمعهد الدراسات الإسلامية بالزمالك الذي أسسه رحمه الله، حتى غدا يعرف "بمعهد الباقوري" الذي كان يعطي درجة الماجستير في العلوم الإسلامية. وقد ناقشت فيه رسالة ماجستير في الاقتصاد الإسلامي قدمها الطالب النابه محمد عبد الحكيم زعير ـ المراقب الشرعي الآن لبنك دبي الإسلامي ـ وكنت مع أ.د عيسى عبده إبراهيم رئيس لجنة المناقشة، والزميل الكريم أ.د حسين حامد حسان.
لم تكن صلتي قوية بالشيخ الباقوري، كما كانت بالمشايخ: الخولي والغزالي وسابق. ولذلك لا أعرف الكثير عن سيرته وحياته، ولا عن إنتاجه العلمي والأدبي، والمعروف أنه كان قليل العطاء في هذه الناحية، وخصوصا بعد توليه الوزارة. وكل ما قرأته له كتاب أخرجه تحت عنوان "عروبة ودين" هو مجموعة مقالات وبحوث جيدة ومتنوعة في موضوعاتها. وأظن له أشياء أخرى لا أعرفها، ولكنها ليست كثيرة. ولكنه كان رجلا يحترم نفسه، ويعرف عصره.
غفر الله للباقوري ورحمه، وجزاه خيرا عما قدم لأمته، وما قدم إلينا حين تحمل تبعة تعييننا بوزارة الأوقاف.
كتاباتي بمجلة "منبر الإسلام":
كان من فضل أستاذنا البهي الخولي عليّ أن طلب مني أن أكتب مقالات لمجلة وزارة الأوقاف، والتي تصدر عن مراقبة الشؤون الدينية بالوزارة، باسم "منبر الإسلام".
وقد بدأت أول مقالة للمجلة تحت عنوان "أمنيّة عُمَريّة".
ثم حثني الأستاذ البهي أن أكتب فتاوى للمجلة بلغة العصر، فإن الذين يكتبون الفتاوى في المجلة يكتبونها بلغة قديمة، كثيرا ما تحمل التشديد، ولا تلائم روح العصر. فشرعت أكتب تحت عنوان "يستفتونك؟" وهي البواكير التي تشير إلى اتجاهي الذي تبنيته وعُرفت به بعد ذلك، وهو "التيسير في الفتوى" و"التبشير في الدعوة". وكان الشيخان: البهي والغزالي يعجبان بها، ويشجعانني عليها.
ولم أشأ أن أوقع باسمي الصريح، حتى لا أثير ثائرة رجال المباحث العامة الذين يقفون لنا بالمرصاد، ويريدون أن يغلقوا في وجوهنا كل الأبواب، فوقعت المقال باسم "يوسف عبد الله" دون أن أذكر القرضاوي.
وكانت مكافأة المقالة في ذلك الوقت "خمسة جنيهات" وهي مبلغ جيد لمثلي. ومن الطريف أن أحد موظفي إدارة الشؤون الدينية في الوزارة كان اسمه يوسف عبد الله، فلما رأى مقالتي موقعة بهذا الاسم: ظن أن الشيخ الغزالي قد كتب هذه المقالة باسمه، ليصرف مكافأتها له. وقد فعل ذلك مع بعض المتحاجين، فذهب أخونا يوسف أفندي عبد الله، ليتسلم المكافأة المخصصة لصاحب المقال، وكاد يقبض المبلغ، لولا أن بعض موظفي المجلة كان يعرف القصة، فأنقذ الجنيهات الخمسة وصرفتها، وكانت أول مكافأة أتسلمها على شيء أكتبه. والحمد لله حمدا كثيرا.
يا أصحاب الفضيلة اقرءوا:
ومما أذكره في هذه الفترة: أني كتبت مقالة لمجلة "منبر الإسلام" بعنوان: "يا أصحاب الفضيلة، اقرءوا!" وقد عرضتها على الأستاذ البهي قبل نشرها، فأعجب بها الأستاذ، ولكنه قال: إنها ساخنة، وستغضب علينا المشايخ! قلت: ولكنها كلمة حق! قال: لا أشك في ذلك، ولكن ليس كل حق يقال في كل وقت.
وكنت قد لاحظت أن المشايخ ـ إلا القليل جدا ـ لا يقرءون، كأنهم بالحصول على الشهادة العالمية قد سقط عنهم التكليف. وقد حفظنا عن سلفنا: اطلب العلم من المهد إلى اللحد، حتى ظنه الناس حديثا، وما هو بحديث.
وكان بعضهم يقول لأحد تلاميذه ـ وهو على فراش الموت: اقرأ عليّ كذا من كتاب كذا، حتى يجيئه الموت وهو يطلب العلم.
وقد قيل لبعضهم: إلى متى تطلب العلم؟ قال: إلى الممات.
ومما أثر عن الإمام أحمد قوله: مع المحبرة إلى المقبرة.
وقيل لأحدهم: أيحسن بالشيخ أن يتعلم؟ قال: إذا كان الجهل يقبح منه، فإن التعلم يحسن به.
وسئل بعضهم نفس السؤال عن تعلم الشيخ؛ فقال: إن التعلم منه أوجب؛ لأن الخطأ منه أقبح.
ومن العجب أن أمة كان أول نص نزل في كتابها: "اقرأ": لا تقرأ!
حتى إن موشى دايان الصهيوني قال لقومه يومًا، وقد لاموه على نشر شيء معين: اطمئنوا فإن العرب لا يقرءون!
هذا مع أن أولى الناس بالقراءة وتعميق الثقافة هم المشايخ الذين يتصدون لتوجيه الناس، وخصوصا الدعاة وخطباء المساجد الذين يواجهون الناس كل يوم جمعة، فعليهم أن يكون لديهم في كل أسبوع شيء جديد يقولونه للناس. ولم تعد تنفع الناس دواوين الخطب القديمة، والكلام المسجوع المملول. وقد انتشر التعليم، وارتفع مستوى الذين يشهدون الجمعة، ويسمعون الخطبة.
وقد عنيت بهذا الأمر بعد ذلك، وفصلته وعمقته في كتابي "ثقافة الداعية" الذي أعددته لأشارك به في "المؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة" الذي عقد في المدينة المنورة في أواسط السبعينيات من القرن العشرين.
على كل حال، استجبت لرغبة أستاذنا البهي، ولم أقدم المقالة للمجلة، ولعلي لو قدمتها، لوقفت عند رئيس التحرير.
ولا أدري أين ذهبت هذه المقالة، فأنا لم أجدها في أوراقي حتى اليوم.
بعثة رمضانية إلى العريش
وكان لوزارة الأوقاف بعثات في شهر رمضان من كل سنة تبعث فيها عددًا من المتميزين من أئمتها وخطبائها ومفتشيها إلى بعض البلاد العربية والإسلامية، وبعض الجاليات الأوربية والأمريكية، وتعطيهم مكافآت لا بأس بها، تنعشهم وتقضي بعض حاجاتهم.
ونظرا لظروفي الأمنية، لم يكن من الممكن أن يكون لنا حظ في هذه البعثات الخارجية أنا والعسال. ولكن كانت هناك بعثات داخلية داخل مصر إلى الصحراء الشرقية (سيناء) والصحراء الغربية (السلوم وما حولها). ورشحتني الوزارة للذهاب إلى سيناء وعاصمتها العريش، ورشحت العسال إلى الصحراء الشرقية.
وكانت بعثتي إلى العريش في رمضان تجربة فريدة، فهي أول مرة أتعرف فيها على جزيرة سيناء، هذا الجزء العزيز من أرض مصر الذي فصله الإنجليز عن الوادي، حتى كأنه ليس من مصر. وعندما أردنا الذهاب إلى هناك كان علينا أن نحصل على تصريح خاص بدخول سيناء، فليس من حق أي مصري أن يذهب إلى هذه المنطقة.
وقد ذهبنا في صيف سنة 1957م، وكانت آثار العدوان الثلاثي لا تزال ظاهرة للعيان، نشاهد بقاياها ومخلفاتها في كل مكان.
ولقد تعرفت على أهل العريش، وهم عرب أصلاء، يتميزون بالكرم ودماثة الأخلاق، وخصوصا آل الرفاعي، وآل الشريف وغيرهما. وقد أكرموا وفادتنا، وكنا مجموعة من المشايخ المختارين، بعضنا من وعاظ الأزهر مثل الشيخ النشار، وبعضنا من خطباء الأوقاف مثل الشيخ عبد المطلب صلاح خطيب مسجد الحسين، والشيخ إبراهيم الدسوقي المفتش بالمساجد، والذي أصبح بعد ذلك وزيرا للأوقاف في عهد السادات. وقد كنت أصلي بالإخوة التراويح، وألقي الدروس في المساجد وفي المجالس، كما نخطب الجمعة في مساجدهم: المسجد العباسي، ومسجد السنة، ومسجد المالح، وغيرها مما نسيت اسمه لطول المدة.
ومما أذكره أني ذهبت إلى رفح، وقالوا لي: هذه رفح المصرية، وهذه رفح الفلسطينية، ونجد العائلة الواحدة بعضها في مصر وبعضها في فلسطين، والفاصل بينهما (مزلقان) من الخشب، وقد وقفت عند هذا المزلقان، ووضعت رجلي اليمنى في مصر، ورجلي اليسرى في فلسطين، وقلت لهم: أنا الآن نصفي في مصر، ونصفي في فلسطين!
وقد زرت غزة لأول مرة أيضا، وألقيت فيها درسا، وأفطرنا عند الأخ الفاضل العالم الشيخ هاشم الخازندار، واشترينا من أسواقها بعض الأشياء، التي لا توجد في الأسواق المصرية، ثم عدنا إلى العريش، وكان هذا الرمضان من أخصب الرمضانات، وأكثرها بركة، وقد ترك في نفسي وفي أنفس أهالي العريش أثرًا حسنا، وذكرى طيبة، وصلات عميقة بيني وبينهم.
وقد تكررت هذه الزيارة أو هذه البعثة في السنة التالية، فزادت الروابط عمقًا، وامتد التواصل بيني وبين العرايشة الكرام. وما كان لله دام واتصل.
الوحدة بين مصر وسوريا.. سياسة نشر القهر
عبد الناصر والقوتلي ولحظة إعلان الوحدة
في هذه الفترة عندما كنت أخطب في جامع الزمالك، حدثت تجربة من أهم التجارب السياسية، وأعظمها خطرا في العالم العربي الحديث، وإن أخفقت ـ مع الأسف ـ في النهاية، هي: تجربة الوحدة الاندماجية السورية المصرية، وإقامة (الجمهورية العربية المتحدة) بإقليميها: الشمالي في سوريا، والجنوبي في مصر، وإقامة دستور موحد، ومجلس نواب موحد، ومجلس وزراء موحد.
فبعد أن صعِد نجم عبد الناصر في البلاد العربية بعد تأميم قناة السويس، وبعد تحديه للغرب المدل بقوته وسلاحه، وبعد تحرره من أسر احتكار السلاح الغربي، وبعد عزمه على إقامة السد العالي متحديا سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن مهد صوت العرب ـ بقيادة المذيع اللامع أحمد سعيد ـ الطريق إلى قلوب العرب في كل مكان: كانت سوريا ـ بكل فئاتها وتوجهاتها العربية والإسلامية ـ أسرع العرب تجاوبا مع عبد الناصر، وجاءوا إليه مختارين، ليسلموا إليه زمام وطنهم، لتقوم وحدة اندماجية كاملة بين البلدين، ويقنع رئيس الجمهورية السورية "شكري القوتلي" أن يكون (المواطن العربي الأول) في (الجمهورية العربية المتحدة) الجديدة التي أعلن عنها عبد الناصر في خطاب تاريخي حرك مشاعر الأمة من المحيط إلى الخليج، ووصف عبد الناصر هذه الجمهورية الوليدة بأنها قامت: توحد ولا تفرق، تقوي ولا تضعف، تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق، ترد كيد العدو.. ورضي كل من البلدين أن يتنازل عن اسمه الخاص، في سبيل الوحدة. فتكون سوريا: الإقليم الشمالي، وتكون مصر: الإقليم الجنوبي. وتعالت الهتافات: من الخليج الثائر، إلى المحيط الهادر: لبيك عبد الناصر!
وصفق العرب لها في كل مكان، وأشهد أن الإخوان برغم جراحهم التي لا تزال تدمى من عبد الناصر، وأن عددًا غير قليل منهم ما زال يقضي أحكاما بالسجن والأشغال الشاقة في سجون الواحات وغيرها: رحبوا بهذه الوحدة وأيدوها وآزروها، حتى إن إخوان سوريا حلوا أنفسهم اختياريا ليندمجوا في ركب الوحدة.
وأذكر أني خطبت في مسجد الزمالك خطبة تاريخية في تأييد الوحدة، وبيان أهميتها لقوة الأمة ونمائها ورقيها، وتمكينها من الانتصار على عدوها، وقدرتها على مواجهة التحديات الصعبة والخطيرة، ولذا دعا الدين إلى الوحدة، وحذر من التفرق والعداوة والتشرذم، وأن يكون بأس الأمة بينها، ويذوق بعضها بأس بعض، وما في هذا من خطر عليها على كل صعيد. كما بينت أن أول الوهن الذي أصاب الدولة الإسلامية الكبرى هو حركات الانفصال والتشرذم التي مزقت الأمة شر ممزق.
وكان ممن حضر هذه الخطبة الكاتب الإسلامي الإخواني الأستاذ أحمد أنس الحجاجي، وكان معه ضابط كبير من ضباط الثورة، لا أذكر اسمه، أعجب بالخطبة، وقال له: كان يجب أن نسجل هذه الخطبة، ونكرر إذاعتها على الناس. فقال له الأستاذ أنس: إنكم لن تجدوا أحدا مثل الإخوان يؤيدون هذه الخطوات الإيجابية بمنطقهم الإيماني، وفهمهم الإسلامي، وبوعيهم بالدين والواقع والتاريخ.
وانطلقت الأناشيد والأغاني القومية تعبئ المشاعر، وتوحد الأفكار، وتجمع الإرادات على هدف واحد؛ مثل أغنية "وحدة ما يغلبها غلاّب" وأغنية: "من الموسكي لسوق الحميدية، أنا عارفه السكة لوحديَّة"... إلخ.
ولكن مما يؤسف له: أن النظام المصري ارتكب خطأ فادحا، حين لم يدرك طبيعة الشعب السوري الذي كان يعيش أجواء الحرية، فأراد أن يفرض عليه النظام الاستبدادي الذي كان يخنق به أنفاس الشعب المصري، وأن يجعل من "المكتب الثاني" الذي يمثل جهاز المباحث العامة والمخابرات هو الحاكم الفعلي في الإقليم السوري، وأن يصبح الضابط المعروف عبد الحميد السراج هو مخلب مصر في سوريا، ووكل أمر الإقليم الشمالي إلى المشير عبد الحكيم عامر، فلم يحسن التعامل معه كما ينبغي.
ولهذا سرعان ما ضاق الشعب السوري الأبي ذرعا بعبد الناصر وزبانيته، ورجال أمنه، وأجهزة مخابراته، فثاروا على الوحدة وضحّوا بها من أجل الحرية. ووصف شكري القوتلي نفسه الذي سلم الحكم لنظام عبد الناصر: أن هذا النظام له ألف عين، ولكنه لا يرى بواحدة منها.. وحمله فشل تجربة الوحدة التي استحالت إلى سراب، كما قال.
ووقف رجال العلم والدين من أمثال الشيخ على الطنطاوي بما له من قبول لدى الشعب يعلن تأييده لحركة الانفصال.
وضاعت ثمرة هذه التجربة الفريدة، نتيجة حكم الجبروت والاستبداد الغاشم، وصدق الله إذ يقول: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (إبراهيم:15).
ومن قبل ضيعوا الوحدة بين شطري وادي النيل: مصر والسودان، برغم قوة عوامل التوحيد بينهما، مع أن الشهيد حسن البنا كان يسمي مصر: السودان الشمالي، ويسمي السودان: مصر الجنوبية!
زيارة الشيخ ابن تركي لمصر:
وفي أثناء هذه الفترة التي كنت أخطب فيها بمسجد الزمالك: زار مصر فضيلة الشيخ عبد الله بن تركي السبيعي مفتش العلوم الشرعية بوزارة المعارف، والمسؤول عن التعاقد مع علماء الأزهر وغيرهم لتدريس العلوم الشرعية في مدارس قطر.
وكان يصحبه من أبناء الأزهر أخونا الشيخ يوسف عبد المقصود الذي ذهب إلى قطر من قديم، وعمل في مدارسها، قبل أن يحصل على الشهادة العالمية. وقد اصطحب أخونا يوسف الشيخ ابن تركي ليصلي الجمعة في مسجد الزمالك، واستمع إلى خطبتي، وشاء الله أن يعجب بها، ثم صافحني بعد الصلاة، وعرفني به الأخ يوسف. وطلب مني أن أزوره في الفندق الذي يقيم فيه "جراند أوتيل" في وسط القاهرة. وقد زرت الشيخ، وتبادلنا الحديث في علوم الشرع، وعلم الإمامين ابن تيمية وابن القيم، وغير ذلك، مما شد الشيخ إليّ، وزاده ثقة بي، واطمئنانا إليّ، وودعته وشكرت له وحييته.
ولما رجع الشيخ إلى قطر، أرسل كتابا إلى الشيخ الباقوري وزير الأوقاف يطلب منه إعارتي إلى قطر، ولم يعرف ابن تركي أن وزير الأوقاف لا يملك أن يعيرني إلى قطر، لأني لست موظفا عاديا كسائر الناس، بل أنا معين على مسؤولية الباقوري استثناء. وحتى لو كنت موظفا عاديا، فلا بد أن تمر عليّ ثلاث سنوات حتى أعار إلى خارج مصر، فاعتذر وزير الأوقاف إليه. ولكن اسمي ظل محفورا في ذاكرة الشيخ حتى آن الأوان بعد ذلك لإعارتي إلى قطر.
[1] انظر: مجلة (جريدة الإخوان المسلمين) العدد (2) من السنة الأولى الصادر في يوم الخميس الموافق 28 من صفر سنة 1352هـ.
وفي آخر القصيدة بيتان اشتهرا بين الإخوان، وطوروهما إلى ثلاثة، وربما كان الشيخ هو الذي فعل ذلك:
روح النبي أطلي وانظري فيه نفدي تراثك بالدنيا وما فيها
قد بايعت ربها تبقى مجاهدة حتى ترى النصر خفاقا بواديها
أو أن تموت دفاعا عن رسالتها فالموت في الله من أسمى أمانيها

ليست هناك تعليقات: