الأحد، 20 أبريل 2008

الأمن الغذائي العربي (5)

امتلاك التكنولوجيا الزراعية وتوفير المناخ المناسب للتمويل والاستثمار
مرتكزات الاستراتيجية التنموية للأمن الغذائي العربي
تعرض هذه الدراسة للشروط الموضوعية لإستراتيجية اقتصادية لتحقيق الأمن الغذائي العربي، وذلك بالتطرق لامتلاك التكنولوجيا الزراعية وتوفير المناخ المناسب والمشجع للتمويل والاستثمار وتقديم مقترحات من أجل برنامج عاجل للتنمية الزراعية المستديمة.
مقدمة:
يعيش العالم العربي حالة عجز غذائي تزداد حدة يوما بعد يوم، فحجم الإنتاج من المواد الغذائية لا يكفي لتغطية استهلاكها، وهو ما يستدعي اللجوء إلى الاستيراد لتغطية العجز، وهذا بدوره يشكل خطر كبيرا على اقتصاديات هذه البلدان حيث يعمل على إضعاف أرصدتها من العملة الصعبة ويعزز مديونيتها ومن ثَم تبعيتها الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية.
إن الاعتماد على الاستيراد من أجل تلبية بعض الحاجيات الأساسية للمستهلكين من شأنه أن ينمي لدى المواطن العربي نمطا استهلاكيا غربيا يجعله أكثر ولاء وثقة في السلع الأجنبية منه في السلع الوطنية، وهو ما قد يمتد ليصل درجة التبني والدفاع عن الثقافة الغربية.
إن العجز الغذائي ليس فقط نتيجة لضعف الاقتصاديات العربية، وإنما قد يكون أيضا سببا رئيسيا للإبقاء على هذه الاقتصاديات أكثر ضعفا، فالموارد الموجهة لاستيراد المواد الغذائية لتغطية العجز تكون غالبا على حسب تلك المخصصة لاقتناء المواد التجهيزية الضرورية لمواصلة النمو. و يتجلى هذا الخلل أساسا على مستوى أسعار المواد الغذائية، فارتفاع هذه الأسعار في اقتصاد يوجه فيه القسط الأوفر من ميزانية الأسرة للاستهلاك من المواد الغذائية -كما هو شأن جميع الدول العربية- له انعكاس سلبي على التصنيع والإنتاج وعلى قدرة الاقتصاد على المنافسة والنمو.
إن مشكلة العجز الغذائي في الوطن العربي لها ارتباط كبير بحالة التجزئة التي يعيشها العالم العربي وانعدام التخطيط الإستراتيجي الإنمائي التكاملي على المستوى القومي خاصة في الميدان الزراعي. فبينما أصبح التكتل الاقتصادي الإقليمي والدولي أداة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية بل والوحدة الاقتصادية والسياسية، لم تستطع الدول العربية حتى الآن -رغم ما تمتلكه من مقومات التكامل والوحدة الاقتصادية- أن تفلت من تحكم الطابع القطري على خططها الاقتصادية الإنمائية، وهو ما منع الوطن العربي من الاستغلال الكامل لما هو متاح من موارد طبيعية وبشرية ومالية وأدى إلى ضعف الكفاءة الإنتاجية لهذه الموارد وإلى ازدياد الفجوة الغذائية في معظم الدول العربية.
ومن هنا فإن حل المشكل الغذائي في الوطن العربي لن يتحقق إلا من خلال الاستغلال الأمثل لما هو متوافر من موارد اقتصادية وبشرية على المستوى الوطني والقومي. فبالتوسع في الاستثمار الزراعي المنتج وبالتحكم في تطور التكنولوجيا الزراعية، يمكن زيادة إنتاجية الزراعة العربية بما يتماشى والزيادة الحاصلة في الطلب على الغذاء. وتحقيق ذلك يتطلب في الأساس دعم التكامل الاقتصادي الزراعي العربي والتنسيق بين السياسات والخطط التنموية والحدّ من حالة التنافر والتضارب بل والاعتماد على الإعانات الغذائية الأجنبية التي تطبع معظم السياسات الاقتصادية العربية.
إن الإعانات الغذائية وإن كانت تخفف قليلا من حدة المشكل الغذائي في المدى القصير وضغطه على الميزان التجاري للاقتصاديات الوطنية للدول العربية، تشكل في الحقيقة سلاحا تستخدمه البلدان الغربية للهيمنة على اقتصاديات هذه الدول، إذ إن توزيع هذه المعونات يتم وفقا لاعتبارات سياسية وتجارية تسهل تحقيق هذا الهدف. فعلى سبيل المثال تثبت إحدى الوثائق الصادرة عن المكتب الجهوي الأميركي لأفريقيا أن ثمانية من أصل عشر دول تشكل المستورد الأكبر للمواد الزراعية الأميركية، كانت في السابق ممن يشملها برنامج الإعانات الغذائية الأميركية، وهو ما يعود بالفائدة -حسب الوثيقة- ليس فقط على المزارع الأميركي وإنما أيضا على الاقتصاد الوطني الأميركي، أضف إلى ذلك أن زيادة الكمية المصدرة من الغاز الطبيعي الجزائري نحو أميركا كان ردة فعل لارتفاع نصيبها من الإعانات الغذائية الأميركية المخصصة للمغرب العربي.
فالمسؤولون الأميركيون يجمعون على أن الهدف الأساسي من المعونات الغذائية الأميركية هو فتح أسواق تجارية للمنتوجات الزراعية الأميركية، حيث تقوم الدول المستفيدة تدريجيا بإحلال الصادرات الأميركية من السلع الزراعية محل الإعانات الغذائية. وما قيل عن الولايات المتحدة ينسحب على كل الدول الأجنبية المانحة للإعانات الغذائية، فالغاية من هذه الإعانات ليس إيجاد حل للمشكل الغذائي بالبلدان العربية أو غيرها وإنما هو حفز الصادرات التجارية للدول المانحة لهذه الإعانات.ومما سبق نستنج أن مشكلة العجز الغذائي وتداعياتها على الاقتصاديات العربية لا يمكن أن تحل بالاعتماد على الغير أو على الإعانات الأجنبية، وإنما بالاعتماد على الذات وبالإصرار على وضع وتنفيذ إستراتيجية محكمة لتحقيق التنمية الزراعية المستديمة والأمن الغذائي العربي، فما هي إذن المحددات والمرتكزات الأساسية لهذه الإستراتيجية؟ وما هي العناصر أو العوامل التي يمكن أن تضمن نجاح هذه الإستراتيجية؟
استراتيجية الأمن الغذائي العربي.. الغاية والأهداف
إن أي إستراتيجية تنموية لتحقيق الأمن الغذائي في الوطن العربي لابد أن تتخذ من التنمية الزراعية المستديمة غاية لها. وتحديد هذه الغاية ينطلق من معرفة الأسباب الكامنة وراء مشكلة الأمن الغذائي العربي والرغبة في إيجاد حل جذري ودائم لها.
والارتفاع المتزايد لعدد السكان، ومحدودية الموارد الطبيعية الزراعية وسوء استخدامها، وضعف الإنتاجية الزراعية، كلها عوامل فاقمت من مشكل الغذاء في الوطن العربي وزادت من الفجوة الغذائية والتبعية الاقتصادية للبلدان العربية، وهو ما جعل الخيار الإستراتيجي للخروج من المأزق يستوجب تحقيق تنمية زراعية مستديمة،إذ تشير الإحصائيات إلى تضاعف عدد سكان الوطن العربي في فترة تقل عن ربع قرن، فقد ارتفع عدد السكان من 122 مليون نسمة عام 1970 ليصل 240 مليونا عام 1993 أي بمعدل زيادة يبلغ 97%، وهو ما يشكل ضعف معدل الزيادة في العالم. ومن المتوقع أن يتضاعف العدد مرة أخرى ليصل إلى 480 مليون نسمة بحلول عام 2030م.
وتولّد عن هذا الانفجار الديمغرافي ضغط على النشاط الاقتصادي، فأصبح بموجبه غرض الإنتاج الغذائي عاجزا عن تلبية الطلب المتزايد على المواد الغذائية. أضف إلى ذلك أن تزايد السكان وما يتطلبه من مجالات طبيعية للسكن ولبقية مرافق الحياة الأخرى ينمّي محدودية الموارد الطبيعية، وهو ما يزيد من تفاقم العجز عن توفير الغذاء. فالمساحة الصالحة للاستغلال الزراعي في الوطن العربي تقدر بحوالي 197 مليون هكتار بما يشكل نسبة 14.1% من المساحة الكلية للدول العربية البالغة 1402 مليون هكتار. وتمثل النسبة المزروعة من الأراضي الصالحة للزراعة لعام 2000 حوالي 47%، كما أن محدودية وسوء استغلال الموارد المائية يجعلها عاجزة عن مواكبة الطلب المتنامي لسد احتياجات السكان من الماء، فإجمالي الموارد المائية في الوطن العربي يقدر بحوالي 353 مليار متر مكعب لا يستخدم إلا نصفها فقط لمختلف الأنشطة والأغراض الفلاحية والصناعية والبشرية.
من جهة أخرى فإن ضعف المستوى التقني للعمالة الزراعية وعدم التحكم في التكنولوجيا الزراعية، يعد من العوامل التي حدّت من فعالية القطاع الزراعي في مواجهة العجز الغذائي في الوطن العربي.
في ضوء ما سبق يمكن القول إن الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية والمالية لزيادة الإنتاجية في الزراعة يمثل المدخل الأساسي لتطوير القطاع الزراعي العربي وتحقيق وضع أفضل للأمن الغذائي العربي. ويتطلب تحقيق ذلك تعزيز القدرة العربية عن طريق التكامل والتنسيق بين السياسات التنموية في البلدان العربية خاصة في الميدان الزراعي، وعبر تعزيز التعاون والتنسيق بين مؤسسات البحوث الزراعية وتوظيفها لصالح التنمية الزراعية العربية.
ومن هنا فإن غاية إستراتيجية الأمن الغذائي في الوطن العربي يمكن إجمالها في "تعزيز جهود تحديث الزراعة العربية وتنمية قدرتها الإنتاجية والتنافسية، وتنمية وصيانة الموارد الطبيعية والمحافظة على البيئة بما يكفل تحقيق أهداف الجيل الحالي والأجيال القادمة في إطار متكامل يحقق مصالح جميع الأقطار العربية"، وهذا ما يمكن التعبير عنه بتحقيق التنمية الزراعية المستديمة.
إن تحقيق هذه الغاية يستوجب توجيه التنمية الزراعية في الوطن العربي لتحقيق الأهداف التالية:
الهدف الأول زيادة الإنتاج الزراعي كمّا وكيفا حتى يستطيع الاستجابة لمقتضيات الاستهلاك من المواد الغذائية، خاصة أن هذا الأخير في ازدياد مطرد بفعل عوامل نذكر منها:
زيادة عدد السكان أو النمو الديمغرافيفحجم الاستهلاك من المواد الغذائية يتزايد بازدياد عدد السكان وبالتالي فإن الإنتاج الزراعي ينبغي أن يواكب الزيادة الحاصلة في عدد السكان تفاديا لحصول عجز غذائي.
ارتفاع مداخل الأسرينعكس النمو الاقتصادي في زيادة مداخيل الأسر كما أن تشجيع الاستثمار من شأنه أن يتيح للأسر مداخيل إضافية، وهو ما يشجع هذه الأسر على زيادة حجم استهلاكها من المواد الغذائية حيث تفيد بعض الإحصائيات أن مرونة الإنفاق على الغذاء بالنسبة للدخل في البلدان التي قطعت شوطا في طريق النمو تصل إلى 0.6%، وهو ما يعني أن الزيادة في الدخل بنسبة 10% تنجر عنها زيادة في الإنفاق على الغذاء بمقدار 6% وهي نسبة لا يستهان بها.
التحضرينجر عن الهجرة المتزايدة للسكان نحو المدينة زيادة في حجم الاستهلاك من المواد الغذائية، وذلك نظرا لما توفره المدينة من فرص للعمل ومن قنوات تسهل الحصول على الغذاء.
الهدف الثانيتحسين أداء وفعالية القطاع الزراعي ورفع الإنتاجية الزراعية عن طريق الاستغلال الأمثل للموارد الإنتاجية والإدخال المتزايد لمختلف الابتكارات والاختراعات التقنية الزراعية، وذلك لتعزيز القدرة التنافسية للزراعة العربية وتمكين الإنتاج الوطني من الإحلال محل الواردات الزراعية التي تنهك الميزان التجاري في مختلف البلدان العربية.
الهدف الثالثتنمية التجارة البينية العربية والقدرات التسويقية في مجال السلع الزراعية والخدمات توجهاً نحو إقامة سوق عربية مشتركة.
الهدف الرابعالارتقاء بالمستوى المعيشي للسكان الريفيين عبر تحسين دخولهم الاقتصادية وجعل المرأة الريفية تضطلع بدورها في التنمية الزراعية.
إن تحقيق هذه الأهداف يستلزم التركيز على الأمور التالية:
تعزيز التكامل الاقتصادي العربي خاصة في الميدان الزراعي.
تعزيز قدرات الاستحواذ على التكنولوجيا الزراعية.
توفير الظروف المناسبة للتمويل والاستثمار في الميدان الزراعي.
تطوير علاقات التبادل التجاري مع المحيط الخارجي (الدول والتكتلات الاقتصادية) بما يتماشى والمصالح الآنية والمستقبلية للتنمية الزراعية في الوطن العربي، وهذا ما سنتعرض له في الفقرة التالية.
وسائل تحقيق الأهداف الاستراتيجية
أولا- تعزيز التكامل الاقتصادي الزراعي العربي
لا يمكن للأهداف الإستراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي العربي أن تتحقق إلا عن طريق إيجاد وتعزيز التكامل الاقتصادي الزراعي العربي، خاصة أن الوطن العربي يمتلك الشروط الضرورية لتحقيق هذا التكامل (تكامل الموارد الإنتاجية الزراعية، عدم تباين مستويات النمو الاقتصادي، وحدة اللغة والتاريخ والدين). هذا بالإضافة إلى ما سيحققه هذا التكامل من ميزات اقتصادية هامة تعود بالنفع على التنمية الاقتصادية في البلدان العربية وعلى المستوى المعيشي لسكانها.
فما سيبعثه التكامل الاقتصادي الزراعي العربي من تنسيق بين الخطط والسياسات التنموية الزراعية للدول العربية ومن دعم للتخصص الإنتاجي بين هذه الدول (حيث تختص كل دولة في إنتاج المواد التي تتمتع فيها بميزات نسبية وتستورد تلك التي لا تتمتع فيها بالميزة النسبية من الدول العربية الأخرى)، سيكون له الأثر الإيجابي في إعادة توزيع وتخصيص الموارد الإنتاجية بالشكل الذي يخدم التنمية الزراعية في الدول العربية. كما أنه سيؤدي إلى جعل المنتوج العربي أكثر قدرة على المنافسة لما سينجر عن التخصص الإنتاجي من خفض في التكاليف واستفادة من مزايا الإنتاج المتسع.
وتعد ظاهرة التوزيع غير المتكافئ للموارد الزراعية من أهم العقبات التي تحول دون تحقيق الأمن الغذائي العربي، فبينما تتوافر الموارد المالية لأغراض الاستثمار الزراعي في بعض الأقطار العربية، نجد أن مواردها الأرضية تتسم بالندرة. والعكس أيضا، إذ تتسم بعض الأقطار بوفرة الموارد الأرضية والعمالة الزراعية في حين نجد أن ندرة مواردها المالية تؤدي بالموارد المتوافرة إلى حالة عدم الاستخدام الكفؤ.
وهكذا فإن حالة التجزئة التي ترتب عليها التوزيع غير المتكافئ للموارد وسيادة القيود على حركة الموارد الزراعية عبر الحدود القطرية، أدت إلى انخفاض التناسب بين عوائد بعض هذه الموارد وإنتاجيتها مقارنة باستخدامها على المستوى القومي، وأصبح إنتاجها في إطار الحدود القطرية لا يحقق تعظيم دالة؟؟ الإنتاج الزراعي العربي، فمثلا نجد أن السودان في عام 1989 استأثر بـ23% من إجمالي الأراضي الزراعية العربية و21% من العمالة الزراعية العربية، إلا أن الموارد المالية المستثمرة في القطاع الزراعي بهذا البلد لم تتجاوز 650 مليون دولار في حين بلغت هذه الاستثمارات 11.6 مليارا في السعودية في عام 1987.
كما أن الموارد المائية تتباين وفرتها بين قطر وآخر، فبينما تنخفض وفرتها في أقطار الخليج العربي إلى حدود دنيا بلغت نحو 50 مليون متر مكعب سنويا في قطر، ترتفع إلى نحو 81 مليارا في العراق.
إن اعتماد كل دولة على مواردها الذاتية وعدم تحقيق إطار تكاملي عربي متين تستطيع من خلاله الحصول على موارد إضافية لدفع عجلة التنمية بالسرعة المطلوبة، أدى إلى أن يكون استخدام الموارد الاقتصادية الزراعية في بعض الدول العربية لايزال دون التشغيل الكامل (العمل الزراعي في مصر والسودان والصومال، أو الأراضي الزراعية في السودان)، وهو ما انعكس سلبا على حجم الإنتاج الزراعي في الوطن العربي وعزز اتساع الفجوة الغذائية في جل الدول العربية.
كما أن عدم استجابة الموارد الاقتصادية الزراعية في الأقطار العربية المجزأة للتوسع في الإنتاج تجاه الطلب المتزايد على المجموعات المحصولية، يعود أساسا إلى ندرة الموارد الاقتصادية الزراعية في بعض الأقطار العربية (الأرض الزراعية في مصر، رأس المال المزرعي في السودان، المياه في سوريا والأردن..) ووفرة بعض تلك الموارد في أقطار عربية أخرى، وهو ما أدى إلى عدم مرونة عناصر الإنتاج للتغييرات الحاصلة في الطلب على السلع الزراعية ومنح التوسع في الإنتاج.
وبما أن التكامل الاقتصادي الزراعي العربي سيعمل على إعادة تخصيص الموارد الاقتصادية الزراعية فإنه سيزيد من مرونة عناصر الإنتاج، مما سيسمح بزيادة حجم الإنتاج ليواكب الزيادة الحاصلة في الطلب على السلع الزراعية.
وهكذا فإن التكامل الاقتصادي الزراعي العربي يعد أهم وسيلة لتحقيق أهداف التنمية الزراعية المستديمة وحل المشكل الغذائي في الوطن العربي. ومقومات هذا التكامل متوافرة في الأقطار العربية، فهنالك موارد طبيعية وبشرية ومالية كبيرة نسبيا وغير مستغلة استغلالا كاملا يمكن بواسطتها تحقيق تنمية اقتصادية زراعية شاملة وبمعدلات عالية.
كما أن هذا التكامل سيحدث تغييرات هيكلية في الزراعة العربية، فسعة السوق العربية ستمكن من تحقيق كفاءة اقتصادية للوحدات الإنتاجية الزراعية في ظل الاقتصاد الدولي الذي ستقوم على تنظيميه منظمة التجارة الدولية، خصوصا أن اتفاقية "الغات" قد خفضت القيود الجمركية وأزالت الحواجز غير الجمركية، وبذلك فإن التكامل الاقتصادي الزراعي العربي -إن تحقق- سيزيد الكفاءة التنافسية للصادرات الزراعية العربية، وسيساعد الدول العربية على زيادة التبادل فيما بينها في مجال السلع الغذائية، خاصة أن هذا التبادل لايزال ضعيفا جدا رغم إنشاء منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى ودخولها مرحلة التنفيذ مطلع عام 1998.
وتعد المنطقة التجارية الحرة التي تقضي بخفض الرسوم الجمركية والضرائب تدريجيا في غضون 10 سنوات إلى أن تصل الصفر، خطوة في الاتجاه الصحيح لتحقيق التعاون العربي، إلا أن دورها في تحقيق هذا الهدف لايزال محدودا للغاية خاصة فيما يتعلق بالتبادل العربي للسلع الزراعية، فقد أتاح برنامجها التنفيذي مبدأ الاستثناء لبعض السلع الزراعية وعدم تطبيق التخفيض التدريجي للرسوم الجمركية والرسوم ذات الأثر المماثل عليها خلال فترات زمنية محددة، وهو ما اتفق على تسميته بالرزنامة الزراعية، إذ لكل دولة عضو الحق في إدراج عشر سلع زراعية ضمن الرزنامة ولفترة لا تتجاوز 40 شهرا، وهو ما مكن 11 دولة عضوا من إدراج 30 سلعة زراعية ، الأمر الذي يفسر إخفاق المنطقة في تحقيق التبادل التجاري الحر للسلع الزراعية بين الدول العربية.
ثانيا- تعزيز قدرات الاستحواذ على التكنولوجيا:
يعتبر تحسين أداء القطاع الزراعي ورفع الإنتاجية الزراعية هدفا إستراتيجيا لتحقيق الأمن الغذائي في الوطن العربي، ويتمثل السبيل إلى تحقيق هذا الهدف في تعزيز قدرات الاستحواذ على التكنولوجيا الزراعية عن طريق الاهتمام بالتقدم العلمي وما يفتحه من آفاق واسعة لتطوير الأساليب الزراعية المتبعة في إنتاج المحاصيل، كتطوير كفاءة استغلال المساحات الزراعية المتوافرة وتوسعها وتحسين استخدام التقاوي (بذور القطن والقمح والفول ونحوها) والبذور المحسنة واختيار التركيب المحصولي والدورة الزراعية بالصورة الأكثر ملاءمة، والتوسع في المكننة الزراعية وتبني أساليب الري الحديثة وتطوير الأصول الوراثية باستخدام التقانة الحيوية والهندسة الوراثية والتقنيات الكيماوية.
إن تطوير الإنتاجية والإنتاج الزراعي بفرعيه النباتي والحيواني، يرتبط إلى حد كبير بالتحديث التقني الذي يتوقف بدوره على البحوث العلمية خاصة في الميدان الزراعي.ورغم إدراك الدول العربية ما للأساليب العلمية والتقنية المتطورة من أهمية في تحقيق التنمية الزراعية فإن جهودها لاتزال عاجزة عن الاستحواذ على التكنولوجيا الزراعية واستخدامها بشكل يسمح بالانتقال من حالة العجز والاستيراد إلى حالة الوفرة والتصدير. فالتوسع الرأسي في المساحات المزروعة بواسطة تكثيف الإنتاج عن طريق استخدام التقانة لم يتطور في الوطن العربي إلا بنسبة متواضعة، خاصة فيما يتعلق بالمحاصيل ذات العلاقة بالأمن الغذائي كالحبوب واللحوم والألبان. وتفيد الإحصائيات أن مساهمة التوسع الرأسي للإنتاج لم تتجاوز 15% من مجمل الإنتاج خلال السنوات العشر الماضية.
إن نجاح الجهود العربية المبذولة للاستفادة من فوائد التقانات الحيوية (الحصول على سلالات وبذور فائقة الإنتاجية تحقق وفرة في الإنتاج الزراعي، إنتاج نباتات تتحمل الجفاف والملوحة وبالتالي الاقتصاد في مياه الري، إنتاج نباتات بقيَم غذائية أعلى..) لايزال ضعيفا بسبب قصور الإمكانيات البحثية واحتياج هذه التقانات إلى مستويات مرتفعة من الموارد المحلية والخبرات والتجهيزات الفنية، علاوة على احتكارها من قبل شركات عالمية متعددة الجنسية مما يجعل الاستفادة من ثمارها أو نتائج أبحاثها أمرا شديد التعقيد وباهظ التكاليف.
وهكذا فإن ضعف البحوث الزراعية في المنطقة العربية من أهم العوامل التي حدّت من الإنتاجية الزراعية بالمنطقة. ويعود هذا الضعف إلى عوامل عدة نذكر منها:
عدم التنسيق بين مراكز البحوث العربية وأنشطتها.
ضآلة مساهمة القطاع الخاص في هذه الأبحاث.
نقص الكوادر المؤهلة للقيام بالأبحاث عموما والتطبيقية منها خصوصا.
قلة الموارد المخصصة لهذه الأبحاث من الحكومات.
ضعف التجهيزات العلمية والفنية والمختبرات المتخصصة.
عدم توافر البيئة العلمية والمهنية التي تحافظ على العلماء والباحثين في هذا المجال.
وقد يعود هذا الوضع إلى ضعف حجم الاستثمار في ميدان البحوث الزراعية في البلدان العربية -شأنها شأن باقي الدول النامية- حيث تقدر نسبته بـ0.5% من الناتج المحلي الزراعي الإجمالي، مقارنة بنسبة تتراوح بين 1 و2% من الناتج المحلي الزراعي للبلدان المتقدمة، وذلك بصرف النظر عن الحجم المطلق الكبير للناتج الإجمالي في تلك الدول المتقدمة وعن كفاءة الإنفاق.إلى هنا وصل التدقيق
ولعل هذا الفارق الكبير في الاستثمار يفسر الفجوة التقنية بين الدول العربية والدول المتقدمة وانعكاسها في تباين معدلات الإنتاجية الزراعية فيما بينهما. فبالنسبة للحبوب مثلا فإن متوسط الإنتاجية رغم ارتفاع مستوى الغلة خلال عقدي الثمانينات والتسعينات في الدول العربية، يعتبر متواضعا حيث بلغ عام 1996 نحو 32% من متوسط الإنتاجية في أمريكا الشمالية و36% في أوروبا. وكذلك الحال بالنسبة للقمح، إذ يبلغ متوسط إنتاجيته في الدول العربية حوالي 69% من متوسط الإنتاجية في أمريكا الشمالية و34% من متوسطها في أوروبا.
وهكذا فإن إعطاء الأهمية الكافية للبحوث العلمية الزراعية من حيث التشجيع والاستثمار يعد من أهمّ الوسائل لتحقيق الأهداف الإستراتيجية للتنمية الزراعية وتحقيق الأمن الغذائي وذلك لما تتمتع به هذه البحوث من قدرة على القيام بالوظائف التالية:
التحديد الموضوعي والمعقلن للأهداف الإستراتيجية المتعلقة بنوعية التكنولوجيا المستخدمة في الإنتاج الزراعي أو تلك التي ينبغي ابتكارها لاستخدامها والآليات والنظم الزراعية الكفيلة بضمان استغلال أمثل للموارد الزراعية وجعلها تستجيب للاحتياجات المتزايدة للمستهلكين.
توليد فيض مستمر من تكنولوجيات جديدة متوائمة مع الاحتياجات المتجدّدة للمجتمع المتطور خاصة فيما يتعلّق بالإنتاج والإدارة والتسويق في الميدان الزراعي.
بلورة نظم إنتاج متكاملة ومتطوّرة أي تكامل البحوث التي تعالج العمليّات الإنتاجية وتبلورها إلى نظام إنتاجي أو نظام مزرعي كامل لسلعة زراعية معينة أو منطقة معينة وهو ما يستدعي تضافر وتكامل الجهود بين مختلفي الباحثين والمرشدين الزراعيين والمنتجين المزارعين.
إنّ الفعالية في تحقيق هذه الوظائف تستدعي أن تكون الجهود البحثية الهادفة إلى التنمية الزراعية تراعي الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية في الإنتاج الزراعي وأنّ تولى اهتماما خاصا للاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية ولعائد استثمار هذه الموارد، وأن تكون على وعي كامل بأهمية عنصر الزمن لتحقيق الأهداف المنشودة في الوقت المطلوب، وأن تساهم هذه الجهود البحثية في تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق التحسين من المستوى المعيشي للقاعدة العريضة من المزارعين.و في ضوء ما تقدم، يمكن القول أن زيادة الإنتاجية في الزراعة تمثل المدخل الأساسي لتطوير القطاع الزراعي العربي وتحقيق وضع أفضل للأمن الغذائي العربي ويتطلب تحقيق ذلك تعزيز القدرة العربية وتمكينها من مواكبة التطورات في التقنية العلمية وتوظيفها وتطويعها وفقا لظروف البيئة المحلية، وهو أمر لا شكّ مرتبط بوضع الأطر المؤسسية اللازمة وتوفير الكوادر البشرية الكافية عددا ونوعا على مستوى كل دولة عربية وعلى المستوى القومي. وبالنظر إلى التطورات على الساحة الدولية، فإنّ تحقيق ذلك يتطلب أيضا تعزيز التعاون والتنسيق بين مؤسسات البحوث الزراعية العربية، ودعم مراكز ومحطات البحوث الزراعية في مجالات التقانات الزراعية على المستوى الإقليمي وتشجيع الباحثين الزراعيين العرب، ونشر نتائج أبحاثهم ودعم نظم وشبكات المعلومات لنشر واستلام المعلومات الفنية حول التقانات العالمية الحديثة وهي كلها أمور تتطلب جهود استثمارية كبيرة.
ثالثا- تشجيع التمويل والاستثمار في القطاع الزراعي
بالرغم من أهمية القطاع الزراعي في البلدان العربية، والدور الذي قد يلعبه في تحقيق الأمن الغذائي فإنّ حظّ هذا القطاع من الاستثمار في هذه البلدان لا يزال ضعيفا إذ لم تتجاوز نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي في بداية الثمانينات 7,5% في المتوسط. فبالرغم من تطور حجم الاستثمارات الإجمالية في البلدان العربية من حوالي 56 مليار دولار خلال الفترة 1970-1985 إلى نحو 683,5 مليار دولار في الفترة1981-1986 إلا أنّ الأهمية النسبية للاستثمارات الزراعية قد انخفضت من 13,9% في الفترة الأولى إلى نحو 9,3% في الفترة الثانية وبالتالي فإنّ حجم الاستثمارات في القطاع الزراعي لا يتناسب مع الأهمية الإستراتيجية للقطاع سواء من حيث الأهمية النسبية لوزنه الديموغرافي (يمثل السكان الزراعيون حوالي 35,6% من إجمالي السكان لعام 1992)، أو من حيث القوة البشرية العاملة التي يحتضنها والتي تمثل 36,5% من إجمالي القوة البشرية العاملة في عام 1992، أو من حيث مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي التي قدرت في عام 1994 بنحو 13,07% كمتوسط إجمالي عربي، وهو ما قد يفسر تفاقم العجز الغذائي بالبلدان العربية حيث بلغت نسبته التراكمية ما بين 1970-1994 حوالي 179 مليار دولار.أمّا على صعيد توزيع الاستثمارات الزراعية على المستوى القطري فمن الملاحظ تباينا واسعا في حجمها على مستوى الأقطار العربية حيث يتركز العدد الكبير منها في الدول التي لا تمتلك الإمكانات الزراعية الأفضل (الأراضي الزراعية، قوة العمل). حيث تفيد بعض الإحصائيات أنّ الاستثمارات الزراعية في مجموعة الأقطار النفطية قد مثلت في الفترة ما بين 1981-1985 أكثر من ثلاثة أرباع الاستثمار الإجمالي العربي في الوقت الذي يمثل سكانها الزراعيون أقل من ربع إجمالي السكان العرب، وفي المقابل تمثل استثمارات الأقطار الأقل نموا (جيبوتي والسودان والصومال وموريتانيا واليمن) 4% في الوقت الذي يتواجد فيها ما يقارب 30% من مجمل السكان الزراعي. وممّا حدّ من فعالية الاستثمارات الزراعية العربية في تحقيق التنمية الزراعية، زيادة على سوء توزيعها الجغرافي وضعفها الكمّي، كون اختيارها لا يتمّ وفقا لأسس اقتصادية واجتماعية سليمة وهو ما يمكن أن نلمسه من خلال ما تتصف به من خصائص كالتركيز على التنمية الميكانيكية حيث تتوفر قوة عمالية كثيفة، تفضيل محاصيل ثانوية على محاصيل أساسية أو استراتيجية ضعف كفاءتها بسبب عدم تكاملها أو اكتمالها، عدم تطبيق المعايير السليمة التي تضمن الاستثمار في المناطق الأكثر وعدا من الناحية الإنتاجية والأكثر حاجة من الناحية الاجتماعية.كما أن مصادر تمويل هذه الاستثمارات لا تزال قاصرة وعاجزة عن تعبئة الموارد الكافية نظرا لضعف الادخار ولسوء استغلال الفوائض النقدية والعوائد النفطية ولغلبة السلوك الاستهلاكي والإنفاق المظهري على السلوك الادخاري في جل الدول العربية، وكذلك لعدم تجذر مفهوم المشاركة بين الأقطار العربية بالاستثمار في مشروعات زراعية مربحة تعود بالنفع على التنمية الزراعية في المنطقة وعلى المستوى المعيشي لسكانها. فلا تزال الاستثمارات الزراعية العربية المشتركة تقتصر على مجالات مضمونة أو شبه مضمونة تتوافر لها التقنيات المناسبة والبنى الأساسية اللازمة كإنتاج الدواجن وصيد الأسماك وإنتاج المحاصيل السكرية وبعض الصناعات الزراعية وكالأعلاف والسكر، ومن الواضح أن هذه الاستثمارات لم تطرق حتى الآن بنطاق جاد أهمّ فرص الإنتاج الزراعي المتاحة من حيث توافر الموارد الطبيعية غير المستغلة أو ضعيفة الاستغلال.إنّ النهوض بالاستثمار الزراعية يتطلب جهودا عربية مشتركة وإصلاحات هيكلية تضمن خلق مناخ ملائم ومخفر للتمويل والاستثمار بالقطاع الزراعي ولعل أهم هذه الجهود والإصلاحات ما يلي:
بعث هيئات متخصصة في الإقراض الزراعي والتمويل على المستوى القومي والقطري وتحسين أداء ما هو موجود منها.
تقوية شبكة التمويل والإقراض الزراعي وتكثيفها ليتماشى حجمها وحجم المزارعين المتعاملين معها مما سيمكن من تخفيض تكاليف القروض الزراعية.
العمل على زيادة سيولة المؤسسات التمويلية الزراعية عن طريق تشجيع الادخار وذلك لتقوية قدرة هذه المؤسسات على منح القروض الطويلة ومتوسطة الأجل.
الرفع من الكفاءة الإدارية للبنوك الزراعية للحدّ من تعقيد شروط الإقراض وارتفاع فوائده.
التنسيق بين السياسات الاقتصادية للدول العربية والعمل على استقرار هذه السياسات وذلك لما يتطلبه الاستثمار من آجال طويلة تستلزم تنبؤات ذات ثقة عالية باستقرار السياسات الاقتصادية على المدى الطويل.
العمل على كفاءة أداء الخدمات التسويقية التي تؤدي إلى التوازن بين عرض المنتجات الزراعية والطلب عليها.
العمل على تحرير أسعار السلع الزراعية والحدّ من تدخل الدولة لدعم قطاعات الاستهلاك على حساب قطاعات الإنتاج.
إدخال التعديلات اللازمة على السياسات التشريعية والإدارية لحفز الاستثمارات الزراعية وتنشيطها.
ومما سبق نستنتج أن رفع الإنتاجية وتحقيق تنمية زراعية مستديمة لمواجهة العجز الغذائي يتطلب مضاعفة الاستثمارات الزراعية من حيث مقاديرها، كما يتطلب ترشيد استغلالها اقتصاديا واجتماعيا وتحسين توظيفها تقنيا وإداريا وكلها أمور تستوجب خلق مناخ مناسب للاستثمار قادر على استقطاب الأموال العربية المهاجرة والتي تتراوح وفقا للأرقام المتداولة بين 600 و700 مليار دولار أي أنّه مقابل كل دولار واحد مستثمر في المنطقة العربية هنالك 56 مليار بملكية عربية مستثمرة في الخارج.
تطوير وتعميق علاقات التبادل التجاري مع العالم الخارجي
إن الحل الدائم لمشكلة الأمن الغذائي يتطلب مبادرات أو إشكال أخرى للعلاقات تجعل التبادل بين الوطن العربي والعالم الخارجي لا يقتصر على الشكل البسيط وإنما يتعداه ليتميز بالتنوع والتوازن، فتنمية الإنتاج العربي تتطلب الاستيراد (منتوجات أولية، منتوجات تكميلية...) الذي يؤدي بدوره إلى التصدير المتنوع. وفي هذا الإطار فإنّ تعميق التعاون مع العالم الخارجي خاصة التعاون العربي-الأوروبي يصبح أمرا أساسيا وذلك لما يوفر من إمكانيات لزيادة التبادل التجاري بين المنطقتين فالتجاوز والتكامل الاقتصادي وتداخل التاريخ والمصالح المشتركة عوامل تشجع على المضي قدما في هذا الاتجاه.إن حالة التشتت التي تعيشها البلدان العربية وما ترتب عنها من غلبة الطابع القطري في العلاقات التي تربطها بالمجموعات والتكتلات الاقتصادية من أهم العوامل التي حالت دون خلق مناخ ملائم للتبادل المتكافئ بينها وبين هذه المجموعات، فمن الصعب على أية دولة لديها إمكانيات للتصدير أن تستخدمها إذا لم تكن أسواقها أكيدة نسبيا وأسعارها مناسبة خاصة إذا كان استخدام هذه الإمكانيات يحتاج إلى استثمارات مالية وبشرية مكلفة وهو ما يثبت من جديد أنّ التكتل الاقتصادي العربي أمر ضروري لتعزيز التبادل التجاري مع العالم الخارجي وجعله أكثر تكافؤا واتزانا خاصة فيما يتعلق بالسلع الزراعية حيث تفيد الإحصائيات أنّ الصادرات الزراعية في الدول العربية لعام 1999 قد انخفضت بنسبة 3,7% مقارنة بالعام السابق إذ بلغت حوالي 6,5 مليار دولار. أمّا الواردات الزراعية العربية فقد بلغت خلال عام 1999 ما قيمته 25,8 مليار دولار. إنّ التفاوت الكبير بين قيمتي الصادرات والواردات الزراعية العربية خير دليل على أن الدول العربية لم تتحكم بعد بالعوامل المحددة لتجارتها الخارجية الزراعية خاصة وأنّ تنشيط هذه التجارة يعدّ أهمّ الروافد الأساسية للنشاط التنموي سواء على صعيد تشغيل الموارد الاقتصادية العاطلة أو إعادة تخصيص ما هو مشتغل منها وتوجيهه من الاستخدام المحصولي الأقل كفاءة إلى الاستخدام المحصولي الأكثر كفاءة فتحقق بذلك التجارة الخارجية للأنشطة التي تتطلبها التنمية الاقتصادية وتتوفر بعض الموارد الأساسية كالموارد النقدية باعتبارها مصادر تمويل. ومما يثبت أيضا عدم تكافؤ التبادل التجاري العربي مع العالم الخارجي كون دول المغرب العربي (خاصة المغرب والجزائر وتونس) لا تزال عاجزة عن كسب رهان التبادل التجاري مع المجموعة الأوروبية فصادراتها من المواد الغذائية تتعرض للكثير من القيود والإجراءات تمنعها من اختراق السوق الأوروبية.و مع ذلك فإنّ تبعية هذه الدول غذائيا لأوروبا (المغرب يستورد من أوروبا ما يتراوح بين 8 و10 ملايين قنطار من الحبوب سنويا) وضرورة إيجاد منافذ لسلعها الغذائية المعدة أساسا للتصدير يحدان من هامش حريتها في المفاوضات مع المجموعة الأوروبية.إن تطوير وتعميق التبادل التجاري مع العالم الخارجي والاستجابة للتحديات التي تفرضها منظمة التجارة العالمية يقتضي إحداث تغير كبير في جميع جوانب الزراعة العربية وتحديثها وهو ما يتطلب التركيز على الأمور التالية:
زيادة القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية العربية في الأسواق المحلية والعالمية وهذا ما يتطلب التحكم في كل ما من شأنه أن يزيد من فعالية وكفاية الإنتاج الزراعي كالتحكم في التكنولوجيا الزراعية وتحديث وتطوير المؤسسات الخدمية ذات الصلة بالنشاط الزراعي.
إقامة تكتل اقتصادي عربي للارتقاء بالاقتصاد العربي والمحافظة على مصالح الأقطار العربية في ضوء التكتلات العالمية وهذا يتطلب تعزيز التكامل العربي وخلق سوق عربية مشتركة وتفعيل المنطقة التجارية العربية الكبرى عن طريق تذليل العقبات التي تعترض سبيلها والمتجسدة أساسا في:
غياب الشفافية والمعلومات حول التعامل التجاري بين الدول الأعضاء، فالشفافية والإفصاح عن كافة الإجراءات الإدارية والسياسية الاقتصادية والتجارية يشكل عنصر أساسيا في عملية تنفيذ المنطقة. وينتج عن عدم الإفصاح أو الإعلام والتعريف بهذه السياسات انعكاسات سلبية تؤثر على مجرى التطبيق الفعلي للمنطقة.
التمييز في المعاملة الضريبية بين المنتج المحلي والمنتجات المستوردة من الدول العربية الأخرى.
القيود الغير جمركية المطبقة في العديد من الدول العربية كالقيود الفنية والقيود الكمية والإدارية والقيود النقدية.
الخاتمة والمقترحات:
نستنج مما سبق عرضه أن التنمية الزراعية المستديمة تعد مطلبا أساسيا لتحقيق الأمن الغذائي في الوطن العربي، وأنّ تحقيق هذا المطلب يستدعي تحقيق التكامل الاقتصادي الزراعي العربي، وخلق مناخ محفز للاستثمار الزراعي، والتمكن من الاستحواذ على التكنولوجيا الزراعية والتحكم في العوامل المحددة للتبادل التجاري وما ينجر عنه من تنمية للصادرات الزراعية العربية.غير أنه في رأينا أن فعالية هذه الوسائل في تحقيق ما تصبو إليه التنمية الزراعية من أهداف (زيادة الإنتاج كمّا وكيفا ليتماشى مع طبيعة حجم الاستهلاك، تحسين المستوى المعيشي للسكان خاصة على مستوى الريف، استدامة الإنتاج الزراعي المرشد بيئيا، زيادة العائد من الصادرات الزراعية...) ترتبط إلى حدّ كبير بمدى توافر بعض المبادئ والمتطلبات التي نعتبرها عناصر أساسية لإنجاح الجهود الساعية إلى تحقيق التنمية الزراعية المستديمة والأمن الغذائي في الوطن العربي ولعل أهمّ هذه المتطلبات:
الإدارة المحكمة:أي الإدارة المحكمة لعملية التنمية الزراعية على المستويين القومي والقطري وذلك عن طريق الأخذ بعين الاعتبار المبادئ التالية:
الفعالية في التخطيط:وذلك لما يترتب عنها من دقة في تحديد الغايات والأهداف المرسومة للهيئات والمؤسسات الزراعية على المستويين القومي والقطري ومن تعبئة للموارد الضرورية لتحقيق هذه الأهداف، ولكي يكون التخطيط فعالا ومرنا فإنّه من الضروري توفر قاعدة بيانات للموارد شاملة حديثة موثقة ومتجددة، وأن يكون من يقوم بعملية التخطيط على مستوى من الكفاءة يخوله الاستخدام الأمثل لهذه البيانات.
الفعالية في التنفيذ: أي القدرة على تحويل الأهداف الإستراتيجية إلى واقع ملموس، وهنا تبرز مدى أهمية العنصر البشري وكفاءته في تحقيق أهداف التنمية الزراعية. فالتنمية الزراعية وإن كانت تستهدف في المقام الأول رخاء الإنسان وسعادته, فإنّ الإنسان هو أداتها ومنجزها, وبالتالي فإن نجاح التنمية الزراعية يستوجب أن يكون العنصر البشري على قدر مناسب من التمكين من المعارف والمهارات الزراعية اللازمة لأدائه لدوره بالفعالية الواجبة والسرعة المطلوبة, وهذا يعني أن تتوفر لديه قاعدة راسخة من التعليم والتثقيف والإعداد الجيّد والتدريب ...
العمل الجماعي:إن العمل في فريق متكامل التخصّصات تجمع أفراده وحدة الهدف ومستويات الأداء يسهل تخطي الحواجز التنظيمية لهياكل التنمية الزراعية وبالتالي التصدي لمعظم المشاكل التي يتعذر على المجهود الفردي تجاوزها في سبيل تحقيق أهداف التنمية الزراعية.
العدالة:إن العدالة الاجتماعية والاقتصادية شرط أساسي لضمان فعالية التنمية الزراعية, ويتجسّد ذلك من خلال توزيع الأصول الإنتاجية داخل القطاع الزراعي على المستوى القطري وكذلك على المستوى القومي وعدالة تخصيص الاستثمارات وتوزيع المستلزمات والقروض وعدالة السياسة السعرية بين القطاع الزراعي وغير الزراعي, وعدالة توفير فرص متكافئة قدر الإمكان في العمل والتدريب والتعليم والرعاية الصحيّة وعدالة مشاركة أصحاب العلاقة في اتخاذ القرارات ثم توزيع ثمار التنمية نفسها على مستحقيها, وفقا للمبدأ الذي يرتبط بين الجهد والمكافأة ووفقا لنظام يضمن توفير المستلزمات إلى صغار الفلاحين وتوفير الحاجات الأساسية لكل فرد بدءا بالأكثر احتياجا.
تعزيز التكامل والتكتل الاقتصادي العربي:عن طريق التنسيق بين السياسات الاقتصادية وتنشيط العمل العربي المشترك خاصّة في الميدان الزراعي وخلق سوق عربية مشتركة. إن تنشيط العمل العربي المشترك في الميدان الزراعي يمكن أن يتحقق من خلال:
وضع وتنفيذ خطط وبرامج مشتركة لحصر ومسح وتصنيف ورصد الموارد الطبيعية الزراعية على المستوى القومي.
وضع وتطوير أو تحديث خارطة موحدة للأراضي الزراعية على المستوى القومي وتصنيفها وتتبع خصائصها.
إقامة شبكات متطورة لرصد المياه السطحية والجوفية وتعزيز وتوفير المعلومات عنها زماننا ومكاننا على المستويين القطري والقومي.
إقامة مشروعات مشتركة على المستوى القومي في بعض مجالات البحث والتطوير التقني الزراعي, والنظر مثلا في إقامة بنك عربي للمعلومات الزراعية وإنشاء معهد عربي للتقانة الحيوية وهندسة الجينات.
وضع وتنفيذ وتطور الخطط والسياسات لتسهيل حركة عوامل الإنتاج بين الأقطار العربية وكذلك تسهيل وتشجيع انتقال العمالة وفق الأسس مدروسة وتشجيع وانتقال واستثمار وحماية رؤوس الأموال العربية.
وضع وتنفيذ مشروعات لإقامة أو لتقوية واستكمال البنى التحتية الأساسية اللازمة للتنمية الزراعية.
بقلم/ علي ولد الشيخ/ باحث في شون الاقتصاد وإدارة الأعمال / الجزيرة نت

ليست هناك تعليقات: